عراق بلا انتخابات... عراق بلا أمل
صلاح النصراوي الحياة 2004/12/23

ببلاغة نادرة يصف الروائي جنوب الافريقي اندريه برينك اول انتخابات حرة يخوضها شعب بلاده بعد انهيار نظام التمييز العنصري بقوله: «بدأت عملية الاقتراع بانفجار مدمر في مطار يان سمنتر الواقع خارج جوهانسبرغ وذلك في ساعة مبكرة من صباح 27 نيسان (أبريل) 1994، وفكرنا ان اسوأ التوقعات تحققت بالفعل. ولكن ما ان خفت دوي الانفجار حتى ايقنا بأن تلك كانت الزفرة الاخيرة اذ حل سلام غير معهود في زمن الانتخابات الباقي ووقف الملايين خارج مراكز الاقتراع للادلاء بأصواتهم. قرون طويلة من عدم المساواة امّحت حين اصطف السود والسمر والبيض لساعات طويلة كي يضعوا تلك العلامة بجانب اسماء مرشحيهم. لقد انتظرت البلاد كلها قروناً مجيء هذه اللحظة».

ربما سيكون المشهد في المدن العراقية يوم 30 كانون الثاني (يناير) المقبل شبيهاً، قليلاً او كثيراً، بما جرى يومها في جنوب افريقيا، لكن المؤكد ان ملايين العراقيين الذين سيصطفون حينئذ امام مراكز الاقتراع تحت البرد القارس، وربما المطر، متحدّين الخوف من قنابل الارهاب ومتفجراته للادلاء بأصواتهم، سينتابهم شعور مماثل لمشاعر الجنوب افريقيين - المنعتقين لتوهم من ربق الابارتايد - والذي طالما تاقوا اليه وهو انهم حين يؤشرون على ورقة الاقتراع اسماء مرشحيهم فانهم يصنعون للمرة الاولى تاريخهم المشترك بأيديهم ويبدأون رحلة الالف ميل نحو الحرية والامل.

من الممكن، وربما من المؤكد، ان هذه الانتخابات لن تكون مثالية وسيشوبها الكثير من سوء التصرف وقلة او حتى انعدام الكفاءة، كما ان من المحتمل ان يطالها شيء من الخداع او التزوير، وهو امر ستدركه حشود الرجال والنساء والشباب الذين سيقضون ساعات طويلة في صفوف الانتظار، إلا انها ستبقى بالنسبة اليهم أكبر من مجرد حدث استثنائي يريدون به انهاء مسيرة طويلة ومضنية من الآلام والمعاناة والظلم التي سببها لهم طغيان وقهر الانظمة الاستبدادية والشمولية وسيكون هدفهم الاسمى هو أن يضعوا من خلال صناديق الانتخاب اللبنة الاولى في صرح عراق جديد، عراق ينهض على العدل والمساواة والمشاركة تبنيه ارادة وعقول جميع ابنائه بروح التعاطف والمحبة والتضامن والفهم المشترك.

لهذا لا تبدو فقط غير واقعية، بل مستهجنة ايضاً، دعوات مقاطعة الانتخاب ومحاولات تخريبها والتي تقف وراءها جماعات هي خليط من فلول النظام الصدامي الدكتاتوري والتي ترفض مبدأ الاحتكام الى صناديق الاقتراع وتؤمن بالعنف وتلجأ الى أكثر الوسائل واكثرها وحشية سبيلاً الى العودة الى السلطة، اضافة الى الجماعات التي ترفض عملية التحول الجارية نحو مستقبل اكثر اشراقاً ولا تزال تحلم بطريقة مرضية وشاذة بالعودة الى ماض ولّى ولم يعد بالامكان اعادة اختراع شعاراته التلفيقية الكاذبة. وبين اولئك وهؤلاء يقف البعض من محترفي التشويش والعاجزين عن العثور على مكانهم بين الناس يطالبون بتأجيل الانتخابات لأسباب مجافية للمنطق او لتسجيل مواقف مرتبكة وانتهازية. يضع اعضاء نادي مناهظة الانتخابات مبررات لمعارضتهم ابرزها ان الانتخابات تجري تحت الاحتلال ومن دون اشراف دولي وأنها تتم وفق قانون ادارة الدولة الذي شرع من جانب هيئة عينها الاحتلال، وهي مبررات تبدو صحيحة لولا أنها تأتي من جماعات واشخاص ليست فقط لم تألف الاحتكام الى صناديق الاقتراع او تؤمن بثقافة التفاوض بل انها تقف معادية تماماً لهذا النمط الجديد من التعبير عن الارادة الحرة الذي يشرع العراقيون بتبنيه كأسلوب لادارة حياتهم وبلدهم شانهم في ذلك شأن كل الشعوب الحية. والواقع ان التجربة التاريخية العالمية مليئة بشواهد ناصعة على ان العديد من الانتخابات جرت تحت الاحتلال، وكانت نتيجتها هي انهاء الاحتلال واقامة حكومات مستقلة وذات سيادة، بل ان زوال الاحتلال لم يكن ممكناً ابداً من دون الانتخابات.

