[align=center]
لماذا «نصوص معاصرة»؟
الأستاذ حيدر حب الله
- 3 / 5 / 2005م - 11:21 ص
[/align]
الوضوح والشفافية من العناصر اللازمة في الفكر والمشاريع الفكرية المعاصرة، بل إن واحدةً من أزماتنا المعاصرة في العالم الإسلامي غياب روح الشفافية عن ساحتنا الفكرية والثقافية، فضلاً عن الساحات الأخرى.
من هنا، نحاول في هذه المقدمة تحديد تصوّرنا عن مشروعنا وأسسه الفكرية والثقافية، لكي تنجلي الصورة وتتضح، ونقدّم لذلك بمدخل بالغ الإيجاز في صورة المشهد الثقافي الإيراني المعاصر، ثم نعرض تصوّراتنا عن نقل هذا المشهد إلى القارئ العربي.
مدخل إلى المشهد الثقافي الإيراني :
كثيراً ما ينظر المراقبون إلى التطورّات السياسية في إيران، بوصفها منجزات وإخفاقات مرتهنة لتجربة قيام الثورة الإسلامية فيها بما تمثّله من حدث سياسي، مغفلين تلك التأثيرات الثقافية والفكرية التي تبعتها، سواء داخل الحوزة العلمية أو خارجها. وباعتبار أن التجربة لا زالت حية وقريبة من الجميع كما ويمكنها أن تكون مادةً هامة للقراءة المفضية إلى توظيف الخبرات في عملية تجاوز للإشكاليات والسلبيات، لذا فمن الضروري الاطلاع عليها ومتابعتها والتعرّف على تأثيراتها المختلفة.
وفي هذا الصدد، يمكن عرض المشهد الثقافي والفكري في الساحة الإيرانية بإيجاز بالغ ــ مقدّمةً لعرض تصوّراتنا عن نقل هذا المشهد إلى العالم العربي ــ عبر تلخيصه باتجاهين رئيسين، دون تبنّي أيّ منها فعلاً أو الدفاع عنه، وإنما محاولة لعرضه وقراءته، والكشف عن أبرز رموزه الفكرية وناشطيه.
أولاً:
الإتجاه التقليدي (المدرسي): ويتمثّل في أغلب الشخصيات الدينية التي تصدّت لمقام المرجعية، أو بعض أساتذة الحوزات العلمية في مدينة قم المقدسة بالخصوص، وكذلك في مشهد وأصفهان.
واهتمامات هذا التيار هي نفسها المتعلّقة بالموضوعات التقليدية والاهتمامات الدراسية بكتب وأبحاث فقهية معروفة، تتلخّص في مجموعة مصادر أساسية منها كتاب جواهر الكلام للنجفي ومستمسك العروة للحكيم، والمستند وغيره للخوئي، وإلى حدّ ما نتاج الخميني الفقهي والأصولي أيضاً.
والتيار التقليدي تيار معروف ومألوف في عموم الساحة الشيعية داخل إيران وخارجها، وبيده حالياً الكثير من مواقع النفوذ.
ثانياً:
الإتجاه التجديدي (الإصلاحي): وهو عبارة عن اتجاهات وأطياف متعدّدة تبلغ بتعددها حدّ التناقض.
وينقسم هذا الاتجاه من الناحية الفكرية إلى تيّارين رئيسيين:
الأول: التيار التجديدي الداخلي (من داخل الحوزة): ويسعى هذا الاتجاه إلى تطوير المنظومة المنهجية في الحوزة العلمية من داخل الحوزة، وضمن الأطر والمفاهيم والمقاييس نفسها التي تتماشى مع الحوزة ونظامها الفكري.
وتختلف أساليب التجديد ضمن هذا الاتجاه باختلاف الاهتمامات ومسلسل الأولويات المنظورة مما يشطره إلى تيارات ثلاثة كالتالي:
أ ـــ تيار تطوير لغة الخطاب: ويعمل على محاولة تجديد الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية من داخل المنظومة الفكرية الحوزوية وبالآليات الأصولية والفقهية المتعارفة والمتوارثة نفسها. فهنالك من يسعى إلى تطوير اللغة عبر صياغة المفاهيم السائدة صياغة جديدة تتناسب ولغة العصر، وهو ما دأب عليه مفكرو الشيعة منذ العشرينات الميلادية، فقاموا بإعادة صياغة الأفكار السابقة وقدّموها بأساليب أكثر عصرانية.
وأمثلة ذلك كثيرة، منها اقتصادنا والفتاوى الواضحة للسيد الصدر، والتي كانت مستمدّة أساساً من كتاب الروضة البهية للشهيد الثاني، وكتاب المكاسب للشيخ الأنصاري، وشرائع الإسلام للمحقق الحلي، وعلى المنوال نفسه كتاب فقه الإمام جعفر الصادق للشيخ محمد جواد مغنية المستند على كتابي المكاسب وشرائع الإسلام، بل حتى على الصعيد الفلسفي طرحت كتب المطهري غالباً الأفكار ذاتها المستمدّة من مدرسة ملا صدرا الشيرازي وملا هادي السبزواري.
وقد كان ذلك منطِلقاً من الاعتقاد بأن تحويل هذه الأفكار الموجودة في بطون كتب التراث وعرضها بلغة معاصرة سيكون كافياً ــ إلى حدٍّ ما ــ لتحقيق التقدّم المنشود.
ومن أبرز رموز هذا الاتجاه حالياً الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وهو أحد مراجع التقليد البارزين في قم، ولـه كتابات عديدة بلغة جديدة وعصرية تتناسب مع متطلّبات الشباب، وتقديم الإسلام لهم بلغة تناسبهم، وكذلك أستاذنا الشيخ باقر الأيرواني ــــ الذي انتقل مؤخّراً إلى العراق ــــ حيث سعى إلى تقديم العديد من المناهج الدراسية الحديثة، منها كتابه دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي الذي أقرّ تدريسه رسمياً في الحوزة منذ سنتين أو ما يزيد، وكذلك كتابه دروس تمهيدية في علم الرجال، وتعتبر تجربته متميزة من ناحية تقديم لغة جديدة لتطوير المناهج.
كما وهناك أيضاً تجربة الشيخ محسن قراءتي والتي تتميز بتطوير علاقات شخصية مع محدّثيه عبر برامج تلفزيونية ومحاضرات كسر فيها الحواجز التقليدية المصطنعة بين المخاطِب والمخاطَب، ليطرح الأفكار والمفاهيم بلغةٍ تغلب عليها اللطافة والمزاح والبساطة مما ترك تأثيراً بالغاً على قطاع واسع من الشباب.
ومن التجارب الأخرى أيضاً تجربة الشيخ محمدي الري شهري في مجالات عديدة، كان من أبرزها ميزان الحكمة وسلسلة مصنفات في موضوعات حية وجميلة.
ومن التجارب الإدارية المتميزة في هذا المجال تجربة مرشد الثورة السيد علي الخامنئي في تأكيده على تطوير مناهج الحوزة العلمية، وقد دفع لإدخال مواد علمية جديدة في الحوزة من بينها اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة، وأجرى نظام الامتحانات وشروط القبول و... بشكل لم يسبق له مثيل.
2 ــــ تيار التطوير المراحلي للمفاهيم الفقهية: يغلب على الحوزات العلمية الطابع الفقهي، ويعتبر الكثيرون مادتي الفقه والأصول المادّتان الرئيسيتان في الدراسات الحوزوية برمّتها، وهذا ما سبّب تأخّراً بيّناً في الدراسات القرآنية التي لم تعد إلا مؤخّراً في الحوزات العلمية، ومثلها علوم الفلسفة والكلام.
فمن النماذج التي تسعى لتطوير المفاهيم الفقهية تجربة أستاذنا السيد محمود الهاشمي الذي يمتلك الكثير من الآراء والمعالجات الفقهية الجريئة، وهو على قناعة تامة بهذا التطوير، إلا أنه يرى ضرورة التدرّج في طرح الأفكار الجديدة وعرضها، فمن آرائه مثلاً أن آية الخمس لا تدل على خمس أرباح المكاسب خلافاً للرأي السائد لدى عموم فقهاء الشيعة، وقد طبع له كتاب في بيروت حمل عنوان قراءات فقهية معاصرة، جمع فيه حوالي العشرين دراسة في الفقه الإسلامي.
ومن النماذج الأخرى في هذا المجال الشيخ حسن الجواهري الذي قام بمعالجة وافية للعديد من القضايا المعاصرة بأسلوب متقدّم كموضوع الاستنساخ والتلقيح الصناعي والمناقصات و... كما أنه طرح آليات فقهية جديدة، ولديه كتاب يجمع أبرز أعماله يقع في ثلاثة مجلدات تحت عنوان بحوث في الفقه المعاصر.
كما أن تجربة الشيخ محمد علي التسخيري التي جمعها في كتاب ذي أربع مجلدات تضيف مادة مهمّة، وتطل إطلالة جديدة على بعض الموضوعات الفقهية ضمن عرض جديد وتنظيم مستحدث وآليات متقدمة الى حد جيّد.
ويمكن كذلك اعتبار مشروع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ضمن هذا الإطار، حيث إنّ لديه مجموعة من الفتاوى والاجتهادات الجديدة والجريئة، والتي عادة ما تثير ضجّة في الأوساط العلمية بين الفينة والأخرى، مثل رأيه في الذبح في منى، وفي رمي الجمرات، وأخيراً في حرمة التدخين، حيث يرى بأن الأعمدة القائمة حالياً لم تكن معهودة عصر الرسول 2، بل كان المسلمون يرمون الجمرات في أرض فضاء، ومن ثمّ فسقوط الجمرات عليها يكفي، وقد كتبت العديد من الردود على ذلك باللغتين العربية والفارسية.
كما أن للسيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي ـــ رئيس السلطة القضائية السابق ـــ آراء ملفتة، من قبيل رأيه في أحكام الارتداد التي قد لا تنطبق على ما هو موجود الآن.
3 ـــ تيار التجديد الفقهي: ويؤمن أصحاب هذا التيار بضرورة التجديد الفقهي العاجل، وليس المتأني كما يراه التيار السالفة الإشارة إليه. ومن أبرز رموز هذا التيار الشيخ يوسف الصانعي أحد المتصدّين للمرجعية، وله آراء جريئة وخصوصاً في فقه المرأة والفقه السياسي، فمثلاً يرى ضرورة الحصول على إذن الزوجة السابقة للارتباط بأخرى، ويرى كذلك أن دية المرأة مساوية لدية الرجل، ويخالف من يقول بنقصان دية الذمي عن المسلم، كما يعتقد بكراهة الزواج الثاني، ويناقش أيضاً موضوع انحصار الطلاق بيد الرجل ـــ الذي يعتبر عمدة بحث الطلاق ـــــ حيث لا يرى دليلاً قرآنياً عليه.
أما الشيخ محمد إبراهيم الجناتي (وهو غير الشيخ أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور اليوم) فتصبّ جهوده في الإطار نفسه، وله كتاب كبير في الفقه المقارن بين المذاهب، ولديه آراء ومداخلات كثيرة في المواضيع الفقهية، فهو يرفض مثلاً فكرة الاحتياط أصلاً، وذلك يدل على جرأة كبيرة لديه، وقد سبقه إلى ذلك الشيخ محمد جواد مغنية في تعليقه على موضوع طهارة الكتابي، وكذلك ممن خالف الاحتياط الشيخ مرتضى المطهري والسيد مصطفى الخميني ـــــ وكان فقيهاً متقدماً، وقد أعيد طباعة كتبه في الفقه والأصول والتفسير بحلّة جديدة ــــ وقد سبب ذلك التشكيك في الكثير من البديهيات الفقهية الواضحة.
ومن الرموز البارزة والمتقدمة في هذا الاتجاه الشيخ الصادقي الطهراني صاحب كتاب "تبصرة الفقهاء" وهو موجّه للفقهاء لإبانة إشكالات وقعوا فيها، ويميل الطهراني كثيراً إلى الاستنباط من القرآن الكريم معارضاً التيار الأخباري بشدّة كبيرة، ومن آرائه أنه لا خمس في أرباح المكاسب، ويناقش الفقهاء في ما يطلقون عليه محرّمات الإحرام ويرى ــ بدلاً عنها ــ محرّمات الحج مستدلاً بقوله تعالى "فلا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج"، وأن الحل من الإحرام لا يحل الحاج من المحرمات المذكورة. كما أنه يرى زكاة النقدين في عصرنا الحاضر ولا يرى إنحصارها في الموارد التسعة المشهورة بين الفقهاء و...
الثاني: التيار التجديدي الخارجي (من خارج الحوزة):
ويسعى هذا الاتجاه إلى القيام بتجديد فكري عبر تناغم بين عناصر جامعية أو ذات خلفيات حوزوية ودراسات دينية، وينطلق في مشروعه من اعتماد آليات في الفكر الديني لا تنتمي إلى الموروث المعمول به داخل الحوزات اليوم.
ولعلّ أبرز هؤلاء السيد محمد حسين المدرسي الطباطبائي، وهو يستند في منهجه على أساس القراءة التاريخية، وقد درس الطباطبائي في الحوزة العلمية، وحصل على شهادة الدكتوراة، ويدرّس الآن في إحدى جامعات أمريكا، ويكتب معظم كتبه باللغة الإنجليزية، وله دراسات تاريخية في الفقه، وفي تطور المباني الفكرية للشيعة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وتمت ترجمة كتابه الأخير إلى الفارسية ثم العربية وأثار ضجة كبيرة سرعان ما همدت عندما أقلع الطباطبائي نفسه عن فكرة نشر كتبه بالفارسية في إيران على ما أظن.
ويعتمد الطباطبائي على قراءة الفقه وعلم الكلام قراءة تاريخية بحتة، وهو موثق بمئات المصادر التاريخية. ويعتبر منهج المدرسي منهجاً جديداً على مناخ الدراسات الحوزوية، فهو منهج جاء من الغرب، وقد يكون الأستاذ أحمد الكاتب فيما أظنّ قد أخذ الكثير من أفكار المدرسي ـــ وخاصة في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من نظرية الشورى إلى ولاية الفقيه ــــ ولكنه تبناها بوصفها مفاهيم عقدية، بينما كان المدرسي يسردها ويشرّحها بوصفها تحليلاً تاريخياً لينأى بنفسه عن تبنيها أو إقحامها المجال العقدي، ولست متأكداً من اطلاع أحمد الكاتب على نتاج المدرسي فهذا الأمر يحتاج إلى دراسة ومتابعة.
وهناك أيضاً تجربة الشيخ محمد مجتهد شبستري الذي يتبنى آراء حقوقية جريئة فيما يتعلّق بحقوق الإنسان والحريات الشخصية والعامة، فمنها قوله بضرورة التخلّي عن ما يطلق عليه نظرية حقوق الإنسان في الإسلام إنطلاقاً من ضرورة التعايش مع الإنجازات الإنسانية في العالم عبر البحث عن حلول لبعض الإشكاليات البسيطة بصورة أو بأخرى، كما أنه يقول بأن الإمام علياً لا يمكن اعتباره قدوة في تطبيق القضايا الحقوقية، لأن تصرفاته كانت مرتبطة بظرفه التاريخي الذي قد لا يتطابق مع ظرفنا المعاصر، وإنما يمكن فقط أخذه معيناً للنظرية المعاصرة في الحقوق، ويميل شبستري إلى رفض الاتجاه الطبيعي الذي يعتقد بأن الحقوق والقوانين لا بد أن تتناغم مع متطلبات التكوين والطبيعة، وهي المقولة التي سادت عقلية المفكر الإسلامي في القرن العشرين برمّته، وأشاد عليها المفسر الطباطبائي والشيخ المطهري وغيرهما أفكاراً كثيرة حول المرأة وغيرها، ولهذا يدعو شبستري إلى عدم قراءة موضوع المرأة من زاوية الحقّ الطبيعي، وإنما من زاوية متطلّبات الحياة وأوضاعها ومستجداتها التي تسير دوماً في ظل سيرورة وحراك مستمرّ دؤوب.
ومن النماذج البارزة ضمن هذا الاتجاه أيضاً السيد محمّد جواد الأصفهاني، وهو رجل دينٍ مسن يقيم حالياً في إصفهان، وله كتاب يحمل عنوان: "حول ظن الفقيه" كتبه أصلاً بالعربية، ونقله إلى الفارسية، ويعتقد فيه بأن خبر الواحد ليس حجّة في علم أو عمل، وهي فكرة لا تكاد تفعّل إلا على حساب الإطاحة بالكثير من الأفكار الفقهية، وله كتاب آخر بعنوان "البحوث الإستدلالية" وفيه منهج فقهي متكامل لا يقوم ـــ إلى حد ما ـــ على أخبار الآحاد، وذلك بالطبع يتطلب تعديل البنى الأصولية القائمة والاستعاضة عنها ببنى أصولية جديدة ترتكز أساساً على اليقين والنتائج المؤكّدة.
ولسنا بقادرين على غضّ الطرف عن تجربة فلسفة الفقه التي نادى بها الدكتور مصطفى ملكيان وأستاذنا الشيخ مهدي المهريزي رئيس تحرير مجلة علوم الحديث في إيران، وفكرة الفلسفة المضافة فكرة نشأت في الحقيقة في المناخ الغربي، وأريد لها دراسة المعرفة بعينها، وقد حاول أنصار فلسفة الفقه نقلها إلى المناخ الفقهي، داعين إلى علمٍ يدرس الفقه من الخارج وليس من الداخل، ويعني ذلك أن الباحث يعتبر نفسه خارج إطار الاتجاهات الفقهية السائدة، ويدرس الفقه بوصفه ظاهرة موجودة في الحياة الاجتماعية والعلمية، كما يعني بدراسة علاقة الفقه ببقية العلوم الدينية كعلم أصول الفقه وعلم الكلام، والعلوم الطبيعية كعلم الطب وعلم الفلك، والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس.
ومن أبرز تجارب هذا النوع من التجديد تجربة الدكتور عبد الكريم سروش، الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للثورة الثقافية في إيران، فقد كتب في أواخر الثمانينات مجموعة مقالات في مجلة "العالم الثقافي"، ثم جمعها في كتاب أسماه "القبض والبسط النظري في الشريعة" وقد تمّت ترجمة الكتاب من قبل الدكتورة دلال عباس إلى العربية، وقد أثار هذا الكتاب ضجّة دامت أكثر من سبع سنوات متواصلة، فكتبت حوله مئات المقالات وعشرات المؤلّفات.
وتتلخّص نظرية الكتاب التي يطرحها سروش في أن كل العلوم البشرية مترابطة ومتداخلة فيما بينها تماماً كالسبحة في اليد، فعندما يحصل تغير أو تحرّك في أي من هذه العلوم، فإن ذلك يؤثر بصورة أو بأخرى على العلوم الأخرى، وأي علم يخضع لتطوير أو تغيير فمن الطبيعي أن يترك أثراً في بقية العلوم الأخرى. ومؤدى هذه النظرية أن تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يجب أن ينعكس على الفقه والعلوم الدينية المختلفة، ليس بما ينسجم مع هذه العلوم بل بما يستدعي الاستجابة لتلك التطورات، وبالتالي فإن قراءتنا للدين سوف تتغير حسب التطورات العلمية المختلفة، والسبب في ذلك أن الفهم الديني فهم بشري يخضع في قراءته للدين إلى تلك المعطيات العلمية والفلسفية التي كان العقل البشري قد اختارها في مرحلة سابقة، فكلما تحوّلت هذا المعطيات المسبقة كلّما تم فهم الدين فهما مختلفاً.
ويستشهد سروش بعدّة قضايا تاريخية يثبت من خلالها أن المعرفة الدينية نسبية بهذا المعنى، وأن كل إنسان يقرأ الدين وفق المناخ الثقافي الذي يعيشه، وهذا ما دفع بسروش فيما بعد إلى تكوين نظرية التعددية الدينية في المناخ الشيعي والتي أثارت زوبعة من النقد والدفاع.
وقد ردّ عليه كثيرون أبرزهم الشيخ صادق لاريجاني ــــ عضو مجلس صيانة الدستور حالياً ــــ فقد ألف كتاباً حمل عنوان "المعرفة الدينية" ترجمه إلى العربية الدكتور محمد شقير، يدّعي فيه أن هذه النظرية ليست بجديدة في الفكر الغربي.
ومن هذه التجارب، بل من أهمّها، تجربة الدكتور مصطفى ملكيان، لقد حاول ملكيان أن يدخل الدينَ من زاوية الإيمان لا الاعتقاد بفصله هذين المفهومين عن بعضهما البعض، لقد رأى أن المهم هو عين التجربة الإيمانية بما تعنيه من أحاسيس ومشاعر فيّاضة، وأنّ الاعتقاد يقف في الدرجة الثانية من الأهمية، واعتقد ملكيان بأن ثمّة ازدهار يتمتّع به الإيمان عندما يبدو في الأفق نوع من الفراغ المعرفي ويسود الشك واللايقين، وهو بذلك يُدخل نفسه فيما يسمّى النـزعة الإيمانية التي راجت في الغرب، وتكاد اليوم تسيطر على الفكر المسيحي المعاصر.
إلى غيرها من المشاريع الفكرية التي أسّست لعلم فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، والفلسفة السياسية، والنقد الحضاري، إضافة إلى التيار النقدي في الداخل الشيعي المذهبي، والذي سعى لنقد الأصول الفكرية الشيعيّة مثل أبي الفضل البرقعي، وشريعت سنغلجي، ومصطفى حسيني طباطبائي، ومحمد باقر البهبودي وغيرهم، دون أن ننسى شخصيات ــ من مستويات مختلفة ــ ذات دور نشط، من أمثال سيد حسين نصر، وعبد الله جوادي آملي، ومحسن كديور، وعلي أكبر رشاد، وحسن يوسفي الأشكوري، وما شا الله شمس الواعظين، وحسين علي منتظري، وصالحي نجف آبادي، وجميلة كديور، وجعفر سبحاني، ومحمد علي أيازي، وغلام رضا أعواني، وأبي القاسم فنائي، وعلي رباني كلبايكاني، ورسول جعفريان، وعلي رضا قائمي نيا، ومحسن الموسوي الجرجاني، وغلام حسين إبراهيمي ديناني، ويحيى يثربي، وعلي شيرواني، ومحمد باقر حجتي، ومحمد علي مهدوي راد، وعلي عابدي شاهروي، ومحمد رضا حكيمي صاحب المدرسة التفكيكية الخراسانية، وأبي القاسم كرجي، وناصر كاتوزيان، وشهرام بازوكي، وعبد الله نصري و..
التواصل بين الشعوب وضرورة نقل المشهد الثقافي:
تتنوّع الحياة في إيران، قبل الثورة الإسلامية فيها عام 1979م، وبعدها، لكن البعد الثقافي تبقى له خصوصيته، سيّما وقد لاحظ الجميع بعد صعود الرئيس محمد خاتمي إلى السلطة، أن الحياة الثقافية تركت آثاراً كبيرة على خارطة البلد عموماً.
وللدين دور رئيس في صنع الحياة الثقافية في إيران، ليس اليوم فحسب، بل وعلى امتداد تاريخ إيران، سيما عقب نشوء الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري، وقد تضاعف هذا الدور بعد أحداث الحركة الدستورية (المشروطة) بدايات القرن العشرين، وبلغ أوجه مع الثورة الإسلامية التي قادها الإمام روح الله الخميني (1989م)، بدءاً من الستينيات من القرن العشرين، بعد حركة الكاشاني ومصدّق في الخمسينيات منه.
من هنا، يأخذ رصد المشهد الفكري الديني في إيران حيّزه ومكانته من قراءة هذا البلد الإسلامي الكبير، سيما وهو يحدّ ــ تقريباً ــ شرق العالم العربي، إن قراءة المشهد الثقافي في إيران، سيمّا البعد الفلسفي والديني منه، بما للكلمة من معنى عام، حاجة لا يمكن الاستغناء عنها اليوم، لا على المستوى الإسلامي ولا على المستوى العربي، في عصر أخذت تتقارب فيه المتباعدات، فحريّ بمن يجمعهم الدين والجغرافيا والمصالح أن يتقاربوا، وهو ما لا يمكن أن يتمّ دون فهم كل طرفٍ لصاحبه، فهماً بعيداً عن الصراعات السياسية والطائفية والقومية و.. فهماً موضوعياً أميناً... فهماً لا يعرف إرادة التسلّط على الآخر، والهيمنة عليه.