[align=center][/align]
[align=center]أسس الفلسفة[/align]
[align=center][ 9 ][/align]
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة العلامة مرتضى المطهري[/align]
"العلم" هو الأمر الوحيد المقدس من وجهة نظر كل أفراد الإنسان، من كل قومية ومن تابعي جميع الطرق والمذاهب وكل هؤلاء يعترفون بعظمته وقدسيته، وحتى أجهل الناس فإنه لا يستصغر العلم ولا يحقره.
واحترام العلم وحبه ليس منبعثاً فقط من كونه أفضل وسائل الحياة، وليس فقط من أنه يمنح الإنسان القدرة والقوة في نضاله خلال حياته من أجل بسط سلطانه على الطبيعة، ولو كان الأمر كذلك لنظر الإنسان إلى العلم نفس النظرة التي ينظر بها إلى كل وسيلة عملية أخرى.
ويقترن تاريخ العلم بالآلام والمصائب والمتاعب وألوان الحرمان التي تحملها العلماء في سبيل تحصيل العلم ففاضت حياتهم المادية بالمرارة ولو كان الإنسان باحثاً عن العلم بهدف تغطية حاجاته المادية فلماذا إذن قد تحمل كل هذا ونسي ذاته وانصرف عن ملذات العيش وطيبات الحياة في سبيل تحصيل العلم؟
إن علاقة العلم بالروح لأرفع من هذه الارتباطات الوضيعة والحقيرة التي تبدو لأول وهلة وكلما كانت المعرفة أقرب إلى اليقين وأدنى إلى تبديد الشك والجهل وأقرب إلى الكلية والشمول بحيث تكشف ستاراً أكبر فإن أهميتها تزداد والطلب لها يشتد.
[align=center][ 10 ][/align]
وهناك مجموعة من المواضيع - من بين كل المجهولات التي يأمل الإنسان في إيجاد الحلول لها - يعيرها الإنسان الدرجة القصوى من الأهمية، وهي تلك المسائل المرتبطة بالنظام الكلي للعالم والحركة العامة للحوادث والتي تؤخذ على أنها رمز الوجود وسر الكون.
والإنسان - سواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي واللامتناهي والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسفة.
فالفلسفة تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منتهى آماله وغاية طموحه.
وتاريخ الفلسفة مع تاريخ الفكر البشري توأمان ولهذا فنحن لا نستطيع أن نعتبر قرناً معيناً ولا منطقة خاصة على أساس أنهما مبدأ ومنشأ ظهور الفلسفة على وجه الأرض. فالإنسان- بحكم رغبته الفطرية- لم يفوت أية فرصة أتيحت له في أي وقت وأي مكان للتفكير وإبداء الرأي حول النظام الكلي للعالم. وقد أنبأنا التاريخ منذ تدوينه بأنه قد ظهر في مناطق متعددة من العالم مثل مصر وإيران والهند والصين واليونان فلاسفة ومفكرون من الدرجة الأولى استطاعوا أن يؤسسوا مذاهب فلسفية ذات أهمية فائقة، وقد بقيت بعض هذه الآثار الفلسفية من تلك الفترات التاريخية التي لا نبعد عنها كثيراً، فلم تتطاول يد الأيام لمحوها وتضييع الفرصة علينا للإطلاع عليها.
[align=center][ 11 ][/align]
ومن الآثار الفلسفية التي انحدرت إلينا وهي أقدم وأفضل من غيرها تلك الآثار الناتجة من النهضة العلمية والفلسفية اليونانية التي بدأت قبل ألفين وستمائة عام تقريباً ولا تعتبر هذه الفترة طويلة جداً في مقياس التاريخ بحيث تقضي على هذه الآثار وتمحوها.
وقد بدأت هذه النهضة الفكرية في أطراف آسيا الصغرى واليونان ثم كانت الإسكندرية امتداداً لهذه النهضة، وبعد ذلك سارت الإسكندرية وأثينا نحو الاضمحلال والتمزق وأمر جستنيان إمبراطور روما الشرقية في سنة (529) ميلادية بتعطيل الجامعات وإغلاق مدارس أثينا والإسكندرية، وقد توارى العلماء من شدة الخوف، وانفرط نظام التعليم والتدريس. وفي هذه الأثناء بزغ نور الإسلام في جهة أخرى من العالم، وبهذا بدأت نهضة أخرى وتهيأت الظروف لمدنية جديدة وعميقة.
وتوقدت جذوة طلب العلم في النفوس بسبب تشويق وتجليل قدوة المسلمين وأوليائهم الكبار لمكانة العلم ولدارسيه، فانبعثت من هذا تيار المدنية الإسلامية الواسعة والعظيمة، وترجمت الكتب من اللغات المتباينة ولا سيما الكتب اليونانية، وأصبحت المدن الكبيرة في البلاد الإسلامية العريضة مهداً للعلم ومركزاً للحركة. وشد الرحال إلى البلاد الإسلامية أناس من أوربا الحالية وهم متعطشون إلى العلم، وقد أدى هذا- بعد مرور عدة قرون- إلى تحولات ضخمة في أوربا في مجالات العلم والمعرفة.
وهناك شيء مسلّم من وجهة النظر التاريخية وهو أن لأهل الشرق حقاً في أعناق اليونانيين القدماء فيما كسبوه من علم لأن العلماء اليونانيين قد ترددوا كثيراً على الشرق واقتبسوا من رصيد
[align=center][ 12 ][/align]
علمائه ثم عادوا إلى أوطانهم وأتحفوا أبناءها بما حملوه إليهم من تلك البلاد.
ونحن لا نريد في هذه المقدمة أن نعرف بفلسفة الشرق القديمة ولا بمقدار الفائدة التي ظفر بها اليونانيون القدماء من تلك الفلسفة ولسنا أيضاً بصدد التعريف بالفلسفة الإسلامية التي سبقتنا بعشرة قرون ولا بمقدار الفائدة التي اكتسبتها أوربا من تلك الفلسفة.
ولا نحاول هنا معرفة مقدار الميراث الذي انحدر إلى المسلمين من اليونانيين وما هي التحولات التي حدثت لهذا الميراث في المرحلة الإسلامية، وما هي الكيفية التي كتب بها المسلمون تراث اليونان، وما هو المقدار الذي أضافه المسلمون في هذا المضمار، فهذه المواضيع لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا الكتاب. وعلاوة على هذا فإنها تحتاج إلى تحقيق وتقديم وثائق تاريخية ليكون الحكم أقرب ما يكون إلى النتائج العلمية ويكلفنا هذا وقتاً طويلاً ومجالاً واسعاً مما يؤهله إلى تدوين كتاب مستقل بشأنه.
أما الذي يرتبط بشكل أكبر- إلى حد ما- بهذا الكتاب ولم يجر البحث فيه إلا قليلاً فهو القيام بتعريف إجمالي للفلسفة الإسلامية التي نشأت منذ ثلاثة قرون ونصف تقريباً وحتى الوقت الراهن. فهذه الفلسفة لم تنتقل إلى العالم بصورة دقيقة، ولم يلتفت إليها شبابنا ممن تتلمذ في المدارس والجامعات الحديثة، لأن كل المعلومات التي تصلهم إنما هي عن طريق الأوربيين.
وقد أسست هذه الفلسفة المعروفة بـ " الحكمة المتعالية" على يد صدر المتألهين الشيرازي المشهور بـ "ملا صدرا" في القرن الحادي عشر الهجري، ومنذ هذا التاريخ فما بعد اتخذت الدراسات الفلسفية
[align=center][ 13 ][/align]
في إيران تلك التحقيقات التي قام بها ذلك العالم الفذ في المواضيع الفلسفية المهمة محوراً لها.
وتدور معظم بحوث صدر المتألهين حول الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية. وقد تمثل صدر المتألهين بصورة رائعة ما وصل إليه من آثار اليونانيين القدماء ولا سيما أفلاطون وأرسطو، واستطاع أيضاً هضم ما قدمه الفارابي وأبو علي وشيخ الإشراق وغيرهم من تفسير أو من إبداع، واستوعب أيضاً ما أدركه العارفون العظام بوحي من أذواقهم وقوة عرفانهم، ثم شاد أساساً جديداً على قواعد وأصول محكمة لا يتطرق إليها الخلل، وأخرج مسائل الفلسفة بشكل رياضي بوساطة البرهان والاستدلال، بحيث تستنبط وتستخرج إحداها من الأخرى، وبهذا أخرج الفلسفة من التبعثر والتشتت في طرق الاستدلال.
ومنذ عصر أرسطو ذلك الفيلسوف الثائر ضد آراء أستاذه أفلاطون تلاحظ وجود مذهبين فلسفيين يسيران بشكل متواز، ويعتبر أفلاطون ممثلاً لأحد هذين التيارين، أما أرسطو فهو الممثل للتيار الآخر، وقد وجد أتباع لكل واحد من هذين المذهبين في كل مرحلة تاريخية لاحقة، وعرف هذان المذهبان الفلسفيان في أوساط المسلمين باسم مذهب الإشراقيين ومذهب المشائين. واستمرت المشاجرات الفلسفية بين هذين الاتجاهين فترة تزيد على الألفين من الأعوام بين اليونانيين ثم في الإسكندرية وبعد ذلك بين المسلمين، ثم بين الأوربيين في القرون الوسطى.
وقد وضع صدر المتألهين نهاية حاسمة لهذا النزاع الطويل بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته، ومنذ هذا الزمن فما بعد لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد
[align=center][ 14 ][/align]
لاحظ كل من جاء بعده واطلع على فلسفته أن النزاع الذي امتد لألفي عام بين المشائين والإشراقيين قد اختتم على يد هذا الفيلسوف العظيم.
وكان فلسفة صدر المتألهين رائعة وغير مسبوقة ولكنه أفاد من جهود المحققين الكبار الذين تقدموا عليه خلال ثمانية قرون، والذين كان لكل منهم نصيب في تقدم الفلسفة وتطورها.
وقد مرت - مع الأسف- منذ ظهور هذه الفلسفة ولحد الآن أربعة قرون ولم تُقّدَم خلالها هذه الفلسفة ولو إجمالاً إلى أوربا. ويؤيد هذا الزعم المتخصصون بشؤون الشرق.
يقول البروفسور إدوارد براون المستشرق البريطاني المعروف والمتوفى سنة 1304 هجرية شمسية والذي أنفق عمره في البحث والتحقيق في شؤون إيران وتاريخها في كتاب تاريخ الآداب في إيران - الجزء الرابع:
" رغم انتشار فلسفة ملا صدرا ورواجها في إيران لم أجد لها أثراً على ألسنة الأوربيين إلا بشكل خلاصتين سطحيتين وناقصتين. فقد كتب كنث كوبينو بعض الصفحات التي تتناول عقائد ملا صدرا، ويبدو أنّ معلوماته كلها مستقاة من الدروس الشفاهية التي حضرها عند معلميه في إيران، ولم يكن لهؤلاء المعلمين- على ما يظهر- اطلاع كامل على آراء ذلك الرجل. وفي نهاية حديث كوبينو عن ملا صدرا قال أن الطريقة الحقيقية لملا صدرا مأخوذة بعينها من ابن سينا. بينما يقول صاحب روضات الجنان بشأن ملا صدرا كان.. منقحاً أساس الإشراق بما لا مزيد عليه، ومفتحاً أبواب الفضيحة على طريق المشاء والرواق. ولكن هناك تعريفاً لهذا المذهب أكثر اختصاراً وأكثر جدية وأقرب إلى الصحة وهو التعريف
[align=center][ 15 ][/align]
الذي قدمه الشيخ محمد إقبال (أي الدكتور إقبال الباكستاني) ".
وقد سجل إدوارد براون في نفس ذلك الكتاب:
" إن أشهر كتب ملا صدرا هو الأسفار الأربعة وشواهد الربوبية" ، ثم علق في الحاشية: " بأن كنت كوبينو قد أخطأ في معنى الأسفار فأخذها على أنها جمع سفر وهو الكتاب".
وكتب في كتاب " مذاهب وفلسفات آسيا الوسطى" ص 81:
"لقد كتب ملا صدرا عدة كتب أخرى تتعلق بالسفر". ولم تصل أيدينا إلى الكتاب الذي ألّفه المرحوم إقبال الباكستاني باللغة الإنكليزية أثناء دراسته في جامعة كمبريدج والمسمى بـ "تطور الحكمة في الإٍسلام"، ولكن القدر المسلم أنه كان مختصراً جداً ولا يرسم صورة واضحة للحكمة الإسلامية.
ويعتبر هذان المستشرقان (كنت كوبينو وإدوارد براون) من أكبر المستشرقين.
يقول العالم المتتبع المرحوم الشيح محمد خان القزويني الذي قضى ثلاثين سنة في المكتبات الأوربية وعقد روابط وثيقة وعن قرب مع كثير من المتخصصين بشؤون الشرق في مقالة نشرت في مجلة "إيرانشهر" الصادرة في برلين وذلك بمناسبة وفاة إدوارد براون وأدرجت في كتاب "بيست مقالة" (ومعناه "عشرون مقالة") - يقول بحق إدوارد براون :
"لم يتحمل هذا العناء ولم يبذل كل هذا الجهد أي مستشرق من أوروبا أو أمريكا في موضوع الآداب الإيرانية ولا سيما تلك الآداب والأذواق والمعنويات الإيرانية، أي أنه لم يكن هناك مثله من
[align=center][ 16 ][/align]
أحب من أعماق قلبه حباً خالصاً أفكار الحكماء والعارفين وأصحاب المذاهب المنتشرة في إيران".
وذكر في تلك المقالة إن كنت كوبينو "هو من كتّاب فرنسا المشهورين وله كتب عديدة فلسفية واجتماعية ودينية وتاريخية، وهو مؤسس طريقة معينة في فلسفة التاريخ تعرف باسم "الكوبينية"، ولهذه الطريقة اتباع منتشرون في ألمانيا، وقد عيّن منذ سنة 1271 (هجرية قمرية) نائباً أول لسفارة فرنسا في طهران وعيّن سنة 1278 وحتى سنة 1280 وزيراً مفوضاً لفرنسا في طهران".
وقد لاحظتم أن أحد هذين المستشرقين يعتبر صدر المتألهين تابعاً لمذهب المشائين، أما الآخر فهو يستند في رد هذا القول إلى واحد من كتب التراجم والتاريخ (وهو روضات الجنات). أحدهما يقول إن الأسفار هي جمع سَفَر أي السياحة في الأرض، والآخر يقول أنها جمع سفر وهو الكتاب. ولو كلف هذان الكاتبان أنفسهما عناء قراءة الصفحة الأولى من كتاب الأسفار لعرفا أن الأسفار هنا ليست جمعاً للسفر بمعنى السياحة ولا للسفر بمعنى الكتاب.
ويبدو أن المقصود بالمعلم الشفاهي الذي يقول إدوارد براون أنه قد علّم كوبينو فلسفة ملا صدرا في إيران هو رجل يهودي اسمه "ملا لاله زار"، وقد تمت بمساعدته ترجمة كتاب "مقال في المنهج"، لديكارت إلى اللغة الفارسية.
وعندما يذكر كوبينو أستاذ صدر المتألهين وهو الفيلسوف العظيم مير محمد باقر الداماد فإنه يعتبره فيلسوفاً "جدلياً" (ديالكتيكياً).
وهو يشير إلى ذهاب ملا صدرا إلى درس مير داماد بإشارة من الشيخ البهائي ومقدار ما حصله منه بقوله:
[align=center][ 17][/align]
"وبعد عدة سنوات وصل إلى ما نعهده فيه من بلاغة وفصاحة". وليس غرضنا انتقاد طريقة المستشرقين لأنه من غير المتوقع من أبناء الأمم الأجنبية أن يأتوا ويفسروا فلسفتنا وعلومنا وديننا وآدابنا وتاريخنا ويقدموها للعالم كما هي. والمثل العربي يقول:
"ما حك ظهري مثل ظفري".
وإذا كان هناك أناس يتوقون إلى معرفة تاريخنا وآدابنا وديننا وفلسفتنا وهم يريدون نقلها إلى العالم فإن الطريق الوحيد لذلك هو أن ينهضوا لهذا العمل بأنفسهم.
أما الأشخاص القادمون من الأمم الأخرى فلو فرضنا أنهم ينهضون بالعمل بأتم حياد وحب فإنهم- بسبب نقص اطلاعهم- سيقعون فريسة لأغلاط واشتباهات كبيرة، كما نلاحظ وجود أخطاء متعددة في توضيح تاريخنا وآدابنا وعاداتنا، ناهيك بالفلسفة التي تحتاج إلى تخصص فني ولا يكفي فيها معرفة اللغة ومراجعة الكتب.
ولهؤلاء المعتقدين بالمستشرقين نذكر هذه القصة نموذجاً لما قدمنا الحديث عنه، فقد نشر كنت كوبينو الذي عاش في زمان ناصر الدين شاه وأقام في إيران وتكلم اللغة الفارسية بطلاقة -نشر كتاباً أسماه " ثلاثة أعوام في إيران" باللغة الفرنسية وترجم بعد ذلك إلى اللغة الفارسية. وهو عندما يشرح كيفية سؤال الإيرانيين لبعضهم عن أحوالهم يقول:
" عندما يستقربك المجلس ويجلس صاحب الدار مع بقية الحضور فإنك تتجه إلى صاحب الدار وتسأله:
أيكون أنفك سميناً؟
ويجيبك صاحب الدار: بحمد الله أنفي سمين، فكيف هو
[align=center][ 18 ][/align]
أنفك؟ وقد لاحظت في بعض المجالس أن شخصاً قد سُئِل هذا السؤال خمس مرات وأجاب عنه. ويذكر في مقام المدح أن واحداً من علماء طهران كان متميزاً بخصلة مهمة وهي أنه عندما يذهب إلى لقاء أحد الوجهاء فهو لا يسأله عن أنفه فقط ولا عن أنوف أقربائه فحسب وإنما يسأله عن أنوف الخدم والحراس أيضاً".
فهذا الرجل بسبب عدم معرفته الدقيقة باللغة الفارسية قد وقع في هذا الخطأ فظن أن جملة "دماغ شماجاق است؟" تعني " أيكون أنفك سميناً؟"، وهو ينقل هذه القضية متهكماً ساخراً(بينما هي تعني: أتصور أن المقصود عند الإيرانيين (هل أنت مرتاح؟ هل أنت طيّب الخاطر؟) لا الدماغ بمعنى المخّ!! "أيكون مخك سليماً؟").
ومن المؤكد أن كنت كوبينو لم يكن مغرضاً في هذا النقل ولكن معرفته الناقصة باللغة الفارسية قادته إلى هذا الخطأ.
وعندما يكون الأمر على هذه الصورة في التعريف بالآداب والعادات فكيف يكون الحال في مورد الأفكار الفلسفية؟
ونحن نعلم أنه في إيران - ذلك المكان الذي ترعرعت فيه أفكار أمثال ابن سينا وصدر المتألهين- قد رغبت أجيال في معرفة تلك الأفكار، وبعد أن ينفقوا أعمارهم لهذا الهدف لا يخرج من بين آلاف الطلاب إلا بعدد أصابع الكف الواحدة ممن يفهمون هذه الفلسفات ويدركون آفاقها.
وعلى هذا فكيف نطمئن بأن الفلسفة الإسلامية لعشرة قرون مضت وفلسفة ابن سينا كما يفهمها طلابه قد ترجمت كما تستحق أن تترجم وقد أُدّي المقصود في الترجمة كما هو موجود في الأصل.
[align=center][ 19 ][/align]
في نفس الوقت الذي كان صدر المتألهين مشغولاً فيه بتقليب أمور الفلسفة وتشييد أساسه الجديد (في القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي) ظهرت في أوربا حركة فلسفية وعلمية عظيمة كانت قد تهيأت مقدماتها منذ عدة قرون.
وفي الوقت الذي آثر فيه صدر المتألهين العزلة للتفكير والرياضة في المنطقة الجبلية لمدينة قم حتى يتفرغ لكتابة أفكاره العميقة، أشاع ديكارت الفيلسوف الفرنسي نغمة جديدة في أوربا، فقد ألقى من عاتقه تقليد القدماء واتخذ لنفسه طريقة حديثة واختار زاوية من هولندا للانعزال وفرّغ نفسه للأعمال العلمية.
ومنذ عصر ديكارت فما حققت أوربا اكتشافات علمية ضخمة وبسرعة هائلة.
وتبدلت طرق التحقيق العلمي في مختلف التخصصات وظهرت موضوعات جديدة. وبالإضافة إلى ظهور علماء في العلوم الطبيعية والرياضية فقد ظهر فلاسفة عظام بصورة متلاحقة، وبهذا دخلت الفلسفة في مرحلة جديدة.
واهتمت الفلسفة الجديدة اهتماماً ضعيفاً بتلك الموضوعات التي كانت محور البحث في القرون الوسطى، أما الموضوعات التي لم يهتم بها القدماء فقد نالت في هذا الزمن كل الاهتمام.
وبرزت على الساحة في أوربا مذاهب فلسفية متباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعض نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجربية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أن الإنسان عاجز عن إدراك
[align=center][ 20 ][/align]
هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار- نفياً أو إثباتاً- فقد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.
وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى بـ "الفلسفة الحقيقية" أو "العلم الأعلى" وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم وتوضيح الوجود بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقصة في أوربا.
وأما ما هو موجود في أوربا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.
ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجّهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول وطرق الاستدلال حتى في المسائل الأساسية لليونانيين، واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين.
وسوف تتضح هذه المواضيع خلال هذا الكتاب مدّعمة بالوثائق والأدلة.
[align=center][ 21 ][/align]
منذ فترة من الزمن اقتحم إيران تيّار الفلسفة الأوربية، فترجمت بعض الكتب الفلسفية إلى اللغة الفارسية، ولعل أول أثر فلسفي يترجم إلى هذه اللغة هو كتاب " مقال في المنهج " لديكارت الذي ترجم قبل قرن من الزمن على يد كنت كوبينو ومساعدة بعض من أعوانه، ثم شاع صيت العلوم الغربية وترددت على ألسن الناس أسماء العلماء والفلاسفة الغربيين، وانتشرت الكتب باللغة المحلية، واستطاع البعض أن يطلّع على ما يكتب أو ينشر في المجلات باللغة العربية مما يدور حول النظريات الحديثة.
ومع أنه قد مرت برهة من الزمن على رغبة بعض الناس في تطعيم الفلسفة القديمة بالعقائد والآراء الحديثة، وفي إجراء المقارنة بين النظريات المعاصرة ونظريات الفلاسفة المسلمين، ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى المجال العملي مع الأسف الشديد، ومنذ ذلك الزمن ولحد الآن إما أن تكتب المؤلفات الفلسفية بطريقة القدماء، وأحياناً كانت تتبع الآراء القديمة في تناولها للأمور المتعلقة بالطبيعيات والفلك، ونحن نعلم أن النظريات الحديثة تخالفها تماماً، وإما أن تكون ترجمة ونقلاً فقط للنظريات الحديثة.
ولما كانت طريقة التحقيق وتناول الفلاسفة المحدثين مختلفة تماماً عما نعهده عند القدماء، ومن ناحية أخرى فإن أغلب المسائل المطروحة في الفلسفة القديمة وخصوصاً في فلسفة صدر المتألهين وهي تؤدي دوراً أساسياً في فلسفته لم تنل إلا اهتماماً ضعيفاً أو لم يُلتَفت إليها إطلاقاً وصُرف الاهتمام نحو مواضيع أخرى لم يعرها القدماء إلا اهتماماً ضئيلاً أو لم يهتّموا بها إطلاقاً- لما كان الأمر كذلك لم تستطع هذه الكتب بقسميها أن تحقق الهدف الذي كان يتطلع إليه ألئك الداعون إلى التطعيم والمقارنة.
[align=center] [ 22 ][/align]
ولهذا فإن هذا الكتاب - الذي يمثل الجزء الأول منه الآن أمام نظر القارئ الكريم - لم يولّف بأحد هذين الأسلوبين الفلسفيين اللذين مرّ الحديث عنهما قبل قليل.
وهو يشتمل على دورة فلسفية مختصرة، ويوضح أمهات المسائل الفلسفية، وقد تم بذل الجهد فيه- حد الإمكان- ليكون مفهوماً عند أغلب الناس سهل التناول وذلك ليتمكن الأشخاص الذين يتذوقون الدراسات الفلسفية ويتمتعون باطلاع ولو مختصر في هذا المجال من الاستفادة منه، ولهذا أعرضنا عن ذكر الأدلة والبراهين المتعددة لكل موضوع وانتقينا أسهل السبل وأبسط البراهين لإثبات المدعى.
واستفيد في هذا الكتاب من التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام من عمرها، واستفيد أيضاً فيه من تحقيقات علماء أوربا العظام.
واستعرضنا فيه المسائل التي تحظى بالأهمية في الفلسفة القديمة والمسائل التي هي جديرة بالبحث في الفلسفة الحديثة. وسوف نلاحظ ضمن هذا الكتاب بعض المسائل التي لم يتقدم بحثها لا في الفلسفة القديمة ولا في الفلسفة الحديثة، مثل معظم المسائل الواردة في المقالة الخامسة، ومثل المسائل المدرجة في المقالة السادسة.
وفي المقالة السادسة تمّ تناول جهاز الإدراك والتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية بالنقد والتمحيص بشكل لم يسبق له مثيل. وأوضحنا فيها هوية الإدراكات الاعتبارية وموقعها بحيث استطعنا فصلها عن الفلسفة. وقد كان اختلاطها بالفلسفة سبباً لوقوع كثير من الفلاسفة في الضلال.
