تتعمد آلة الاعلام الغربية، الامريكية على وجه الخصوص، اطلاق مصطلحات, جاهدة لزرعها في الوعي العربي، الغاية منها تغييب الهوية العربية وتفتيت البنية العربية، وادخال الكيان الصهيوني المصطنع في نسيج المنطقة، وفي هذا السياق كان مصطلح "الشرق الأوسط" و"شمال افريقيا" و"دول الطوق"، وها هو مصطلح "الدول الناطقة بالعربية" يأتي في اطار هجوم يحاول مصادرة وعي الانسان العربي بالانتماء الى قوميته الدول الناطقة بالعربية تعبير أطلقه دانيال بايبس مدير منتدى الشرق الأوسط في فيلادلفيا، وأحد المحافظين المعروفين في مجلس السلام الذي أنشأه الرئيس بوش الابن لاستقطاب أعوانه وتقديم المقترحات المثيرة من أجل "العراق الجديد". وبايبس هذا كرر هذه العبارة، أو هذا المصطلح الجديد مرتين في ندوة تلفازية اتصالية خصصت للحديث عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الامريكية والبريطانية بحق الأسرى العراقيين، وعلى الرغم من ان المحاور قد لفت مشكوراً نظر بايبس مؤكداً له ان هناك دولاً عربية وليس دولاً ناطقة باللغة العربية، إلا انه لم يتراجع عما تلفظ به باعتباره زلة لسان مثلاً، بل رد عليه بخبث ملتوٍ ومبطن وبأسلوب قريب من التعمية، متعمداً الهروب من النية المبيتة: "حسن، أنا ألفظ الأمور على طريقتي". انه لجواب امريكي منمق يعزز الشك والريبة المتولدين في داخل كل انسان عربي، لاسيما وانه لم يتزحزح عن موقفه بخصوص تعذيب الأسرى العراقيين، فعلى الرغم من الحقائق المؤكدة والبراهين الواضحة المدعمة بالصور وشهادات بعض الأسرى العراقيين التي أدلوا بها خلال الندوة، إلا انه وبخبث ومخايلة ملحوظين كان يهرب بنفسه بعيداً عن الخوض في مسألة تعذيب الأسرى العراقيين ويلجأ الى ادعاءاته الواهية بالتقليل من أهمية هذه المسألة. وهو لا يخجل من نفسه حين يقول: ان العراق يسير الآن على طريق الحرية والديمقراطية والتطور، ويقول: نحن نقدم له الخبرة الامريكية العريقة بتطبيق القوانين وأساليب الحرية، فالعراق يجهل كل ذلك ولاخبرة له في هذا المجال، وقد تناسى ان شريعة حمورابي التي لا تزال تبهر العالم حتى الآن قد انطلقت من العراق منذ آلاف السنين، ومتناسياً ايضاً ان بغداد كانت حاضرة الدولة العربية الاسلامية التي نشرت حضارتها في أرجاء واسعة من العالم في زمن كانت فيه اوروبا تغرق في ظلام القرون الوسطى، وفي زمن لم يكن لأمريكا وجود في خريطة العالم آنذاك، وهذا ما أكدته الكاتبة والباحثة حياة الحويك أثناء ردها على الأمريكي المتجاهل للحقائق في الندوة ذاتها. وللهروب أكثر وأكثر من تلك الحقيقة الناصعة، حقيقة تعذيب الأسرى العراقيين والممارسات الاجرامية السادية ضدهم، ظل ذلك الامريكي يكرر ويردد تلك المقولات السخيفة من ان العراقيين كانوا كلهم أسرى لعشرات السنين في ظل النظام السابق، وهذا الوتر عزف ويعزف عليه الكثيرون ممن دخلوا العراق على الدبابات الامريكية والبريطانية من أجل تحريره وانقاذه. وبما انني لست بصدد التركيز على مسألة تعذيب الأسرى العراقيين، ذلك التعذيب المشين واللاأخلاقي ومتابعة ما جرى ويجري، فالحديث في هذا المجال قد يطول ويطول، ولكنني فقط أريد ان أركز باختصار على العبارة، أو بالأحرى على المصطلح الذي تلفظ به ذلك الامريكي: "الدول الناطقة باللغة العربية". هذا المصطلح الجديد في رأيي يفوق بخطورته ومراميه البعيدة كل المصطلحات التي أطلقت منذ سنوات عديدة وألصقت بواقعنا العربي جغرافياً وتاريخياً وسياسياً وثقافياً، كمصطلح "الشرق الأوسط"، ومصطلح "شمال افريقيا" اللذين تم تسويقهما كبديلين عن مصطلحي المشرق العربي والمغرب العربي، والغاية من ذلك تفتيت البنية العربية جغرافياً وتاريخياً وقومياً، وفي الوقت نفسه ادخال الكيان الصهيوني جغرافياً وسياسياً في نسيج المنطقة، وتمييع القضية الفلسطينية، أو ما أطلق عليها "قضية الشرق الأوسط". وكذلك مصطلح "الارهاب" الذي ألصق بالعرب والمسلمين تحديداً، وأعلنت الحرب الضروس عليه بهدف القضاء على ما تبقى للعرب والمسلمين من قدرات سياسية وثقافية واجتماعية بعد ان أسقطت كافة المفردات اللغوية التي تدعو الى المقاومة والكفاح والنضال ضد المعتدين المحتلين. وقد سبق وان كتبت قبل عدة أعوام أكثر من مرة، وبشكل مفصل ومطول حولها، لافتاً الانتباه الى خطورتها ومراميها البعيدة، منبهاً ومحذراً وداعياً الى ضرورة الابتعاد عن استخدامها في الوسائل الثقافية والاعلامية العربية المختلفة. ان "الدول الناطقة باللغة العربية" مصطلح خطير وافد الينا حديثاً، وخطورته تكمن فيما يحمله معناه من أبعاد ومرام، لأن هذه العبارة: "الدول الناطقة باللغة العربية" تعني ان لا رابط فيما بينها إلا النطق اللغوي، أي انها لا تنتمي الى قومية واحدة ولا الى تاريخ مشترك ولا الى ثقافة عربية اسلامية واحدة، وكأنها شأنها في ذلك شأن الدول الناطقة باللغة الانكليزية أو الفرنسية مثلاً، وهي دول مبعثرة في اماكن مختلفة ومتباعدة من الكرة الارضية، ولا رابط قومياً أو عرقياً فيما بينها. وبالمحصلة لا بد من الحذر من هذا المصطلح الجديد "الدول الناطقة باللغة العربية"، فما أخشاه ان يتلمظ الكثيرون ممن في قلوبهم زيغ في الجهات الاعلامية والثقافية العربية، ويتهافتون على هذا التعبير الامريكي الجديد، فيسوق ويشيع وينتشر، وبالتالي يكون له، ولو بعد حين، شأن خطير على واقع أمتنا العربية التي تعاني ما تعانيه في مطلع القرن الحادي والعشرين، وأمتنا لا ينقصها المزيد من هكذا مصطلحات هدامة، هي أشبه بالكوارث والويلات النازلة على رؤوسنا ورؤوس آبائنا وأجدادنا وأولادنا وأحفادنا أجمعين.‏