ما الذي يدور في خلد الجعفري؟!



كتابات - عبدالزهراء السوداني



ما يزال العراقيون يتداولون تلك الحكايات الطريفة عن عضو البرلمان العراقي (محمد العريبي)، والتي من أشهرها ما يقال من أن البرلمان وفي بداية جلساته كان يناقش قضية احتدم النقاش حولها وعلا صوت النواب الذين كانوا يجلسون حول الطاولة المستديرة في قاعة البرلمان، فيما كان صاحبنا (العريبي) يغط في التفكير الطويل (ضارب دالغة)، حينها انتبه النواب إليه مستغربين ومستفسرين عن سر هذه الغيبوبة ظناً منهم أنه كان يفكر في حل للقضية محل النقاش، وأنه قد توصل إلى حلها، وحين توجهوا إليه بالسؤال، آنذاك نطق الحكيم بالقول: (منذ اللحظات الاولى لدخول هذه القاعة وأنا أفكر: كيف استطعتم إدخال هذه الطاولة ذات الحجم الكبير من هذا الباب الضيق!؟).

الموقف من الجعفري

بداية، لم أكن ممن يؤيدون رئيس الوزراء المنتهية ولايته الدكتور إبراهيم الجعفري، ولم أكن في وقت ما ممن يصطف في الجهة المعارضة له رغم انتقادي لبعض الممارسات التي كان يقوم بها، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال لأي شخص ــ شريطة أن يمتلك حسا وطنياً ــ أن يقف بالند لأي مسؤول ما لم يبدر من ذلك المسؤول ما يسيء الى مسؤوليته أو على الأقل أن يسيء إلى الفرصة التي تسنح له للقيام بمهامه على ضوء الأسس التي يتضمنها برنامجه السياسي، وهذا بالذات ما لم يتحقق للجعفري، إذ إن فترة أشهر معدودة (عد الأصابع) لا يمكن أن تكون كافية لمسؤول في بلد من البلدان الأوربية أو حتى الشرقية التي تدور الحياة فيها بشكل طبيعي (وعلى داير حبل).. أما في بلدنا الحبيب فإني أظن أن حتى فترة أربع سنوات غير كفيلة بأن تسمح لأي سياسي بالمضي قدماً بتطبيق مفردات برنامجه السياسي وعلى أكمل وجه أو البعض منها على الأقل..

أما عن السبب الذي دعاني الى كتابة هذا المقال، فهو الخطاب الذي ألقاه الجعفري في جلس البرلمان التي أنهت فترة رئاسته للحكومة العراقية رسمياً فيما لو سارت الأمور بشكل طبيعي، وما يجري من أمور في هذا البرلمان هذه الأيام..

لقد تضمنت كلمة الجعفري العديد من المفاهيم التي يستطيع كل من استمع إليها ــ شريطة أن يكون منصفاً لا يجانب الحقيقة ــ أن يستشف منها بعض المعاني التي قد لا تلتقي في أكثرها.

أما عني فقد قرأت في كلمات الجعفري فكرة معينة عن البرلمان القادم، إن كنت مصيباً بها، فإن الجعفري سيكتب اسمه على الصفحات المشرقة من تاريخ العراق.

وبعكسه فإنه لا يمكننا القول أكثر من أن الجعفري آثر الانعزال وترك العمل السياسي والاكتفاء بكرسيه في البرلمان حفاظاً على ماء وجهه، وهذا الكلام يتنافى مع كل ما قيل ويقال عن تاريخ الرجل وسماته الشخصية التي جرى الحديث عنها على قدم وساق خلال سنة أو أكثر من الأيام الماضية، بل حتى خصومه أو من وقفوا في جبهة معارضة ولايته الثانية لم يطعنوا بتاريخ الرجل السياسي ولا بسيرته فيما يتم ذلك مع غيره من السياسيين.

وهذا برمته مما يؤيد ما ذهبت إليه من تفسير كلماته التي ألقاها على مسامع أعضاء البرلمان، وهو ما سيأتي الحديث عنه تباعاً.

القوة التشريعية

من البديهي إن أي قرار في أي بلد تسوده الديمقراطية لا يمكن أن يمر ــ إن لم يكن قد صدر من البرلمان نفسه ــ دون أن يتدارسه أعضاء البرلمان ويناقشوا ردود الفعل عليه، فيكون الرفض نتيجة حتمية لأي قرار تكون مردوداته سلبية على مصلحة البلد من أي شخص صدر هذا القرار، وقد يطالب بعض أعضاء البرلمان بضرورة عقد جلسة للمناقشة والتداول لتأييد أو رفض ذلك القرار، وقد يصار الى استدعاء مصدّر القرار للجلسة، لمناقشة القرار الصادر منه ودوافعه ومردوداته.

أما أن يكون البرلمان كـ (مجلس قيادة الثورة) البائد، لا يجتمع إلا حين يستدعين مصدر القرار (صدام) ولا يجرؤ عضو من أعضائه على التحدث في جلساته..

أو أن يكون عضو البرلمان كـ (محمد العريبي) فآنئذ ومما لا شك فيه فإن نظام الحكم في بلد يضم هكذا برلمان، لن يكون سوى نظاماً ديكتاتوريا لا يلد إلى الملكيات المنغلقة على نفسها والأميريات، التي مهما أرادت أن تسمو بشأن وطنها ومواطنها فإنها لا يمكن أن تجرؤ في يوم من الأيام على التفكير بتجاوز حدود (الرب الأعلى) في إصدار قرار بدون استشارته، أو أن يكون مخالفاً لرغباته، ولو كانت تلك الرغبات مخالفة لمصلحة الوطن والمواطن، ولو خلّفت تركة ثقيلة عليهما..

بماذا يفكر الجعفري؟!

من خلال قراءة مقتضبة لكلمة الجعفري، ومن خلال الهجوم العنيف على الإرهاب الذي حصره في زاوية محدودة، ودعوته لضرورة تكاتف أعضاء البرلمان والحكومة للوقوف بوجه المد الكاسح لهذا الإرهاب اللعين، وألا يسمحوا ببروز حالة من الضعف والخور على جسد الحكومة القادمة، ما يسيل لعاب الطامعين ويشحذ مخالبهم لنهش جسده وتصدير المزيد من الإرهاب إليه.

من خلال كل ذلك يمكن القول بأن الجعفري يؤسس لبرلمان قوي يكون بمقدوره الإمساك بقوة بمقود القرار الحكومي وتوجيهه بالوجهة الصحيحة، والحيلولة دون انحرافه الى مسار المصالح الشخصية والفئوية، وذلك لثلاثة اعتبارات تصب كلها في مصب واحد، ألا وهو إنشاء حكومة قوية والسعي للنهوض بواقع البلد والشعب المأساويين..

أول تلك الاعتبارات أن الجعفري قد اتخذ في قرارة نفسه أن يمارس دوره نحو إنشاء برلمان قوي من خلال كتلته الأكبر تمثيلاً في البرلمان القادم ومن خلال حزبه الذي يشكل إحدى دعائم تلك الكلتة، ولكن فيما يصب في الهدف الذي أشرت إليه..

وثانيها أن يكون الجعفري قد قرأ في موجة الاعتراضات التي واجهها من قبل شخصيات وأحزاب بأكملها، أولئك المعترضون لا يمكن لأحد أن يجزم بأن ما قاموا به ــ أو على الأقل أكثرهم ــ كان الهدف منه الصالح العام، فقرر أن يحول دون وصولهم الى مآربهم أو بعضها وحسب استطاعته، ويؤيد هذا الاعتبار ما ذكره بعض المحللين من أن الجعفري أجبر خصومه على القبول (على مضض وبدون مناقشة) ببديله الذي اختاره هو عبر التحكم بمسألة التوقيت لتشكيل الحكومة، إذ إن المالكي لا يختلف في توجهاته عن الجعفري بشيء، إن لم يكن أصعب على خصومه في المسائل التي عارضوه فيها..

وعلى القول بأن أحداً لا يمكنه الجزم بأن تلك المآرب تصب في الصالح العام، فإن الوقوف بوجهها سيصب في خدمة الهدف المنشود.

وآخر تلك الاعتبارات التي قرأتها، هو أن الجعفري قد قرر ــ إذا لم نحسن الظن بالرجل ــ أن ينتقم من كل من عارض ولايته الثانية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تلك الاعتراضات انطلقت من دافع المصلحة الشخصية أو الفئوية، ما يقود العراق والوضع فيه الى الانغماس أكثر وأكثر في مستنقع الإرهاب ووحل الدمار والخراب الذي عم البلاد والعباد..

مع الأخذ بذلك فإن الجعفري سيقوم بفضح أية خطوة أو أي قرار لا يصب في الصالح العام يراد له أن يمرر من بين أروقة البرلمان، وهذا بدوره سيكون له الأثر الواضح في إطلاع الرأي العام وأصحاب الشأن على ما يجري في السر.. وهذا كله سيصب في خدمة الهدف المنشود ايضاً.

ختاما..

أؤكد على أن السير في هذه الطريق سيحقق للعراق برلماناً قوياً قادراً على إدارة أمور الحكم في هذا البلد الضارب في زمن الحضارات، بالاتجاه الصحيح، وسيكون للجعفري الدور الهام فيه، وآئنذ سيكتب التاريخ العراقي اسمه بأحرف من نور على صفحاته المشرقة..

وأما فيما لو كان الجعفري قد قرر الانكفاء على كرسيه في البرلمان ومتابعة أموره الخاصة ــ وذلك مما استبعدناه بداية ــ فإن ذاكرة العراق لن تقيد من تاريخه إلا ما سيكون اشبه بتاريخ (العريبي)، إن لم تدرجه في خانات (أخرى!)، والتاريخ لا يرحم..

اخيراً، هذه دعوة اوجهها لكل الاخوة للوقوف معي في صف المنتظرين لما سيؤول إليه الوضع في المستقبل القريب، وما سيبدر من الجعفري، لنرى أي اعتبار يصدق عليه!؟