واحتفظت الفلسفة في هذا الكتاب بحدودها ولم تختلط بالعلم، وروعيت العلاقة بين العلم والفلسفة، ولكن قطعت فيه العلاقة تماماً
[align=center][ 23 ][/align]
بين الفلسفة وعلم الفلك القديم والطبيعيات القديمة، واستفدنا أيضاً في الموقع المناسب من النظريات العلمية الحديثة.
ـــــــــ
ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي دام بقاؤه الذي أنفق عمره في تحصيل الفلسفة وتدريسها، وأحاط بآراء ونظريات الفلاسفة المسلمين الكبار من قبيل الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق وصدر المتألهين وغيرهم،وعلاوة على هذا فإنه استوعب بدافع فطري وذوق طبيعي أفكار الفلاسفة المحققين في أوربا، وهو ينهض بعبء تدريس الفقه والأصول وتفسير القرآن. وبالإضافة إلى هذا فهو ينفرد بتدريس الحكمة الإلهية في الحوزة العلمية في قم. وقد حضرت جانباً من دروسه الفلسفية (إلهيات الشفاء لأبن سينا) واستفدت من هذه الدروس الشيء الكثير.
وتدور في ذهنه- منذ سنين عديدة- فكرة تأليف دورة فلسفية تشتمل على التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام، وتضّم الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، بحيث تستطيع تقريب المسافة الواسعة التي تبدو أنها تفصل بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، فتؤخذان على أنهما فنان مختلفان وغير مرتبطين ببعضهما. وبحيث تستطيع هذه الدورة الفلسفية التي تلبّي الحاجات الفكرية المعاصرة وتبيّن قيمة الفلسفة الإلهية التي تتجلى فيها عظمة العلماء المسلمين، والتي تشيع عنها الفلسفة المادية أنها قد انتهت مرحلتها التاريخية.
ومنذ برهة من الزمن والأستاذ يراقب ازدياد المنشورات الفلسفية واهتمام الشباب المثقف بالآثار الفلسفية للعلماء الأوربيين التي
[align=center][ 24 ][/align]
تخرجها المطابع في كل يوم بصورة ترجمة لمقالة أو كتاب، وهذا بنفسه دليل على وجود روح البحث والتفحص وطلب الحقيقة عند هؤلاء. وليس هذا الشيء أمراً استثنائياً وإنما له سابقة تاريخية تمتد لآلاف السنين. ومن جهة أخرى فهو يلاحظ المنشورات الطافحة بالدعايات السياسية والحزبية للفلسفة المادية الجديدة (المادية الديالكتيكية). كل هذه الأمور دفعته ليخطو نحو هدفه خطوة جديدة، فبادر إلى تشكيل مؤسسة إسلامية للبحث والنقد الفلسفي تضم مجموعة من العلماء. وتم الاتفاق منذ سنتين ونصف على أن يعّد الأستاذ بعض البحوث الفلسفية خلال الأسبوع ثم تقرأ هذه المواضيع في اجتماعات المؤسسة، وخصصوا لها ليلتين من الأسبوع. ثم يسمح للحاضرين في إبداء آرائهم وانتقاداتهم. وأسعفني الحظ في حضور هذه الاجتماعات عندما كنت في قم وذلك قبل سنة ونصف، ولا تزال هذه المؤسسة تواصل سيرها. ونتيجة لهذه الجهود دونّت لحد الآن أربع عشرة مقالة فلسفية، أربع منها يحتويها هذا الجزء الذي هو الآن بين يدي القارئ الكريم.
إن هذا العمل لشيء مهم جداً يدفع الفلسفة في إيران إلى مرحلة جديدة من عمرها.
فطلاب الفلسفة كانت معلوماتهم تنحصر فيما يقرءونه في كتبهم الدراسية المتداولة، ولكنه لم يمر على محاولة الأستاذ هذه إلا بضع سنين حتى ازداد في قم عدد الطلاب الذين يتمتعون بمعلومات فلسفية جامعة نسبياً وإحاطة بالبحوث الفلسفية ولا سيما الفلسفة المادية، وعرفوا- بدقة- المغالطات التي يتوسل بها أصحاب هذه الفلسفة.
وكان الطلاب والمتذوقون منذ البدء يكتبون هذه البحوث،
[align=center][ 25 ][/align]
واهتّم بها بعض طلاب البحث الخارج في الحوزة العلمية في قم وأخذوا يتداولونها من يد إلى يد، حتى اقترح بعضهم أن تطبع هذه البحوث قبل سنة ونصف لتصل إلى أيدي الناس عموماً. وقد ذكر هؤلاء أن هذه الدراسات كتبت باللغة الفارسية ومع أن الأستاذ قد سعى في جعلها سهلة التناول ولكنها مع ذلك عسيرة الفهم لأغلب الناس ولهذا فهي محتاجة إلى التوضيح وتجديد النظر فيها.
وفي هذه الأثناء ألجأتني الظروف-وبعد خمس عشرة سنة من الدراسة العلمية في قم- لأغيّر مكان عملي إلى طهران.
ولكثرة أعمال الأستاذ العلمية من تدريس وتأليف في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة فقد ألقى مسؤولية إنجاز هذا الأمر على عاتقي. وحاولت خلال عدة شهور-وعندما تسمح لي أعمالي- أن انهض بهذه المهمة، فوضحت بعض أقسامها وأضفت بعض الأمور ( وذلك في المجالات التي رأيت فيها لزوم الإضافة)، فظهرت بهذه الصورة التي ترون. وأنا وحدي الذي أتحمل مسؤولية هذا العمل.
ووفقت لحد الآن إلى كتابة التعليقات لأربع مقالات من هذه السلسلة، وجمعتها لتكون الجزء الأول من هذا الكتاب. وتتناول المقالة الأولى تعريف الفلسفة ( ما هي الفلسفة؟)، وتتعلق المقالات الثلاث الأخرى بمسائل العلم (الإدراك) وهي بعنوان. " النظرية الواقعية والنظرية المثالية" و "العلم والإدراك" و "قيمة المعلومات".
أما المقالات التي كتبت لحد الآن من قبل المؤلف فهي:
المقالة الخامسة: ظهور الكثرة في العلم.
[align=center][ 26 ][/align]
المقالة السادسة: الإدراكات الاعتبارية.
المقالة السابعة: مباحث الوجود.
المقالة الثامنة: الإمكان والوجوب- الجبر والاختيار.
المقالة التاسعة: العلة والمعلوم .
المقالة العاشرة: الإمكان والفعلية - الحركة- الزمان .
المقالة الحادية عشرة: الحدوث والقدم -التقدم، التأخر، المعية.
المقالة الثانية عشرة: الوحدة والكثرة.
المقالة الثالثة عشرة: الماهية- الجوهر والعرض.
المقالة الرابعة عشرة: الكون ورب الكون (الإلهيات).
ـــــــــ
وتناولها ضمن هذه البحوث كثيراً من آراء العلماء السابقين والمحدثين بالبحث والنقد، وانصب اهتمامنا بصفة خاصة-ولعلّه سوف تذكر في محلها- على المادية الجديدة ( المادية الديالكتيكية) وسعينا جهد الإمكان لنوضح الانحرافات الواقعة في هذا المذهب.
وهناك عقائد مادية منذ أقدم الأزمنة كانت تنفي العلة الأولى أو تنفي تجرد الروح. ويظهر هذا بجلاء في بعض الكتب الفلسفية، ولكن المقطوع به تاريخياً أنه لم يوجد عند الماضين مذهب مادي معيّن ينكر كل ما وراء الطبيعة ويعتبر الوجود مساوياً للمادة. ومنذ العصور التاريخية القديمة كانت هناك بحوث عن عالم ما وراء الطبيعة، ولا شك أن هذه البحوث كانت ساذجة في أول الأمر ثم اتسعت وأصبحت برهانية وأكثر منطقية.
[align=center][ 27 ][/align]
ويظهر من الكلمات التي نقلها القدماء أن "هرمس" الحكيم قد نظم أول بحث فلسفي بشكل مذهب فلسفي، وتربى في هذه المدرسة الفكرية مجموعة من الفلاسفة يدعون بـ"الهرامسة". ويبدو من كتاب العلل المنسوب إلى "بليناس" أن الفلسفة كانت تسمى في ذلك العهد باسم علل الأشياء. وأتباع هذا المذهب يعترفون بوجود عالم ما وراء الطبيعة.
وتوجد لدينا بعد هذه المرحلة نظرات فلسفية مختلفة للمالطيين، ونستطيع أن نعتبر مرحلة المالطيين المرحلة الثانية لتكامل الفلسفة. وحسب ما يذكر التاريخ القديم والحديث وحسب ما ورد من ذكر لعقائد هؤلاء وآرائهم في كتب الفلسفة فإنهم كانوا يتحدثون عن عالم ما وراء الطبيعة.
وكذلك اليونانيون المعاصرون للمالطيين أو المتأخرون عنهم حتى زمان سقراط .
وينقل مثل هذا عن فلاسفة الهند والصين المعاصرين للمطاليين (في القرن السادس قبل الميلاد) أو قبل ذلك.
وعلى أية حال فنحن لم نجد بين الماضين مذهباً فلسفياً معيناً ذا أتباع وهو ينكر تماماً ما وراء الطبيعة.
أما الأفراد الماديون الدهريون الذين وجدوا في أغلب الأزمنة فهم أشخاص متحيرون مترددون يزعمون أن الأدلة التي يعرضها الإلهيون لم تستطع إقناعهم.
وعلى هذا فلا يمكن اعتبار الفلسفة المادية ذات جذور تاريخية، وإنما هي استطاعت أن تحدث ضجة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لأسباب سوف نذكرها عما قريب، واتخذت لنفسها شكل المذهب الفلسفي، وأخذت تتباهى وتظهر قوتها أمام المذاهب
[align=center][ 28 ][/align]
الأخرى، ولم يستمر هذا طويلاً حتى طويلاً حتى اندحرت في القرن العشرين وفقدت رونقها وجلالها وجبروتها.
ففي الحقيقة إذن تاريخ الفلسفة المادية لا يمتد إلى أبعد من القرن الثامن عشر.
ولكن الماديين يحاولون أن يمنحوا المذهب المادي خلفيّة تاريخية غائرة في الماضي، ويحاولون إضفاء صفة المادية على العلماء العظام في العالم. فيقولون أن الطليعة في الثورة العلمية هم من الماديين، وأن الماديين هم الذين استطاعوا تفجير هذه الثورة. وعندما يتحدثون عن أرسطو يزعمون "أنه كان يتقلب بين المادية والمثالية".
وأحياناً يصفون ابن سينا بأنه " كان مادياً".
ويعتبر الماديون في ما ينشرون جميع الفلاسفة اليونانيين منذ زمن ثاليس المالطي وحتى زمان سقراط من الماديين.
ويسمى بخنر الألماني المادي الشهير الذي عاش في القرن التاسع عشر في المقالة الخامسة من شرحه لنظرية دارون والذي ترجمة إلى اللغة العربية الدكتور شبلي شميل، يسمى بخنر في هذه المقالة كثيراً من الفلاسفة بالماديين من قبيل انكسيماندر (انكسيمندروس) وإناكسيمن (انكسيمانوس) واكزينوفان ( اكسينوفانوس) وهراكليت (هرقليطوس) وبرمانيد (برمانيدس) وامبيروكل (انباذقلس) وديموكريت (ديمقراطيس).
ولكن الحقيقة أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء العلماء ماديين بمعنى كونهم منكرين لما وراء الطبيعة.
وصحيح أن هذه المجموعة من العلماء عُرفت في تاريخ الفلسفة باسم الطبيعيين أو الماديين (وذلك في مقابل الرياضيين
[align=center][ 29 ][/align]
"الفيثاغوريين" القائلين بأن أصل العالم هو العدد وفي مقابل السوفسطائيين المنكرين لوجود العالم الخارجي) لأنهم يقولون بوجود المادة أو الأصل الأولي في الطبيعة.
فمثلاً يقول ثاليس أن الماء هو مادة المواد، ويعتبر انكسيمندروس الهيولى المبهمة مادة المواد، وانكسيمن الهواء، وهرقليطوس النار، وانباذقلس العناصر الأربعة، وذيمقراطيس الذرات الصغيرة التي لا تقبل الانقسام. فهؤلاء العلماء جميعاً كانوا يفسرون الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية، ولكنه لا يوجد دليل واحد على أنهم كانوا ينكرون ما وراء الطبيعة.
والذي يعتمد عليه الماديون وبعض الكتاب في نسبة إنكار ما وراء الطبيعة إلى هذه المجموعة لا يرتبط إطلاقاً بهذا الموضوع، وإذا بنينا على اعتبار كل القائلين بالمادة الأولى وتفسير الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية من جملة الماديين فلابد أن نعتبر كل الإلهيين من قبيل سقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وصدر المتألهين وديكارت، بل كل الأنبياء والأولياء في مختلف الأديان من الماديين أيضاً.
وعلاوة على هذا فإن الكتب الفلسفية تنقل بعض الآراء عن قدماء اليونان في الموضوعات المتعلقة بما وراء الطبيعة وهي تكشف عن أنهم كانوا من الإلهيين، مثل عقيدة ثاليس وعقيدة انكسيمانوس في باب علم الباري.
ومن الغريب أن بخنر نفسه ينقل أموراً تناقص مايدعيه، فمثلاً يقول بحق هرقليطوس:
" كان هرقليطوس يعتقد بأن النفس الإنسانية هي شعلة نار منبعثة من الأزلية الإلهية"
[align=center][ 30 ][/align]
ويقول بحق انباذقلس الذي يُعتبر الأب الأول لـ " الداروينية" ويعترف بأنه قد شرح بدقة نظرية التطور وتنازع البقاء لأول مرة- يقول بحقه:
"كان يعتقد بمفارقة النفس وينسب هذا إلى غاية معنوية وهي إن النفس تعود في تلك الغاية إلى حالتها الأولى حيث الراحة والشوق والحب".
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال هو أن العلماء الذين سبقوا سقراط قد تأثروا غالباً ببيئتهم فاعتقدوا بأمور تختلط بالشرك في مورد الآلهة وأرباب الأنواع.
وينقل بخنر عن هرقليطوس:
"إن أصل العالم هو النار وهي تتأجج تارة وتخبو تارة أخرى، وهذه لعبة لـ "جوبيتر" (أحد الآلهة) وهو يلعبها دائماً مع نفسه".
ولا شك أن كلام هؤلاء العلماء لا يخلو من الرمز ولهذا فنحن لا نستطيع أن نقطع بمقصودهم الحقيقي.
وينقل صدر المتألهين في أواخر الجزء الثاني من الأسفار كلمات من ثاليس وانكسمايس وإنكساغورس وانباذقلس وأفلاطون وأرسطو. وديمقراطيس وأبيقورس (ابيكور) وفلاسفة آخرين. ويدعى أن هذه الكلمات ترمز إلى أمور لم يدرك حقيقتها ناقلو أحاديثهم، ثم يؤولها بما يتلاءم مع آرائه في الحركة الجوهرية وحدوث العالم.
والأدلة التي تذكر على أساس أنها ثبتت كون بعض القدماء أو المتأخرين من الماديين ليس لها أي ارتباط بهذا الموضوع من قبيل "الاعتقاد بالمادة الأصلية أو مادة المواد" أو " تعليل الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية" أو الاعتقاد بأن "نظام الوجود نظام