[align=center]تأملات في المنهج البياني للقرآن[/align]

[align=left]محمد حسين فضل الله[/align]

ما هي طريقة فهم الناس للقرآن، وكيف انطلق اسلوبه في الوعي العام؟

هل هناك اسلوب رمزي يلاحق الفكرة من خلال الرمز ليكون له قاموس للمصطلحات الرمزيّة التي يخضع لها فهم الكلام؟

وهي تعني كلمة المتشابه مثل هذا المعنى؟

وما هو معنى الظاهر والباطن، أو الظهر والبطن في التفسير ليكون لدينا سطح عميق، بالمعنى المتنوع في المدلول، أو بالطريقة المتنوعة في الفهم؟

وكيف ينطلق القرآن في حديثه عن أشخاص معينين؟

هل هو بمعنى التعيين الذي يتجمد عندهم، أو هو بمعنى النموذج الأمثل الذي يتمثل فيه المفهوم العام الذي يريد تأكيده في الخط من خلال النموذج؟

***

هذه اسئلة توقّف عندها الكثيرون في حركة التفسير، وأثاروا الكثير من الجدل حولها، حتّى خيّل للبعض ان القرآن كتاب رمزي لا يعمله إلاّ الفئة التي جعل الله لها الميزة في فهم وحيه، فأنكروا حجيّة ظواهره إلاّ بالرجوع إلى ائمة اهل البيت «ع»، وانطلق البعض ليتحدّث عن تعدد المعاني للكلمة الواحدة بطريقة عرضية أو طولية، واستفاد آخرون من الروايات أنّ القرآن في مجمل آياته حديث عن أهل البيت بطريقة ايجابية وعن اعدائهم بطريقة سلبية، ليبقى للاحكام وللقضايا العامة وللقصص المتنوعة مقدار معيّن...

وهكذا كان التصوّر العام للقرآن خاضعاً للأجواء الخاصّة التي تبتدع به عن أن يكون الكتاب المبين الذي أنزل الله على الناس ليكون حجة عليهم من خلال آياته الواضحة التي تمنحهم الوعي الفكري والروحي والشرعي على اساس ما يفهمونه منها بحسب القواعد التي تركز الطريقة العامّة للفهم العام.

***

اننا نتصوّر ان من الضروري جلاء هذه المسألة المهمة في الفكر الاسلامي لأنّ أيّة مسألة تتصل بالقرآن في طبيعته وسلامته من الزيادة والنقصان وطريقة فهمه ودوره الاصيل في استلهام وحي الله، تمثّل الخطورة الكبرى والاهمية العظمى في وعي الاسلام باعتبار ان القرآن الكريم هو الاساس في القاعدة الاسلامية على مستوى المفاهيم والاحكام والمناهج والوسائل والغايات، الامر الذي يجعل من الارتباك والانحراف والغموض في فهمه، مسألة سلبية على ذلك كله.

***

ربمّا كان من البديهي ان نستنطق القرآن الكريم في حديثه عن نفسه في الآيات التي تؤكد عربية القرآن، وذلك في الآيات التالية:

(انّا انزلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون) 2/12.

(كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) 3/41.

(قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتّقون) 28/39.

(نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) 26/193 - 195.

انّ الحديث عن كون القرآن عربياً، لا ينحصر في المسألة اللغوية بل يمتد ليكون عنواناً للمنهج العام للقواعد التفصيلية في أساليب اللغة في البيان والفهم والاجواء من حيث الخصائص الفنيّة التي قد تحمل في داخلها الايحاء والايماء واللفتة والاشارة، مما يتجاوز المدلول الحرفي للكلمات على اساس ان الجانب التاريخي للاستعمالات قد يضيف اليها الكثير من ظلال المعاني وخصوصياتها التي قد تمنحها جواً جديداً، وهذا هو الذي اصطلح عليه «الفهم العرفي» أو «الذوق العرفي».

وفي ضوء هذا، قد نلاحظ ان القواعد العربية تجعل قضية الوضوح في الدلالة سواء كانت على سبيل الاستعمال الحقيقي أو المجازي، مسألة اساسية في حركة التفهيم والتفهّم، بحيث يكون الكلام القرآني حجّة في ايصال الافكار والتشريعات إلى الناس، فلا مجال للتعقيد اللفظي والمعنوي، في اساليب الاستعارة أو الكناية أو طريقة التركيب بحيث تكون المسافة بين اللازم أو الملزوم، أو بين المضمون الحرفي للكلمة والغاية التي يقصدها المتكلّم، بعيدة جداً بما تستلزمه من الجهد الذهني في الربط بين الاشياء، لان ذلك يبتعد عن المنهج البياني الذي تفرضه مسألة التفاهم التي ترتكز عليها قضية اللغة في طبيعتها الحركية وربما نستوحي ذلك من الآيات التي تؤكد صفة التبيين في الآيات كقوله تعالى:

(لقد أنزلنا آيات مبيّنات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) 46/24.

(وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبل المجرمين) 55/6.

(ويريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) 26/4.

***

فإن من الظاهر أنّ الآيات تتحدث عن الوضوح الذي يستلزم الهدى والهداية واستبانة الطريق المضادّ الذي يتحرّك فيه المجرمون.

وهكذا لا نجد هناك مجالاً للحديث عن القرآن، ككتاب رموز ومصطلحات بعيدة في اسلوبها، عن السياق العام لأساليب اللغة العربية بحيث يقف الناس امامها حائرين، لا يجدون لديهم النور الذي يوضح لهم طبيعة المعاني، لأنهم يخافون أن يكون المراد من الآية معنى آخر غير المعنى الظاهر منها، من دون أيّة قرينة في داخل الكلام، أو في اجوائه مما يلغي الهدف الكبير للقرآن الذي يرتكز على اساس اعتبار الآيات النازلة على الناس طريقاً للانفتاح على حركة العقل والتفكير والاهتداء ولتحقيق التذكّر والتقوى من خلال ذلك، في عمليّة الوعي والاستيحاء كما جاء في قوله تعالى:

(كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) 2/219.

(كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تعقلون) 242.

(كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون) 2/103.

(كذلك يبيّن الله آياته للناس لعلّهم يتّقون) 2/187.

(ويبيّن الله للناس آياته لعلّهم يذكرون) 2/221.

***

ولهذا كانت مسألة حجيّة ظواهر القرآن من القضايا البيّنة والواضحة التي اجمع عليها العلماء من خلال حجيّة الظواهر كلها.

وإذا كان القرآن يتحدث عن وجود متشابهات فيه، فان ذلك لا يعني «الرمز» بل يعني الكلام الذي يحتمل اكثر من وجه في مدلوله، أو الذي يمكن ان تختلف فيه الايحاءات، وربما كانت المسألة تتجه نحو الجانب التطبيقي للآيات المتشابهة في حركتها في الواقع لا في الجانب المدلولي، بحيث يستغلّها الذي يحرفون الكلم عن مواضعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وارجاعه إلى الافكار التي يحرّكونها في الناس من أجل ابعادهم عن الخط المستقيم. وبذلك يكون دور الراسخين في العلم ـ من خلال بعض القراءات ـ هو تحديد الخطوط الواقعية التي يتحرّك فيها مدلول الآية من خلال الاجواء المحيطة بها، لا بيان اصل المعنى الغامض، لان ذلك هو الذي يجعل مسألة التأويل قريبة إلى الاسلوب الفنّي للتعبير في القرآن من خلال المنهج العام للغة العربية في قضية التفهيم والتفاهم. ولسنا هنا في مجال البحث الواسع إلى مسألة «المتشابه» و«التأويل» بل كل ما هناك اننا نريد الاشارة إلى الموضوع فيما نستقربه من ذلك وقد ورد عن بعض أئمّة اهل البيت عليهم السلام، جواباً عن سؤال حول ما أثاره بعض الناس من أن المقصود بالصلاة والزكاة. ونحوهها رجال معيّنون، قال: ان الله لا يخاطب عباده بما لا يفهمون، مما يعني ان الآيات القرآنية لا تنطلق في خط التعقيد اللفظي والمعنوي أو الاشارة الرمزيّة التي لا توحي للناس بالوضوح في الفهم.

***

أما مسألة «الظاهر» و«الباطن» و«الظهر» و«البطن» فقد أثار العلماء حولها الكثير من الحديث الذي يدور حول المعاني المتعددة التي تمثّل بطون القرآن، على أساس الروايات المتنوعة في ذلك حتى عُدّ له «سبعون بطناً» وانطلق الاصوليون في ابحاثهم اللغوية للبحث عن «جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى»، واستفرقوا في مسألة الامكان والاستحالة على الطريقة الفلسفية، على اساس المقولة التي تقول بأن اللفظ قالب للمعنى فلا يمكن ان يتحمل معنيين أو المقولة التي تقول بأنه علامة على المعنى، فلا مانع من أن يكون دليلاً على اكثر من معنى وقد رأى البعض في حديث «بطون القرآن» أو «الباطن القرآني» دليلاً على ان هناك في القرآن شيئاً للعامة، وشيئاً للخاصة، على مستوى المعنى وهذه هي المنطقة «السرية» أو «الخفية» للمعنى القرآني التي لا يتحملها إلاّ الامين على الاسرار الخفية للوحي الالهي.

ولكن القرآن يتحدث عن الناس كلّهم عندما يتحدث عن الآيات التي يبيّنها لهم لعلهم يتذكرون، ويتفكرون، ويعقلون، فلا يختص بجماعة دون جماعة مما يفرض ان الفكرة الظاهرة من القرآن هي الفكرة التي يريد الله للناس ان يحملوها ويتحركوا في تفاصيلها الفكرية والعملية، مع اختلافهم في طبيعة المستوى الذهني في استيعاب خصائصها، كغيره في الكلمات العربية البليغة التي يختلف الناس في فهم مداليلها تبعاً لاختلاف ثقافاتهم.

***

وهناك ملاحظة اخرى في المسألة، وهي ان تعدد المعنى في الاستعمال الواحد ليس مألوفا في الطريقة العامّة للكلام، لأنّه لا ينسجم مع اسلوب التفاهم حتى في الكلمات المشتركة بين اكثر معنى، لان الوضع للمعاني المتعددة لا يفرض الاستعمال فيها، بل يعني حاجة كل واحد منها في ارادته من اللفظ إلى قرينة حالية أو مقاليّة، وإذا كان الناس يتحدثون عن «المجمل» فانه يوحي بالإجمال في معرفة المعنى المراد من اللفظ مع احتماله بين اكثر من معنى ولذلك فان المسألة ليست مسألة الايمان والاستحالة من حيث الذات، بل هي مسألة المنهج الغني في استعمال الكلام في التفهيم لدى العرب، فلو أريد هذا اللون من التعدد من الكلام، لكان بعيداً عن النهج المألوف لديهم من خلال اخلاله بالوضوح، وابتعاده ـ بذلك ـ عن مستوى البلاغة التي يتنافى مع الاعجاز الفنّي الذي يرتفع به القرآن إلى اعلى قمّة في الفنّ البلاغي هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، ما معنى ان يكون المعنى الباطن مخزوناً لدى الراسخين في العلم وما فائدة ذلك؟ فان كان ذلك من جهة أنّهم حجج الله الذين لابد ان يقبل قولهم في أسرار الدين، حتى لو لم يكن ذلك مفهوماً من اللفظ، فان طبيعة الحجّيّة تفرض ذلك من دون حاجة إلى تضمين القرآن الكريم، لان عصمتهم تؤكد صدقهم فتؤدي إلى قبول تلك الحقائق الخفيّة منهم وان كان ذلك من خلال الطبيعة الذاتية للدلالة القرآنية، فان المفروض عدم وجود ظهور للقرآن في ذلك.

***

والسؤال كيف نفهم ذلك؟

قد يكون من المفيد، أن نتحدث في هذا المجال عن نقطة مهمّة في تكوين آيّة فكرة حول القضايا الفكرية الإسلامية، وهي ضرورة التأكد من صحة الاحاديث المروية عن النبي محمد (ص) وعن الائمة من أهل البيت (ع)، من حيث السند أو المتن، بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجية الأخبار في عملية الإستنباط الإجتهادي للاحكام الشرعية، لان تلك الشروط قد تكون مطروحة في دائرة التنجيز والتعذير من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون الخبري وذلك من خلال النظرية الأصولية العامة التي ترى في حجية الخبر لوناً من الوان التعبد الذي لا معنى له، في المضمون الذاتي للخبر، فلابد له من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معنى التعبد.

أمّا القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة، وبمفردات الوجود، أو بالخصوصية التفسيرية للقرآن، فإنها بحاجة إلى القطع أو ما يقترب من القطع ويحقق الإطمئنان، لأنه ليس خطاً للعمل، بل هو خط للقناعة الفكرية على مستوى الإلتزام الداخلي، في الإقتناع بالمفاهيم المتنوعة التي تحكم الأشياء المطروحة في الواقع، لئلا يكون الموقف متحركاً في إثباتها وقد تكون الخطورة في هذه المسألة، ان الخلل في المسائل العقيدية والمفاهيم العامة في الصورة التي تقدمها للإسلام، اكثر مما يؤدي إليه الخلل في الأحكام الشرعية التي تتصل ببعض جوانب السلوك الفردي والإجتماعي في دائرة خاصة.

ولعلّ إهمال هذا الجانب، هو الذي أوقعنا في فوضى المفاهيم المتنوعة المتصلة بالكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها، وقضايا الكون والحياة، من خلال الأحاديث الكثيرة التي لم تخضع لتقويم علمي في صحتها وضعفها في قاعدتها العامة.

وفي ضوء ذلك، قد نحتاج إلى الوقوف امام الأحاديث الواردة في قضايا التفسير بشكل دقيق، لأن صورة المضمون التفسيري هي صورة القرآن في الوجه الفكري الذي يتقدّم إلى الناس في تخطيطه للإنسان والحياة وفي تكوينه للذهنية العامة للمسلم في نظرته إلى الوجود كله، مما قد يترك تأثيراته السلبية أو الإيجابية لدى الباحثين في حركة الصراع بين الإسلام والكفر، أو بين الهدى الظلال.

***

والآن نحن مع الجواب:

قلنا: إننا لم نستطع ان نتصور مسألة الظاهر والباطن بالطريقة المادية التي تجعل للفظ طبقتين في المعنى، تماماً كما هو ظاهر الشيء وباطنه، الذي تتعدد فيه الأشياء، وتتنوع فيه الخصائص، أو كما هو الظهر الذي يمثّل جانباً من الجسد يختلف عن البطن الذي يمثّل جانباً آخر، فهناك حالتان عضويتان متعددتان، لأن اللفظ حالة صوتية بسيطة توحي بحالة ذهنية مماثلة، فما هو المألوف من الطريقة المألوفة في اللغة العربية لذلك لابد من إستنطاق هذا المصطلح على اساس إرادة المعنى الواحد الذي تختلف طريقة فهمه تبعاً لإختلاف ثقافة الإنسان الذي يعيه في معرفته بخصائص الأشياء، تماماً كما يتصور بعض الناس الشمس في خلال شكلها البارز بشكل سطحي بينما يتصور بعض آخر من خلال عمق تكوينها وطبيعتها وآثارها بشكل عميق شامل بالمقدار الذي توصّل العلم إلى معرفته، مما قد يخيّل إلينا ان هناك معنيين مختلفين من جهة إختلاف حجم الصور أو طبيعتها المنطبعة في الوعي الفكري للإنسان، في الوقت الذي تتمثل فيه القضية في معنى واحد مختلف الجوانب.

قد تكون المسألة المعنى الجزئي الذي تمثله الآية في مواردها المتحرّكة في الواقع في عصر النزول، أو في مواقع النزول، والمعنى الكلّي الذي يطل على كل المفردات التي تختزن مفهومه وخصوصيّته الشاملة، في الماضي والحاضر والمستقبل، ليكون المعنى الظاهر هو المعنى الجزئي المنفتح على الحاضر، أمّا المعنى الباطن، فهو المعنى المنفتح على الصورة الكلية المفتوحة على المستقبل، حتى لا يتجمد القرآن في الموارد التي نزل فيها بل يمتد على مستوى القاعدة الكلية إلى كل الموارد المماثلة في الحوادث المتجددة في مستقبل الحياة والانسان هذا هو ما تحدث عنه الإمام محمد الباقر (ع) في أكثر من حديث.

منها:

ما رواه الصدوق عن أبيه عن سعد عن البرقي عن محمد بن خالد الأشعري عن إبراهيم بن محمد الأشعري عن ثعلبة بن ميمون عن أبي خالد القماط عن حمران بن أعين، قال: «سألت أبا جعفر (ع) عن ظهر القرآن وبطنه؟ فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن وبطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في اولئك»(1).

ومنها:

ما رواه العيّاشي في تفسيره، عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر (محمد الباقر) عليه السلام، عن هذا الرواية: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلاّ وله حد، ولكل حد مطلع».

ما يعني بقوله: لها ظهر وبطن؟ قال: «ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جاء شيء منه وقع قال الله تعالى: وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم»(2).

إننا نلاحظ في هذين الحديثين، ان الإمام الباقر يريد أن يؤكد على الخصوصية التي تمثل مورد الآية تستبطن في داخلها المعنى الكلّي العام، الذي يتجدد في الزمن كله، كلما تجددت الموارد المماثلة في إمتداده وهذا ما عبر عنه في حديث آخر، في أن القرآن يموت إذا نزل في قوم مخصوصين يغيبون في الزمن، ولكنه يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار، لتكون القضية قضية النموذج الذي يسجد الفكرة العامة التي إستهدفها النص القرآني ونزلت من خلالها الآية، فليس هناك معنيان للفظ، بل هناك معنى واحد يتحرك في خط الزمن من الماضي إلى الحاضر ليطل على المستقبل في خط الخصوصية التي تتجسد في جميع المراحل والأفراد.

***

_______________________________

1- معالي الأخبار، للصدوق، ص259.

2- تفسير العيّاشي، ج1 ص11، نقلاً عن البحار، ج89 ص94.




وهناك حديث آخر قد يطل بالمسألة على وجه آخر، وهو ما رواه الصدوق عن أبيه عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل عن بشر الوابشي عن جابر بن يزيد الجعفي قال: «سألت أبا جعفر (ع) عن شيء من التفسير؟ فأجابني ثم سألته عن ثانية فأجابني بجواب آخر فقلت: جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسالة بجواب غير هذا قبل اليوم؟

فقال: يا جابر إن للقرآن باطناً وللبطن بطن وله ظهر وللظهر ظهر يا جابر: ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متّصل متصرف على وجوه»(1).

***

إن هذا الحديث قد يوحي لأوّل وهلة، بالتعدد في المعنى للكلمة الواحدة من خلال دلالته على تعدد التفسير والتأكيد على ان للبطن بطناً وللظهر ظهراً لا الكلمة، ولكن التدقيق فيه يدل على أنه يريد معالجة الآية في مدلولها، فنحن نلاحظ ان بعض الآيات قد تنطلق في الحديث عن عدة جوانب للفكرة، بحيث تتكامل في الخط الواحد الذي تتعدد آفاقه وجوانبه، فقد تجد للمسالة الواحدة جانباً يتصل بالأخلاق، وجانباً آخر يتصل بالإجتماع، وثالثاً يتصل بالسياسة وهكذا، مما يجعل من الممكن ان يتحدث عنها الإنسان الباحث من عدة جوانب بحيث يبدو الحديث عن كل جانب كما لو كان مدلولاً للآية بشكل مستقل، ولعل هذا هو مراد الإمام (ع) في إتصال الكلام من خلال وحدة مضمونه، وتصرفه على وجوه من خلال تعدد جوانبه، فيمكن للمعنى الذي نزل به القرآن ان تجتذب معنى آخر، كما يمكن للإيحاءات التي توحي بها الآية ان تجتذب إيحاءً آخر.

وفي ضوء ذلك يمكننا ان نطل على مدلول التأويل، فلا يكون المقصود به إرادة غير المعنى الظاهر من اللفظ، بل إستيحاء معنى من خلال المعنى المقصود من اللفظ بحسب الوضع الذي إنطلق من خلال الإستعمال وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع) في قوله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) قال: من حرق أو غرق؟ قلت فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم(2).

فقد لا يكون مراد الإمام (ع) من ذلك ان المراد من الحياة هو الهدى وأن المراد م الموت هو الضلال، أو ان يكون الهدى والضلال معنيين أضافيين للحياة والموت بالإضافة إلى معناهما المادي، بل المراد ان التعمق في قيمة الهدى، الذي يتحرك فيه الدعاة إلى الله، لينقلوا الناس إلهى في مواقع الضلال، لا يقل أهمية عن قيمة الحياة التي ينقذها الناس من الموت، لان نتائج الهدى في روحية الإنسان وفي مصيره الأبدي تمثل نتائج الحياة الحقيقية فهي مسالة إستحيائية لا مدلولية أو بما يقرب من مفهوم الموافته.

ونلتقي ـ في هذا الإتجاه ـ بالحديث المروي عن الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه) قال قلت ما طعامه؟ قال: علمه الذي يأخذه ممن يأخذه»(3).

فأن من الواضح ان العلم لا يمكن ان يكون مدلولاً لكلمة الطعام في هذه الآية، حتى مع تصورنا ان

_______________________________

1- المحاسن، ص 269، نقلاً عن البحار ج89 ص 91.

2- نور الثقلين، ج1 ص514.

3- بحار الأنوار، ج2 ص96، نقلاً عن المحاسن.




هناك طعاماً للعقل بالإضافة إلى طعام الجسد، لأن الآيات الأخرى تؤكد أن المراد به الغذاء المادي الذي ينطلق من النبات، وهي قوله تعالى: اننا صببنا الماء صباً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، متاعاً لكم ولأنعامكم»، فأنّ هذا كله لا ينسجم مع مدلول العلم، كما هو واضح لكن الإمام (ع) أراد ان يستوحي من هذه الكلمة (الطعام)، معنى العلم بإعتبار ان الكلمة في إيحاءاتها تجتذب الجانب المعنوي للطعام الذي هو نعمة إلهية لا تقل، بل قد تزيد النعمة الإلهية في الغذاء المادي للجسد.

وإننا نتصور ضرورة دراسة هذا الأسلوب الإستحيائي القرآني في التفسير، لأنه الأسلوب الذي يجعل الإنسان ينطلق من الآية إلى عوالم أخرى من خلال طبيعة الغايات التي تتحرك بها مما تلتقي به في أكثر من أفق، في نطاق القواعد الإسلامية والعربية العامة.

وهذا هو الذي يجعلنا ننتقل من الصورة المادية إلى الصورة المعنوية ومن التجربة التاريخية للمجتمع الذي نزل القرآن فيه وعالج مشاكله، في التحديات التي كانت تواجهه، وفي القضايا المطروحة عليه إلى التجربة الجديدة التي نواجه فيها تحديات الواقع ومشاكله الأمر الذي يجعل للقرآن صفته (الحركية) إلى جانب الصفة التشريعية والتوجيهية والوعظية ونحو ذلك.

وفي ضوء ذلك فقد نستطيع الوقوف مع الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة (ع) في تفسير آيات القرآن في كثير من الموارد بأهل البيت (ع) لنجد ان البعض منها كان مختصاًبهم (كآية التطهير)، و(المودة في القربى) بينما كانت الآيات الأخرى منطلقة في الخط العام الذي يمثل أهل البيت (ع) النموذج الأكمل له، كآية (الراسخون في العلم) و(لكل قوم هاد) و(فاسألوا أهل الذكر) و(من عنده علم الكتاب) و(كانوا مع الصادقين) و(ثم أورثنا الكتاب).

وإذا كانت بعض الآيات قد نزلت فيهم في مواردها الخاصة في أسباب النزول، فإنها إنطلقت لتمتد في الخط العام للقضية المطروحة فيها كما في آية المباهلة التي كان موردها أهل البيت وهم الحسن والحسين (ع) في عنوان (أباءنا) والزهراء عليها السلام في عنوان (نساءنا) والإمام علي أمير المؤمنين (ع) في عنوان (أنفسنا)، وذلك قوله تعالى: (فمن حاجك فيه بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).

ولكنها رسمت خطاً عاماً للمباهلة في كل الموارد التي يحتاج المسلمون اليها وهكذا نجد هذه الفكرة في قوله تعالى: (إنما وليكم الله وروسله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)، فان المعروف المروي بأسانيد متعددة أنّها نزلت في الإمام علي (ع) ولكنها في الوقت نفسه اطلقت الفكرة في العناوين الكبرى للذين يتولون الولاية للمسلمين في طبيعته العالي التي توحي بها الصفات المذكورة فيها ولهذا ذكرت بأسلوب الجمع لا المفرد بحيث تشمل الأئمة (ع) من ولده.

وهكذا نلاحظ هذا الأسلوب في آية سورة الإنسان قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) 76/8 و9.

فقد نزلت في علي وفاطمة (ع) ولكنها إنطلقت من خلالها لترسم الخط العريض للذين يتحركون في هذا الإتجاه، وبهذه الروح في الإخلاص لله، والخوف منه والحب له، والايثار لعباده من اليتامى والمساكين والأسرى.

وهكذا، نجد أن القرآن الكريم، لا يتوقف عند الخصوصيات التاريخية التي كانت المنطلق لنزوله، بل يمتد إلى كل النماذج الحية في الزمن كله، كما أنه ـ في مفاهيمه العامة ـ يتحرك من أجل ان يشير إلى حركة الواقع في قضايا الحق والباطل، والشرعية واللا شرعية ليكون دليلاً على خطوط الإستقامة والإنحراف في الواقع الإسلامي الذي جاء بعد مدة طويلة من وقت نزوله، ليتحدث عن كل مرحلة جديدة من خلال حديثه عن المرحلة السابقة المماثلة، ليوجه الناس إلى رموز الحق في المستقبل، يبعدهم عن رموز الباطل فيه من خلال توجيهه وإبعاده عن الرموز المماثلة في الماضي، لأن القرآن يمثل الحقيقة الواسعة التي تشمل الزمن كلّه وترتفع فوقه.

وفي ضوء ذلك فإننا لا نحتاج إلى الخروج عن المألوف من قواعد اللغة العربية في تفسيره، أو إلى ابعاده عن القضايا العامّة، من أجل التركيز على هذه الحقيقة أو تلك، أو هذا الرمز الشرعي للحق، لأن الخطوط العامة المتناثرة فيه، والنماذج الحية المتحركة في داخله يمكن ان توحي لنا بما نريد في عالم الدليل والبرهان.