العلامة الفضلي بُلدانياً...!!؟ تشتغل الكتابة التاريخية على الزمان...، بينما تشتغل الكتابة الجغرافية على المكان...، وحين يحضر المكان والزمان في نص ما..، تاريخي من حيث كونه يرصد مستوى من الأحداث..، جغرافي من حيث إنه يرسم مسرح تلك الأحداث...، فإنه يرصد المكان في زمان، والزمان في مكان..، ويقرأ حركة الإنسان في الظرفين المكاني/الزماني، وكأنهما شيء واحد.
تلك هي الكتابة البلدانيَّة بالمعنى التراثي لهذا الاشتغال المعرفي الذي تجلى في شكل من أشكاله بكتب الرحَّالة مثل ابن بطوطة (703ـ779هـ) في رحلته (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، وابن جبير(540ـ614هـ) في رحلته (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار).
وإذا كان الاشتغال البلداني لدى الرحَّالة يأخذ في اعتباره تسليط الأضواء على (الغرائبي، العجائبي، الملفت، وغير المألوف) من أجل نوع من (الحكي) و(القص) في بلدان الناس، وناس البلدان..؛ لأن ذلك مما يدخل في طبيعة (أدب الرحلات)..ـ
فإنَّ المعجميين أمثال ياقوت الحموي (574ـ626هـ) تشتغل بلدانياتهم على البلد المدروس من حيث الاسم والموقع والأهمية وما يتصل بذلك كله من نصوص كالحديث الشريف والأدب واللغة...مع شيء مما يلتفت إليه الرحَّالة..، قاصدين ابراز شخصية البلد من خلال رؤيته بين البلدان في المعجم...، وهذا ما قام به الحموي في كتابه (معجم البدان).
غير أنَّ البلدانيَّة لا تقف عند هذا الحد..، ذلك حين تحاول أن تستحدث ما يجاور (أدب الرحلات) إلى (رحلات الأدب) في (السيرة)، ولكنها سيرة للمكان/المدينة مثلا..، ومثال ذلك التدوين الروائي/السيروي نجده في كتاب سيرة مدينة (عمّان في الأربعينات) للروائي عبد الرحمن منيف (1933ـ2004م) ومثله في سيرة مدينة البصرة (بصرياثا) للروائي محمد خضير (1944ـ ). وإذا كانت بلدانيَّة منيف وخضير تنزع منازع النص الأدبي على نحو خاص..، فإن ما يشتغل عليه نص شيخنا العلامة الفضلي (1935ـ2013م) في كتابه (دليل النجف الأَشرف) هو ذلك النحو من البلدانيَّة التي تكاد تنفرد عما ذكر بما تنزع إليه من اختصاص.
فهو كتاب بلدانيٌّ، من حيث كون موضوعه مدينة عايشها الكاتب وهي (النجف الأَشرف) وفي زمان محدد (ستينيات القرن العشرين) رصدها مكانا وزمانا وإنسانا وثقافة..، هادفا إلى تقديم ما يعرِّف قاصديها بها معرفة دالة، شاملة (مكانا وزمانا وإنسانا وثقافة..)، فهو عمل معجمي، رحلويٌّ (سياحيٌّ)، تاريخي، جغرافي، ثقافي، وديني..؛ كونه يبحث في مدينة تسبح في فضاءات القداسة، وترفرف فيها أجنحة العلم...، فهي مدينة (باب مدينة العلم) الإمام علي بن أبي طالب(ع).
مما يحضر في (دليل النجف الأَشرف) من موضوعات:
((أهمية النجف، جغرافيتها، تاريخها، ضريح الإمام علي(ع) و زيارته..، جامعة النجف، تأسيسها، دراستها، كلية الفقه، مدرسة جامعة النجف الدينية، المكتبات العامة، الجمعيات الثقافية، الصحف والمجلات، السلسلات الثقافية، المطابع، مقبرة وادي السلام(أكبر مقبرة في العالم)، دور العبادة، مساجد، مزارات... ، وما إلى ذلك من ساحات، شوارع، طرق مواصلات، متنزهات..)).
وما يتصل بعالم تلك المدينة المقدسة من علماء أعلام، وكتب وأَقلام..، هي تمشي مع الكتاب مشي الظل لذي الظل..، ملحقا الكتاب بترجمة خاصة لـلشيخ الطوسي (385ـ460هـ)، والسيد بحر العلوم (1155ـ1212هـ)، والشيخ جعفر الكبير (1156ـ1228هـ)، والذي يقرأ الكتاب يعرف سر تلك الخصوصية في هذا الإلحاق.مع صور فوتوغرافية يختتم بها ملحق الكتاب..، وهي تعكس الوعي المبكر لدى شيخنا العلامة الفضلي(رحمه الله) بأهمية (الصورة) التي بقيت تردف أبحاثه ودراساته ذات الجوانب الميدانية، كما هو الحال في دراساته الفقهية الرائدة حول مواقيت الحج (قرن المنازل، ذو الحليفة، الجحفة، يلملم،..) تلك الأبحاث التي سجلت مرجعية لكثير من استدلالات فقهاء العصر الذين رأوا في دراسات العلامة الفضلي ما يحل اشكالات..، ويجيب عن تساؤلات ظلت حائرة قبل دراساته الميدانية الفقهية الدالة.
وهو إن دل على شيء فإنما يدل على روحية العالم المحقق، والبحاثة المدقق، الذي يلاحق كل ما من شأنه أن يضيء الحقيقة.
إن (دليل النجف الأَشرف) كتاب مفيد، ممتع، دال...، هكذا سيراه القراء...
ولكنني ـ حين قرأته ـ وفي ذاكرتي الكثير من طرائق البحث الاستدلالي لدى استاذنا العلامة الفضلي ـ في (فقه المواقيت) وهي مما يحتاج إلى (دليل) وقد تجلى واضحا في تحقيقه لـ(منسك صاحب الجواهر) الشيخ محمد حسن النجفي (ت1266هـ) ـ فهمت أن (هذا من ذاك)..، وأن (الاستدلال) إذا أراد أن يستكمل أدواته الاجتهادية فإنه ليس بمستغن عن الدليل.
رحم الله أستاذنا الفقيه المجدد العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي الذي بنى رحلته العلمية على شطرين من (دليل الفقه) و(فقه الدليل) وهما من الاجتهاد بيت القصيد...!!؟؟