استدلالات القاضي عبد الجبار العقلية على نفي الرؤية
ذكر عدة أدلة على حسب اعتقاده تنفي جواز الرؤية، وسوف نذكر هذه الأدلة دليلاً دليلاً، ثم نعلق عليها وإن كان في كلامنا نوع تكرار، إلا أنا نرجو أن لا يخلو من فائدة.
قال القاضي عبد الجبار (2/248): "دلالة المقابلة: وتحريرها أن الواحد منا راءٍ بحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلاً ولا حالاً في المقابل ولا في حكم المقابل.
وهذه الدلالة مبنية على أصول، أحدها: أن الواحد منا راءٍ بالحاسة، والثاني: أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، والثالث: أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلاً ولا حالاً في المقابل"أ.هـ.
إذن الدلالة الأولى التي اعتمد القاضي والمعتزلة عليها هي دلالة المقابلة، وهي التي أشار إليها السبحاني سابقاً، وحاصلها أن الرؤية لا يمكن أن تحصل إلا إذا كان المرئي في جهة من الرائي، وإذا لم يكن كذلك فيستحيل رؤيته، وقد بيّنا نحن على أصول الأشاعرة أن هذه الشروط أعني المقابلة والحد ..إلخ عبارة عن شروط عادية لا عقلية، بمعنى أن هذه الشروط حتى لو انعدمت فيمكن حصول الرؤية، وذلك لأنا أرجعنا الرؤية إلى قدرة الله تعالى على خلق الإدراك مباشرة في الحاسة أو في محل الإدراك، فالخالق بالفعل هو الله تعالى لا الحاسة ولا الضوء ولا غير ذلك، بل هذه عبارة عن شروط عادية يمكن تخلّفها.
ولما اشترط المعتزلة هذا الشرط أحالوا رؤية الله تعالى؛ لأن الله ليس في جهة ولا حيز، وكون الله تعالى ليس متحيزاً ولا في جهة وافقهم عليه أهل السنة الأشاعرة والماتريدية، وخالفوهم في اشتراط الرؤية بالمقابلة والشعاع واتصاله بالمرئي ..إلخ.
فدليل المقابلة إذن لا يلزم إلا المعتزلة ومن قال بقولهم، والأشاعرة لم يقولوا بقولهم كما علمت.
ولنكمل الآن قراءة كلام القاضي ونعلق عليه، قال: "أما الأول، فالذي يدل عليه أن أحدنا متى كان له حاسة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود، يجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك استحالة أن يرى، فيجب أن يكون لصحة الحاسة في ذلك تأثير؛ لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.
وأما الكلام في أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلاً أو حالاً في المقابل، أو في حكم المقابل، هو أن الشيء متى كان مقابلاً للرائي بالحاسة أو حالاً في المقابل، أو في حكم المقابل، وَجَبَ أن يرى، وإذا لم يكن مقابلاً ولا حالاً في المقابل، ولا في حكم المقابل لم يُرَ، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطاً في الرؤية لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير الشرط"أ.هـ.
هذه هي طريق الاستدلال عند المعتزلة، وما يقولونه صحيح في حكم العادة فقط، أما مع ملاحظة الأدلة العقلية الدالة على أن الله تعالى خالق كل شيء، فيجب تخصيص كلامهم وتقييده بذلك، ثم إن كلام القاضي عبد الجبار مبني على وجود العلل الخارجية بين المخلوقات الحادثة، وأن هذه العلل شروط في الوجود إذا انعدمت يستحيل وجود ما يترتب عليها، وهذا هو الأصل الذي لفتنا النظر إليه في أول كلامنا مع الشيخ جعفر السبحاني، ومعلوم أن هذا الأمر، وهو الاعتراف بوجود العلل الداخلية للوجود الحادث، لا يجوز أن يعتبر بديهياً، فالأشاعرة خالفوا فيه، وبنوا نظرتهم إلى الكون على أساس نفيه وعدم القول به، ثم هذا الأصل الذي يقول به المعتزلة ومَن وافقهم ينافي كون الله تعالى خالق كلِّ شيء، فالحاصل أن من يقول بقول المعتزلة في نفي الرؤية يجب عليه أن يعلم أنه يجب أن يقول بكل هذه اللوازم والأقوال، وإلا فهو غير قائل بقول المعتزلة، بل هو موافق لهم في النتيجة فقط، وأما في المذهب المتألف من الحكم والنتيجة مع طريقة الاستدلال التي توضح حقيقة نظرتهم إلى هذا الوجود وحقيقة اعتقادهم في الله تعالى، فإذا لم يوافقهم في هذا كله فلا يصح له أن يزعم أنه موافق للمعتزلة.
ولا خلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في كون الله منزهاً من الحد والجهة والمكان، ولذلك لا نتكلم مع القاضي فيما يتعلق بهذا المعنى، لأن محل الخلاف بالضبط أن الله مع كونه منزهاً عن الحد والمقابلة والجهة كيف يمكن حصول رؤيته.
قال القاضي عبد الجبار ص250: "فإن قيل: أليس أن الله تعالى يرى الواحد منا، وإن لم يكن مقابلاً له ولا حالاً في المقابل ولا في حكم المقابل، فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلاً له ولا حالاً في المقابل ولا في حكم المقابل؟
قيل له: إنما وجبت هذه القضية في القديم تعالى؛ لأنه لا يجوز أن يكون رائياً بالحاسة والواحد منا راءٍ بالحاسة، فلا يعلم أن يرى إلا كذلك"أ.هـ.
وهذه فقرة في غاية الأهمية، وقد أورد القاضي عبد الجبار الاعتراض وأجاب عليه، ونحن سنعيد بيان هذا الاعتراض، ونتكلم على جواب القاضي.
حاصل الإيراد سؤال وإلزام موجَّه من الأشاعرة الذين يثبتون الرؤية مع تنزيه الله تعالى عن الجهة والمقابلة، ويردون بهذا السؤال عن الزعم الذي يزعمه المعتزلة من أن الرؤية يلزمها الحد والجهة، فيقولون للمعتزلة: إذا قلتم إننا عندما نثبت رؤية الله يلزمنا إثبات كونه محدوداً وفي جهة، وأن علة هذا اللزوم هو أن الرؤية نفسها تستلزم ذلك، فيلزمكم مثل ذلك في حق الله، ألا تقولون إن الله تعالى يرى المخلوقات، ومع رؤيته للمخلوقات لا يلزم كونه في جهة منها ولا متحيزاً ولا محدوداً، فإذا صحَّ ذلك فكيف تزعمون أن الرؤية يلزمها الجهة والحدّ، وأن هذا التلازم عقلي، والتلازم العقلي لا يتخلف شاهداً وغائباً، فلماذا نراكم منعتم ذلك في حق الله وتقولون به في حق العباد.
هذا هو حاصل السؤال، وهو قويٌّ كما ترون، وأجاب القاضي كما يلي: قال إن الرؤية الحاصلة للإنسان إنما تحصل له بحسٍّ، وأما الله تعالى فلا يرى بحاسة، ولذلك يرانا بلا لزوم الجهة والحدّ والمقابلة وغير ذلك.
وهذا الجواب يعود بالنقض على أصل المعتزلة كما سنبين، فالمعتزلة أساساً يقولون: لا رؤية إلا بمقابلة وحسٍّ وحدّ ومكان، وهم قد نفوا ما قالته الأشاعرة من إمكان تعقل رؤية بلا هذه اللوازم، ولكنا نراهم الآن يقولون بأن الله تعالى يرى ورؤيته بلا حسٍّ ولا مقابلة.
إذن يعترف القاضي عبد الجبار بمفهومين من الرؤية.
الأول: رؤية بحسٍّ، أي رؤية حاصلة عن الإحساس ومقابلة وحدّ. الثاني: رؤية بلا حسٍّ، أي حاصلة بلا إحساس ولا مقابلة ولا حدّ.
وهو يجيز تسمية المعنى الثاني رؤية، ولكنه يحصره في الله تعالى، ويقول: لا يمكن أن تحصل الرؤية للإنسان إلا بالحسّ.
وكلامه ينبني على الفرق بين الرؤية والحس، فالحس هو سبب وآلة الرؤية عندنا ولا سبب ولا آلة للرؤية في حق الله.
وهذا الكلام صحيح، ولكن يلزم منه هدم مذهب المعتزلة من أساسه، فإذا قالوا إن الرؤية معنى واحد، وأن الحسّ آلة لها وسبب لها للمخلوقات، فيرجع الخلاف بينهم وبين الأشاعرة إلى الأصل الكبير الذي نبهنا إليه أولاً، وهو مسألة التلازم العلي والمعلولي بين الحوادث، بحيث يقول المعتزلة: إن الرؤية لا يمكن أن تحصل وتوجد للمخلوق إلا بواسطة الإحساس.
والحقيقة أن من يتأمل في هذا الكلام يجده ضعيفاً جداً، فإذا جزم المعتزلة أن الرؤية غير الحس، وأن الحس آلة للرؤية، وأثبتوا لله أنه يرى، إذن الرؤية يمكن أن تقع بلا حسّ ولا مقابلة.
أليس هذا نقضاً للأصل الذي وضعوه من إحالة الرؤية إلا بمقابلة.
إن هذا الكلام في الحقيقة وعند التأمل الصادق يُظهر كم هم المعتزلة متحكمون في استدلالهم واستنباطهم وطريقة تفكيرهم!! ويكفي العاقل الالتفات إلى هذا المعنى للحكم بضعف مذهبهم.
ومن جهة أخرى: فإن القول بالعلل والمعلولات، أو التولد، لا يصح، ولا يقول به إلا المعتزلة ومن وافقهم، وأما الأشاعرة فلا يلتزمون به ولا يقولون به كما وضحناه.
وأيضاً، كيف يمكن لعاقل أن يدعي صحة القول بأن الحس غير الرؤية بل هو آلتها وشرطها، ثم يثبت الرؤية لله بلا هذا الشرط، مع قوله بأن هذا الشرط عقلي، وهل العقليات تتخلف وتنقض؟!
وما أَدْرَى المعتزلة أن الإنسان لا يمكن أن يرى إلا بالحاسة، وكيف حكموا على الله تعالى بأنه لا يقدر على خلق الرؤية في الإنسان بدون حاسة في الإنسان ولا شعاع ولا مقابلة؟! ألا يستطيع الله جلَّ شأنه أن يوجد هذا المعنى الذي سميتموه رؤيةً إلا عن طريق توسط الحسّ، أليس هذا حدَّاً لقدرة الله تعالى وتعجيزاً له؟!
إذن يتبين لنا أن الأصول التي بنى عليها المعتزلة هذا الجواب أصول باطلة وغير مسلّمة ولا تلزم خصومهم.
والأشاعرة لا يلزمهم مطلقاً ما يريده المعتزلة.
فظهر قوة هذا الإشكال، وضعف وتناقض جواب القاضي عبد الجبار، أما ضعفه فبالنظر إلى المقدمات التي يعتمد عليها من التولد أو العلة والمعلول، وأما تناقضه فمع ما قرَّره المعتزلة من معنى الرؤية كما مضى.
يتبع .......