 |
-
تدبير هنا و«مكلمة« هناك -بقلم: فهمي هويدي
تدبير هنا و«مكلمة« هناك
بقلم: فهمي هويدي
التدبير في «الشونة« و«المكلمة« في صنعاء. هذه أحدث لقطة في المشهد العربي. ذلك أنه في ذات يوم انتهاء اجتماعات المنتدى الاقتصادي في منتجع الشونة على البحر الميت (في 23/6) بدأت في صنعاء اجتماعات الدورة الرابعة عشرة للمؤتمر القومي العربي. وهذا التتابع محض مصادفة لا ريب، لكنه جاء كاشفا وحافلا بالمفارقات والدلالات التي بعضها من تجليات اللامعقول في الزمن العربي.
(1) لا أعرف كم مرة استخدمت مصطلح (اللامعقول) في وصف أحداث زمننا العربي، لكنني لابد أن أسجل أن الكثير مما يجري في هذا الزمن يصدم أبناء جيلنا على الأقل، ويتجاوز قدرتهم على الاستيعاب والفهم. حتى إذا استسلم الواحد منا لانفعالات جهازه العصبي فأغلب الظن أنه سيجد نفسه فاغرا فاه طول الوقت. ليس لشدة العجب والمفارقة فيما يشاهده فحسب، ولكن أيضا لأن المستجدات تأتي كل حين بما هو أعجب وأغرب. وأزعم أن الذي حدث في اجتماعات «الشونة« ينتمي إلى ذلك الصنف الأخير. لا مقارنة بين التغطية الإعلامية الواسعة النطاق التي حظيت بها اجتماعات المنتدى وبين الشح أو التعتيم الإعلامي الذي كان من نصيب المؤتمر القومي العربي، هذا إذا استثنينا الإعلام اليمني بطبيعة الحال، وهي حظوظ أفهمها، وخصوصا أن المؤتمر القومي يبدو في الأجواء الراهنة كأنه شيء ينتمي إلى الماضي، ويتحدث بلغة تآكلت حتى كادت مفرداتها تسقط في الخطاب العربي المعاصر، ولا غرابة في ذلك، فبيان المؤتمر ركز على المقاومة والصمود وتحرير الأرض ومقاطعة إسرائيل والولايات المتحدة وعن الأمة الواحدة، وحلمها بالغزة والاستقلال والوحدة، في حين أن حوارات المنتدى مضت في اتجاه معاكس تماما لكل هذه العناوين والمفردات. بالمقارنة بين خطابي المؤتمرين، بدا كأن أعضاء المؤتمر القومي الذين اجتمعوا في صنعاء وتجاوز عددهم المائتين، قدموا من مختلف أنحاء العالم العربي، بمثابة مجموعة تعتنق فكرا سياسيا «سلفيا« بينما الذين اجتمعوا على شاطىء البحر الميت كانوا حداثيين بامتياز. من زاوية أخرى فإن الذين اجتمعوا بالأردن (1200 شخص) كانوا يحاولون صياغة مستقبل المنطقة، أما الذين اجتمعوا في صنعاء فإنهم كانوا يحاولون قراءة ذلك المستقبل بفكرة تصويبه وتصحيح مساره. أما ما بدا خطيرا ومثيرا للغاية، فهو هوية الحضور في المؤتمرين، إذ في حين كان المشاركون في مؤتمر صنعاء ينتمون إلى شريحة المثقفين العرب الاقحاح، الذين قدموا من مشرق الأمة ومغربها، حاملين معهم هموم الأمة وأحلامها، فإن الذين جاءوا إلى اجتماعات المنتدى لصناعة التاريخ في بلادنا كانوا خليطا عجيبا من البشر، الذين استقدموا من مختلف أصقاع الأرض، وقد زادت فيهم نسبة العجم على العرب. لذلك لم يكن غريبا أن يدور حوارهم حول المستقبل العربي بالرطانة الإنجليزية، ولا تسأل عن صلتم بالهم أو الحلم العربيين. أما الأدهى من ذلك والأمر فإن الجميع وإن كانوا قد التقوا على أرض عربية من الناحية الجغرافية، إلا أن مناقشاتهم جرت على أرضية سياسية أمريكية وإسرائيلية، لذا كان الأمريكيون أكبر الوفود عددا وأثقلهم وزنا، يتلوهم الإسرائيليون.
(2) لم تصدق عيناي الكثير مما قرأته من تقارير عما دار في المنتدى، حتى انني كنت أطوي الصحيفة كل صباح وأتمتم: حلم هذا أم علم؟ وحين استعرضت في النهاية القصاصات التي استقطعتها، وجدت أنها تمثل مادة خصبة لكتابة عدة حلقات تحت عنوان: «صدق أو لا تصدق«، ولست في ذلك مبالغا، فحين نجد مثلا أن العراق كان ممثلا في اجتماعات المنتدى بموظف أمريكي نصبته واشنطون على رأس ذلك البلد العربي الكبير، فإن ذلك مما لم يخطر على قلب بشر يوما ما. وحين نقرأ الأخبار التي نشرت عن اجتماعات بين شخصيات عربية وإسرائيلية وعن الاختراقات التي أحدثتها إسرائيل في الساحة العربية، من خلال مشروعات مشتركة بحثت وترتيبات للتطبيع تم الاتفاق عليها، فإن ذلك مما يصعب تصديقه، وخصوصا أن تلك الدول العربية التي تورط ممثلوها في تلك الاتصالات لم تكن مضطرة إلى ذلك. ولا تفسير لما أقدمت عليه إلا بحسبانه نوعا من الاستجابة أو الاسترضاء للأمريكيين، الذين يلحون في كل مناسبة على إدخال إسرائيل في نسيج المنطقة. تحدثت صحيفة «يديعوت أحرونوت« (في 23/6) عن مشروع نوقش أثناء المؤتمر لإقامة كتلة اقتصادية بين إسرائيل وفلسطين والأردن والعراق، وعن دعوة أمريكية لرجال الأعمال الإسرائيليين إلى الإسهام في مشروعات إعمار العراق، كما أفاضت التقارير في الحديث عن اجتماعات عقدت بين العديد من رجال الأعمال الخليجيين بوجه أخص وبين الإسرائيليين. وإزاء هذه الأجواء فإن مراسل «يديعوت أحرونوت« رأى ان ما جرى في اجتماعات المنتدى يمثل «تغيرا جذريا ودراماتيكيا في النهج العربي تجاه إسرائيل« (22/6) وهو ما أيده مراسل «الأهرام« الذي ذكر في تقرير له نشر في (26/6) أن إسرائيل المستفيد الأول من اللقاءات التي تمت على شاطىء البحر الميت. لا يستطيع المرء وهو يتابع مشهدا من ذلك القبيل أن يتجاهل مفارقتين، الأولى: ان هذا التقارب العربي الإسرائيلي يحدث في ظروف تآكل العلاقات العربية العربية، الثانية: انه حدث بينما تواصل إسرائيل سياسة سحق الفلسطينيين بالقتل وتدمير أسباب الحياة، على مرمى البصر من المنتجع الذي تمت فيه اللقاءات. وقد واصلت عمليات السحق والقتل حتى أثناء انعقاد جلسات المنتدى، الأمر الذي يوحي بأن ثمة انتكاسة خطيرة في الأداء السياسي العربي أدت إلى إخراج أو تهميش دور القضية الفلسطينية من سياق العلاقات مع إسرائيل، وهي القضية التي كانت يوما ما العنصر الحاكم لمسار تلك العلاقات. لسنا نبالغ والأمر كذلك، إذا قلنا: إن اجتماعات المنتدى كانت تدشينا لطور جديد في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بقدر ما أنها جاءت قفزا فوق الملف الفلسطيني وإشهارا لتراجعه، وقد كان عزمي بشارة الكاتب والسياسي الفلسطيني على حق حين أدرك ذلك التحول وضاق ذرعا به، فكتب متسائلا: كيف يمكن عقد مؤتمر اقتصادي دولي (من ذلك القبيل) دون أن يثير العرب موضوعا مثل جدار «الابارتهايد« (الفصل العنصري) الذي تقيمه إسرائيل، مغيرا طبيعة البلاد والمجتمع في فلسطين بشكل جذري، ومدمرا بشكل فوري حياة 15 ألف عائلة فلسطينية؟ وهل يمكن عقد مؤتمر اقتصادي على بعد عشرات الكيلومترات من هذه الكارثة من دون إثارة موضوع تخريب إسرائيل الجاري للاقتصاد الفلسطيني، وهي التي تطالب بزوال الحدود الوطنية أمام ضرورات التعاون الاقتصادي، وتمتدح غياب الحواجز الجمركية في العراق (لتصرف بضائعها) في حين تبني جدارا عنصريا يحطم أي إمكانية لوجود اقتصاد على طول الضفة الغربية؟ (الحياة اللندنية 26/6).
(3) الولايات المتحدة تقصمت في المؤتمر دور المبشر والراعي الذي جاء منتصرا ورافعا رايات الدفاع عن الديمقراطية، بحسبانها مدخلا لإعادة تشكيل المنطقة على النحو الذي تنشده. وهو التشكيل الذي بات واضحا ان خريطة الطريق واحتلال العراق تمثلان مدخلا إليه. بلغة المنتصر قال كولن باول الذي جاء إلى عمان قبل يومين من انعقاد المنتدى إن الولايات المتحدة «تسعى لإعادة بناء المنطقة العربية سياسيا واقتصاديا« (الأهرام 23/6) وفي اليوم ذاته نشرت «الحياة« اللندنية على صفحتها الأولى تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي قال فيها: بعد التقدم على الجانب الفلسطيني الإسرائيلي، يمكن بناء خريطة أخرى لسوريا ولبنان، في إشارة صريحة إلى توسيع الدور الأمريكي في المنطقة لتسوية الأوضاع المعلقة بين العرب وإسرائيل، أو بالدقة لتلبية المتطلبات الأمنية للدولة العبرية، لكي تتحرر من الأعباء التي تحول دون قيامها بالدور المرجو لها في مخططات إعادة التشكيل. وإذ تحولت الديمقراطية إلى مصطلح تلوكه مختلف الألسن ويدور النقاش حوله في الجلسات المتعاقبة، فإن صحفية سويدية خبيثة سألت بول بريمر (الحاكم الأمريكي للعراق) بعد حديثه المطول عن مستقبل إعمار العراق: هل استشرتم الشعب العراقي بخصوص مشاركتكم باسمه؟ فأجابها الرجل بمنتهى الهدوء قائلا: لا، لم نفعل.
(4) المقاصد والمرامي البعيدة كانت الشق المغيب أو الجزء الغاطس في المشهد، وما هذا الذي تابعناه سوى تفاصيل كانت تتحرك في الإطار المرسوم، لكي تصل إلى الهدف المرصود. ولكي نقف على تلك المقاصد فإن علينا أن نعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء، ونراجع الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش في التاسع من شهر مايو الماضي، في جامعة جنوب كاليفورنيا، وتحدث فيه عن رؤيته للمنطقة، ملوحا بإقامة الدولة الفلسطينية (بعد القضاء على المقاومة) ومعلنا عن اقتراحه إنشاء منطقة تجارية أمريكية/شرق أوسطية خلال عقد من الزمن، وقد استأثر حديثه عن الدولة الفلسطينية بالاهتمام والتركيز، بينما لم يهتم كثيرون باقتراحه إقامة المنطقة الحرة. لفت الأنظار في وقت لاحق أن مدير المنتدى الاقتصادي العالمي فردريك سيكري أدلى بحديث نشرته صحيفتا القدس العربي والوطن القطرية في 19/6 وسئل عن السبب في عقد دورة استثنائية للمنتدى في الأردن بدلا من «دافوس« مقره الاعتيادي، أجاب قائلا إن أحد أهم الأسباب هو «إقامة منطقة للتجارة الحرة في الشرق الأوسط بحلول عام 2013« وأعاد التأكيد في حديثه هذه النقطة مضيفا بعدا آخر مهما. حيث قال ما نصه «من القضايا المطروحة على جدول أعمال المنتدى مسألة إقامة منطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط، يفترض أن تضم جميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل«. أضاف مدير المؤتمر إلى أسباب عقد المنتدى بالأردن في هذا التوقيت انه يعقد «وسط الأزمة الحقيقية التي تهدد الأمن العالمي« أي القضيتان الفلسطينية والعراقية «وبالقرب من العراق، البلد العربي الذي يثير اهتمام العالم الآن. لإعادة إعماره والوصول إلى أسواقه«. وإذا لاحظت التطابق في «الرؤية« بين حديث الرئيس الأمريكي وتصريحات مدير المنتدى العالمي، فإنك لن تحتاج إلى بذل جهد لكي تدرك العوامل التي حركت الدعوة إلى عقد الدورة الاستثنائية للمؤتمر، والعناصر التي تحكمت في تحديد زمانه ومكانه. الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أننا بإزاء «أجندة« أمريكية في البدء والمنتهى. وهو ما يدعونا إلى قراءة التفاصيل التي مررنا بها بعين أخرى. ترى في خريطة الطريق طورا ينهي المقاومة الفلسطينية ويتيح لإسرائيل التحرك بحرية واطمئنان في المنطقة، ويمكنها من استكمال حلقات تطبيع العلاقات مع الدول العربية. كما ترى في احتلال العراق طورا آخر يؤدب نظاما «مارقا« ويقوض قدرته العسكرية التي توجست منها إسرائيل، ويدخل إمكانيات العراق النفطية ومشروعاتها الصناعية ضمن الإمكانيات الكبيرة التي يمكن الإفادة منها، الأمر الذي يمهد الطريق لإقامة منطقة التجارة الحرة التي تضم إسرائيل، ويعيد إلى الأذهان مرة أخرى مشروع الشرق أوسطية الذي تحدث عنه شمعون بيريز وتبنته حكومة حزب العمل يوما ما.
(5) لا يكتمل ذلك التحليل إذا لم نتعرف على النواة المرشحة لمنطقة التجارة الحرة، وهي نموذج «المنطقة الصناعية المؤهلة« المقامة بين الأردن والولايات المتحدة التي فتحت فيها الأبواب للاستثمارات الأجنبية، وتمتعت بميزة التصدير من دون رسوم جمركية أو حصص إلى الولايات المتحدة بشرط واحد هو: أن يكون ما بين 8 و20% من المواد الأولية ذات منشأ إسرائيلي. ويمتلك رأس المال حرية إخراج الأرباح وإخراج رأس المال بأكمله بحرية تامة. ولا يدفع أي نوع من الضرائب أو الرسوم ويقوم باستغلال العمالة المحلية والأرض والبنية التحتية بأرخص الأسعار. قرأت تعليقا على هذا النموذج للكاتب الأردني الدكتور هشام البستاني (نشرته صحيفة القدس العربي في 25/6) قال إنه بمقتضى تلك التجربة فإن المنطقة العربية تتحول إلى «أرضية« فقط لحركة رأس المال، وتركيز القوة والاقتصاد والموارد في يد الكيان الصهيوني (فيما يخص الموارد، لا تنس إعادة الحياة إلى مشروع أنبوب كركوك حيفا النفطي) - وتتحول المجاميع البشرية العربية إلى قوى عاملة رخيصة، تشبع بعرقها نهم الساعين إلى الثراء والسيطرة في المنطقة. إذا كانت المرامي والمقاصد على ذلك النحو. فلا استغرب أن يرفع الأمريكيون الذين وضعوا «أجندة« المنتدى على اجتماعات الأردن لافتة: «قمة المصالحة« لأنها قد تكون كذلك بالفعل، من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية، لكن ما استغربه حقا أن يهلل لذلك بعض بني جلدتنا، فيعدونها فتحا جديدا في تاريخ المنطقة، وتعجيلا بولادة عملية سلام جديدة في الشرق الأوسط وإعادة الحياة إلى البحر العربي الميت. إن مشكلاتنا لا تقف عند حدود ما يرسم للمنطقة من خرائط تعد في الظلام، ولا فيما يدبر لها من فخاخ ومكائد، لكنها أيضا في «المارينز« العرب، الذين يحاولون تزيين كل ذلك وتسويغه. وهو ما يحمل المخلصين والشرفاء في هذه الأمة عبئا مضاعفا، حيث يصبحون مطالبين بالاحتشاد والاستنفار لمواجهة وحدات «المارينز« على الجبهتين الخارجية والداخلية!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |