العاقل وأهون الشرّين
ماجد الشمري

من الأشياء المحزنة بعد سقوط حاكم بغداد واطّلاع الناس على خفايا الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب والوطن ، هي أن تسمع نفراً من هؤلاء الناس يترحمون عليه لا حّباً به ولا تحنّناً عليه وإنما كرهاً لما شاهدوه أو لمسوه من بعض الذين خلفوه على كرسي الحكم .
نعم، كانت آمال الشعب كبيرة وعريضة وخاصة حين عوّلوا على مناضلين ومجاهدين كان بعض الناس يحلفون برؤوسهم –كما يقولون – لِما كانوا يتوقعونه منهم ، أو ما رسموه عنهم في مخيالهم طبعاً باعتبارهم أبطالاً ومجاهدين رساليين . ونقول رساليين لأنهم ورثوا قيما عظيمة ضحّى من أجلها رجال شهداء خلدهم التاريخ فعلا وتركوا أمانة الوفاء لقيمهم بأيدي مَنْ زعموا الوصاية على تلك القيم وذلك الميراث المعطّر بالدماء .
صحيح إن تفاحة مهترئة تفسد كل ما في الصندوق وإن أسوأ الفساد هو فساد الأصلح - كما يقولون – وأن الناس دائماً دون القيادة بمرتبة، وإنهم (أي الناس) في شغفٍ دائم لاستحضار المصاديق الناصعة في هذه القيادة لتجلية المثل الأعلى ، وصحيح أن المثل إذا ضعُف في قلوب الناس وخفَتَ بريقه في عيونهم يُحبطون ويتراجعون وينكصون ، ولكنهم لا ينبغي أن يكفروا أو ينقموا أو يخرجوا عن الصراط المستقيم.
هذا الأمر كنت أسمعه مع الأسف من بعض الناس الذين فقدوا المقياس وراحوا يترحّمون على المجرم الذي سامهم كل ألوان العذاب وجرّعهم كل أشكال القهر والذل والهوان ، ولكنهم نكصوا وراحوا يحنّون إلى أيامه السود البغيضة.
لم أكن استطيع الإمساك بعواطف البعض الفائرة ، إلاّ أنْ أقول: نعم ، إن صداماً كان سيئاً وسيئاً جدا فلا ينبغي الحنين إلى سيء أو الترحّم عليه، وإنما يجب الإصرار على لعنه والتبرؤ منه ، وإنْ اقتضى الأمر في الوقت نفسه أن يُلعن السيئون الذين جاءوا بعده والذين سيحاسبهم التأريخ يوما ويلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون.
إن في الدين معايير، وفي العدل مقاييس ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُعرف الحق بالرجال وإنما يُعرف الرجال بالحق – كما يقول أمير المؤمنين (ع)-
وهذا ينطبق تماماً مع المأثور من مقاييس الإسلام التي تقول:
((من دخل هذا الدين بالرجال أخرجه الرجال منه كما أدخلوه فيه ، ومن دخل هذا الدين بالكتاب وألسنّة تزول الجبال ولا يزول))
وانأ أضيف : مَنْ عَرَف الله لا يزلّ ولا يتزلزل ولا يزول، فالمسافة شاسعة بين الدين والرجال. كما هي شاسعة بين دين الأنبياء ودين الفقهاء أو بعض الفقهاء.
تذكّرتُ في هذا الارتجاج القيمي ما أشار إليه أحد الشعراء عن دولة بني العباس حين قال يوماً:
يا ليت ظلُم بني مروان دام لنا وعدل بني العباس في النار
ولكنّي وفي خضمّ هذا الاهتزاز القيمي تذكرتُ قولةً بليغةُ لأحد الحكماء يقول فيها: ليس العاقل هو الذي يختار بين الخير والشر وإنما هو الذي يختار أهون الشرّين أو خير الشرين .وذلك لأن الخيط الفاصل بين الخير والشر أو بين القبح والجمال واضح جداً وجليٌ جداً ولا يحتاج إلى كثير من الجهد والعناء، إلا أن الصعوبة الحقيقية تأتي حين يجد العاقل نفسه بين شرّين لا يدري أيهما يختار، إذ أن هذه الصعوبة تكمن في كيفية تشخيص العاقل لدرجة الشر بين هذين الشرّين ، وهذا هو ما يضطر إليه الناس ، عموم الناس ، ولا سيما العقلاء منهم حين يتحدثون عما يسمونه أحلى المرارتين فينتهون إلى نهاية محزنة طبعاً وهو قولهم : لا يختار الإنسان الشر إلا أذا وجد أشرّ منه ، وهذه معضلةٌ فعلا تؤرّق الأحرار وتُحزن النجباء والأخيار في كل زمان ومكان .
المؤلم فعلا والمحزن هنا هو أن يُضيّع المقياس بين الناس فيُستدرج بعضهم إلى مهاوي الشر والمصلحة ، ويُستحمر آخرون فينداحون إلى عالم الناب والمخلب ، وقد يوظَفون أو يُجندون لما هو أسوأ من الشر وأخطر من الرذيلة.
إذ كيف نصدق مثلاً انجرار بعض الناس بسبب هذا الاهتزاز إلى قتل بعضهم بعضا بالطريقة التي شاهدناها في العراق على امتداد خمس سنوات، حيث لم يتورع هؤلاء البعض عن تفجير سيارة مفخخة في حشد جماهيري

يقتل ويجرح المئات ممن لا علاقة لهم في السياسة ، ولا ناقة لهم ولا بعير في عالم المصالح والمنافع؟ أو قل كيف يسقط آخرون في الحضيض حيث يجندون لوضع عبوة لاصقة في سيارة عابرة تقلّ مسافرين، ولا يتورعون عن قتل جميع ركابها بدم بارد وهم يقهقهون ويتفكهون ؟ بل كيف يجرؤ آخرون على استهداف عمال في مساطر رزقهم ، أو طلبة وطالبات في جامعاتهم ، أو ركاب عابرين في كراج سياراتهم ، أو زوار مسالمين في دور عبادتهم ، وذريعة الفاعلين أن الحكومة سيئة ولا بد من إسقاطها عبر هذا القتل الأعمى والإبادة الهابطة؟!
وإذا كانت ثمة تصفيات أو ثارات بين السياسيين ورجال السلطة فكيف بمن لا علاقة لهم بالحكومة ولا بالحكام إلا بطاقة تصويت وضعوها في صندوق بائس وتوهموا أن المنتخبين الجدد أهون شراً من القدامى الأشقياء غير المنتخبين !!
هكذا اختلت الموازين وارتجت القيم ولم يعد بعض الناس يفرقون بين سيءّ لم ير العالم أسوأ منه وكان تسلط على الرقاب بالسيف وسياسة القمع والإرهاب ، وبين نفر من سيئين جاءت بهم انتخابات وان كانوا أساءوا لمن انتخبهم ولم ينصفوهم في ما حصلوا عليه من أموال وامتيازات، وقصور وعروش.
الفاصلة رفيعة جداً بين السيئ والأسوأ ، والعاقل يميزها، فالمتسلط المستبد لا يمكن إزاحته إلا بالدم واطلاقات الرصاص ، فيما المنتخب يمكن إزالته ببطاقات التصويت وصناديق الاقتراع.
ترى هل الأفضل لنا أخيراً أن نرسخ النظرية الغربية القائلة ( بطاقات التصويت أفضل من إطلاقات الرصاص ) أم نصرّ على رفض التمييز بين السيئ والأسوأ فيقودنا هذا الضلال إلى عودة الأسوأ ، وبالتالي نعود إلى اطلاقات الرصاص ونقْع السيف والدم ونخسر تجربة التصويت فيحلّ علينا ما حلّ بأقوام عاد وثمود؟!!
سؤال بحاجة إلى جواب

.