مما جاء في تلك الخطبة وعلى ضوء الحديث الصحيح عن إمامنا الصادق (ع) والذي يسأله فيه أحد أصحابه الثقاة وهو معاوية بن عمار حيث سأله قائلاً:
قلت لأبي عبد الله (ع) وهو الإمام جعفر الصادق (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من الناس؟ فقال (ع): تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم.
هذا الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) على صغره وإيجاز تلك الكلمات فقد بين (ع) أصول التعامل مع الآخرين لتبقى أواصر المودة والمحبة الصادقة بين أبناء المجتمع الذي تتعدد فيه الآراء والأفكار والمذاهب والمعتقدات فبين الإمام (ع) الأسس التي ينبغي أن ترتكز عليها المعاملة في ذلك المجتمع.
ومعاوية بن عمار راوي الحديث هو من العملاء الثقاة الذي جعل سؤاله شاملاً للمسلمين والمؤمنين وغيرهم من سائر الناس وكان جواب الإمام (ع) مطابقاً للسؤال من كافة الجهات ولعله لذلك كانت الإجابة مقتصرة على تلك الأمور الأربعة: الأمر الأول: تؤدون الأمانة إليهم.
فأداء الأمانة للناس جميعاً من أعظم محاسن الأخلاق، ومن أهم الأمور التي تؤسس للصداقة الصحيحة والمحبة الخالصة فإذا وضع إنسان عندنا أمانة سواء كان مسلماً أو كافراً وحافظنا على تلك الأمانة فإننا حتماً حينما نؤديها لها سنعظم في عينه، وسيكبر موقعنا في قلبه، وستزداد ثقته بنا ومحبته إلينا، وسنكون موضع ثقته مستقبلاً، أما حينما يخون المرء الأمانة ولا يؤديها إلى صاحبها فإنه يهدم بذلك كل بناء من الثقة والإلفة والمحبة، ويجعل من نفسه إنسان سوء تنفر منه النفوس والقلوب، ويخسر كل صديق يريد أن يتعامل معه، ويعطي الصورة المشوهة عن الدين الذي يتمسك به.
وقد قال الإمام الصادق (ع) في حديث آخر: إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر.
والأمر الثاني الذي ذكره الإمام (ع) في مقام التعامل مع الآخرين هو قوله (ع): تقيمون الشهادة لهم وعليهم.
ومعنى إقامة الشهادة لهم هو أداء الشهادة لتحصيل حقوقهم سواء كان ذلك عند الحاكم أو عند سائر الناس، فحينما تعلم بأن الحق لفلان في قضية من القضايا فلا تتهرب من الشهادة له بحقه كي لا يذهب حقه.
وكذلك حينما تعلم بأن فلاناً ظالم لخصمه فلا تتوقف من أن تشهد عليه ولو كان نم أقرب الناس إليك رعاية لحفظ حق المشهود له ولو كان ذلك لا يرضي المشهود عليه.
والأمر الثالث الذي ذكره الإمام (ع) في مقام التعامل مع الآخرين هو قوله (ع): "تعودون مرضاهم".
فزيارة المريض لها ما لها من الآثار الحسنة في قلب المريض وعند أهله وأرحامه، فتقرب الناس من بعضهم، وتزرع المحبة والإلفة فيما بينهم، وتعمق الصلة معهم، ولذلك ذكرها الإمام (ع) في مقام الاهتمام بها والحث عليها.
أما حينما تتجاهل زيارة المريض ولا سيما إذا كان من أصحابنا أو أرحامنا، أو جيراننا فإن ذلك مما يشعر المريض وأهله بعدم مواساتهم، وعدم الاكتراث بهم وهو ما يؤدي إلى الجفاء وعدم الصلة والتباعد وهذا ما يرفضه الإسلام، والأمر الرابع والأخير قوله (ع):
"تشهدون جنائزهم" وحضور الجنازة وتشييع الميت ومواساة أهله تخفف عنهم بعض الحزن، وتهوّن من وقع المصيبة وألم الفاجعة، وتطبع في القلوب.
صورة خاصة من الإلفة والمحبة والمودة لمن يواسي أهل الميت على النحو المتعارف في ذلك المجتمع، فتقرب الناس من بعضهم، وتعمق الصلة الحسنة فيما بينهم.
وهذا بخلاف الإنسان الذي لا يبالي ولا يهتم بمثل تلك الأمور فيعيش وحده معزولاً عن المجتمع لا يكترث ولا يبالي بما يصيب الآخرين من محن ومشاكل أو أمراض أو موت فإنه يطيع نفسه بطابع خاص، ويعطي عن نفسه صورة معينة فلا يهتم به الآخرون، ولا يبالون بأمره بل ولا يسألون عنه سواء كان حياً أو ميتاً، وذلك يضر بسلامة ذلك الشخص النفسية والاجتماعية، وحينما يكثر أفراد من المجتمع على مثل تلك الحالة فإنه حتماً سيؤدي إلى تباعد الناس عن بعضهم، وعدم تقاربهم وذلك ما حرص الإسلام على منعه، وحث إمامنا الصادق (ع) في هذا الحديث الشريف على التخلق بتلك الأمور الأربع حرصاً منه (ع) على سلامة المجتمع، وإحياء أسباب التعارف والتآلف لكي تجتمع النفوس، وتتقارب القلوب، وتتعامل الأجساد والأبدان بالإحسان والمعروف.