اما الاعتراض على القانون الذي تجري وفقه الانتخابات فهو اشد تهافتاً طالما ان الهدف من الانتخابات هو اختيار مجلس وطني موقت مهمته كتابة دستور جديد دائم يضع الركائز السياسية والقانونية للعراق الجديد. ولعل الحجة المتعلقة بعدم وجود اشراف دولي محايد على الانتخابات هي الاكثر ارباكاً لانها تكشف زيف هذه الادعاءات والتي تأتي من جهات لا تزال تلجأ الى التفجيرات واطلاق النار كأسلوب وحيد للتعبير عن مواقفها السياسية. اذ كيف سيكون بإمكانها اقناع الامم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الاشراف على انتخابات وسط مجون القتل العشوائي الذي تمارسه او تباركه او حتى تغض الطرف عنه.

ما الذي يريده اذن هؤلاء من اصحاب الخيال المريض الذين يظنون بأن في امكان آليتهم الوحشية ان تعيد عقارب الساعة الى الوراء؟

انهم يريدون منع الانتخابات بل ايقاف العملية السياسية الجارية ودفنها، وبالتالي اطالة عمر الاحتلال وادامته. هؤلاء الذين ادمنوا البطش والترويع واستخدام اساليب العنف الاستثنائي في البقاء في السلطة بعدما مارسوا الخداع والتدليس في الوصول اليها لا يفقهون دروس التاريخ وعِبره التي جعلت من هذه التحولات الكبرى في العراق ممكنة، بل حتمية. كما انهم لا يجيدون السياسة من حيث انها فن الممكن والتفاوض والمساومة ويؤمنون فقط بالاساليب الشاذة طريقاً لتحقيق الاهداف والغايات، كما يفعلون الآن في ترهيب الناس من خلال حرق مراكز الاقتراع وتدمير السجلات الانتخابية وترويع اصحاب البقالات التي توزع الاستمارة الانتخابية مع المواد التموينية. هؤلاء لا يملكون اية استراتيجية بناءة او حتى خيارات واقعية، خيارهم الوحيد هو خيار شمشون، اي تدمير العراق بما فيه طالما هم لا يحكمونه ولا يستأثرون بالسلطة والثروة فيه بعد ان تمتعوا بها عقوداً طويلة.

هناك اجماع عراقي على ضرورة انهاء الاحتلال مثلما ان هناك اقتناعاً عاماً بأن الوضع الحالي ليس مثالياً ولا ينبغي ان يكون. فالغالبية الساحقة من العراقيين التي تستعد للانتخابات انما تفعل ذلك لايمانها بأن ذلك هو الطريق الاسلم والاسرع لتقصير عمر الاحتلال واقامة حكم الشعب وسيادته على بلده وعلى موارده وتمكينه من ان يقرر للمرة الأولى مستقبله بنفسه. ان الانتخابات تعني الشرعية والتي هي امس ما يحتاجه العراقيون في الوقت الحاضر لوضع لبنات هذا المستقبل الذي يجب ان يبنى على مقاربة عراقية جديدة تقوم على المشاركة والحق المتساوي في المواطنة لكل العراقيين من مختلف مللهم ونِحلهم وطوائفهم ونبذ نزعات الهيمنة والاحتكار والاستئثار التي طغت على اسلوب الحكم طيلة العقود الماضية. ومن الواضح ان هذا ليس هو ما تهدف اليه الفئات التي تسعى لتخريب العملية الانتخابية بإصرار لا يفوقه إلا إصرارها على التشبث بأوهام العودة الى حكم العراقيين وبأي ثمن. فالواقع، وبدون أيّة محاولة للعب على الخيال، او اللعب بالتاريخ، فإن هذه الفئات ذاتها ستكون اول المتشبثين بالعملية الانتخابية هذه وبالاحتلال الذي تجري في ظله وسترفض اي اشراف دولي عليها لو انها استطاعت التوصل الى صفقة مجزية مع هذا الاحتلال نفسه على افتراض انه يملك عرضاً مغرياً لصفقة كهذه.

هناك قضية جوهرية تتعلق بهذه الانتخابات وهي انها من الممكن، بل من الضروري، ان تشكل نقطة تحول كبرى في تاريخ العراق الحديث من خلال انبثاق المجلس الوطني الموقت الذي سيكتب ويقر دستور العراق الجديد. هي اذا انتخابات يمكن ان تعيد صياغة العراق على اسس يدكها ابناؤه بارادتهم الحرة وعلى الصورة التي تتواءم مع حقائق الحياة في بلادهم. كما انها انتخابات من الضروري ان ترسم هوية وطنية جديدة للعراقيين تتيح لهم فرصة البدء من جديد لاكتشاف نهج جديد لاعادة بناء بلدهم مغايراً للمنهج المدمر الذي سلكه النظام الصدامي البائد ودولته القمعية. ينبغي ان تكون الانتخابات بداية لعملية جبارة وان تعني للعراقيين ان تغييراً كبيراً سيجري في مواقفهم وقيمهم وآمالهم وسيكونون في نهايتها قد اختاروا بإرادتهم الحرة شكل النظام السياسي الذي سيضمهم وفق عقد اختياري ومن دون قسر او املاء.

لذلك فإن الوجه البشع لدعوات المقاطعة ومحاولات افشال الانتخابات هي انها حجبت حواراً وطنياً شاملاً ورصيناً كان ينبغي ان يصاحب عملية الاعداد للانتخابات واتاحت لحفنة قليلة من الاحزاب والتجمعات الانفراد بالقرار من دون اسهام حقيقي من جموع الناخبين والغالبية الصامتة من العراقيين الذين ابعدتهم الاعمال الارهابية عن الانخراط في اخطر واهم عملية سياسية تتعلق بتقرير مصيرهم ومصير بلدهم. ان حدثاً كهذا كان يجب ان يكون مدعاة لاطلاق حركة سياسية واجتماعية نشطة تمهد الارضية اللازمة لاحياء السياسة باعتبارها الاداة الاكثر نجاعة في حل الاشكاليات القائمة وتوسيع المشاركة المؤسسية من خلال القنوات الشرعية وبناء ثقافة الحوار وزيادة الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه عملية اعادة البناء. ان الغياب القسري للحركة الجماهيرية وانزواء النخب السياسية والاجتماعية واحجام القيادات الفكرية والثقافية عن المشاركة الحقيقية في الحوار، بل غياب هذا الحوار نفسه، لا بد ان يترك بصماته السلبية على نتائج الانتخابات غير أنه لا ينبغي ان يقود الى الاحباط والقنوط وهو غاية ومرام اعداء التحول والساعين الى افشاله. وهناك وجه اكثر بشاعة صاحب دعوات المقاطعة الا وهو الوجه الذي تفوح منه رائحة الطائفية النتنة والدعوات المذهبية المقززة التي تربط نتائج الانتخابات بهيمنة طائفة مذهبية على اخرى. لا احد بإمكانه، وليس من الحكمة ابداً، اغفال التنوع الديني والمذهبي والعرقي للمجتمع العراقي، فتلك حقيقة بديهية كلف تجاهلها او التعالي عليها العراقيين ثمناً باهظاً خلال العقود الثمانية الماضية من تاريخ دولتهم الحديثة، غير ان الاقرار بتنوع الهويات في العراق وحق اصحاب هذه الهويات بالتميز شيء والعزف على الوتر الطائفي شيء اخر تماماً. ان من حق كل مجموعة عراقية ان تمارس طقوسها وان تعبر عن ثقافتها بل ان تعبئ جماهيرها سلمياً من اجل نيل كافة حقوقها السياسية لكن ضمن مفاهيم ومبادىء المواطنة الحقة وقيم التسامح الاخوية والانسانية والحضارية. وليس الرهان الطائفي، الذي ربما يكمن عند بعض اصحاب الخيال المكبوت او ذوي النيات السيئة، بغيضاً من الناحية الاخلاقية فحسب بل انه غير عملي سياسياً وسيكون خياراً انتحارياً لأنه ببساطة لا ينتمي الى الواقع العراقي والاقليمي بأي صلة.

تلك تبدو استنتاجات أراها مقبولة عند اغلب العراقيين الجدد ان لم يكن جلهم. لكن يبقى ان يشاهدهم العالم - مثلما شاهد بإعجاب جنوب الافريقيين البيض والسود والسمر قبل اربعة عشر عاماً - وقد خرجوا جميعاً شيعة وسنة ومسيحيين، عرباً واكراداً وتركماناً وآخرين من جميع الملل والنِحل وقد اصطفّوا امام مراكز الاقتراع يوم 30 كانون الثاني (يناير) المقبل للأدلاء باصواتهم متحدين الارهاب، ينظر احدهم بعين الاخر بهدوء وثقة، لكي يرى تاريخاً مشتركاً ومستقبلاً اكثر تفاؤلاً. اما اتباع ودعاة العراق القديم من فلول صدام حسين والحالمين بعودة نظامهم للسلطة فعليهم ايضاً ان يدرسوا تجربة جنوب افريقيا، فقد اضحى شعبها الآن ماسكاً بتلابيب حاضره ومستقبله بينما انزوى نظام الابارتايد في احدى سلات مهملات التاريخ.

كاتب عراقي