[align=center]منهجية الرسل في الدعوة إلى الله
خط الرسالات
[/align]
في القرآن الكريم تتضح لنا معالم الخطوط العامة لدعوة نبيّ الله عيسى(ع) عندما بعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، حيث يقول تعالى: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} إنَّه(ع) قدّم لهم البيّنات التي تثبت لهم أنَّه رسولٌ من الله تعالى {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبريء الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} . جاءهم بالبيّنات التي توضح لهم أنّه ليس مجرد شخص عادي يحمل رسالة، ولكنه رسولٌ من الله يؤدي إليهم وحيه.. ولذلك أعلن لهم بأنّه قد جاءهم بالحكمة وبالرسالة التي تجعل منهم حكماء يتحرّكون بحساب ويقفون بحساب، ويتصرفون في حياتهم على أساس دراسة الأمور بحسب توازنات المصلحة والمفسدة، ليتعرّفوا الحسن فيعملوه والقبيح فيتركوه. وهذه هي طبيعة الحكمة التي جاء بها أنبياء الله ليعلّموها للإنسان كي لا يُخطئ أو ليقلّ خطأه، وليعمل الشيء على طبق طبيعة الأمور السليمة والمصلحة النافعة، فيضع الأشياء في مواضعها ويحسب للأمور حساباتها بدقة.
فالخط الأول الذي جاء به عيسى(ع) هو خط الحكمة، وأمّا الخطًّ الثاني {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} وهذا خطًّ جميع الرسالات، حيث يوضح الرسول للناس حقائق الأمور، لأنَّ الناس قد لا يعرفون الحقيقة، أو قد يختلفون في فهم هذه الحقيقة، وفي فهم القضايا الأساسية التي تختلف حولها الآراء. ولذلك فإنَّ دور الأنبياء الذين يتحدّثون عن الله في كلّ ما يفيضون فيه وما يريدونه للناس أن يتحرّكوا فيه، أنّهم يبينّون لهم الحقيقة من النبع الصافي الذي هو وحي الله، حيث سبحانه خلق الأشياء كلّها ويعرف من خلق وما خلق، ويعرف كيف تُدار وتتحرّك الأمور لأنّها من صُنعه {فاتقوا الله} راقبوه في حساباتكم وسرّكم وعلانيتكم، واحسبوا حسابه في كل ما تريدون أن تأخذونه وما تريدون أن تتركوه، ولا تحسبوا حسابات الناس وما هو رأيهم في الأمور والقضايا، ولكن احسبوا حسابات الله، وما هي إرادته في هذا الأمور والقضايا، ولكن احسبوا حسابات الله، وما هي إرادته في هذا الأمر وذاك الأمر {فاتقوا الله وأطيعون} لأنَّ طاعة الرسول هي طاعة الله، والرسول عندما يتحدث فإنَّه يتحدّث بكلمة الله، وعندما يتحرّك فإنَّما يتحرك بأمر ووحي الله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله {إن الله هو ربي وربكم} لست إلهاً لتعبدوني من دون الله، وإذا كنتم ترون أني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيراً بإذن الله وأني أبريءُ الأكمَه والأبرص وأُحيي الموتى، بإذن الله، فإني اعمل ذلك لا من جهة قدرتي الشخصيّة، ولكن من خلال إرادة وإذن الله، فلو أن الله سبحانه لم يمكنّي من ذلك، وهو القادر على كل شيء لما استطعت من ذلك شيئاً، فالله هو ربّي وربّكم {فاعبدوه هذا صراط مستقيم} فالطريق المستقيم هو الإيمان بالله والاعتراف بربوبيته في كُلِّ ما يريده من أمرٍ ونهي.
التنكّر للحق رغم وجود البيّنات
ورغم وجود البيّنات التي يضعها الأنبياء(ع) بين أيدي النّاس فإنَّهم يختلفون في موالاة الحق {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلمُوا من عذاب يوم أليم}فهناك من آمن وهناك من كفر، والذين كفروا ظلموا أنفسهم بهذا الكفر، فظلموا الحقيقة، وسينالون على ظلمهم عذاباَ عظيماً يوم القيامة.
ثم يتوجّه القرآن بالحديث عن هؤلاء الذين يظلمون أنفسهم فيكفرون، أو يظلمون أنفسهم فيفسقون، أو الذين يظلمون النّاسَ فيعتدون عليهم، أو الذين يظلمون ربَّهم فيُشركون به ويعصونه، هؤلاء ألا يفكرون أنَّ حياتهم الدنيا ليست خالدة في وجودهم؟ ألا ينظرون إلى مَن سبقهم من الناس كيف عاشوا وماتوا، وإلى الطغاة والظالمين، كيف أماتهم الموت فجأة؟ ألا ينتظر هؤلاء أن يأتيهم الموت بغتة ليواجهوا الحساب أمام الله يوم القيامة{هل ينظرون إلاَّ السَّاعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} وتأتيهم الساعة، والساعة يوم القيامة، والقيامة هي يوم الفصل {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} ويوم الفصل هو يوم التغابن {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} حيث يشعر الإنسان بالغبن لأنَّه ضيّع حياته فيما لا يرضي الله، ويلتقي هناك الذين كانوا يتصادقون على لهو وعبث وشرابِ حرام وشهوة محرّمة، وعلى موقفٍ وموقعٍ حرام، فهؤلاء الذين كانت صداقاتهم قائمة على الفجور، وكانوا ينفتحون على بعضهم بالمحبة والصداقة، هؤلاء إذا وقفوا يوم القيامة، فإنِّ الصداقة تتحول إلى عداوة، حيث يحمّل بعضهم بعضاً المسؤولية فيما وصلوا إليه وفيما واجهوه، ويُلقي بعضهم على بعض اللوم، ولولاكم لكنّا مؤمنين، ويتلاقون في النار فيتحاجّون ويتحدث المستضعفون مع المستكبرين الذي أضلّوهم بسبب استضعافهم و{كًلما دخلت أمة لعنت أُختها}وينطلق الجيل المتأخر ليحمّل الجيل المتقدّم المسؤولية في ذلك كلَّه، فتتقطّع الأنساب وتتقّطع العلاقات.. ووحدها تبقى الصداقات التي انطلقت في الدنيا على أساس حبّ الله ورسالته والدعوة إليه والجهاد في سبيله، وحدها تبقى إلى يوم القيامة، الصداقات القائمة على الحبّ في الله والبغض في الله، فالصداقة التي تستمد حركتها في الله سوف تبقى عندما يُعرض الناس على الله يوم القيامة {الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين} فكلُّ علاقة ترتكز على رضى الله فهي علاقة تمتدّ للآخرة، وكلُّ علاقة تستند إلى الشيطان، فإنَّها تتقطّع يوم القيامة.
الأمن الكبير
وينادي الله عبادة الذين آمنوا به وعملوا صالحاً واستقاموا على طريق الله وتوحيده، واستقاموا على كلمة الله {يا عباد لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} إذا كنتم فقدتم العون في الدنيا، وتنكر لكم أهلكم وأصدقاؤكم ورفضوا قناعاتكم، فإني أنا ربُّكم ووليّكم ومن كان الله وليَّه في يوم القيامة فإنّه يدبّر أمره، ولذا، فمن أيَّ شيءِ يخاف وعلى أيّ شيءٍ يحزن؟.. فالإنسان المؤمن يحظى بالأمن الكبير عندما يكون مع الله، وعندما يكون الله معه، فهناك الفرح الكبير الذي لا حزن معه ، والأمن العظيم الذي لا خوف معه.
{عباد لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} من هم عباده؟ {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} آمنوا بما أنزل الله على رسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم، وسلَّموا أمرهم إلى الله في كلّ ما أمرهم فلم يعترضوا {أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} أدخلوا الجنّة أيها المؤمنون من الرجال والنساء فلتدخل المرأة مع من ارتضته زوجاً لها وليدخل الرجل مع زوجته، حيث تجدون الفرح الكبير وتتلقون السرور {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذًّ الأعين وأنتم فيها خالدون} هناك السعادة كًلُّ السعادة حيث لا تعب ولا مرض، بل الراحة والخلود في النعيم {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} فأورثكم الله تعالى الجنة بعملكم، ولا تُعطى الجنة مجاناً، بل للجنّة ثمنها وجهدها وتعبها، وعلى الإنسان الذي يطمح للوصول إلى الجنة أن يكابد في خط الاستقامة ويعيش الحركة في طاعة الله {لكًم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون} وهذه هي النتيجة التي يحصل عليها المؤمنون بإيمانهم، والعاملون بعملهم الصالح.
