تأملات في جواز البقاء على تقليد الميّت: هل يموت الرّأي؟!
ثمّة بحثٌ شغل الفقهاء، وهي مسألة تتعلَّق برأي الميت الفقهيّ؛ وذلك ضمن أسئلة تطرأ على الذّهن عندما يموت الفقيه وتموت فيه طاقاته الجسديّة، ومنها طاقته الفكريّة التي كان ينتج من خلالها أفكاره وآراءه في حياته: هل يموت رأي الفقيه عندما يموت هو؟
إضاءات في مواجهة التّشكيك والتّجهيل:
ما يصنع الّذين كانوا يعتبرونه مرجعاً يرجعون إليه في أحكام دينهم؟ هل يبقون على ما هم عليه؟ أم أنَّ عليهم أن يختاروا فقيهاً من الأحياء؛ وهو الّذي يحدّد لهم موقفهم الشّرعيّ تجاه آراء مرجعهم المتوفّى؟
لستُ هنا بصدد بحثٍ فقهيّ يريد أن ينظّر لمسألة تقليد الفقيه المتوفّى، بقاءً أو ابتداءً؛ إلا أنّ ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع، هو أنَّ العديد من النّاس كانوا يسألون: هل استمرار أخذنا بفتاوى مرجعنا السيّد محمّد حسين فضل الله صحيح؟ فقد قال لنا من قال إنَّ تقليد الأموات غير جائز، والعمل كلّه سيكون باطلاً.. وربّما أدخلوا العامل النّار!
كثيرٌ من الناس لا يزالون إلى اليوم، يرجعون في أعمالهم الشّرعيّة إلى السيّد الحكيم (توفّي عام 1970)، وإلى السيّد الخميني (توفّي 1989)، وإلى السيّد الخوئي (توفّي في 1992)
هكذا يُشكّك النّاسُ الطيّبون في التزامهم، بالرّغم من الفتاوى الواضحة والكثيرة لدى العلماء الأحياء في جواز البقاء على تقليد الميت؛ بل إنَّ بعضهم قال بوجوب البقاء إذا اعتقد الإنسان أعلميَّة مرجعه على الأحياء؛ والبعض يرى أنَّ الإنسان له أن يختار مرجعاً متوفَّى لم يقلِّده في حياته، فيجوز له أن يقلِّده ابتداءً بعد وفاته إذا اعتقد أنَّه أعلم من الأحياء، أو حتَّى إذا لم يكن أعلم من الأحياء كما هو رأي بعضٍ آخر..
وعلى الرّغم من أنّه لا يزال إلى اليوم من يرجع في أعماله الشّرعيّة إلى السيّد محسن الحكيم (توفّي في العام 1970 )، وإلى السيّد الخميني (توفّي في العام 1989)، وإلى السيّد الخوئي (توفّي في العام 1992)..
بعض النّاس الطيّبين يتم التشكّيك في التزامهم، بالرّغم من الفتاوى الواضحة والكثيرة لدى العلماء الأحياء في جواز البقاء على تقليد الميت؛ بل إنَّ بعضهم قال بوجوب البقاء إذا اعتقد الإنسان أعلميَّة مرجعه على الأحياء
ولأنّ سماحة السيّد فضل الله(رض) كان لا يعتبر الثّقافة الفقهيّة حكراً على شريحة معيّنة من الأمّة، وهم طلاب العلوم الدّينيّة المتخصّصون، بل كان يقرِّب الفكرة ليكون الالتزام بالتقليد عن وعيٍ ودراية، ولو بصورة عامّة، بعيداً عن التّقليد الأعمى الّذي لا يعرف فيه الإنسان شيئاً من ثقافة ما يلتزم به منهجاً وسلوكاً وعملاً في حياته.. فإنَّ ما أحاوله في هذه المقالة هو تقريب فكرة تقليد الميت إلى الذّهنيّة العامّة للنّاس، بحيث يشكِّل ذلك عنصر مناعة، ولو نسبيَّة، أمام أيّ حالة تجهيلٍ للنّاس تجاه هذه المسألة الّتي تخصّ التزاماتهم الفقهيَّة والدّينيّة عموماً، علماً أنّ كثيراً من النّقاشات قد ذكرها العلماء في كتبهم الاستدلاليَّة، فيُمكن مراجعتها.
فكرة لا واقع لها:
وأيّاً يكن الأمر، فإنَّ فكرة موت الرّأي بموت صاحبه هي فكرة لا واقع لها في كلّ ميادين الفكر والأفكار والآراء والنظريّات. ولذلك نجد أنَّ النّاس ترجع إلى كتب المفكّرين والعلماء وتأخذ بآرائهم، ليس في العلوم البحتة، كالطبّ والهندسة والفيزياء والرياضيّات ونحوها، فحسب، بل في الميادين الّتي يكون فيها الرّأي جزءاً من خصوصيّات شخصيّة المفكّر، كما في ميادين القانون وعلم الاجتماع والاقتصاد ونحو ذلك.
وإذا كان هذا يمثِّل السّلوك العامّ للنَّاس مع ميادين الفكر والرّأي، فعالمُ الفقه ليس إلا ميداناً من ميادين الفكر الاجتهاديّ الّذي ينتج نظريّات فقهيّة، فيرجع إليها من لا يملك الاجتهاد ولا خبرة له فيه. وبالتّالي، يُمكن اعتبار هذا السلوك العامّ دليلاً على جواز الرّجوع إلى الميت، فضلاً عن البقاء على تقليده.
إذا كان الرّأي قد أنتج على أساس الاجتهاد والعلم والخبرة، فإنه يكتسب من خلال ذلك قيمته العلميَّة، ويُمكن الرّجوع إليه، حال الحياة وأيضاً بعد الوفاة
وهذه السّيرة العقلائيَّة لم يصدر ردع من الشّريعة عليها؛ حتّى إنّ الأئمّة من أهل البيت(ع) المتأخّرين، لم يكونوا يعيبون على عامّة النّاس أخذهم بآراء أرباب المذاهب الأخرى الّتي عاصروها، مع أنَّ بعضهم ـ على الأقلّ ـ كانوا أمواتاً في حينه.
والاستدلال بالسّيرة العقلائيّة على التّقليد عموماً، يعتبر من أقوى الأدلّة في نظر المرجع الراحل السيّد فضل الله(ره)؛ بل ربّما يرى البعضُ أنَّ بعض الآيات القرآنيَّة التي استدلّ بها على التّقليد، هي تقرير لهذا المبدأ العقلائيّ العامّ، وليست تشريعاً جديداً؛ كقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النّحل: 43]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾[التّوبة: 122].
تقليد الرأي:
قد يقول قائل: إنَّ المجتهد الحيّ باستطاعته أن يغيِّر رأيه إذا بدا له شيء جديد، والميت قد انقطع عن الحياة كلّياً وعن كلّ حركة للفكر، فبهذا يُمكن أن نفهم أنَّ للحياة مدخليّة في اعتبار الرّأي.
والجواب على ذلك من جهتين:
أوّلاً: أنّ العلماء لا يلتزمون بذلك في البقاء على التّقليد إذا كان المكلّف قد قلّد المجتهد حال حياته ثمّ توفّي؛ فإذا كان للحياة مدخليَّة، فلا بدَّ من أن نقول بعدم جواز البقاء على تقليد الميت مطلقاً.
ثانياً: أنّ ذلك يقتضي عدم جواز التّقليد حتّى في حال الحياة؛ لأنَّ العلماء يبحثون مسائل الفقه في فترةٍ زمنيّةٍ محدَّدة، ثمّ يطرحونها في كتب الفتاوى، ولا يعيدون البحث فيها إلا في بعض المسائل، تبعاً للتّدريس. وفي كلّ الأحوال، فإنَّهم لا يعيدون البحث في أحسن الأحوال أكثر من مرّة. ولذلك لا ترى كثيراً من التّغيير في الفتاوى حتّى في حال حياة المجتهد.
معنى ذلك بكلّ بساطة، أنّنا لا نقلّد المجتهد الحيّ، وإنّما نقلّد رأيه الّذي وصل إليه قبل عشر سنوات مثلاً أو أكثر، ولذلك نحن لو سألناه عن رأيه، لأجابنا بما في كتاب الفتاوى، أو أجابنا العلماء الّذين يعاونونه في الإجابة، ولا يعيد البحث في كلّ مسألة كلّما سألناه.
وعلى هذا الأساس، فالمسألة تابعة للرّأي؛ فإذا كان الرّأي قد أنتج على أساس الاجتهاد والعلم والخبرة، فيكتسب قيمته العلميَّة، وبذلك يُمكن الرّجوع إليه، حال الحياة وبعد الوفاة، من دون فرقٍ بين الحالين في ذلك؛ والله من وراء القصد.