حدث لي هذا في مطار بغداد الدوليتاريخ النشر: الإثنين 2 شباط (فبراير) 2009
بقلم أحمد مهدي الياسري
مثلما هناك صور مؤلمة وموجعة كتبنا عنها بالدليل الموثق فهناك ثمة خير كبير في ارض العراق وهناك صور استطيع ان اجزم ان وجودها هو الامل في اننا مقبلين على عراق يحق لنا ان نفخر به ونعتز به ومن المجحف لحق هؤلاء الاخيار ان لانتكلم عن مايقدموه من صورة تشي بان وطننا الحبيب لازال بخير وخير كثير والاشارة الى هذا الخير يجب ان يسجل في تاريخنا وان يسجل لمن يفعل الخير فعله كما نؤكد ان المسيء يجب ان ينال جزاءه، فبغير الثواب والعقاب كل باستحقاقه لن تسود الدول وتترسخ قيمها..
قدمنا الكثير من صور المآسي المؤلمة وهي صور موجودة في الشارع العراقي وسببها تقصير واهمال وفساد البعض ولكن لا يعني هذا ان العراق خالي من الصور الجميلة وعلينا وضع الصورتين للقارئ العزيز وامام المسؤولين لكي نصلح الخطا ونعزز الصحيح من خلال طرح الصورتين لكي يعتبر المخطأ ويتشجع الاخرون للحذو حذو المخلصين الشرفاء..
سأنقل لكم اليوم صورة حقيقية رأيتها وشهدتها بنفسي وشهدها معي اكثر من مئتين من المسافرين العراقيين والعراقيات، وأجد من الواجب طرحها أمام الجميع لكي تكون لأمثال هؤلاء الشرفاء المنزلة المستحقة، ولمن أساء العقوبة الواجبة والمستحقة أيضاً..
القصة تبدأ من حيث تأخرت طائرتنا المنطلقة من كوبنهاكن إلى بغداد مارة بالسليمانية حوالي اكثر من ست ساعات عن موعد انطلاقها، وكان الجميع منزعج وانا اقول لهم -وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وفي التاخر صالح قد يكون الله قد كتبه لنا او سوء جنبنا اياه..
بعد صبر وانتظار طويل وصلت طائرة خطوط اجنحة الشام وصعد الجميع اليها، بيننا عوائل واطفال ونساء ورجال. بلغ عدد الركاب اكثر من مئتي راكب -لا اتذكر العدد الحقيقي ولكني قدرته- وامتلأت جميع المقاعد بنا، وحلقت الطائرة في اجواء الله تشق الريح نحو وطن يحلم من فارقه طويلا بمعانقة تربه الطهور، ومن زاره بعد الغربة لا يسعه الا ان يكرر الزيارة مرة وعشرة ومليون، ولن يرتوي حتى يتوسد ثراه الطهور.
وبالطبع حينما يكون هناك تأخر في انطلاق الطائرة سيكون هناك وصول متأخر أيضاً. والوصول الى بغداد كان في الساعة التاسعة مساءا وهو وقت متاخر جدا، ووقتها بقي لاغلاق المطار حوالي نصف ساعة او اقل. وبالطبع جميع العراقيين القادمين لم يكن معهم العملة العراقية الدينار، ويعلم الجميع ان هناك رسوم دخول يجب دفعها في المطار واخرى للفيزة للجوازات الاجنبية.
وقفنا في طابور طويل بعد ملء الاستمارات المطلوبة وما يتطلب من اجراءات الدخول الرسمية، ننتظر الوصول كل بدوره لدفع الرسوم. وكنت في وسط الطابور تقريبا وحصل تاخير، وسمعنا في بداية الطابور ان هناك اخذ ورد وجدال فتركت الطابور وذهبت استطلع الامر، وكان الموظف الذي يستلم الرسوم يقول لمن امامه اخوان الكل يجهز الرسوم بالدينار العراقي أي بعملة العراق، والاخوة يقولون له لا يوجد لدينا سوى دولار او يورو او كرون والبنك في المطار اغلق ابوابه فمن اين ناتي لك بالدينار العراقي، وهذا يعني ان جميع الركاب سيقعون في ذات الموقف ولا يوجد احد منا لديه دينارعراقي ليصرف لمن لا يمتلكه..
كان الموقف مضافا للتاخير في كوبنهاكن مثيراً لسخط البعض وتذمره، والجميع قال ما الحل؟؟
انبريت للاخ المسؤول وقلت له اخي يجب ان تجد لنا حلا والجميع مستعد ان يعطيك بالدولار ما قيمة العراقي وانتم غدا صرفوه وادخلوه في سجلاتكم، وهنا برزت مشكلة اخرى وهي ان الجميع لديه فئة المئة دولار والقليل منا لديه فئات صغيرة، ومع ذلك قال الموظف: اخي ممنوع ولا توجد لدي صلاحية ذلك، وانا مامور ويجب تسديد الرسوم بالدينار العراقي؟؟
سالته ان يسأل المسؤول عنه ويخبره اننا في حيرة والوقت متاخر وهناك من ينتظرنا خارج المطار منذ الصباح، وانقطع اتصالنا بهم واكيد هم الان قلقين علينا وبيننا نساء عجائز وكبيرة في السن ومرضى واطفال، ويكفينا ماعانيناه من تاخير في كوبنهاكن..
ذهب الموظف الى مسؤوله وعاد الينا قال انتظروا قليلا، وانتظرنا حتى اقبل علينا شاب تعلو وجهه الطيبة العراقية والسماحة والابتسامة وتكلم معنا عن ماهية المشكلة، فاخبرناه بما نحن فيه وان هذه المجاميع من العراقيين عانت الكثير حتى وصلت المطار متاخرة ولا يوجد لدينا دينار عراقي لنسدد به رسوم الدخول ووو...
فقاطعنا وقال: ولا يهمكم، المشكلة بسيطة انتظروني دقائق وانشاء الله يحصل خير. وذهب بعيدا لا ادري الى اين وجهته، ولكنه دخل احدى الغرف. كنا نعتقد انه ذهب لمدير المطار ليسأله عن الامر ويعود لنا بالحل ..
العراقي النقيب حسام احمد العامري وهذا اسمه الثلاثي وهو المسؤول وقتها عن متابعة اجراءات القادمين الى مطار بغداد الدولي كان هو الشاب الذي تكلم معنا، وبعد برهة من الوقت قدم الينا وبيده رزمة من النقود العراقية وقال:
الكل يرجع الى دوره في الطابور.
ووقف هو بجانب الرجل الذي يستلم الرسوم، وكل عراقي وجوازه له رسوم معينة متفاوتة في كميتها اقلها رسوم الدخول حسب ما اتذكر3500 دينار او اكثر او اقل لا ادري لانني لم ادفعها بنفسي وشغلني عن معرفة الرسوم الاكثر ذلك الموقف النبيل لهذا العراقي الطاهر الاصيل المنبت والاخلاق والعراقية الرائعة..
كنت اتابع المشهد من بعيد وصورته، انقلها لكم كما هي ويشهد الله ومن كان على تلك الرحلة على ما اقول وكلما وصل عراقي او عائلة يطلب الموظف منه الرسم المطلوب دفعه فيدفع النقيب حسام المبلغ ويسلمه الوصل، ويقول له:
اهلا وسهلا بك توكل على الله ادخل لختم جوازك والدخول الى ارض وطنك.
واشاهد كلما اخرج احدهم مبلغ بالدولار ليعطيه للنقيب حسام ينهره النقيب بحب ومودة ويقول له: اذهب لكي لا ازعل عليك، وبالعامية يقول له مازحا ومبتسما: لا اخليك تبات بالمطار للصبح.. حتى وصل الدور لي كنت امام الخير كله وامام العراق الذي تربيت فيه والى طيبة اهلنة التي فارقناها طويلا وحقيقة انتهت كل هموم التاخير التي عانيتها ومعي المسافرين وهموم الغربة وجروحنا ونحن امام هذا العراقي النبيل، وكان علي ان ادفع رسما لم انتبه لمقداره ودفعه النقيب حسام العامري عني، وهنا كلمته وسالته كيف سنسدد له هذا الدين فقال انه لا ينتظر التسديد.. فبادرته وقلت له: اخي انت موظف واكيد تعمل براتب وعددنا كبير والرسوم كثيرة ومهما يكن لا نريد ان نحملك عبء ان تدفع عن الجميع، وكلنا مستعدين ان ندفع لك مقابل كامل المبلغ.. وقلت له: انا مستعد لدفع كل الرسوم الان بالدولار وبقيمة العراقي وانت صرف غدا بالعراقي واعد نقودك وتعبك..
فاجابني: هل تريد ان تخسرني شرف هذا الثواب ان ادفع عن اهلي واخواني، وقال لي مبتسما: تاخذ الوصل وتذهب لكابينة الختم للخروج، لو ما ادفعلك واخليك تبات للصبح في المطار.. ومعها مزاح جميل منه ووجهه تعلوه ابتسامة طيبة افتقدناها في مطارات العروبة ووجدناها في وطننا الغالي والاغلى من الروح ..
قلت له: طيب ان كنت لا تأخذ حقك وتصرف لنا كل واحد على حدة ولا تريد ان نعطيك كامل المبلغ اطالبك انا ان تعطيني اسمك وصفتك؟؟
ابتسم وقال لي: شنو تريد تشتكي علينا؟؟
اضحكني رده وقلت له: هذا لا يخصك ويخصني انا.. ولم اكن اريد توضيح هويتي له وقتها لانني ساكون خارج المطار ليلا والطريق طويل حتى مدينة النجف والخطورة كبيرة، ولا اعرف من هؤلاء الاخوة، مع حبي واحترامي لهم.
ونسمع ان طريق اللطيفية وخارج المطار الى بغداد والى النجف فيه من الخطورة والقتل والاختطاف الكثير، والبعثيين وازبال القاعدة تبحث عن رأسي.
قال: لا اعطيك اسمي.. وبعد الحاح مني، بقيت حتى اكمل كل الاخوة اجراءات الخروج وانا اشاهد كيف انه كلما انتهى المبلغ الذي بحوزته ذهب الى غرفته التي يقيم فيها كمسؤول في المطار ويجلب غيره ليسدد للجميع رسومهم دون ان ياخذ منهم حتى اقل من المدفوع قيمته بالدينار بالعملات الاخرى، وتذكرت مطارات العروبة كيف لا يتركوك تخرج حتى يمتصوا دمك ويتركوا السموم بدل منها.
وحمدت الله انني عراقي وان مطاراتنا فيها حسام وامثاله وانها بدات تفتح ابوابها، ونسأل الله ان يكون لنا في كل مدينة عراقية مطار دولي ورئيس له كحسام العامري رغم ان النقيب حسام ليس برئيس المطار.
بعد اكمال الدفع للجميع، وكل عراقي وعراقية يمرون به يقولون له هذه الجملة العراقية الجميلة: "رحم الله البطن التي حملتك يا اصيل"، وغيرها الكثير الكثير حتى ان اخت عراقية لها طفلة صغيرة وجوازها فنلندي على ما اتذكر واسم ابنتها على اسم زوجها واسمها هي غير ذلك وهو امر يجعل الموظف في المطار امام مشكلة، كيف تثبت هذه الام ان هذه الطفلة ابنتها؟ وكان من المفروض ان تجلب معها بيان الولادة او هوية والدها ولم تفعل وتحسب حسابها، والامر اوقعها في احراج كبير رغم قناعة الجميع انها ابنتها وتأخرت المسكينة حتى وصل الامر بها انها بكت، ولكن النقيب حسام قال لها: ساوقع واتكفلك وادخلك على مسؤوليتي الخاصة، ولا تبكي وادخلي، انت اختنا لا نسمح لانفسنا ان تبكي عراقية.. وادخلها على مسؤوليته.
حسام اصر ان لا يعطيني اسمه حتى اقول له السبب، ولكني فاجأته باسمه وكنت سالت احد الموظفين عنه، وقلت له: يا حسام من الشرف لنا ان ننقل للعالم وللعراقيين في المهجر وفي أي مكان صورتك وصورة العراق الجديد، وانت فخر لنا.
وطالبته برقم هاتفه فاستجاب لطلبي بعد الحاحي، وهو معي. اتمنى من وزير النقل والمسؤولين في مطار بغداد الدولي ورئاسة الوزراء ان تكرم هذا العراقي فهو والله شرف للعراق وعزة لنا جميعاً، ويشهد الله انني وكل الزائرين معي لم يكن منا احد يعرفه من قبل ولم يتوسط لنا عنده من هو صديق له، فحسام حركته الغيرة العراقية وكرم العراقي الاصيل.
ايها الاغلى علينا من ارواحنا، حسام الحبيب مني ومن كل عراقي وعراقية ومن كل ركاب تلك الطائرة الدعاء لك ولام واب انجباك بان يبقيك الله ذخرا وشرفا لهذا الوطن، وأقبل أرجل ام انجبتك، واقبل ايادي والد بذر فيك هذه التربية والاصالة، ونتمنى ان يكون كل مكان في العراق فيه حسام واخوته وامثاله، ونتمنى ان يكون المسؤولين في دوائر الدولة امثال حسام، وان يتم تكريم هذا البطل ورفع رتبته.
واعرف انه لم ولا ينتظر من فعله ذلك ما اقوله ولكنه استحقاق وواجب نتمنى من المسؤولين ايفاءه حقه ليكون عبرة لغيره، وتكريم الشرفاء هو اقل الواجب، ونؤكد ان في مقابل ذلك هناك مسيئين ومرتشين وفاسدين علينا ان نشخصهم ونضع اسماءهم ايضاً لينالوا جزائهم العادل.
دمت للعراق واهله حساماً افتخر والله ان تكون اخي، وسابقى اتكلم عنك ما حييت في كل محفل. وأعلم انك لم تنتظر على فعلك جزاءاً او شكراً، وكما قلت لي: انه الواجب وان أي عراقي لو كان مكانك لفعلها.. ولكنني اقولها لك ياحسام ان امثالك نوادر في هذا الزمن، وعلينا ان نحث الجميع ان يتخذوك قدوة فنعم القدوة انت. بت احسدك على تلك العزة التي انت فيها، ولكنه حسد المحبين وشعور بالنقص تجاه خلقك الرائع.
وختاما اود القول لك، لهذا طلبت اسمك لاضعه في سجل الكرم العراقي الاصيل ولاقول للأعراب هذا ما لدينا. اتحداكم ان يكون لديكم وفي مطاراتكم مثل النقيب العراقي الفراتي حسام احمد العامري.
واخيرا اطلب من كل عراقي في المهجر ان يتذكر هذا الاسم النقيب حسام احمد العامري وحينما يدخل مطار بغداد الدولي يسال عنه عند الدخول وليقبله قبلة على جبينه فوالله انه يستحق منا كل المحبة والاعتزاز وابلغوه سلامي وكل ركاب تلك الطائرة وكل العراق.