الا الباجة احمد مطر
بقلم / أحمد مطر
لعلنا، نحن العراقيين، الشعب الوحيد علي وجه الأرض الذي يملك الجرأة علي تناول (الباجة) في وجبة الإفطار. إذ أن هذه الأكلة المؤلّفة من الكوارع والكرشة ولحمة الرأس، ليست قادرة فقط علي إصابة شمشون الجبّار بالإغماء الأبدي، بل هي قادرة أيضاً علي تهديم المعبد عليه وعلي أعدائه!
أعلم أن أشقّاءنا المصريين مغرمون مثلنا بهذه الأكلة، لكنني لم أتثبّتْ بعد مما إذا كانوا يستسيغون، مثلنا، تناولها علي وجه الصبح، وإذا ثبت ذلك فسيتضح لي تماماً سبب الوهدة المريعة التي وصلنا إليها نحن أبناء الحضارات الأولي في العالم.
والأمر يهون إذا اقتصر أكلنا للباجة علي مائدة الإفطار، لكن مشكلتنا هي أننا علي مرّ الأجيال، نتناولها بإصرار وحماس علي مائدة (التربية الوطنية) أيضاً!
لقد اختلفت التيارات السياسية في تاريخنا علي كل شيء، لكنها لم تجرؤ علي الاختلاف في مسألة (الباجة).
وإنك لتعجب كيف تأتّي لكلّ هذه التيارات، علي اختلاف الأزمات والتوجهات، أن تتفق علي رفع (راية القراصنة) رمزاً للتحرر والتطلّع إلي المستقبل الوضّاء!
كان السيّد محمد سعيد الحبّوبي عالما مجتهداً وشاعراً رقيقاً اشتهر بموشحاته التي لم يضارعه في سبكها أحد. لكنّه عندما قاد جماعة من رجال الدين لمحاربة الانجليز في موقعة الشعيبة، في مطلع القرن العشرين، لم يجد ما يتوشّح به غير (راية القراصنة)، ولم يجد ما يُعلّق عليه فتوي الجهاد سوي قِدر (الباجة)!.
يقال ان آخر ما قاله بيتان من الشعر أنشدهما في تلك الموقعة:
السيّفُ والخنجرُ أزهارُنا
أُفٍّ علي الريحانِ والآسِ
شرابُنا مِن دَمِ أعدائنا
وكأسُنا جُمجمةُ الرّاس!
ياللهول!!
إنّك قد تتفهّم إصرار شاعر غاضب علي وضع السيوف والخناجر في المزهرية بدلاً من الآس والريّحان. لكنّك لا تستطيع ان تفهم كيف لعالمٍ مجتهد أن يتباهي بشرب دماء البشر، وهو يعلم أنّ شرب دماء بهائم الأنعام محرّم! وبأيّه كأس؟ بالجمجمة!
أنا شخصياً أفضّل أن أمني بهزيمة منكرة علي أن أفوز بالنصر عن طريق مثل هذه المائدة.
لا تحسبنّ الأمر متعلقاً بتطرف أصولي. كلا. إنها ثقافة (الباجة).. ومن نِعم الأقدار علينا أنّها موزّعة بالعدل والقسطاس علي مختلف الاتجاهات.
خذ عندك ما تعنيه تلك الثقافة، في منتصف القرن، بعد أن تحررنا من المستعمر البغيض، وتطلّعنا إلي المستقبل الاشتراكي الأممي.
فها هو شاعرنا الراحل عبدالوهاب البياتي، يحلف لنا غير حانث:
(قَسَماً سنجعلُ من جماجمهِم
مطافيءَ للسجاير)!
ولأننا نعلم أن الشاعر لم يكن ليؤذي ذبابة، فلابد ان نظن أنّه قد دفع كفّارة فادحة نظير هذا القسم الكاذب الذي اضطرته إليه تقاليد الباجة!
إن أحداً لم يؤاخذ الشاعر علي إهماله كلّ مطافيء المعدن والزجاج، وإصراره علي اتّخاذ صناعة المطافيء من الجماجم.. ذلك لأنّ تقاليد الوطنية تتطلب هذا النوع من الصناعة.وإذا كان ثمّة مأخذ قد وجّه إليه فهو أنّه، علي ما أظنّ، كان يشجّع المناضلين علي ممارسة التدخين، وهي عادة ذميمة وغير حضاريّة كما نعلم!
لا.. ليس الأصولي والأممي بدعاً في هذا المجال، لأن شاعر الأمّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة قد بشّرنا، قبل أن يرينا رأي العين، بأن الوطن الجميل الذي نتطلّع إليه متلمّظين لا يمكن أن يطلع إلا من قِدر (الباجة).
وطنٌ تُشيّدهُ الجماجمُ والدَّمُ
تتهدّمُ الدُنيا ولا يتهدَّمُ)!
ولأنّه غبيّ وشوفيني وأعمي العين والقلب، فإنّه لم يدرك أن كل شيء في الدنيا يمكن ان ينهض ويزدهر حتي في الأدغال، إلاّ هذا الوطن الذي ضيّع مهندسه الأخرق طريق مخازن المواد الإنشائية، ومضي ليشتري الخرسانة والطابوق من (المسلخ)!.
http://www.raya.com/site/topics/arti...&parent_id=139
و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى