الجولة الثالثة.. الجزيرة للأطفال:



في مطلع سبتمبر من العام الجاري، وبعد مرور 9 سنوات تقريبا على (الجولة الأولى) من ثورة الجزيرة، دشنت هذه القناة جولتها الثالثة بإطلاق (قناة الجزيرة للأطفال).. وهي جولة أعتقد أن المعطيات الحالية تشير إلى أنها ستحسم بجدارة لصالح الجزيرة مجدداً.



الجزيرة للأطفال، قناة تسعى للدمج بين الترفية والتربية، وتهدف لتعريف الأطفال والمربين بمبادئ التسامح والانفتاح، وتعمل على تعزيز الممارسات التربوية السليمة، ما يجعلها بحق تتبوأ موقع الأهمية بالنسبة للمربين تحديداً، وللمهتمين بشؤون التربية عموماً. وأعتقد أن هذه الخطوة فعلا تمثل سابقة مهمة في العالم العربي.



الجزيرة للأطفال، هي ثمرة شراكة بين قناة الجزيرة الفضائية ومؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع التي ترأسها وتدعمها قرينة أمير قطر الشيخة موزة بنت ناصر، التي عُرف عنها دعمها المتواصل للمشاريع الجادة في المجالات التربوية والاجتماعية.



الأمر المهم الذي ينبغي التركيز عليه هنا هو أن الإعداد لهذه القناة قد استغرق ثلاث سنوات متواصلة من العمل الدؤوب والمنظم الذي أنجز قناة تربوية متفردة في نوعها عرضا ومضموناً. كما أن شركة "لاغاردير" للصور، وهي فرع من مؤسسة لاغاردير الفرنسية الشهيرة قد لعبت دورا استشاريا كبيرا في ظهور هذه القناة كشركة خاصة تؤدي خدمة عامة ممولة ومدعومة من الدولة.



ولعل ما يزيد من أهمية هذه القناة، موقعها الجغرافي الذي يقع ضمن مقر "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع" التي تمتلك نسبة 90% من أسهمها. ولمن لا يعلم، فإن هذا المقر يضم في نطاقه المدينة التعليمية التي تحتضن نخبة من المؤسسات التعليمية والجامعات العالمية، مما يعطي الجزيرة للأطفال بعداً تربوياً آخر ليست تمتلكه تلك القنوات الملقبة بهتاناً بقنوات الأطفال، والتي تحمل من الضرر التربوي أكثر مما تحمل من النفع.



وحسب ما أشار مدير القناة محمد بوناب، وهو ما يلاحظه المتابع للقناة بالفعل، "لا تشكل الرسوم المتحركة أكثر من 12% من برامج القناة"، في حركة لكسر التصور الخاطئ السائد بين القائمين على القنوات الفضائية الموجهة للأطفال بأن (أطفال = رسوم متحركة) بغض النظر عن كونها غثة أو سمينة.



إن المتابعة المركزة لبرامج القناة دون أدنى حكم مسبق أو موقف متطرف أو منحاز، تؤكد أن المنهجية التي اتخذها القائمون على القناة تلتزم بالمضمون الهادئ والمتزن والغني في نفس الوقت والذي لا يتفرد في خطابه بالأطفال، وإنما يبني تعامله على أساس تربوي سليم يتمثل في مخاطبة المربي والطفل في آن واحد، على نقيض الوضع القائم في القنوات الأخرى التي تعتقد خطأ أن قناة الطفل تخاطب الطفل فقط.



قبل انطلاق القناة بأيام قلائل، قال أحد الأصدقاء ممازحاً في معرض حديثنا عن هذه القناة: "أعتقد أننا سنتسمر في أماكننا لمتابعة حلقة حوارية على غرار الاتجاه المعاكس أو أكثر من رأي ولكن هذه المرة لمتابعة أطفال". سألته: "وما المشكلة في ذلك؟ أليس مطلوباً منا أن ننشئ أبناءنا على مفاهيم الحوار وتعدد الآراء ونعزز في ذواتهم ثقافة (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)؟ ثم أنه أليس الأطفال جزءً من حياتنا ولهم آراؤهم فيما يخصهم وفيما يحيط بهم من أمور؟"، وكانت الإجابة: "نعم، ولكنني لا أتخيل نفسي جالسا لأتابع أطفالا يتحاورون".. ثم انطلقت القناة، وفعلاً، وكما كان متوقعاً –ولو مزاحاً من البعض- اشتملت برامج الجزيرة هذه على عدد من البرامج الحوارية التي لم تكتف بعرض ما كان يستهجنه البعض، وإنما تجاوزت ذلك لتضع يدها على بعض المناطق المحرمة فحاورت أطفالا هم ضحايا لمشكلات الطلاق والتفكك الأسري، وحاورتهم في موضوع البرامج والمسلسلات والأخبار ذات الطابع العنيف –وهي النسبة الكبرى من الرسوم المتحركة التي تعرضها أشهر قناتين للأطفال قبل الجزيرة- وفي موضوع ختان البنات (وهي حلقة لم تعرض حتى تاريخ كتابة هذا المقال) وفي غير ذلك من المواضيع الهامة جداً. فما كان من صديقنا الذي لم يكن يتخيل نفسه (متسمرا) لمتابعة أطفال يتحاورون، سوى أن رفع سماعة هاتفه ليقول: "لقد هزمتني.. فقد تسمرت فعلاً"..



ولعل ما يزيد من حجم التقدير والإعجاب، هو ذلك المستوى العالي من القدرة الإعلامية التي يظهرها مذيعون في سن الطفولة والمراهقة، والتي تعكس حجم الإعداد والتأهيل والتدريب الذي أقدمت عليه القناة، لدرجة أنهم فاقو بعض الأسماء الإعلامية (اللامعة لمعانا زائفا) في الساحة الإعلامية العربية قدرة وكفاءة وإتقاناً للغة العربية التي لازال عدد كبير من مذيعي قنواتنا الرسمية يتعثر فيها، فيما لجأ البعض لعجزه عن إتقانها لاستخدام اللهجات الدارجة بذريعة أن اللهجة الدارجة أو العامية أقل وقعا وأكثر تقبلا من قبل الأطفال!! فيا عجبا من أمة تفرِّط في لغتها التي هي أساس فكرها وثقافتها من خلال القضاء عليها في مرحلة التأسيس والبناء.



أما في ما يتعلق بالشعار الذي اتخذته القناة في موازاة لشعار الجزيرة الإخبارية (الرأي والرأي الآخر) فهو (تغيير موقف الطفل العربي ورؤيته للعالم)، ولعل هذا يفسر ما صرح به مدير القناة قائلا: "ما يعنينا هو ماذا ستقدم برامجنا للأطفال من فائدة وليس هل ستعجبهم أم لا".



ولن أختم هذا المقال ختاماً تقليدياً بالتساؤل عما إذا كان في مقدور هذه القناة الاستمرار أم لا؟ ذلك أن العمل الجاد دائما يكون قادرا على الثبات، ولكنني سأتساءل عوضا عن ذلك: هل سيتخذ الآباء والمربون خطوة جريئة في الاتجاه الصحيح للاستفادة من هذه القناة؟ وهل سيضغطون على أنفسهم لتوفير بعض الوقت الذي ينفقونه في مشاهدة المسلسلات والفيديو الكليب والذي ينفقه أبناؤهم في مشاهدة أبطال الديجتال وميغامان وسوبرمان، لمشاهدة برامج تعوضهم عن حالة الفقر التي تعيشها مؤسساتنا التربوية اليوم؟!