بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمد وآله الهداة المعصومين..
تمر بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد العالم الرباني الكبير السيّد محمد باقر الصدر رضوان اللّه عليه..
وقد شاءت إرادة اللّه وحكمته أن تكون الأيام شهدت دم الشهيد الصدر هي نفسها الأيام التي تشهد سقوط نظام الطاغية صدام الذي مارس بيده الملوثة جريمة قتل الإمام الصدر.
وإنه لدرس كبير يجب أن تستوعبه كل الأنظمة الظالمة، فمهما طال عمر الظلم والجور والاستبداد فإنَّ دماء الشهداء لن تهدأ حتى تسقط الأنظمة وتنتهي عذابات الشعوب..
حديثنا عن الشهيد الصدر يتناول مجموعة نقاط:
٭ ولادته ونشأته.
٭ شريكته في الجهاد الشهيدة بنت الهدى
٭ محطة الشهادة
٭ رؤيته حول الثقافة الروحية
ولادته ونشاته:
شهيدنا الصدر ولد في مدينة الكاظمية، وفي كنف جده الإمام موسى بن جعفر، وكانت ولادته في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 3531 هجرية المصادفة لسنة 4391 ميلادية..
نشأ السيّد الصدر يتيماً، فقد مات والده السيّد حيدر الصدر وهو في السنوات الأولى من عمره، وهكذا شابه جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حياة اليتم والفقر وضنك العيش..
احتضنت رعايته والدته العابدة التقية بنت آية اللّه الشيخ عبد الحسين آل ياسين وهم من أعاظم الفقهاء، وقد عرف عن والدة الشهيد الصدر أنها مثالاً عالياً للتقوى والورع، كانت شديدة الحب للّه تعالى ولرسوله ولأهل بيته (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، كانت لا تفارق القرآن تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكانت دائمة الذكر لله تعالى لا يفتر لسانها عن التسبيح والتحميد والإستغفار وقد تحملت الكثير الكثير من المعاناة حيث عاشت مع الشهيد الصدر أيام المحنة الصعبة وأيام الحصار الأخير، وكانت صابرة محتسبة..
في هذا الكنف الطاهر المبارك ترعرع ونشأ السيّد الصدر، ويجب أن لا ننسى دور أخيه الأكبر آية اللّه السيّد اسماعيل الصدر فقد أولاه الكثير من الرعاية والاهتمام مما خفف عنه آلام اليتم وقسوة الحياة..
خلّف الشهيد الصدر ولداً واحداً هو السيّد محمد جعفر الصدر يشتغل الآن بالدراسة الحوزوية في قم المقدسة، كما خلّف الشهيد الصدر خمس بنات طاهرات نقيات..
ولا أريد أن أسترسل في السيرة الذاتية للشهيد الصدر، وإن كانت هذه السيرة جديرة بأن نقف عندها كثيراً فهي غنية بالعطاء والدروس الكبيرة، ولكني أحاول أن أقف عند محطة الشهادة في حياة السيّد الصدر «رضوان اللّه عليه»، كما أحاول أن أعالج باختصار رؤية الشهيد الصدر حول «الثقافة الروحية».
شريكته في الجهاد:
وقبل ذلك لا يسعنا أبداً أن نغفل الحديث عن شريكة الشهيد الصدر في الجهاد أخته الشهيدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليه)، هذه المرأة العظيمة التي أعطت كلَّ وجودها للإسلام، كانت عالمة، مفكرة مثقفة، أديبة، وقد برهنت كتاباتها ونتاجاتها على هذا المستوى الكبير من العلم والفكر والثقافة والأدب، والذي وظفته في خدمة الإسلام، والدفاع عن مبادئ الدين وقيم القرآن..
وكانت رضوان اللّه عليها المربية الكبيرة التي استطاعت أن تنتج جيلاً مؤمناً واعياً من بنات الإسلام، فالجيل الطليعي من بنات العراق ومن نساء العراق، هذا الجيل الذي برهن على كفاءته الإيمانية، وعلى قدراته الرسالية، وعلى دوره الفاعل في العمل للإسلام والجهاد من أجل الدين، هذا الجيل النسوي الطليعي كان من صنع الشهيدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليها)..
ولم يقتصر جهاد السيّدة آمنة الصدر بنت الهدى على العمل الثقافي والتربوي والتبليغي بل أمتد ليشمل العمل السياسي فكانت شريكة أخيها السيّد الصدر في الإنطلاق بالإسلام ليواجه كلَّ تحديات العصر، وفي الإنطلاق بالإسلام ليواجه كل الواقع الثقافي والاجتماعي والسَّياسي، وفي الإنطلاق بالإسلام ليواجه نظام الظلم والقهر والاستبداد في العراق وكانت النتيجة أن سقط السيّد الصدر شهيداً في هذا الطريق وسقطت السيّدة آمنة الصدر شهيدة في هذا الطريق..
محطة الشهادة:
ولنا وقفة مع محطة الشهادة في حياة السيّد الصدر وفي حياة السيّدة بنت الهدى....
الشيخ محمد رضا النعماني - آخر من بقي مع الشهيد الصدر في الحصار الأخير - يحدثنا عن استشهاد الصدر رضوان اللّه عليه...
يقول الشيخ النعماني في كتابه (شهيد الأمة وشاهدها) - وما أذكره هنا من كلامه فيه شيء من التصرف والايجاز - في اليوم الخامس من شهر نيسان الأسود (أبريل) عام 0891 ميلادية وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء جلاوزة الأمن لاعتقال السيّد الصدر...
قالوا له: إنَّ المسؤولين يودون لقاءك في بغداد
قال لهم: إذا أمروكم باعتقالي فاذهب معكم
قالوا: نعم هو اعتقال...
قال السيّد الصدر: انتظروني دقائق حتى أودع أهلي
قالوا: لا حاجة لذلك ففي نفس هذا اليوم أو غدٍ سنعود
قال السيّد: وهل يضركم أن أودع أطفالي وأهلي
قالوا: لا، ولكن لا حاجة لذلك ومع ذلك فافعل ما تشاء ودّع الشهيد الصدر أهله وأطفاله...
وأخذه الجلاوزة إلى بغداد وهو مستبشر حيث تنتظره الشهادة، فطالما تمنى الشهادة، كان آخر خطاب له وجهه إلى أبناء الشعب:
(أنا أعلن لكم يا أبنائي أني صممت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي، وإنَّ أبواب الجنان قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب اللّه لكم النصر، وما ألذَّ الشهادة التي قال عنها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّها حسنة لا تضّر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسلُ كل ذنوبه مهما بلغت).
وفي اليوم الثاني جاء الجلاوزة الى دار الشهيد الصدر لاعتقال السيّدة بنت الهدى
قالوا لها: إنّ السيّد طلب حضورك الى بغداد...
قالت وهي الشامخة الصامدة: نعم سمعاً وطاعةً لأخي إن كان قد طلبني، ولا تظنوا أنيّ خائفة من الإعدام، واللّه اني سعيدة بذلك، إنّ هذا طريق آبائي وأجدادي...
ثم استأذنتهم ودخلت الى داخل الدار لتقول كلمتها الأخيرة الى الشيخ النعماني:
«أخي أبا علي لقد أدّى أخي ما عليه، وأنا ذاهبة لكي أؤدّي ما عليّ، ان عاقبتنا على خير أوصيك بأمي وأولاد أخي، لم يبقَ لهم أحد غيرك إن جزاءك على أمي فاطمة الزهراء والسلام عليك»(قال لها الشيخ النعماني: لا تذهبي معهم قالت: لا واللّهِ حتى أشارك أخي في كل شي حتى الشهادة.... أخذوها الى بغداد....
وفي مساء اليوم التاسع من نيسان (أبريل) عام 0891 ميلادية وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف.....
وفي ظلام الليل الدامس، تسللت مجموعة من قوات الأمن إلى دار الحجة السيّد محمد صادق الصدر - والد الشهيد الصدر الثاني - طرقوا الباب، خرج السيّد لهم، ماذا تريدون؟ «تفضل معنا إلى بناية المحافظة» خرج معهم بشيخوخته وآلامه، وما ان وصلوا به إلى مبنى المحافظة حتى فاجأه المجرم مدير أمن النجف قائلاً: هذه جنازة الصدر وأخته قد تم إعدامهما، والمطلوب منك أن تذهب معنا لدفنهما...
قال السيّد: لابدَّ لي من تغسيلهما...
قالوا له: قد تمَّ تغسيلهما وتكفينهما...
قال السيّد: لابدَّ من الصلاة عليهما...
قالوا له: نعم صلِّ عليهما...
وبعد ان انتهى من الصلاة قالوا له: هل تحب أن تراهما...
قال السيّد: نعم.. فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد الشهيد الصدر «رضوان اللّه عليه» مضرجاً بدمائه، وآثار التعذيب على كل مكان من وجهه وكذلك شاهد الشهيدة بنت الهدى «رضوان اللّه عليها» مضرّجة بدمائها، وآثار التعذيب واضحة على كل مكان من وجهها...
ثم قالوا له: لك أن تخبر عن إعدام السيّد الصدر، ولكن إياك أن تخبر عن إعدام بنت الهدى، إن جزاءك سيكون الإعدام...
كم كان هذا قاسياً على قلب هذا السيّد الجليل، وهو يشاهد هذه المأساة، وهو يشاهد الشهيد الصدر جسداً هامداً عبثت به أيدي الجريمة وغيّرت ملامحه جراحات والتعذيب، وصبغت لحيته الشريفة دماء الشهادة...
كم كان قاسياً على قلب هذا السيّد الجليل ان تقع عينه على الشهيدة بنت الهدى جسداً هامداً عبثت به ايدي الجريمة، وغيّرت ملامحها جراحات التعذيب وصبغتها دماء الشهادة...
والأشد قسوة على قلبه أنه لا يملك القدرة ان يتحدث عن إعدام الشهيدة بنت الهدى، ولذلك بقى خبر أستشهادها مخفياً...
وشاعت أخبار - في وقتها - تشكك في إعدام السيّدة بنت الهدى، إلاّ أنّ السيّد محمد صادق الصدر لما حانت منه الوفاة أخبر عن شهادة السيّدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليها)...
وهكذا أعطى الشهيد الصدر دمه في مواجهة نظام الظلم والقهر والاستبداد ومن أجل أن ينتصر شعب العراق المظلوم وهكذا أعطت الشهيدة بنت الهدى دمها في هذا الطريق...
كان ذلك في الاسبوع الثاني من نيسان «أبريل» عام 0891م، وفي الاسبوع الثاني من نيسان «ابريل» عام 3002 ميلادية سقط نظام الطاغية صدَّام في بغداد...
فهل يعتبر الطغاة المجرمون؟
وهل يعتبر سفاكو الدماء؟
وهل يعتبر العابثون بمقدرات الشعوب؟
وهل يعتبر طواغيت الأرض؟
وإذا كان دم الشهيد الصدر ودم الشهيدة بنت الهدى عنوان الجهاد والصمود والرفض طيلة حكم الطاغية صدام فسوف يبقى دم الشهيد الصّدر ودم الشهيدة بنت الهدى عنوان الجهاد والصمود والرفض في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ العراق، هذه المرحلة التي تحاول أمريكا أن ترسم كلّ معالمها، وكلّ مكوناتها الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسّياسية والأمنية والعسكرية..
سيبقى دم الشهيد الصدر ودم الشهيدة بنت الهدى يستنهض إرادته الأمة لتواجه مشروعات الهيمنة والمصادرة والإلغاء..
فإذا كان الشعب العراقي وفياً لهذا الدم الطاهر، فيجب أن تتوحد إراته من أجل إنهاء الاحتلال الأمريكي البريطاني الكافر، ويجب أن تتوحد إرادته من أجل صياغة حاضر العراق ومستقبل العراق بعيداً عن كلِّ الشعارات الزائفة التي تحاول أن تصادر هوية هذا البلد وأصالته وتاريخه...
وإذا كانت الأمة في كل مكان وفيةً لدم الشهيد الصدر ولدم الشهيدة بنت الهدى فيجب أن تؤكد ولاءها وانتماءها إلى خط الإيمان والأصالة لتواجه مشروعات العبث بثقافة الأمة، وبأخلاق الأمة، وبقيم الأمة، وبعبارة أكثر وضوحاً العبث بدين الأمة، وبإسلام الأمة...
فإذا كنا الأوفياء لشهيدنا الصدر، فمسؤوليتنا أن نبقي الشهيد حاضراً في ذاكرتنا، وان نبقي الصدر حاضراً في عواطفنا، وان نبقي الشهيد الصدر حاضراً في سلوكنا، وان نبقي الشهيد الصدر حاضراً في كلِّ واقعنا الثقافي والروحي والأخلاقي والاجتماعي والسّياسي...
نتابع الحديث حول الشهيد الصدر في الاسبوع القادم إن شاء اللّه تعالى...
وفي ختام حديثنا نتضرع إلى الباري عز وجل أن يحفظ اخوتنا في فلسطين واخوتنا في العراق من كيد الصهاينة والأمريكان... كما نسأله تعالى ان يعين شعبنا المسلم في العراق كي يتجاوز هذه المرحلة الصعبة بكلِّ تداعياتِها الخطيرة، واوضاعها القلقة، وتحدياتها القاسية، وأن يقرر هذا الشعب مصيره بنفسه في إختيار غط الحكم والسلطة بعيداً عن الوصاية الامريكية التي تحاول ان تصوغ الوضع في العراق وفق مصالح أمريكا وإسرائيل...
إنَّ وعي شعب العراق وبصيرته، ووحدته وتلاحمه هو السبيل للوقوف في وجه كل الاطماع والمؤامرات والمخططات...
وفي السياق نود أن نعبّر عن قلقنا الشديد تجاه ما يدور في مدينة النجف الأشرف مما يهدد شأن الحوزة العلمية وشأن المرجعية الدينية، إننا نشجب بقوة أيَّ مساس بهذا الشأن الحوزوي والمرجعي، كون ذلك يعني المس بمشاعر ملايين المسلمين، في شتى أنحاء العالم، ونخشى ان يترتب على ذلك توترات وإرباكات خطيرة تعقّد الاوضاع وتأزم حالات الاستقرار...
نسأل اللّه تعالى أن يحمي حوزاتِنا وأن يحمي مراجعنا من كيد العابثين والظالمين والكافرين، إنــّه تعالى هو القادر الذي لا تقهر إرادته، ولا تنهزم قوته...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين