يا وطني وكأنك في غربة
وكأنك تبحث في قلبي
عن وطن أنت ليأويك
نحن الاثنان بلا وطن يا وطني
في الطريق من منطقة الشلمجة الحدودية الى البصرة, كنتُ في سيارة مع بعض العائدين الى العراق بعد سنوات طويلة من الفراق .... كنا خمسة استأجرنا سيارة تويوتا ... وعندما قطعت السيارة امتار قليلة داخل أراضي الوطن انهمرت دموع الجميع ... بكاء خافت بدون صوت ... هل نحن فعلا في العراق .... قال الاول : الله واكبر خمسة سنوات على فراق الاهل والاحبة كانها مئة عام ... فيما قال الثلاثة الاخرون الجالسين في الخلف وماذا نقول نحن منذ ايام الانتفاضة الشعبانية اثنا عشر عاما ... فقال الاول الذي كان يجلس بجانبي : ساعدكم الله شلون تحملتوا ... أما انا فلا زالت دموعي تنهمر على خدي ... لم اتكلم ... فسألني صاحبي وانت عمي كم سنة مفارق هلوطن ؟ قلت بصوت خافت منذ عام 1980 ! اجابني : يعني 23 سنة قلت وسبعة اشهر و11 يوم ... قال : الله يساعد قلبك ....
في تلك الاثناء كنا قد وصلنا الى منطقة (سيد جابر) فطلبت من السائق ان يدخل الى التنومة عن طريق الشارع الاخر (طريق كرذلان) ... فهم السائق قصدي وعرف اني مشتاق الى رؤية النخل وشط العرب ... ولكي يساهم في (مجلس الفاتحة) هذا فتح (مسجل كاسيت) لكي نسمع مطرب عراقي لا اعرف اسمه كان صوتهيريردد كلمات اغنية تقول :
شتاقينا ... أشتاقينا
اشتاقينا والله لاحلى أيام الاحباب
اشتاق قلبي ودمعتي قبال الاغراب
روحي تصرخ يا حبيبي
قلبي يؤمرني ارجع لبيتي
ماكو احلى من الوطن صدر الاحباب
ماكو احلى من الوطن صدر الاحباب
كنتُ غارقاً في تأملات مشتتة, يمنحها انطلاق السيارة جرياناً غير متقطع, وكنتُ, في الآن نفسه وبسبب الغناء الحزين, مغموراً بذكريات الماضي البعيد التي انبعثت على حين غرة. كانت البصرة لي ينبوعاً متفجراً على الدوام بكل شيء ولم يجف هذا النبع ولم تنفذ مياهه عندي على رغم البعد والغربة. ولأني شعرتُ, مع نور الشمس الشاحب بسبب الغبار وأصوات الغناء الشاكية, بأني لا زلت في حلم جميل تمينيت أن لا اصحو منه .
كانت السيارة تهدر مخترقة النخيل على ضفاف شط العرب وما هي الا دقائق لم نعرف كيف مرت واذا نحن وسط التنومة ... التنومة كما تركتها سوى أكداس القمامة التى تملا طرقها ... كانت لافتات سوداء تملا حيطان المنازل على جانبي الطريق ... تقام الفاتحة على روح الشهيد سمير ... الذي اعدم على يد نظام الطاغية البائد عام 1983 ... تقام الفاتحة على ارواح الشهداء ..... بدأت اقرأ كل لافتة ... اتوجه الى الاسماء فقط علني اعثر على اسم صديق ... واذا انا اقرأ ... تقام الفاتحة على روح الشهيد محمد رضا صالح البريسم الذي اعدمه نظام الطاغية صدام عام 1980 ... ومحمد رضا هذا كان داعية مخلص ... وصديق مدرسة فلقد درسنا معا في الاعدادية المركزية في السبعينات وترك الدراسة هو بامر الطبيب ... لدي ذكريات كثيرة معه ... محمد رضا هذا ... لمن لا يعرفه ... عاش بدعاء والدته (الملاية فخرية) ... فقد اصيب محمد في طفولته بطلق ناري من مسدس اخيه واستقرت الرصاصة في راسه ... دخل محمد رضا مستشفى السعدي في البصرة وهو فاقد الوعي ... وبقي كذلك لمدة 8 أشهر ... في الشهر الثامن توقفت حركة الدم فجأة ... وحينها رفع (المغذي) المتصل بوريد محمد واعلن الدكتور السعدي وفاته ... بقيت ام محمد تبكي ... وخرجت الى فناء المستشفى متوجهة شطر كربلاء الامام الحسين عليه السلام ... اريد ابني منك يا ابا عبدالله ... اريدك ما تجذبني ... انا اكول للناس دوم ان الحسين ابو المعجزات ... جا وين معجزتك ويه خدامتك ... رجعت الام الولهى على جسد محمد واخذت تقطر الماء في فمه لاكثر من ساعة ... وفجأة سمعت صوت محمد يناديها ... يمة اجاي تسوين ...!
في البداية كنت اشك في هذه الرواية (كما يشك فيها بعض الاخوة الان) ولكن عندما اطلعت على رسالة الدكتور السعدي الى احد اطباء لندن والجواب عليها صدقت ... فلقد كتب السعدي كل شيء وكان جواب لندن : بالرغم من اننا لا نصدق هذه الحالة لكن لا تجري أي عملية جراحية له اترك الرصاصة في مكانها ...
ولهذا ... عندما كنت امازح محمد رضا اقول له ان الامن لا يحتاجون تعذيبك كثير لان الرصاصة في راسك ستنفجر من اول (راشدي) ... وفعلا استشهد محمد رضا في 6 / 8 / 80 بعد أقل من شهر على اعتقاله ... رحم الله محمد رضا وكل شهداء عراقنا المظلوم ورحم الله من قرأ الفاتحة على روح هؤلاء الابطال .
ذكريات عديدة مرت في خاطري ... وانا اعبر الجسر المقام على شط العرب ... رأيت الكثير من الشباب على الشط يهدمون التماثيل التي اقامها الطاغية على شط العرب وهي تماثيل لقتلى قادسيته المشؤومة ... ولم يبق الا تمثال الشاعر البصري بدر شاكر السياب الذي عاد شامخا كما كان ....
كانت الشمس في سماء البصرة الصافية الزرقة هي شمسي التي ألفتها منذ 23 عاما والتي لم أجدها في اي مكان آخر من الدنيا ..
عندما نزلت في الكراج الواقع في شارع عبدالله بن علي قلت لاحد السواق (دربست) للطويسة .. وعلى فكرة (دربست) كلمة فارسية تعني (خصوصي) فقال السائق شنو خوية . فتداركت الموقف وقلت يابه خصوصي للطويسة ...
بالرغم من الفرح الذي تملكني وأنا أنزل من السيارة على بعد 50 مترا عن منزلنا فكنت خائفا على ابي ... فلقد انهكه السجن والمرض ... قضى المسكين اكثر من ثمان سنوات في سجون النظام ... خرج بعدها مريضا ... كبر سنه زاده مرضا ... فاصبحت الوالدة هي المسؤولة عن معيشة العائلة .... سنوات طويلة تخبز يوميا في المنزل اكثر من 100 كيلو من الطحين لاعالة عائلة كبيرة ... وبعد ان انهكها التعب فتحت محلا صغيرا من المنزل لبيع البسكت والسجائر و...
مئات الذكريات مرت في خاطري في تلك اللحطات .... وقبل أن أطرق باب المنزل فتح الباب واذا أمي واقفة أمامي .....
اعتذر ... لا استطيع ان أكمل ... فجميع المآسي التي تزخر بها الافلام الهندية لا تساوي جزءا بسيطا من مأساة أبناء العراق الغيارى المشتتين في أرض المهجر ...
اللهم ردّ كل غريب الى وطنه ... اللهم اجمع شمل كل غريب بأهله بحق محمد وآله الاخيار .
المهم ... وجدت المنزل خاليا من الرجال باستثناء والدي العليل ... وجدت اختا لي مع أطفالها الثلاثة بالاضافة للبقية ... كنت على علم بزواجها ولكن لم أعلم باستشهاد زوجها ... والتحاقها بمنزلنا مرة اخرى ...
قال لي ابي : الحمد لله لقد عدت ... ولكن أخويك احدهم قتله المجرمون والاخر رحل بعدك بساعات من رحيلك ولكن الى سجون صدام ولم نسمع عنه شيء لحد الان ... وكذلك لم نعلم عن اختك (ماجدة) شيئا منذ اعتقالها عام 1982 .. و ....
عندما سافرت الى بغداد بعد اسبوع ... لم اجد اسم أخي ... ولكني وجدت اسم (ماجدة) فقد اعدمت عام 84 ... قرأت الاسم وجلست على الارض باكيا ... فاذا بامرأة مسنة تضع يدها على رأسي وتريني صورة لثلاث بنات وتقول لي : ابك على اخواتك (هذن) فلقد اعتقلوهن بعد أن قتلوا ابني الوحيد ....
وهنا تهون المأساة ... نعم ... أحبتي ... عندما نرى مأساة ابناء شعبنا تهون مأسينا الصغيرة أمامها ... فما قيمة مأساة (ماجدة) أمام أم فقدت ثلاث بنات ....
على رغم اني كنتُ في مدينتي العزيزة(البصرة) إلا ان المتغيرات التي طرأت عليها لم تدع لي ان استذكر اي شيء. ذهبت مع ريح التقدم دارنا القديمة (التي هدمها البعثيون) التي حاولتُ أن اعيد خلقها كالطفل في (الرجع البعيد) وامّحت من الوجود تلك الطرقات الترابية الضيقة التي شهدت ألعابنا وأفراحنا الطفولية .....
اعتذر من اخوتي لادخالهم في موضوع شخصي ... ولكن رغبت أن يشاركني الاخوة أحزاني وأفراحي ... وسأدعو لهم جميعا بالعودة الى وطنهم وأهلهم ان شاء الله
سيكون الموضوع القادم حول الوضع في العراق عموما ....
والسلام عليكم