ما بعد فضل الله ومآلات التّنوير الإسلاميّ
عبد الرّحيم التّهامي
لا شكَّ في أنَّ رحيل شخصيَّة من وزن السيِّد محمد حسين فضل الله وقيمته، أشعر الجميع بفداحة الخسارة، فالرّجل كان استثنائيّاً في زمنٍ استثنائي، لكن غياب الرّجال الاستثنائيّين من روّاد الإصلاح وأرباب الفكر التّنويريّ، يجعل من سؤال الما بعد سؤالاً تاريخيّاً بامتياز، هو سؤال لا يندرج في إطار العاطفة بقدر اندراجه في قلق الصّيرورة والامتداد، ومدى تواصل فاعليّة النّشاط التّفكيكيّ للبُنى الفكريّة العتيقة، أو تلك المستنفدة وظيفيّاً والمعيقة لانبثاق زمن التّنوير، ومقتضيات كلّ ذلك.
أمّا التّنوير الإسلاميّ، فهو إمكانيّة تاريخيّة دائمة ومفتوحة على اشتراطاتها الخاصّة، هو رهان معرفيّ قائم على نصاب العقل والحرّيّة، وهنا نلتقي مع التّعريف الكانطي للأنوار، كما هو رهان سياسيّ على تقويض الاستبداد؛ التّقويض الّذي يمكن أن يعوّل على استدماج المقاربة المعرفيّة المعرّية للاتاريخيّة النّمط الاستبداديّ للسّلطة في عالمنا الإسلاميّ، فضلاً على لا إنسانيّته.
مشكلتنا أنّنا صرنا نعيش التّاريخ من دون رهاناتٍ كبرى، وهذا نكوص عن مرحلة الكفاح الوطني والتحرّري، كما عن المرحلة التي أعقبتها، ففي كلتا المرحلتين، كانت هناك عناوين كبرى ورهانات تعنونت ببناء الدّولة الوطنيّة، ثم بالوحدة العربيّة، ولو من خلال جدليّته المعروفة؛ الوحدة شرط التّحرير (فلسطين)، أو التّحرير مدخل للوحدة العربيّة.
لكن بعد سقوط كلّ هذه الرّهانات، بما فيها رهانات الإسلاميّين في مشروع «الدّولة الإسلاميّة»، مع استثناء التّجربة الإيرانيّة النّاجحة، انفتح المجال العربيّ والإسلاميّ عموماً على أنماط التديّن السّلفيّ بشقّيه السنّي والشّيعيّ، كمظهرٍ عن اختلالٍ بنيويّ في الواقع الإسلاميّ، أطاح وما زال يطيح كلّ مفاصل العقلنة والاستنارة في تراثنا الإسلاميّ.
في هذا المناخ، كان السيّد فضل الله الرّائد التّنويريّ، يوسع من مساحة العقل، ويصدم الوعي السّاذج المكتفي والمطمئنّ إلى سكونيّته، ويناضل من أجل تأصيل الفهم الدّينيّ الصّحيح، من خلال دعوته إلى «التعمّق في النصّ الدّينيّ، وفي امتداد هذا النّصّ، كي يكون النصّ الدّينيّ للحياة كلّها، لا أن نحبسه في زنزانةٍ ضيّقةٍ من خلفيّاتنا الضيّقة، التي قد تكون مما نعيش معه في الماضي، أو نسقط بسببه في وحول الواقع».
فكان من الطّبيعيّ أن تنفتح على السيّد جبهات العداء من خنادق التخلّف، وكان من أشدّها عليه، تلك الخنادق التي لمست في مشروعه عقلنةً تمنح هويّةً للتّشيّع، تؤصّله وتحرّره من جرح الذّاكرة، وتخلّصه من الغلوّ والخرافة، أو تلك التي تنبّهت لنباهةٍ تاريخيّةٍ في حركة السيّد، وهو يجدّد للتّشيّع وظائفه التاريخيّة، من مدخل التّلاقي مع الآخر المذهبي، بدل الانفصال عنه والقطيعة معه، بل هو التّواصل مع الإنسان على وفق قاعدة «إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلق». فكلّ عناوين الحملات على السيّد، بمندرجاتها التفصيليّة، لا تعبّر في حقيقة الأمر إلا عن اعتراكٍ تاريخيٍّ معرفيّ، في سياق كسب رهان التّنوير بين نزوعات العقلنة ونقائضها الماضويّة والردّة العقليّة، وقد وظّف السيّد حريّة الفكر في هذا السّياق بأقصى درجات الجرأة والشّجاعة والاستقلاليّة، ليغني لحظته التّاريخيّة المقفرة، بمشاريع تروم عقلنة المعارف والممارسات.
إنَّ أحد مداخل التَّعامل المسؤول مع المنجز التَّجديديّ العظيم للسيِّد فضل الله، يقوم على إدراج مشروع سماحته تحت عنوان التّنوير الإسلاميّ، والانطلاق من هذا المنجز ونظائره في إطار حركةٍ تنويريّةٍ راشدة، توسّع حضورها في السّاحة، وتدخل الباب على مناشئ التحجّر في الفكر الدّينيّ، بتصميمٍ قويّ على اقتلاعها، واجتراح عصر أنوارٍ إسلاميّ.
وبالعودة إلى سؤال المآلات، فكما هو معلوم، فإنَّ الفكر العميق والخلاّق والمبدع والتأسيسيّ المتّصل بجوهر الحقائق الكبرى، يمتلك قابليّة البقاء، ولا يستنفده تتالي العصور، لكنّ الحديث هنا يتخطّى حياة الفكر إلى فاعليّة الفكر، لجهة تأمين وظيفته في الواقع، وإنزاله ضمن الأطر المرجعيّة المتقدّمة لفكر الحاجات التّاريخيّة، ثم الإمساك بالعناصر المنهجيّة لهذا الفكر، وإعادة تشغيلها في المعالجات الفكريّة لقضايا السّاحة، ولأسئلة الحياة التي لا تعرف النّضوب.
وعلى هذا الأساس، فإنّ دور الحاضنة الفكريّة هنا؛ وهي النّخبة تحديداً؛ تغدو شرطاً حيويّاً وحاسماً في مآلات المشروع الفكريّ واستمراره، ولا يخرج ذلك في العادة عن أحد مصيرين، إمّا تموضع الفكر في دائرة التّراث الفكريّ المميّز والمتألّق، دون أن تستمرّ وظيفته في الواقع ضمن جدليّة التّفكيك وإعادة البناء، أو على عكس ذلك، من حيث تواصل فاعليّة الفكر في ممارسته التّفكيك على ما استنفِد من مناهج في إنتاج المعرفة، وإطاحة بعض بناءاته الفوقيّة، وإحلال البنى الجديدة محلّها، بإحكام الأسس المنهجيّة التي تقوم عليها.
وللأسف، فإنّ المصير الأوّل هو ما قدّر لتجربة الشّهيد محمد باقر الصّدر، ومع أنّ الصّدر كان صاحب مشروع نهضةٍ وتجديد، وصاغ فكراً متّسماً بدرجةٍ عاليةٍ من الصّرامة النظريّة والمنهجيّة، إلا أنّ خطّه لم يستمرّ، فلم نشهد بعد رحليه المأساويّ تيّاراً ملموساً يوظّف منهجه في الكدح المعرفيّ، ويحمل فكره، ليكمل مسيرة الإصلاح الدّينيّ، باعتبارها كانت تمثّل عند الشّهيد أحد مداخل النّهضة المنشودة في الأمّة.
إنّ مجرّد الاهتمام بتراثه، وإن كان أمراً محموداً في ذاته، فإنَّه مهما اتَّسع، يقصر عن الاستجابة للوظيفة التَّاريخيَّة، لأنَّ هذه الوظيفة تتقوَّم بما يتخطَّى مجرَّد الاهتمام، أي بتيّار حركيّ يواصل مهمَّة الاشتباك الفكريّ مع البنى الدّينيَّة والفكريَّة والثّقافيَّة الّتي تمثِّل عوائق بوجه النّهضة، وتعرقل الوظيفة التّحريريّة للدّين، كما يوسع من الهوامش المكتسبة التي تحوّزت عليها فكرة الإصلاح في نضالها، ومن خلال كلّ تعبيراتها.
إنّ هذا التيّار النخبويّ الّذي نعبّر عنه هنا بالامتداد الأصيل، قد لا ينجح في لعب أدواره الطلائعيّة هذه، إذا لم يضفِ على مفهوم الامتداد معاني الإضافة (الفكريّة)، والإغناء والإبداع على المشروع الّذي ينطلق منه.
وإذا كانت بيئة النّجف المغرقة في تقليديَّتها، والمتوجِّسة خيفةً من التَّجديد، قد شكَّلت شرطاً معاكساً أمام حركة الشَّهيد الصَّدر، ما اضطرّه لاعتباراتٍ مرحليّةٍ وموضوعيّة؛ ليس أكثر؛ لأن يخفّف من إيقاع حركة مشروعه الإصلاحيّ واندفاعته في البعدين الدّيني والحوزويّ، وأن يرجئ بعض عناوينه، حتّى اختطفته الشّهادة في منتصف الطّريق، فإنّ العلامة فضل الله، وبما أتاحته هوامش البيئة السّياسيّة اللّبنانيّة، وفي علاقة بالطّور التّاريخيّ الجديد الّذي أقحمت فيه التّجربة الشّيعيّة بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران؛ وجد نفسه منخرطاً من موقعه الخاصّ، وبما تراكم لديه من عدّة معرفيّة متعدّدة الأبعاد، ونفسٍ تجديديٍّ عميقٍ، في استحقاقات اللّحظة التّاريخيّة منذ مطلع الثّمانينات، مستكملاً المنجز النّهضويّ كما تبلور مع الشّهيد الصّدر، كما كان في الموعد التّاريخيّ مع التحوّلات التي أرهصت بها الثّورة الإسلاميّة في إيران، وهي تخوض لأوّل مرّةٍ سياق التّجريب بقيادة الإمام الخميني، مهتديةً بفكر قائدها، ومستندةً إلى أرصدة الفكر الإصلاحيّ، كما تجلّت بقوّة في نتاجات الشّهيد مرتضى مطهّري.
إذاً يمكن القول إنّنا في سياقٍ تنويريّ أسهم فيه السيّد فضل الله، وعلى مدى عقود، وأقحم فيه فئاتٍ واسعةً داخل لبنان وخارجه، من الشّيعة والسنّة.. والوعي بهذا السّياق التّنويريّ كمكتسبٍ دينيّ وتاريخيّ، هو شرط لازم لإدامة فاعليّته، ودفعه لاستيعاب مجمل اللّحظة التّاريخيّة، ومن الخطأ أن ينحصر التّفكير في إيجاد شخصيّةٍ يمكن أن تغطّي بعض ما تركه السيّد فضل الله من فراغٍ بعد رحيله، لأنّ التّفكير كلّه يجب أن يتّجه، الآن، إلى حفظ وتأمين لحظة التّنوير التي افتكّها فضل الله بعملٍ جبّار من سياقات التخلّف الإسلاميّ؛ وضمِّها إلى كلّ روافد الاستنارة ومعطياتها في الأمّة.
التاريخ: 2 شعبان 1431 ه الموافق: 14/07/2010 م