يطلبون الموت تخففاً من العذاب
وكما أنَّ المؤمنين في نعيم الجنة خالدون، فالمجرمون في جهنم خالدون {إنَّ المجرمين في عذاب جهنم خالدون، لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} فالعذاب لا ينفصل عنهم، فهم في عذاب دائم، لذلك هم متعبون متألمون {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} فظلموا أنفسهم عندما اختاروا الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، واختاروا الانحراف على الطاعة.
وهم في شدّة العذاب ينادون {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} لقد عشنا الألم كأقصى ما يكون الألم، ولا قدرة لنا على البقاء في هذا العذاب، فليقض علينا ربًّك بالموت حتى نتخفّف من عذاب وآلام جهنم {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}ويأتيهم الجواب، هذا مقامكم الذي لا خروج لكم منه {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} وما تنالونه من عذاب، فلأنّكم رفضتم الحق الذي جاءكم به الرسل من عند الله، وهذا الحقّ تمثّل في العقيدة والشريعة، وفي حركة الحياة، وفي علاقات النّاس، ولكنكم كرهتم هذا الحق وتصدّيتم له {أم أبرموا أمراً فإنّا مبرمون} وفي مواجهتكم للحقّ وضعتم الخطط، وأبرمتم أموراً من خلال ما كنتم تتحرّكون في الدنيا لتفتنوا النّاس ولتصدّوا عن سبيل الله، ولكنّ الله تعالى كان لكم بالمرصاد، فإنَّه سبحانه عندما يُبرم الأمور يُبرمها بأقوى مما يبرمها النّاسي ويخطّط بأقوى مما يخطّطون {أم يحسبون إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} إن كانوا يظنون أنَّ الله تعالى لا يكتشف خططهم ومؤامراتهم وانحرافاتهم فإنّهم واهمون، لأنَّ الله سبحانه، يعرف خططهم السريّة ويسمع سرّهم عندما يستنبطون السرّ الذي يتحرّك في خط الخطيئة والظلم والانحراف، ويعلم نجواهم عندما يتناجون ويحدّثون بعضهم بالشرّ، فالله تعالى يعلم كلَّ ذلك، وملائكته المرسلون يكتبون عليهم كلَّ ما يتحرّكون فيه {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
وينكر عليهم القرآن الكريم اعتقادهم الخاطئ عن الله سبحانه {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} فأنا أكفر بقولكم بأنَّ لله ولداً، وأنا أول العابدين لله اعبده ولا أشرك به شيئاً فهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {سبحان ربِّ السموات والأرض رب العرش عمّا يصفون} فتنزه عما يصفون له من أولاد أو من شركاء، فهو تعالى الذي يتنزّه عن ذلك ويملك العظمة التي تعلو فوق ذلك.
دعهم فسيندمون
ويتوجه الخطاب إلى رسول الله(ص) {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} قل ـ يا محمد ـ كلمتك وأبلغ رسالتك وأعمل بكلِّ ما لديك من جهدٍ في سبيل أن ينفتح لهم الطريق على الحق، وإذا لم يسيروا معك، أتركهم يخوضوا في أحاديثهم الباطلة ويلعبوا ويُلههُم الأمل حتى يصلوا إلى يوم القيامة وليس لهم رصيدٌ من عمل و أساس من نجاة {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم}إذا عشتم في الأرض فاعرفوا أنَّ الله معكم يُهيمن عليكم ويرحمكم ويرصدكم ويحاسبكم، وإذا عشتم في السماء فاعرفوا أنَّ الله معكم أيضاً، لأنّه سبحانه لا يخلو منه مكان فهو فوق المكان، ولا يخلو منه زمانّ فهو فوق الزمان {وهو الحكيم العليم} الذي خلق الأشياء ودبّرها بحكمته، فليس هناك شيء إلاَّ ولله فيه سرٌّ وقانون، وهو العليم الذي يعلم كلّ شيء في الظاهر والباطن {وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون}