صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 35
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    محمد باقر الصدر: المدرسة الإسلامية

    المدرسة الاسلامية

    تأليف: الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

    كلمة المؤلف

    الإنسان المعَاصِر وَقُدرته عَلّى حَل المشكلة الاجتماعيّة

    الإنسانية ومعالجتها للمشكلة

    رأي الماركسية

    رأي المفكرين غير الماركسيين

    الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية

    الدّيمقراطيّة الرأسماليّة

    الاتجاه المادي في الرأسمالية

    موضع الاخلاق من الرأسمالية

    مآسي النظام الرأسمالي

    الإشتراكيّة والشيُوعيّة

    الانحراف عن العملية الشيوعية

    المؤاخذات على الشيوعية

    الإسلام والمشكلة الاجتماعية

    كيف تعالج المشكلة

    رسالة الدين

    مَوقفُ الإسِلام مِنَ الحُرية وَالضّمان

    الحرية في الحضارة الرأسمالية

    الحرية في المجال الشخصي

    الحرية في المجال الاجتماعي

    الضمان في الإسلام والماركسية
    ........................

    ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي

    هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد

    مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي

    المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد

    علم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق

    المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية

    الإقتصاد الإسلامي كما نوعظ به

    اخلاقية الاقتصاد الإسلامي

    ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره؟
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192
    كلمة المؤلف

    بسم الله الرحمن الرحيم



    قبل ثلاث سنوات قمنا بمحاولة متواضعة: لدراسة أعمق الأسس التي تقوم عليها الماركسية والإسلام، وكان كتاب فلسفتنا تعبيراً عن هذه المحاولة، ونقطة انطلاق لتفكير متسلسل يحاول أن يدرس الإسلام من القاعدة الى القمة.

    وهكذا صدر «فلسفتنا»، وتلاه بعد سنتين تقريباً «اقتصادنا»، ولا يزال الشقيقان الفكريان بانتظار أشقاء آخرين، لتكتمل المجموعة الفكرية التي نأمل تقديمها الى المسلمين.

    وقد لاحظنا منذ البدء ـ بالرغم من الإقبال المنقطع النظير الذي قوبلت به هذه المجموعة، حتى نفد كتاب فلسفتنا خلال عدة أسابيع تقريباً ـ أقول لاحظنا مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي في مستواه العالي، وواقع الفكر الذي نعيشه في بلادنا بوجه عام، حتى صعب على كثير مواكبة ذلك المستوى العالي إلاّ بشيء كثير من الجهد. فكان لا بد من حلقات

    {6}

    متوسطة يتدرج خلالها القارئ الى المستوى الأعلى، ويستعين بها على تفهم ذلك المستوى. وهنا نشأت فكرة: «المدرسة الإسلامية» أي محاولة إعطاء الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي، ضمن حلقات متسلسلة تسير في اتجاه موازي للسلسلة الرئيسية: «فلسفتنا، واقتصادنا»، وتشترك معها في حمل الرسالة الفكرية للإسلام وتتفق وإياها في الطريقة والأهداف الرئيسية، وإن اختلفت في الدرجة والمستوى.

    وحددنا خلال التفكير في إصدار «المدرسة الإسلامية» خصائص الفكر المدرسي، التي يتكون منها الطابع العام والمزاج الفكري للمدرسة الإسلامية التي نحاول إصدارها.

    وتتلخص هذه الخصائص فيما يلي:

    1 ـ ان الغرض المباشر من «المدرسة الإسلامية» الاقناع أكثر من الإبداع، ولهذا فهي قد تستمد موادها الفكرية من «فلسفتنا» و«اقتصادنا» وأشقائهما الفكريين، وتعرضها في مستواها المدرسي الخاص، ولا تلتزم في أفكارها أن تكون معروضة لأول مرة.

    2 ـ لا تتقيد «المدرسة الإسلامية» بالصيغة البرهانية للفكرة دائماً، فالطابع البرهاني فيها أقل بروزاً منه في أفكار «فلسفتنا» وأشقائها، وفقاً لدرجة السهولة والتبسيط المتوخاة في الحلقات المدرسية.

    {7}

    3 ـ تعالج «المدرسة الإسلامية» نطاقاً فكرياً أوسع من المجال الفكري الذي تباشره «فلسفتنا» وأشقاؤها، لأنها لا تقتصر على الجوانب الرئيسية في الهيكل الإسلامي العام، وإنما تتناول أيضاً النواحي الجانبية من التفكير الإسلامي، وتعالج شتى الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية أو القرآنية التي تؤثر في تنمية الوعي الإسلامي وبناء وتكميل الشخصية الإسلامية، من الناحية الفكرية والروحية.

