حديقة الإنسان ... ألف شمس مشرقة
بقلم الشاعر / أحمد مطر
منذ ما يزيد علي خمسة أعوام، كانت رواية (قائد الطيّارة الورقية) للكاتب الأفغاني المقيم في أمريكا (خالد حسيني)، قد هبّت، فور نشرها، مثل عاصفة مباغتة، فاستولت علي مشاعر القرّاء في شتّي بقاع الأرض، وأصبحت في غضون أسابيع من صدورها، الرواية الأكثر مبيعاً في العالم كله، حيث أمكن لها، في وقت قياسي، أن تترجم إلي مختلف اللغات الحيّة، وأن تُنشر في أربعة وثلاثين بلداً.
كانت تلك الرواية قد وصفت، بالدم الفائر، مآسي الأبرياء عموماً والأطفال خصوصاً في (أفغانستان).. البلد الوارث لأجمل الحضارات، والمُبتلي علي الدوام بسطوة غزاة الخارج، واستبداد سفلة الدّاخل.
ولأنّها رواية أحاطت بأدّق تفاصيل الحياة تحت وطأة مختلف الأنظمة الجائرة، فقد وقع في ظنّ الكثيرين أنّه لم يعد لدي (خالد حسيني) أيّ جديد لرواية أخري، بعد أن دفع فيها عن صدره أطول وأثقل الزفرات.
لكنّ الرجل كذّب الظنون كلّها، حين فاجأنا في أواخر العام الماضي، بصدور روايته الثانية (ألف شمس مشرقة) التي أكّد فيها أنّه يمتح من بئر دافقة، وأنّ روايته الأولي لم تكن (بيضة الديك)، ذلك لأنّ بلداً مثل بلده الممتحَن بأنواع البلايا، لا يمكن أن يترك لكاتب موهوب مثله، فرصة وضع نقطة نهاية لجملة ختامية في سِفر المحن المفتوح علي جميع الاحتمالات.
الرواية الجديدة أضخم حجماً من سابقتها، بل تكاد تكون ضعفها حجماً، ولا مورد للمقارنة بين الاثنتين من ناحية قوّة الموضوع وبراعة الفن، فكلتاهما صادرة من ذهن رجل ممتليء تماماً بموضوعه، وموهوب جداً في مجال فنّه، وعليه فإنّ رواية (ألف شمس مشرقة) قد جاءت كسابقتها: مشرقة وأخّاذة وبالغة الأثر.
لكن إذا كان لا بدّ من وضع فارق حادّ وسريع بين الروايتين، من حيث الموضوع، فإنّ من الممكن القول بأنّ الأولي كانت رواية (الطفل الأفغاني)، بينما الثانية هي رواية (المرأة الأفغانية). فهذان الشاخصان المؤسّسان والراعيان للحياة، هما الأكثر عرضة للتدمير أو الموت في أفغانستان، علي مَرّ العهود.
ومثلما كان هناك طفلان يشكّلان محور الرواية الأولي، فإنّ هناك امرأتين تشكّلان محور الرواية الثانية: المرأة الأولي هي (مريم) بنت السّفاح شبه الأميّة القادمة إلي العاصمة (كابول) من (هيرات) النائية، منبوذة من قِبَل أبٍ خاطيء جبان، ومستقرة في كنف زوج نذل دنيء قاسٍ يكبرها بعشرة أعوام، ويقف بسلطته العمياء في المنزل كمعادل موضوعي لسلطة طالبان أو لوردات الحرب في البلد كلّه.
أمّا المرأة الثانية فهي (ليلي) بنت العاصمة المتعلّمة والقادمة من بيت مدرّس يحترم المرأة ويؤمن بحقوقها الإنسانية العامة، لتستقر في بيت الرجل ذاته ضرّة لمريم، حين يستغل ذلك النذل ظرف مقتل أهلها إثر انهيار منزلهم تحت وطأة القصف المتبادل بين أصناف المجاهدين (أكرمكم الله).. وإصابتها هي نفسها إصابة بالغة فيحملها إلي بيته لتقوم مريم برعايتها حتي تشفي، ثمّ يجتهد بعد ذلك في تدبير حيلة خسيسة، ينبئها من خلالها بوفاة صديق طفولتها وحبيبها (طارق) محترقاً في السيارة التي نقلته وأهله، مؤقتاً، إلي مدينة (بيشاور) الباكستانية. وعند هذه النقطة يخيرها بين أن تتزوجه أو أن يرمي بها إلي الشارع، لتواجه القتل أو الاغتصاب أو كليهما، فتذعن لطلبه مضطرّة، لأنّ حبيبها (طارق) كان قد زرع في أحشائها طفلاً قبل رحيله المفاجيء.
طفلة في الخامسة عشرة، تصبح، علي الرغم منها، أمّاً لطفلة مثلها، وضرًُّ لامرأة في عمر أمّها.. في دائرة لهب موّارة يرعي تأجّجَها لوردات الحرب وطالبان ومجاهدو الأعراب من الخارج، والزوج الدنيء من الدّاخل.
قليلة هي الفضاءات الخارجية المفتوحة في هذه الرواية، ذلك لأنّها تغزل خيوطها حول أنوال النساء. ولأنّ النساء حبيسات القواقع، فإنّ الفضاءات علي كثرتها تبقي غالباً، مساحات ضيّقة خانقة تحقّق مطلب الرواية الأصلي في وصف حالة المرأة الأفغانية التي تحيا مختنقة بحبال القيم العائلية والقبلية العمياء من جهة، أو بحبال القيم الدينية الممسوخة والمشوّهة من جهة أخري، والتي لم تحظَ بنافذة للتنفّس أو الرؤية، ويا للمفارقة، إلا في فترة حكم الشيوعيين الذين آمنوا بحقّها في الحركة والتعلّم والعمل، علي الرغم من موقفها السلبي منهم وعدم إيمانها بالفكر الذي يحملونه!
علي مدار ما يقرب من أربعمائة صفحة احتوت أربعة أجزاء وواحداً وخمسين فصلاً، نشاهد بألم حاد الويلات المتّصلة المحيطة بالمرأة الأفغانية عموماً، منذ تكوّنها جنيناً لم يفز بمن يُجهضه، إلي حين وصولها إلي نطع السياف أو بندقيّة القنّاص.
فالمرأة في معظم الأحوال هي أداة الاستمتاع، أو مشجب السخط، أو برميل قمامة الشرف الذي يلقي فيه الرجل، علي الدوام، تبعات ذنوبه الشخصيّة.
وكمثال علي ذلك، نري أنّ (مريم) بطلة الرواية، هي ثمرة نزوة والدها (جليل) الرجل الثّري جداً والمتزوّج من ثلاث نساء، والذي لم تردعه كفايته عن السطو علي شرف امرأة بائسة لا حول لها من خادمات المنزل، وزرع بذرة العار فيها، ثمّ نفيها وطفلتها إلي كوخ موحش منفرد علي مسافة بعيدة جداً من منزله المنيف في (هيرات)، صوناً لسمعته!
صحيح أنّه كان يزور الطفلة في أوقات متباعدة ويلهو معها، لكنّه كان يفعل ذلك باعتباره (كفّارة) بسيطة عن ذنبه العظيم، كما تقول أمّها البائسة. والدليل علي خبث نفسه هو أنّه عندما غامرت (مريم) الصغيرة بطرق باب منزله، بعد مسيرة طويلة ومضنية، أرسل الخادم ليخبرها بأنّه غير موجود، وتركها تنام في برد العراء طول الليل، ليحملها سائقه صباحاً إلي كوخ أمّها!
ومن جانب آخر فإنّ جدّها لأمّها (الخادمة الضحية) كان قد تبرأ من ابنته تحت وطأة الشعور بالعار، وغادر إيران ولم يعد أبداً.
تقول أمّ مريم: (أبي كان جباناً.. لأنه لم يملك الشجاعة لقتلي غسلاً للعار. إذن لكان قد أحسن إليّ، وإليك أيضاً يا مريم.. و(جليل) كان جباناً أيضاً، لأنّه لم يعترف بمسؤوليته، ورمي التهمة عليّ وحدي ، زاعماً أنني أغويته).
وهي في إحدي المرّات، تقدّم لمريم نصيحة تختزل فيها كلّ مآسي المرأة في كلّ زمان: (انظري إليّ. تعلّمي هذا الآن، وتعلّميه جيداً يا ابنتي: كما تؤشر إبرة البوصلة دائماً إلي جهة الشمال، فإنّ إصبع الاتّهام لدي الرجل يتوجّه دائماً نحو امرأة. تذكّري هذا يا مريم).
بقي القول إنني عند استعراضي لرواية (الطيّارة الورقية) كنت قد أبديت خيبتي وألمي من كونها قد سافرت إلي جميع أنحاء الدنيا، لكنّها لم تصل أبداً إلي (بلاد العرب أوطاني).. وكان لديّ يقين بأنّ (سفينة الصحراء البرمائيّة) اللعينة التي صنعت طالبان وألهمت فكر طالبان وموّلت سلاح طالبان من المال الحرام الذي تسرقه من أفواه جياعها، هي التي بسطت ظاهرة طالبان الذهنية علي اتّساع سماوات
و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى