[align=justify][align=center]انتفاضة رجب المباركة 1979 م[/align]
كيف بدأ انتفاضة رجب المباركة؟ وما هي مبرّرات قيامها، وما هي الأحداث التي رافقتها وأعقبتها؟
وأعتقد أن الكثير من الغموض يشوب معالم هذا الحديث الكبير، وسيبقى كذلك بسبب الظروف الخاصة التي تحول دون الحديث بإسهاب عن هذا الموضوع. وهنا سوف أسعى لإعطاء القارئ الكريم بعض الملامح العامّة التي تعينه على إدراك بعض الحقائق عن انتفاضة رجب المباركة.
وكنت في فترة الحجز قد طلبت من السيد الشهيد أن يكتب هذا الفصل بنفسه إيمانا منّ بأهميته هذا الموضوع وحسّاسية بعض فصوله وأحداثه.
كانت سلطة البعث العفلقيّة تعيش حالة من الرعب والقلق بسبب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما سوف يسببّه لها هذا الحدث الكبير من مشاكل داخلية خطيرة، ذلك أن قيام حكومة إسلامية يقودها فقيه في دولة مجاورة للعراق ليس أمرا يمكن تجاهله بسهولة، فالحدث ـ على أقل تقدير ـ سيعزز من تطلّع العراقيين نحو إقامة حكومة إسلامية في العراق.
لقد كان وهج الثورة قد غطى آفاق العراق، وتغلغل إلى قلوب العراقيين كبارا وصغارا، ولم نكن نستغرب ونحن نستمع لأطفالنا وهم يردّدون النشيد المعروف (إيران إيران إيران خون ومرك وعصيان) رغم عدم معرفتهم ما تعنيه هذه الكلمات، ولكن لكثرة سماعهم لإذاعة إيران كان هذا النشيد وغيره يعبّر عن مدى تجاوبهم وانشدادهم للثورة الإسلامية.
ومن هنا كان موقف السلطة موقف المنافق، فعلى الصعيد الإعلامي العلني تظاهرت بتأييد محدود جدا للثورة تمثلّ بإرسال برقية من قبل صدّام ـ الذي كان نائبا لرئيس ما يسمّى مجلس قيادة الثورة ـ بعثها أولئك أحمد حسن البكر رئيس الجمهوريّة آنذاك إلى الإمام الراحل السيد الخميني. ولم يكن من مناص أمام السلطة إلا إظهار هذا النوع من (المباركة والتأييد) للثورة خاصة بعد أن وقفت إيران من القضايا التي تهمّ الأمة الإسلاميّة والشعب العراقي موقفا مبدأيا، كموقفها من القضية الفلسطينيّة، أو (إسرائيل) وأمريكا وما شابه ذلك.
وفي الواقع العملي فإن السلطة شنّت حملة إعلاميّة مكثّفة في نطاق حزب البعث وأجهزة الدولة على الثورة وقادتها، فوجّهت التهم والافتراءات المختلفة لهم، وفسّرت أسباب الثورة ودوافعها بأنّها اقتصادية بحتة، وأنّها طائفيّة! وأمريكيّة! وأنّها ضد مصالح الأمة العربية وإلى غير ذلك/ وطلبت من الحزبيين ترسيخ هذه التهم في أذهان أبناء الشعب كما بدأت أجهزة الأمن والمخابرات برصد الكوادر والقوى الإسلاميّة التي كانت تعتقد أنها ستقوم بدور فعّال وخطير في المستقبل على صعيد السعي لإقامة حكومة إسلاميّة في العراق.
وما من شك إن أهم ما كان يقلق سلطة البعث هو نجاح التحرّك الجماهيري الإسلامي بقيادة العلماء لإقامة حكومة إسلامية، فالثورة الإسلامية ليست (انقلابا عسكريّا) حيكت خطّته في الظلام وقادة عسكري في فجر يوم والناس نيام. إن الثورة الإسلامية كما يشهد لها واقعها ومسيرتها كانت جماهيريّة وشعبيّة تخطو إلى النصر بدماء أبناء الشعب من الرجال والنساء والأطفال، وهم جميعا لا يحملون من السلاح إلا سلاح الإيمان والهتاف بنداء (الله أكبر). ولم يتح لقائدها الإمام الخميني من وسائل فعاّلة إلا قيادته الحكيمة وشجاعته النادرة ووسائل الإعلام التي كان من خلالها يوجّه الشعب ويقود الثورة.
إن هذه الظاهرة كانت تقلق السلطة، فكانت تبحث عن الوسائل التي تساعدها
(1)هذه المعلومة مأخوذة من خطاب لصدام بصوته وصورته احتفظ به.
على التغلّب على هذه المعظلة الكبيرة التي تهدد وجودها تهديدا واقعيا.
ومن الطبيعي أن تتجه إلى السيد الشهيد الصدر وإلى الحركة الإسلاميّة والكيان الإسلامي في العراق للقضاء عليه بأيّ أسلوب، وبأي ثمن.
إن العراق كان المرشّح الطبيعي ـ لو توفرت المستلزمات الضرورية ـ الثورة الإسلامية جماهيرية على غرار ما حدث إيران. وهذا ما تعرفه السلطة.
ولم يكن توجّه السلطة هذا وتفكيرها وسعيها الدائب في التخطيط والتنفيذ للوقوف بوجه المد الإسلامي في العراق خافيا على سيّدنا الشهيد الصدر فقد كان يقول:
(إذا سكتنا فسوف تقتضي السلطة على الوجود الإسلامي في العراق.)
إن السيد الشهيد كان يعلم أن الظروف لم تكن مهيئة لتحرك جماهيري بمستوى التحرّك الذي حدث في إيران لأمور وأسباب معروفة لعل أهمّها بطش النظام ووحشيّته، التي لا نظير لها في تاريخنا المعاصر، ومنها ضعف الحركة الإسلامية وعدم قدرتها على مواجهة قد تكون طويلة وشاقة خاصّة مع افتقارها إلى الإمكانات المادّية، كما أن مرجعيّة السيد الشهيد الصدر لم تكن قد استوعبت الساحة العراقيّة استيعابا كاملا بحيث يتاح لها التحرّك بمفردها دون حاجة إلى مساعدة الآخرين، ومنها أن بعض الأوساط المرجعيّة والحوزويّة كانت لا ترى ضرورة لتحرّك من هذا القبيل.
إن هذه الأسباب وغيرها تحتاج إلى بحث ودراسة مفصّلة، وأن هنا لست بصد ذلك، وإنّما قصدت الإشارة فقط، والذي يهمّني هنا هو رأي السيد الشهيد، وأستطيع أن أجزم بأنه كان يرى أن العمل الإسلامي يجب أن لا يعتمد على التحرّك الجماهيري فقط، بل يجب أن ندخل في عملنا الأساليب التي تقتضيها ظروف العراق وأوضاعه وما تتطلّبه من مستلزمات، ويجب أن يتم ذلك بدقّة وحكمه؛ ولهذا كان قد خطط للعمل معتمدا على أساليب أخرى وقد تحدثت عن ذلك في موضوع استراتيجيّة السيد الشهيد السياسيّة.
ومما لا شك فيه أن حدث انتصار الثورة الإسلامية في إيران نضّج بعض الأفكار وسرّع في تجاوز بعض العقبات، وفرض أوضاعا جديدة، وكان على السيد الشهيد؛ أن يواكب المستجدّات بدقّة بالغة.
وكان من المنطقي أن لا يخطوا السيد الشهيد من دون تنسيق وتشاور مع الإمام الخميني، وهو ولي أمر المسلمين وقائدهم، خاصّة بعد أن دعا إلى طاعته، والالتفات حول قيادته، والذوبان في وجوده.
وعلى هذا الأساس جر حديث خاصّ بيني وبينه حول الأسلوب الأمثل للتشاور والتنسيق، فكان المقترح الأوّلي أن أقوم بحمل رسالة شفهيّة واسافر إلى إحدى دول الخليج، ومن هناك أتّصل بسماحة حجة الإسلام المسلمين السيد محمد الغروي وهو أحد طلاب السيد الشهيد الأوفياء الأبرار، وهو بدوره يكون حلقة الوصل والتنسيق بين السيد الشهيد والسيد الإمام.
إلا أن السيد الشهيد عدل عن هذا المقترح بعد أن اجتمع بسماحة السيد محمود الهاشمي ـ ولم أحضر ذلك الاجتماع ـ، إلا أنّي علمت أنّ السيد الشهيد بعث سماحة السيد الهاشمي إلى إيران ليكون ممثّلا له ، ومنسّقا مع القيادة الإسلاميّة في إيران.
وقد حرص السيد الشهيد على أن يتم هذا الأمر بسرّية تامّة، وإن كانت هذه السرّية سوف لا تطول؛ لأن سماحة السيد الهاشمي من أبرز طلاب السيد الشهيد والمقرّبين منه، وهو مراقب من قبل السلطة، وسوف تعرف ـ ولو بعد حين ـ بسفره إلى إيران وتمثيله للسيد الشهيد فيها.
كان هذا العمل قد جعل السلطة في حالة من التوجّس والقلق عمّا سوف يجري في المستقبل، إذ أنّها تعلم أن السيد الهاشمي شخصيّة كبيرة وخطيرة، وليس منطقيا أن يكون سفره بلا هدف كبير وخطير، ولهذا السبب كثّفت السلطة من رقابتها للسيد الشهيد بشكل لم يسبق له نظير.
برقية الإمام
ولم يمض وقت طويل على مغادرة سماحة السيد الهاشمي إلى إيران حتّى بثّت وسائل الإعلام في جمهورية إيران الإسلاميّة ومنها إذاعة طهران القسم العربي برقية وجّهها الإمام الراحل إلى السيد الشهيد ونصّها كالتالي:
بسمه تعالى
سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته.
علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وإنّني قلق من هذا الأمر، آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
روح الله الموسوي الخميني
وقد أجاب السيد الشهيد على برقية السيد الإمام بالبرقية التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظلّه.
تلقّيت برقيّتكم الكريمة التي جسدت ابوّتكم ورعايتكم الروحيّة للنجف الأشرف، الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة،
وإنّي أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحيّة، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف.
وأودّ أن اعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيّات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز، الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد عيى يدكم ضوءا هاديا للعالم كلّه، وطاقة روحيّة لضرت المستعمر الكافر، والاستعمار الأمريكي خاصّة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجراميّة، وفي مقدّمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدّسة فلسطين.
ونسأل المولى أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الخامس من رجب 1399 هـ النجف الاشرف
محمد باقر الصدر
والحقيقة أن السيد الشهيد لم يستلم برقية السيد الإمام إذ أنّها احتجزت لدى السلطة،وإنّما سمعها بعد أن سجّلتها له على شريط الكاسيت عندما أذيعت من إذاعة طهران القسم العربي.
وكان في وقتها قد طلب منّ تكرار سماع البرقية المسجّلة عليه، فكان يستمع إليها بدقّة ثم طلب السيد الشهيد أن نتّصل بسماحة السيد الهاشمي ونستفسر عن هذا الأمر، وعن مقصود السيد الإمام الحقيقي من ذلك حيث إن السيد الشهيد لم يكن عازما في واقع الأمر على مغادرة العراق، بل لم يفكر بذلك مطلقا، فهل هناك شئ فرض أن تكون صياغة البرقية بهذا الشكل والسيد الشهيد لا يعلم؟ وكان هذا الاحتمال أقوى المحتملات التي تتعلّق بهذا الموضوع.
لقد أجرينا عدّة اتصالات هاتفية كان السيد الشهيد حاضرا بعضها، أو لعل معظمها، وإن لم يكن هو المتحدّث، نستفسر عن حقيقة البرقية، والهدف منها.
ولكن ـ للأسف ـ لم تثمر تلك الاتصالات شيئا، ولم يتحقّق السيد الشهيد من هذه القضية، ولم يعرف الأسباب والدوافع حتّى اليوم الذي استشهد فيه.
وعلى ضوء ذلك ماذا سيكون موقف السيد الشهيد والوقت يجري بسرعة والأحداث تتوالى وهي تتطلب اتّخاذ الموقف المناسب تجاه هذه القضية.[/align]