|
-
راس المال يصنع الحرب وامبراطورية امريكا
الموضوع نقلا عن جريدة السفير اللبنانية
2003/07/01
صناعة القرار الأميركي الآن
محمد حسنين هيكل
أولاً: إمبراطورية قطاع خاص!
تظل الإمبراطورية الأميركية قضية أساسية تستدعى البحث والدرس، وبعدها فإن ما جرى ويجري في العراق طوال الأسابيع الأخيرة عملية ممارسة لقوة هذه الإمبراطورية تثير الألم والوجع، وسوف تظل كذلك حتى يجيء الأوان ويتمالك العالم أعصابه وإرادته لكنه بدون البحث والدرس في القضية الأساسية فأي تناول للممارسات سطحي، وكل وصفة لعلاجها مهدئ، يداري عِللها ولا يداويها!
وعليه فإن الوقوف أمام المشروع الإمبراطوري الأميركي سواء في ذلك نظرياته المتطورة مع الوسائل الحديثة، أو رجاله المتغيرون مع العصور المستجدة هو الذي يشرح ما جرى ويجري في العراق (وربما في غيره)، ويكشف كيف جاء رجال من أمثال <<ريتشارد تشيني>> (نائب الرئيس الأميركي الحالي)، و<<دونالد رامسفيلد>> (وزير الدفاع ومهندس حملة العراق)، و<<بول وولفويتز>> (مساعد وزير الدفاع) و<<ريتشارد بيرل>> (رئيس لجنة سياسات الدفاع السابق) فأمسكوا بمفاتيح القرار الأميركي، ثم فتحوا الأبواب على آخرها واحتلوا واحدة من أغلى العواصم، وأغناها إسهاما في الثقافة العربية الإسلامية، وأبرزها تأثيرا في المحيط الحضاري الإنساني الأوسع والأكبر.
وليس أشد إثارة للملل في الفكر العربي المعاصر من هؤلاء الذين ينسبون كل وقائع التاريخ إلى تدبير المؤامرة غير أولئك الذين يتوهمون أن الإمبراطورية مبرة خيرية، وأن مطالب الهيمنة دعوة هداية ورُشد تشع من البيت الأبيض الأميركي، أو من وزارة الدفاع (البنتاغون) أو من مقار الشركات العملاقة أو من مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية ابتداءً من <<مجلس العلاقات الخارجية>> في نيويورك وحتى مؤسسة <<راند>> في كاليفورنيا.
وداعي الملل أن أصحاب نظرية التاريخ المتآمر، ومعهم أنصار نظرية الهيمنة العذراء كلاهما يثير الغبار والدخان من حول واقع الحال، ومجمله أن العلاقات الدولية صراعات قوى، ومصالح تمارس فعلها بالنار، وتندفع إلى سباق الحياة بأقصى سرعة يسمح بها العقل والعلم، وهي تجرب فرض إرادتها بكل الوسائل علنا وسرا إقناعا وقسرا حربا مكشوفة أو تربصا في الظلام. وهنا فإن التاريخ يصعب جزافا اعتباره مؤامرة مستمرة، لكن في اللحظة نفسها يصعب إطلاقا اعتباره فردوسا للأطهار!
والواقع أن تاريخ الإمبراطوريات يكشف أشياء، كما أن تجربة هذه الإمبراطورية الأميركية تضيف إلى الكشف القديم أشياء أكثر، لأن هذه الأخيرة ظاهرة مستجدة، كما أن صُنَّاعها طراز مختلف عمن سبقوهم على نفس الطريق، فلم يحدث من قبل أن اختلطت المشروعات الإمبراطورية الكبرى بالمصالح الشخصية المباشرة كما يحدث في حالة المشروع الإمبراطوري الأميركي اليوم، وأول الأسباب أن التجربة الإمبراطورية الأميركية في الجانب الرئيسي منها مشروع مالي (شبه خاص!) وهنا اختلافه عما سبقه. ومع التسليم بالعلاقة العضوية بين الإمبراطورية والثروة فإن المشروع الأميركي غَيَّر ترتيب العلاقة وبَدَّل تركيبتها، وجاء بأحوال غير مسبوقة في نشأة الإمبراطوريات وقيامها.
....................
....................
وهنا يكون مناسبا طرح عدد من البدهيات قبل الاستطراد في الموضوع:
1 منها أن <<الإمبراطورية>> حلم لا يقوم على المزاج الشخصي لأمير أو ملك أو رئيس يستهويه أن يسمي نفسه إمبراطورا، (مثل <<هيلاسلاسي>> الذي اتخذ لقب إمبراطور إثيوبيا (لعموم أفريقيا) في أوائل القرن العشرين، أو مثل <<بوكاسا>> الذي قام بوضع تاج على رأسه في أواخر نفس القرن إمبراطورا على طريقة <<نابليون>>، فتلك وغيرها من نزوات البشر) بل يقوم الحلم الإمبراطوري على ضرورات أمن وطني، ومطالب صراع دولي، وحوافز سباق نحو التوسع والثروة على اتساع القارات وعبر المحيطات، كما حدث في التاريخ الحديث مع إمبراطوريات البرتغال وهولندا وأسبانيا وبريطانيا وفرنسا (وغيرها).
2 ومنها أن <<الإمبراطورية>> لا تظهر وتكبر بطريقة عفوية وتلقائية، وإنما تنشأ وتكبر بدرجة من القصد والجهد تتولى تصميم وهندسة المشروع الإمبراطوري، وتقوم على توجيه حركته، لأنه ليس هناك وطن أو أمة أو دولة تنام في المساء وتستيقظ في الصباح، فإذا هي قوة إمبراطورية غالبة، قادرة على تطويع غيرها وحكمه، وإنما يتشكل أي مشروع إمبراطوري بضرورات، ومطالب، ووسائل، وأدوات واعية وفاعلة، وحتى إذا بدت نشأة المشروع الإمبراطوري حلما فإن ظهور الحلم خلافا للوهم سعيه الدؤوب والمقتدر إلى تجاوز الحدود لتحقيق طلبه خطوة واثقة بعد خطوة واثقة!
3 ومنها أن الإمبراطورية في تلك الأحوال كانت مشروعات كبرى لشعوب وأمم ودول، تحمل بها الأمراء (مثل <<هنري الملاح>> في البرتغال) والملوك (مثل إليزابيث الأولى في بريطانيا) والوزراء (مثل <<كولبير>> وزير <<لويس الرابع عشر>> في فرنسا) وكان هؤلاء الأمراء والملوك والوزراء هم الذين وجهوا رجالهم إلى ركوب البحر واجتياز البر (مثل <<كريستوفر كولمبوس>> الذي اكتشف أميركا لحساب ملوك أسبانيا ومثل <<فاسكو داغاما>> الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند لصالح ملوك البرتغال، وأقام مستعمرة أنغولا على الشاطئ الغربي للقارة الإفريقية ومستعمرة موزمبيق على شاطئها الشرقي ومثل <<كلايف>> غازي الهند ومؤسس حكومتها البريطانية في <<كلكوتا>> ثم في <<دلهي>>)، والمعنى أن الإمبراطورية كانت دائما مشروعا عاما يحمل رمزا ملكيا، ويحمل راية وطنية، ويمثل مصلحة عليا، وهو بهذا التكليف يحرك الأساطيل ويوجه الجيوش، ويغزو البلدان، ويحكم الأقوام، ويستولي على الثروات.
4 ومنها أن الإمبراطورية على طول الزحف الإمبراطوري من القرن الخامس عشر وحتى القرن العشرين كانت مجلبة للمنافع العامة: الاقتصادية والاستراتيجية، ووسيلة لتكديس تراكم في الثروة فاق الحدود في بعض الأحيان لكن نسق الحقائق بقي جليا طول الوقت:
أي ظلت الإمبراطورية مشروعا وحافزا عاما لشعب أو أمة تعبر عنهما إمارة أو مملكة أو دولة تحصلت على أدوات المنعة والقوة.
وظلت حظوظ الأفراد في الثروة تالية للإمبراطورية (حتى وإن مشت بعض الطلائع على مسؤوليتها تمهد وتجس الأرض وتستكشف) أي إن المكاسب الرأسمالية الطائلة كانت مثل العربة تجيء وراء القاطرة وليس قبلها.
5 وظلت الإمبراطورية موقع القيادة، لا ترضى للقوة أن تتورط وراء الطمع بغير تدبر، ثم إنه بعد أن تؤدي القوة دورها الإمبراطوري المحسوب، يكون للفرصة الشخصية أن تبحث عما تريده حيث تجده!
......................
......................
وعلى سبيل المثال تظل الإمبراطورية الأسبانية في أميركا اللاتينية في بعض جوانبها قصة تُعاد صياغتها وتستعاد روايتها في تجارب إمبراطورية متعددة، فقد اشتهرت بدايات ذلك العصر الإمبراطوري الأسباني بأنها <<القرن الذهبي لأسبانيا>>، وعلى طول ذلك القرن فقد خصص الملوك الأسبان أقوى أساطيلهم في المحيط الأطلسي لجلب الذهب، وقد عرف هذا الأسطول باسم <<أسطول الكنوز>>، وكانت سفنه هي الأحدث والأسرع، والحاملة لأقوى المدافع، وقادته أنجح أمراء البحر الأسبان.
وكانت كنوز ممالك <<مونتزوما>> في المكسيك <<والانكا>> وسط جبال <<الإنديز>> هي نهر الذهب الذي سال وفاض، حتى أُعيد صب قناطير منه مرة على شكل سرير من الذهب الخالص، تستقبل عليه الملكة <<إيزابيللا الثانية>> عُشاقها في قصر الأرانخويز (ضاحية مدريد الجميلة).
أي إنه بصرف النظر عن سفاهات الملوك والأباطرة فإن قواد حملات جلب الذهب الأسبان مثل <<كورتيز>> (الذي نهب كل ما عثر عليه من ذهب مملكة <<مونتزوما>>)، ومثل <<بالبوا>> (الذي نهب ذهب قبائل أميركا الوسطى) عملوا باسم الملوك ولحسابهم، حتى إن <<بالبوا>> عندما عبر برزخ بنما من الغرب إلى الشرق ورأى المحيط الهادئ أمامه قام بسرعة بتنظيم مراسم احتفال يعلن فيه أن هذا المحيط اللامتناهي أصبح من هذه اللحظة بحرا خاصا مملوكا مباشرة <<لصاحب الجلالة الأسبانية>>.
......................
......................
ولعل محاضر مجلس العموم البريطاني بالذات محضر يوم 11 فبراير سنة 1868 تقدم نموذجا دقيقا لعلاقة العام والخاص في المشروع الإمبراطوري.
كان اجتماع مجلس العموم يومها مخصصا لبحث نفقات واحدة من الخبطات الإمبراطورية المشهورة في التاريخ البريطاني، هي صفقة شراء حصة مصر في شركة قناة السويس، وكان خديوي مصر (<<إسماعيل باشا>>) قد عرضها للبيع مقابل أربعة ملايين من الجنيهات الذهبية، وبادر رئيس الوزراء البريطاني وقتها <<بنيامين دزرائيلي>> (وهو اليهودي الوحيد الذي وصل لرئاسة الوزارة البريطانية حتى اليوم) إلى قبول العرض، ولأن مجلس العموم البريطاني كان في إجازة ولأن الخزانة البريطانية لم تكن تستطيع تدبير وتقديم هذا المبلغ سرا (حتى لا يعرف به منافس أو عدو) ولأن تدبير المبلغ كان لا بد أن يحصل بسرعة (لأن خديوي مصر يتعجل وصول الذهب إلى يديه) فإن <<بنيامين دزرائيلي>> قام بإقناع عائلة <<روتشيلد>> بإقراض المبلغ للحكومة البريطانية وتجهيزه في ظرف 24 ساعة كي تحمله الباخرة <<بليموث>> قبل أن تبدأ رحلتها العادية إلى الإسكندرية، ويجري تسليمه إلى خديوي مصر مقابل تسلم أسهمه في شركة قناة السويس.
وطبقا لمحضر مناقشات مجلس العموم (المجلد الثالث الصفحات من صفحة 652 إلى صفحة 661 بتاريخ 21 فبراير 1876) فإن وزير الخزانة طلب من المجلس اعتماد الصفقة وتخصيص المبلغ اللازم لها، وفوقه مقدار العمولة المستحقة عليها (بنسبة 15%) <<للسادة روتشيلد>> وشركاهم.
كان وزير الخزانة السير <<ستافورد نورثكوت>> هو الذي عرض مشروع القرار، لكنه عندما احتدمت المناقشات وقف رئيس الوزراء <<دزرائيلي>> بنفسه يرد على تساؤلات واعتراضات عدد من أعضاء المجلس انتقدوا الصفقة بما فيها دور <<روتشيلد>>، متسائلين عن سبب الاستعانة ببيت مالي، وتركز الكثير من سخطهم على حجم عمولته:
ولعلعت أصوات المعارضين في مجلس العموم ذلك اليوم.
كان بعضهم يرى أن قناة السويس مشروع فرنسي لا يصح لبريطانيا أن تشارك فيه، لكن رئيس الوزراء <<دزرائيلي>> قال إن ذلك الرأي كان من البداية <<قِصَر نظر إمبراطورياً>> لا يغتفر للمسؤولين عنه في وقته، لأن قناة السويس أقرب طريق إلى الهند، وعلى بريطانيا أن تعوض الآن ما فاتها بشراء حصة تُقارب النصف في شركة قناة السويس (وهي حصة مصر).
(وكان بعضهم يتخوف من أن شركة قناة السويس اشترطت لكى تعطي حصة لخديوي مصر، أن تكون أسهمه صامتة ليس لها حق في التصويت في مجلس إدارة الشركة، أي إن ممثلي الخديوي أعضاء لهم حق الحضور دون حق الكلام، ورد <<دزرائيلي>> الإنكليزي بأن <<الأعضاء المحترمين الذين أشاروا إلى أن الحصة المصرية صامتة ينسون أنها عندما تصبح في يد الحكومة الإنكليزية فإنها سوف تكتسب بالضرورة مقدرة النطق، وبالتالي حق التصويت).
وكان بعضهم يتساءل عن حكمة الاستعانة ببنك خاص لتمويل الصفقة، ورد <<دزرائيلي>> بأن <<مجلس العموم كان في إجازة ولو دعا لجلسة طارئة لَلَفَتَ ذلك أنظار العالم بما فيه الحكومة الفرنسية، وهي كفيلة بأن تصطنع من العراقيل ما يكفى لإفساد الصفقة، لتحول دون دخول الحكومة الإنكليزية بحصة تقارب النصف في شركة القناة.
وأخيرا أبدى بعضهم شكه في دور <<البيت المالي>> الذي كُلف بالمهمة وجهز الذهب في أربع وعشرين ساعة، ثم تقاضى عمولة مقدارها 15%، ورد <<دزرائيلي>> متسائلا في البداية: <<هل يتصور الأعضاء المحترمون أن المستر <<روتشيلد>> أو غيره من الأغنياء يحتفظ تحت يده نقدا سائلا بمبلغ كبير من الذهب يوازي المطلوب لشراء حصة النصف في شركة قناة السويس؟>> ثم رد على سؤاله قائلا: <<بالطبع لا يوجد مثل هذا الرجل لا <<روتشيلد>> ولا غيره، والذي جرى أن <<روتشيلد>> في سبيل توفير ما طلبته الحكومة منه، اضطر إلى بيع كميات كبيرة من أوراقه المالية، وفعل ذلك بسرية وهدوء حتى لا تنخفض أسعار هذه الأوراق، وبرغم ما تحوط به فإنه بسبب ضخامة المبلغ تعرض <<روتشيلد>> لخسائر، ومع ذلك أنجز الرجل مهمته، وقدم الذهب ودفعته الحكومة البريطانية في موعده، وبالتالى فإنه خدم الإمبراطورية ولا نملك في المقابل أن نعاقبه>>.
ثانياً: تحذير في الوقت المناسب
لم يسمعه أحد!
يتأكد مع وقائع كل يوم أن الاختلاف الأهم بين الإمبراطورية الأميركية والإمبراطوريات الأوروبية التي سبقتها هو تلك العلاقة مع رأس المال، ففي التجربة الأوروبية كان رأس المال يتبع الإمبراطورية ويمشي وراءها يلتقط فضلات غزواتها متأكدا من حمايتها وأما في التجربة الأميركية فقد انعكس الترتيب وأصبح رأس المال الأميركي هو الأسبق على الطريق الإمبراطوري، وقد ساوره الوهم في البداية بقدرته على حماية نفسه وغيره أيضا لكنه لم يلبث أن عرف حدوده فراح يستدعي وراءه جيوش الإمبراطورية وأساطيلها.
....................
.....................
(وربما يتذكر البعض أن شركة <<ينيل>> التي وقع هجوم إرهابي في أوائل شهر مايو الماضي على المجمع السكني المتميز لموظفيها في عاصمة السعودية بدأت كشركة أعمال حراسة تتولى تأمين حقول البترول والآبار وخطوط أنابيب نقل البترول، وهي بطول عشرة آلاف كيلومتر مكشوفة في العراء، وبعضها مثل منطقة <<أبقيق>> مركز تجمع يتدفق منه أكثر من ثلاثة أرباع ثروة المملكة، كما أن الخطوط منها إلى ميناء ينبع ممتدة عبر الصحراء من الخليج إلى البحر الأحمر. وكانت شركة <<ينيل>> تعمل بمقتضى عقد مع شركة <<أرامكو>>، ولتحقيق عقدها استخدمت شركة <<ينيل>> أكثر من عشرين ألف موظف، ضمنهم ثمانية عشر ألف حارس مسلح أي إنه نظام أمن خاص لمصالح خاصة.
وفي ما بعد أنشأت شركة <<ينيل>> هيئة عسكرية مستكملة تتولى تدريب قوات الحرس الوطنى السعودي، وكان ذلك قبل أن تهب العواصف على الخليج، وتنزل القوات الأميركية بكامل سلاحها وعتادها وخططها تعزيزا وتدعيما لشركة أرامكو وشركة <<ينيل>> معا (الحارس والمحروس!).
....................
....................
وكانت العلاقة بين المال والإمبراطورية متسقة إلى حد ما مع روح التجربة الأميركية، باعتبار أن الجهد الفردي الخاص هو الذي توسع في القارة الأميركية وانتشر، وهو الذي مشى بالتركيبة الأميركية الفريدة من جماعات مهاجرين، إلى تجمعات مستوطنين، إلى مجتمعات مدن وولايات، ثم إلى دولة أميركية سعت إلى ضم الجميع تحت علم واحد، حتى بوسيلة الحرب الأهلية بغية تعزيز سلطة هذا العلم الواحد، لكى يرفرف على سوق أكبر تضم الشمال الصناعي إلى الجنوب الزراعي.
وعندما انطلق رأس المال الأميركي بعد الحرب الأهلية إلى مغامراته الخارجية، فإنه بدأ بالأقرب، أي أميركا الوسطى، وهناك أخذ يستولي على امتيازات الأرض الزراعية الأكثر خصبا كما فعلت شركة <<الفواكه المتحدة>> في <<بنما>> و<<كوستاريكا>> و<<غواتيمالا>> وغيرها.
ثم كانت الخطوة التالية بعد الأقرب هي الأقل بعدا أي أميركا اللاتينية، وهكذا بدأت على سبيل المثال مغامرة <<جون روكفلر>> الكبيرة في البحث والتنقيب عن بترول <<فنزويلا>> ثم في غيرها، حتى جاء الدور بعد ذلك على البعيد في آسيا وفي الشرق الأوسط.
وفي <<فنزويلا>> كان متوسط دخل <<روكفلر>> من مغامرته عشرة ملايين دولار سنويا، وهو في ذلك الوقت مبلغ يوازي نسبة ستة في المئة من الدخل القومي الأميركي، وعندما طلب <<روكفلر>> حماية الدولة الأميركية فإنه كان يعتقد بحق مكفول له. كان <<روكفلر>> قد استعمل في تأمين مصالحه في <<فنزويلا>> وسائل مرعبة، منها نقل قبائل كاملة من مواطنها، وإبادة مجتمعات بأسرها من وجه الأرض، وعندما تعرضت مصالحه للخطر، أصبحت حاجته ملحة إلى سلاح الدولة الأميركية يلحق بشركته وكانت تلك نقلة محورية على طريق الإمبراطورية.
ولم تكن مغامرة <<روكفلر>> قصة فريدة من نوعها، بل كانت نموذجا تكرر عشرات المرات، ولم تقتصر المغامرات المالية على الزراعة والبترول، وإنما توسع النشاط ليشمل كل مجالات استغلال الموارد الطبيعية ومصادر الثروة الظاهرة والكامنة إلى درجة الاستيلاء على البلدان والأسواق بكاملها بشكل أثار القلق.
وربما أدرك <<روكفلر>> وغيره أن عملياتهم المباشرة تبدو لكثيرين قرصنة عدوانية، وكان اجتهادهم أنها تحتاج إلى قناع، وبدا لروكفلر ولغيره أن أفضل وسائل التخفي هي تحويل مصالحهم من شركات استغلال مباشر ومكشوف إلى بيوت مالية للاستثمار تدير أعمالها من قواعد بعيدة، وتتستر وراء واجهات واسعة تحمل لافتات أكثر احتراما، وكذلك أنشأت أسرة <<روكفلر>> مجموعة بنوك اندمجت معاً في ما بعد، والتحفت بغطاء بنك واحد شهير أنشأته هو مجموعة <<تشيز مانهاتن بنك>>، ومشى آخرون غير أسرة <<روكفلر>> على نفس الطريق.
وكذلك أصبح بنك الاستثمار واجهة للنشاط الرأسمالي الأميركي أكثر ذكاءً وحصافة في تغطية المصالح من ناحية، وفي تدبير حمايتها من ناحية أخرى بتليين السياسة وتحضيرها لمهام شبه إمبراطورية، ثم إن مجموعات بنوك الاستثمار أصبحت أهم <<جماعات الضغط>> التي حرضت على التدخل الأميركي العسكري في الحرب العالمية الأولى، وجَرَّت الولايات المتحدة وراءها عبر المحيطات، ودفعتها لإرسال الجيوش عبر القارات تحمي مصالحها، وتفرض لها حقا في شراكة حيوية مع المصالح الإمبراطورية الأوروبية المتسيدة وقتها (وإرثها في الوقت المناسب).
أي إن الإمبراطورية الأميركية راحت تتقدم خطوة بعد خطوة رغم أن الدولة الأميركية بقيت حتى تلك اللحظة بين إقدام وإحجام حائرة بين جموح الرغبة وبين محاذير الخطيئة.
وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى، قدر الرئيس الأميركي وقتها <<وودرو ويلسون>> أن أميركا ليست مستعدة بعد لمنافسة الإمبراطوريات الأوروبية (فضلا عن إرثها)، واستقر رأيه على إعادة الجيوش الأميركية من ميادين القتال في أوروبا دون مشاركة في النظام الدولى الذي أقامته الحرب العالمية الأولى وهو عصبة الأمم. وكانت تلك العودة خيبة أمل كبيرة لرأس المال الأميركي، الذي راعه أن <<دولته الأميركية>> تأخرت في إعداد نفسها لمهام الإمبراطورية.
وبطبيعة رأس المال وبالذات في مناخ التجربة الأميركية، فإنه رغم تبرمه من ضيق خيال الدولة الأميركية أو ربما بسبب هذا التبرم قرر أن يتصرف على مسئوليته، ويحاول تعويض قصور الدولة الغائبة بجهده السَبَّاق. وهنا وقع تحول أساسي في التمهيد والتهيئة والإعداد في عملية صنع القرار السياسي مؤدى هذا التحول الأساسي أن رأس المال قرر أن يمسك الضرورة الإمبراطورية في يده، ويصنع لنفسه أدوات هي بطبيعتها احتكار للدولة (على الأقل في ذلك المنعطف من التاريخ).
وبدون الدخول في تفاصيل متشعبة فقد كانت تلك هي اللحظة التي قررت فيها الرأسمالية الأميركية أن توفر لنفسها قواعدها <<شبه السياسية>>، وهيئاتها <<شبه الحكومية>>، ورؤاها <<شبه الاستراتيجية>>، وكان ذلك تطورا بالغ الأهمية شديد الحساسية.
فالعادة في التجارب الإمبراطورية السابقة أن السياسة (حربية وغير حربية) لا مجال لها خارج إطار الدولة (لأن ذلك تكليفها الأهم) كما كانت العادة أيضا أن قرار الدولة واقع تحت المسؤولية الدستورية (للحكم) وكذلك كانت العادة أن التخطيط الاستراتيجي اختصاص الأمن القومي (إلا إذا دار البحث فيه داخل نطاق الجامعات وفي مجال فلسفة ودراسة علوم الصراع).
وفي إطار هذه الضرورة (الإمبراطورية) توصلت التجربة الأميركية إلى اختراع جديد هو مؤسسة الدراسات السياسية والاستراتيجية، وكانت البداية هي <<مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك>> (Council of Foreign Relations) الذي أنشئ رسميا سنة 1919، والذي رعته عائلة <<روكفلر>> ولا تزال ضمن رعاته حتى الآن وهو مجلس حدد إطار عمله بأنه <<متابعة الأوضاع الدولية وإثارة اهتمام الرأي العام الأميركي بها، وتأسيس موقع نفوذ يدعو إلى دور أميركي فاعل في القرار الدولي>>.
ومن المُلاحظ أن <<مجلس العلاقات الخارجية الأميركية>> وقت نشأته اعتمد على عناصر من وزارة الخارجية ومن المخابرات العسكرية ومن رجال الأعمال المهتمين بالسوق العالمية، ثم إن قيامه وعمله كان أشبه بما تقوم به الجمعيات السرية، والسبب أن مُنشئيه لم يكونوا بعد واثقين من تقبل الحكومة الأميركية لدوره ونشاطه، أو من نظرة الرأي العام داخل أميركا (وخارجها) لصلاته وارتباطاته، وفي الحقيقة فإن هذا المجلس كان ظاهرة مستحدثة تماما في العلاقات الدولية، وقد استطاع إثبات وجوده بتصميم ومثابرة، وفي البداية كانت وسيلته <<مجرد التفكير>>، لكن مجرد التفكير ما لبث أن أعطى نفسه <<إمكانية التأثير>>، إلى حد أن هذا المجلس أصبح مجمعا لنشاط أبرز العناصر الضاغطة على حتمية دخول أميركا ومشاركتها في الحرب العالمية الثانية لكي تضمن لنفسها كلمة مسموعة عند توزيع مناطق النفوذ، وتؤكد حقا لها في رسم الخطوط المستجدة على خريطة عالم سوف يُعاد تشكيله بعد أن تسكت المدافع.
وعندما شاركت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية قائدة للمعسكر المنتصر فإنها بهذه المكانة تولت إدارة المواجهة الكبرى التي وُصفت بالحرب الباردة، وفي زمن هذه الحرب الباردة توصل رأس المال الأميركي في مناخ طموحاته وقبل الدولة الأميركية إلى عدة نتائج:
أولاها: أن الحرب العالمية الثانية انتهت بتوازن جديد في القوى بين الولايات المتحدة (التي تعتبر أنها صاحبة الحق في إرث الإمبراطوريات القديمة) وبين الاتحاد السوفياتي (الذي يؤسس قوته على النظرية الشيوعية، وهي فكرة لها قوة جذب، خصوصا بالنسبة للشعوب الفقيرة التي توجد على أراضيها معظم الثروات الطبيعية في العالم (وأهمها البترول وبترول الشرق الأوسط) وبالتالي فإن الصراع العالمي الجديد في ركن أساسي منه صراع أفكار اجتماعية وسياسية.
وثانيتها: أنه والحال كذلك فإن هذا الصراع أخطر من أن يُترك لأجهزة الدولة الأميركية وحدها، فهذه الأجهزة مهما بلغت كفاءتها مؤسسات بيروقراطية، قد تُحْسِن <<تنفيذ السياسات>>، لكنها لا تُحْسِن <<صنع الأفكار القادرة على رسم سياسات>> ثم إن الأجنحة العسكرية لهذه البيروقراطية تملك أهلية استعمال السلاح، لكن المأزق أن السلاح الجديد (الذي أصبح نوويا) لم يعد قابلا للاستعمال، في حين أن قوة الأفكار هي عدة الحرب الجديدة (الباردة) وهذه تمارس دورها بدون عوائق أو روادع. والمحصلة أنه <<إذا كان السلاح النووي في يد البيروقراطية العسكرية غير قابل للاستعمال، وكانت البيروقراطية السياسية بطبائعها لا تقدر على صنع الأفكار، إذن فإن الدولة الأميركية سوف يتبدى عجزها وتضيع منها الفرصة، لأن جهاز الدولة مقيد عسكريا، ومحدود فكريا، وعليه فإن المصالح الأميركية لا بد لها أن تأخذ في يدها زمام المبادرة وتكون هي ظل الإمبراطورية حتى من قبل أن يتكون ويظهر جسم الإمبراطورية!>>.
وكان رأس المال الأميركي، بذكاء المصالح والتجارب، قد أدرك أن المفكرين عنصر قلق في مجتمعاتهم، وكان ذلك ملحوظا في الولايات المتحدة نفسها فترة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية)، فمعظم المهتمين بشئون الفكر والمستقبل جنحوا تلك الفترة دون أن يتعمدوا إلى اليسار، وكانت دلالة ذلك أن بعد الحرب العالمية الثانية وفي وجود الاتحاد السوفياتي وتأثيره فإن احتمال <<جنوح الفكر في أميركا>> لا بد من التحسب له أي لا بد من احتوائه في مرحلة، ثم إعادة توجيهه في مرحلة تالية، وكانت المعضلة في هذه اللحظة الفارقة هي البحث عن إطار مقبول ومحترم يحتوي الفكر المستعد للجنوح، ثم يعيد توجيه طاقته وحيويته <<بحيث يضيف ولا يخصم>> على حد تعبير <<آرثر شلزينغر>> (المؤرخ الأميركي الأشهر الذي أصبح في ما بعد أهم مستشاري الرئيس <<جون كنيدي>> في البيت الأبيض سنة 1961).
وكان الإطار الأمثل هو إطار <<المؤسسة>> (على مثال مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك)، بحيث يكون هذا الإطار جاهزا لاستقبال وتوظيف مئات وآلاف من المؤهلين لصناعة التفكير، يحصلون فيه على أعلى المكافآت لكى ينطلقوا، ثم تكون أفكارهم من الداخل قابلة للتأثير على الخارج وليس من الخارج نازلة على الداخل، وذلك وضع وصفه الرئيس <<ترومان>> (وكانت التجربة ما زالت تتشكل) بأن هؤلاء الناس <<ذوي الشعر المنكوش يستحسن أن يكونوا في الداخل وتتجه أحجارهم إلى الخارج بدلا من أن يكونوا في الخارج وتتجه أحجارهم إلى الداخل>>.
ومن ذلك التعليق يبدو أن <<ترومان>> لم يكن قد رأى بعد غير ظاهر التجربة، ولكن نجاحها عندما ظهر تجاوز تقديراته، وبين الدواعي أن <<المؤسسة>> أحسنت مكافأة المفكر، وساوته بمدير الشركة اعترافا بدوره في الزمن الجديد، وكذلك تم عقد صلح تاريخي بين الرأسمالي والمفكر، وخفت بشكل ملحوظ حدة التوتر (الطبيعي) بين الطرفين عبر التاريخ!
...................
...................
(ونتيجة لهذا المنطق الذكي لرأس المال الأميركي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية عشرات ومئات المؤسسات تحمل أسماء أصحاب أكبر المصالح (<<روكفلر>> <<فورد>> <<راند>> <<كارنيجي>> وغيرهم وغيرهم)، وتمكنت حتى أصبحت كل واحدة منها <<شبه حكومة>> تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي وتمارس نشاطات غير محدودة في مجال التفكير الاستراتيجي، ورسم السياسات، ومتابعة الأزمات، وكتابة الأوراق، واقتراح الحلول، والتفاوض أحيانا، وقد وجد الجميع في صيغة <<المؤسسة>> تحقيقا شديد الكفاءة لهدفين واضحين:
1 اكتشاف ورصد ودراسة الفضاءات التي تريد المصالح الكبرى أن تعمل فيها وتتوسع وتزيد أرباحها.
2 ثم القيام على علاقة صلة قُرب من دوائر القرار السياسي ومتابعة مداخلها ومخارجها، بما يحقق درجة من التوافق تسمح بتبادل المساعدة وتعظيم الفائدة.
وبالفعل فإنه في أجواء هذه المراكز ظهر وتألق ومارس الفعل الدولي عدد من أكبر نجوم الحرب الباردة، وبينهم على سبيل المثال معظم مستشاري الأمن القومي لرؤساء أميركا في الزمن الجديد مثل <<ماك جورج باندي>> مستشار الأمن القومى مع الرئيس <<جون كنيدي>> (من مؤسسة روكفلر) و<<هنري كيسنجر>> مستشار الأمن القومي للرئيس <<نيكسون>> (من مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك) و<<زبغنيو بريجنسكي>> مستشار الأمن القومي للرئيس <<كارتر>> (من مؤسسة بروكينغز) وحتى السيدة <<كونداليزا رايس>> مستشارة الأمن القومي للرئيس <<جورج بوش>> الابن (من جماعة المشروع الأميركي).
كان التأثير السياسي المتنامي لرأس المال الأميركي وتحالفاته وأدواته الطارئة، قد لفت نظر واحد من أشهر الرؤساء الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية وهو <<دوايت أيزنهاور>> الذي قاد الجيوش الأميركية (والجيوش الحليفة كلها) إلى النصر على ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وعندما أصبح الرجل رئيسا للولايات المتحدة بدأ يرى ويتابع الظاهرة الجديدة المتداخلة مع دور الدولة الأميركية، والضاغطة عليها تدفعها دفعا على الطريق الإمبراطوري وأحس <<أيزنهاور>> بالقلق يستبد به خشية عواقب خطيرة وغير محسوبة على الطريق الإمبراطوري.
وكان أكثر دواعي <<أيزنهاور>> إلى الإحساس بالقلق من الانزلاق (بأسرع مما هو لازم) دور <<رأس المال الأميركي>> ونفوذه المتزايد على السياسة الأميركية، مستعينا في ذلك بدور مؤسسات الفكر وطاقاتها المشعة المتوهجة.
ووجد <<أيزنهاور>> واجبا عليه مع انتهاء مدة رئاسته الثانية والأخيرة، أن ينبه ويحذر ويجعل من خطاب وداعه للأمة الأميركية نوعا من الوصية السياسية تستحق الآن (وبعد كل ما جري) دراسة بعمق موضوعية ورشيدة!).
.....................
.....................
في الساعة السادسة من مساء يوم 17 يناير 1961 (بتوقيت واشنطن)، وجه الرئيس الأميركي إلى الشعب الأميركي ما أسماه <<خطاب الوداع>>، بادئا بقوله:
<<بعد ثلاثة أيام من الآن، وبعد نصف قرن قضيته في الخدمة العامة للأمة الأميركية، سوف أقوم بتسليم مسؤوليات منصبي إلى خلفي الذي وقع عليه اختياركم (<<جون كنيدي>>).
وهذا المساء فإنني جئت إليكم مودعا ومستأذنا في الانصراف، وفي نفس الوقت فإن لدي بعض الهواجس التي أريد أن أفضي بها لكم حتى تشاركوني فيها، وتحملوا أمانتها إذا رأيتم صوابها>>.
وبعد هذا الاستهلال دخل <<أيزنهاور>> إلى الموضوع الذي ملك عليه مشاعره، قبل مغادرة البيت الأبيض، فاستطرد:
<<أريد أن أقول لكم إننا في الأوضاع الراهنة، خصوصا في هذا الصراع العالمي الذي نخوضه ضد عقائد دولية معادية للقيم الأميركية سوف نواجه أزمات صغيرة وكبيرة، لكنى أريد أن أحذر من غواية التوصل إلى حلول متسرعة واستعراضية للقوة، فتلك غواية مكلفة لأنه ببساطة لا يوجد حل سحري لأي مشكلة من المشاكل>>.
ثم واصل <<أيزنهاور>> كلامه:
<<إن كل قرار نتخذه لا بد من أن يُقاس بالمعايير اللازمة لحفظ التوازن بين الوطني والدولي، وبين العام والخاص، وبين الحاجة والواجب، وأن يكون قرارنا في كل الظروف برهانا يحفظ السياسة الأميركية من نزعات الجموح أو الإحباط>>.
ثم مضى <<أيزنهاور>> يقول:
<<إن دورنا في حفظ السلام العالمى طرأت عليه بحكم مسؤوليات الولايات المتحدة زيادة غير مسبوقة في صناعة السلاح، فقد اضطرتنا الظروف إلى توسع في صناعات السلاح فاق كل الحدود، حتى إننا الآن نملك جيشا قوامه ثلاثة ملايين ونصف المليون رجالاً ونساءً، كما أننا نوجه إلى الجانب العسكري في اقتصادنا ما يوازي دخل كل الشركات الأميركية مجتمعة، وهذه ظاهرة خطرة على حياتنا لأنها أدت إلى نشأة مجمع صناعي عسكري اقتصادي سياسي يصل نفوذه إلى بعيد في وطننا، ويؤثر على بيئته الاجتماعية كما يؤثر على اتجاهه.
وذلك يجعلني أشعر بالقلق الشديد، وكذلك جئت أعرض الأمر أمامكم>>.
<<وعلي أن أقول صراحة إن هناك الآن مجموعة صناعية عسكرية، مالية، سياسية، وفكرية تمارس نفوذا غير مسبوق في التجربة الأميركية، ومع أننا نتفهم الظروف التي أدت لنشأة هذه المجموعة، فإننا لا بد أن نحذر من وصولها إلى موقع التأثير المعنوي والسياسي والعملي على القرار الأميركي، لأن ذلك خطر شديد على المجتمع الأميركي قبل أن يكون خطرا على غيره.
إن مواقع القرار الأميركي في الدولة الأميركية لا بد من حمايتها ضد النفوذ غير المطلوب، وغير المتوازن لهذا المجمع العسكري الصناعي، وإلا كانت العواقب كارثية، لأننا بذلك نضع سلطة القرار في أيدٍ غير مسؤولة لأنها غير مفوضة، وبالتالي لا يصح أن تؤتمن عليه.
وأود أن ألفت النظر إلى أنه إذا وقع القرار الأميركي رهينة لمثل هذا المجمع الصناعي العسكري وأطرافه، فإن الخطر سوف يصيب حرياتنا وممارساتنا الديمقراطية، كما أنه قد يصل إلى حيث يملك حجب الحقائق عن المواطنين الأميركيين، والخلط ما بين أمن الشعب الأميركي وحرياته وبين أهداف أطراف هذا المجمع ومصالحهم.
ومن سوء الحظ أن الثورة التكنولوجية التي تتدفق نتائجها على عالمنا اليوم تساعد أطراف هذا المجمع الخطر وتزيد من قدراتهم وتمكنهم من السيطرة على برامج الإدارة ومخصصات إنفاقها، خصوصا أن قوة أموالهم توفر لهم تأثيرا فادح التكاليف على مؤسسات الفكر والعلم، على أن أملي معلق بوعي الأمة الأميركية بالخطر، لأن ذلك الوعي هو الذي يحصر أطراف هذا المجمع ويمنع سيطرتهم على الضمير العام وعلى السياسة العامة معا!>>.
....................
....................
(وكان <<دوايت أيزنهاور>> قادرا على هذا المستوى من الإدراك السياسي، لأنه كان آخر الجنرالات الكبار الذين قادوا حروب بشر في مواجهة بشر، على مستوى التعبئة الشاملة لأمم وشعوب.
وفي ما بعد وعندما دخلت الإلكترونيات مجال السلاح وأحدثت ثورتها في استعماله، فإن الحرب أصبحت ومضات وإشارات على الشاشات تضيء وتبرق دون أن تظهر للعيان مأساة الحياة والموت، وبذلك فإن الطابع البشري للحرب شحب وغاب لأن قيادات الجيوش راحت تمارس القتل من بُعد مئات الأميال وآلافها.
يُضاف إلى ذلك أن <<أيزنهاور>> كان قائد أكبر جيش متحالف في التاريخ، وذلك فرض عليه أن يقوم إلى جانب دور الجنرال بدور السياسي الذي يدير علاقات إنسانية متعددة الأطراف وتتعدد فيها الثقافات.
ومعنى ذلك أن <<أيزنهاور>> عاش التجربة الإنسانية العميقة للحرب في ميدان القتال، في حين يعيشها الجنرالات الجُدد على شاشات الصور في مقار معزولة كما أن <<أيزنهاور>> كان وسط الناس في الخنادق، وانشغل بسياسات فرضتها ظروف تحالف واسع تجمعت في إطاره جيوش جاءت من خلفيات ثقافية متنوعة وسط عواصف النار.
وهنا الفارق بين قادة يعيشون البُعد الإنساني للصراعات وآخرين تكفيهم لمسات أزرار وصور على شاشات).
.....................
.....................
(يزيد على ذلك أن <<دوايت أيزنهاور>> كان رجلا قابلا للتصديق، فلو أن غيره قال ما قاله (وهو العسكري المحافظ اليميني الجمهوري) لاتهم بالأفكار اليسارية، أو بالعداء لأميركا، أو بالتطرف الديني، والحقيقة أن <<دوايت أيزنهاور>> كان نافذ البصيرة إلى درجة لافتة، في توصيفه لأحوال هذه المؤسسات ونوعية رجالها، وكانت وصيته في خطاب الوداع شبه نبوءة ثبت بالتجربة صدقها حين بان وتأكد:
أن الكل في هذه المؤسسات يفتي بغير مسؤولية دستورية أو قانونية، لكن قُربهم من السلطة يوحي لهم بقوة لا تمسك بها ضوابط، وتلك مدعاة إلى الاندفاع.
وأن الكل يفتي في <<النظرية>> دون ممارسة كافية في <<التطبيق>>.
وأن الكل يفتي بمنطق يوحي بالعلم، لكنه علم يفرض قوانينه دون اختبار، وإذا وقع الاختبار فقد سبق الفعل مؤثرا على الناس وعلى التاريخ!
وأن الكل يفتي بمنطق المستجد على القوة والمأخوذ بسطوتها دون إحساس بمأساة الحياة والموت.
وأن الكل يفتي بمنطق الحل السريع للمشكلة الطارئة، بغير نظر كاف إلى عواقبه.
وأن الكل يفتي وليست أمامه غير خرائط وصور أو معلومات وإحصائيات، أو تفاصيل وأرقام بدون الحس السياسي والمسؤولية المترتبة عليه في الغالب مضللة.
وأن الكل يفتي بادعاء ولاءات عامة، بينما واقع الحال أن الولاء لمصالح وضعت أرباب الفكر حيث هم، ومنحتهم تأثيرا غير محدود.
وأن الكل يفتي وله دخل مضمون من مؤسسات مصالح مباشرة وعملية، وفي أحسن الأحوال فإنها الفتوى بالحساب البارد محجوبا عن حسّ الضمير!
ومن سوء الحظ أن الرئيس الأميركي الذي لمح الخطر وأشار إليه سنة 1961، لم يكن في السلطة، وإنما في القبر عندما تحققت أسوأ مخاوفه بعد أربعين سنة أي سنة 2001).
.....................
.....................
ثالثاً: السياسة تنام
والتلفزيون يصحو في أميركا
على مدى أربعين سنة، بعد انتهاء رئاسة <<أيزنهاور>> أوائل سنة 1961 وحتى انتهاء رئاسة <<بيل كلينتون>> أوائل القرن الحادي والعشرين اختلف العالم وطالت الخلافات حقائق الأشياء كما طالت حركتها.
ففي مواجهة منافسة عسكرية تقطع الأنفاس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ومنافسة اقتصادية خطرة بين الولايات المتحدة واليابان، ومنافسة سياسية حساسة بين الولايات المتحدة وأوروبا كان المشروع الإمبراطوري الأميركي يدرك أنه يخوض معركة حسم ومصير، وقد نجح دون شك في تحقيق اختراقات عظمى في مجالات العلم والإنتاج، وتغييرا في أساليب العيش والراحة أضاف متعا إلى حياة كل يوم، ودرجة من الديمقراطية يصعب إنكارها (على الأقل حتى عهد قريب) لكنه في المقابل استخدم أدوات القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والمعنوية على نحو مكثف وبتكاليف باهظة على الآخرين وعلى نفسه، لأنه على الطريق إلى ما يريد، جرب السلاح حيث ينفع وحيث لا ينفع، وجرب الضغوط الاقتصادية حين يلزم وحين لا يلزم، وجرب العمل الخفي عندما وجد الظروف مواتية للانقلاب أو هيأها بحيث تصبح مواتية.
لكن المشروع الأميركي، وهو يفعل ذلك كله ويقتحم ويتوغل صرف من الموارد ما فاق قدرته، وكذلك فإنه ارتهن الاقتصاد العالمي أو الجزء الأكبر منه في وعاء عملته حتى أصبحت سلة الدولار وحدها تمثل نسبة ستين في المئة من كمية النقد المطروح في العالم، وكان الكثير من محتوى وعاء الدولار ثروة آخرين تصوروا أن القوة الأميركية أهم ضمان للسلامة والأمن في عالم مضطرب يموج بالصراعات والمؤامرات والمفاجآت!
وخلال هذه الأربعين سنة فإن علاقة رأس المال بالقرار السياسي راحت تميل أكثر لصالح رأس المال، وإن على استحياء في البداية. فقد حدث في إدارة <<أيزنهاور>> نفسه أن وزير خزانته <<تشارلز ويلسون>> الذي كان في الأصل رئيسا لمجلس إدارة شركة <<جنرال موتورز>> <<انزلق على قشرة موز>> وهو واقف أمام إحدى لجان الكونغرس يعرض حيثيات مشروع قانون، فقد سُئل: أليس صحيحا أن هذا القانون ينفع شركة <<جنرال موتورز>>؟، وكان رده على سائله بعد تردد لم يطل <<لا أشك في أن ما هو في صالح شركة <<جنرال موتورز>> لابد أن يكون في صالح الولايات المتحدة كذلك!>>. وأحدث الانزلاق إلى الاعتراف درجة من الصدمة بمقاييس تلك الأيام، واضطر <<أيزنهاور>> لأن يضحي بوزير خزانته، لكن المقاييس تغيرت كثيرا على مدى الأربعين سنة، لأنه عند بداية القرن الحادي والعشرين كانت العلاقة بين القرار السياسي ورأس المال مسألة <<عادية>> تعرض نفسها على الساحة في جسارة، وفي بعض الأحيان في استعلاء.
والشاهد أن <<المؤسسات>> أصبحت الساحة التي تلاقت عليها كل عناصر القوة المستجدة: رأس المال والفكر في نفس الإطار، لأن قلاع المصالح التقليدية والجديدة (وفيها البنوك والتأمين والنقل والصناعات المدنية وصناعات السلاح والبترول والفضاء والطيران والإلكترونيات وغيرها) كانت في حاجة إلى خدمات الخبراء والمفكرين والدارسين للاستراتيجية العالمية والسياسة الدولية ممن يملكون كفاءة التحليل والتقييم والرؤية المبكرة لاحتمالات المستقبل على اتساع أقاليم العالم وبلدانه.
ثم إن الحاجة في إطار <<المؤسسة>> استدعت الطرف الثالث، وهو العسكريون. وكذلك وقع أن كل رئيس سابق لهيئة أركان الحرب المشتركة، أو قائد مبرز من قواد الأسطول والطيران والصواريخ، أو باحث مجدد له في استخدامات القوة اجتهادات ورؤى ترك الخدمة العسكرية ليجد لنفسه مكانا جاهزا في مؤسسة تفكير أو تخطيط أو فريق عمل ينصح ويشير!
كان رأس المال ينشئ ويرتب، وكان أساتذة الفكر يكشفون وينقبون، وكان خبراء الحرب يضعون التقديرات ويحسبون الاحتمالات، ثم كان أن هذه المؤسسات أصبحت حضانة تفريخ وزراء الخارجية (كيسنجر وشولتز مثلا)، ووزراء الدفاع (براون ورامسفيلد مثلا)، ومستشاري الرؤساء للأمن القومي (بريجنسكي، وكونداليزا رايس مثلا)، ووصلت العدوى إلى المراتب الوسطى للإدارة الأميركية، ومن المفارقات أن مدير قسم الشرق الأوسط في معهد بروكينغز كان هو السفير <<ريتشارد هاس>> (مدير التخطيط الاستراتيجي لوزارة الخارجية الآن، ثم إن سلفه في الوزارة <<دنيس روس>> يجلس الآن على مقعده السابق في مركز بروكينغز وأكثر من ذلك فإن <<ريتشارد هاس>> مرة أخرى سوف يترك وزارة الخارجية هذا الشهر إلى مجلس العلاقات الخارجية).
في هذه الأربعين سنة (من نهاية رئاسة <<أيزنهاور>> (1961) إلى مداخل القرن الحادي والعشرين) طرأت أحوال لم يكن للعالم عهد بها، ولعلها فاقت أحلامه وتعدت خياله، وكان السبب الرئيسي أن ظروف الحرب الباردة وضغوطها فتحت أبوابا وأتاحت فُرصا:
1 لأنه بسبب الثورة الإلكترونية ودخولها إلى وسائل المواصلات والاتصالات والمعلومات فإن كوكب الأرض ومحيطه وفضاءه أصبح ساحة واحدة مفتوحة للقادرين على السبق بالفكر والمبادرة بالعمل والتعزيز بالقوة.
2 ونتيجة مباشرة لاستحالة الحرب مع وجود موازين الردع النووي، فإن الصراعات عبرت عن نفسها في معظم الأحيان بعيدا عن وسائل النار، التي اقتصر استعمال أو اختبار وسائلها الجديدة على العالم المتخلف، لأن بلدانه كانت المواقع الأنسب للتجريب دون تكاليف باهظة على الكبار (وكان خبراء المؤسسات يحسبون ويراجعون الجبهات والخطوط!).
3 ومع كوابح الحرب بين الكبار وتزايد أسباب الاحتكاك بينهم، فإن الصراعات خشنة أو ناعمة احتاجت لأعمال المخابرات بأكثر من أي ظرف مضى، ونشاط المخابرات ميدانان في العادة: ميدان لجمع وتحليل المعلومات وإعداد التقديرات، ثم ميدان لتدبير وتنفيذ العمليات (بالعنف الدموي أو بالتطويع النفسي)، (وكان ميدان المعلومات أقرب ما يكون إلى طبيعة عمل المؤسسات، وفي ذات الوقت فإن ميدان العمليات لم يكن بعيدا).
4 وعندما أصبحت الأقمار الصناعية أفضل وأسرع وسيلة لنقل الصور والكلمات، فإن التلفزيون والكمبيوتر والإنترنت ومعهما التلفون المحمول ساعدت جميعا في ضبط حركة التاريخ على لحظة واحدة وتوقيت جامع يحدث فيه كل شيء في كل مكان في نفس اللحظة، وقد أحدثت هذه المستجدات تأثيرها شاملا واصلا إلى كل محيط كوكب الأرض، (وكانت المؤسسات سبَّاقة، فقد أصبح أقطابها أهم النجوم في البرامج السياسية، وأكبر المساهمين في المشروع الضخم لشبكة الإنترنت، وأقرب المؤثرين على عوالم الصور وكان التأثير فادحا، وفي بعض المرات فاضحا!).
5 ووقع أن التلفزيون في هذه الأزمنة صنع لنفسه عصرا بأكمله، وكان هذا العصر التلفزيوني الحاضر في كل بيت وكل ملتقى هو الأداة التي اغتالت العمل السياسي بأساليبه المعروفة منذ بدأت عهود الديمقراطية بعد الثورة الأميركية والثورة الفرنسية أوائل القرن التاسع عشر، (وراح كثيرون يدرسون بجد هل أصبح التلفزيون صانع السياسة وبأية تكاليف على الوعي وعلى فرصة الاختيار الحر وعلى الحقيقة؟!).
....................
....................
يتبع
-
(وكان الزعيم السوفياتي <<إيليشيف لينين>> يقول: <<إن واجب السياسة أن تذهب إلى مواقع تجمع الجماهير لكي تظل على اتصال بها، مؤثرة على فكرها متوصلة إلى تعبئتها. وفي زمانه كانت الجماهير تتجمع في المصانع والنقابات وفي المدارس والجامعات وفي اللقاءات المفتوحة والتظاهرات. وكذلك كان الشيوعيون يذهبون إلى هذه المواقع لممارسة التأثير والتعبئة، لكن الزمن الجديد جاء بما لم يتوقعه <<لينين>>).
....................
....................
والشاهد أن الجماهير الآن لا تتجمع إلا نادرا في مكان والواقع أنها موزعة بين شواغل عملها في الصباح وبين راحة بيوتها في المساء، وفي أغلب الأحيان فإنها مشدودة معظم الوقت تطل على الشاشات حيث لا اتصال ولا حوار، وإنما مشاهد تتوالى ويحل فيها الانطباع بديلا من الإقناع.
وهنا فإن السياسة سقطت ضحية للتلفزيون لأسباب متعددة:
1 فيها أن التلفزيون بغلبة الصورة على الفكرة، وأسبقية الانطباع على الإقناع، نقل السياسة إلى عالم المسرح: وفيه الموقع والمنظر والضوء والحوار المرسوم والمخرج الموجه، وكذلك يتحول السياسي إلى ممثل مشغول بالأداء في حد ذاته أولا وأخيرا.
2 ومعنى ذلك أن الرسالة السياسية مصنوعة على مواصفات يهمها أكبر قدر من التأثير وليس أكبر قدر من الحقيقة. ومع تواصل الأيام حدثت عملية تضخم سياسي يشابه التضخم النقدي، إذ إن تواضع التأثير بحكم التعود يوما بعد يوم جرى إلى تعويض نفسه بالزيادة في العرض، (وذلك أكثر حدوثا في العالم الثالث بالذات، حيث تتضخم الرسالة بالتكرار حتى تبلغ حالة الإفلاس بالملل).
3 ونتيجة لذلك فإن السياسة ومعها العملية الانتخابية على كل المستويات الرئاسية أو السياسية أو التنفيذية، بل وحتى انتخابات هيئات المجتمع المدني، وفيها الكونغرس وشيوخ ونواب وحكام الولايات، وأعضاء المجالس المحلية التشريعية، والنقابات المهنية والعمالية وحتى الأندية الرياضية تحولت إلى عمليات مكلفة تحتاج إلى تمويل كثيف يكفي لشراء وقت كاف لوضع الرسالة السياسية على الشاشة الأوسع انتشارا، وبالتالي الأغلى، ويقدر على توفير الخبراء الأقدر بين المنتجين والمخرجين وخبراء الضوء والصوت إلى جانب الإنفاق على جيش جرار من مؤلفي القصص إلى كُتَّاب السيناريوهات إلى المديرين إلى المخرجين إلى مهندسي المناظر وخبراء التجميل.
وهذه الأحوال جعلت العملية السياسية ملهوفة باستمرار على المزيد من المال، وذلك يدفعها برضاها أو مكرهة إلى حيث توجد مصادره، وهناك يكون عليها أن تبيع أو ترهن قرارها عند المنبع!
4 وبهذه الأوضاع الطارئة على المجال السياسي حدث تغير نوعي فادح في مواصفات المؤهلين للانخراط في صفوفه:
فهُمْ إما أن يكونوا جاهزين أصلا لأداء المطلوب منهم (كما حدث مع الرئيس <<رونالد ريغان>> وهو الممثل بالحرفة).
أو يكونوا جاهزين للتعامل مع هذا المطلوب بحكم استعداد كامن لديهم (كما حدث مع الرئيس <<بيل كلينتون>>).
أو يكونوا على استعداد للتأثر بالأقرب إليهم والأعرف منهم بالمطلوب (كما يحدث الآن مع الرئيس <<جورج بوش>>).
على أن الأهم من ذلك وفي مطلق الأحوال أن يكونوا ممن تتوافر لهم وسائل وقدرات جمع التبرعات والهبات والمنح معلنة أو مكتومة، لأن تكلفة حملة الرئاسة بالنسبة لأي مرشح (حسب الانتخابات الأخيرة بين <<بوش>> و<<غور>>) فاقت 3 بلايين دولار لكل واحد منهما.
وتلك جميعا مواصفات وأعباء لا يقدر عليها كل الناس، خصوصا إذا أضيف ما اقتضاه عالم الصور في المنافسة بين المرشحين من تفتيش في حياتهم الخاصة ماضيا وحاضرا، بحثا عما هو مثير وملون ينفع في لعبة الصور (وبالذات ما يجيء من عالم الفضيحة المدوية أو الجنس المثير!).
5 ومن عواقب ذلك أن الرجال والنساء الأكثر وعيا وحرصا بقوا في الشركات الصناعية الكبرى، وفي قلاع المال من بنوك الاستثمار والتجارة الدولية، وبالقرب من حقول وآبار البترول وموانئه ومصافيه كما ظل الباحثون الدارسون الخبراء في مؤسسات الفكر الاستراتيجي والسياسي المختلفة المتعددة، يعصفون بالعقول ويستثيرونها، ويكتبون الأوراق والتقديرات والخيارات والمقترحات بما يجب عمله وما لا يجب ثم إن أصحاب العلم العسكري والتجربة الحية في ميادين القتال، وجدوا لأنفسهم مراكز قيادة بديلة، ترسم الخرائط وتلونها، وتحدد عليها مواقع وخطوط الهجوم والدفاع، وتمارس مع الآخرين معها داخل المؤسسات مهام الدعوة والتبشير والضغط.
....................
....................
وأما العملية الانتخابية جوهر الديمقراطية و(الدستورية) فقد تُركت للمستعدين لأثقالها، وأهمها السعي لجمع التبرعات بكل الوسائل وما يترتب على ذلك من تبعات والقابلين لأعبائها وفيها تحمل البقاء طول الوقت تحت الأضواء وأمام العدسات مهما تدنى المستوى ورخص الأداء!
وفي هذه الأجواء التي اختلط فيها الجوهر مع المظهر، والمخبر مع المنظر وقعت نقلة طالت صميم الشأن الوطني في الولايات المتحدة ولم يسجل أحد تاريخ هذه النقلة بالضبط، والغالب أنها حدثت تدريجا (وبسرعة أيضا)، فإذا هي تأتى بتغيير جوهري يمس قضية الحرية في موضع القلب.
ففى تلك الأحوال وفي هذا المناخ لم تعد الأحزاب الأميركية الكبرى وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري مواقع تطرح فيها الأفكار وتناقش البدائل، وتتكامل البرامج لتُعْرَض على الناخبين.
بل إن مرشحي الأحزاب في السنوات الأخيرة (مثل ريغان كلينتون وبوش وغور أو غيرهم) أصبحوا هم الذين يعرضون أنفسهم على أحزابهم، وهم الذين يتولون تدبير التمويل لحملاتهم، وهم الذين يتقدمون الصفوف إلى عوالم الصور، وعليهم هم لا على الحزب خلق الانطباعات الكفيلة بفتح الطرق إلى البيت الأبيض وكذلك حمل الذي ينتمون له إلى المقاعد النيابية على تل الكابيتول).
ومعنى ذلك ببساطة أن المرشح يجيء معه ببرنامجه الانتخابي يقنع به الحزب، ويكون الحزب على استعداد لأن يقتنع بصلاحية أي مرشح، بمقدار ما لديه من إمكانيات الفوز يوم الاقتراع.
...................
...................
(والواقع أن النظام الانتخابي الأميركي يساعد هذه الأحوال، فالقاعدة أن المرشحين يخوضون انتخابات أولية يتقدمون فيها بأسمائهم وبأفكارهم دون مساعدة من الحزب، لأن الحزب لا يستطيع تحمل العبء إزاء أعداد من المرشحين المتنافسين حتى وإن نسبوا أنفسهم جميعا إليه، لكن عندما يحصل أحدهم في الانتخابات الأولية على عدد من الأصوات يفوق غيره ويتأهل كي يكون مرشحا معتمدا قادرا على جذب وجلب الدوائر الانتخابية فإن مؤتمر الحزب الذي يختار المرشح الرسمي يبدأ من لحظتها فقط بتحمل المسؤولية، وفي العادة فإن أي مرشح يصل إلى هذا المدى يجيء إلى الحزب حاملا معه ما يكفيه ويزيد من السياسات والبرامج، أو من اعتمادات التمويل التي تكفي وتفيض).
....................
....................
يترتب على ذلك أن الكوادر النشيطة في الحياة السياسية لا تلزم مقار الأحزاب، وإنما تلحق نفسها بقوافل المرشحين، لأن الحركة هناك على الطريق وليست هنا في مقار الأحزاب، ثم إن المكافآت وفيها المناصب الكبرى في الإدارة الفائزة تدخل في اختصاص الرئيس المُنتخَب المستعد للمكتب البيضاوي، ولا تدخل في اختصاص الحزب الذي يهجره الكل بعد العملية الانتخابية ويتركونه معلقا بين الأرض والسماء حتى يحين موعد أول انتخابات مقبلة!
....................
....................
(وفي التقاليد المستقرة أن المناصب العُليا للدولة اختصاص الرئيس الذي يملك الحق في أربعة آلاف وظيفة يعيّن فيها مَنْ يثق بهم مِن الرجال والنساء، من داخل حزبه أو من خارجه!).
....................
....................
ومع هذه النقلة الخطيرة في الشأن الوطني وفي جوهر العملية الديمقراطية، فإن مؤسسة الدراسات السياسية والاستراتيجية وهي المركز الجاهز بالأفكار والرجال، تكون بطبائع الأمور وسطا مناسبا تظهر فيه أو تتقدم منه أكفأ العناصر المرشحة لأهم المناصب في الإدارة الجديدة، وبالتالي فهي تنوب عن الحزب، وتتكفل بدلا منه بخدمة أركان إدارته.
ونتيجة لهذه النقلة الخطيرة:
فإن الأحزاب الكبرى تتحول إلى مجرد لافتات موسمية.
والبرامج الجاهزة للتنفيذ تكون من إعداد مؤسسات معزولة عن عامة الناس، حتى وإن حاول رجالها أثناء صياغة البرامج أن يزينوها لأوسع درجة من القبول العام.
والتنفيذ يبيت موكولا بأجهزة دولة تنتظر توجيهات الإدارة الجديدة ورجالها لتتحرك وفق ما يرسم أقطابها ويوجهون.
وأخيرا يكون الكونغرس متشوقا ليسأل ويسائل، لكن الكثير من عناصر صنع القرار محجوبة برغم جهود هائلة تبذلها هيئة مستشاريه.
ومعنى ذلك أن مجرى الحوادث يواصل مسيرته دون مسؤولية دستورية، ودون رقابة شعبية، وفي حضور إعلام تراجعت الكلمة فيه لحساب الصورة، وأكثر من ذلك فقد أصبح مُهمًاً للقائمين عليه تحسين علاقاتهم مع المصادر المتحكمة في مناصب الإدارة العليا لأنها العارفة بالأسرار والأخبار وحتى الأفكار!
وبرغم ما قد يُقال عن هذا المزيج الفوار من الخاص والعام، والفكر والعقل، والظاهر والخفي، والمدني والعسكري، والصورة والكلمة، والثروة والمال، والبحث والدرس وفي إطار مؤسسات تضج بالحيوية، إلا أن ذلك واصل بالضرورة إلى حافة الخطر لأسباب:
أولها: على حد تعبير <<أيزنهاور>> <<أن نفوذ هذه المؤسسات ينطوي على تفويض لم يصوّت عليه أحد، وسلطة لا تخضع لحساب.
وثانيا: لأن المؤسسات على هذا النحو بعيدة عن المُساءلة والمسؤولية، وهي تصبح بتدافع التيارات نحوها ومن حولها دوامة حركة تلف فيها وتدور جماعات ضغط ومصالح لها قوة جذب وشد لا تتوقف عن الفعل والتأثير.
وثالثا: لأن الحركة الدوارة في هذه المؤسسات تستطيع ممارسة تأثيرات على الرأي العام ومشاعره وعواطفه، خصوصا إذا استثير داعي الأمن ومعه حِمى الوطنية!
ورابعا: وعليه فإن هذه المؤسسات عندما تحولت في جزء من نشاطها إلى جماعات ضغط فتحت المجال في الوقت نفسه لجماعات أخرى غيرها تتوافق معها على نفس المصالح أو قريبا منها في الداخل والخارج.
....................
....................
(وفي هذا النطاق وقع النفاذ الصهيوني الإسرائيلي إلى قلب العملية السياسية في الولايات المتحدة، وساعدته أسباب قُرب واهتمام مشترك بأمن الشرق الأوسط، ومكن له وجود يهودي كثيف في أوساط المال والفكر والإعلام، وصميم المأزق أن معظم الوجود اليهودي في المؤسسات كان من غُلاة المتعصبين للمشروع الإمبراطوري الذين اختلط في فكرهم هاجس الولايات المتحدة للهيمنة على العالم وعلى البترول، مع هاجس أمن إسرائيل، بمعنى ضمان وحماية توسعها (وكان <<ريتشارد بيرل>> داعية حملة العراق يهوديا صهيونيا)).
...................
...................
(وتجنبا لمزالق التعميم فإنه لا يصح لأحد أن ينسى أن صحافيا من أهم الذين تصدوا لأصحاب المشروع الإمبراطوري الأميركي وامتداداته الإسرائيلية كان <<سيمور هيرش>> وهو أيضا يهودي!).
...................
...................
رابعا: الأفكار تتحرك بالدبابات!!
ولقد أطلق على هذه المؤسسات المشغولة بالفكر الاستراتيجي، والمعنية بتحويله إلى خطط وخرائط وصف Think Tank، وكلمة Think تعنى التفكير، وكلمة Tank كلمة تتحمل أكثر من ترجمة، فهي الوعاء أو الحاوية، وهي <<الدبابة الحربية>> أيضا، ولعل الوصف أن يكون رمزا بالمصادفة، توافق مع كون المؤسسة السياسية والاستراتيجية الحديثة مهتمة بفلسفات القوة، ومشغولة كذلك باستعمالات السلاح.
ولعل خطورة التحالف الجديد بين الفكر والسلاح في ظروف عالمية طارئة هي التي دعت مجلة الأيكونوميست وهي المجلة الرأسمالية المحافظة (التي تملك أسرة <<روتشيلد>> معظم أسهمها، وكان اللورد <<إيفلين روتشيلد>> موجه سياساتها حتى وقت قريب) إلى أن تنشر افتتاحية مهمة يوم 15 فبراير الأخير (2003) بعنوان <<هجمة دبابات الفكر>>.
وتصلح افتتاحية الأيكونوميست <<هجمة دبابات الفكر>> سنة 2003 أن تكون تكملة طبيعية تلحق بتحذير <<أيزنهاور>> من خطر المجمع الصناعي العسكري (والفكري) يوم 17 يناير 1961، والشاهد أن التحذير القديم وكذلك التحذير الجديد يلتقيان على نفس الموجة.
بدأت الأيكونوميست افتتاحيتها قائلة بالنص:
<<كثيرون في العالم الخارجي يتمنون لو أن الولايات المتحدة ضبطت أعصابها ولو قليلا. إن هناك ضرورة الآن للجم كلاب الحرب التي أطلقتها الرأسمالية الأميركية <<النفاثة>> (Jet Capitalism)، بحيث تتصرف الإدارة الأميركية بمنطق أقرب إلى <<جيمى كارتر>> (الرئيس السابق الحاصل على جائزة نوبل للسلام)، وليس مثل <<جون واين>> (بطل أفلام الغرب المتوحش)، لأن المخاوف من الانفلات الأميركي باتت حديث موائد العشاء كلها في عواصم أوروبا على اختلاف مواقعها.
إن أميركا أصبح لديها جيش خطر من المفكرين الذين احترفوا تهييج القوة الأميركية واستثارتها حتى تندفع أبعد كل يوم على طريق الحرب، إن هؤلاء الناس وضعوا لأميركا جدول أعمال يتضمن الآن خطة لتغيير الشرق الأوسط كله، وفي ما هو واضح فإن الرأسمالية الأميركية تموّل وتدعم هذه المؤسسات الفكرية، التي ضلت طريقها وجنحت إلى الإصرار على تطبيق النظام الرأسمالي حتى في عوالم الفضاء الخارجي، ثم يكون مطلوبا من العالم أن يصفق لهذا الجنوح الأميركي المجنون المتحصن في دبابات الفكر الجديدة!
إن هذه المؤسسات من نوع مؤسسة <<التراث>> (أنشئت منذ ثلاثين سنة)، ومركز <<مانهاتن للدراسات>> (أنشئ من 25 سنة)، والمشروع الأميركي (أنشئ منذ ستين سنة)، ومركز <<هوفر>> (أنشئ من 25 سنة) أصبحت كلها تمارس نفوذا تعدى دائرة الفكر، ووصل إلى دائرة رسم السياسات وصنع القرارات.
....................
....................
وتستطرد الأيكونوميست:
<<إن النفوذ في بدايته فكرة، وفي الواقع أن الأفكار المحركة للقرار الأميركي الآن هي ذلك السيل المتدفق من مؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وعلى سبيل المثال فإن أحد هذه المراكز وهو مركز <<دراسات المشروع الأميركي>> (AEI) (American Enterprise Institute) هو الذي صك وأشاع للتداول تعبير <<الدول المارقة>> وهو تعبير أدبي لم يلبث أن تحول إلى استراتيجية حرب.
إن خطورة القضية تظهر إذ تذكر من يعنيهم الأمر أن <<دونالد رامسفيلد>> (وزير الدفاع الحالي لجورج بوش) و<<كونداليزا رايس>> (مستشارة الأمن القومي للرئيس) كلاهما من نجوم مركز <<هوفر>> للدراسات الاستراتيجية، وأن <<ريتشارد تشيني>> (نائب الرئيس الحالي)، وكذلك زوجته كلاهما من نجوم مركز <<دراسات المشروع الأميركي>>، كما أن <<ريتشارد بيرل>> (الذي كان رئيسا لمجلس الدفاع القومي في وزارة الدفاع والمعروف بوصف <<أمير الظلام>>) هو أكبر داعية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بدءا من الحرب على العراق!
إن أحدا لم يعد في مقدوره أن يناقش أن هذه المراكز أصبحت بذاتها حكومة الظل في أميركا، بل وتأكد أنها الحكومة الخفية الحقيقية التي تصوغ القرار السياسي وتكتبه، ثم تترك مهمة التوقيع عليه للرئيس ومعاونيه الكبار في الإدارة، وهذا وضع يسيء إلى الفكر في قيمته، ويسيء إلى الإدارة في قرارها!).
...................
...................
وتستطرد الأيكونوميست تقول:
<<إن علو دور هذه المراكز وسطوتها ونفوذها في عملية صنع القرار السياسي ليس له تفسير إلا ذلك <<العقم>> الذي أصاب الأحزاب السياسية الكبرى في أميركا، وترك للمال دور صانع الأفكار وصانع السياسات في الدولة الأميركية العظمى. وكان المال هو الذي وضع الجامعات الأميركية العريقة في خدمة هذه المؤسسات، فإذا الغطاء أكاديمي علمي، وإذا الواقع سياسي عسكري يمكن أقلية صغيرة خفية من التحكم في مصائر العالم وشعوبه.
وكان يُقال دائما إن المال هو صانع <<الحرب>> و<<السلام>>، وإنه الأرجل والأقدام التي تمشي وتجري بها السياسة، وعليه فإن النظر إلى <<مواقع المال>> لابد منه قبل النظر إلى <<مواقع الصراع>>، كما أن البحث عن الرجال مقدمة ضرورية للبحث في وقائع ما جرى ويجري!>>.
وكان ما قالته الأيكونوميست دقيقا في وصف الحال، وإن تأخر بمقدار ما كان تحذير <<أيزنهاور>> صادقا في لفت النظر إليه في الصباح المبكر!
وهنا فإن نظرة سريعة إلى مواقع المال (في ما يتصل بموضوع القرار الأميركي الراهن والمؤثرات الواقعة عليه) لا بد لها أن تتوقف أمام الشركات الأميركية العملاقة، وحجم مبيعاتها الذي يمثل 25% من الناتج العالمي.
ويطرح الاقتصادي الأميركي الكبير <<كينيث غالبرايث>> مجموعة أرقام لتقريب الصورة وتجسيدها فيذكر:
أن مبيعات خمس شركات أميركية هي (جنرال موتورز ووال مارث وإكسون موبيل وفورد وديملر كرايسلر) تتجاوز الناتج القومي ل182 دولة في العالم.
أن دخل شركة <<إكسون>> للبترول يفوق دخل دول <<الأوابك>> (مجموعة الدول العربية المصدرة للبترول) مجتمعة!
وأن شركة <<جنرال موتورز>> أكبر من <<الدنمارك>>، وأن شركة <<ديملر كرايسلر>> أكبر من <<بولندا>>، وأن شركة <<بكتيل>> للمقاولات أكبر من أسبانيا، وأن شركة <<شل>> أكبر من <<فنزويلا>>، وأن شركة <<سوني>> أكبر من <<باكستان>>.
....................
....................
(والملاحظة الأهم أن هذه الشركات الكُبرى وهي القوى الصانعة للعولمة هي الأسخى تبرعا لمرشحي الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة، وهي الأكبر إسهاما في تمويل نشاط مؤسسات ومراكز التفكير السياسي والإستراتيجي.
وفي صدد الحرب على العراق، فإن شركة <<هاليبورتن>> لمقاولات النفط بدأت قبل أكثر من عام قبل حرب العراق ترتب وتتعاقد مع آخرين على عقود لإعادة إصلاح وتحديث مرافق النفط العراقي في حدود 7 8 مليارات دولار!
وبعدها فإن شركة <<إكسون>> هي التي بدأت تضع يدها على عمليات استغلال النفط العراقي وتخطط لإنتاج يصل إلى 7 أو 8 ملايين برميل يوميا، كما أن شركة <<بكتيل>> هي التي حصلت على أهم عقود الإعمار بعد الحرب، مستعينة باثنين وعشرين ألف شركة للمقاولات دعتها للعمل معها من الباطن!
وفي نفس الوقت فإن خبراء مراكز الأبحاث والدراسات السياسية والإستراتيجية وصلوا موجات إلى العراق بعد الغزو يدرسون على الطبيعة مستقبل هذا البلد، وكيف يمكن هندسة مستقبله في المنطقة وكان وصول الباحثين السياسيين مع الجنرالات المقاتلين مع مديري الشركات موكبا واحدا، والنتيجة زحفا كاسحا من الفكر والمال والسلاح توجهه مؤسسات الدراسات السياسية والاستراتيجية التي أصبحت حكومة ظل تحولت صلتها بالإدارات المتعاقبة في واشنطن (جمهورية وديمقراطية) إلى شيء أشبه بالباب الدوار يدخل ويخرج منه رجال ونساء الصفوة الأعلى صيتا والألمع ذكاءً والأقرب مباشرة إلى وضع الخيارات والبدائل أمام المسؤولين عن قرارات الحرب والسلام في البيت الأبيض، أو على رأس إدارات الحكومة الفيدرالية، هذا إذا لم يقدر لهم أن يجلسوا بأنفسهم على القمة من هذه الإدارات (كما حدث مع <<كيسنجر>> و<<رامسفيلد>> و<<بيرل>> وعشرات غيرهم).
ولم يكن كثيرون يعرفون ما فيه الكفاية عن جهاز يسمى مجلس سياسات الدفاع القومي للولايات المتحدة، ولا عن تركيبته، ولا عن دوره في صنع القرار الأميركي إلا عندما انفجرت قضية <<ريتشارد بيرل>> الذي كان هو وزميله <<بول وولفويتز>> أقرب الناس إلى أقوى رجلين في إدارة <<جورج بوش>>، وهما <<ريتشارد تشيني>> (نائبه) و<<دونالد رامسفيلد>> (وزير دفاعه).
وكان <<ريتشارد بيرل>> العقل المفكر لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي منذ بداية رئاسة <<جورج بوش>>، وكان <<بيرل>> المسؤول عن مجلس الدفاع، كما كان في نفس الوقت رئيسا لمؤسسة <<المشروع الأميركي>>، ومديرا لبرنامج <<القرن الأميركي الجديد>> وهو البرنامج الرئيسي لتلك المؤسسة، والذي كان دعاته ورعاته أكبر المتحمسين لرسم خريطة شرق أوسط يكون مفتاحها احتلال العراق!
وقد انفجرت قضية <<ريتشارد بيرل>> عندما كشف الصحافي الأشهر <<سيمور هيرش>> تحقيقا في مجلة <<النيويوركر>> الواسعة النفوذ يقول ويثبت فيه <<أن ريتشارد بيرل تقاضى مكافآت من موردي سلاح، فيما هو يمارس عمله رئيساً للجنة سياسات الدفاع تزيد على ثلاثة أرباع مليون دولار سنة 2001، وأن تصرفه في تلك الواقعة انطوى على استغلال للنفوذ، أو على الأقل على <<تضارب في المصالح>> مخالف للأخلاق وفي الغالب مخالف للقانون أيضا>>.
ولم يكن هناك مجال للطعن في التهمة، لأن البراهين التي أوردها <<سيمور هيرش>> كافية وافية، كذلك لم يكن هناك مجال للطعن في الرجل الذي وجه التهمة إلى <<بيرل>> لأنه من أكثر الصحافيين احتراما في واشنطن وأقدمهم عهدا بالمهنة وأكثرهم شهرة (وفوق ذلك فإنه يهودي مثل <<ريتشارد بيرل>>، ومن ثم فلا يمكن أن تلحقه تهمة <<معاداة اليهود>> (وإنكار الهولوكست) كما كان يمكن أن يحدث لو أن اتهام <<بيرل>> جاء من غيره).
واضطر <<ريتشارد بيرل>> بعد ما نشره <<سيمور هيرش>> ووثقه، إلى أن يقدم استقالته من رئاسة مجلس سياسات الدفاع إلى <<دونالد رامسفيلد>> وزير الدفاع، لكنه احتفظ بموقعه في مركز <<دراسات المشروع>>، وواصل منه نشاطه، وإصراره على الدعوة إلى رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط مدخلها <<احتلال العراق>>!
كانت قضية <<ريتشارد بيرل>> واستقالته كشفا لأهم مواقع القوة في السياسة الأميركية، وإشهارا لشخصيات سبعين رجلا وامرأة يؤثرون على القرار الأميركي ويتركون بصماتهم عليه في زمن تسعى فيه الولايات المتحدة إلى التفرد بالسيطرة على العالم والبت في مصائره، ومن ناحية أخرى فقد كانت تلك القضية تذكرة حية بالكابوس الذي حذر منه <<أيزنهاور>> قبل أربعين سنة، وهو السيطرة غير المطلوبة وغير الشرعية لمجمع مالي صناعي عسكري فكري على سلطة القرار والابتعاد به كثيرا (وكثيرا جدا) عن أي رقابة تشريعية وأي مراجعة ديمقراطية (مع أنه لا بد أن يحسب للديمقراطية الأميركية أن رجلا مثل <<سيمور هيرش>> أطلق رصاصة التحذير الأولى في قضية <<ريتشارد بيرل>>).
والغريب أن <<ريتشارد بيرل>> وجه خطاب استقالته إلى <<دونالد رامسفيلد>> مصحوبا بحيثيات تكاد أن تكون توثيقا للصلة بين أطراف المجمع الصناعي العسكري الفكري، الذي حذر منه <<أيزنهاور>> ونبه مبكرا إلى خطره على سلامة القرار الأميركي.
وفي خطاب استقالته وحيثياتها كتب <<بيرل>> إلى <<رامسفيلد>> يقول:
عزيزي الوزير:
<<إنني أتقدم إليك باستقالتي ليس نتيجة لإحساسي أنني اقترفت خطأ لأني ما زلت مقتنعا ببراءتي مما نُسب إلي وسوف أدافع عن نفسي في هذا الأمر بكل الوسائل.
لكن مبادرتي بالاستقالة دافعها رغبتي في عدم إحراجك، وكذلك تجنيب التشويش على سياسة الولايات المتحدة في ظرف تترتب عليها فيه مسؤوليات دقيقة، ولست أريد لما يثور حولي أن يلفت الانتباه ولو للحظة واحدة عن التحديات الكبرى التي تقع عليكم مسؤولية التعامل معها>>.
ثم يواصل <<ريتشارد بيرل>> ليقول في خطاب استقالته:
<<إن المسؤولين الكبار عن إدارة الدولة يجدون أنفسهم دائما في حاجة إلى طلب النصيحة والرأي من جهات خارجية مستقلة عن إداراتهم، ذلك أن إدارات الدولة في العادة محكومة برؤى تقليدية تكرر نفسها، في حين أن المسؤوليات الجديدة التي تتحملها الولايات المتحدة لم تعد تكفيها تلك الرؤى التقليدية.
والهيئات التي يقع عليها واجب تقديم مثل هذه النصائح والآراء لا بد أن تكون بعيدة عن رؤى الإدارة التقليدية، ولا يكفل لها مثل هذا الاستقلال أكثر من اتصالها بالمصالح الكبرى للولايات المتحدة.
ولا بد من ملاحظة أن النصيب الأكبر من المعرفة والتجربة في ما يخص المصالح الحقيقية المتصلة بمستقبل الولايات المتحدة متصلة في الواقع بنشاط رأس المال الحر الأميركي، وعليه فلا مفر من وجود صلات بين النصيحة والرأي، وبين المعرفة والتجربة، وهذا يخلق مجالا لعلاقة ملتبسة وتلك علاقة يمكن التغلب عليها بضمانتين: العلانية في التصرف (Disclosure)، والجرأة في الموقف (Recusal)>>.
ثم يصل <<ريتشارد بيرل>> إلى القول:
<<إن ذلك هو الذي دعا إلى إنشاء مجلس سياسات الدفاع الذي تشرفت برئاسته
طول السنتين الأخيرتين، والذي ناقشنا فيه ب<<علانية>> و<<جرأة>> موضوعات مثل سياسة الولايات المتحدة إزاء العراق وتدمير ما يملكه من أسلحة الدمار الشامل، ومشاكل العلاقات الأميركية الأوروبية، والحرب على الإرهاب وغيرها، وكانت تلك كلها مناقشات غنية ومفيدة وقابلة للتنفيذ، لأنكم كما تعرفون فإن مستودع الخبرة لهذا المجلس يضم عددا من وزراء الخارجية السابقين، ووزراء الدفاع والطاقة، ومديرين تولوا إدارة وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وعدد من زعماء الأغلبية والأقلية في مجلسي الكونغرس، ومجموعة من ألمع أساتذة الجامعات المهتمين بالسياسة، إلى جانب عدد من الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد، ومع هؤلاء جميعا عدد من الضباط المتقاعدين الذين خبروا مطالب القوة المسلحة واستعمالاتها في ميادين مختلفة!>>.
كان <<ريتشارد بيرل>> نموذجا لنوعية الرجال والمصالح الذين يحيطون بمجلس سياسات الدفاع الذي ظل يرأسه حتى شهر مارس الأخير (2003)، واللافت للنظر أن <<بيرل>> زيادة على كل مناصبه كان في نفس الوقت عضوا في مجلس إدارة شركة <<هولينغر>> وهي دار صحافية تملكها شركة قابضة يملكها المليونير <<كونراد بلاك>> لكي تشرف على جرائده ومجلاته، وفيها مجموعة التلغراف (الديلي تلغراف، والصنداي تلغراف) الصادرة في لندن، وفيها عدد من الصحف الكندية الكبرى، ومن الغريب أن فيها أيضا جريدة <<الجيروزاليم بوست>> التي تصدر في إسرائيل!
وقد حدث بعد ذلك أن <<ريتشارد بيرل>> بدأ في نوفمبر سنة 2001 بتأسيس شركة لخدمات الأمن الداخلي، وكان ضمن شركائه فيها زميل له في مجلس سياسات الدفاع هو <<هنري كيسنجر>> وزير الخارجية الأسطوري من أيام <<ريتشارد نيكسون>> و<<جيرالد فورد>> (في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين)، وكان <<بيرل>> هو الذي رشح <<هنري كيسنجر>> لكى يرأس لجنة خاصة للتحقيق في وقائع يوم 11 سبتمبر 2001، بما في ذلك تحديد المسؤولية، والبحث عن أسباب القصور الأمني، وكانت تلك لجنة من خارج الكونغرس أُنشئت بعد أن اعترفت لجنته الأصلية ذات الصفة الشرعية (الدستورية) بعجزها عن مواصلة التحقيق، لأن السلطات المعنية وضمنها وكالة المخابرات المركزية الأميركية ووكالة التحقيقات الفيدرالية تمتنع عن التعاون معها وتحجب عنها الوثائق والمعلومات والشهود. وعندما أعلن الرئيس <<بوش>> عن ترشيح <<كيسنجر>> لرئاسة لجنة تحقيق (مستقلة!)، تعالت أصوات تتساءل عن طبائع العلاقات والارتباطات والمصالح، ووجد <<كيسنجر>> نفسه في غنى عن مُساءلات وتحقيقات تتعرض له ولنشاطاته وارتباطاته، ولذلك قرر أن يعتذر عن المهمة.
وكذلك فإن مجلس سياسات الدفاع هيئة تستحق نظرة سريعة، ففي داخل هذا المجلس سبعون رجلا وامرأة كلهم له دور وإسهام بارز في السياسة الأميركية، وكلهم له مصالح طائلة في قلاع المال والأعمال من البنوك إلى البترول إلى السلاح، وكلهم مدنيون وعسكريون أصحاب حضور كثيف في المؤسسات الاستراتيجية (مواقع حشد دبابات الفكر)، وكلهم له جدول أعمال ذاتي وعام تختلط فيه المنافع المباشرة بأمن الأوطان وسياساتها!
ومجلس السياسات لا يتكلم كثيرا عن أعماله، ولا ينشر شيئا من مداولاته، ولا يصدر بيانات عن توصياته، وكل ما هو متاح عن نشاطه ورقة أو ورقتان في سجلات البنتاغون لمجرد التسجيل.
وعلى سبيل المثال فإن آخر ورقة متاحة عن اجتماعات مجلس سياسات الدفاع، تجيء على النص التالي:
مجلس سياسات الدفاع
جدول أعمال
جلسة الخميس: 27 فبراير 2003
9 9,30 بوفيه إفطار خفيف فى البنتاغون، غرفة الاجتماعات رقم 869.
9,30 10,30 مناقشة في الدور المركزي للفضائيات
10,35 11,35 مناقشة عن الفيش الإعلامية الشاملة
11,35 12,00 استراحة
12,00 1,00 غداء في القاعة الذهبية 859
1,00 2,00 تقرير مخابرات عن المستجدات (!)
2,00 3,15 كوريا الشمالية: تقرير معلومات
3,15 4,15 مناقشة (كوريا الشمالية)
4,15 4,30 استراحة
4,30 5,30 إيران مناقشة
5,30 9 جلسة عمل مفتوح
اليوم التالي: الجمعة 28 فبراير 2003
9 9,30 بوفيه إفطار خفيف القاعة الذهبية في البنتاغون، الغرفة رقم 859.
9,30 10,15 تقرير مركز دراسات حفظ السلام
10,15 11,30 تقرير نائب رئيس أركان الحرب البريطاني
11,30 12,30 مناقشات
12,30 1,30 غداء ومناقشة مفتوحة مع <<تنيت باجيت>> (وزير الدفاع لشؤون السياسات) (القاعة الذهبية 859).
1,30 4,00 مناقشة مفتوحة
4,30 5,30 عرض من وزير الدفاع <<دونالد رامسفيلد>> ومن نائبه <<بول وولفويتز>>.
.....................
.....................
(وفي ما عُرف لاحقا عن المناقشات التي جرت ذلك اليوم بصدد الخطر الذي تمثله كوريا الشمالية، فقد تبين أن مجلس سياسات الدفاع بحث تقريرا أعده <<ريتشاردسون>> (حاكم تكساس الحالي والمفاوض الرئيسي في مشكلة كوريا الشمالية) ونتيجة للمداولة خرج بأن الخيار العسكري غير وارد في الوقت الحالي (بالنسبة لكوريا الشمالية)، كما هي الحال في شأن العراق لثلاثة أسباب:
أولها: أن حربا ضد كوريا الشمالية سوف تكون عملا عسكريا خطرا ضد قوة تملك رادعا نوويا حقيقيا، حتى وإن كان محدودا في حجمه.
وفي حين أن العمل ضد العراق يمكن أن يكون سهلا، لأنه بلد استنزفته حرب الخليج الأولى ثمانى سنوات، وأنهكته حرب الخليج الثانية بضربة صاروخية قاسية، ثم طوقه حصار اقتصادي ونفسي دام اثنتي عشرة سنة فإن كوريا الشمالية ظرف مختلف إلى حد كبير.
ثانيا: إن الجوار العراقي يساعد الخيار العسكري الأميركي ويجعله قابلا للتحقيق، في حين أن الجوار الكوري الشمالي وفيه (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) لا يرغب في ترك القوة العسكرية الأميركية مطلقة العنان، ويفضل معالجة الشأن الإقليمي أولا في إطار الإقليم وليس من خارجه، وهذا يقيد العمل الأميركي إلى حد قد يكون مؤثرا.
وأخيرا: فإن كوريا الشمالية على عكس الحال في العراق ليست فيها جوائز اقتصادية تساوي المخاطرة.
..................
..................
(ومن المثير أن الوفد الكوري الشمالي الذي اجتمع مع ممثلين لوزارة الخارجية الأميركية في <<بكين>> في شهر مارس الماضي وبعد أقل من أسبوعين على مناقشات مجلس الدفاع كان هو الذي أبلغ الجانب الأميركي رسميا بأنهم بدأوا بالفعل بتخصيب اليورانيوم، والمعنى أنهم الآن على الطريق السريع إلى أسلحة نووية، وكانت الرسالة مباشرة بما مؤداه أن الولايات المتحدة لا بد لها أن تتكلم وأن تتفاوض مع كوريا الشمالية، لأنها ليست غنيمة سهلة).
..................
..................
وتتكرر اجتماعات مجلس الدفاع مرة كل شهر أو شهرين حسب ما تتطلبه مسارات الحوادث، وتتلاقى وتتفاعل أفكار وتوجهات وتتداخل معها رغبات المال والسلاح والسياسة، وتُتخذ توصيات تتحول في البيت الأبيض ووزارات الدفاع والخارجية ووكالة المخابرات المركزية إلى قرارات، بعضها يمس قضايا الحرب والسلام، وتتعرض أمم وشعوب للعواصف والأعاصير لكن أمير الظلام وأصحابه في منأى عن الحساب وبعيدا عن المسؤولية، يساعدهم على ذلك أن الإمبراطورية الأميركية مشروع خاص يتقدم ويسحب الدولة وراءه، ويتصرف دائما من وراء حجاب بغير تفويض شرعي، وبدون مسؤولية دستورية، وبدون رقابة أو متابعة، وهذا بالضبط ما حذر منه <<أيزنهاور>> أوائل الستينيات، وكذلك نقلته الأيكونوميست أخيرا، وكان التحذير السابق ولفت النظر اللاحق خدمة لروح الديمقراطية في الولايات المتحدة، وليس بالتأكيد رغبة في التشهير بها.
...................
...................
(وللإنصاف فإن التجربة الأميركية حافلة بكثير يستدعي الإعجاب (ابتداءً من روح المبادرة إلى روح الحرية)، وبالتالي فإن من مآسي التاريخ الكُبرى أن يتمكن عدد من الرجال والنساء لا يزيد عددهم عن مئة إلى مئتين بينهم سبعون عضوا في مجلس سياسات الدفاع من الاستيلاء على القرار الأميركي والاندفاع به إلى <<مشروع مخيف وشبه مستحيل>> في طلب الهيمنة على العالم، بغير منافس، وإلى الأبد).
....................
....................
ويستحق النظر أن كل واحد أو واحدة من هؤلاء الرجال والنساء الذين استولوا على القرار الأميركي مربوط بهذه العلاقة الثلاثية غير المقدسة للمال والسلاح والفكر، إلى درجة تكاد أن تضع نموذجا واحدا متكررا عشرات المرات:
كل واحد منهم رئيس مجلس إدارة أو العضو المنتدب لشركة من أهم شركات السلاح أو البترول أو الاستثمار المالي، ويحصل سنويا على ما لا يقل في المتوسط عن عشرة ملايين دولار.
وكل واحد منهم له مقعد في قائمة اجتماعات مجلس السياسات التابع لوزارة الدفاع، أو له صلة وثيقة به عن طريق واحدة من مؤسسات التفكير السياسي والاستراتيجي، وهي بالعشرات.
وكل واحد منهم يعرف طريقه إلى الباب الدوار أمام معاقل السلطة في الولايات المتحدة، فهو يدخل من الشركات الكبرى، أو من مؤسسات الفكر إلى أعلى مواقع الإدارة الحكومية، ليقضي مدة في الممارسة العملية لتنفيذ القرار، ثم يعود من الباب الدوار إلى الشركة الكبيرة أو إلى مؤسسة الدراسات السياسية والاستراتيجية صاحبة النفوذ وهكذا.
وهناك سؤال يفرض نفسه:
كيف حدث أن قلة من الرجال والنساء تمكنوا من الاستيلاء على سلطة القرار في بلد بحجم الولايات المتحدة، وقوته، وحيويته؟ وهذا سؤال سوف يتوقف التاريخ أمامه مندهشا ومدققا، وفي الغالب وبدون استباق للنتائج فإن ما يمكن تسميته ب<<سياسات الخوف>> قد يكون الداعي والسبب، خصوصا إذا جرى قياس الحاضر الذي لم يكتمل على ماضٍ تمت فصوله وانطوت صفحته.
وفي هذا الصدد فإنه يمكن استعادة ظروف الفتنة الكبرى التي كادت أن تخنق روح الحرية والإبداع في الولايات المتحدة وقت محاكم التفتيش التي نصبها السناتور <<جوزيف ماكارثي>> في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية (أواخر الأربعينيات أوائل الخمسينيات)، حين بدأ حملته (التي أشهرت في التاريخ اسمه وحملت وصف المكارثية) بدعوى التصدي <<للنشاط الخارج من ولائه لأميركا>>، وفي هذه الحملة راح <<ماكارثي>> يستدعي أمام لجنته ويحاسب ويعاقب كل من تصور أنهم جنحوا إلى اليسار في أفكارهم، ومن ثم انحازوا للشيوعية، وأصبح نشاطهم غير أميركي Un American أو مُعاديا للولايات المتحدة بصريح العبارة.
وقد استطاعت هذه الحملة أن تغطي الحياة السياسية والأدبية في أميركا بضباب كثيف ضاقت فيه مساحة الرؤية، وشاع الشك، وتعمق الخوف، فقد راح ألمع الفنانين والأدباء وأبرز نجوم المسرح والسينما وأكفأ أساتذة الجامعات في العلوم الاجتماعية والطبيعية يتساقطون كل يوم تحت مطارق الاتهامات المرسلة يوجهها إليهم السناتور <<ماكارثي>> ولجنته.
ثم جاء الوقت وتخلصت الولايات المتحدة من كابوس الخوف، وراحت تلتفت وراءها وتتساءل كيف جرى ما جرى؟
وفي هذه المرة يتكرر الكابوس وإن اختلف شكله عن الكابوس السابق، كما أن نهايته يصعب رؤيتها في الزمن القريب، ذلك أنه مع التسليم بأن قلة من الناس (في محور المال والفكر والسلاح) خطفوا القرار السياسي للولايات المتحدة الأميركية، فليس هناك شك في أن هذه القلة نجحت حتى الآن في اللعب على مشاعر كتل واسعة في الولايات المتحدة، وبالتالي فإن هناك أغلبية أميركية أخذتها حُمى الوطنية (المُدَّعاة)، وراحت تزهو بما تراه من حماقة القوة (المتوافرة!).
ومرة أخرى فإن <<سياسات الخوف>> تواصل فرض نفسها رغم اختلاف الظروف وبينها:
1 العدو الذي عرفته الولايات المتحدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين اختفى فجأة من أمامها، مع ملاحظة أن الناس يعرفون أنفسهم بالعدو الذي يواجهونه، أكثر مما يعرفون أنفسهم بالصديق الذي يقف معهم.
والغريب في طبائع القوى أن غياب العدو يحدث <<وحشة>> أكثر من وحشة يحدثها غياب الحليف.
فالقوى المعنية بالصراعات تكون قد عبأت إمكانياتها المادية، ورتبت استعدادها السياسي والمعنوي على مواجهة عدو ما فإذا ما اختفى ذلك العدو فجأة فإن حالة التعبئة تظهر وكأنها فقدت توازنها، وضيعت مبرر وجودها ذاته. وفي أحوال اقتصادية واجتماعية ونفسية متداخلة كما هي الحال في الولايات المتحدة، فإن فقدان التوازن وضياع مبرر الوجود قادر على إحداث خلخلات بعيدة الأثر خطيرة في تداعياتها.
2 وأصحاب المشروع الإمبراطوري لا يريدون شيئا من ذلك كله، بل يجدون في هذه اللحظة بالتحديد فرصة سانحة لهم، لأن الاتحاد السوفياتي الذي سقط في الحرب الباردة كان أقوى منافس وأخطر عدو، فإذا وقع اختفاؤه فهذه هي اللحظة المناسبة تماما للمشروع الإمبراطوري يمسك بالقمة الدولية، ويكرس وجوده وحده عليها، ويمنع ظهور قوى أخرى تنافس أو تتحدى.
لكن المشروع الإمبراطوري يحتاج إلى استمرار التعبئة ضد <<عدو>> حتى تظل القدرات الأميركية المادية والسياسية والنفسية على يقظتها، فلا تنفرط بغياب المنافس أو العدو، ولا يلحق بها ما يحمله الانفراط السريع من اختلالات بعيدة المدى، وعواقب وخيمة على المصالح الكبرى لأطراف المشروع الإمبراطوري الأميركي (وغيرهم ملايين من العاملين في مجالات المال والصناعة والبترول والسلاح والفضاء والطيران إلى آخره).
ولم يكن يحفظ اليقظة ويمسك بدرجة التعبئة إلا العودة مرة أخرى إلى <<سياسات الخوف>>، مع ملاحظة أن التجربة الأميركية بطبيعتها تنشر المجتمع أفرادا متنافسين في حالة الطمأنينة، حيث ينصرف كل منهم إلى مشروعه الخاص، لكن الخوف وتلك مرة ثانية طبيعة التجربة يُعيد جمع الشاردين لكي يواجهوا معاً مخاوف الخطر.
3 وفي المرة السابقة على عهد <<الخوف الماكارثي الكبير>> كان الخطر هو الشيوعية، والآن فهناك خطر مستجد يستعيد الخوف ويسترجعه، وهو <<الإرهاب الدولي>> و<<أسامة بن لادن و(جماعاته الإسلامية)، و<<صدام حسين>> (وأسلحته للدمار الشامل).
وكان ضغط أصحاب المشروع الإمبراطوري أن هذه المخاطر المستجدة لا تقل ضراوة عن المخاطر السابقة، وكذلك علت نبرة التخويف، وهو ليس تخويفا للأميركيين وحدهم، وإنما لغيرهم معهم، وعليه فهي ضرورة حيوية لقيام تحالف <<ضد الإرهاب>> لا يقل صلابة وحزما عن التحالف ضد النازية والشيوعية.
..................
..................
(وعندما انقضت صواعق النار على نيويورك وواشنطن، في 11 سبتمبر 2001، فإن ذلك الحدث المروع جاء هدية من السماء (وربما من غيرها) إلى المتشوقين للخوف والتخويف، وظنهم أنها الفرصة المناسبة لاستبقاء بل وتكثيف التعبئة الداخلية (المادية والسياسية والنفسية) وللمحافظة على التحالف الدولي، وفي التقدم بما يكفي من الذرائع الأخلاقية على طريق التوسع والتعزيز الإمبراطوري. وكانت صيحة أطراف المشروع الإمبراطوري (الصناعي العسكري والفكري) أن الخطر هناك في الشرق الأوسط، وفي العالم العربي وعلى أطرافه، وليس أمام الولايات المتحدة غير أن تواجه وأن تنتصر.
وبدأت الحرب على أفغانستان، بدعوى ضرب قواعد الإرهاب العالمي، ثم توجهت الأسلحة إلى العراق بدعوى نزع أسلحة الدمار الشامل.
واشتعلت حرب في أفغانستان غريبة، وتلتها حرب في العراق أغرب!
©2003 جريدة السفير
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|