|
-
سنوات المحنة وأيّام الحصار
[align=center]سنوات المحنة وأيّام الحصار
الشيخ محمّد رضا النعماني [/align]
[align=center][align=center]الفهرس[/align]
1 الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيّام الحصار
11 الإهداء
13 تقديم
15 المقدمة
22 الفصل الأوّل الشهيد الصدر رض الأسرة و النشأة العلمية
23 الشهيد الصدر الأسرة والنسب
26 أسرة آل الصدر
27 السيد صدر الدين الصدر
31 السيد إسماعيل الصدر
36 السيد حيدر الصدر
39 والدة السيد الشهيد الصدر
42 ولادة السيد الشهيد
45 الهجرة إلى النجف الأشرف والدارسة فيه
46 أساتذة السيد الشهيد
88 النشاط التدريسي
88 مؤلفات السيد الشهيد
91 الشهيد الصدر كما رأيته
93 الشهيد الصدر كما رايته
96 عواطف السيد الشهيد ومشاعره
112 الشهيد الزاهد
119 السيد الشهيد في عبادته
125 أخلاق السيد الشهيد
129 السيد الشهيد في تضحيته
141 الشهيد الصدر (رض) المنهج السياسي والجهادي
143 استراتيجيّة السيد الشهيد السياسيّة والجهاديّة
152 المرجعيّة والحوزة في حياة الشهيد الصدر
160 تأليف كتاب فلسفتنا
165 المرجعيّة الموضوعيّة
178 الحرب النفسيّة ضد السيد الشهيد
179 زيارة زيد حيدر
180 زيارة حسن بن علي
185 إرسال الوكلاء
189 الصراع الدائر بين السيد الشهيد والسلطة
191 جهاد السيد الشهيد للإطاحة بصدام
201 الاعتقالات ومحاولات الاغتيال والمراقبة الحكوميّة
203 الاعتقالات لتي تعرض لها الشهيد الصدر
203 الاعتقال الأول
206 الاعتقال الثاني وانتفاضة صفر الخالدة
213 الاعتقال الثالث
216 خطاب الشهيدة بنت الهدى
227 وقائع التحقيق
229 محاولات الاغتيال
230 المحاولة الاولى
231 المحاولة الثانية
233 المحاولة الثالثة
234 المحاولة الرابعة
235 الرقابة الأمنيّة
236 المراقبة البشريّة
237 المراقبة الإلكترونية
240 التجسّس اللاسلكي
242 محاولات لاأخلاقية دنيئة
245 المواقف الجهاديّة وقيادة الثورة
247 الشهيد الصدر والثورة الإسلامية في إيران
261 انتفاضة رجب المباركة 1979 م
265 برقية الإمام الخميني قدس سره
267 الاجتماع التاريخي
268 وفود البيعة
277 توقّف الوفود
278 بداية الحجز
279 تطويق المنزل
279 قطع الماء والكهرباء والهاتف
279 منع خادم السيد الشهيد من دخول البيت
281 الأمن يبحث عنّي
282 العزلة التامة
282 بداية الاتصال
284 السلطة تبعث طبيبا
284 السلطة تبعث بجاسوسة
285 فوتوغرافية سفير الجمهوريّة الإسلاميّة
286 كتابة البيان الثاني
288 زيارة مدير أمن النجف
290 موفد آخر للسلطة
293 وعاد الخاقاني مرّة أخرى
293 وساطة السيد على بدر الدين
299 الزيارة الثانية لمدير أمن النجف
300 البرّاك يتصل هاتفيا ويبلّغ برفع الحجز
304 كتابة البيان الثالث
308 القيادة النائبة
313 المفاوضات الأخيرة والاستشهاد
315 المفاوضات الأخيرة
320 الرؤيا
321 السيد يكتب وصيّته
321 إرهاصات ما قبل الإعدام
323 انقطاع كامل لله تعالى
324 اليوم الأسود
326 خبر الاستشهاد والدفن
327 التكتّم على الجريمة
328 بيان الإمام الخميني [/align]
-
بسم الله الرحمن الرحيم
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما اتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) (آل عمران: 169 ـ 171)
[align=justify]الإهداء ..[/align]
إلى الشهيدة التي عاشت مع أخيها مسيرة الهموم والآلام، ومشاركته مرارة المحن والمصائب، بقلب مطمئن، وعزم ثابت، وروح ما سئمت يوماً من المعانات رغم قساوتها...
إلى الشهيدة التي أبت إلا أن يمتزج دمها بدم أخيها، كما أمتزجت قبل ذلك روحها مع روحه..
إلى المضرّجة بدماء الصبر والعفاف والإباء..
إلى ضجيعة أخيها في قبره..
إلى بنت الهدى أهدي ثواب هذا الجهد البسيط راجياً من المولى القبول...
[align=center]تقديم[/align]
بقلم: سماحة آية الله السيد كاظم الحائري (مد ظله)
الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد: فإنّ ترجمة حياة اُستاذنا الشهيد آية الله العظمى الصدر، وأمثاله من عظماء الإسلام واجبة على أصحابه المطلعين على أوضاعهم:
أولاً: بأمل أن يكون ذلك أداءاً لجزء يسير من حقوقهم.
ثانياً: بأمل أن يستفيد الجميع من أنوارهم القدسيّة ومن نفحاتهم الإلهيّة، ومن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها.
ويعتبر فضيلة حجّة الإسلام الشيخ محمّد رضا النعماني (حفظه الله) ممّن واكب مسيرة اُستاذنا الشهيد الصدر (رحمه الله) فترة طويلة وخاصّة فترة الحجز القاسية التي كان رفيقه الوحيد فيها، فتوفّرت لديه معلومات كثيرة ومواقف مشرّفة في الحجز لسيّدنا الشهيد في التضحية والفداء والإيثار ممّا كانت تبقى قيد الكتمان إلى الإبد لولا وجود الشيخ معه، ولهذا فترجمته بالخصوص لحياة الاُستاذ الشهيد لها نكهتها الخاصّة بها، وقد استفدت من كتاباته فيما كتبته سابقاً عن فترة الحجز ضمن ترجمتي لسيّدنا الاُستاذ في مقدّمة كتاب (مباحث الاُصول) وإنّي آمل أن يطّلع الجميع على سيرة ومواقف هذا الشهيد العظيم من خلال قراءة هذا الكتاب الذي بين يديك.
-
[align=center]المقدمة[/align]
[align=justify]لاحت في الافق ونحن في الشهر التاسع من أشهر الحجز (سنة 1979 م) مؤشرات تدل على تصميم السلطة العفلقية العميلة الحاكمة في العراق على إعدام سيّدنا الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) بعد فشل مفاوضتها معه ورفضه الاستجابة لأي شرط مهما كان بسيطا ومقبولا ، كما سنرى خلال هذه خلال هذه المذكّرات.
وكان (رضوان الله عليه) قد تهيّأ منذ فترة طويلة لمواجهة هذا المصير المقدس ، ولقاء الله ـ تعالى ـ وقد خطّط لطريقة الاستشهاد ومكانه ووقته ، وسوف يأتي تفصيل ذلك في الفصل الأخير من هذه المذكّرات.
كان قلبي ولساني يلهج بالدعاء في أن لا يأتي هذا اليوم الذي لم أعرف يوما أسوأ منه في حياتي ، ولم يكن قلبي يمسح لي حتى بتصوّره ، فهل حقّاً سنفقد عن قريب رجلا جسد الإسلام فكرا وسلوكا وذاب فيه إلى الحدّ الذي كان يري فيه أنّ الاستشهاد هو آخر ما يمكن أن يقدمه له ويخدمه فيه؟!
في ذلك الجو المظلم المكفهر ، وتلك الفترة العصيبة فكّرت أن أطلب منه رحمه الله أن يكتب ترجمة لحياته ، يكشف فيها عن جوانب حياته العلميّة ، ونشاطاته السياسيّة والجهاديّة ، وتفاصيل مسيرته الشاقّة في الحياة ، وخصوصاً فترة الحجز التي اكتنفتها أحداث خطيرة ، ومثيرة ، وحسّاسة جدّاً.
ولا أنسى عصر ذلك اليوم وقد جلسنا معاً على سطح الدار ، وقبّة حرم أمير المؤمنين عليه السلام تلوح أمامنا ، وقد أدّينا الزيارة والسلام ، وكانت هذه عادته في كلّ يوم ، عندها جمعت قواي ، وشددت همّتي ، وتجرّأت إلى حدٍ كبير ، فطلبت من سماحته أي يحقّق هذه الأمنية.
قلت لسماحته : إنّني أشعر بضرورة وأهمّية أن تقوموا بترجمة لحياتكم فأنتم أقدر على هذه المهمّة بالمستوى الذي يشبع طموح أبناء الأمّة وعلمائها ومفكّريها.
إذ لاي مكن لأحدٍ غيرك أن يستوعب جميع جوانب حياتكم ، ويكتب عنها ، وخصوصاً المعانات الكبيرة التي عشتموها في مسيرتكم الجهاديّة منذ بدايتها وحتى هذه الساعة ، وقد لا يصدّق الناس حجم المحنة وعظم المعانات إن كتبها أحد سواكم . وذكرت له بعض الشواهد والنماذج ممّا يصعب تصديقه أو وقوعه.
ثم قلت : إن تاريخ أئمتنا عليهم السلام حافل بالكثير من أمثال هذه الترجمات التي فرضتها الضرورات ، أو مصلحة الإسلام . لقد ترجم الامام علي عليه السلام نفسه للمسلمين من على المنبر ، وفي مناسبات متعدّدة ، فذكر جهاده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومواقفه في صدر الإسلام ، وما تعرّض له من ظلم واضطهاد بعد وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم وهكذا فعل الامام علي بن الحسين عليه السلام ولم يفسّر ذلك علي أنّه حبّ للذات ، أو الشهرة ، خصوصا أنّكم تعتقدون أنّ نهاية المطاف هو الاستشهاد في سبيل الله عزّوجلّ.
ترددّ (رضوان الله عليه) في القبول بهذه الفكرة ، وقال:
(إن دمّي هو الذي سيترجمني ، فأنا لا اريد إلّا خدمة الاسلام ، وهو اليوم بحاجة إلى دمي أكثر من حاجته إلى ترجمتي ، أمّا أنت فقد عشت معي طويلاً ، وشاركتني محنتي ، وعشت مراحل صراعي مع الظالمين ، فعرفت الكثير من تلك الجوانب ، فإن كتب اللّه ـ تعالى ـ لك السلامة فاكتب ما قد رأيته أو سمعته....).
وبعد حديث طويل جري بيني وبينه عن هذا الموضوع . قلت لسماحته : أنّ أحداثاً خطيرة ومهمّة وقعت في فترة الحجز ، فمن سيصدّق أنّها وقعت إن لم تكتب بقلمكم؟
فقال :(نعم قد أكتب بعض ذلك...)
والواقع كانت هناك مبرّرات عديدة دفعتني لـأطلب من السيد الشهيد رحمه اللّه كتابة تاريخه الجهادي ، ونشاطه السياسي ، وحياته العلميّة.
أوّلها : أهميّة الأحداث التي عاشها ، ابتداءاً من تأسيس جماعة العلماء ، وإلى فترة الاحتجاز ، وما تخلّلها من أحداث كبيرة في إطار الصراع مع سلطة حزب البعث المتسلّط على العراق ، والأسباب التي دعته إلى التصميم على الاستشهاد ، وما إلى ذلك ، وهو تاريخ حافل بالمواقف الجهادية والتضحويّة التي تستحقّ الخلود في قلوب الأجيال.
ثانيها: السيرة الذاتية للسيد الشهيد وما عرف عنه من سلوك أخلاقي رفيع ، ونكران للذات في سبيل المبادئ ، ومن تفان وتضحية ، وزهد في حطام الدنيا ، وعشق للترابيّة وحياة البساطة ،إن الشهيد الصدر يعتبر مثلا و نموذجا فريدا في هذا المجال ، يحتذي ويقتدي به.
ثالثها : البعد العلمي والمعرفي بآفاقه الواسعة التي شملت الأبعاد الأصولية ، والفقهيّة ، والفلسفيّة ، والاقتصاديّة ، والتاريخيّة ، وغير ذلك.
لقد أبدع السيد الشهيد في كل المجالات العلميّة التي تعرّض لها، أو كتب فيها ، وتميّز بمنهجية جديدة لدى خوضه تلك الميادين ، وعرف بالدقّة والعمق ، والأصالة والتجديد . إنّ هذه الأبعاد بحاجة إلى اكتشاف دقيق يمتدّ إلى عمق كبير في بحر زاخر بالعلوم والمعارف.
ورابعها : ما تعرّض له (رضوان اللّه عليه) من إيذاء واضطهاد ، لا من قبل السلطة المجرمة فحسب ، بل ومن قبل بعض الأوساط العلميّة والحوزويّة ، وهو تاريخ حافل بالمآسي والآلام ،وكشاهد على ذلك ما ذكره لي هو رحمه اللّه حينما اجتمع به المجرم فاضل البرّاك (مدير الأمن العام) في الكوفة إذ قال له : (سيّدنا : إني أتمكن من إتلاف كل التقارير التي تكتب ضدكم ، والتي ترفع إلينا من قبل مديريات الأمن ، ولكن ماذا يمكن أن أفعل للتقارير التي ترفع للقيادة مباشرة دون أن تمرّ بنا من قبل فلان وفلان ، وذكر أسماءهم ، ثم قدم له نماذج منها) !!؟
إنّ هذا الفصل من تاريخ السيد الشهيد الصدر يستحق الوقوف عنده طويلاً ، لما يحفل به من حوادث كثيرة ساهمت في زجّ السيد الشهيد في أقبية مديريّة الأمن العامّة والانتهاء به إلى الشهادة.
وإنّي على يقين أنّ أحدا غير السيد الشهيد لا يستطيع أن يخوض غمار هذا الميدان ، ويكشف عن مرّ الحقّ و حقائقه المؤلمة ، وسوف يتعرّض للتقريع والتشنيع ، وإلى حملات من التشهير والتسقيط لا نهاية لها.
إنّ هذه المبرّرات دفعتني لأن أطلب منه رحمه اللّه الكتابة عن نفسه في تلك المجالات وغيرها، وممّا لا شكّ فيه أنّه لو كتب ذلك لكان كتابه رائعة تضاف إلى جانب اقتصادنا وفلسفتنا والاسس المنطقيّة للاستقراء ، ولتعلّمنا منه كيف نكتب السيرة ونترجم العظماء ، وندوّن التاريخ ، لكن ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ، ففي نهاية المطاف وجدت نفسي مرغماً علي كتابة تاريخ السيد الشهيد الصدر بحكم معايشتي له فترة طويلة بما في ذلك سنوات المحنة ، وأيام الاضطهاد.
وإنّي اعترف أنّ هذه المحاولة تقصر عن التعبير بالشكل المناسب عن شخصية شهيدنا الخالد ، وكلّ ما يقال لا يعبر تعبرا تاماً عن الحقيقة : ذلك أن السيد الشهيد الصدر لم يكتشف بعد ، ولعلّ الأجيال اللاحقة ستكتشف أبعاده العلميّة والقياديّة والحضاريّة ، وحجم خسارة الامّة الإسلامية والبشريّة بفقده.
وما كان كتابي هذا إلاّ محاولة على هذا الطريق آليت على نفسي الابتعاد فيها عن الجوانب التقويميّة والتحليليّة ، واكتفيت بسرد سريع ومختصر للأحداث بالمقدار الذي أسعفتني به الذاكرة وسمحت به الظروف لذلك لأنّ دراسة تحليليّة شاملة تحتاج إلى جهود عدد من العلماء والمفكّرين وخصوصا طلاب السيد الشهيد الذين واكبوه في حياته العلميّة ومسيرته الجهاديّة.
وعلى ذلك ، فانّ هذا الكتاب من مذكّرات أردت أن أعكس فيها جوانب من سيرة السيد الشهيد الصدر ، لكي تكون مادّة لمن يريد دراسة حياته بأبعادها المختلفة.
إن الشهيد الصدر (رضوان اللّه تعالى عليه) أمّة بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، يمتلك مقوّماتها التي تجعله يمتد إلى ما تمتدّ إليه الامم ، ويمتلك عناصر الخلود المتمثّلة بدمه الزكي ،ومواقفه الجهاديّة ، وعطائه العملي ، وتفانيه في اللّه ـ تعالى ـ ، وتضحيته من أجل الإسلام.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.[/align]
[align=left]المؤلف [/align]
-
الفصل الأوّل
الشهيد الصدر (رض) الأسرة و النشأة العلمية
الشهيد الصدر (الاسرة والنسب)
[align=justify]كنت متردّدا في الكتابة عن أسرة الشهيد الصدر (رضوان اللّه عليه) وكانت النسخة الأولى من هذه المذّكرات خالية من أيّ إشارة لهذه الأسرة الكريمة لعلمي المسبق بموقف الشهيد الصدر من هذه الأمور، فهو لا يؤمن بشيء من تلك المفاهيم في إطار العمل الإسلامي والمرجعي بل سعى كثيرا ـ كما سأشير ـ لإبعاد المرجعية عن هكذا اعتبارات وتأطيرها بهذا اللون من القيم الاجتماعيّة ، فهو لا يري للكيان الاسري أيّ اعتبار ، وهذا ما نلمسه على الصعيد النظري في أهداف مشروع المرجعيّة الموضوعيّة الذي كتبه بنفسه وطبع بعد استشهاده.
وأما على الصعيد العملي فقد سارع الشهيد الصدر لتطبيق ذلك في دائرة عمله وتحرّكه ، فاختار كافة أعضاء جهازه المرجعي من غير أرحامه وأقاربه ، في الوقت الذي كان بأمسّ الحاجة إليهم للقيام ببعض الأعمال الضروريّة ، ومنها المناسبات الاجتماعيّة التي تقتضي مشاركة من يمثّل السيد الشهيد من أرحامه وأقاربه ، وفي هذه الحالة فقط كان يبعث من يمثّله في المناسبات المهمة من أقاربه كسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين الصدر أو ابن أخيه سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين السيد إسماعيل الصدر (حفظهما اللّه) وأحدهما في بغداد والآخر في الكاظميّة ، وحتى هذا المقدار البسيط كان يحرجه نفسيّاً في بعض الأحيان.
وأتذكر أنّ السيد الشهيد حينما كان يؤمّ المصلّين في الحسينيّة الشوشتريّة تخلّف يوماً عن الحضور ، فطلب المصلّون من أحد أرحامه ـ وهو معروف بالفضل والتقوى ـ أن يتقدّمهم للصلاة جماعة ، فصلّى بهم الظهر والعصر بعد إصرار وإلحاح شديد من قبلهم ، ولمّا بلغ السيد الشهيد ذلك تأثّر تأثّراً بالغاً ، فأرسل إليه أن يحضر وعندها عاتبه وطلب منه أن لا يكرر ذلك في المستقبل مهما كانت الأسباب .
ومن المؤكّد أن هذا اللون من التفكير والسلوك كان يستهدف حماية المرجعيّة باعتبارها الممّثل الحقيقي لخط الأئمة عليهم السّلام الذي يقوم على أساس المقاييس الربّانيّة وليس على أساس العواطف والرغبات الخاصّة.
أضف إلى ذلك أجواء النجف الحسّاسة جدا من تلك الأمور فكان (رضوان اللّه عليه) يقول:
(يجب على المرجعيّة أنّ ترسّخ وجودها في القواعد الشعبيّة في النجف قبل أن تمتّد إلى المدن الأخرى لانّ النجف هي المدينة التي تحتضن المرجعيّة ، فإذا ما ربحتها كان امتدادها إلى غيرها أسهل).
لقد جسّد الشهيد الصدر في سلوكه الشخصي والمرجعي ما يؤمن به من دون التعريض بالآخرين أو المسّ بهم ، فهو حقّاً القدوة الصالحة والنموذج الرائع.
إنّ الذي حداني عن العدول عن موقفي الأوّل ، حيث لم ادوّن شيئا عن أسرة شهيدنا الصدر ، عدة أمور:
أوّلها : أنّ السيد الشهيد شخصيّة عالميّة ، أخذ مكانة سامية في العالم الإسلامي وفي قلوب المؤمنين والمسلمين ، وقد لاحظت أنّ بعض الشباب وخاصة طلاب الجامعات في العالم الإسلامي وغيره كتبوا رسائلهم الجامعيّة عن شخصية السيد الشهيد الدينيّة والعلميّة والسياسيّة فكانت تنقصهم معلومات كثيرة ، منها معلومات عن اسرة السيد الشهيد الصدر.
ومن المعروف أنّ الدراسات العلميّة والاجتماعيّة الحديثة تعتمد في جانبِ من تقييمها ودراساتها للشخصيات على الاسرة بمعناها الخاصّ والعام ، فاقتضت الضرورة أن نسدّ هذا الفراغ ولو بشكل يسير.
وثانيها : أنّ بعض الإخوة الأعزاء طلبوا منّي أن لا تقتصر هذه المذّكرات على أحداث رجب وفترة الاحتجاز فقط ، فاقترحوا أن تتسم بشمولها على الحديث عن اسرة السيد الشهيد كي تلبي حاجة القارئ وتساعده على معرفة هذا الجانب من شخصية السيد الشهيد الصدر.
وثالثها : وهو الأهمّ في نظري والذي حفّزني بشكل كبير على كتابة هذا الفصل ، أنّ الذي يقرأ تاريخ هذه الاسرة ويطّلع علي تفاصيل حياة وسيرة معظم رجالها المعروفين بالعلم والتقوى والجهاد ، وحسن السيرة ، ودماثة الاخلاق ،وصفاء السريرة ، يحقّ له أنّ يعتز ويفتخر بهم ، فكلّ أجداد السيد الشهيد وآبائه علماء فطاحل ، ومعظمهم مراجع كبار ، وأعيان يشار إليهم بالبنان ، ولكن هل كان لذلك تأثير نفسي ـ ولولا شعوري ـ على شخصية السيد الشهيد جعله يصنّف نفسه في طبقة عليا تختلف عن بقية الناس ، ويتعامل معهم على أساس ذلك؟
كلا واللّه ، كان لا يزيده العز إلاّ تذللاًّ ، ولا يزيده المجد إلاّ تواضعاً ، ولم يكن لهذه الأمور موقعا في نفسه وتفكيره ، يعتز بكلّ أحد بمقدار صلته بالإسلام وتفانيه فيه ، وحبّه وتمسّكه به ، سواء كان من أسرة آل الصدر أو من عامّة الناس من أبناء الإسلام.
لم اسمعه يوماً يقول : كان أبي أو كان جدّي وإن حقّ له أن يفتخر بهم ، بل كان همّه الإسلام ، وغايته في كلّ تحرّكاته خدمة أهداف الرسالة ، ولا مكان في قلبه لغير ذلك من المعايير والأهداف.
هذا الأمر يعتبر من الدروس المهمة في سيرة الشهيد الصدر وسلوكه المثالي باتّجاه بناء مرجعيّة موضوعيّة تعتمد المقاييس الاسلاميّة فقط في كلّ خطواتها وأعمالها لا العواطف والروابط والولاءات الشخصيّة والعائليّة.[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]اسرة آل الصدر[/align][align=justify]
لا تخلو موسوعة رجاليّة من ترجمة لرجال أسرة آل الصدر ، فهذه الاسرة المباركة اسرة علمية معروفة ، ولمّا كان هدفنا ترجمة أحد أبرز رجالها في هذا القرن وهو شهيدنا الخالد آية اللّه العظمى السيد محمّد باقر الصدر (رضوان اللّه عليه) وليس رجال الاسرة جميعاً فقد اقتصرنا علي ما هو الضروري وما يتطلبّه الموضوع . وكان المرحوم حجة الاسلام والمسلمين السيد عبد الغني الأردبيلي ( 1 ) قد جمع من كتب الرجال والتراجم موجزاً عن اسرة آل الصدر . وقد نقله عنه استاذنا الحجة آية اللّه السيد الكاظم الحائري (دام ظله) فيما كتبه عن استاذه الشهيد الصدر في مقدمة كتابه (مباحث الاصول) الجزة الاول من القسم الثاني ، وهنا أنقل ـ مع تغيير يسير وإضافات مناسبة ـ بعض ما جاء في تلك الترجمة.
(أسرة أل الصدر معروفون بالفضل والتقى والعلم والعمل ومكارم الاخلاق ، وقد كانوا مشعلاً للهداية والنور ، ومركزاً للزعامة والمرجعيّة الدينيّة ، ومداراً للإفادة والإفاضة في مختلف الأجيال ، وقد انحدروا من شجرة الرسالة والسلالة العلويّة من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وهذه الاسرة العريقة قد اتخذت ألقاباً باختلاف العصور طيلة ما يزيد على قرنين ، فكانوا يلقّبون :
تارة بآل أبي سبحة.
وأخرى بآل حسين القطعي.
وثالثة بآل عبد اللّه.
ورابعة بآل أبي الحسن.
وخامسة بآل شرف الدين.[/align]
(1) السيد عبد الغني الأردبيلي من طلاب الشهيد و المقربين منه ,توفي في حادث سيارة في حياة السيد الشهيد و رثاه في مقدمة كتابه ((دروس في علم الأصول)) كما سيأتي .
[align=center]وأخيرا بآل الصدر.
وهنا نشير إلى عدد من الفحول العظام من سلالة هذه الشجرة الطيّبة التي أنجبت قائداً فذّاً ، ومرجعاً عبقريّاً لم تر عين الزمان مثله ألا هو شهيدنا الغالي السيد محمّد باقر الصدر (رضوان اللّه عليه)[/align]
[align=center]السيد صدر الدين الصدر[/align]
[align=justify]هو السيد صدر الدين محمّد بن السيد صالح ، بن السيد محمّد ، بن السيد إبراهيم شرف الدين ، بن زين العابدين ، بن السيد نور الدين الموسوي العاملي.
هو فخر من مفاخر الشيعة ، وعالم فذّ من كبار علماء المسلمين ، ومن نوابغ العلم والأدب ، قلّ من يضاهيه في الفضيلة والتقوى.
ولد في قرية (معركة) من قرى جبل عامل ، ونشأ ونما علميّاً في النجف الأشرف ، ثم هاجر إلى الكاظميّة ، ومنها إلى اصفهان ، ثمّ عاد إلى النجف الأشرف ، وتوفي ودفن فيها رحمه اللّه.
والده (السيد صالح) من أكابر العلماء ، وكان مرجعاً للتقليد ، وزعيم الطائفة الاماميّة في بلاد الشام ، هاجر من جبل عامل إلى النجف الاشرف فرارا من الحاكم الظالم في جبل عامل وقتئذٍ (أحمد الجزّار) وتوفي في سنة (1217) هجرية.
ولد السيد صدر الدين الصدر في (21) من ذي القعدة من سنة (1193 هـ)في جبل عالم ، هاجر في سنة (1197 هـ) مع والده إلى العراق ، وسكن النجف الأشرف ، واهتمّ بتحصيل العلوم الأسلاميّة والمعارف الإلهيّة في صغر سنّه ، حتى إنّه كتب تعليقة علي كتاب قطر الندى وهو ابن سبع سنين . وقد نقل عنه أنّه قال : حضرت بحث الأستاذ الوحيد البهبهاني في سنة (1205) وكنت أبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ، وكان الأستاذ معتقداً بحجّيّة مطلق الظنّ ، ومصرّاً على ذلك . وحضرت في نفس السنة بحث العلامة الطباطبائي السيد بحر العلوم ، وقد قالوا : إنّ السيد بحر العلوم كان ينظم آنئذٍ ما أسماه بـ (الدرّة) وكان يعرضها على السيد صدر الدين لما يلاحظ فيه من كماله في فنّ الأدب والشعر.
وقد ذكر السيد حسن الصدر في تكملة (أمل الآمل) أنّ الشيخ جابر الكاظمي ـ الشاعر المعروف مخمّس القصيدة الأزريّة ـ قال :(إنّ السيد الرضي أشعر شعراء قريش والسيد صدر الدين أشعر من السيد الرضي).
بلغ السيد صدر الدين الصدر مرتبة الاجتهاد قبل بلوغه سنّ التكليف ، وقد أجازه بالاجتهاد صاحب الرياض رحمه اللّه في سنة (1210 هـ) وصرّح بأنّه كان مجتهداً قبل أربع سنين.
وهذا يعني أنّه قد بلغ الاجتهاد في السنة الثالثة عشرة من عمره الشريف ، وهذا مالم يسمع نظيره إلاّ بشأن العلامة الحلي والفاضل الهندي ، على أنّه يفوقهما في فنّ الشعر والأدب.
وقد ذكر السيد حسن الصدر في تكملة (أمل الآمل) : أنّ الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر والشيخ حسن بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ وهما من أكابر أساتذة النجف الأشرف ـ كانا يدينان بالفضل للسيد صدر الدين عند رجوعه من اصفهان إلى النجف الأشرف ، وكانا يجلسان لديه جلسة التلميذ لدى أستاذه.
ودخل يوماً السيد صدر الدين على المحقّق صاحب الجواهر رحمه اللّه فأقبل صاحب الجواهر إليه آخذاً بعضده ، وأجلسه محلّه وجلس أمامه وتذاكرا في العلم والفقه ، وأنجرّ الكلام إلى اختلاف الفقهاء في مسألة مّا، فبيّن السيد ببيان فائق اختلاف الفقهاء في تلك المسألة مع اختلاف طبقاتهم من العصر الأوّل إلى زمانه ، وفرّع الخلاف في ذلك على اختلافهم في المباني والمسالك ، وشرح تلك المباني والفروق فيما بينها ...
فتعجّب الشيخ صاحب الجواهر من تبحرّ السيد ، وقال بعد ذهاب السيد :(يا سبحان الله ، السيد جالس جميع العلماء وبحث معهم ، ووقف على أذواقهم ومسالكهم . هذا واللّه العجب العجاب، ونحن نعدّ أنفسنا من الفقهاء! هذا الفقيه المتبحّر).
وقد روي في تكملة أمل الآمل عن الشيخ الجليل عبد العلي النجفي الاصفهاني أنه قال : دخل السيد صدر الدين في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك حرم أمير المؤمنين عليه السّلام وبعد أن أنهى زيارته للإمام جلس خلف الضريح المقدّس لكي يقرأ دعاء أبي حمزة وحينما قرأ الجملة الاولى : (إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك) أخذه البكاء ، وكرّر الجملة مراراً وهو يبكي إلى أن غشي عليه ، فحملوه من الحرم الشريف إلى بيته.
وكانت للسيد رحمه اللّه كلمات ومقاطع خاصّة لدى مناجاته للّه تعالى منها قوله :
رضاك رضاك لا جنات عدن وهل عدن تطيب بلا رضاكا
تزوج السيد صدر الدين رحمه اللّه ببنت الشيخ الأكبر صاحب كاشف الغطاء ، وولدا ابناً اسمه السيد محمد علي المعروف بـ (أقا مجتهد) وكان من أكابر عصره ونوادر دهره.
وقد ابتلي السيد رحمه اللّه في أواخر حياته في أصفهان باسترخاء في بدنه شبه الفالج ، ورأى في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له : أنت ضيفنا في النجف الأشرف ، فعرف السيد من هذه الرؤيا أنّ وفاته قد اقتربت ، فهاجر إلى النجف الأشرف ، وقد توفي في ليلة الجمعة أوّل شهر صفر من سنة (1264 هـ) ودفن في الزاوية الغربيّة من الصحن الشريف قريباً من الباب السلطاني.[/align]
مؤلفات السيد صدر الدين:
1- اسر العترة ، كتاب فقهي استدلالي.
2 - القسطاس المستقيم في أصول الدين.
3 - المستطرفات في فروع لم يتعرّض لها الفقهاء.
4 - شرح منظومة الرضاع ، وهي ما نظم بها كتاب الرضاع باسلوب رائع ، ثمّ شرحها ، كما شرحها أيضاً آية اللّه الميرزا محمد تقي الشيرازي.
5 - التعليقة علي رجال أبي علي.
6 - قرّة العين ، كتاب في علم العربية كتبه لبعض أولاده . وقد ذكر تلميذه في أوّل معدن الفوائد : أنّ كتاب قرّة العين على صغره يفوق المغني لابن هشام على طوله.
7 - شرح مقبولة عمر بن حنظلة.
8 - رسالة في حجّيّة الظنّ.
9 - رسالة في مسائل ذي الرياستين.
01- قوت لا يموت ، رسالة عمليّة باللغة الفارسيّة.
مشايخه:
روي السيد صدر الدين رحمه اللّه عن أكثر من أربعين عالماً ، نشير إلى بعضهم :
1 - روى عن والده وأستاذه السيد صالح ، عن جدّه السيد محمّد ، عن أستاذه الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي بجميع طرقة المذكورة في آخر الوسائل.
2 - روى عن العلامة الطباطبائي بحر العلوم المتوفي سنة (1212 هـ) ، وكان يعبّر عنه بالأستاذ الشريف.
3 - روى عن العلامة المير علي صاحب الرياض المتوفي سنة (1231 هـ).
وكان السيد معجباً بصاحب الرياض ، وكان يعتقد أنّه يفوق المحقّق القمّي صاحب القوانين في الفقه وقوّة النظر.
4 - روى عن المحقّق السيد محسن الأعرجي صاحب (المحصول) ، وكان السيد رحمه اللّه معجبا بزهده وتحقيقاته، توفي سنة (1228 هـ).
5 – روى عن شيخ الطائفة الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفي سنة (1228 هـ). 6 - روى عن السيد الجليل المتبحّر الميرزا مهدي الشهرستاني الموسوي الحائري المتوفي سنة(1278 هـ).
7 - روى عن الشيخ الجليل الفقيه الشيخ سليمان معتوق العاملي المتوفي سنة (1228 هـ).
طلابه:
وقد ربّى السيد صدر الدين علماء تخرّجوا علي يده منهم:
1 - السيد ميرزا محمّد هاشم صاحب كتاب (أصول آل الرسول).
2 - السيد محمّد باقر الموسوي صاحب كتاب (روضات الجنّات).
3 - شيخ الفقهاء والمجتهدين الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه اللّه صاحب كتابي (المكاسب والرسائل).
4 - حجة الإسلام السيد محمد حسن المجدّد الشيرازي قدس سرّه .
5 - الشيخ شريف العلماء.
[align=center]السيد إسماعيل الصدر[/align]
أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى السيد إسماعيل الصدر ، ولد في أصفهان سنة (1258 هـ) . والده المرحوم السيد صدر الدين العاملي الذي مضت ترجمته.
بعد وفاة والده عام (1264 هـ) تربّي في كنف أخيه السيد محمّد علي المعروف بـ(آقا مجتهد) وكان معروفاً بالذكاء الخارق حتى عدّ في أوائل بلوغه سنّ التكليف من العلماء الفضلاء.
هاجر في سنة (1280 هـ) من أصفهان إلى النجف الأشرف لغرض التتلمذ على يد الشيخ الأنصاري ، ولكن حينما وصل إلى كربلاء توفي الشيخ الأنصاري ، فلم ينثنِ السيد إسماعيل عن عزمه الهجرة إلى النجف الأشرف ، فسافر إليها ، وتتلّمذ على يد الفقهاء والعلماء آنئذِ ، كما اشتغل بالتدريس وتربية الطلاب أيضاً.
اكتسب السيد رحمه اللّه في فترة بقائه في النجف الأشرف إضافة إلى الفقه والأصول والحديث معلومات أخرى عقليّة ، كعلم الكلام والفلسفة والرياضيات والهندسة والهيئة والنجوم على النسق القديم ، مع الاطلاع على أراء جديدة . ولم يعرف من أين أخذ هذه العلوم ، وعلى يد من تتلمذ فيها . ولم يكن يعرف أنّه مطّلع على هذه العلوم إلاّ حينما كان يتعرّض لها بالمناسبة ضمن أبحاثه الاصولية والفقهيّة.
وأخيراً أصبح من خواص تلاميذ المجدّد الشيرازي ، وبعد هجرة المجدّد الشيرازي إلى سامراء بقي السيد الصدر يمارس نشاطه العلمي في النجف الأشرف . سافر في النصف من شعبان من سنة (1309 هـ) إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السّلام ، وهناك وصلته رسالة من أستاذه الشيرازي يطالبه فيها بالسفر إلى سامراء فلبى دعوة أستاذه، وذهب إلى سامراء ، وكان عازما على الرجوع إلى دار هجرته النجف الأشرف ، لكنّه حينما وصل إلى سامراء ألزمه استاذه بالإقامة فيها . وكان السبب في ذلك أنّ السيد المجدّد الشيرازي كان قد ترك التدريس في سنة (1300 هـ) تقريباً: لكثرة الأشغال والمراجعين وضعف المزاج ، فأناط مسؤولية التدريس بالسيد إسماعيل الصدر ، وذلك في عام (1309 هـ) فأصبح محورا للتدريس في الحوزة في سامراء ، وكان اجتماع أهل الفضل والعلم في درس السيد الصدر أكثر من غيره.
وهكذا استمرت سامراء محورا لإشعاع العلم ، وكعبة لآمال العلماء ، ومحط أنظار الفضلاء في التعليم والتعلّم ، وتربية الأخلاق ، وتهذيب النفس إلى أن فجع العالم الإسلامي بوفاة المجدّد الشيرازي.
وانتقلت المرجعيّة والزعامة الشيعيّة من بعد المجدّد الشيرازي إلى السيد الصدر ، وسلّم اولاد المجدّد الشيرازي ما بقي من أموال وحقوق شرعيّة بحوزة السيد الشيرازي إلى السيد الصدر.
وكان السيد الصدر زاهداً في الزعامة والمرجعيّة ، ولهذا عزم بعد وفاة المجدد الشيرازي بسنتين على ترك بلد مرجعيّته وقتئذٍ ، وهو سامراء فتركها مهاجرا إلى النجف الأشرف ، وطلب من العلماء والأكابر أن لا يتركوا سامراء . وحينما وصل في سفره إلى كربلاء استخار اللّه تعالى على الإقامة في النجف الأشرف ، فكانت الاستخارة تدل على النهي ، فاتّخذ من كربلاء مقراً له.
وقد هاجر من سامراء عدد من العلماء والأكابر رغم طلبه منهم عدم الهجرة ، والتحق بهم بعد ذلك آخرون ، فأصبحت كربلاء كعبة آمال العلماء والفضلاء إلى أن مرض السيد في سنة (1334 هـ) فسافر إلى الكاظميّة للعلاج ، وتحسّن حاله في أوّل الأمر ، ولكن تدهورت صحتّه بعد ذلك ، وتوفي (رضوان اللّه عليه ) في (12 جمادي الاولى عام 1338 هـ) ودفن بجوار جدّه الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام في مقبرة عائليّة لآل الصدر.
وقد رثاه شعراء وادباء وفضلاء بقصائد منهم المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين.
سيرته وأخلاقه:
كان رحمه اللّه آية في العفّة ، وعلوّ الهمّة ، والاعتماد على النفس ، والتوكّل على اللّه تعالى ،وكان مروّجا للدين ، ومربّياً للعلماء ، وعوناً للمشتغلين والدارسين ، وكهفاً للفقراء والمساكين ، يوصل الأموال إلى مستحقيها بلا منٍّ ، وأحياناً لم يكن يعرف أنّ المال من قبله.
كان رحمه اللّه يتتلمّذ على يد السيد المجدّد الشيرازي الذي هو تلميذ لأبيه السيد صدر الدين ، ولاخيه السيد محمد علي المعروف بـ(آقا مجتهد) ، ولكنّه لم يعرّف نفسه للسيد المجدّد ، والسيد لم يكن يعلم أنّه ابن استاذه ؛ ذلك لأنّه حينما هاجر من اصفهان إلى النجف الأشرف عزم على أن لا يعرّف نفسه لأحد ، حتى لأولاد عمه واسرته في بغداد والكاظميّة : زهداً بالمكانة الاجتماعيّة والمقامات التي تترتّب على ذلك ، وليكون أكثر قدرة على تربية روحه وتهذيب نفسه ، إلى أن صادف أنّه تشرّف بحج بيت اللّه الحرام ، وبعد عودته إلى النجف الأشرف أخبر السيد الشيرازي بعض تلاميذه ممّن كان يعرف السيد الصدر بأنّه قد قدم من الحج السيد إسماعيل الصدر بن السيد صدر الدين ، فعزم السيد الشيرازي قدّس سرّه على زيارة ابن استاذه وهو لا يعلم أنّه تلميذه المحبوب والمقرّب منه ، فحينما زاره في بيته فوجئ بأنّ هذا هو ذاك التلميذ الذي كان موضع إعجاب استاذه ، فوقف متعجّبا قائلاً : أنت السيد إسماعيل الصدر بن السيد صدر الدين؟
فقال : بلى ، فيزداد الأستاذ إعجابا بهذا التلميذ وبمكارم أخلاقه.
وقدر روي أنّ السيد إسماعيل الصدر كان عازماً على أن لا يقترض من أحد مالاً مدى العمر ، وكان وفيّاً بعهده رغم معاناته في أيام دراسته في النجف الاشرف من الفقر والفاقة ، إلى أن صادف ذات يوم أن أصبحت والدته البالغة حدّ الشيخوخة في حالة لا تطاق ، فخاف السيد على سلامتها ، وذهب السيد إلى الصحن الشريف وهو حائر بين أمرين : بين التكليف الشرعي الذي يطالبه بالمحافظة على حياة أمّه ؛ والذي قد يكون متوقّفاً على الاقتراض ، وبين عهده الذي عاهد نفسه عليه من عدم الاقتراض مدي العمر ، فجلس جلسة المتحيّر المتفكّر في أمره عند حجرة من حجرات الصحن الشريف ، وإذا برجل غير معروف يقف أمام السيد ويسأله : هل أنت سيد موسوي النسب؟ قال: بلى ، فأعطاه خمسة توامين ، وقال هذا نذر لسيد موسوي النسب ، فأخذها وبقي وفيّاً بعهده مدى العمر.
وكان السيد الصدر رحمه الله يحدث أولاده أحيانا بأمثال هذه القصص والحكايات بهدف تهذيب نفوسهم وتربيتهم على مكارم الاخلاق.
أساتذته:
1 - أخوه السيد محمد علي المعروف بـ(آقا مجتهد) ، درس على يده السطح العالي وبعض كتب اللغة العربية والرياضيات.
2 - الشيخ محمد باقر الاصفهاني ، درس على يده بحث الخارج لمدة عشر سنين.
3 - الفقيه المتبحر الشيخ راضي النجفي.
4 - الشيخ الفقيه استاذ العلماء والمحققين الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
5 - الاستاذ الاكبر المجدد الشيرازي.
طلابه:
قد ربي السيد إسماعيل الصدر تلاميذ وعلماء كثيرين تخرجوا على يده في النجف الاشرف وسامراء وكربلاء والكاظمية ، نكتفي بالإشارة إلى أهمهم:
1 - آية الله الحاج السيد أبو القاسم الدهكوري الاصفهاني ، تتلمذ على يد السيد الصدر في سامراء ، ثم هاجر إلى اصفهان ، وأصبح مرجعا عاما من مراجع المسلمين.
2 - حجة الإسلام الحاج السيد حسين الفشاركي الاصفهاني.
3 - آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين الكاظمي ، وبعد وفاة أستاذه أصبح أحد المراجع الكبار في الكاظميّة.
4 - حجة الإسلام والمسلمين الميرزا علي آقا الشيرازي ، ابن المجدد الشيرازي.
5 - حجة الإسلام والمسلمين السيد علي السيستاني ، تتلمذ على يده في سامراء وكربلاء وهاجر إلى مشهد الرضا عليه السلام وأصبح أحد المراجع العظام في تلك الديار.
6 - أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الميرزا محمد حسن النائيني.
7 - حجة الإسلام والمسلمين الميرزا محمد حسين الطبسي.
8 - آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين.
9 - أية الله المجاهد الإمام عبد الحسين شرف الدين.
أولاده:
خلّف من بعده أولادا أربع كانوا جميعا آية في العلم ، ومحاسن الأخلاق والورع والتقوى ، وهم:
1 - آية الله السيد محمد مهدي الصدر.
2 - آية الله السيد صدر الدين الصدر.
3 - حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جواد الصدر.
4 - آية الله السيد حيدر الصدر.
-
[align=center]السيد حيدر الصدر[/align]
وهو والد سيدنا الشهيد الصدر (رضوان الله عليهما) كان مثال العالم العابد الزاهد ، ولد في سامراء في شهر جمادي الاولى عام (1309 هـ). قال بعض العلماء العامليين في تاريخ ولادته:
فحيدر واليمن قد جاءا معا فناد بالتاريخ يمن قد ظهر
هاجر بصحبة والده إلى كربلاء في سنة (1314 هـ) ودرس المقدمات والعلوم العربية على يد عدة من العلماء الفضلاء ثم درس بحث الخارج على يد أبيه السيد إسماعيل الصدر ، وعلى يد السيد الحسين الفشاركي ، والمرحوم آية الله الحائري اليزدي في كربلاء ، وأصبح في عنفوان شبابه من العلماء المرموقين المشار إليهم بالبنان.
قال عنه صاحب الذريعة في كتابه أعلام الشيعة : (وقد رأيته مرارا سواء في أيام والده أو بعدها، فوقفت على غزارة علمه ، وكثرة فضله ، وكان دائم الاشتغال كثير المذاكرة ، قل ما دخل مجلسا لاهل الفضل ولم يفتح بابا للمذاكرة والبحث العلمي، وكان محمود السيرة حسن الاخلاق محبوبا عند الناس.
وقال آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين فيما نشر عنه في مجلة (النجف) السنة الاولى العدد الثالث بتاريخ 15 ج2 1376 هـ، 1956 م:
(عرفته طفلا فكان من ذوي العقول الوافرة والأحلام الراجحة ، والأذهان الصافية ،كان وهو مراهق أو في أوائل بلوغه لا يسبر غوره ، ولا تفتح العين على مثله في سنه ، تدور على لسانه مطالب الشيخ الأنصاري ومن تأخر عنه من أئمة الفقهاء والاصوليين ، وله دلو بين دلائهم ، وقد ملأه إلى عقد الكبير يقبل على العلم بقلبه ولبّه وفراسته ، فينمو في اليوم ما لا ينمو غيره في الأسبوع ، ما رأت عيني مثله في هذه الخصيصة ، وقد رأيته قبل وفاته بفترة يسيرة ـ وقد استقر من جولته ـ في غاية الفضل لا تبلغها همم العلماء ولا تدركها عزائم المجتهدين....)
وكتب عنه حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد تقي آل صادق العاملي في مجلة الغري : (لقد كان رحمه الله آية بليغة في الأخلاق الفاضلة ، والصفات الكريمة ، تلقاه ـ وهو بتلك المكانة العلمية السامية ، وبذلك الرداء الدميل من الشرف والمجد ـ طلق المحيّا ، باسم الثغر ندي الحديث ، طري الأسلوب ، لين العريكة ، يتواضع للصغير حتى كأنه بعض سمرائه ، ويتصاغر للكبير حتى كأنه دون نظرائه....).كان المرحوم آية الله السيد حيدر الصدر آية في الزهد والتقوى وعدم الاكتراث بالدنيا وزينتها ، وكان همه منصبا على العلم والمعرفة والتحقيق ، لا يترك فرصة تمرّ لا يستثمرها لطلب العلم ، فقد روي عن المرحوم حجة الاسلام والمسلمين الخلخالي أنه قال :(إن السيد حيدر الصدر كان يدرس أثناء إقامته في الكاظمية الكفاية ، فاتّفق أن أحد أكابر الحوزة العلميّة في النجف الأشرف ورد الكاظميّة وطلب منه السيد الصدر أن يتباحث معه في الكفاية خلال فترة بقائه في الكاظمية فلم يقبل ، وهنا حاول السيد حيدر اصدر أن يستثمر الفرصة باسلوب آخر فطلب منه أن يتتلمذ عنده بتدريسه الكفاية خلال بقائه ، فوافق على ذلك . فكان السيد حيدر الصدر يدرس جمعا كبيرا من الطلاب كتاب الكفاية ، ثم كان يحضر لدى هذا العالم على أنه طالب يدرس كتاب الكفاية عنده).
قال السيد علي الخلخالي :(إنّي سألت السيد حيدر الصدر : ماذا صنعت بفلان الذي لم يقبل المباحثة معك في الكفاية؟)
فأجاب : أنّي وصلت لما كنت أروم ، ذلك أني أحضر لديه بعنوان التلميذ فيقرأ علي مقطعا من الكفاية ، فينفتح باب المناقشة والبحث وكان هذا هو المطلوب لنا.
وفاته:
توفي في الكاظمية ليلة الخميس 27 جمادي الثانية 1359 هـ ودفن في مقبرة لآل الصدر.
وكنت قد سمعت زوجته تقول :(لما توفي السيد حيدر بتنا تلك الليلة من دون عشاء لقلة ما في أيدينا ، واستمر حالنا في تقشف وضيق لأكثر من شهر بعد وفاته ). علما أن المترجم له كان من كبار مراجع الشيعة في ذلك العصر، وهذا يلقي ضوءا على زهده وعدم اكتراثه بالدنيا وزينتها ، فطوبى له وحسن مآب.
مؤلفاته:
1 - رسالة في مباحث وضع الألفاظ.
2 - تعليقة على الكفاية.
3 - رسالة في المعنى الحرفي.
4 - رسالة في تبعيض الأحكام لتبعيض الأسباب.
5 - الشبهة الحيدرية في تلاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.
6 - تعليقة على العروة الوثقى.
وله رسائل أخرى ، ومما يؤسف له أن هذه الكتب والرسائل كلها مفقودة ، عدا أن الشبهة الحيدرية تعرض لها الشيخ آقا ضياء العراقي في مجلس درسه ، فكتبت بقلم بعض طلابه في تقرير بحثه.
أولاده:
خلف السيد حيدر الصدر من بعده ابنين وبنتا ، يعتبر كل واحد منهم جوهرة لا تقدر بثمن وهم :
1 - آية الله السيد إسماعيل الصدر.
ولد في الكاظمية في شهر رمضان المبارك سنة (1340 هـ) ، درس المقدمات والسطح العالي على يد علماء الكاظمية ، ثم هاجر إلى النجف سنة (1365 هـ) وتتلمذ على يد ثلة من العلماء الكبار منهم :
أ - آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين.
ب - آية الله العظمى السيد محسن الحكيم.
ج - آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي.
د - آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.
وقد أجازه في الاجتهاد استاذه آية الله السيد عبد الهادي الشيرازي ، ثم عاد إلى الكاظمية بطلب من المؤمنين فيها، واشتغل بالتدريس وتبليغ الأحكام وتربية الناس ، وكان يؤم المصلين في صلاة المغرب والعشاء في صحن الإمام موسى بن جعفر ، وكانت صلاته حاشدة وكبيرة.
ألف كتاب في الفقه والاصول والتفسير والرجال ، لا زالت مخطوطة ، ولم يطبع من كتبه إلا تعليقته على كتاب التشريع الجنائي الاسلامي ، كما طبعت له عدة محاضرات في تفسير القرآن.
توفي في ذي القعدة سنة (1388 هـ) ودفن في النجف الأشرف في مقبرة المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين.
2 - آية الله العظمى مفجر الثورة الاسلامية في العراق ، شهيد العصر السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه).
3- العلوية الفاضلة الشهيدة السعيدة السيدة آمنة الصدر (بنت الهدى) رضوان الله عليها.
[align=center]والدة السيد الشهيد الصدر:[/align]
أمّا والدته فهي العابدة التقية الصابرة بنت المرحوم آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين، سليلة الدين والتقى والعلم.
فأبوها هو آية الله الشيخ عبد الحسن آل ياسين أحد أعاظم فقهاء عصره ، المعروف الزهد والعبادة والتقوى.
ولد في الكاظمية ، وتربى في كنف جده المرحوم آية الله الشيخ محمد حسن آل ياسين ،الذي كان من مفاخر علماء الشيعة ،و الذي أمضى الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه نيابته عنه على ما ورد في قصة المرحوم الحاج علي البغدادي المذكورة في مفاتيح الجنان في الصفحة(484).
وقال السيد حسن الصدر في (تكملة أمل الآمل ) عن الشيخ محمد حسن أل ياسين : (أنموذج السلف ، حسن التقرير ، مضطلع في الفقه والأصول ، خبير بالحديث والرجال ، انتهت إليه الرئاسة الدينية في العراق بعد وفاة الشيخ العلامة الأنصاري ، كان المرجع العام لأهل بغداد ونواحيها ، وأكثر البلاد في التقليد....)
هاجر المرجوم الشيخ عبد الحسين آل ياسين من الكاظمية إلى سامراء ، وتتلمذ على يد المجدد الشيرازي ، وبعد أن توفي جده الشيخ محمد حسن انتقلت إليه زعامة الشيعة في بغداد والكاظمية.
ثم هاجر إلى كربلاء ، وتتلمذ على يد المرحوم السيد إسماعيل الصدر ، فوصل إلى مرتبة عالية من الاجتهاد ، وعاد بعدها إلى الكاظمية ، وأصبح من مراجع الشيعة في التقليد والتقوى ، وأصبحت مرجعيّته عامّة . توفي في 18 صفر 1351 هـ في الكاظميّة ، ودفن في النجف الأشرف في مقبرة آل ياسين.
أما أخوتها فهم:
1 - آية الله العظمى ، شيخ الفقهاء الشيخ محمد رضا آل ياسين ، كان أستاذا ومرجعا في عصره، توفي سنة (1370 هـ) ودفن في مقبرة آل ياسين.
2 – المرحوم المجاهد الشيخ راضي آل ياسين ، كان من أكابر علماء الإماميّة,
(1) سمعت السيد الشهيد يقول: إنني اقطع بصحة هذه القصة .
وهو صاحب تأليفات كثيرة منها كتاب (صلح الحسن) وكان ردحا من الزمن عالما في مدينة النعمانيّة.
3 - المرحوم آية الله الورع التقي الشيخ مرتضى آل ياسين ، كان من أكابر علماء الإماميّة ومرجعا من مراجعهم الكبار...)
لقد اطلعت على بعض ، خصوصيات المرحومة والدة السيد الشهيد من خلال معايشتي لها فوجدتها والله مثال التقوى ، امتلأت روحها حبا لله تعالى ورسوله وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم ، وحتى في الأيام الأخيرة من حياتها كان عشقها لأهل البيت ولأمير المؤمنين يطغى على ما كانت تعاني من آلآم وأمراض فتخرج مستعينة بابنتها البارة الشهيدة بنت الهدى (رحمها الله) لزيارة قدوتها وإمامها رغم ما كانت تعاني من صعوبة كبيرة في مشيتها.
وكانت لا تفارق القرآن، فهي رفيقته في كل وقت تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكلما انتهت منه عادت إليه.
وكانت دائمة الذكر لله تعالى ، تلهج بتسبيحه وتحميده ، وما انقطعت عن ذلك حتى فارقت نفسها المطمئنة برحمة ربها بدنها الطاهر ، ولقيت ربها راضية مرضية ، وكانت في فترة الحجز نموذجا رائعا في الصبر والثبات والاتكال على الله عز وجل، فلم تتململ وما مما كان يصيبها بسبب الحجز من فقد الدواء الذي كان به قوام حياتها ، بل كانت تتظاهر بالصحّة والسلامة لتشعر السيد الشهيد بعدم أهمية المعاناة الكبيرة التي تعيشها ، رحمها الله وأسكنها الفسيح من جناته.
نسب السيد الشهيد:
لآل الصدر شجرة نسب تتصل بالإمام موسى بن جعفر عليه السلام ومنه إلى رسول الله ، يتوارثها رجال الاسرة بعناية ودقة ، ومن العجيب أن السيد الشهيد
(1) إلى هنا ينتهي ما اردنا نقله مما كتبه المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي .
يتصل بجده الإمام موسى بن جعفر أما بمجتهد أو عالم فاضل ، فكل رجال هذه الأسرة علماء أفاضل أو مراجع كبار . وهي ميزة فريدة قلما تتوفر لأسرة من الأسر.
أما النسب فهو:
شهيدنا العظيم آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر.
بن السيد حيدر ، بن السيد إسماعيل ، بن السيد صدر الدين ، بن السيد صالح ، بن السيد محمد ، بن السيد إبراهيم شرف الدين ، بن السيد زين العابدين ، بن السيد علي نور الدين ، بن السيد حسين، بن السيد محمّد، بن السيد حسين، بن السيد علي ، بن السيد محمد، بن السيد تاج الدين، بن السيد محمد، بن السيد عبد الله، بن السيد أحمد، بن السيد حمزة، بن السيد سعد الله، بن السيد محمد، بن السيد علي، بن السيد عبد الله، بن السيد محمد، بن السيد طاهر، بن السيد الحسين، بن السيد موسى، بن السيد إبراهيم المرتضى، بن السيد الإمام موسى بن جعفر.
-
[align=center]ولادة السيد الشهيد:[/align]
[align=justify]
في كنف جده الإمام موسى بن جعفر في مدينة الكاظمية ولد شهيدنا الصدر يوم (25) ذي القعدة (1353 هـ).
وهذا اليوم من الأيام المباركة ،لما ورد من أن فيه دحت الأرض، وفي ليلته ولد إبراهيم الخليل وعيسى بن مريم ، وشاء الله عز وجل أن يعد هذا الوليد المبارك إعدادا يؤهله فيه ليكون أمينا لرسله وحصنا لشريعته، ومثلا أعلى وقدوة صالحة لعباده، وليحمل من الآمال والطموحات والهموم ما هي بحجم هموم الأنبياء، ويسير على خطهم وخط خاتمهم محمد.
حدثتني والدته (رحمها الله) أنا كانت في غاية السعادة وهي تحتضن وليدها المبارك ، فقد كانت ظروف الحياة الصحية فاسمية، فالأمراض والآفات تأخذ الكثير ولا
(1) اعتمدنا على سماحة آية الله السيد رضا الصدر ابن عم السيد الشهيد فيما ذكرناه من شجرة النسب
تدع إلا القليل ، فكانت ترقب وليدها وتدفع عنه النوائب التي حرمتها من أشقاء له في سالف الأيام ، والخوف والقلق يشوب الأمل في نفسها، وكانت تقول :(ما كان يعيش لي من الأولاد إلا القليل) فقد كانت تجربتها - كأم - قاسية جدا لكثرة من فقدت من أولاد.
ولكن شاء الله عز وجل أن يحرس ابنها العبقري بعينه ويدخره لخدمة رسالة جده المصطفى، كما شاء تعالى أن يذوق شهيدنا العظيم اليتم منذ سني حياته الأولى، فلم يتمتع بعاطفة أبيه وحبه، ولم يذق من طعم حنانه إلا سنوات قليلة.
ورافق الحرمان العاطفي فقر وضنك في العيش ليزيد من عملية صقل الوليد الفريد، ويرقي بتربيته وإعداده إلى أفضل ما يمكن ، ولعل تلك سنة الله تعالى فيمن يختارهم لحمل أعباء رسالته:(ألم يجدك يتيما فآوى.... ووجدك عائلا فأغنى).
وقد سألته (رضوان الله عليه) عما إذا كان يتذكر والده السيد حيدر الصدر فقال: ليس في ذاكرتي شيء عنه إلا صورة غير واضحة، وأنا بحكم من لم ير أباه.
لقد أثرت هذه الظروف على شخصية السيد الشهيد تأثيرا إيجابيا، خلاف لما قد يتصور من أن اشتداد المحن وصعوبة الظروف تترك آثارا سلبية في نفس الإنسان ، فلا اليتم ولا الفقر حالا بينه وبين أن يشق طريقة نحو الهدف الذي كان يسعى إليه ، فتجاوز كل الصعاب التي واجهته وهو في أهم وأخطر مرحلة من مراحل البناء والتكامل.
ومما لا شك فيه أن لوالدته ولأخيه الأكبر المرحوم آية الله السيد إسماعيل الصدر دورا كبيرا في تخفيف وطأة المحنة التي تشتد قسوتها عادة على من هو في مثل هذا العمر، إلا أن من المؤكد أن المقومات الشخصية التي تمتع بها كانت أقوى من آلام اليتم ومصاعب الفقر ومشاكل الحياة الأخرى، مما جعل آل الصدر يترقبون له مستقبلا مشرقا. فبالإضافة إلى قدرته على تجاوز تلك الصعاب، كانت علامات الذكاء والعبقرية تثير إعجابهم رغم صغره.[/align]
[align=justify]ومما يروى في هذا المجال أن السيد الشهيد (رضوان الله عليه) حينما بلغ وكانت هذه بداية الطريق إلى الحوزة العلمية والنشاط العلمي والجهادي.
ومما يجدر ذكره أن السيد الشهيد كان قبل أن يتفرغ للدراسة في الحوزة العلمية قد تعلم القراءة والكتابة ، وتلقي جانبا من الدراسات الحديثة في مدارس منتدى النشر الابتدائية في الكاظمية، فكان ، وهو صغير السن موضع إعجاب الأساتذة والطلاب معا.
ويروي العديد ممن عاصروه وزاملوه في تلك المرحلة الكثير من القصص والمواقف التي تحكي عن ذكائه ونبوغه المبكر وإعجاب الأساتذة بقدراته وقابلياته الفائقة.
وحقيقة الأمر أن دراسته في المدرسة كانت أمرا ثانويا بالنسبة له، فقد كان (رضوان الله عليه) في قدراته على التلقي والاستيعاب يفوق بكثير مستوى المناهج الدراسيّة لمدارس منتدى النشر، وما دخوله فيها إلا بحكم ما جرت عليه العادة بالنسبة لمن هو بمثله في العمر.
وعن هذه الفترة حدثتني اخته الشهيدة بنت الهدى (رضي الله عنه) فقالت:
(كنت مع أخي في تلك الفترة نجمع ما نحصل عليه من مال قليل، فيشتري السيد به كتابا فنطالعه ونستوعبه، ثم يبيع الكتاب ليشتري بثمنه كتابا آخر، وهكذا استمر الحال بعد هجرتنا إلى النجف الأشرف).
الهجرة إلى النجف الأشرف والدارسة فيها
هاجر المرحوم آية الله السيد إسماعيل الصدر وهو الأخ الأكبر لشهيدنا الصدر إلى النجف الأشرف في عام (1365 هـ) مع كافة أفراد العائلة، فاستأجروا دارا متواضعة ليسكنوا فيها، ومن هذا التاريخ بدأت رحلة شهيدنا العظيم العلميّة. فكان أكبر همه استيعاب المناهج الدراسيّة والعلمية وعلى قدر من الجد ومكانة من بذل الجهد بحيث يستبق الزمن في رحلته نحو الكمال، فكان النموذج الفريد للطالب المجد في تحصيل العلم والمعرفة.
ففي تلك الفترة وهو في الحادية عشرة من عمره درس علم المنطق وكتب بحثا اعترض فيه باعتراضات على بعض الكتب المنطقية.
وفي أوائل السنة الثانية عشرة من عمره درس كتاب (معالم الاصول) على يد أخيه المرحوم السيد إسماعيل الصدر،فكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم باعتراضات وردت في كتاب (كفاية الاصول) للخراساني.
منها: أنه ورد في بحث (الضد) في كتاب (معالم الاصول) الاستدلال على حرمة الضد بأن ترك أحدهما مقدمة للآخر.
فاعترض عليه الشهيد الصدر بقوله: (إذا يلزم الدور). فقال له المرحوم السيد إسماعيل الصدر:(هذا ما اعترض به صاحب الكفاية على صاحب المعالم).
أساتذة السيد الشهيد
درس الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) لدى ثلة من أعلام وأساتذة الحوزة العلميّة في النجف الأشرف نذكر منهم:
1 - آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وهو خال السيد الشهيد.
وهنا تروى حادثة طريفة تدل على فرط ما يتمتع به سيدنا الشهيد من ذكاء خارق وعبقرية خاصة فقد كان المرحوم آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين يظن أن يحضر السيد الشهيد لبحثه حضورا تشريفيا لا اكتسابيا حقيقيا : ذلك لأن عمر السيد الشهيد لم يكن يتناسب مع مستوى بحث الخارج، فتلك الأبحاث لا يحضرها حضورا استيعابيا إلا القلائل من الطلبة والعلماء الذين اتعبوا أنفسهم في التحصيل سنوات كثيرة، حتى تمكنوا من تمهيد الأرضية العلمية لاستيعاب الابحاث الاستدلالية المعقدة التي تلقى فيها، وإذا علمنا أن بحث المرحوم آل ياسين كان يحضره أمثال آية الله الشيخ صدرا البادكوبي، وآية الله الشيخ عباس الرميثي، وآية الله الشيخ طاهر آل راضي وأمثالهم من جهابذة العلماء، ندرك أن الحق مع المرحوم آل ياسين في ظنونه بحقيقة حضور السيد الشهيد لبحثه.
ويبدو أن السيد الشهيد (رضوان الله عليه) كان في تلك الفترة يكتفي بالاستماع لبحث استاذه متجنبا مناقشته، أو الاعتراض عليه، وإلا فإن بإمكان الشيخ أن يكتشف من خلال ذلك عبقرية أصغر تلاميذه في وقت أبكر من تاريخ وقوع الصدفة التي غيرت اعتقاده.
والذي حدث فغير نظرة الشيخ عن السيد هو أن الشيخ كان يبحث مسألة : أن الحيوان هل يتنجّس بعين النجس ويطهر بزوال العين التي نجسته، أو لا يتنجس بعين النجس؟
فذكر أن الشيخ الانصاري ذكر في كتاب الطهارة أن هنا ثمرة في الفرق بين القولين تظهر بالتأمل. وقال: إن استاذنا المرحوم السيد إسماعيل الصدر حينما انتهى بحثه إلى هذه المسألة طلب من تلاميذه أن يكتشفوا ثمرة الفرق بين القولين ، فبيّنا له ثمرة الفرق بين القولين. وأنا أطلب منكم اكتشاف الثمرة والإتيان بها في بحث اليوم الآتي.
فحضر شهيدنا الصدر في اليوم التالي قبل الآخرين، وقال للشيخ : إني جئت بثمرة الفرق بين القولين وذكر الثمرة التي اكتشفها ، فتعجب الشيخ وقال له : أعد بيان الثمرة لدى حضور باقي الطلاب. وحينما حضر الطلاب الآخرون طالبهم الشيخ بالثمرة فلم يتكلم منهم أحد، فقال الشيخ: إن السيد محمد باقر الصدر أتى بثمرة جديدة غير الثمرة التي ذكرناها لأستاذنا وهنا بيّن شهيدنا الصدر الثمرة بين القولين.
فاثار إعجاب الحاضرين وعرف من ذلك الوقت بالعلم والفضيلة والعبقرية.
2 - آية الله الشيخ ملا صدرا البادكوبي، درس عنده الجزء الثاني من الكفاية والأسفار الأربعة.
3- آية الله الشيخ عباس الرميثي.
4- آية الله السيد أبو القاسم الخوئي.
5 - آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري، درس عنده الجزء الاول من الكفاية وقسما من كتاب اللمعة.
هؤلاء أساتذة شهيدنا الصدر وقد حضر عند بعض الأساتذة الآخرين بعض المواد الدراسيّة ككتاب المكاسب الذي اتفق مع استاذه على أن يستمع الاستاذ لشرح السيد الشهيد للمادة العلميّة ويناقشه في الموارد التي تحتاج إلى نقاش الاستاذ أو توضيحه.
ومما يتذكر عن نبوغ وذكاء السيد الشهيد في تلك الفترة، والمكانة التي وصل إليها وهو في سن مبكرة أنه لمّا توفي الشيخ آل ياسين في سنة(1370 هـ) علّق المرحوم آية الله الشيخ عباس الرميثي على رسالة آل ياسين المسمّاة بـ(بلغة الراغبين) ولشدة اعتقاده بذكاء ونبوغ السيد الشهيد طلب منه حضور المجلس الخاص بكتابة التعليقة ليشارك هو أيضا بعمليّة الاستنباط.
وكان الشيخ الرميثي يقوله له في ذلك التاريخ :(أن التقليد عليك حرام).
وهذا يدل على أن السيد الشهيد كان قد بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سن مبكّرة جدا.
وقد سمعت السيد الشهيد يقول: إني لم اقلّد أحدا منذ بلوغي سن الرشد.
وكان السيد الشهيد في تلك الفترة قد كتب أيضا تعليقة على رسالة المرحوم الشيخ آل ياسين المسمّاة بـ(بلغة الراغبين)، وكان يأسف على ضياع تلك النسخة التي تعتبر من أغلى ذكريات عمره العلمي.
وشاء الله تعالى أن أعثر على تلك النسخة وكان لذلك قصة هي:
كنت قد سمعت من السيد الشهيد ومن والدته أن سادن الروضة الحسينيّة (الكليدار) في زمن والد السيد الشهيد أهدى لمراجع ذلك الوقت ومنهم المرحوم السيد حيدر الصدر (تربة) للصلاة كان قد أحضرها من تراب قبر سيد الشهداء ـ أي التراب القريب جدا من جسد الامام الحسين ـ فكانت هذه التربة وليس هذا عجيبا بالنسبة لمن يعرف مستوى نبوغ وذكاء الشهيد الصدر إذ ليس من دأب شهيدنا العبقري أن تحوم أبحاثه العلميّة حول سطوح المطالب بعيدا عن العمق، بل كان يغور إلى إعماقها حتى تبدو له خفاياها بحيث لا يترك مجالا لاي باحث من أن يزداد عليه تحقيقا أو تعميقا ، ولم يكن مترددا في ما يرتبه من نتائج أو ما يختاره من حلول وآراء ، وكان يمتلك قدرة فائقة على سبر غور المطالب العلميّة رغم تعقيدها وتشعّبها دون أن تختلط عليه مباحثها بل كان يمتلك من الوضوح ما يمكّنه من الإحاطة التامّة بها، وبقلل إلى درجة كبيرة فيها خطأه فكان يأتي فيها بالتحقيق الجديد أو الإبداع المبتكر فتراه مهيمنا بشكل مطلق على كل المطالب العلميّة التي بحثها أو كتبها.
كان حينما يقرأ أو يكتب أو يفكّر ينقطع عن المحيط الذي يعيش فيه، وينسجم مع الحالة التي هو فيها انسجاما بنحو لا يشعر معها بما حوله وكنت في أحيان كثيرة أردع أطفاله الصغار عن اللعب أو الصياح ظنا منّي أن ذلك يوفر له جوا مناسبا للتفكير والمطالعة ، إلا أني لاحظت أن شهيدنا لا يعبأ بما يحدث حوله ، ولا يتضجّر من الضجيج والصياح ، فسألته عن سبب ذلك فقال لي:
حينما أنسجم مع المطالب العلميّة لا أشعر بما حولي.
ولقد سمعت من زوجته العلوية التقيّة ام جعفر تقول: حينما يستغرق السيد في المطالعة أو التفكير ينسى كل شيء ، حتى طعامه ، فأراني مضطرة في أخر الأمر إلى قطع تأمله أو مطالعته ، فأقول له : لقد قرب الظهر ولا شئ عندنا ، عندها يقوم ليشتري بنفسه ما نحتاج إليه. ومن الطرائف في هذا الباب ما كان يذكره من أنه كان يستغرق أحيانا في التفكير بشكل مستمر طوال اليوم والليل ولا ينقطع إلا عند النوم، ثم إنه عندما كان يستيقظ يبدأ من نفس النقطة التي انتهى إليها عند النوم ، وبذلك يفسر قدرته على استيعاب جميع هذه المطالب.
هذه الحالة هي إحدى خصائص السيد الشهيد ، وهي خاصية قل من يستطيع أن يربي نفسها عليها، ولذلك فان معظم من عاش مع السيد الشهيد يعرف أن كل مؤلفاته كتبها مرة واحدة وبلا إعادة نظر فيها ، فهو لا يعرف ما نسميه بـ(المسودّة والمبيضّة) ، وحتى أخطر كتبه وأدقّها وأصعبها، وهو كتاب (الاسس المنطقيّة) كتبه مرة واحدة ، وهذا أمر يثير الدهشة ، وإضافة إلى ذلك فقد كانت سرعته في الكتابة عجيبة قلم يلتهم الصفحات فيملأها نورا وعلما وحكمة.
وعن عبقريته وذكائه العجيب يروي سماحة آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري في كتابه (مباحث الاصول) المحاورة العلميّة التالية التي جرت بين السيد الشهيد وأستاذه السيد الخوئي ـ والسيد الخوئي معروف بقدرته الكبيرة على النقض ـ فقال:
(ذكر الاستاذ الشهيد أنه أورد على استاذه فيما بين الصلاة والدرس بأن الأصول العمليّة لا تجري بلحاظ الحكم الظاهري ، حيث إن التنجيز والتعذير إنما يكونان بلحاظ الواقع ولا مجال لجريان أصالة البراءة أو الاشتغال بلحاظ الحكم الظاهري لأنها إن جرت بلحاظ الحكم الظاهري على خلاف ما هي جارية بلحاظ الحكم الواقعي فلا بد من الاخذ بما جرى بلحاظ الواقع ، وإن جرت بلحاظ الحكم الظاهري بالشكل المماثل لجريانها بلحاظ الواقع فهي لغو ، إذ كان جريانها بلحاظ الواقع مغنيا عن جريانها بلحاظ الظاهر.
قال الاستاذ الشهيد : إن كلامي هذا كان وقف مبني السيد الاستاذ القائل بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلا تبقى إلا أصالة البراءة والاشتغال وقد قلنا : إنّهما إنما يجريان بلحاظ الواقع.
وقال أستاذنا الشهيد إن السيد الاستاذ أجاب على الكلام بالنقض ، فأجبت على النقض ، فأتي بنقض آخر وأجبت عليه ، وهكذا إلى النقض السابع ، فأجبت عليه، وأخذ يفكر في الموضوع إلا أنه حان وقت الدرس فبدأ بالتدريس وانقطعت سلسلة البحث في هذه المسألة.
وقد نقل لي الاستاذ الشهيد تلك النقوض السبعة مع أجوبتها من دون الالتزام بالترتيب بين النقوض...)
وأذكر أيضا أن مناقشة حدثت بين السيد الشهيد واستاذه السيد الخوئي في مسائل الحج فاستطاع أن يغير أكثر من عشرة فتاوى للسيد الخوئي في موضوع الحج خلال ساعة واحدة أو ما يقارب ذلك.
ولأجل إحاطة القارئ الكريم بصورة أشمل عن جوانب العبقرية والعمق العلمي في شخصية السيد الشهيد أنقل هنا ما كتبه أبرز تلاميذه، وهما سماحة آية الله السيد كاظم الحائري وسماحة آية الله السيد محمود الهاشمي باعتبارهما من جملة طلابه الذين واكبوا مسيرة السيد الشهيد العلميّة ، وقررا أبحاثه ، ونالا درجة الاجتهاد عنده ، مضيفا ـ إلى ما كتباه ـ بعض ذكرياتي عن نفس الموضوع وإن لم أكن بصدد تقييم ودراسة شخصية السيد الشهيد العلميّة في هذه المذكّرات : لأني اعتقد أن مهمة كهذه تحتاج إلى جهود متكاتفة ومتظافرة لعدد كبير من العلماء الاكفاء وأهل الخبرة ولكن مع ذلك وجدت أن طبيعة الموضوع تقتضي التعرض لذلك ولو بشكل محدود عسى أن يكون في ذلك البداية المتواضعة لدارسة اشمل وأوسع عن هذا الجانب من شخصية السيد الشهيد الصدر.
كتب سماحة آية الله السيد كاظم الحائري عن هذه الجانب ما يلي : (تتميز الأبحاث العلميّة لاستاذنا الشهيد عن سائر الابحاث العلميّة المألوفة بالدقة الفائقة والعمق الذي يقل نظيره من ناحية ، وبالسعة والشمول لكل جوانب المسألة المبحوث عنها من ناحية أخرى ، حتى أن الباحث الجديد لها قل ما يحصل على منفذ للتوسيع أو التعميق الزائدين على ما أتى به الاستاذ.
إضافة إلى كل هذا نرى من مميزات استاذنا العلميّة أن أبحاثه لم تقتصر على ما تعارفت عليه أبحاث العلماء في النجف الأشرف وقتئذ من الفقه والاصول ،بل شملت سائر المرافق الفكريّة الاسلامية كالفلسفة والاقتصاد ، والمنطق ، والأخلاق ، والتاريخ ، وفي كل مجال من هذه المجالات ترى بحثه مشتملا على نفس الامتيازين الملحوظين في أبحاثه الاصوليّة والفقهيّة من العمق والشمول.
ففي علم الأصول نستطيع أن نعتبر المرحلة التي وصل إليها مستوى البحث الأصولي على يد الأستاذ عصرا رابعا من أعصر العلم وتطوراته التي مر بها لعلم الأصول على حد مصطلحات استاذنا في كتاب (المعالم الجديدة للأصول) ، حيث قسم الأعصر التي مر بها علم الأصول من المراحل التي بلغ التمايز النوعي فيما بينها إلى ما ينبغي جعله حدا فاصلا بين عصرين قسمهما إلى ثلاثة أعصر:
1 - العصر التمهيدي.
2 - عصر العلم.
3 - عصر الكمال العلمي.
أقول: لئن كان الفارق الكيفي بين بعض المراحل وبعض حينما يعتبر طفرة وامتيازا نوعيا في هوية البحث يجعلنا نصطلح على ذلك بالأعصر المختلفة للعلم، فحقا إن علم الأصول قد مر على يد استاذنا الشهيد بعصر جديد، فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسم إليها فترات العلم في (المعالم الجديدة) لكان هذا عصرا رابعا هو عصر ذروة الكمال تري فيه من الابحاث القيّمة ، والجواهر الثمينة ، والدرر المضيئة ما يبهر العقول ، وهي تشتمل على مباحث فريدة في نوعها وفيها:
ما تكون تارة جديدة علي الفكر الاصولي تماما ، أي أنها لم تبحث من قبل.
وأخري تكون مغيّرة لما اختاره الأصحاب في أبحاثهم السابقة ببرهان قاطع واسلوب فائق.
وثالثة تكون معدّلة لنفس ما اختاره الأصحاب ، ومصلحة له ببيان لم يسبق له نظير.[/align]
-
[align=justify]فمن القسم الأول : ما جاء به من البحث الرائع لسيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة ، فقد تكرّر لدى أصحابنا المتأخرين التمسك بالسيرة لإثبات حكم ما ولكن لم يسبق أحد استاذنا فيما أعلم في بحثه للسيرة ، وإبراز اسس كشفها ، والقوانين التي تتحكم فيها، والنكات التي ينبني الاستدلال بها علي أساسها.
ومن هذا القسم ـ أيضا ـ بحثه القيم عما أسماه بنظرية التعويض ، وهو وإن كان أقرب إلى فن البحوث الرجاليّة منه إلى الاصول ، ولكنه قد بحثه بالمناسبة ضمن مباحث حجيّة خبر الواحد ، ووضّح فيه كيف أنّنا نعوّض ـ أحيانا ـ المقطع السندي المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الاولية.
وهذا الأمر وإن وجدت بذوره لدى من تقدّم على الاستاذ ولكن لم أر أحدا قبله يتعرّض لهذه الفكرة على مستوى البحث العلمي ويدقّق في اسس هذا التعويض وأقسامه.
ومن القسم الثاني ، بحثه البديع في حجّيّة القطع الذي أثبت فيه أن رأس الخيط في البحث إنما هو مولويّة المولى وحدودها ، وانحدر من هذا المبدأ إلى الآثار التي تترتّب على ذلك ، وانتهى إلى إبطال ما بنى عليه المحقّقون جيلا بعد جيل من قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ، وآمن بمنجّزيّة الاحتمال ، وأن البراءة التي نؤمن بها هي البراءة الشرعيّة ، أمّا البراءة العقليّة فلا.
ومن هذا القبيل إبطاله لحكومة الاصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، أو الأصل السببي على الأصل المسبّبي الموافق له ، وكذلك إبطاله لحكومة الامارة على الصلة لدى توافقها في النتيجة.
ومنه أيضا إبطاله لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.
ومنه أيضا بحثه البديع في الوضع ، وإبرازه لنظرية (القرن الأكيد).
ومن القسم الثالث : بحثه الرائع عن حقيقة المعاني الحرفيّة ، حيث يوافق فيه على أصل ما اختاره المحقّقون المتأخرون من كون المعاني الحرفّية هي المعاني النسبيّة والمغايرة هوية للمعاني الاسميّة ، ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريين على ما أفاده الأصحاب.
ومن هذا القبيل بحثه الذي لم يسبق له نظير عن الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعيّة ، حيث اختار نفس ما أثبته المحققون من أمكانيّة الجمع بينهما ، وعدم التنافي والتعارض فيما بينهما ، ولكن مع التعديل الجوهري لطريقة الاستدلال وكيفية الجمع.
وقبل أن أترك هذه النقطة لا يفوتني أن اشير إلى أن من أبحاثه البديعة أيضا أبحاثه عن الترتب ، وعن التزاحم ، وعن قاعدة (لا ضرر) التي تعارف البحث عنها في الاصول رغم أنها قاعدة فقهيّة.
وفي البعد الفقهي من شخصية السيد الشهيد.
(ترى إبداعاته لا تقل عن إبداعاته في علم الاصول ، وقد طبع من أبحاثه الفقهيّة أربعة مجلّدات بإسم (بحوث في شرح العروة الوثقى) فيها من التحقيقات الرشيقة التي لم يسبقه بها أحد ما لا يحصى واشير هنا كمثال إلى بحثين من أبحاثه التي ينبهر بها الفقيه الألمعي:
أحدهما : بحثه الرائع في تحقيق نكات قاعدة الطهارة الواردة في المجلّد الثاني من البحوث المشتمل على عمق وشمول لا تراها في أبحاث أخرى عن تلك القاعدة.
والثاني : بحثه القيم في مسألة اعتصام ماء البئر عن كيفية التخلص من الروايات الدالّة على الانفعال، وهو وارد أيضا في المجلّد الثاني من البحوث ، حيث ساق البحث باسلوب فائق لم أره لدى باحثي المسألة قبله.
ولم يوفّق لكتابة الكثير عن الفقه المستدل ما عدا المجلّدات الاربعة في الطهارة ، وما درّسه من الفقه المستدل أكثر مما كتبه ، كما وقد درّس قسما من أبحاث الخمس وغير ذلك.
والذي كان يصبو إليه هو تطوير بحث الفقه من عدة جوانب ، وفق لبعضها بمقدار ما كتب أو درس ، ولم يوفق للبعض الآخر ، وتلك الجوانب هي كما يلي:
1 - تعميق دراسته بنحو لم يسبق له مثيل، وقد وفق لذلك بمقدار ما كتب أو درس.
2- تبديل النزعة الفردية، والنظرة الموضعية، إلى النزعة الاجتماعية والنظرة العالميّة في البحوث التي تتطلب ذلك.
وهاتان النظرتان أو النزعتان لهما الأثر البالغ في كيفية فهم القضايا الفقهيّة. فمثلا أخبار التقية والجهاد تفهم بإحدى النظرتين بشكل، وبالنظرة الأخرى بشكل آخر. وأدلة حرمة الربا قد تفهم بإحدى النظرتين بشكل يمكن معه تحليل نتيجة الربا ببعض الحيل، وتفهم بالنظرة الأخرى بشكل آخر لا تؤدي إلى هذه النتيجة. وما إلى ذلك من الأمثلة الواسعة في الفقه.
3 - توسيع افق البحث الفقهي لشتى أبواب الحياة بالشكل المنسجم مع متطلّبات اليوم، وباسلوب يتجلى به أن الفقه يعالج كل مناحي الحياة ويواكب الوضع البشري الفردي والاجتماعي حتى النهاية، وبشكل يتضح أن البحث الفقهي متحرك يواكب حركة الحياة.
وقد شرع لتجسيد هذا الجانب في رسالته العمليّة المسماة بـ(الفتاوى الواضحة)، إلا أن استشهاده قد حال بينه وبين إكمال الكتاب.
4 - تطوير منهجيّة عرض المسائل وتبويبها بالشكل المنعكس في مقدمّة الفتاوى الواضحة.
5 - وكان عازما على أن يبحث فقه المعاملات بشكل مقارن بين فقه الإسلام والفقه الوضعي: كي يتجلى أن الفقه الإسلامي هو الجدير بإدارة الحياة وإسعادها دون غيره ، وقد حالت جريمة البعث الكبرى بينه وبين إتحافنا بهذا البحث القيّم....)
وعن البعد الفلسفي في شخصيّة السيد الشهيد قال:(ألّف الاستاذ الشهيد كتاب (فلسفتنا) الذي قارع فيه الفلسفات الماديّة والمدارس الفلسفيّة الحديثة الملحدة، وبالأخص الديالكتيكيّة الماركسيّة، باسلوب بديع وببراهين قويمة ومناهج رائعة، وهذا الكتاب قد أصدره بجهود تظافرت مدّة عشرة أشهر فحسب.
والرأي الذي اعتنقه في فلسفتنا في نظرية المعرفة قد عدل عنه إلى رأي آخر فكتابه المسمّى بـ(الاسس المنطقيّة للاستقراء)، يختلف عن رأيه الأول في عدد مهم من أقسام المعرفة البشريّة.
وقد بدأ أخيرا بتأليف كتاب فلسفي معمّق ومقارن بين آراء الفلاسفة القدامى والفلاسفة الجدد، وبدأ ببحث تحليل الذهن البشري ولم يوفّق لإتمامه، ولا نعلم بمصير ما كتبه في ذلك، ولعله صودر من قبل البعث العميل الكافر ضمن ما صودر من كتبه وممتلكاته.
وفي المنطق تعرض الاستاذ الشهيد ضمن أبحاثه الاصولية لدى مناقشته للأخباريين حجيّة البراهين العقلية إلى نمط التفكير المنطقي الارسطي ونقده بما لم يسبقه به أحد، وبعد ذلك طور من تلك الأبحاث وأكملها وأضاف إليها فأخرجها بأروع صياغة بإسم كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء).
ومن جملة ما أوضحه في هذا الكتاب عدم بداهة قسم من العلوم التي يقول المنطق الارسطي ببداهتها: كالمحسوسات بالحس الظاهري، والمتواترات، والتجريبيات، والحدسيات وأنّ هذه العلوم إنما تبتني على أساس حساب الاحتمالات ، وليس على أساس البداهة والضرورة.
وفي الأخلاق : تعرض الاستاذ الشهيد لأرقى بحث أخلاقي علمي ضمن أبحاثه الاصولية لدى البحث عن الحسن والقبح العقليين بمنهج لم يسبق له نظير.
وفي التفسير تعرّض في أواخر حياته لأبحاث تفسيريّة قيّمة تختلف في اسلوبها عن نمط التفاسير التجزيئيّة المتعارفة، أعطاها عنوان (التفسير الموضوعي) وتلك أبحاث ألقاها في محفل عامّ للبحث، ولم يكن الحضور فيه خاصا بفضلاء طلابه أو المحقّقين العلماء : ولذا لم يكن من المتوقع أن يلقي هذه الابحاث بما هو المأمول منه من مستوى العمق والدقة ، إذ أن ذلك يناسب الحضور الخاص وليس الحضور العام، ومع ذلك ترى في تلك الأبحاث من العمق والتحليل الدقيق ما يبهر العقول ، ويدلّ على مدى شموخ المستوى الفكري لهذا المفكّر العظيم.
وفي مجال الاقتصاد: كتب استاذنا الشهيد كتاب (اقتصادنا) لنقد المذاهب الاقتصاديّة الماركسيّة والرأسماليّة، وتوضيح خطوط تفصيليّة عن الاقتصاد الإسلامي، ولا أقول: إنه لم يوجد قبله فحسب كتاب في الاقتصاد الاسلامي بهذا المستوى، بل أقول: لم يوجد حتى يومنا هذا ـ الذي مضى على تأليف كتاب اقتصادنا حوالي ربع قرن ـ من كتب بمستواه.
وفي التاريخ كتب تاريخا تحليليا عن قصة فدك، وكان عمره وقتئذ حوالي سبع عشرة سنة، وترى في هذا الكتاب الذي يمثل السنين الاولى من بلوغه سن التكليف ما يعجبك من روعة التأليف وعمق التحقيق والتدقيق. ومما يزيدك إعجابا بهذا الكتاب أنه جاء فيه ببعض المناسبة بعض المناقشات الفقهيّة الدقيقة لما جاء في كلمات أكابر الفقهاء، وهذا ما لا يصدر عادة إلا من العلماء المحققين الكبار في سنين متأخرة من أعمارهم.
هذا ، وبعد ردح من الزمن جاءت لاستاذنا الشهيد أبحاث في منتهى الروعة في تحليل تاريخ أئمتنا الأطهار من زاوية عملهم لإعلاء كلمة الله على وجه الأرض، كان يلقيها على طلابه في أيام وفيات الأئمة كاطروحة شاملة متناسقة لكل أئمة أهل البيت في المنهج الذي نهجوه لخدمة الإسلام الحنيف.
وجميع أبحاثه ترى فيها إضافة إلى الدقة والعمق مع السعة والشمول منهجة فنّية رائعة في طريقة العرض.
(1) آية الله السيد كاظم الحائري ,مباحث الأصول ,ج 1,من القسم الثاني ,ص 57-65.
دخل هذا الكتاب الواقع العملي ليكون أعجوبة في العمق والشمول والمنهجة العلميّة الدقيقة
وفي اعتقادي أنا الأعجب من عملية كتابة هذا الكتاب أن يستطيع تجاوز مستواه العملي الذي ألفه ليتمكّن من كتابة مادة الاصول على مستويات مختلفة تبدأ بالطالب المبتدئ في هذا العلم ويتدرج به حتى آخر مرحلة وهي مرحلة الإعداد (لبحث الخارج).
وهذه الحقيقة تجلت أيضا في كتابته للفتاوى الواضحة ، وهي رسالته العمليّة الحاوية على فتاواه في بعض المسائل الشرعيّة ، فبعد أن تكرر عليه الطلب الكثير بطبع رسالة عمليّة ، وحصلت له قناعة بذلك فكر في أسلوب جديد لكتابة رسالته العمليّة واتفق أن كان المرحوم الشيخ محمد جواد مغنيه ضيفا عند السيد الشهيد في تلك الفترة. والشيخ مغنية كاتب إسلامي معروف بقدرته على كتابة المطالب العقّدة بأسلوب وعبارة مفهومة للجميع، وكان يعرف بكاتب الشباب ، وكتبه متداولة بينهم ومحبوبة عندهم لهذا الامتياز. فاقترح البعض أن تناط مهمة كتابة رسالة السيد الشهيد إليه.
وباشر المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية بتكليف من السيد الشهيد كتابة نماذج تجربية للمسائل الشرعية والفتاوى بما كان يعتقد أنها الصياغة المثلى التي تحقّق الغرض المطلوب، وبعد مناقشة السيد الشهيد لها تبيّن للشيخ مغنية خلاف ذلك.
وكرر الشيخ محاولاته وكان في كل مرة يواجه مشكلات، إما لان الصياغة التعبيريّة قاصرة عن إفادة الحكم الشرعي المقصود، وإما لأن الصياغات التعبيريّة لا تخلو من تعقيد ولا تحقق التبسيط المطلوب.
وبعد فشل تلك المحاولات قرر السيد الشهيد تبنّي المهمة بنفسه. وهي محاولة في غاية الصعوبة لمن يعرف طبيعة المادة الفقهيّة التي لا تقبل التساهل والمسامحة، خاصة أنه أراد لرسالته العمليّة أن تكون نموذجية ومثالية في المبعوث مصريا يحمل شهادة الدكتوراه، فأبلغ السيد الشهيد أن الرئيس(....) يطلب مساعدتكم لتقنين الأنظمة والقوانين في بلاده بما يوافق الشريعة الإسلامية وقدّم للسيد الشهيد دعوة رسمية تتضمن ذلك.
جري حيث طويل عن هذا الموضوع كان من جملته ما يلي:
قال المبعوث :(سيدي الصدر لا ندري كيف نستطيع أن نطبّق الشريعة الإسلامية في هذا العصر الذي يعتبر معظم العقوبات الشرعيّة مخالفة لحقوق الإنسان، فمثلا الجلد والرجم والقطع وغير لذلك يعتبره العلام عملا بشعا ينافي حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت لا يمكننا رفع اليد عن هذه الأحكام لأنها أحكام ربّانيّة، فهل هناك حلل لمعالجة هذه المشكلة المعقّدة.؟)
فأجابه السيد الشهيد:
(إن الإسلام ـ في بعض الموارد ـ يتشدد في النظرية ويتسامح في التطبيق، فقد ورد مثلا (إدرأوا الحدود بالشبهات) أي أن الإسلام يتشدد في وسائل اثبات الجريمة التي يترتب عليها الحي فمثلا يصعب إثبات الزنا على ضوء الشروط المقررّة لكيفية الشهادة عليه، وهكذا القول بالنسبة لباقي الأمور التي توجب الحد).
إني وأن كنت لا اتذكر تفاصيل هذه الجلسة وأمثالها، لأننا نحن الذين كنا نعيش في كنف السيد الشهيد لم نكن ندوّن هذه الوقائع ونؤرّخها، وهذا مما يؤسف له ، إلا أنّي أذكر أن هذا المبعوث كان ينبهر بالأجوبة التي كان يتلقّاها من السيد الشهيد.)
والشيء المثير في هذه القضية أن لهذا الرئيس روابطا قوية بالأزهر في مصر، وهو على المقاييس المذهبيّة يعدّ سنّي المذهب وكانت طبيعة الحال هذه تقتضي أن يتعين بالأزهر لا بالنجف، فما هو مبرر هذه المبادرة؟ ولماذا جاء يستعين بالسيد الشهيد دون غيره؟
الشيوعية). ومن المؤكد أن العمر والفرصة لو كانا اتيحا لسيدنا الشهيد لا تحف اللام الإسلامي بروائع وآيات زاهرات من الفكر الإسلامي الأصيل، والأحكام الإسلامية المقدسة مقارنة بالأفكار والقوانين الوضعيّة، ولأثبت من خلال البحث العلمي وبالدليل القاطع أن الرسالة الإسلامية هي خيار الإنسانيّة الوحيد، وأن سعادتها لا تتحقق إلا بها. ولكن ما نقول لنظام همجي عميل جعل العالم الإسلامي يتكبّد هذه الخسارة الفادحة التي لا تعوض.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود المفكر المصري الشهير على ما نقلته صحيفة (كيهان العربي) في عددها (961) نقلا عن صحيفة (الأهرام) المصريّة:
(إن إعدام مفكر ساهم في تنمية العقل العربي تثير لدينا مشاعر التقزّز والاشمئزاز، فالدول المتقدّمة تكرّم أفذاذها، أما العراق فيعدم مفكريه).
3 - وفيما يتعلق بكتب السيد الشهيد ومؤلّفاته، والنتائج التي حققها على الصعيد العالمي أطر الحادثة اللطيفة التالية، وهي أيضا تلقي الضوء على هذا الجانب من شخصية السيد الشهيد.
في عصر صائف من أيام النجف الحارة، طرق الباب رجل كبير السن وبعد ان فتحه خادم السيد الحاج عباس الذي كان يقوم ببعض الخدمات كتحضير الشاي للضيوف، أو توفير بعض احتياجات المنزل، سأل الرجل الكبير : هل هذا منزل الشيخ محّمد باقر الصدر؟ فقال له الحاج عباس: نعم.
فقال: هل يمكن أن ألتقي بسماحته الصدر؟
فقاله له: نعم، تفضّل اجلس، سوف اخبر السيد بذلك وأستأذنه لكم.
وكان السيد الشهيد لا ينام الظهيرة رغم الجو الحار الذي ينهك القوى فقد كان من عادته أن يصلّي الظهر والعصر ثم يتغدى وبعد ذلك يذهب إلى مكتبته يطالع أو يكتب حتى المساء تقريبا.
(1) راجع وثيقة رقم (3) ,ص 334.
وكان هذا حاله دائما وفي كل يوم إلا في حالات استثنائية قليلة، وكان الحاج عباس يعرف ذلك، فصعد إلى غرفة المكتبة،وأخبر السيد الشهيد بأن ضيفا من مصر يطلب اللقاء بكم، فاستجاب السيد وأذن له بزيارته، وكانت هذه الزيارة هي الأولى له، ولم يكن رأي السيد الشهيد قبل ذلك.
لم يكن أحد يعرف أن الزائر هو الدكتور محمود شوقي الفنجري رغم أه كان قد بعث إلى السيد الشهيد رسائل عديدة عبر فيها عن إعجابه الشديد بمؤلفات السيد الشهيد (اقتصادنا، وفلسفتنا)، وكانت هذه الرسائل قمة في الثناء والإطراء.
صعد الدكتور الفنجري إلى الطابق الأعلى حيث تكون مكتبة السيد الشهيد، والسيد جالس في الزاوية التي اعتاد الجلوس فيها، وهنا حدثت المفاجأة، وكشف الدكتور الفنجري عمّا كان يخالج نفسه من شك في حقيقة ما يرى ، فهل الرجل الذي عرفه من خلال اقتصادنا وفلسفتنا هو هذا الرجل المتواضع البسيط الذي يعيش في مقبرة عائلية من المقابر المتعارفة في النجف؟ هل الصدر هو هذا الجالس هنا بتواضع، في مكتبة متواضعة جدا؟ كانت مشاعر من الشك والارتياب تخالج الدكتور الفنجري في حقيقة ما يرى.
فوقف عند باب الغرفة والدهشة ملأت كيانه كلّه، وأذهلته حتى عن التحية، فخاطب السيد الشهيد:
بالله عليك أنت الشيخ محمد باقر الصدر؟
فأجابه السيد الشهيد والابتسامة تعلو وجهه: نعم، تفضل، أهلا وسهلا.
الفجري: مش معقول!!
وكرر سؤاله مرّة ثانية وثالثة، ويتكرر الجواب نفسه. وأراد أن يقطع الشك باليقين فقال: أنت الشيخ الصدر مؤلف كتاب اقتصادنا وفلسفتنا؟
(1) الدكتور الفنجري يحمل شهادة الدكتوراه في الإقتصاد و كان مستشاراً إقتصادياً للرئيس المصري انور السادات و استاذاً في عدد من المجامعات المصرية و العالمية .
فقال السيد الشهيد: نعم، تفضل.
عندها دخل الدكتور الفنجري إلى المكتبة محييا السيد الشهيد بأجمل التحيات، ويرد عليه شهيدنا بأرق منها ،وقد هدأت نفسه، واطمأن قلبه وأيقن أن هذا الذي أمامه هو ذلك الصدر الذي يريد اللقاء به. وهنا قال السيد الشهيد:
جئت مدعوا لحضور مؤتمر في بغداد يعقد من قبل حكومة بغداد، وكنت في الطائرة افكر في أن استغل هذه الفرصة الوحيدة التي يمكن أن ألتقي فيها بفضيلتكم، وكنت أقول لنفسي كم يجب عليّ أن انتظر حتى أحصل على موعد خاص للقائكم، بل هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ أما أن آتي إلى النجف وألتقي بكم بهذه البساطة وخلال عشرة دقائق، فهذا ما لم يكن يخطر ببالي.
هنا حدثه السيد الشهيد عن حياة الطلبة والعلماء في النجف الأشرف، وما تتسم به من بساطة وتواضع، وزهد في المظاهر والزخارف، وقال أنا أحد هؤلاء الطلبة، وهذه هي حياتنا.
بعد ذلك حاول الدكتور الفنجري أن يتعرف على الوضع العلمي والدراسي لشهيدنا الصدر، وفي أي جامعة من جامعات العالم تلقّي دراساته وعلومه، وكيف وصل إلى هذا المستوى العلمي الرفيع فقال:
سماحة الشيخ، أن كتبكم تعتبر آية في عمقها ودقّتها العلميّة، وفي محتواها الفكري، فقد نالت إعجابي وإعجاب عدد كبير من أصدقائي الأساتذة، ومنهم المفكّر الفرنسي روجيه غارودي الذي يرغب هو أيضا بزيارتكم، فأين تلقيتم دراساتكم؟
وفي أي جامعة من جامعات العالم؟
فقال السيد الشهيد : لم أدرس في أي جامعة من جامعات العالم التي تقصدها، لا في العراق ولا في غيره، بل لم أخرج من العراق في حياتي إلا مرّتين، مرّة إلى حجّ بيت الله الحرام، والأخرى إلى لبنان لزيارة بعض أرحامنا هناك.
الفنجري: إذن أين درستم؟
الشهيد الصدر: في المساجد، الطلبة والعلماء هنا في النجف يدرسون في المساجد.
قال الفنجري: وقد اصيب بالذهول والحيرة:
ولله، إن مساجد النجف أفضل من جامعات اوروبا كلّها، وأظنّه قال: أفضل ألف مرّة من جامعات اوروبا.
ثم قال: لقد اطلعت صديقي المفكّر الفرنسي روجيه غارودي على مضمون كتبكم، وأعطيته صورة عن أفكاركم في كتابي اقتصادنا وفلسفتنا، فنالت إعجابه، ووقع تحت تأثيرها وهو يرغب أن يلتقي بكم ويتعرّف عليكم، كما أن لديه مناقشات أو استفسارات عن بعض الافكار فيها، فهل يمكن تحديد وقت لذلك؟
فقال السيد الشهيد: كما ترى الوقت مفتوح، ومتى ما أحب أو اتيحت له الفرصة فأهلا به.
الفنجري: سوف أنقل له جوابكم.
ثم اقترح الدكتور الفنجري على السيد الشهيد أن يسعى لترجمة كتاب الاسس المنطقية للاستقراء، وقال : ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الانجليزية ترجمة دقيقة فسوف يحدث (ثورة) في اوروبا. واقترح أن يقوم بالترجمة الدكتور زكي نجيب محمود.
وطلب أيضا ترجمة كتب السيد الشهيد الأخرى، وكان يعتقد أنها لو ترجمت فسوف تأخذ مكانتها المرموقة في العالم الاوروبي الذي لا يعرف شيئا عن الفكر الإسلامي بالمستوى الموجودة في كتب السيد الشهيد.
وعلى كل حالة فقد امتدت الجلسة والدكتور الفنجري يرغب بالمزيد، وهولا يكاد يصدق أن الشهيد الصدر ـ الفكر والعبقرية والنبوغ ـ هو هذا الرجل المتواضع الزاهد.
بعد مضي شهر تقريبا على هذا اللقاء وصلت منه رسالة يخبر فيها السيد الشهيد أنه أبلغ روجيه غارودي بكل ذلك ووعدني بأنه سيبعث لكم رسالة حول موضوع زيارته لكم، وسيكون على صلة مستمرة بكم من خلال الرسائل.
وما هي إلا أيام قلائل حتّى وصلت رسالة من روجيه غارودي أخبر فيها السيد الشهيد بأنه سيصل إلى العراق بدعوة من الحكومة العراقيّة لحضور مؤتمر سيعقد هناك، وحدد تاريخ ذلك، وقال: أود أن ألتقي بكم خلال هذا التاريخ.
كان الذي يترجم الرسائل من الفرنسيّة إلى العربية وبالعكس هو المرحوم الشيخ يوسف الفقيه وهو أحد طلاب الشهيد الصدر.
بعث السيد الشهيد برسالة جوابية رحب فهيا بقدومه، وروجيه أيضا أجاب برسالة شكر أخرى ، وتمنّى أن يتحقق اللقاء في أقرب وقت.
وجاء الموعد، بل وانتهى أيضا ولم نر المفكر الفرنسي غارودي، فهل أخلف وعده، أم أن شيئا ما قد حدث؟
بعد أيام وصلت السيد الشهيد رسالة منه تحمل في طيّاتها العجب، وتكشف عن خلق حكام البعث وخبثهم، بل تكشف عن خوفهم ورعبهم من السيد الشهيد، فقد كان مضمون رسالة غارودي كالتالي:
(وصلت في الموعد المقرر إلى بغداد، وفي قاعة الاستراحة في مطار بغداد سألني رئيس لجنة التشريفات عما إذا كنت أرغب بوضع جدول لزيارة أماكن معيّنة، فقلت: أرغب بزيارة الاستاذ محمد باقر الصدر. فتحيّر الرجل ولم يتكلّم بشيء وقد أصيب بالدهشة والذهول. بعد ذلك أبلغني مسؤول في وزارة الخارجية العراقيّة أن شخصا بهذا الاسم لا يوجد في العراق. فقلت له: هو موجود بالتأكيد في النجف الأشرف، فقد راسلته وراسلني! فقال: سوف نخصص لكم زيارة إلى النجف ونسأل هناك عن هذا الشخص. وفعلا بعد أن انتهي المؤتمر جاء بي إلى النجف للبحث عنكم، وفي كليّة الفقه أحضروا لي عددا من طلاب الكليّة وقالوا لي أسأل هؤلاء عن ذلك الشخص، فلّما سألتهم عنكم قالوا: لا يوجد في النجف شخص بهذا الاسم!!!
وهذا أثار استغرابي وحيرتي، وتساءلت في نفسي: هل ما يحدث أمامي حقيقة أم خيال؟)
وفي ختام رسالته اعتذر من السيد الشهيد عن عدم حضوره في الموعد المقرر وأعرب عن أسفه لذلك.
وهنا أترك التعليق للقارئ الكريم ليستنتج ما يشاء من هذه الوقائع.
4 - وتعتبر محاولة ترجمة(الاسس المنطقية للاستقراء) من النقاط الجديرة بالذكر: لانها تشير إلى العمق العلمي لشهيدنا الصدر. فلك أن تتصور القاهرة بما تمتلك من أرصده علميّة وعلماء عرفوا بالعمق والدقة تعجز عن ترجمة كتاب لأحد علماء النجف يعيش في زقاق من أزقتها بكل بساطة وتواضع وترابيّة.
وهو أيضا لم يتلق دراساته في جامعات العالم الحديثة التي تهتم بهذا النوع من الدراسات والأبحاث المعمّقة والدقيقة، بل كان معتمدا على إمكاناته الخاصة، وجهه الشخصي، وما يتمتّع به من ذكاء خارق ونبوغ متميّز مكّنه من تجاوز كل المستلزمات الضروريّة لمثل هذه الدراسات والأبحاث التخصّصية.
وقصّة هذه المحاولة بدأت حينما اقنع الدكتور شوقي الفنجري شهيدنا الصدر بضرورة ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الانجليزية فتم الاتصال بالدكتور زكي نجيب محمود وعرضت عليه الفكرة
طلب الدكتور زكي نجيب فرصة لمطالعة الكتاب ليقرر بعد طبيعة الرد، ولكنه بعد أن قرأ الكتاب اعتذر عن تحمل أعباء هذه المسؤولية بسبب ظروفه الصحيّة وكبر سنه، والكتاب يحتاج إلى جهد كبير لا تسمح به كل تلك الأمور، إلا أنه وعد السيد الشهيد بتكليف أحد أفضل وأذكى تلاميذه وهو أيضا يحمل شهادة الدكتوراه وكانت رسالته الجامعيّة التي منح على أساسها شهادة الدكتوراه في الاستقراء، وتعهد هو بالإشراف على الترجمة فحسب.
(1) راجع وثيقة رقم (4) ,ص335.
وتم الاتفاق مع الأستاذ الذي رشحه الدكتور زكي نجيب ـ وللأسف لا أتذكر أسمه ، واتفقا على مبلغ من المال أزاء الترجمة، وعلى الفترة الزمنيّة التي كان من المفروض أن ينجز فهيا ترجمة الكتاب.
وكان السيد الشهيد في هذه المرحلة يفكر بالطريقة التي بمكن أن يتأكد من خلالها باستيفاء الترجمة لمادة كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، وهل تعبر عن محتواه تعبيرا دقيقا، وذلك لأنه يعلم أن مطالب كتاب الأسس المنطقية بدرجة من العمق والتعقيد بحيث لا يتسنّى فهمها إلا لأفذاذ من العلماء، فهل يتمكّن هذا الأستاذ من تحقيق ذلك، وينجز هذه المهمة الكبيرة.
إلا أن الحيرة لم تدم طويلا، قد وصلت رسالة من هذا الأستاذ اعتذر فيها عن ترجمة بقية الكتب، بعد أن ترجم ما يقرب منه مائة صفحة، وذكر في رسالته أنه بحاجة ـ قبل أن يمضي في ترجمة الكتاب ـ إلى دراسته عند السيد الشهيد لفهم واستيعاب مطالب العلميّة كي يتمكّن من ترجمة الكتاب فيما بعد.
وهكذا عجزت القاهرة بما تزخر به من علم ومعرفة عن ترجمة كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى كتاب (مجتمعنا) الذي لم ير النور ولم تسمح ظروف السيد الشهيد بكتابته، وبقيت المكتبة الإسلامية تعاني فرغا كبيرا في هذا المجال، فهل هي إرادة الله عز وجل التي حالت بينه وبين تأليف كتاب (مجتمعنا) ليكون ذلك تحديثا عمليا للمعاهدة العلميّة وللمفكرين الكبار، وللحوزات العلميّة. فلماذا ترك أصحاب الفكر المعرفة هذا المجال مواتا لا تحرثه أقلامهم كنا فعل السيد الشهيد في مجال الفلسفة والاستقراء والاقتصاد وغير ذلك: وهل أراد الله تعالى أن يكون هذا الفراغ التحدي الذي يشير إلى تلك العبقرية الفريدة؟
5 - القضية التي سأذكرها هنا اقتضت طبيعة الموضوع ذكرها: استدل من خلالها على حقيقة مهمة هي أن الوهج العلمي للشهيد الصدر امتد بتأثيره حتى على ألد أعدائه وهم البعثيون، فوقعوا تحت تأثيره وأن كان الحقد والحسد يحول بينهم وبين الاعتراف بذلك على الملأ العام.
وفي هذا المجال أذكر بعض الحقائق التي تشير إلى ذلك:
الاولى:كان أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية العراقيّة آنذاك يرغب أن يضيف إلى رصيده الكبير من الألقاب والصفات ، صفة العالم والمفكر، وكان بإمكان الكبير أن يمنح نفسه أعلى المناصب والرتب الحكومية والعسكريّة: وذلك لأن القانون في العراق ـ كما يعلم الجميع ـ بيد الرئيس يصرفه كيف يشاء، فما أيسر أنيق مادة قانونية يمنح نفسه من خلالها أكبر الرتب، أو المناصب الحكوميّة،أو العسكريّة، إن لك لا يحتاج إلى أدلّة وبراهين: لأنها أمور اعتبارية جعليّة لا قيمة لها.
أما أن يدعي أنه مفكر كبير، وعلام ضليع، فهذا ما يحتاج إلى برهان قاطع، ودليل بين، وهنا لا تستطيع (المراسيم الجمهوريّة) أو التلاعب بالقانون منح البكر ذلك. وهن حاول البكر ، وهي محاولة تدل على غباء مفرط ـ أن يستفيد من طاقات السيد الشهيد العلميّة فبعث إليه السيد على بدر الدين ليستكشف إمكانيّة ما إذا كان السيد الشهيد مستعدا لتأليف كتاب بمستوى كتبه العلميّة الرائعة ويطبع بإسم أحمد حسن البكر.
بالطبع رفض السيد الشهيد ذلك، وباءت هذه المحاولة بالفشل الذريع، فحاول مرة أخرى، ولكن هذه المرّة كان مبعوثه مدير الأمن العم فاضل البرّاك. ويعتبر إرسال فاضل البرّاك تلويحا باستعمال القوة والعنف وإن م يصرح بذلك: لان البرّاك رئيس أكبر مؤسسة إجرامية في العالم، فماذا سيكون ردّه ، لو رفضا السيد ، الشهيد الاستجابة لطلبة ـ غير القوّة والإرهاب.
قال البرّاك: إن السيد الرئيس يرغب بتأليف كتاب، إلا أن انشغاله الدائم بإدارة شؤون البلاد يحول دون ذلك، فاختاركم للقيام بهذه المهمّة على أن تبقى سرية، والسيد الرئيس مستعد لتقديم أي مبلغ من المال تطلبونه، وأضاف ـ على سبيل (لاحاجة إلى ذلك، قدمها إلى الطبع بهذا الشكل).
الثانية: في زيارة من زيارات فاضل البرّاك مدير الأمن العامّ للسيد الشهيد طلب وبشكل خاصّ ـ وسريـ أن يشرف سماحته على رسالته العلميّة التي كتبها وأخذ عليها شهادة الدكتوراه من جامعة روسيّة، وكان شديد الرغبة في أن يتحقق ذلك تمهيدا لطبعها.
كان الشيء الطبيعي بالنسبة لفاضل البراك أن يستعين بميشيل عفلق الذي كان حيا يباشر أعماله يومئذ في بغداد، وهو ـ حسب المدّعي ـ مفكّر الحزب، وعبقري التنظير، وقمّة المعرفة، وفاضل البرّاك أقرب إليه من السيد الشهيد الصدر، فما الذي دفع فاضل البراك إلى تجاوز (مفكر الحزب!) الذي يؤمن بأفكاره ويعتنق مبادئه، إلى الشهيد الصدر الضد العنيد، والعدو واللدود: ما لاشك فيه أن الوهج العلمي، لشخصية السيد الشهيد، وما يمتلك من خصائص ومقوّمات استثنائية في مجال المعرفة العامّة جعلت فاضل البراك وغيره يقع تحت تأثيرها هذا الوهج، ويتجاوز (مفكّر الحزب) إلى (عدو الحزب) ، ولقد قال البراك للسيد الشهيد: (إنّنا سوف نقتلك ونبكي عليك) مشيرا بذلك إلى هذه الحقيقة. وصدق في الجزء الاول من كلمته، وكذب في الجزء الثاني منها، فقد قتلوه ولم يبكوا عليه، بل دعاهم حقدهم إلى إخفاء قبره وقبر شقيقته، ألا لعنة الله على الظالمين.
الثالثة: في الفترة التي اضطرّت فيها السلطة إلى إعطاء الحزب الشيوعي العراقي نوعا من الحريّة على أساس الاتّفاق الجبهوي بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي، نشط الحزب الشيوعي في شن حملة ثقافية قويّة هدّدت كوادر وقواعد حزب البعث العميل.
واستطاعت كوادر الحزب الشيوعي أن تهدّد كيان حزب البعث الحاكم، ووقع الحزب في حرج كبير، بعد أن فشلت أدبيات الحزب وأفكاره، وعجز قائدة ومفكّره ميشيل عفلق من الوقوف بالمستوى المطلوب أمام هجمة الحزب الشيوعي الفكريّة.
لقد كان بإمكان السلطة قمع التحرك الشيوعي، بل واجتثاث الحزب نفسه عن طريق القوة، وهو ما حصل فيما بعد، إلا أن الظروف لم تكن مناسبة في تلك الفترة، وكانت الخطة تقتضي الاستمرار بالسماح للحزب الشيوعي في نشاطه الفكري والثقافي، أما بسبب ضعف السلطة ف ذلك الوقت، أو بسبب ضغط الاتحاد السوفياتي عليها.
ومن المؤكد أن السلطة فتشت كل ما عندها من أرصدة ثقافيّة وعلميّة فلم تجد كتابا يستطيع الوقوف بوجه الهجمة الشيوعيّة، فلجأت إلى كتاب (فلسفتنا)، وكان من الكتب الممنوعة في ذلك الوقت.
وكتاب (فلسفتنا) بالقدر الذي يفنّد الفكر الماركسي يفنّد الفكر الاشتراكي الذي يؤمن به حزب البعث الحاكم، فكان من غير المنطقي أن تسمح السلطة بتداول كتاب (فلسفتنا) بشكله الحالي من دون إجراء تعديلات عليه تنسجم مع طبعة متبنياتها الفكريّة. فبعثت مدير الأمن العام فاضل البرّاك ليبحث مع السيد الشهيد فكرة السماح بطبع كتاب فلسفتنا بعد إجراء تعديلات عليه. وكان السيد الشهيد يعلم بالمأزق الذي وقعت السلطة فيه، إلا أنه تجاهل ذلك أمام فاضل البرّاك، وأخبره بأنه لا يشعر بضرورة لطبع كتاب (فلسفتنا)، إلا أن فاضل البراك أصر على طبع كتبا(فلسفتنا)، مبررا ذلك بأن الفكر الإلحادي بدأ يتفشّى في العراق، ولابد من مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وقد تحدث البراك عن أهمية هذا الموضوع، وعن اهتمام (القيادة) به.
وأحس السيد الشهيد بأن السلطة مصمّمة على تنفيذ هذه الفكرة، وسواء أقبل بذلك ام لا فإنها ماضية في عزمها. ولكن هل الأفضل أن يترك السلطة تتصرّف بالكتاب كيف تشاء، أو أن يختار بنفسه الجزء الذي سيحذف والذي لا يؤثر كثيرا على ما
(1) راجع وثيقة رقم (13),ص 349.
استهدفه كتاب (فلسفتنا) من حقائق؟
ووجد أن الخيار الثاني هو الأفضل،وعلى هذا الأساس جري الحديث مع البرّاك على المقدار الذي سيحذف من الكتاب، وأن الإشراف على طبع الكتاب يجب أن يكون للسيد الشهيد.
ووافق فاضل البراك على هذه الشروط، وطبع الكتاب في مطبعة الميناز في بغداد، وقد أمرني بالإشراف على طباعته احتياطا منه على أن لا يحذف منه إلا المقدار الذي جدّده.
وما أعتبه من ذكر هذه الحادثة هو أنّ حكّام البعث العميل بكل ما يحملونه من غرور كبرياء، ورغم أن السيد الشهيد يعتبر عدوّهم اللدود، ومع ذلك فأنهم رضخوا لحقيقة البعد العلمي العظيم، والعبقرية الفذة في شخصية السيد الشهيد فخضعوا له مرغمين، وأذلّوا أنفسهم مكرهين، ونحن نعلم أن هؤلاء الحكّام بما يحملون في أنفسهم من كبرياء وغرور، ومن تأثر بكرسيّ الحكم وقوّة السلطان يصعب علهم هذا القدر من الاعتراف بعظمة عدّو لهم يعيش في ظل سلطانهم وهو مجرّد من كل قوة مادية يمكن أن تخيفهم.
6 - كان للسيد الشهيد مجلس عام يلتقي فيه بالناس والمراجعين قبل ظهر كل يوم، وفي يوم من الأيام دخل رجل وقور فسلّم على السيد الشهيد فردّ عليه السلام ورحّب به أحسن ترحيب، وبعد دقائق تكلم الضيف الجديد، فقال للسيد: اعرفكم بنفسي، أنا الدكتور عبد الفتاح عبد المقصود. فرحّب به السيد الشهيد ترحيبا أخر واسترّ به، وأثنى على كتبا له عن الإمام علي بما يستحق.
وبدأت بشائر الفرح والسرور تلوح في وجه الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، فقد فهم من هذا الكلام أن للسيد الشهيد قد قرأ كتابه، فسأله عن رأيه بالكتاب:
فقال: كتاب رائع، ومحاولة مباركة، وأثنى عليه كثيرا، ثم قال: ولنا عليه ملاحظات، وأخذ السيد الشهيد يذكر له ملاحظات على كتابه ـ والكتاب مكوّن من عدّة أجزاء ـ والاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود يستمع بانبهار وتعجب ،ويسلّم له بكل ملاحظاته على الكتاب ووعده بإجراء التعديلات اللازمة على ضوء هذه الملاحظات في الطبعة الجديدة للكتاب.
ولشدة انبهار الأستاذ عبد الفتاح بشهيدنا الصدر، قام إليه وقبل يده تعبيرا عن تقديره للسيد الشهيد.
والغريب أن السيد الشهيد لم يكن يتوقع زيارة الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود لكي يتهيأ لمناقشة ما في كتبه من أفكار، أو نقاط ضعف، أو يسجّل ما عنده من ملاحظات عليه، وإنما كانت زيارته مفاجأة بمعني الكلمة، والأغرب من ذلك أن مكتبة السيد الشهيد تخلو من كتاب الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، ولم أره يوما فيها، وإذا كان قد طالعه فإن الفاصلة الزمنيّة بين مطالعته للكتاب ولقائه بمؤلّفه لا تقلّ عن عشر سنوات على أقل تقدير
ولعل الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود قد أدرك من طبيعته مناقشة السيد الشهيد فكتابه والتي تدل على استحضار كبير لمادّة الكتاب، أن هذا ليس بإمكان كل أحد، بل هو شأن العلماء الأفذاذ، مما أثار إعجابه وانبهاره.[/align]
-
[align=justify]7 - ومن الوقائع الخالدة في الذاكرة ما حدث للدكتور عصمت سيف الدولة، مؤسس النظرية الاشتراكية المصريّة، وهو محامي مرموق، وشخصية مصريّة كبيرة. لقد دعي الدكتور المذكور لحضر مؤتمر للمحامين العرب في بغداد، وكان أحد المحامين العراقيين من عائلة نجفيّة معروفة هم السادة آل الخرسان قد شجّع الدكتور عصمت سيف الدولة على زيارة السيد الشهيد باعتباره مفكر معروف، وكان هدفه من ذلك إثبات أن الاشتراكية بكل صبغها وأشكالها توجه معضلات فكرية كبيرة، ولا تستطيع أن تصمد أمام النقد بل ليست هي الاطروحة الصحيحة القادرة على حل مشاكل الانسان الاقتصادية، وأن النجف تملك من المفكرين ما لا نظير له في العالم، ولكن يا ترى من يستطيع أن يثبت ذلك بالوضوح الذي لايدع مجالا للنقاش، ومن يستطيع أن يدلي هذه الحقيقة كالشمس في رابعة النار لرجل يعتبر مؤسس نظرية في الاشتراكية؟
لا شك أنه الشهيد الصدر بما يحمل من عبقرية فذّة، ونبوغ فريد.
وجاء وقد كبير يضم نخبة من المحامين، كان في مقدمتهم الدكتور عصمت سيف الدولة ،وتم اللقاء الذي استمر ما يقرب من ساعتين والسيد الشهيد يجيب على كل سؤال يرد منهم بالدقة المعروفة عنه، والعمق المعهود فيه. ثم عرج الاشتراكية يقطّع أوصالها، ويهدّم أركانها حتى رأي الجميع الهزال والخواء في كل حلقاتها ومفاصلها بعد ان جرّدها من كل ما كان يسترها من شعارات برّاقة تغري الفقراء والضعفاء فيتأثرون بوهجها وبريقها.
ثم أثبت لهم أن الإسلام الشريعة الربّانية الخالدة، القادر الوحيد على إنقاذ البشرية، وتخليصها من مأزق الفقر، لو أن البشرية آمنت به، وتمسكت بعروته، وكان يقدّم الدليل بعد الدليل، والحجة بعد الحجة، والكل في حالة من الانبهار والاعجاب.
وفي هذا اللقاء لم يتمكن أحد من مواجهة سيل الأدلة التي قدّمها الشهيد الصدر لإثبات ما ادّعاه أو دحض بها الأفكار الاشتراكية التي يحملها هؤلاء ومنهم الدكتور عصمت سيف الدولة.
وانتهى هذا اللقاء، وأخذ الواحد منهم بعد الآخر يودّع السيد الشهيد، وكان آخرهم المحامي العراقي الذي أشرت إليه، فقد قبّل يد السيد الشهيد وخاطبه قائلا: (لقد بيضّت وجوهنا، بيّض الله وجهك يا سيدي).
كانت هذه الأحداث وأمثالها تثيرني، وكنت أسعد بها، ولكن بمرور الزمن، ولكثرة التكرار أصبحت ظاهرة طبيعيّة، ففي كل يوم جديد يضاف إلى الرصيد السابق ما أسميه بالكرامات العلميّة لسيدنا الشهيد الصدر(رضوان الله عليه).
يا ترى ما و السر وراء تلك العبقرية، وما هي خلفيّة ذلك العمق العلمي والفكري الذي تميّزت به شخصية الشهيد الصدر؟
لايمكن أن نعزي ذلك إلا لأمرين:
الأول: الإخلاص المنقطع النظير لله ـ تعالى ـ في طلب العلم والمعرفة، وتسخير ذلك لخدمة الدين الحنيف،والشريعة المقدسّة،بنيّة خالصة لا تشوبها مصالح شخصية أو منافع مادّية.
لا أقول ذلك اعتباطا أو مدحا، فإن الرجل الذي أبى أن يتنازل للسلطة، وضحّى بحياته من أجل الرسالة التي أمن بها، والمبادئ التي حملها، مفضلا أن يتعرض لأقسى وأشد ألون التعذيب من أجلها على أن يعيش منعما سعيدا لا يحتاج إلى أن نبرهن على إخلاصه وذوبانه في الله ـ تعالىـ.
وهو الرجل الذي أراد أن يطبع كتاب (فلسفتنا) بإسم جماعة العلماء لا بإسمه، وكتاب فلسفتنا وحدّه يمكن أن يعطي لمؤلّفه ـ أي كان ـ مكانة اجتماعية وعلميّة لا نظير لها.
وبسبب هذا الانقطاع والإخلاص كانت الرعاية الربّانية تسدده وترعاه.
وفي السنوات الأخيرة من عمر السيد الشهيد بدأت بمشروع لكتابة وتنظيم أجوبة السيد الشهيد على الأسئلة التي ترد عليه، سواءا في مجلسة اليومي في بيته من قبل المراجعين، أو عن طريق الرسائل التي ترسل إليه ، وكنت أسعى لكتابة أغرب وأهم تلك الأسئلة على أمل طباعتها في المستقبل.
ورغم غرابة بعض الأسئلة أو اختلافها في العمق أو البساطة فأن السيد الشهيد كان يجيب عليها بالدقة العلميّة المعروفة عنه، وبالوضوح المعهود منه، ولم أعهد السيد الشهيد تلكأ في جواب ن أو حار في رد طيلة مرافقتي له.
استعصى علي حل لمسألة في حرم أمير المؤمنين.
وقد انقطع السيد الشهيد عن الذهاب إلى الحرم الشريف فترة من الزمن، ولم يكن أحد يعلم لذلك كلّه إلى أن أنكشف هذا الأمر رجل كان خادما لوالد السيد الشهيد ثم بعد وفاته بقي على خدمته وعلمه متبرعا بذلك، فقد رأى في عالم الرؤيا أمير المؤمنين فقال له : قل لولدي السيد محمد باقر الصدر لماذا انقطعت عن حضور درسنا).
وحينما استيقظ من النوم أخبر بما رأي، وقص ذلك للسيد الشهيد. وهنا كشف عما كان قد اعتاده من الجلوس خلف الضريح والتفكير بالمسائل العلميّة هناك.
وعاد إلى ما كان عليه واستمر عليه حتى آخر يوم قبل احتجازه.
الثاني: اتّخذ السيد الشهيد منهجا خاصا لتربية نفسه من الناحية العلميّة، فقد كان ـ وكما سمعت منه ـ يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسمها بين المطالعة والكتابة والتفكير، ولعل التفكير كان يأخذ أكثرها ، وقد يكون هذا أحد أسباب الابداع في نتاجاته العلميّة، وما يرى فيها من تميّز ظاهر. فهو لم يجعل نفسه وعاءا لأفكار الاخرين يستنسخها في ذاكرته فقط، بل يمحّص كل شئ بموضوعيّة ودقّة منقطعة النظير، فما هو حق منها يستدل له، وما هو باطل يستدل عليه، وهكذا. ولقد سمعت سماحة آية الله السيد كاظم الحائري ينقل عنه أنه كان يستطيع نسف الفلسفة الأفلاطونية، بل كان قد بدأ بذلك على مستوى الأحاديث والأبحاث الخاصّة بينه وبين بعض طلابه، ولم يبرز ذلك على شكل كتاب: لأن قسما من الناس يؤمنون بالله من خلال هذا الطريق فلم يجد ضرورة أو حاجة تستلزم الخوض في هذا الموضوع. ومن المؤكد أن علمه هذا ـ لو حقّقه ـ فسوف يجعله على رأس قمّة فلاسفة العالم، ولكانت مكانته الاجتماعية والعلميّة قد تتجاوز والحقيقة أن استيعاب أبعاد عظمة هذا العلم الرباني العامل لا يتيسر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة ، ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لابرز معالم الرساليين والمثقفين الواعين والعاملين في سبل الله المخلصين... رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه الله فيها بما يبتلي به العظماء من الصدّيقين والشهداء والصالحين...
وفيما يلي أهم مميزات هذه المدرسة التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معا.
1 - الشمول والموسوعيّة:
اشتملت مدرسة شهيدنا الراحل على مجالات كافة شعب المعرفة الاسلامية والانسانية، فهي متعددة الابعاد والجوانب، ولم تقصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الاسلامية من الفقه والاصول فحسب، رغم أن هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع من أنجازاته وابتكاراته العمليّة. فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه، وأصول الفقه ،والمنطق، والفلسفة، والعقائد، والعلوم القرآنية، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، والسياسة الماليّة والمصرفيّة، ومناهج التعليم والتربية الحوزويّة، ومناهج العمل السياسي، وأنظمة الحكم الإسلامي، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.
وقد جاءت هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتّع به إمامنا الشهيد من ذهنيّة موسوعيّة وعملاقة يمكن اعتبارها فلته يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والآخر، والتي تشكل كل واحدة منها على رأس كل عصر منعطفا تاريخيا جديدا في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها.
فلقد كان آية في نبوغ العلمي واتساع الافق العبقرية الفذة، وقد سطعت منذ طفولته وبداية حياته وتحصيله العلمي كما شهد بذلك أساتذته وزملاؤه وتلامذته،وكل من اتصل به بشكل مباشر، أو التقى به من خلال دراسة مصنّفاته وبحوثه القيمة.
2 - الاستيعاب والإحاطة:
من النقاط ذات الأهميّة الفائقة في اتصاف النظرية، بالمتانة والصحّة مدي ما تستوعبه من احتمالات متعددة وما تعجله من جهات شتى مرتبطة بموضوع البحث. فإن هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد وهذه الميزة ايضا كان يتممه بها فكر السيد الشهيد بدرجة عالية، فإنه لم يكن يتعرض لمسألة من المسائل العلميّة سيما في الاصول والفقه إلا ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول. وهذا هو جانب الاستيعاب والإحاطة المعمّقة في فكره.
وقد ظهرت هذه السمة العلميّة، وهذه الخصيصة حتّى في أحاديثه الاعتيادية، فكان عندما يتناول أي موضوع، ومهما كان بسيطا واعتياديا يصوغه صياغة علميّة، ويخلع عليه نسجا فنيا، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لكل الاحتمالات والشقوق، حتى يخيل لمن يستمع إليه أنه أمام نطرية علميّة تستمد الأصالة والقوّة والمتانة من مبرّراتها وأدلّتها المنطقيّة.
3 - الإبداع والتجديد:
إن حركة العلوم والمعارف البشريّة وتطورّها ترتكز على ظاهرة التجديد والإبداع التي تمتاز بها أفكار العلماء والمحقّقين ف يكل حقل من حقول المعرفة.
وقد كان سيدنا الشهيد يتمتّع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواء على صعيد المعطيات، أو في الطريقة والاستنتاج.
ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة أنه استطاع أن يفتح آفاقا للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله،فكان هو رائدها الأول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها وخطوطها العريضة، وستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول، وخصوصا في بحثو الاقتصاد الإسلامي، ومنطق الاستقراء، والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت.
4 - المنهجيّة والتنسيق:
ومن معلم فكر سيدنا الشهيد منهجية الفريدة والمتماسكة لكل بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد أن طرحه للبحوث الاصولية والفقهيّة يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحقّقين السابقين عله من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث، فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشاكلة في كلمات الآخرين، خصوصا في المسائل المعقّدة التي تعسر على الفهم، ويكثر فيها الالتباس والخلط، ويوضح الكفرة وينظمها ويحلّلها بشكل موضوعي وعلمي لايجد الباحث المختص نظيرة في بحوث الآخرين.
كما كان يتميّز بدقّة طريقة الاستدلال في كل موضوع، هل أنها لابد منها وأن تعتمد على البرهان ، أو أنها مسألة استقرائية ووجدانيّة؟ ولم يكن يقتصر على دعوى وجدانيّة المدعى المطلوب إثباته فحسب، بل كان يستعين في إثارة هذا الوجدان وإحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث، وهو منهج إقامة المنبّهات الوجدانيّة عليه.
5 - النزعة المنطقية والوجدانية:
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح، في الوقت الذي كانت تلك المعطيات البرهانيّة تنسجم وتتطابق مع الوجدان، وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الاقناع وتحصيل الاطمئنان النفسي بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أو كمصادرة، بل كان يقيم البرهان مهمّا أمكن على كل فرضية يحتاج إليها الباحث العلمي، حتى ما يتعسّر صياغة برهان موضوعي عليه، كالبحوث اللغويّة والعقلائيّة والعرفيّة، وهذه السمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكريّة ذات صبغة علميّة ومنطقيّة فائقة يتعذّر توجيه نقد إليها بسهولة، كما جعلتها أبلغ في الإقناع والقدرة على إفهام الآخرين، وتفنيد النظريات والآراء الأخرى، وجعلتها أيضا قادرة على تربية فكرة روادها وبنائه بناءا منطقيا وعلميا ، بعيدا عن مشاحة النزاعات اللفظية، أو التشويش والخبط واختلاط الفهم، الخطر الذي تمنى به الدراسات والبحوث العلميّة والعقليّة العالية في أكثر الأحيان.
وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكليّة التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنّى نظريات يرفضها الوجدان السليم، خصوصا في البحوث ذا الملاك الوجداني والذاتي، التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع. فكنت تجده دوما ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان. وكان يدرك المسألة أولا بحسّه الوجداني والذاتي ثم كان يصوغ في سبيل دعمها علميا ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي. ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلّفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحس الوجداني للمسألة الأمر الذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأخرين بمناهج العلوم العقليّة الأخرى.
وقد استطاع هذا المفكر العملاق على أسا س التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلميّة في الاستدلال وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم أن يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغربية عن ذلك العلم وطبيعته.
وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهان والاستدلال المنطقي، ولكن نجد أن مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلّما تجتمعان معا، وتمكّنت من التوفيق الدقيق فيما بينهما، واستخدام كل منهما في مجاله المناسب والسليم دون تخيط أو إقحام ما ليس منسجما.
7 - القيمة الحضاريّة لمدرسة السيد الشهيد الصدر:
لقد كان سيدنا الشهيد الصدر تحديا حضاريا معاصرا ، كان من مميزات مدرسته أنا استطاعت التصدّي لنسف أسس الحضارة الماديّة لإنسان العصر الحديث، وأن يقدّم الحضارة الإسلامية شامخة على أنقاض تلك الحضارة المنسوفة، وعلى أسس قويمة، وضمن بناء شامل ومتماسك ومتين استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاض غمار هذا المعترك، ووفّق لتفنيد كل مزاعم ومتبنيّات الحضارة الماديّة المعاصرة، وأن يخرج من ذلك ظافرا وبانيا لصرح المدرسة الأصلية العتيدة والمستمدّة من منابع الإسلام الأصلية والمتّصلة يوحي السماء ولطف الله بالإنسان.
هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الربّاني، والمجاهد الشهيد التي أسسها وأشادها لبنة لبنة بفكرة، ونمّاها مرحلة مرحلة بجهوده العلميّة المتواضعة، وهي تعبّر بمجموعها عن البعد العلمي، الذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر....).
والحقيقة أن كل ما كتب أو قيل عن هذا الجانب من شخصية شهيدنا الغالي رغم أهميته لا يعبر إلا عن جزء من عبقريّة ونبوغه العملي، ومن أراد اكتشاف الحقيقة فعليه أن يبحث عنها فيما تركه من مؤلّفات قيّمة ستظل تزهر في سماء العلم والمعرفة.
(1) بحوث في علم الأصول ج 1 ,ص 7-12.[/align]
-
[align=center]النشاط التدريسي[/align]
كان للسيد الشهيد مجلسان للتدريس:
الاول: بحث الاصول، وكان يلقيه في مسجد الجواهري بعد أذان المغرب بساعة في الأيام الدراسيّة من الأسبوع.
الثاني: بحث الفقه، وكان يلقيه في جامع الطوسي في الساعة العاشرة صباح كل يوم من الأيام الدراسيّة.
وكان للسيد الشهيد ـ قبل فترة التصدّي للمرجعيّة ـ محاضرات رائعة كان يلقيها في مناسبات وفيّات الأئمة على طلابه، سجّل بعضها بصوته وطبعت فيما بعد باسم (أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف) ولا زال بعضها طي الإهمال.
كما أن أبحاثه فقها وأصولا معظمها بصوته وقد صادرتها السلطة العفلقيّة بعد استشهاده، ولم يحفظ من هذه التسجيلات إلا القليل عند بعض طلابه، وهذا أيضا في طريقة إلى الضياع، حيث لا يوجد من يهتم اهتماما حقيقيا بتراث السيد الشهيد، وهذه واحدة من مظلومياته الكثيرة التي لا اريد أن أتحدث عنها.
مؤلفات السيد الشهيد
1 - غاية الفكر في علم الأصول.
وهو عشرة أجزاء طبع مها الجزء الخامس فقط وفقدت الأجزاء الأخرى.
2 - فدك في التاريخ.
3 - فلسفتنا.
4 - اقتصادنا.
5 - المدرسة الإسلامية.
6 - المعالم الجديدة للأصول.
7 - البنك اللاربوي في الإسلام.
8 - الأسس المنطقية للاستقراء.
9 - بحوث في شرح العروة الوثقى.
10 - موجز أحكام الحج.
11 - الفتاوى الواضحة.
12 - دروس في علم الأصول.
13 - بحث حول الولاية.
14 - بحث حول المهدي.
15 - تعليقة على منهاج الصالحين.
16 - تعليقة على منهاج الصالحين.
17 - سلسلة أبحاث (الإسلام يقود الحياة).
18 - محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن.
وللسيد الشهيد مؤلّفات أخري صادرتها السلطة، منها كتاب كنت أراه يؤلفه في فترة الحجز، لم يضع له اسما، وقد سألته عن موضوعه فقال: إنه في أصول الدين.
وله كتاب آخر عن تحليل الذهن البشري، لم يتمّه، وقد صادرته السلطة بعد استشهاده.
وقد سأل البعض عن كتاب (مجتمعنا) هل كتبه السيد الشهيد؟ والحقيقة أنّ هذا الكتاب لم يكتب، ولما أفكاره وهيكليّته العامّة كانت قد سجلت كرؤوس نقاط ولم تتهيأ الظروف لكتابته.
(1) راجع وثيقة رقم (5) و(6) ,ص 336وص 337.
-
[align=center]الشهيد الصدر كما رايته[/align]
[align=justify]
قد ينجذب إنسان إلى شخص مّا متأثرا ببعض الخصائص فيه، فينشدّ إليه ويقويّ صلته به، ويحدث غالبا أن تضعف هذه العلاقة حيث تنتهي مادّة الجذب، أو يضعف الوهج الذي كان سببا للانجذاب.
إلا أنني اعتقد ـ لو أردت أن أتحدث عن تجربتي، أو تجربة بعض الاخوة الذين عايشوا السيد الشهيد ـ أن الإنسان كلّما انشدّ إليه، ازداد حبّا وتعلّقا به، وكلّما طالت مدّة التعايش كلّما توطّدت العلائق: وذلك لما يجد فيه من جميل الخصال، ومكارم الأخلاق، وطهارة السريرة.
لقد جمع الشهيد الصدر من الصفات والخصال ما جعل حالة الجذب فيه عامّة يتأثر به البعض لما يجد فيه من إبداع وعمق علمي، وقد يتأثر آخرون بما تتمتع به أبحاثه من عمق ومنهجيّة ودقّة منقطعة النظير، ويتأثر البعض بما يجد فيه من خلق محمّدي، أو ترابيّة علويّة وهكذا.
ولنا أن نفهم الظرف الذي حدث فيه ذلك الانجذاب والعلاقة، إذ من خلاله تستطيع أن تقيّم تلك العلاقة، هل هي عاطفيّة بحتة، أم أنّها قائمة على أسس مبدئية.
لقد انبثق فجر عبقرية الشهيد الصدر في أظلم فترة من تاريخ العراق وأقساها، في زمن تسلط فيه ما يسمى بحزب البعث العربي الاشتراكي مع ثلّة من الحكّام المتخلّفين أخلاقيا ونفسيّا وحضاريّا، فكان الإرهاب والقسوة والعنف في التعامل مع كل ظاهرة حضاريّة وعلميّة منهجهم الثابت وطريقتهم المثلى.
حاول هؤلاء تمزيق كلّ القيم في العراق، وأرادوا اجتثاث ما تعوّد عليه أبناء هذا الشعب من طيبة ومحبّة وصدق وكرم، فكان لهم في كل يوم صولة على هذا الجانب أو ذلك. يهدمون بمعاولهم الصليبيّة تلك القيم متستّرين بشعارات مفضوحة، فبنوا السجون ونصبوا المشانق، واستوردوا أخطر وسائل التعذيب وأضافوها إلى ما عندهم من وسائل إرهاب وتنكيل، يكمّون بها أفواه أبناء العراق، أو يزهقون بها أرواحهم.
وكان منهجهم هذا عامّا لكّ العراقيين باستثناء ثلّة ماثلتهم في سوء الخلق وخبث السريرة، وكان للنجف لما تشير إليه من معنى، وللشهيد الصدر لما يمثّله من فكر وعقيدة السهم الأوفر من الإرهاب والتنكيل.
ما أقسى وأشد هذه المحنة، لقد امتلأت قلوبهم حقدا عليه، وتطايرت نفوسهم شررا للتنكيل به، فكانت منظّماتهم الإرهابية (مديريات الأمن والمخابرات العامّة ومنظمة حزب البعث) له بالمرصاد، تعد أنفاسه في الليل والنهار حتّى يبدو للناظر أن لا همّ للسلطة إلا هذا الرجل المجرد من كل سلاح وقوّة، إلا الايمان وسلاح الفكر والعلم والمعرفة.
وصار واضحا للجميع أن إقامة علاقة بالشهيد الصدر تعني حكم الإنسان على نفسه بالإعدام، أو السجن، أو التشريد، فبالأمس سقط السيد عماد شهيدا وهو من طلابه، وبالأمس سقط القبنجي شهيدا وهو من طلابه. وما أكثر الطلبة والعلماء والمؤمنين الذين اعتقلوا أو سجنوا بسبب علاقتهم به حتى وصل الأمر إلى، فكان هو المرجع الوحيد في تاريخ النجف الذي يعتقل عدة مرّات ، ثم يحتجز ويعدم.
لم تكن العلاقة بالشهيد الصدر في كل مراحل حياته المرجعيّة، وخاصّة في السنوات الأخيرة من عمره الشريف تعني الرفاه والدعة، أو الأمن والأمان، يشهد لذلك كل من عاصره أو عاش بقربه، وخاصّة طلابه والمقرّبين منه.
ولازلت أتذكر تلك الأجواء الرهيبة التي تخيّم على المرتبطين بالشهيد الصدر والمقرّبين منه، ومطاردة قوّات الإرهاب (الأمن) لهم في المساجد والمدارس والأزقّة والأماكن العامّة والخاصّة، ولا زالت أتذكّر ذلك العالم الجليل الذي التقى بي صدفة في زقاق قريب من مسجد الجواهري في النجف الأشرف عام (1975 م) تقريبا فأخذني جانبا بعد أن التت يمينا وشمالا ليطمئن إلى عدم وجود رقيب للسلطة، فقال لي: إنّك تلعب بالنار، هل تعلم إن حياتك في خطر، إنك مراقب من قبل الأمن، قلل من ذهابك إلى منزل السيد الصدر.
وهذا الرجل كان مخلصا في نصحه لي،فأنا أعرفه حق المعرفة، إلا أنه لم يكن يدرك من الأمور إلا أبعادها الماديّة فقط، فلست أجهل أخلاقيّة السلطة ونقمتها وغضبها، وكنت أعلم أن العاقبة الماديّة لهذا الطريق لا تصبّ في مصلحتي، فمن المحتمل أن اعتقل وأعدم في أي لحظة، ومع ذلك كنت أشعر أن المسؤولية الشرعيّة تحتّم عليّ أن أواصل المسيرة مهما كانت النتيجة، ومهما كان الثمن، ولأني كنت أرى الصدر يجسّد قيم على وإخلاصه، وفنائه في الله، وزهده وتقشفه وتفانيه في الإسلام، فكنت أقول لنفسي: أن التراجع خيانة، وخاصّة في هذه الظروف القاسية والعصبية.
كان هذا التفكير يطمئن قلبي ويريح مشاعري وأحس بالاطمئنان أكثر وأكثر حينما أرى السيد الشهيد يصارع تلك المحن والمصائب صراع الأنبياء لها، فكان لا يخشى ولا يخاف، وحيت توّج صراعه هذا بالعاقبة الحسنة فاختار الشهادة راضيا.
أقول: إن هذه الظروف تجعل من غير المنطقي ـ بحسب الموازين المادية ـ أن يربط الإنسان تحياته بحياة من هو في نظر السلطة الشرسة عدوها اللدود، وهو يعلم أنّ المشانق تنتظره والسجون والمعتقلات أسهل عقوبة إن نجى من غيرها، فهل يا ترى يمكن أن نفسّرـ على ضوء ذلك ـ هذا التعلق الشديد بالسيد الشهيد والارتباط به على أنه تعلقّ عاطفي أو مصلحي؟ فيا ترى ما هي نقاط الجذب في شخصية السيد الشهيد، وما هي الخصائص التي تجعل الإنسان يتعلّق به حتّى التضحية؟
وإنّي اعترف بالعجز والتقصير،واعتذر عن ذلك، فكل ما سوف أذكره لا يعبّر إلا عن جزء يسير من الوقع، وهو على نحو الإشارة فقط.[/align]
[align=center]عواطف السيد الشهيد ومشاعره[/align]
[align=justify]إن من سمات شخصية المرجع الشهيد تلك العاطفة الحارّة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبويّ تجاه كل أبناء الأمة.
تراه يلتقيك بوجه طلق، تعلوه ابتسامه تشعره بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد الشهيد لا يحب غيره، وإن تحدّث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وإن سأله أجابه بمقدار استيعابه وتحمّله، وتحصل حالة يحس الزائر من خلالها بحبّ وعاطفة تملك قلبه.
كانت السمة العاطفيّة في شخصية السيد الشهيد تشكّل نقطة ضعف في نظر البعض، وكان يلام على ذلك، وينتقد ـ ومن العجيب أن ينتقد الإنسان على حسناته ـ بل استغل البعض هذه السمة ممّن أرهبهم شموخ السيد الشهيد وامتداده في الأمة، بعد أن عجزوا عن العثور على سلبيّة في شخصية أو سلوكه، فشنوا حملات كبيرة من الانتقاد والتشهير تثير العجب، وكانوا يقولون:(إن السيد الصدر عاطفي لا يصلح للمرجعيّة وقيادة الأمة)؟!
واعتقد ان هؤلاء الذين ينتقدونه على ذلك، ويعتبرون هذه السمة نقطة ضعف فيه ـ أيا كانوا ـ لا يعرفون حقيقة الشهيد الصدر، بل لا يعرفون ما يجب أن يتوفر في القائد من سمات ومقوّمات وصفات، بل لعلّهم لا يفهمون سيرة نبينا محمّد وأئمتنا مع المؤمنين والمسلين على امتداد التاريخ الإسلامي، رغم أنهم يردّدون مقاطع من تلك السيرة ويستشهدون بها في أحاديثهم وخطبهم.
إنّنا نعتز ونفتخر نقرأ في كتب السيرة أن الإمام الحسين بكى في يوم العاشر من محرّم حينما رأى الجيش الذي حشّده بنو أمية لقتاله، وعندما سئل عن سبب بكائه أجاب: أن هؤلاء سيدخلون النار بسببي، إنّنا نفتخر بذلك، ومن حقّنا أن نفتخر لأن أئمتنا يمتلكون هذا القدر الكبير من العاطفة الهادفة.
كما أننا نبكي حينما نقرأ أن الإمام الحسين هدّه مقتل ولده على الأكبر فعجز عن حمله، فقال لأصحابه : احملوه فلا طاقة لي على حمله. وكذلك حاله مع أخيه العباس. أو نتأثر حينما نقرأ أن النبي رق لولده إبراهيم فعاتبه البعض على ذلك، فقال لهم : تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ.
فلماذا يا ترى ينتقد من يغتدي بأخلاقه وسلوكه بن أمرنا الله ـ تعالى ـ بالاقتداء بهم؟ ثم ما هي الضرورة التي تفرض أن يكون المرجع غليظ القلب مع شعبه، يعيش معهم بلا أحاسيس ولا مشاعر ولا عواطف؟
أن العاطفة المذمومة هي تلك التي تؤثر على مواقف الإنسان الدينيّة والعقائديّة بما يسخط الله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه). أمّا العواطف التي يطلب بها وجه الله تعالى، العاطفة الهادفة المسخّرة لخدمة الرسالة والأهداف المقدّسة، فهي الحسنة التي لا يجوز أن يزهد فيها قائد (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك).
وكان يتألم حينما تبلغه تلك الانتقادات، لا لأنها تمسه شخصيا، فما أكثر المواقف والانتقادات التي استهدفته فتجاهلها وكأنّها لم تكن أو كأنه لم يسمع بها لأنّها شخصيّة، بل لأنّ هذه الانتقادات كانت تصبّ في إطار تهديم الحوزة[/align]
[align=justify]
(1) سورة المجادلة ,الآية 22.
(2) سورة آل عمران ,الآية 159.
والمرجعيّة ، وهو ما كانت تستهدفه السلطة.
لقد سمعته يقول: ماذا يريد هؤلاء منّي هل يريدون أن أتعامل مع الناس بجفاء وخشونة، هل يريدون أن لا أمنحهم حبّي، إذ كيف يمكن للأبّ أن يربّي أبناءه بقلب لا يحبّهم، أليس هؤلاء هم الذين سيحملون راية الإسلام ويدافعون عن كرامة القرآن، إذا كنّا لا نسع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا؟
وعلى كل حال أجد لزاما علي أن أشير إلى الملاحظات التالية فيما يتعلق بهذا الموضع: لأنها تلقي الضوء على حقيقة عواطفه ومشاعره.
1 - أن عاطفة السيد الشهيد وأحاسيسه صادقة بمعنى الكلمة، فهو لا يعرف التصنّع والتمثيل، إذا تألم لأحد تألم من أعماقه، وإذا أحب أحدا أحبه من قلبه، ومن عاش مع السيد الشهيد يدرك ذلك بسهولة من خلال تصرفاته وانفعاله مع الحالة، ومن تأثير ذلك على وجهه وملامحه، وسوف نرى في طيّات هذا الكتاب ما يشهد لذلك.
2 - أن هذه العاطفة لله، طلبا لمرضاته، وتقرّبا الهي عز وجل، وليست حالة فطرية جبل عليها فقط، نعلم، إنه استطاع أن يربيها وينميّها حتّى يراها الرائي وكأنه جبل عليها، ثم سخرها لخدمة الأهداف العظيمة والمبادئ السامية، وكان يتحكّم به بالشكل الذي تقتضيه مصلحة الإسلام.
ولي على ذلك الكثير من الشواهد: فقد رأيته في مواقف مع بعض أرحامه وأعز النسا عليه حينما تصرفوا تصرفا مباحا لكنه ينافي الخط الذي رسمه للمرجع والمرجعيّة، رأيته وكأنه قد مسخت عنه العاطفة ولم يعرف لها معنى. وإذا كان لا يحق لي أن أتحدث عن الآخرين فلا ضير من أن أتحدث عن نفسي فيما يتعلق بهذا الموضوع.
فمثلا في يوم من الأيام حاولت أن اشتري جهاز تكييف من دون إذنه لأن والدته ـ حليفة الورع والتقوى ـ مصابة بمرض في جهازها التنفسي، وكان الدكتور المشرف على علاجها (وهو الدكتور ضياء العبيدي) قد أخبرني بأن حالتها ستستمر بالتدهور إلا إذا استبدل جهاز تبريد الغرفة المائي بجهاز تكييف غازي.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى السوق لأسأل عن سعر الجهاز كي استأذن السيد الشهيد في شرائه،ولم أكن أخبرته برأي الطبيب، أن علاج والدته منحصر بهذا، ولكني أخبرته بأمر ذهابي إلى السوق لغرض معرفة سعر جهاز التكييف، وهنا كانت المفاجأة، لقد غضب غضبا شديدا، وتغيّرت ملامح وجهه، وأعتقد أني لو كنت ابنه الصلبي لضربني في تلك الساعة، ثم خاطبني منفعلا بقوله:
(هل مات أحساسك؟ هل تريد أن أنعم بالهواء البارد وفي الناس من لا يملك حتّى المروحة البسيطة؟ ألم تعلم بأنيّ اريد لهذه المرجعيّة حياة البساطة والاكتفاء بأبسط مظاهر العيش بل الضروري منه؟)
فوالله العظيم لقد أذهلتني الصدمة وأنا أرى السيد الشهيد قد بلغ به الانفعال والغضب أشدّه وأنه لم يعرف للعاطفة والمحبّة محلا في قلبه.
فقلت له: لقد ذهبت بمفردي إلى السوق ولم يعلم بذلك أحد.
فقال : الناس يعلمون أنك معي وتصرّفاتك يحسب عليّ.
قلت: الطبيب نصح بذلك، ويمكنكم الاستفسار منه، ثم أخبرته بتفاصيل ما قاله الطبيب، هنا عاد إلى وضعه الطبيعي، وبدأ يخفّف ممّا أحسّه في نفسي من تأثّر، وقال:
(أنا يا ولدي اريد أن أغير هذا الواقع بقولي وفعلي، وعليك أن لا تنسى هذه الحقيقة في كل تصرّفاتك وأعمالك في المستقبل).
وأتذكر أيضا أن السلطة الظالمة حينما شنّت حملتها القاسية عام(1974 م) لاعتقال الطلبة والمؤمنين، وانتهت بإعدام الشهداء الخمسة والحكم بالسجن المؤيّد على عدد كبير منهم ، وقد بلغ السيد الشهيد ـ قبل أن تظهر
(1) وهم المرحوم السيد عماد التبريزي , و المرحوم الشيخ عارف البصري , و المرحوم السيد عز الدين القبانجي ,و المرحوم عبد الامير جلو خان ,و المرحوم السيد نوري طعمة .
نتائج الحملة ـ أن المتعلقين يعانون من ضغوط كثيرة منها حرمانهم من الطعام مع ما يتعرضون له من تعذيب شديد ، فتألم وتأثر لذلك كثيرا، فأخذ يفكر في طريقة تساعد المؤمنين في محنتهم، وتعينهم على الصبر والصمود، فدعاني في ظهر يوم من أيام تلك المحنة إلى مكتبته، وقال لي: لقد بلغني أن المؤمنين يتعرّضون إلى مجاعة مع ما يلاقون ن تعذيب، وتحدّث عن ضرورة مساعدتهم بأيّ ثمن، وظلّ يتحدّث حتى فهمت أن لديه رغبة في أن أقوم بهذه المهمة. فقلت له: أنا مستعد لذلك إن شاء الله فقام وأتى بمبلغ في حدود أربعمائة دينار، وقال وزّع هذا المبلغ عليهم أو وفّر لهم الطعام في السجن من دون علم السلطة بمصدر المال، وفي عصر نفس اليوم ذهبت إلى سوق النجف الكبير وهناك تمّ اعتقالي مع جماعة من الطلبة وكان المتوقّع أن انقل إلى بغداد، إلا أن ذلك لم يحصل بسبب امتلاء سجون مديريّة الأمن العامّة بالمعتقلين، وبعد مضي شهر تقريبا وبعد التحقيق تم الإفراج عنّا جميعا بكفالة، وكنّا نحن سجناء مديريّة أمن النجف آخر من افرج عنهم تقريبا.
أمّا في بغداد، فإن السلطة استقرّ رأيها على إعدام الشهداء الخمسة والحكم بالحبس المؤيّد على مجموعة أخرى، واعتقدت السلطة بأن هذه الضربة ستقضي على التحرّك الإسلامي في العراق، أو تشلّه ولو لأمد من الزمن، وعلى هذا الأساس اتخذ التحقيق طابعا أخر، فتقرر أن كل من يعترف ـ ولو اعترافا صوريا ـ بانتمائه لحزب
(1) من صور الفداء و التضحية إن المرحوم الشهيد حجة الإسلام الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي و هو احد وكلاء السيد الشهيد كان معي في نفس المعتقل و كان ضابط الأمن يأخذه يومياً للتعذيب و التحقيق من دوننا و بعد التحقيق يعود و قد تلقى انواع التعذيب ولم يكن احد منا يعرف سبب ذلك إلا انه كان يقول لي على سبيل المزاح: أنت السبب في كل هذا العذاب و أنت المسؤول عنه ولم اكن اعرف ما يقصده بكلمته هذه حتى كان اليوم قبل الأخير من تاريخ الإفراج عنا اذ دعيت مرة أخرى الى التحقيق فقد تبين لي ان السلطة وقعت في اشتباه بينه و بيني فكان رحمه الله يعذب بدلاً مني و كان يعلم بالأشتباه ولكنه لم لهم بالحقيقة , بل ولم يخبرني خشيتة ان اعترف لهم بالحقيقة , و بعد ان عدت من التحقيق و التعذيب خاطبني بعين ترقرق بالدمع وقال : و الله كان بودي ان استمرعلى هذا الحال و لا يكشف امرك , اما وقد عرفوك فالمعذرة الى الله .
الدعوة الإسلامية يفرج عنه في نفس اليوم، فوقع تحت تأثيرها هذا الإغراء الكثير منهم وتم الإفراج عنهم.
بقد علم السيد الشهيد بذلك فتألم كثيرا، ولكن ما عساه يفعل وقد انتهى كل شئ، وكان يظن أن الإفراج عنّ كان لنفس السبب.
علم بوصولي إلى بيته، فتوقّعت منه استقبال الأب لابنه، خاصّة و أنا أعرف كريم خلقه، وصفاء قلبه، ونقاء روحه لم يكن ما كنت اظن ، فقد جاء وعلامات الانفعال والتأثر ظاهره عليه، وقال: إن كنت قد اعترفت فلا تدخل بيتي بعد اليوم، ولا تعرّض هذه المرجعيّة للخطر.
والحقيقة كانت مفاجأة كبيرة لم أكن أتوقعها، بل كانت صدمة هدّت كياني، وكدت اسقط أرضا من وقعها، إذ لم أعلم بما جرى في مديريّة الأمن العامّة في بغداد، ولم أعلم بقصّة الاعترافات.
أكدّت له بأنّي ومعظم الأخوة الذين كانوا معي في المعتقل لم نعترف بشيء وتحمّلنا في سبيل الله حتّى اللحظة الأخيرة ألوان التعذيب، وشرحت له مسار التحقيق بأكمله، عندها تفتّحت أساريره، وطفح السرور على وجهه وقال لي: يا ولدي،غن اعترافك يختلف عن اعتراف الآخرين، إنّ السلطة تعرف موقعك منّي، واعترافك يحسب عليّ، ويجب علينا أن نحمي المرجعيّة ولا نعرّضها للخطر.
وكان يسعى للابتعاد بالمرجعيّة عن الأطر الحزبيّة التي كانت السلطة جادّة في تثبيتها على مرجعيّة، وإلصاقها بها تمهيدا للقضاء عليها.
وفي فترة الاحتجاز قدّم مدير أمن النجف المجرم(أبو سعد) عدّة اعترافات خطيّة للسيد الشهيد وقال له : هذه الأدلّة التي تثبت أن منزلك وكرا لحزب الدعوة، وأنّ بعض أصحابك من أعضائه، وهذه الوثاق تكفي وحدها لإعدامك.
أقول أين ذهبت تلك العاطفة وهو يستقبلني بهذه الشدّة والحدّة وهو يرى آثار التعذيب على جسمي، أليس ذلك الانفعال كلّه من أجل مصلحة الإسلام، ومن أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
3 - من سمات هذه العاطفة أنها عامّة شاملة لكل الناس، فليست هي لأهله وذريّته وأرحامه، ولا لطلابه والمقرّبين مه فحسب، بل لكل أبناء الأمة.
ولله أشهد بأنّني رأيت السيد الشهيد في مواقف تشهد على ما أقول حيث يصبح الإنسان حائرا أمام تلك العظمة، وعند ذلك الشموخ وتبعثه إلى التساؤل عن أنه كيف استطاع أن يربّي نفسه إلى حدّ يتساوى ابنه في الإسلام على ابنه الصلبي إذا كان عطاؤه للإسلام وتفانيه فيه أكثر أهمية وموقعة في العمل الإسلامي أهم وأخطر.
فمن تلك المواقف العجيبة ما رأيته حينما صدر حكم الإعدام على الشهداء الخمسة في عام (1974 م) إذ تأثّر غاية التأثر،كان الحزن يخيّم عليه، وكان الأسى يملأ قلبه، لا يقرّ له قرار، ولا يهدأ له حال وكأنه قد ثكل بأعز ولده، وأصيب بما يشبه الشلل، دخلت عليه في يوم من أيام حادثة إعدام الشهداء الخمسة في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر فوجدته يبكي والدموع تجري وكأنه فقد أعز عزيز عليه،فقلت له: سيدي إذا كنت أنت تفعل هكذا فماذا يجب أن أفعل أنا وأمثالي؟
كفكف دموعه ثم قال لي:
(والله لو أن البعثيين خيّروني بين إعدام أولادي الخمسة وبين هؤلاء لاخترت إعدام أولادي وضحيّت بهم، إن الإسلام بحاجة إلى هؤلاء لا إلى أولادي).
ووالله لقد كان صادقا، لقد رأيته خلال فترة الاحتجاز يضحّي بسعادة عائلته وأولاده من أجل الإسلام، كان كل شيء في البيت يدعو السيد الشهيد إلى فكّ الحجز حيث والدته المريضة طريحة الفراش تشكو بأنينها مصاعب المرض وحرمانها الدواء، وبدأ الجوع آثاره على وجوه أولاده الصغار في تلك الفترة من الاحتجاز، والجو الكئيب الملتف بالإرهاب قتل الابتسامة في وجوههم، وقد طالت المدّة وتمادت، ومع ذلك أبى قبول أبسط شروط السلطة لفكّ الحجز، وقدّم مصلحة الإسلام والمرجعيّة على مصلحته الخاصّة، وسترى تفاصيل ذلك فيما بعد.
من المؤكد أن السيد الشهيد كان يعرف موقع الشهداء الخمسة في التحرّك الإسلامي في العراق، ودورهم الخطير والكبير في خدمة الإسلام لو استمر بهم العمر.
فمثلا المرحوم الشيخ عارف البصري كان من كبار علماء بغداد، وفي مركز من أهمّ مراكزها وهو الكرّادة، وكان محورا كبيرا، تغلغل في قلوب الناس وأعماقهم، وكان من المتوقع أن يؤدي دورا كبيرا في بعث حركة الوعي الإسلامي في بغداد.
وقد لا يصدّق البعض إذا قلت: إن صلة المرحوم الشيخ عارف البصري بالسيد الشهيد كانت ضعيفة جدا، فلم يتفق أن زار السيد الشهيد ولا مرة واحدة طيلة المدّة التي قضيتها مع السيد الشهيد، ولم يكن من وكلائه أو المحسوبين عليه، ومع ذلك فإن القيم التي يتعامل على أساسها شهيدنا العظيم مع الأشخاص والمواقف أسمى بكثير من الاعتبارات الذاتيّة والملاكات الشخصيّة ذات الاتجاه العاطفي الأناني، فهو يبكي على الشيخ عارف لا على أساس صلته الشخصيّة به، على أساس صلته بالإسلام ودوره في مسيرة الجهاد نحو خدمة الرسالة.
وكنت خلال فترة الاحتجاز أخبر السيد الشهيد بإعدام أشخاص من المؤمنين ـ وكان لا يعرفهم ـ فكن يبكي ويقول:
(بأبي أنتم وأمي أيّها السعداء جزاكم الله عن الإسلام، وعن أبيكم، هنيئا لكم، لقد سبقتموني إلى لقاء الله).
وحينما بلغه نبأ إعدام الشهيد آية الله السيد قاسم شبّر، السيد المبرقع، وعشرات آخرين من العلماء والمؤمنين، قبض على شيبته الكريمة ورفع رأسه إلى السماء وقال:
(إلهي بحق أجدادي الطاهرين، ألحقني بهم سريعا، واجمع بيني وبينهم في جنّاتك).
وقد حدّثني في فترة الحجزـ وكنت أتحدث معه عن إمكانية الفرار وإنقاذه من أيدي الظالمين ـ بأنه مصمّم على الشهادة ـ وذكر الأسباب ـ وقال:
(حتّى لو أن السلطة فكّت الحجز عنّي فسوف أبقى جليس داري؟ فليس منطقيّا أن أدعو النسا إلى مواجهة السلطة حتّى لو كلّفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أوّلهم سبقا إلى الشهادة في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال الشهيد المرحوم السيد قاسم شبّر الذي جاوز من عمره).
ومن العجب أن تمتدّ هذه العاطفة حتى إلى أعدائه، ففي فترة الحجز كانت قوات الأمن تطوّق منزل السيد الشهيد تطويقا تامّا وكأنهم ذئاب يتربّصون فريسة لينقضّوا عليها، فكانت هذه العاطفة تمتدّ حتّى إلى هؤلاء. ففي ظهر أحد أيام الاحتجاز كن نائما في غرفة المكتبة فاستيقظت على صوت السيد الشهيد وهو يقول:
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وظننت أن حدثا مّا قد وقع، فسألته هل حدث شئ؟ فقال: كلا، بل كنت أنظر إلى هؤلاء ـ ويقصد قوات الأمن ـ من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى ينصبّ العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار.
فقلت : سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوّقون منزلتكم، ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبّيكم وأنصاركم، هؤلاء هم الذين روّعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممّن هم في أعمارهم؟
فقال: ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب أن نعطف حتّى على هؤلاء، إن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفّر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، كم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين).
ثم نزل إلى الطابق الأرضي وأيقظ خادمه الحاج عباس وأمره أن يسقيهم الماء.
وشهد الله، لم أتمالك نفسي وأنا أراه يرقّ حتّى لهؤلاء، وتذكّرت جدّه الحسين يوم سقى الحرّ بن يزيد الرياحي وعسكره في طريق كربلاء، ويوم جلس يبكي في نهار عاشوراء وهو ينظر إلى الألوف المؤلّفة، فيسأل ممّ بكاؤك يا بن رسول الله فيجيبهم بأن بكائي لهؤلاء الذين سيدخلون النار بسببي.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبهك بأجدادك الطاهرين يا أبا جعفر، فلقد أحييت بمواقفك مواقف أجدادك الطاهرين وجعلتنا نعيشها حيّة ماثلة في شخصك، فسلام عليك حيّا وميتا.
ومن العجيب أن هذه المشاعر الحيّة والعواطف الصادقة أثرت حتّى على هؤلاء الذين كانوا يطوقّون منزل السيد الشهيد من قوات الأمن. وأتذكّر أنّ أحدهم وكان (ضابط أمن) وكان يرأس هذه القوت بعث رسالة شفهيّة إلى السيد الشهيد قال فيها:(سيدي لا تتنازل لهؤلاء الجبناء ـ يقصد حكّام البعث ـ إنّهم يرتجفون خوفا منك، إنّ حذاءك أشرف منهم جميعا...).
وقد قام هذا الضابط بخدمات كبيرة خلال فترة الحجز أذكر منها القضية التالية: في فترة حجز السيد الشهيد قسّمت السلطة البعثيّة المجرمة القوت الخاصّة بمراقبة منزل السيد الشهيد إلى مجموعات ثلاثة تتناوب في مراقبتها للمنزل، وكانت كل مجموعة مكلفة بالمراقبة مدّة ثماني ساعات، وكان يرأس كل مجموعة ضابط من قوات الأمن يتحمّل مسؤولية الإشراف المباشر على عملية الاحتجاز، وكان الضابط المتعاطف مع السيد الشهيد يباشر عمله في فترة ما بعد الظهر وحتّى المساء تقريبا. ولمّا سمحت السلطة ـ بسبب الضغوط الجماهيريّة عليها ـ لعائلة السيد الشهيد بالخروج من البيت لقضاء بعض حوائجهم الضروريّة كان أحد أفراد الأمن يلاحق من يخرج من البيت من اللحظات الاولى وحتى العودة، وكانت الشهيدة بنت الهدى أكثرهم تحرّكا ، فكانت تخرج في كلّ يوم تقريبا وفي ساعة محدّدة بتكليف من السيد الشهيد، وكانت هذه المراقبة تشكّل حرجا كبيرا لها ، ولن ما كان ذلك يثني الشهيدة بنت الهدى بطلة المهمّات الصعبة ورسولة السيد الشهيد في كلّ ما يعجز عنه الرجل، فقد أخبرته أمامي بأنها مستعدة لتنفيذ أي مهمّة، أو أداء أي دور يأمر به السيد الشهيد ولو كلّفها ذلك حياتها.
ولم يكن له من خيار إلا القبول بهذا العرض التضحوي، فقد كان بحاجة إلى معرفة الكثير من المعلومات والأمور، ودراسة الأوضاع وما يجري على الساحة بدقّة تامّة، والشهيدة هي أفضل من يتحمّل مسؤولية ذلك.
وبدأت بتنفيذ مسؤوليتها الصعبة، فقد اتّفقت مع الأخت الصالحة أمّ فرقان أن تلتقي بها في كل يوم تقريبا في حرم الإمام علي، فكانت تخرج من البيت عصرا في ساعة معيّنة فيتبعها أحد أفراد الأمن على حسب عادته أداء لمهمة المراقبة الموكولة إليه، فتدخل الحرم الشريف، ويبقى رجل الأمن ينتظرها عند (الكشوان) الذي أودعت حذاءها عنده وهو يظن أن الشهيدة داخل الحرم الشريف، وحينئذ تتمكّن الشهيدة مع الأخت أم فرقان من الخروج من إحدى الأبواب الأخرى للحرم مستفيدة من حذاء آخر كانت قد وفّرته لها صاحبتها، وبعد أن تكمل مهمّتها تعود إلى الحرم، وتخرج من الباب الأوّل الذي يقف عنده رجل الأمن منتظرا خروج الشهيدة، وهو يعتقد أنها لم تخرج من الحرم خلال تلك المدّة، واستمر الوضع على هذا الشكل لفترة لا بأس بها.
كان ذلك الضابط قد رصد الساعة التي تخرج فيها الشهيدة في كل يوم، فكان قبل موعد خروجها يستدعي قوات الأمن المحيطة بمنزل السيد الشهيد إلى زقاق قريب
(1) الاخت ام فرقان من المؤمنات الصالحات , و من خواص الشهيدة بنت الهدى , و هي زوجة الاخ العلامة الشيخ عباس الحكيم , لها دور مهم في ايام الإحتجاز وقبله ,جزاها الله خير الجزاء .
منه بحجّة توجيههم أو إبلاغهم ببعض المعلومات والأوامر بحيث يخلو الزقاق منهم، وحينئذ تتمكّن الشهيدة من الخروج والذهاب حيث تشاء من دون مراقبة أو مضايقة، ثم يكرر نفس العملية تقريبا قبل عودتها ، وهكذا كان يفعل في أغلب الأحيان في خطرة تعاطف مع السيد الشهيد.
وكان السيد الشهيد مسرورا لذلك، وكان يقول:
(إن الحجز نعمة كبيرة، لقد جعل هؤلاء وأمثالهم يتعاونون معنا ونحن في هذه الظروف.
وشاء الله عز وجل أن يكرم هذا الرجل بالشهادة مع عدد من قوات الأمن الذين كانوا معه، فقد عثرت السلطة على منشورات ضدّها كان يكتبها بالآلة الطابعة العائدة إلى مديرية أمن النجف ويوزعها في أهمّ مراكز السلطة التي كان من المستحيل أن تصل إليها المجاهدين.
ولمّا بلغ السيد الشهيد خبر إعدامهم قال لي:
(انظر، كيف اهتدى هؤلاء، يجب أن تسع قلوبنا حتّى هؤلاء).
ممّا يذكر أيضا أن حادثة وقعت خلال فترة الاحتجاز كانت لها أهمية خاصّة، وهي تعبّر عن نفس الروح في القضية السابق، فقد وصلتنا رسالة بواسطة الحاج عباس خادم السيد الشهيد كانت تتضمن بيان عواطف ومشاعر وتألّم على ما يجري على السيد الشهيد من محن ومصائب، كتبت بعبارات خليطة من الكلمات الفصحى والعامية، وكان أهم ما فيها أن الموقعين فيها عاهدوا السيد الشهيد على اغتيال قوات الأمن المحاصرين لمنزله، وحددوا يوما وساعة معينين، وضمّنوا الرسالة مبلغا بسيطا من المال هدية للسيد الشهيد واعتذروا من قلّته.
قرأت الرسالة، ثم اطلعت السيد الشهيد علها، وأخبرته بأن بعض هؤلاء غير معروفين بالتديّن، ومن المحتمل أن تكون هذه العملية مدبّرة من قبل السلطة لمعرفة ما إذا كان لنا اتصال أو تعاون مع جهات أو أشخاص خارج البيت، فقال فلننتظر الموعد الذي حدّدوه في رسالتهم فمن خلال ذلك يتبيّن الحال.
ترقّبنا الأحداث حتّى حان الوقت المعيّن حيث كنا ننتظر ما يحدث، فإذا بمجموعة من الشباب الملثّمين يهجمون على قوات الأمن وينهالون عليهم طعنا بالسكاكين بعد أن حاصروهم من طرفي الزقاق، وكان السيد الشهيد ينظر إليهم من خلال فتحة صغيرة في النافذة.
بعد هذه العملية شدّدت السلطة من إجراءاتها الأمنيّة، وزوّدت رجالها بالرشاشات والقنابل، وأجهزة اللاسلكي، ومنعوا الناس لفترة طويلة من المرور خلال الزقاق خوفا من علمية مشابهة.
علّق على هذا الحادث فقال:
(لو قدّر للحجز أن يفك عنّا، وتعود الأمور إلى طبيعتها، فسوف أصرف قسما كبيرا من الحقوق الشرعيّة على تربية هؤلاء، إنّهم يملكون الشجاعة التي نحتاجها في مسيرتنا الجهاديّة،هؤلاء أفضل عند الله من الذين تخلوا عنّا، أو الذين اتهمونا ببعض التهم، ونحن نعاني ما نعاني في الحجز).
ولا اريد أن أتعرض لهذا الجانب المؤلم ولمواقف البعض خلال تلك الفترة، والمعاناة الرهيبة التي كان يعانيها من هؤلاء الذين كانوا مع سلطة البعث في مواقفهم وتوجهاتهم، وإنما أذكر فقط نموذجا واحدا ليتصور القارئ الكريم من خلاله حجم المعاناة وعظيم المحنة، وبلاغة المظلومية التي كانت تحوط بالسيد الشهيد.
في لتك الفترة العصيبة والسيد الشهيد يعيش تلك المشاكل الكبيرة، ويتحمّلها بروح الصابرين المؤمنين يبعث أحدهم غليه برسالة مضمونها كما يلي:
(إننا نعلم أن الحجز مسرحية دبّرها لك البعثيون، وأنت تمثّل دور البطل فيها، والغرض منها إعطاؤك حجما كبيرا في أوساط الأمة، إنّنا نعلم إنّك عميل لأمريكا، ولن تنفعك هذه المسرحية)!؟
لقد رأيت السيد الشهيد قابضا على لحيته الكريمة وقد سالت دمعة ساخنة من عينه وهو يقول:
(لقد شابت هذه من أجل الإسلام، أفؤتّهم بالعمالة لأمريكا وأنا في هذا الموقع؟!!.
ومن المواقف الرائعة التي لازال لها وقع في نفسي قصّة ذلك الشاب الذي فجع في لحظة واحدة بجميع هل بحادث سيارة.
كان هذا الشاب في غاية التأثر، يكاد قلبه يتقطّع من هول المصيبة التي حلّت به، يبكي بالانقطاع بزفرات تبكي الصخر الأصم، ولا يستطيع أحد وهو يرى هذه الحالة إلا أن يواسيه بدمعة حارة، سألني صديقه عن إمكانيّة اللقاء بالسيد الشهيد في هذه الساعة من الليل، فوجدت أن من المناسب أن يواسي هذا الشاب المصاب، وكنت أظن أن أحدا لا يستطيع أن يخفّف من هول الصدمة التي يعاني منها، وكنت أحسب أنّه سوف يخرج بنفس الحالة التي جاء بها.
جاء السيد الشهيد فأجلس الشاب المفجوع إلى جانبه، وبدأ بعاطفته الحارّة، وبكلماته الرقيقة يخفف عليه من معاناته ويهوّن عليه من مصيبته، ولما أن تمكّن من قلبه بدأ يشرح له حقيقة الموت، وأنه بداية الطريق إلى حياة أسعد وأجمل من حياتنا هذه، وقرأ له بعض الآيات والروايات، ثم قال له: إذا كنت قد فقدت أباك فأنا أبوك، وإن كنت فقدت إخوتك فهذا ولدي جعفرا أخوك ـ كان جعفر واقفا عند الباب ـ بل جميع هؤلاء إخوتك.
كان هذا الشاب يصغي للسيد الشهيد وقد أخذت هذه الكلمات الموشّحة بأرقّ العواطف والمشاعر مأخذا من قلبه، وبدأت ابتسامة ترتسم على وجهه، فأحس الراحة و الإطمئنان.[/align]
-
[align=justify]ثم أمر (رضوان الله عليه) بإحضار العشاء ,و اظن انه اشترك معنا, وبعد ذلك خرج الشاب وقد اطمأنت روحه وسكنت نفسه، وكأنه لم ينكب بمصيبة كبيرة.
وفي ختام هذا الموضوع الذي لم أقصد به إلا ذكر بعض الإثارات عن هذا الجانب من شخصية السيد الشهيد أو دلّ أن أسجل النص التالي الذي كتبه وهو يتعلّق بموضوعنا هذا باعتباره وثيقة هامة للدارسين والباحثين.
لما توفي المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي بحادث سيارة في إيران تأثر تأثرا بالغا، وكان في تلك الفترة مشغولا بتأليف كتابه (دروس في علم الاصول) فأهدى ثواب كتابه إليه، وحسب علمي لم أر أستاذا وهو بهذه المكانة والمنزلة قد فعل مثل ذلك، فكتب في مقدمة الحلقة الاولى ما يلي:
( يا إلهي وربّي، يا عالما بضري وفاقتي، يا موضع أملي ومنتهى رغبتي، أي رب وتقرّبا إليك بذلت هذا الجهد المتواضع في كتابة الحلقات الثلاث، لتكون عونا للسائرين في طريق دراسة شريعتك، والمتفقّهين في دينك، فأن وسعته برحمتك وقبولك ـ وأنت الذي وسعت رحمتك كل شئ ـ فإني أتوسل إليك يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، أن توصل ثواب ذلك هدية منّي إلى ولدي البار وابني العزيز السيد عبد الغني الأردبيلي الذي فجعت به وأنا على وشك الانتهاء من كتابة هذه الحلقات، فلقد كان له الدور البليغ في حثّي على كتابتها وإخراجها في أسرع وقت، وكانت نفسه الكبيرة وشبابه الطاهر الذي لم يعرف مللا ولا كللا في خدمة الله والحق، الطاقة التي أمدتني ـ وأنا في شبه شيخوخة متهدمّة الجوانب ـ بالعزيمة على أن أنجز دل هذه الحلقات في شهرين من الزمن ،وكان يحثّني باستمرار على الإسراع، لكي يدشّن تدريسها في حوزته الفتية التي أنشأها بنفسه وغذّاها من روحه من مواطن آبائه الكرام، وخطط لكي تكون حوزة نموذجية في دراستها وكل جوانبها الخلقية والروحيّة.
ولكنّك يا ربّ دعوته فجأة إليك فاستجاب طائعا، ووالله ما عرفته خلال العشرين عاما التي تتلمذ علي وترعرع إلى جانبي إلا سريعا إلى إجابتك، نشطا في طاعتك، لا يتردد ولا يلين، ولا يتلكأ ووالله ما رأيته طيلة هذه المدّة غضب لنفسه، وما أثر ما رأيته يغضب لك، وينسى ذاته من أجلك...
أي رب، إنّي إذا كنت قد عجزت عن مكافأة هذا الولد البار، الذي كان بالنسبة لي وبالنسبة إلى أبيه معا مثالا للولد المخلص الذي لا يتردد في الطاعة والتضحية والفداء، وإذا كنت قد فجعتنا به وأنا في قمة الاعتزاز به وبما تجسّدت فيه من عناصر النبل والشهامة والوفاء والإيثار، وما تكاملت فيه من خصال التقوى والفضل والإيمان.
وإذا كان القدر الذي لا راد له قد أطفأ أملي في أن أمتدّ بعد وفاتي، وأعيش في قلوب بارّة كقلبه، وفي حياة نابضة بالخير كحياته فإني أتوسل إليك يا ربيّ بعد حمدك في كل يسر وعسر أن تتلقّاه بعظيم لطفكن وتحشره مع الصدّيقين من عبادك الصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد وفاته ووفاتي بعد أن حرمت من ذلك في حياته، وأرجو أن لا يكون انتظاري طويا للاجتماع به في مستقر رحمتك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين).
هذا ما كتبه عن أحد طلابه الأبرار.
وكتب أيضا بنفس الروح الشفّافة والعاطفة الصادقة رسالة إلى خادمه الوفي المخلص محمّد علي المحقّق الذي عذّب بأيدي الظالمين في بيت السيد الشهيد أثناء الاعتقال الأول الذي تعرض له ، فقد كتب له رسالة
عاطفيّة تعبّر عن روح أبويّة، تجدها بخطّه الشريف في صفحات الكتاب الأخيرة:
[align=center]الشهيد الزاهد[/align]
قد يطول الحديث لو أردت أن أكتب عن هذا الجانب من حياة السيد الشهيد فلقد كان المثل الرائع في الزهد بمفهومه الإسلامي الصحيح.
أمّا النسب الذي دفعني للكتابة عن هذا الجانب من حياته فهو ما لسمته فيه من تجسيد رائع لفكر الأخلاقي الإسلامي الرفيع، ونهج حقيقي لطريق أهل البيت، فكان الزاهد الحقيقي الذي يعتبر قدوة صالحة لمن أراد أن ينهد هذا الخط ويمثّله.
ولم يكن الشهيد الصدر يتزهّد في حكام الدنيا، لأنه لا يملك شيئا منها أو لأنه فقد أسباب الرفاهية في حياته فصار الزهد خياره القهري، ولو كان كذلك لأغفلت الكتابة عن هذا الجانب من حياته، بل زهد في الدنيا وهي مقبلة عليه، وزهد في الرفاه وهو في قبضة يمينه، وكأنه يقول (يا دنيا غرّي غيري.).
وأيضا لو كان زهده في الدنيا، وفي رفاه العيش فيها بسب تحرّجه من صرف الحقوق الشرعية على نفسه لكان موقفي أيضا غير هذا، باعتبار أن ذلك من اولى واجبات الفقيه النموذجي، ولكن أن يكون بإمكان الشهيد الصدر أن يحي أفضل حياة، ويعيش أسعد عيش بماله الخاصّ الحلال الطيّب، ومع ذلك يزهد في مأكله وملبسه، وشراء دار أو سيّارة، أو غر ذلك، فهو الزهد الحقيقي الذي يجعل الإنسان يكبر هذه الشخصية العملاقة.
والزهد بذاته حسنة يتقرّب بها الإنسان إلى بارية عز وجل ويكسب بها رضاه، والشهيد الصدر أحد الأعلام في سماء التقوى يتوهّج نورا مع الزاهدين من علمائنا الأبرار، إلا أني اعتقد أنّه استهدف بزهده أيضا ما هو أكبر من مسألة تربية النفس وتطهيرها، إنه أراد أن يجسّد النموذج المثالي للمرجع الربّاني، وينشئ مرجعيّة ترابيّة زاهدة تجسّ مفهوم القيادة العلوية المضحيّ، تكتفي بمطرين وقرصين ، كما كان علي يفعل، فكانت سيرته وسلوكه أبلغ داع للإسلام، ومبلغ له.
لقد أدراك الشهيد الصدر أن المرجعية بما هي كيان قيادي للمسلمين مستهدفة من قبيل السلطة الحاكمة، في ظرف كانت تواجه فيه انتقادات خطيرة من بعض قواعدها الشعبية يتعلّق ببعض القضايا الماديّة، فكان لابدّ من حمايتها لأن في ذلك حماية الإسلام، فكان الهدف إذن هو الدفاع عن الإسلام.
فهو زهد جمع بين حسنتين، التقرّب إلى اللّه تعالى بذات الفعل، والدفاع عن دينه بتجسيده سلوكيّا.
وهنا أسجل بعض النماذج مما بقي في ذاكرتي لعل القارئ العزيز يتمكّن أن يحيط من خلالها بعظمة هذا الفقيد العزيز.
1 - كان زاهدا في ملبسه بالمقدار الذي تسمح به الظروف الاجتماعية، في الوقت الذي كان بإمكانه لبس أرقة الأقمشة. ويعلم الله أنه ما رأيته لبس عباءة يزيد سعرها عن خمسة دنانير في الوقت الذي كانت تصله أرقى أنواع الملابس والأقمشة ممن يحبّونه ويودّونه.
وكان قد أمرني بالاحتفاظ بجميع الهدايا من الأقمشة وغيرها لتوزيعها على الطلبة فيما بعد، وكان إذا حضر في مجلسة العامّ المنعقد قبل ظهر كل يوم لاحظ أوضاع الطلبة الحاضرين، فإن رأى أن ملابس أحدهم غير لائقة ومناسبة لشأن طالب العلم ويأمرني بإيصال قطعة قماش له مع أجرة خياطتها.
بل رأيت العجب في بوم ممن الأيام، وذلك بعد جريمة إعدام الشهداء الخمسة حي أصيب بخدر شديد في رجله أعجزه عن الحركة عدّة أيام، فلما أراد الاستحمام طلب منّي مساعدته، فلما دخل الحمام رأيت ما نسمّيه بـ(الفانيلة) وفيها أكثر من مزق، فقلت له: سيدي هذه (الفانيلة) ممزّقة، فهل أشتري لكن غيرها؟ فقال: كلا، هذه لا يرها أحد. ولقد رأيته مرارا يصلح ملابسه بنفسه.
2 - وفي يوم من الأيام دخل عليه خادمه الوفي (محمّد علي المحقّق) في وقت لم يتوقّع دخول أحد عليه، وكان جالسا في مكتبته فوجده يأكل خبزا يابسا وبيده قدحا من الماء، ولم يكن يتوقّع صعود الأخ محقّق في تلك الساعة، فخجل خجلا شديدا، وأدار وجهه إلى الحائط وهو لا يدري ما يفعل.
وحدّثني الأخ محقّق أنه سمع السيد الشهيد يخاطب خادمة كانت عندهم تعرف بأم صالح بقوله:(إذا بعثتي بوجبة الغداء لآغاي محقّق، فابعثي معه الخبز الحار، واتركي لنا الخبز البارد).
3 - رغم تحسن الوضع المالي للسيد الشهيد في السنوات الأخيرة فقد بقي حال منزله من ناحية التأثيث وما فيه من لوازم منزليّة على حاله، وكنت في فترة الاحتجاز احدّث نفسي فأقول لو أن السلطة البعثيّة أرادت مصادرة محتويات هذا المنزل فهل ستجد شيئا ماذا يستحق المصادرة؟ ومع ذلك فبعد استشهاده سلبت السلطة جميع ما فيه من أشياء بسيطة لتؤكّد خبثها ودناءتها.
وقد سمعت السيد الشهيد يقول:
(يجب علي وأنا في هذا الموقع ـ يعني المرجعيّة ـ أن أكون ـ في مستوى العيش ـ بمستوى الطلبة الاعتيادي).
وكان كذلك، فإن ما في بيته بمستوى ذلك إن لم يكن أدنى.
فمحتويات منزله عبارة عن غرفة الاستقبال وفيها سجّادة لا أعلم هل أهديت له أم قد اشتراها لأنها قديمة، وعلى يسار غرفة الاستقبال غرفة أخرى مفروشة هي مقبرة آل المامقاني ليس للسيد الشهيد فيها قليل أو كثير.
وإذا صعدت إلى المكتبة وجدتها مفروشة بقطعتين مما نسميّه بـ(البسطة) وهي جزء من صداق والدة السيد الشهيد.
وفي داخل ـ مسكن العائلة ـ توجد غرفة هي للنوم وللضيوف ولجلسة العائلة الاعتياديّة لا تحتوي إلا على أبسط المفروشات.و توجد غرفة فوقها خاصّة بالسيد الشهيد مفروشة بما نسميّه بـ(الكنبار) مع منادر النوم، وهذه الغرفة أقرت إلى المخزن من غرفة الاستراحة والنوم.
وأتذكر أن السيد الشهيد فوجئ يوما بعدد من الضيوف، واقتضت الظروف بقاءهم لما بعد الظهر، فكان لابد من تقديم الغداء لهم، ورغم أن عددهم كان لا يزيد على خمسة عشرة شخصا، فلم يكن ما في البيت من لوازم يكفي لهذا العدد، وأحس بذلك أحد أصدقاء السيد الشهيد، وكان صدفة في ذلك الوقت في البيت فذهب إلى السوق واشترى ما كان يلزم من صحون وملاعق.
وهكذا استمر وضعه إلى آخر يوم من حياته، وسوف تجد تفاصيل عن هذا الموضوع في كتاب: (مذكّراتي عن الشهيدة بنت الهدى).
4 - وكان حله في مأكله كذلك، إذ يحاول الاكتفاء مع عائلته بأبسط ما يمكن، ويحرص على الاحتفاظ بمستوى مقبول من العيش، وكانت زوجته الطاهرة تكتب في كل يوم ورقة صغيرة باحتياجات البيت وتسلّمها (لآغاي المحقق) ليوفرها لهم، وهي الاحتياجات البسيطة المتعارفة، فأمرني بالإشراف على تلك الورقة خشية أن يكون فيها من الطلبات أكثر من المألوف ، بل كان في بعض الأحيان بشرف عليها بنفسه، وسمعته يقول: لا أرضة بشراء الفواكه مهما كان المبررّ، حتّى لو كان ذلك من أجل الضيوف، ويجب أن ننتظر إلى الوقت الذي يتمكن جميع الناس من شرائها.
وأتذكر أني كنت في السوق وكان معي ولده السيد جعفر وكان طفلا، فرأى الموز بلونه الأصفر الجميل يباع في السوق فأحبّ أن يأكل منه فاشتريت له كيلو غرام واحد من مالي الخاص، فأكل منه وأعطي لأخته الصغيرة أيضا وانتهى كل شئ، وحسبت أن الامر قد انتهى، ولكن بعد ساعة من ذلك جاء السيد الشهيد يلومني على ما فعلت عندما لاحظ قشور الموز في سطل النفايات فعرف الأمر، ثم دعا ولده ينصحه بكلمات جميلة ورقيقة أحفظ منها هذه العبارة:
(ولدي إنّ موز الجنّة أطيب وألذ من هذا الموز).
ولا اغالي إذا قلت: إن الزهد من سمات هذه العائلة المظلومة، وخلق من أخلاقها، فقد تعوّدوا على العيش والاكتفاء بما هو موجود، بل كانوا لا يحبّون التمايز والتفاخر على غيرهم.
وأذكر أني حينما كنت معه في الحجاز لأداء العمرة وكانت العائلة برفقته أيضا لم نذق اللحم خلال كل تلك المدّة، وكان معظم طعامنا الخبز والبيض واللبن، ولما مازحته عن هذا الأمر قال لي:(جئنا لنعتمر لا لنأكل).
5 - استشهد وهو لا يملك وسيلة للنقل (السيارة) وكان أحد الأخيار قد أوصى بسيارته (التويوتا) للسيد الشهيد ولما استلمها أمر ببيعها ليضيف قيمتها إلى أموال الرواتب والمساعدات، في قوت كان بأمس الحاجة إلى وسيلة للتنقّل، فمن ناحية كان يواجه حرجا من أخلاق بعض السواق وتصرفاتهم، ومن للتنقل، فمن ناحية أخرى كانت الأوضاع الأمنية تتطلّب ذلك، ورغم إلحاحنا عليه بعدم بيعها، إلا أنّه أصرّ على ذلك، وظلّ إلى آخر يوم من حياته مكتفيا في تنقّله بسيارات الاجرة أو سيارات الأصدقاء.
6 - استشهد وهو لا يملك دارا ولا عقارا، ولم أره يفكر إلا بشراء مقبرة له ولطلابه وسوف أتحدث عنها.
لقد شهدت عدّة عروض قدّمت له لشراء دار له من أموال خاصّة وليست حقوقا شرعيّة،ومن ذلك عرض تقدّم به تاجر من أهل البصرة، وكان محبا للسيد الشهيد فقد علم بأن دارا تقع إلى جانب منزل السيد الشهيد معروضة للبيع فحاول شراءها وأخبره بأن مال الشراء مال شخصي وليس حقوقا شرعيّة، فرفض السيد الشهيد قبول هذا العرض وقال له:
(إذا اشتريت هذه الدار فإني سوف اوقفها لسكن الطلاب ولن أسكنها أبدا).
فقال المتبرّع: أريدها دارا خاصّة لكم.
فقال السيد الشهيد:
(أنا لن أمتلك دارا حتّى يتمكّن كلّ طلبة من شراء دور لهم، وحينئذ سأكون آخر من يشتري.
وهناك رسالة بخط السيد الشهيد تتعلق بهذا الجانب تغني عن الكثير مما يجب أن يكتب عن هذا الجانب من حياته.
وكان يربّي أطفاله على هذا السلوك، وأتذكر حينما كنت أساعده في فرز المال وتقسيمه في آخر كل شهرن كان بعض أطفاله ـ وهن صغار ـ يحضرون معنا تلك الجلسات فيرون أكوام المال فيتعجبون، فكان يترك العمل ويتحدث معهم فيقول:
(أبنائي، هذا المال ليس لي، هذه أموال صاحب الزمان(عجّل الله فرجه)، هذه أموال المسلمين أمانة بيدي... أولادي، المال ليس مهما، وهذه الدنيا لا قيمة لها،إنّنا نريد الآخرة والآخرة خير لنا وأبقى).
ويتحدث معهم بأمثال هذه العبائر والمفاهيم.
7 - في فترة الحجز جمع (رضوان الله عليه) كل ما بحوزته من أموال، سواء كانت من الحقوق الشرعيّة أو من أمواله الخاصّ، وبعثها إلى سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي ولم يبق إلا القليل.
وأتذكر أني حينها قلت له :(نحن لا ندري متى سيستمر الحجز، فماذا سنفعل لو نفد هذا المال).
فقال :
(1) راجع وثيقة رقم (8) ,ص 340.
(أحب أن ألقى الله تعالى وأنا كذلك، لا شيء في ذمّتي، أمّا رزقنا فإن الله يكفينا وهو وليّنا، أنا لا اريد ان تقع هذه الأموال بيد السلطة بعد استشهادي، وإن شاء الله لنا السلامة فسوف أصرفها في مواردها الشرعيّة).
وكان الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد الخميني قد بعث بمبلغ مائة ألف دينا للسيد الشهيد وهو في الحجز فأمر أيضا بتسليمها لسماحة السيد الهاشمي، ورفض أن تبقى عنده تحرجا من المسؤولية الشرعيّة.
وعلم ألله لقد كان السيد الشهيد بأمسّ الحاجة إلى المال وهو محتجز،منقطع عن الدنيا، ووالله لا أدري كيف استطاعت عائلته توفير اجره السيارة التي نقلتهم إلى بغداد بعد استشهاده، حيث أعلم وخاصّة في الأيام الأخيرة من الحجز أن لا قليل ولا كثير بقي عندهم.
8 - في الشهر الأوّل من الحجز منعت السلطة الظالمة دخول المواد الغذائية إلى منزل السيد الشهيد، وقطعت الماء والكهرباء والهاتف في محاولة لقتل جميع من في البيت، وكان وضعا محرجا، لقد كنت في خدمة السيد الشهيد جالسا في مكتبته وكانت آثار الجوع بادية عليه، والشحوب يغطي وجهه، وكان يتحدّث معي فمرّت من أمامنا طفلة من أطفاله فرق لها قلبه، وسالت دمعة من عينه، وقال :
(سيقتلون هؤلاء بسببي، ليتهم يحجزوني وحدي ويطلقون هؤلاء). لقد نفد كل ما كان موجودا من طعام، وبدأنا نعاني معاناة لا يعلمها إلا الله، ولم تبق إلا قطع قليلة من الخبز اليابس والتالف، فكانت العائلة تهيّئة لنا كطعام شعبي من الأطعمة المعروفة في العراق، فكان يأكل منه وهو يقول:
(إن ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا، لأنه في سبيل الله عز وجل).
9 - في الوقت الذي كانت فيه العروض تتوالى من هذا وذاك لشراء دار للشهيد السعيد، كان يرفض ذلك، ويسعى لشراء مقبرة له ولطلابه، ففي السنوات الأخيرة من عمره الشريف بدأ بالبحث عن قطعة أرض قريبة من الصحن الشريف خالية من كل شبهة ليجعلها مقبرة، وقد كلّف الأخ حجّة الإسلام السيد المحمود الخطيب بالبحث عن المكان المناسب لهذا الغرض.
وكان أمله أن يدفن مع طلابه في مكان واحد، وقد قال مرارا: إنه سيجعلها خاصّة به وللذكور من ذريّته ولطلابه. وكان قد جمع مقدارا من المال لهذا الغرض، ولولا أحداث رجب، وما تبعها من احتجازه لنفّذ هذا الأمر.
هذه نماذج مقتضية أردت بذكرها الإشارة إلى ما كانت نفسه الكبيرة تتمتع به من زهد وإعراض حتى عن أبسط مظاهر الحياة الماديّة، وهذه الحالة السامية أراد بها أيضا الحفاظ على قدّسية المرجعيّة، وخدمة الإسلام.[/align]
-
[align=justify][align=center]السيد الشهيد في عبادته[/align]
من الجوانب الرائعة في حياة السيد الشهيد الجانب العبادي، ولا يستغرب أحد إذا قلت: إنّه كان يهتّم في هذا الجانب بالكيف دون الكمّ، فكان يقتصر على الواجبات والمهم من المستحبّات.
كانت السمة التي تميّز تلك العبادات هي الانقطاع الكامل لله سبحانه وتعالى، والإخلاص والخشوع التاميّن، قال الله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون). كان لا يصلّي، ولا يدعو، ولا يمارس أمثال هذه العبادات إلا إذا حصل له توجّه وانقطاع كامل، وكان متكتّما على أمره هذا، ومتخفيّا في عبادته، ولا يعرف أقرب الناس منه شيئا عن هذا الأمر.
الأمر الذي يثير الدهشة أن يتمكن الإنسان، وخاصّة من هو في مثل موقع السيدالشهيد والذي يعيش الكثير من المشاكل والهموم الكبرى أن يتجرد منها في ثلاثة أوقات على الأقل، بحيث تحصل له حالة من الانقطاع والخشوع التامّين في كلّ يوم وعلى مدى العمر. إنّ هذا الأمر من الأمور الشاقّة جدا، والتي لا يتمكن إلا النوادر ممن تحقيقها على هذا المستوى الرفيع.
ولم أكن مطلعا على وضعه هذا إلى أن وقعت بعض الأمور التي أثارت انتباهي، وحفّزتني على الاستفسار منه، وعندها كشف لي عن أمره هذا.
كانت المرّة الاولى التي أحسست فيها بهذه الظاهرة حينما طلب منه عدد كبير من العلماء والمؤمنين الصلاة بهم إماما في الحسينيّة الشوشتريّة، وكان بعض أهل الرأي، ومنهم المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين يرون ضرورة هذا العمل لأنه يشكّل حصانة للسيد الشهيد من بطش السلطة واعتدائها، ويجعل وجوده الديني والاجتماعي أمرا واقعيا يصعب تحدّيه.
وبعد أن عرضت الفكرة عليه رفضت قبولها، ولم أكن أعرف السبب الحقيقي للرفض، وكن أظن أن هذا العلم سيكون من الأعمال الإضافية التي تحمل عليه لتضاف إلى جدول أعماله اليومي الكبير، خاصّة أن صلاة الجماعة تتطلب التزاما يوميّا مستمرا.
وفيما بعد أصر عليه خاله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، وألح عليه كثيرا، فاضطر إلى الاستجابة، فصلّة بالناس إماما صلاتي الظهر والعصر في الحسينيّة الشوشتريّة.
وحدث أن جاء قبل تلك الفترة ضيف ذو شأن كبير من لبنان، وكان وصوله بعد أذان الظهر بقليل، وكان السيد الشهيد جالسا على مصلاه، فأخبرته بوصول ـ فلان ـ فأمرني باصطحابه إلى الغرفة، وقام فجلس في الزاوية التي أعتاد الجلوس فيها من الغرفة متهيئا لاستقبال ضيفه.
وبعد دقائق صعدت إلى الغرفة مع الضيف وإذا بي أرى السيد الشهيد قد وقف فكان يذهب ف يذلك الوقت إلى المسجد حافي القدمين، وكنت أطوف معه، فوالله ما تمكّنت من إكمال شوط واحد، حتّى قطعت طوافي وذهبت مسرعا إلى الظل، فقد شعرت أن باطن قدمي قد التهب من شدّة الحرّ، وما طفت في تلك الساعة إلا منتعلا. فكنت أعجب من حال السيد الشهيد وهو يطوف ويصلّي، وكأنّه في الجو الطبيعي الملائم، فسألته يوما بعد عودتنا من المسجد الحرام عن هذه القدرة العجيبة من التحمّل، فقال:
ما دمت في المسجد الحرام لا أشعر بالحرارة، نعم بعد أن أعود إلى الفندق أحس بألم في قدمي).
ولم يكن ذلك إلا بسبب انقطاعه وتوجّهه إلى الله تعالى، وإلا فإنّه كان يتضايق من الحرّ في الظروف الطبيعيّة.
وذهبت معه في المدينة المنوّرة إلى البقيع لزيارة الأئمة الأطهار، فدخل من الباب حافي القدمين بخشوع وخضوع، فاقترب من قبور أجداده الأطهار وبدأ بزيارتهم وكأنّهم أمامه يراهم ويرونه، والدموع تنهمر من عينيه دون انقطاع، وقد حلّق إلى عالم آخر في مشهد فريد من الولاء والحب لأهل البيت.
وكان لهذا الصفاء آثاره،وكان لهذا الانقطاع دوره في وقوع بعض الكرامات،
(1) في هذه السفرة حشدت السلطة عدداً كبيراً من قوات الأمن رجالاً و نساءاً لمراقبة السيد الشهيد, بدأو مسيرتهم معنا من مطار بغداد فكانوا معنا في الطائرة و في الفندق و في كل مكان ولم نكن بحاجة الى جهود كبيرة لكشفهم فهم و من خلال تصرفاتهم و أسئلتهم كشفوا عن هويتهم منذ اليوم الأول و قد اضطربت السلطة في تلك الفترة بسبب توهمها بأن السيد الشهيد رحمه الله يحاول الخروج من الحجاز الى لبنان و كان سبب ذلك انن سحبنا جوازات السفر التي كانت مودعة عند إدارة الفندق لغرض تصريف بعض المال في البنك , فظنوا ان هذه مقدمةً للهرب فاتصلوا ببغداد فحضر مساعد مدير الشعبة الخامسة المعروف ب(فيصل) وهو من اهل الفلوجة مجرم معروف بالوحشية و العنف فكان يشرف بنفسه على مراقبتنا حتى اللحظة التي وصل فيها السيد الشهيد إلى مطار بغداد .
فمن تلك الكرامات:
1 - دخل السيد الشهيد إلى حرم الإمام علي لزيارته، وكان أمامه أحد خدّام الحرم الشريف، ولم يكن يعلم بوجود السيد الشهيد، ولما بدأ بالزيارة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين، التفت الخادم مذهولا إلى السيد الشهيد وقال له : ادخل يا سيدي فوالله لقد سمعت الإمام يقول: ادخل يا ولدي، ولم أكن أعلم بوجودك هنا.
2 - وجاء من أهل القرنة في محافظة البصرة، وكان معروفا بحبّه وولائه لأهل البيت ويشهد الجميع بصدقه، فحدث السيد الشهيد بهذه الكرامة، فقال: أصبت بمرض في بطني، وبعد إجراء الفحوصات في مدينة الطب في بغداد قرّر الأطباء إجراء عملية جراحيّة لي، قال: فأصبت بالخوف والرعب، فتوسلت بالإمام موسى بن جعفر الذي كنت أرى قبّته الشريفة من نافذة غرفتي في مدينة الطب أن يعينني في محنتي.
وفي الليلة نفسها رأيت في عالم الإمام موسى بن جعفر فتوسّلت به إلى الله من أجل شفائي فقال لي: اذهب إلى السيد محمّد باقر الصدر، فهو الذي يعالجك.
قال: فجئت إلى مكان آخر فوجدتك فيه، وأخبرتك بقول الإمام فكشفت عن بطني وأخرجت حصاة أو غدّة ـ والترديد منّي ـ ثمّ مسحت عليها، ثم قلت لي: قد شفيت من علّتك.
استيقظت من النوم سليما معافى من كل علّة، وقد استغرب الأطباء وتعجّبوا ممّا حدث.
وكان يحمل معه بعض الصور (الشعاعيّة) والتحاليل التي أجريت له قبل أن يرى رؤيته والتي كانت تثبت صحّة كلامه.
3- وفي عقيدتي أنّ أهمّ تلك الكرامات ما كنت أحسّه منه، ففي الأمور الصعبة والحرجة والتي يصعب على العقل أن يستنتج أو يقرّر أرى الشهيد الصدر وفي لحظة واحدة يعطي الموقف الصحيح والمناسب وقد قال لي:
(إنّ حالة من الوضوح تحصل لي في مثل هذه الموارد).
وإذا كانت ـ الأمانة ـ لا تسمح لي بتسجيل تلك الذكريات بتفاصيلها الدقيقة لأنّها تتعلّق بآخرين فلا ضير من ذكر حالة إجماليّة واحدة من مشاهداتي فيما يتعلّق بهذا الموضوع.
كان السيّد الشهيد ينهج أسلوب الشورى في أموره الهامّة، فكان يجمع أهل الرأي والخبرة ممن يثق بهم ، ثم يطرح عليهم ما هو المهم من الأمور، وكان لا يخالف الأكثرية حتّى ولو كان رأيهم يغاير قناعاته الخاصّة، وأتذكر أنّه في السنوات الأخيرة من عمره الشريف ـ تقريبا دعا من يثق إلى اجتماع من هذا القبيل وعرض عليهم فكرة دعم إحدى المرجعيات التي سمّاها لهم بكلّ ما يملك من طاقات.
والحقيقة لم تكن في الفترة مبرّرات واضحة لهذا الدعم الكبير، لذا كان موقف الأكثرية سلبيا من هذه الفكرة وكانت قناعة السيد الشهيد إيجابيّة منها فلم يسعه مخالفتهم ... ثم سألته في وقت آخر عن هذه القضية وعن سبب ذلك، فقال:
(إني أرى صحة موقفي كما أراك، إنّ لديّ وضوحا كالشمس يدعوني إلى دعم تلك المرجعيّة).
ومرّت الأيام، وشاء الله أن يتألّق نجم تلك المرجعيّة في سماء الإسلام ، عندها قال لي: (هل أيقنت بصحّة رؤيتي؟).
4 - ومن المكرمات التي لا أشك فيها ما حصل له قبل الاعتقال الأول الذي تعرّض له، فقد كان مصابا بمرض ضغط الدم، وفي تلك اليوم الأسود وقبل اعتقاله بساعة تقريبا أخرج علبة أو كيس الأقراص فابتلع عدة أقراص وهو لا يشعر. وكان هذا يشكّل خطورة حقيقة على حياته، فنقل إلى المستشفى مغشيا عليه، وبعد نقله إلى المستشفى اقتحم جلاوزة المجرم ناظم كزار ـ مدير الأمن العام في تلك الفترة ـ البيت لاعتقاله، ثم علموا بتدهور حالته الصحيّة، فذهبوا إلى المستشفى للقبض عليه، وكادوا أن يفعلوا لولا أن الأطباء منعوهم من ذلك بسبب حالته الصحيّة الحرجة، وكان هذا سبب نحاته منهم، وسوف يأتي تفصيل ذلك في فصل الاعتقالات التي تعرّض لها إن شاء الله تعالى.[/align]
-
[align=center]أخلاق السيد الشهيد[/align]
سمة أخرى من سمات هذا العالم الربّاني، ضرب به أروع الأمثلة، وهي دروس عملية في الاخلاق جسد بها قيم أهل البيت وأخلاقهم السامية.
إنّ معظم الذين التقوا به، أو حضروا مجلسه العام، من عامّة الناس وخاصّتهم أحسوا بتلك السمة، كان يقوم احتراما لكل وافد عليه، ويحترم كل أحد ويستبشر بكل زائر، يحب الناس من قلبه وأعماقه، ويكفي لكي يدخل هذا الرجل إلى قلبك أن تلتقيه أو تجالسه مرّة واحدة، فسوف تشعر وقد امتلأ كيانك بحبّه.
وما من شكّ في أنّ أهمّ المقوّمات التي يجب أن تتوفّر في القائد هو هذه الروح الأخلاقية العالية، وهذه الشفافيّة الكبيرة(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وكان شهيدنا الصدر كذلك رحيما بالمؤمنين، لينا لهم، يتبع حبه من أعماق قلبه.
لقد عشت مع الشهيد الصدر أمدا طويلا، فكنت أعجب من حلمه وصبره وصفحه، كان يلتقي ما يوجّ إليه بصبر تنوء منه الجبال،ويصفح عمّن أساء إليه بروح محمّدية.
(1) في هذا الإعتقال تعرض خادمه الوفي (محمد علي محقق) الى التعذيب فقد كان في البيت اثناء اقتحامه من قبل رجال الامن فطلبوا منه ان يدلهم على السيد الشهيد رحمه الله فابى ذلك فانهالوا عليه بالضرب الشديد ,و التعذيب الوحشي , فلما علمت زوجة السيدالشهيد بذلك جاءت واخبرتهم بأن السيد الشهيد في المستشفى , و بذلك انقذته من ايديهم .
ولا اريد هنا إلا تسجيل بعض النماذج مما كان من خلقه، وهي تقصر عن التعبير الكامل عما كانت تحله روحه من سمو وعلو.
1 - طلب أحد اجتماعا خاصا بالسيد الشهيد، وفي هذا اللقاء طلب مساعدة ماليّة ليتمكّن من إجراء عملية جراحيّة لزوجته، وكان وضعها حرجا من هذه الناحية.
كان الوضع المالي للسيد الشهيد في تلك الفترة يعاني ضيقا وشدّة، ومع ذلك أخرج مائة دينار وسلّمها إيّاه، واعتذر من قلّته. أخذها الرجل حامدا شاكرا، وكان هذا المبلغ في ذلك الحين مبلغا لا باس به.
تحدث هذا الرجل في مجلس من مجالس النجف عن كرم السيد الشهيد وأريحيته، وذكر قصّته معه، فتحفّزا أحد الحاضرين ـ طمعا في المال لا لحاجته إليه ـ ليكرّر ما يشبه تلك القصّة فجاء يطلب المال لحاجة ذكرها، واعتذر السيد الشهيد بعدم توفر المال لديه، وأوعده أنه متى ما توفّر يحقّق له ما يريد.
ظن هذا الرجل أن هذا الاعتذار تبرير لحرمانه ومنعه من العطاء، وليس عذرا واقعيّا فانهال على السيد الشهيد يكيل التهم والشتائم، فقال له: إنكم تصرفون الحقوق الشرعيّة لشراء الذهب لنسائكم وبناتكم، تبنون القصور، وتشترون السيارات، قبل يومين جاء فلان فأعطيته مائة دينار، وأنا اليوم أطلب منكم فلا تعطيني.
أمّا السيد الشهيد فظل صامتا يستمع إيه وحاول تهدئته بما يمكن لن لم تجد معه تلك المحاولات.
كنت قد قرّرت وأنا أسمع إلى وقاحته أن ألقنه درسا فقد تملّكني الغضب والانفعال. وكان السيد الشهيد قد لمح ذلك في وجهي.
فلّما أراد الخروج خرجت معه إلى باب المكتبة، فأمرني بالجلوس، وظلّ ساكتا سمع صوت غلق الباب المنزل حيث تأكّد من خروجه، هنا قال لي:(ماذا كنت ستفعل؟ فأخبرته بما كنت عزمت عليه).
فقال: لا بأس عليك، إنّني أسمع أكثر وأقسى ممّا سمعت، ويجب عليك أن ترتفع بأخلاقك وصبرك إلى مستوى المسؤولية، فإنّي بالرغم مما سمعت من هذا الرجل من تهم وشتائم ، فإني لا أحمل عليه حقدا ولا كرها لأنه لو أطلع على أوضاعي لما صدر منه ما صدر، وسوف يأتي اليوم الذي يندم فيه، ويصلح خطأه).
وشاء الله ـ عز وجل ـ أن يأتي هذا اليوم ، وجاء الرجل يعتذر يقبّل يد السيد الشهيد ورجله، وعندها ذكّرني بما نصحني به وقال: هكذا يجب أن نتعامل مع الناس.
2 - بلغه أن أحد أبناء المراجع قال لمدير أمن النجف: (ماذا تنتظرون بالصدر، هل تريدونه خمينيّا ثانيا في العراق لماذا لا تعدمونه....)
فقال لمّا بلغه ذلك:
(غفر الله لك يا فلان، إن قتلوني اليوم، قتلوكم غدا..).
ولم يزد على ذلك شيئا.
3 - كان السيد الشهيد بذلك، فكان مفاجأة قوية لهن إذ كيف يتسرّب ذلك من دائرة محدودة جدا.
ومن العجيب أن كل الظروف كانت ضدّي، وكل الدلائل كانت تشير إليّ، فقد صادف أن زارني المرحوم الحاج نعيم بعد يوم واحد من اطلاعي على ذلك الامر ، ثم إن الامر انتشر في مدينة النعمانيّة بواسطة الحاج نعيم، فكان من المنطقي أن أكون موردا للظن القوي...فدعاني لجلسة خاصة فقال لي: ولدي، إنّي أثق بك ثقة تامة ومن الطبيعي أن تشتبه أو تخطأن ولو حدث هذا فإنّه لن يغيّر من موقعك في نفسي، إنّ الأمر الخاصّ الذي اطلعتك عليه انتشر في النعمانيّة، فهل أخبرت به أحدا؟
أكّدت له بأنّي لم اخبر أحد على الإطلاق، ويمكن التأكّد من ذلك ممّن أفشى الخبر هناك.
بعث أحد الأخوة إلى مدينة النعمانيّة ليبحث عن رأس الخيط، ويحقّق في الأمر فعرف أن الخبر أفشاه الحاج نعيم، ولم يكن يعلم بأهميّته وخطورته.
وأحس المرحوم الحاج نعيم بأن الشبهة ستدور حولي،فجاء في اليوم التالي إلى النجف، وأخبر السيد الشهيد بأن المصدر كان (.....) وهو أخذه من (....) وأنّ ـ كاتب هذه السطور ـ لا علاقة له بذلك.
وأحسّ السيد الشهيد بحالتي النفسيّة، وما أعاني من انكسار،خاصّة بعد أن علمت بأنه بعث إلى النعمانيّة من يحقّق في هذا الأمر، إنّ خسارة ثقة السيد الشهيد ليس أمرا هينا بالنسبة لي.
كان لقاء الحاج نعيم بالسيد الشهيد قبل الظهر بقليل، وكان من عادتي أن أستضيفه إذا جاء إلى النجف، ويعد أن أدّينا الصلاة وكنّا على وشك إحضار الغداء، وإذا بالسيد الشهيد يطرق الباب والابتسامة تعلو وجهه، وروح الأبوة وريحها تطفح منه فقال:
جئت أتغدّى معكما لأني قدّرت أن الحاج نعيم سيتغدّى هنا) ثم قال لي :(أنت كولدي جعفر، فلا تضجر منّي)
يالله ما هذا الخلق العظيم، الروح السامية وإنّك حقا (لعلى خلق عظيم). 4 - كتب سماحة السيد الحائري في مذكّراته عن هذا الجانب ما يلي:
(انفصل أحد طلابه عن درسه وخطّه الفكري الإسلامي، ثم بدأ يشتمه وينال منه في غيابه أمام الناس، وكان كثير كلماته تصل إلى مسامع أستاذنا العظيم، وكنت ذات يوم جالسا بحضرته الشريفة، فجرة الكلام عن هذا الطالب الذي ذكرناه ، فقال :
(أن لازلت اعتقد بعدالة هذا الشخص، وأنّ ما صدر منه ناتج من خطأ في اعتقاده، وليس ناتجا من عدم مبالاته بالدين).
5 - وكتب سماحته أيضا:
(وفي الفترة التي عيّنت حكومة البعث الغاشم ستّة أيام لتسفير الإيرانيين بما فيهم طلاب الحوزة العلميّة من النجف إلى إيران، رأيت أحد طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف مودّعا لأستاذنا الشهيد، فرأيت الاستاذ يبكى في حالة وادعه إيّاه بكاء الثكلى، رغم أنه كان يعرف أن هذا الرجل يعد في صفوف المناوئين له).
هذه نبذة مختصرة عن هذا الجانب في حياته، وهذه النبذة تقصر عن التعبير، إنّما أردنا بها الإشارة فقط.
-
السيد الشهيد في تضحيته
قد يكون من نافلة القول أن نتحدّث عن هذا الجانب من حياة السيد الشهيد بعد أن روّى شجرة الإسلام بدمه الطاهر، وسجّل أبهى صور الفداء والتضحية في التاريخ. وإذا كان لابد أن نكتب شيئا ما عن هذا الجانب فلأن طبيعة العرض التاريخي والمنهجي تتطلب ذلك، وإلا فإن السيد الشهيد يعتر في هذا الجانب قمّة شامخة ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.
إن من عاش مع السيد الشهيد يستطيع أن يدرك بسهولة أن حالة التضحية حالة متجذرة في أعماق نفسه، لم أعهده إلا مضحيا مؤثرا غيره على نفسه، وهي حالته وسلوكه قبل المرجعيّة وبعدها.
(1) و (2) مباحث الاصول ج 1,ص 46و49.
وكان سخيا إلى حد كبير في ميادين التضحية فتارة يضحي بمرجعيّته، وأخرى بكتابه، وثالثة بماله وجاهه، وأخيرا بروحه ودمه، ولنا على كل ذلك شواهد وأدلة.
وهنا لا بأس بذكر بعض المواقف التي تشير إلى بعض ما تحمله تلك النفس الكبيرة من تضحية وفداء.
1 - في عام (1969 م) وفي إطار عدائها للإسلام حاولت سلطة البعث العميل توجيه ضربة قاتلة لمرجعيّة المرحوم آية الله العظمى السيد الحكيم، من خلال توجيه تهمة التجسّس لنجله الشهيد العلامة السيد المهدي الحكيم، الذي كان يمثل مفصلا مها لتحرك المرجعيّة ونشاطها.
وبدأ غبار الجريمة يتطاير إلى العيون، ورائحتها الكريهة تزكم الأنوف، وكانت خطوات البعث تتجه إلى النجف يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة لتسحق ما عجز غيرها عن سحقه.
وكان للسيد الشهيد الموقف المشرّف في دعم المرجعيّة الكبيرة من جانب، وفضح السلطة المجرمة من جانب آخر، فبعد أن علم بعزم السلطة على توجيه تهمة التجسّس إلى المرحوم السيد مهدي الحكيم شارك بفعاليّة وبالتنسيق مع مرجعيّة الإمام الحكيم لإقامة اجتماع جماهيري حاشد يعبر عن مستوى تغلغل المرجعيّة الدينيّة وامتدادها في أوساط الأمة وقوتها وقدرتها الشعبيّة، ولكي يعطي للمرحوم السيد مهدي الحكيم بعدا جماهيريا وشعبيا، باعتباره من سوف يمثّل المرجع الأعلى لإلقاء كلمته أو بيانه على الحشود الكبيرة المجتمعة في الصحن الشريف.
وحصل الاجتماع، وكن حاشدا ومهيبا، ضم كل طبقات المجتمع العراقي وأصنافه، وعبرت الجماهير به عن موقفها ودعمها بوضوح تام للمرجعية الدينيّة الرشيدة.
وكان المفروض أن يردع ذلك السلطة وينبّهها إلى خطورة الموقف وما قد ينتج عنه، إن هي أقدمت على تنفيذ جريمتها، ولكنّها لم ترتدع لأن ما حصل كان مخططا متكاملا أعدّه لهم أسيادهم المستعمرون، وهذه اولى حلقاته.
وحدثت للمرجعيّة أزمة كبيرة، ووقع للسيد الحكيم ما يشبه الحصار، فلا داخل عليه ولا خارج، حتّى من أقرب المقرّبين إليه خوفا من بطش السلطة وغضبها.
وهنا كان السيد الشهيد موقفه التضحوي الخالد، فقد كسر الحصار وكان أوّل داخل على السيد الحكيم، وكانت أوّل زيارة حلت بعد فترة من زمن الحصار، وكان السيد الشهيد يعلم خطورة ما قام به، فالسلطة البعثيّة لا تؤمن بأي منطق إلا منطق القوّة، وكان يعلم أنه يعرض حياته لخطر كبير لكّنه لم ينثن أبدا، وحقّق ما كان يشعر أنّه تكليف شرعي.
ولم يقف دعمه عند هذا الحدّ، بل سافر إلى لبنان ليقود حملة إعلاميّة مكثّفة دفاعا عن المرجعيّة، ومن هناك كتب رسالة إلى سماحة السيد محمد باقر الحكيم، تحدث فيها عما قام به من نشاطات إعلاميّة قال فيها:
(أكتب إليكم هذه السطور بعد أسبوعين كاملين من دخول لبنان، وأود أن أعطيك صورة عن الموقف في حدود رؤيتي له، وأشعر بأنّ وجود صورة لك عن الموقف شئ مفيد على خط العمل.
لا أدري كيف اصف الحديث، أتصور أني أبدا بما تم من عمل ثم أتحدث لك عن الموقف بشكل عامّ،ثم عن المشاكل والمكاسب.
أمّا ما تمّ من عمل فهو كالتالي:
أولا: خطاب استنكار وقّع عليه حوالي أربعين عالما.
ثانيا: ملصقة جداريه ألصقت في كثير من المواضع في بيروت تطالب بإنقاذ النجف.
ثالثا: برقيات طيّرها أبو صدري ـ السيد موسى الصدر ـ إلى جميع رؤساء وملوك الدول العربيّة والإسلاميّة باسم المجلس الشيعي الأعلى يشرح لهم فيها المأساة، ويستنجد بهم، وقد جاءه الجواب حتّى الآن من جمال عبد الناصر وفيصل والأرياني الرئيس اليمني.
الشارع الشيعي في بيروت مكهرب بالقضية، وكذلك الإنسان الشيعي في لبنان بشكل عام، بالرغم من نشاطات البعثيين ... والسفارة العراقيّة في بياناتها المتعاقبة حول الموضوع تكشف عن شعورها بعمق المشكلة، وعن اضطرارها إلى شئ من المداورة واصطناع أساليب المجادلة)
2 - في صباح اليوم الذي قرّر الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد الخميني مغادرة العراق إلى الكويت، قرّر السيد الشهيد الذهاب إلى بيت الإمام لتوديعه، بالرغم من الرقابة المكثّفة التي فرضتها سلطات الأمن المجرمة على منزله.
وفي الصباح ذهب السيد الشهيد إلى منزل السيد الإمام، ولكن للأسف كان الإمام قد غادر قل ذلك الوقت بقليل، ومع ذلك جلس في المنزل ليعبّر عن تأييده وتعاطفه مع السيد الإمام لمن بقي بعد الإمام في بيته.
وقد أخبرني أنّه أثناء التحقيق الذي جرى معه في اعتقال رجب سئل عن أهداف هذه الزيارة، وقال هل مدير الأمن العام: إنّها تمثّل في رأي السلطة مظهرا من مظاهر التنسيق والتعاون، وإلا فلماذا لم يبادر باقي المراجع والعلماء لزيارته أو توديعه؟
قال :
(كنت قد صممّت على الشهادة، ولم يكن يخطر ببالي أن أعود حيّا إلى النجف الأشرف، فقلت له: فسّروها بما شئتم،لقد ذهبت لتوديعه جهرا لا سرّا.
(1) الجهاد السياسي للشهيد الصدر ,ص 39.
فأغضب ذلك مدير الأمن، إذ لم يكن يتوقّع منّي هذا الجواب، وكان يتصور أن أعتذر من ذلك).
وسوف يأتي بعض ما يتعلّق بذلك في موضوع الاعتقالات التي تعرّض لها(رضوان الله عليه).
والحقيقة أنه لا يعرف قيمة هذا الموقف وأمثاله إلا الذين عاشوا تلك الأجواء الإرهابية التي سادت العراق، وعرفوا الوسائل التي تتعامل بها السلطة مع معارضيها، إذ يعتبر هذا الموقف من المواقف الشجاعة والبطولية لأنه يمثل تحدّيا خطيرا للسلطة.
3 - وفي اعتقاله الذي تعرّض له في انتفاضة (17) رجب عام(1979 م) كان الأخ المجاهد حجة الإسلام والمسلمين الشيخ طالب السنجري ـ حفظه الله ـ قد بقى في تلك الليلة في منزل السيد الشهيد متبرّعا بحمايته والدفاع عنه في حال تعرّضه لما كنّا نخشى وقوعه، وفي الصباح حينما جاء مدير أمن النجف لاعتقال السيد الشهيد أصر سماحة الشيخ السنجري على مرافقة السيد الشهيد، والذهاب معه إلى مديرية الأمن العامّة، رغم علمه بأن الاعتقال هذا ليس بهدف التحقيق، وإنما للإعدام، ورغم منع قوات الأمن له، فقد ألقى بنفسه في داخل السيارة التي كانت تحمل السيد الشهيد، وذهب معه إلى مديرية الأمن العامّة.
وفي بغداد أظهرت السلطة كل ما عندها من حقد وغضب عليه، فنال أقسى أنواع التعذيب، وكان توقّع السيد الشهيد أن ينال سماحة الشيخ السنجري الشهادة في ذلك اليوم.
وبعد الإفراج عن السيد الشهيد على إثر التظاهرة التي خرجت في النجف، اعتذر مدير الأمن العامّ من السيد الشهيد، وأبلغه أنّ (القيادة) لا تعتبر ما جرى اعتقالا، بل زيارة!! وإذا كان قد حدث شئ من الإزعاج فإن مدير أمن النجف يتحمّل مسؤوليّة ذلك لأنّه أساء فهم طلبنا منه بإحظاركم إلى بغداد.
وكان قد حدّثني:
(أن السلطة كانت قد قررت إعدامي هذه المرّة، وكانت كل الظواهر تدل على ذلك).
وسوف يأتي تفصيل ذلك في فصل الاعتقالات التي تعرّض لها.
وعلى كلّ حال، رفض السيد الشهيد العودة إلى النجف إلا بعد الإفراج عن مرافقه الشيخ السنجري ـ حفظه الله ـ وحاول مدير الأمن العام ثني السيد الشهيد عن طلبه ولكن دون جدوى، وأخيرا اضطر مدير الأمن إلى إطلاق سراحه وعاد مع السيد الشهيد إلى النجف، وقد قال لي:
(كنت مصمّما على البقاء في مديرية الأمن مدي الحياة إذا لم تفرج السلطة عن مرافقي).
4 - ويروي سماحة السيد كاظم الحائري القضية التالية:
(حدّثني الاستاذ ذات يوم فقال: إنّني أتصور أن الأمة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين عليه السلام، وهو مرض فقدان الإرادة، فالأمة تعرف حزب البعث، والرجال الحاكمين في العراق، ولا تشكّ في فسقهم وفجورهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد، ولكنّها فقدت قوّة الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله، إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة عن منصب الحكم، وترفع الأمة كابوس هذا الظلم عن نفسها.
وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدبّ حياة الإرادة في عروق هذه الأمة الميّتة وذلك بما عالج به الإمام الحسين عليه السلام فقدان الإرادة في نفوس الأمة وقتئذ، وهو التضحية الكبرى التي هز بها المشاعر ، وأعاد بها الحياة إلى الأمة، إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني أمية، فعلينا أن نضحّي بنفوسنا في سبيل الله، ونبذل دماءنا بكل سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف.
والخطة التي أرى ضرورة تطبيقها اليوم هي أن أجمع ثلة من طلب، ومن صفوة أصحابي الذين يؤمنون بما أقول، ويستعدّون للفداء، ونذهب جميعا إلى الصحن الشريف متحالفين فيما بيننا على أن لا نخرج من الصحن أحياء، وأنا أقوم خطيبا فيما بينهم ضد الحاكم القائم، ويدعمني الثلّة الطيّبة الملتفّة من حولي، ونثور بوجه الظلم والطغيان، فسيجابهنا جمع من الزمرة الطاغية ونحن نعارضهم ـ ولعلّه قال : ونحمل السلاح ـ إلى أن يضطرّوا إلى قتلنا جميعا في الصحن الشريف، وسأستثني ثلّة من أصحابي عن الاشتراك في هذه المعركة، كي يبقوا أحياء من بعدي ويستثمروا الجوّ الذي سيحصل نتيجة لهذه التضحية والفداء.
قال: إن هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:
الشرط الأوّل: أن يوجد في الحوزة العلميّة مستوى من التقبّل لعمل من هذا القبيل. أما لو أطبقت الحوزة العلميّة على بطلان هذا العمل وكونه عملا جنونيّا، أو مخالفا لتقيّة واجبة، فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الأمة،ولا يوفي ثماره المطلوبة.
الشرط الثاني: أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقا على هذا العمل كي يكتسب العمل في ذهن الأمة الشرعيّة الكاملة.
فلابد من الفحص عن مدي تواجد هذين الشرطين. أمّا الشرط الأوّل فصمّم الاستاذ على أن يبعث رسولا إلى أحد علماء الحوزة العلميّة لجسّ النبض ليعرض عليه هذه الفكرة ويستفسره عن مدى صحّتها، وبهذا الأسلوب سيعرف رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يتواجد في الحوزة العلميّة.
وقد اختار بهذا الصدد إرسال سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي ـ حفظه الله ـ إلى أحد العلماء، وأرسله بالفعل إلى أحدهم كي يعرض الفكرة عليه ويعرف رأيه ، ثم عاد الشيخ إلى بيت أستاذنا الشهيد وأخر الاستاذ بأنّه ذهب إلى ذاك العالم في مجلسه، ولكنّه لم يعرض عليه الفكرة، وكان السبب في ذلك أنّه حينما دخل المجلس رأى أن هذا الشخص مع الملتّفين حوله قد سادهم جو من الرعب والانبهار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثيّة بتسفير طلبة الحوزة العلميّة، ولا توجد أرضية لعرض مثل هذه الفكرة عليه إطلاقا.
وأما عن الشرط لثان فرأى أستاذنا الشهيد أن مرجع الوحيد الذي يترقّب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الإمام الخميني ـ دام ظله ـ الذي كان يعين وقتئذ في النجف الأشرف، فلا يصحّ أن يكون هذا العمل من دون استشارته ، فذهب هو إلى بيت السيد الإمام ، وعرض عليه الكفرة مستفسرا عن مدى صحّتها، فبدأ على وجه الإمام ـ دام ظله ـ التألمّ ، وأجاب على السؤال بكلمة (لا أدري) وكانت هذه الكلمة تعني أن السيد الامام ـ دام ظله ـ كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجّه إلى الأمة من جرّاء فقد هذا الوجود العظيم أ:بر مما قد تترتب على هذا العمل من الفائدة.
وبهذا وذاك تبيّن أن الشرطين مفقودان فعدل أستاذنا الشهيد عن فكرته، وكان تاريخ هذه القصّة بحدود عام (1390 ) أو (1391 هـ) ولعل التاريخ الصحيح هو سنة(1394 هـ).
وكان من جملة الظروف والأسباب التي أدت إلى هذا التفكير التضحوي ما تعرض له طلبة الحوزة العلميّة والعلماء وبعض أوساط الأمة من حملات تسفير وتشريد رهيبة كانت تستهدف القضاء على الإسلام.
5 - بعد اغتيال الشهيد المطهري على أيدي القوى المضادّة للثورة الإسلامية، وأحد منظري إيران الفكريين، لذا كان الواجب تكريم هذه الشخصية الكبيرة.
وثانيا: كان موقف بعض المرجعيات من انتصار الثورة الإسلامية وإقامة حكومة إسلامية في إيران موقفا يتسم بالضعف والخوف، فقد أحجم الجميع عن القيام بأي
(1) مباحث الاصول ,ج 1ص49.
عمل تكريم لهذه الشخصية الكبيرة، وكان مجلس الفاتحة اليتيم هو المجلس الذي أقامه الشهيد الصدر، بينما كانت بعض المرجعيات في تلك الفترة تقيم مجالس الفاتحة والعزاء لم كان يعتبر في مستواه العلمي والاجتماعي بمنزلة تلميذ من تلاميذ الشيخ المطهري، بل كانت ـ بعض الجهات ـ تتسابق لإقامة مثل هذه الأعمال الاجتماعيّة ، وكان يعتبر ذلك نوعا من فرض الوجود العلمي على الميدان، والساحة الاجتماعية لهذه المرجعيّة أو تلك، بينما كان السيد الشهيد قد نأي بنفسه عن تلك المظاهر والأعراف.
أحجم الجميع عن إقامة مجلس الفاتحة على روح الشهيد المطهري، وهذه حقيقة بعرفها الجميع، ومن المؤكد لو أن المطهري كان قد توفي في زمن الشاه المقبور لاُقيم له أكثر من مجلس، أما في زمن الإمام الخميني وفي ذل الثورة الإسلاميّة في إيران فلا يجرأ على ذلك إلا الشهيد الصدر لأن هذا المجلس لا يحقّق هدفا اجتماعيا أو مصلحة ذاتية، كما هو الحال في الظروف الطبيعيّة، بل قد يسبب مشاكل لا حدّ لها مع السلطة.
وأقام مجلسا حاشدا في جامع الطوسي في النجف الأشرف، ليعبّر م خلاله عن وقوفه ودعمه للثورة الإسلامية في إيران وتحشّدت قوات السلطة تراقب المجلس بدقة، وتلتقط الصور الفوتوغرافية لكل داخل وخارج لأنّها تعلم أن هذا المجلس يختلف عن غيره في الهدف والقصد، ولذا كان هذا المجلس من (أدلّة الإدانة) التي وجهت للسيد الشهيد في اعتقال رجب.
لم يكن خافيا على سيدنا الشهيد الخطر الذي يترتب على مثل هذه النشاطات والأعمال، لكنه وجد أن الموقف في إعطاء المبادئ والقيم ما تريد، وهكذا فعل.
6 - ومن مواقف الفداء والتضحية ما حدث خلال فترة الحجز، وهو في أشد ظروف المحنة، وأقسى أيام الحصار فقد أجاب على كل البرقيات التي كانت قد أرسلت له من قبل بعض العلماء والقيادات الدينيّة والسياسيّة في جمهوريّة إيران الإسلامية، ومنها برقية الإمام السيد الخميني، وهي وإن كانت لم تصله إلا أنه استمع لها من الإذاعة العربيّة في طهران، وقد أجاب عليها من خلال اتصال هاتفي من إيران وأذيع من خلال المذياع ونص الجواب كما يلي:
(سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد الخميني.
استمعت إلى برقيتكم التي عبّرتم بها عن تفقدكم الأبوي لي، وإنّي إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى أحدا أو يراني أحد لا يسعني إلا أن أسأل المولى(سبحانه وتعالى) أن يديم ظلّكم منارا للإسلام، ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيّتكم القائدة، أسأله تعالى أن يتقبل منا العناء في سبيه، ان يوفقنا للحفاظ على عقيدة الأمة الإسلامية العظيمة، وليس لحياة أي إنسان قيمة إلا بقدر ما يعطي لامّته من وجوده وحياته وفكره، وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظل به على مدى التاريخ مثلا عظيما لكل المجاهدين.
محمد باقر الصدر.)
ولك ـ أيّها القارئ الكريم ـ أن تقدر خطورة هذا الموقف قياسا بالأوضاع والظروف التي كانت تحيط بالسيد الشهيد، ووضع السلطة وموقفها منه.
لم يكن خافيا على السيد الشهيد أن أقصر الطرق ـ لو أراد فك الأزمة المستعصية مع السلطة ـ هو الابتعاد بولائه وتأييده لشخص الإمام الخميني والثورة الإسلامية في إيران. إن ذلك كان سيحق له السلامة الشخصية ولو لأمد ما.
ولم يكن خافيا عليه أن طريق الشهادة السريع هو في الإعلان عن هذا الولاء والتأييد.
وكان لو أراد أن يستعمل ـ الدبلوماسيّة ـ لكان بإمكانه أن يعتذر للسلطة أثناء التحقيق الذي جرى معه في اعتقال رجب عن برقية الإمام الخميني بأن البرقيّة كانت مبادرة من الإمام لا يتحمّل هو مسؤوليتها، ولكنّه لم يفعل.
ولم يستلم السيد الشهيد وحتى يوم استشهاده برقية الإمام لأنّها احتجزت من قبل السلطة قبل وصولها إليه، وكان قد سمعها من جهاز التسجيل فقط. وكان من حق السيد الشهيد أن يعتذر عن الجواب، فمن هو في وضعه( لأنّي مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى أحد أو يراني أحد) حسب تعبيره لا يتوقّع منه أحد جوابا على برقية، وإذا كانت هناك ضرورة تلزم بالجواب فأن هناك طرقا أخرى في الهاتف أسهل وأفضل، بل كان بإمكان السيد الشهيد قطع الاتصال الهاتفي، وكان سيعتقد م كان على الخط أن السلطة هي التي فعلت ذلك.
ولم يسمح إباء الصدر بكل ذلك، فما أن تم الاتصال به مع إيران حتى تلا جواب البرقيات وكان قد أعدّه قبل ذلك، ونقله الأثير من خلال إذاعة إيران وتلفازها إلى أسماع المؤمنين والمسلمين في معظم أنحاء العالم، وعبّر بذلك عن دعمه المطلق، وتأييده اللامحدود للإمام الراحل وللثورة المباركة، وسجّل موقفا خلد في صفحات الفداء والتضحية من التاريخ.
وكذلك لم يتردّد من الحديث مع من اتصل به من إيران في المكالمة الهاتفية إلى أذاعها راديو طهران القسم العربي رغم أنه لم يكن يعرف المتحدث معه ـ وكان يظن أنه سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ التسخيري ـ .
وكان يتوخي من ذلك تحقيق عدة أهداف منها:
1 - أنه شخص أن صدّاما جاء بسياسة القبضة الحديدية والأرض المحروقة والتصفية الجسدية، وقد بدأ بها بشكل واضح فلا بد للسيد الشهيد أن يستبق الأحداث ليسجّل الموقف الإسلامي.
2 - أن القرار الغربي هو إدخال العراق وشعبه في مواجهة مع الثورة الإسلامية ومسخ هوية الشعب العراقي، فكان موقف الشهيد الصدر هو إنقاذ الشعب من هذه المأساة بإعلانه الموقف الأصيل.
3 - كسر الحاجز النفسي والروحي الذي كان يلف الشعب العراقي من خلال هذه التضحية ، وبدأ مسيرة الجهاد، وهذا ما حصل بالفعل.
4 - تسجيل الموقف المبدأي والإسلامي تجاه الثورة وسلامة خطّها، وأهمية هذه التجربة العظيمة.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|