    وقد قدر الله تعالى أن تلتقي فكرة «المدرسة الإسلامية» بفكرة أخرى عن تمهيد فلسفتنا، فتمتزج الفكرتان وتخرجان الى النور في هذا الكتاب.

    وكانت الفكرة الأخرى من وحي الإلحاح المتزايد من قرائنا الأعزاء على إعادة طبع كتاب فلسفتنا، وكنت استميحهم فرصة لإنجاز الحلقة الثالثة: «اقتصادنا»، والقيام بمحاولة توسعة وتبسيط البحوث التي عالجناها في «فلسفتنا» قبل أن نستأنف طبعه للمرة الثانية، الأمر الذي يتطلب فراغاً لا أملكه الآن.

    وعلى هذا الأساس أخذت رغبة القراء الأعزاء تتجه نحو تمهيد كتاب «فلسفتنا»، بالذات، لأن إعادة طبعه لا تكلف الجهد الذي يتطلبه استئناف طبع الكتاب كله. وكانت الطلبات التي ترد لا تدع مجالاً للشك في ضرورة استجابة الطلب.

    {8}

    وهنا التقت الفكرتان، فلماذا لا يكون تمهيد كتاب فلسفتنا هو الحلقة الأولى من سلسلة المدرسة الإسلامية؟.

    وهكذا كان.

    ولكنا لم نكتف بطبع التمهيد فحسب، بل ادخلنا عليه بعض التعديلات الضرورية، وأعطينا بعض مفاهيمه شرحاً أوسع، كمفهومه عن غريزة حب الذات، وأضفنا اليه فصلين مهمين: أحدهما: «الإنسان المعاصر وقدرته على حل المشكلة الاجتماعية»، وهو الفصل الاول في الكتاب، يتناول مدى امكانات الإنسانية لوضع النظام الاجتماعي الكفيل بسعادتها وكمالها. والآخر: موقف الإسلام من الحرية والضمان، وهو الفصل الأخير من الكتاب قمنا فيه بدراسة مقارنة لموقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، وموقف الإسلام والماركسية من الضمان.

    وبهذا تضاعف التمهيد واكتسب إسمه الجديد، «الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية»، بوصفه «الحلقة الأولى» من «المدرسة الإسلامية» والله ولي التوفيق.

    محمد باقر الصدر
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192
    الإنسان المعَاصِر وَقُدرته عَلّى حَل المشكلة الاجتماعيّة

    {11}

    بسِم اللهِ الرحمَن الرحّيم

    مشكلة الإنسانية اليوم:

    إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمس واقعها بالصميم، هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي:

    ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟.

    ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها. لأن النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية، ومؤثر في كيانها الاجتماعي بالصميم.

    وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشرية، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعة الحياة

    {12}

    الاجتماعية، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثل في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة. فان هذه العلاقات في حاجة ـ بطبيعة الحال ـ الى توجيه وتنظيم شامل، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه، يتوقف استقرار المجتمع وسعادته.

    وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية.. الى خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، وبشتى مذاهب العقل البشري، التي ترمي الى إقامة الصرح الإجتماعي وهندسته، ورسم خططه ووضع ركائزه. وكان جهاداً مرهقاً يضج بالمآسي والمظالم، ويزخر بالضحكات والدموع، وتقترن فيه السعادة بالشقاء. كل ذلك لما كان يتمثل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف، عن الوضع الاجتماعي الصحيح. ولولا ومضات شعت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.

    ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي، لأننا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرخ للإنسانية المعذبة، وأجوائها التي تقلبت فيها منذ الآماد

    {13}

    البعيدة، وإنما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر وفي أشواطها التي انتهت اليها، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي اليها الشوط، والساحل الطبيعي الذي لا بد للسفينة أن تشق طريقها اليه وترسو عنده، لتصل الى السلام والخير وتؤوب الى حياة مستقرة، يعمرها العدل والسعادة.. بعد جهد وعناء طويلين وبعد تطواف عريض في شتى النواحي ومختلف الاتجاهات.

    والواقع إن إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشد من إحساسه بها في أي وقت مضى من أدوار التاريخ القديم. فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسساً بتعقيداتها، لأن الإنسان الحديث أصبح يعي أن المشلكة من صنعه. وأن النظام الاجتماعي لا يفرض عليه من أعلى بالشكل الذي تفرض عليه القوانين الطبيعية، التي تتحكم في علاقات الإنسان بالطبيعة. على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين الى النظام الاجتماعي وكأنه قانون طبيعي، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع أن يطور من قانون جاذبية الأرض، كذلك لا يستطيع أن يغير العلاقات الاجتماعية القائمة. ومن الطبيعي أن الإنسان حين بدأ يؤمن بأن هذه العلاقات مظهر من مظاهر السلوك، التي يختارها الإنسان نفسه، ولا يفقد إرادته في

    {14}

    مجالها.. أصبحت المشكلة الاجتماعية تعكس فيه ـ في الإنسان الذي يعيشها فكرياً ـ مرارة ثورية بدلاً من مرارة الإستسلام.

    والإنسان الحديث من ناحية أخرى أخذ يعاصر تطوراً هائلاً في سيطرة الإنسانية على الطبيعة لم يسبق له نظير. وهذه السيطرة المتنامية بشكل مرعب وبقفزات العمالقة، تزيد في المشكلة الاجتماعية تعقيداً وتضاعف من أخطارها، لانها تفتح بين يدي الإنسان مجالات جديدة وهائلة للاستغلال، وتضاعف من أهمية النظام الاجتماعي، الذي يتوقف عليه تحديد نصيب كل فرد من تلك المكاسب الهائلة، التي تقدمها الطبيعة اليوم بسخاء للإنسان.

    وهو بعد هذا يملك من تجارب سلفه ـ على مر الزمن ـ خبرة أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً من الخبرات الاجتماعية، التي كان الإنسان القديم يمتلكها ويدرس المشكلة الاجتماعية في ضوئها. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الخبرة الجديدة أثرها الكبير في تعقيد المشكلة، وتنوع الآراء في حلها والجواب عليها.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    الإنسانية ومعالجتها للمشكلة:

    نريد الآن ـ وقد عرفنا المشكلة، أو السؤال الأساسي الذي واجهته الإنسانية منذ مارست وجودها الاجتماعي الواعي، وتفننت في المحاولات التي قدمتها للجواب عليه عبر تاريخها المديد ـ نريد وقد عرفنا ذلك.. أن نلقي نظرة عى ما تملكه الإنسانية اليوم، وفي كل زمان، من الامكانات والشروط الضرورية لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسي السالف الذكر: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية.

    فهل في مقدور الإنسانية أن تقدم هذا الجواب؟.

    وما هو القدر الذي يتوفر ـ في تركيبها الفكري والروحي ـ من الشروط اللازمة للنجاح في ذلك؟.

    وما هي نوعية الضمانات التي تكفل للإنسانية نجاحها في الامتحان، وتوفيقها في الجواب الذي تعطيه على السؤال، وفي الطريقة التي تختارها لحل المشكلة الاجتماعية، والتوصل الى النظام الأصلح الكفيل بسعادة الإنسانية وتصعيدها الى أرفع المستويات؟.

    وبتعبير أكثر وضوحاً: كيف تستطيع الإنسانية المعاصرة

    {16}

    أن تدرك مثلاً: ان النظام الدمقراطي الرأسمالي، او دكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية أو غيرهما.. هو النظام الأصلح وإذا أدركت هذا او ذاك، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنها على حق وصواب في إدراكها؟

    ولو ضمنت هذا أيضاً، فهل يكفي إدراك النظام الأصلح ومعرفة الإنسان به لتطبيقه وحل المشكلة الاجتماعية على أساسه، أو يتوقف تطبيق النظام على عوامل اخرى قد لا تتوفر بالرغم من معرفة صلاحه وجدارته؟.

    وترتبط هذه النقاط التي أثرناها الآن الى حد كبير بالمفهوم العام عن المجتمع والكون، ولذلك تختلف طريقة معالجتها من قبل الباحثين، تبعاً لاختلاف مفاهيمهم العامة عن ذلك ولنبداً بالماركسية.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    رأي الماركسية:

    ترى الماركسية أن الإنسان يتكيف روحياً وفكرياً وفقاً لطريقة الانتاج، ونوعية القوى المنتجة. فهو بصورة مستقلة عنها لا يمكنه أن يفكر تفكيراً اجتماعياً، أو أن يعرف ما هو النظام الأصلح؟. وإنما القوى المنتجة هي التي تملي عليه هذه المعرفة، وتتيح له الجواب على السؤال الأساسي الذي طرحناه

    {17}

    في فاتحة الحديث، وهو بدوره يردد صداها بدقة وأمانة. فالطاحونة الهوائية مثلاً، تبعث في الإنسانية الشعور بأن النظام الاقطاعي هو النظام الأصلح، والطاحونة البخارية التي خلفتها تلقن الإنسان: أن النظام الرأسمالي هو الأجدر بالتطبيق ووسائل الانتاج الكهربائية والذرية اليوم، تعطي المجتمع مضموناً فكرياً جديداً يؤمن بأن الأصلح هو النظام الاشتراكي.

    فقدرة الإنسانية على ادراك النظام الأصلح، هي تماماً قدرتها على ترجمة المدلول الاجتماعي للقوى المنتجة وترديد صداها.

    واما الضمانات التي تكفل للإنسانية صوابها وصحة ادراكها ونجاحها في تصورها للنظام الأصلح.. فهي تتمثل في حركة التاريخ السائرة الى الامام دوماً. فما دام التاريخ في رأي الماركسية يتسلق الهرم، ويزحف بصورة تصاعدية دائماً، فلابد أن يكون الإدراك الاجتماعي الجديد للنظام الأصلح هو الادراك الصحيح. واما الادراك التقليدي القديم فهو خاطئ، ما دام قد تكوّن ادراك اجتماعي أحدث منه. فالذي يضمن للإنسان السوفياتي اليوم صحة رأيه الاجتماعي، هو ان هذا الرأي يمثل الجانب الجديد من الوعي الاجتماعي، ويعبر عن مرحلة جديدة من التاريخ، فيجب أن يكون صحيحاً دون غيره من الآراء القديمة.

    صحيح ان بعض الأفكار الاجتماعية قد تبدو جديدة

    {18}

    ـ بالرغم من زيفها ـ كالفكر النازي في النصف الأول من هذا القرن، حيث بدا وكأنه تعبير عن تطور تاريخي جديد. ولكن سرعان ما تنكشف أمثال هذه الأفكار المقنعة، ويظهر خلال التجربة انها ليست إلا رجعاً للأفكار القديمة، وتعبيراً عن مراحل تاريخية بالية، وليست أفكاراً جديدة بمعنى الكلمة.

    وهكذا تؤكد الماركسية: على ان جدة الفكر الاجتماعي (بمعنى انبثاقه عن ظروف تاريخية جديدة التكون) هي الكفيلة بصحته ما دام التاريخ في تجدد ارتقائي.

    وهناك شيء آخر وهو: ادراك الإنسانية اليوم مثلاً للنظام الاشتراكي ـ بوصفه النظام الأصلح -، لا يكفي في رأي الماركسية لإمكان تطبيقه، مالم تخض الطبقة التي تنتفع بهذا النظام اكثر من سواها ـ وهي الطبقة العاملة في مثالنا ـ صراعاً طبقياً عنيفاً، ضد الطبقة التي من مصلحتها الاحتفاظ بالنظام السابق. وهذا الصراع الطبقي المسعور يتفاعل مع ادراك النظام الأصلح، فيشتد الصراع كلما نمى هذا الإدراك وازداد وضوحاً، وهو بدوره يعمّق الادراك وينميه كلما اشتد واستفحل.

    ***

    {19}

    ووجهة النظر الماركسية هذه تقوم على أساس مفاهيم المادية التاريخية، التي نقدناها في دراستنا الموسعة للماركسية الاقتصادية (1).

    وما نضيفه الآن تعلية على ذلك هو: ان التاريخ نفسه يبرهن على ان الأفكار الاجتماعية بشأن تحديد نوعية النظام الأصلح.. ليست من خلق القوى المنتجة، بل للإنسان اصالته وابداعه في هذا المجال، بصورة مستقلة عن وسائل الانتاج وإلاّ فكيف تفسر لنا الماركسية ظهور فكرة التأميم، والاشتراكية وملكية الدولة في فترات زمنية متباعدة من التاريخ؟!. فلو كان الايمان بفكرة التأميم ـ بوصفه النظام الأصلح كما يؤمن الإنسان السوفياتي اليوم ـ نتيجة لنوعية القوى المنتجة السائدة اليوم فما معنى ظهور الفكرة نفسها في أزمنة سحيقة لم تكن تملك من هذه القوى المنتجة شيئاً.

    أفلم يكن افلاطون يؤمن بالشيوعية ويتصور مدينته الفاضلة على أساس شيوعي؟!، فهل كان ادراكه هذا من معطيات الوسائل الحديثة في الانتاج التي لم يكن الاغريق يملك منها شيئاً؟!.

    ماذا أقول؟!، بل ان الأفكار الاشتراكية بلغت قبل الفين

    ــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) راجع اقتصادنا ص 3 ـ 196.

    {20}

    من السنين، من النضج والعمق في ذهنية بعض كبار المفكرين السياسيين: درجة أتاحت لها مجالاً للتطبيق كما يطبقها الإنسان السوفياتي اليوم، مع بعض الفروق. فهذا (وو ـ دي) أعظم الأباطرة الذين حكموا الصين من أسرة (هان)، كان يؤمن في ضوء خبرته وتجاربه بالاشتراكية، باعتبارها النظام الأصلح. فقام بتطبيقها عام (140 ـ 187 ق م): فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للأمة، وأمم صناعات استخراج الملح والحديد وعصر الخمر. وأراد أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين في جهاز التجارة: فأنشأ نظاماً خاصاً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى بذلك للسيطرة على التجارة، حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شؤون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد، وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الإرتفاع فوق ما يجب، كما تشتريها إذا انخفضت الأسعار. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة، ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم.

    وكذلك اعتلى العرش في بداية التاريخ المسيحي (وانج مانج) فتحمس بايمان لفكرة الغاء الرق، والقضاء على العبودية ونظام الاقطاع، كما آمن الأوروبيون في بداية العصر الرأسمالي..

    {21}

    والغى الرق، وانتزع الأراضي من الطبقة الاقطاعية، وأمم الأرض الزراعية، وقسمها قسماً متساوية ووزعها على الزراع وحرم بيع الأراضي وشراءها ليمنع بذلك من عودة الأملاك الواسعة الى ما كانت عليه من قبل، وأمم المناجم وبعض الصناعات الكبرى.

    فهل يمكن أن يكون (وو ـ دي) أو (وانج مانج).. قد استوحيا ادراكهما الاجتماعي ونهجهما السياسي هذا من قوى البخار، أو قوى الكهرباء أو الذرة، التي تعتبرها الماركسية اساساً للتفكير الاشتراكي.

    وهكذا نستنتج: إنّ ادراك هذا النظام أو ذاك ـ بوصفه النظام الأصلح ـ ليس صنيعة لهذه الوسيلة من وسائل الإنتاج أو تلك.

    كما ان الحركة التقدمية للتاريخ، التي تبرهن الماركسية عن طريقها على: ان جدة الفكر تضمن صحته.. ليست إلاّ اسطورة اخرى من أساطير التاريخ، فان حركات الانتكاس وذوبان الحضارة كثيرة جداً.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    رأي المفكرين غير الماركسيين:

    وأما المفكرون غير الماركسيين فهم يقررون عادة: أن قدرة الإنسان على ادراك النظام الأصلح.. تنمو عنده من خلال التجارب الإجتماعية التي يعيشها. فحينما يطبق الإنسان الإجتماعي نظاماً معيناً ويجسده في حياته.. يستطيع أن يلاحظ من خلال تجربته لذلك النظام: الأخطاء ونقاط الضعف المستترة فيها، والتي تتكشف له على مر الزمن، فتمكنه من تفكير اجتماعي أكثر بصيرة وخبرة.. وهكذا يكون بامكان الإنسان أن يفكر في النظام الاصلح، ويضع جوابه على السؤال الأساسي في ضوء تجاربه وخبرته. وكلما تكاملت وكثرت تجاربه أو الأنظمة التي جرّبها، ازداد معرفة وبصيرة، وصار اكثر قدرة على تحديد النظام الأصلح وتصور معالمه.

    فسؤالنا الأساسي: ما هو النظام الأصلح؟.. ليس إلاّ كسؤال: ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكن؟.. هذا السؤال الذي واجهه الإنسان منذ أحس بالبرد، وهو في كهفه أو مغارته، فأخذ يفكر في الجواب عليه، حتى اهتدى في ضوء ملاحظاته أو تجاربه العديدة الى طريقة إيجاد النار. وظل يثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جواب أفضل عبر تجاربه

    {23}

    المديدة، حتى انتهى أخيراً الى اكتشاف الكهرباء واستخدامه في التدفئة.

    وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته، فأدرك طريقة حلها خلال التجربة، وازداد إدراكه دقة كلما كثرت التجربة: كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسل، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، أو أسرع واسطة للنقل والسفر أو أفضل طريقة لحياكة الصوف... وما الى ذلك من مشاكل وحلول.

    فكما استطاع الإنسان أن يحل هذه المشاكل، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة من خلال تجاربه.. كذلك يستطيع أن يجيب على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟!، من خلال تجاربه الاجتماعية، التي تكشف له عن سيئات ومحاسن النظام المجرّب، وتبرز ردود الفعل له على الصعيد الاجتماعي.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية:

    وهذا صحيح الى درجة ما: فان التجربة الاجتماعية تتيح للإنسان أن يقدم جوابه على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟ كما أتاحت له تجارب الطبيعة أن يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة، التي اكتنفت حياته منذ البداية.

    {24}

    ولكننا يجب أن نفرّق ـ إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى أعمق ـ: بين التجارب الاجتماعية التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح، وبين التجارب الطبيعية التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها وطريقة الاستفادة منها: كأنجح دواء، أو أسرع واسطة للسفر، أو أفضل طريقه للحياكة، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، او انجع طريقة لفلق الذرة مثلاً.

    فإن التجارب الاجتماعية ـ أي تجارب الإنسان الاجتماعي للأنظمة الاجتماعية المختلفة ـ لا تصل في عطائها الفكري الى درجة التجارب الطبيعية ـ: وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة ـ، لأنها تختلف عنها في عدة نقاط. وهذا الاختلاف يؤدي الي تفاوت قدرة الإنسان على الاستفادة من التجارب الطبيعية والاجتماعية. فبينما يستطيع الإنسان أن يدرك أسرار الظواهر الطبيعية، ويرتقي في ادراكه هذا الى ذروة الكمال على مر الزمن، بفضل التجارب الطبيعية والعلمية.. لا يسير في مجال ادراكه الاجتماعي للنظام الأصلح إلاّ سيراً بطيئاً ولا يتأتى له بشكل قاطع أن يبلغ الكمال في ادراكه الاجتماعي هذا، مهما توافرت تجاربه الاجتماعية وتكاثرت.

    ويجب علينا ـ لمعرفة هذا ـ أن ندرس تلك الفروق

    {25}

    المهمة، بين طبيعة التجربة الاجتماعية والتجربة الطبيعية.. لنصل الى الحقيقة التي قررناها وهي: أن التجربة الطبيعية قد تكون قادرة على منح الإنسان عبر الزمن فكرة كاملة عن الطبيعة، يستخدمها في سبيل الاستفادة من ظواهر الطبيعة وقوانينها، وأما التجربة الاجتماعية: فهي لا تستطيع أن تضمن للإنسان ايجاد هذه الفكرة الكاملة، عن المسألة الاجتماعية.

    وتتلخص أهم تلك الفروق فيما يلي:

    أولا: أن التجربة الطبيعية يمكن أن يباشرها ويمارسها فرد واحد، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة، ويدرس بصورة مباشرة كل ما ينكشف خلالها من حقائق وأخطاء، فينتهي من ذلك الى فكرة معينة ترتكز على تلك التجربة.

    وأما التجربة الاجتماعية فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرب في مجتمع وتطبيقه عليه، فتجربة النظام الاقطاعي أو الرأسمالي مثلاً تعني: ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة من تاريخه وهي لاجل ذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد ويستوعبها وإنما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كله، وتستوعب مرحلة تاريخية من حياة المجتمع أوسع كثيراً من هذا الفرد أو ذاك. فالإنسان حين يريد أن يستفيد من تجربة اجتماعية، لا يستطيع

    {26}

    أن يعاصرها بكل أحداثها، كما كان يعاصر التجربة الطبيعية حين يقوم بها، إنما يعاصر جانباً من أحداثها، ويتحتم عليه أن يعتمد في الاطلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها.. على الحدس والاستنتاج والتاريخ.

    ثانياً: ان التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعية، أكثر موضوعية ونزاهة، من التفكير الذي يستمده الإنسان من التجربة الاجتماعية.

    وهذه النقطة من أهم النقاط الجوهرية، التي تمنع التجربة الاجتماعية من الارتفاع الى مستوى التجربة الطبيعية والعلمية فلا بد من جلائها بشكل كامل.

    ففي التجربة الطبيعية، ترتبط مصلحة الإنسان ـ الذي يصنع تلك التجربة ـ باكتشاف الحقيقة، الحقيقة كاملة صريحة دون مواربه، وليس له ـ في الغالب ـ أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها، التي تتكشف خلال التجربة. فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يجرب درجة تأثر جراثيم السل بمادة كيماوية معينة، حين القائها في محيط تلك الجراثيم، فسوف لا يهمه إلاّ معرفة درجة تأثرها، مهما كانت عالية أو منخفضة، ولن ينفعه في علاج السل ومكافحته أن يزور الحقيقة، فيبالغ في درجة تأثرها أو يهوّن منها. وعلى هذا الأساس يتجه تفكير المجرب ـ في العادة ـ اتجاهاً موضوعياً نزيهاً.

    {27}

    وأما في التجربة الاجتماعية، فلا تتوقف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانية، بل قد يكون من مصلحته الخاصة: ان يستر الحقيقة عن الأنظار. فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسمالية والاحتكار، أو على النظام الربوي للمصارف مثلاً. سوف يكون من مصلحته جداً أن تجيء الحقيقة مؤكدة لنظام الرأسمالية والاحتكار والربا المصرفي، بوصفه النظام الأصلح حتى تستمر منافعه التي يدرها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعياً بطبيعته، ما دام الدافع الذاتي يحثه على اكتشاف الحقيقة باللون الذي يتفق مع مصالحه الخاصة.

    وكذلك الشخص الآخر، الذي تتعارض مصلحته الخاصة مع الربا او الاحتكار، لا يهمه شيء كما يهمه ان تثبت الحقيقة بشكل يدين الأنظمة الربوية والاحتكارية. فهو حينما يريد أن يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعية: (ما هو النظام الأصلح؟) من خلال دراسته الاجتماعية، يقترن دائماً بقوة داخلية تحبذ له وجهة نظر معينة، وليس شخصاً محايداً بمعنى الكلمة.

    وهكذا نعرف: ان تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعية لا يمكن ـ عادة ـ أن تضمن له الموضوعية والتجرد عن الذاتية بالدرجة التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربة طبيعية، ومسألة من مسائل الكون.

    {28}

    ثالثاً: وهب ان الإنسان استطاع أن يتحرر فكرياً من دوافعه الذاتية، ويفكر تفكيراً موضوعياً، ويكشف الحقيقة وهي: ان هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانية.. ولكن من الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية إذا لم تلتق بمصلحته الخاصة؟!، ومن الذي يكفل سعيه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانية اذا تعارض مع مصالحه الخاصة؟!. فهل يكفي ـ مثلاً ـ ايمان الرأسماليين بأن النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكية ورضاهم عنها، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم؟!، أو هل يكفي ايمان الإنسان المعاصر (انسان الحضارة الغربية) ـ في ضوء تجاربه التي عاشها ـ بالخطر الكامن في نظام العلاقات بين الرجل والمرأة، القائم على أساس الخلاعة والأباحية.. هل يكفي ايمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات من خطر الميوعة والذوبان على مستقبل الإنسان وغده.. لاندفاعه الى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانية مستقبلها ويحميها من الذوبان الجنسي والشهوي، ما دام لايشعر بخطر معاصر على واقعه الذي يعيشه، وما دامت تلك العلاقات توفر له كثيراً من ألوان المتعة واللذة؟؟!!

    نحن اذن وفي هذا الضوء، نشعر بحاجة لا الى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانية فحسب، بل الى دافع يجعلنا

    {29}

    نعنى بمصالح الإنسانية ككل، ونسعى الى تحقيقها، وان اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثله من ذلك الكل.

    رابعاً: ان النظام الذي ينشئه الإنسان الاجتماعي، ويؤمن بصلاحه وكفاءته، لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان، وتصعيده في المجال الإنساني الى آفاق أرحب.. لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه، ودرجته الروحية والنفسية. فاذا كان المجتمع يتمتع بدرجة منخفضة من قوة الارادة وصلابتها مثلاً لم يكن ميسوراً له أن يربي ارادته وينميها، بايجاد نظام اجتماعي صارم، يغذي الارادة ويزيد من صلابتها.. لأنه ما دام لا يملك ارادة صلبة، فهو لا يملك القدرة على ايجاد هذا النظام ووضعه موضع التنفيذ وانما يضع النظام الذي يعكس ميوعة ارادته وذوبانها. وإلا فهل ننتظر من مجتمع لا يملك ارادته ازاء إغواء الخمورة ـ مثلاً ـ واغراءها، ولا يتمتع بقدرة الترفع عن شهوة رخيصة كهذه.. هل ننتظر من هذا المجتمع: ان يضع موضع التنفيذ نظاماً صارماً يحرّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة، ويربي في الإنسان ارادته، ويرد اليه حريته ويحرره من عبودية الشهوة واغرائها؟!!. كلا طبعاً. فنحن لا نترقب الصلابة من المجتمع الذائب، وان أدرك اضرار هذا الذوبان ومضاعفاته. ولا نأمل من المجتمع الذي تستعبده شهوة الخمرة

    {30}

    ان يحرر نفسه بارادته، مهما احس بشرور الخمرة وآثارها.. لأن الاحساس انما يتعمق ويتركز لدى المجتمع إذا استرسل في ذوبانه وعبوديته للشهوة واشباعها، وهو كلما استرسل في ذلك اصبح أشد عجزاً عن معالجة الموقف، والقفز بانسانيته الى درجات أعلى.

    وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشرية التي صنعها الإنسان، تعجز عادة عن وضع نظام يقاوم في الإنسان عبوديته لشهوته، ويرتفع به إلى مستوى انساني أعلى. حتى لقد اخفقت الولايات المتحدة ـ وهي أعظم تعبير عن اضخم الحضارات التي صنعها الإنسان ـ في وضع قانون تحريم الخمرة موضع التنفيذ لأن من التناقض أن نترقب من المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديتها، أن يسن القوانين التي ترتفع به من الحضيض الذي اختاره لنفسه. بينما نجد ان النظام الاجتماعي الإسلامي الذي جاء به الوحي، قد استطاع بطريقته الخاصة في تربية الإنسانية ورفعها الي اعلى أن يحرم الخمرة وغيرها من الشهوات الشريرة، ويخلق في الإنسان الارادة الواعية الصلبة .

    ***

    ولم يبق علينا ـ بعد أن أوضحنا جانباً من الفروق الجوهرية بين التجربة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأسره والتجربة

    {31}

    الطبيعية التي يمارسها المجرب نفسه ـ إلا ان نثير السؤال الأخير في مجال المسألة التي ندرسها (مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعي، واختيار النظام الأصلح.)، وهذا هو السؤال: ما هي قيمة المعرفة العلمية في تنظيم حياة الجماعة وإرساء الحياة الاجتماعية، والنظام الاجتماعي على أساس علمي من التجارب الطبيعية، التي تملك من الدقة ما تتسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء، ونتخلص بذلك من نقاط الضعف التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعية؟؟.

    وبكلمة اخرى: هل في الامكان الاستغناء ـ لدى تنظيم الحياة الاجتماعية والتعرف على النظام الأصلح ـ عن دراسة تاريخ البشرية، والتجارب التي مارستها المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، والتي لا نملك تجاهها سوى الملاحظة عن بعد، ومن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها.. هل في الامكان الاستغناء عن ذلك كله، باقامة حياتنا الاجتماعية في ضوء تجارب علمية نعيشها ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك من الأفراد، حتى نصل الى معرفة النظام الأصلح؟؟.

    وقد يتجه بعض المتفائلين الى الجواب على هذا السؤال بالايجاب، نظراً الى ما يتمتع به انسان الغرب اليوم من امكانات علمية هائلة: أوَ ليس النظام الاجتماعي هو النظام الذي يكفل اشباع حاجات الإنسانية بأفضل طريقة ممكنة؟؟. أوليست

    {32}

    حاجات الإنسان اشياء واقعية قابلة للقياس العلمي والتجربة كسائر ظواهر الكون؟!. أوَ ليست اساليب اشباع هذه الحاجات تعني اعمالاً محدودة، يمكن للمنطق العلمي أن يقيسها ويخضعها للتجربة، ويدرس مدى تأثيرها في اشباع الحاجات وما ينجم عنها من آثار؟!. فلماذا لا يمكن ارساء النظام الاجتماعي على أساس من هذه التجارب؟!. لماذا لا يمكن ان نكتشف بالتجربة على شخص أو عدة اشخاص، مجموع العوامل الطبيعية والفسيولوجية والسيكولوجية، التي تلعب دوراً في تنشيط المواهب الفكرية وتنمية الذكاء، حتى إذا أردنا أن ننظم حياتنا الاجتماعية، بشكل يكفل تنمية المواهب العقلية والفكرية للافراد، حرصنا على أن تتوفر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد؟!!

    وقد يذهب بعض الناشئة في التصور الى أكثر من هذا فيخيل له: أن هذا ليس ممكناً فحسب، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربية، منذ رفضت الدين والأخلاق وجميع المقولات الفكرية والاجتماعية، التي مارستها الإنسانية في تجاربها الاجتماعية عبر التاريخ.. واتجهت في بناء حياتها على اساس العلم، فقفزت في مجراها التاريخي الحديث، وفتحت أبواب السماء، وملكت كنوز الأرض....

    وقبل ان نجيب على السؤال الذي أثرناه: (السؤال عن مدى

    {33}

    امكان إرساء الحياة الاجتماعية على أساس التجارب العلمية) يجب ان نناقش هذا التصور الاخير للحضارة الغربية، وهذا الاتجاه السطحي الى الاعتقاد: بأن النظام الاجتماعي، الذي يمثل الوجه الأساسي لهذه الحضارة، نتيجة للعنصر العلمي فيها. فان الحقيقة هي: ان النظام الاجتماعي الذي آمنت به اوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها، لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفية مجردة أكثر منها آراء علمية مجربة، ونتيجة لفهم عقلي وايمان بقيم عقلية محدودة، أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجية والفسيولوجية والطبيعية، فان من يدرس النهضة الاوروبية الحديثة ـ كما يسميها التاريخ الاوروبي ـ بفهم يستطيع ان يدرك: ان اتجاهها العام في ميادين المادة، كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة كانت علمية، إذ أقامت افكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء او عن قانون الجذب او فلق الذرة افكار علمية مستمدة من الملاحظة والتجربة. وأما في الميدان الاجتماعي: فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية. فهو ينادي مثلاً: بحقوق

    {34}

    الإنسان العامة، التي اعلنها في ثورته الإجتماعية، ومن الواضح ان فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأن حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وانما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تدرس علمياً.

    وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، الذي يعتبر ـ من الوجهة النظرية ـ أحد المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية الحديثة.. فاننا نجد أن هذا المبدأ لم يستنتج بشكل علمي من التجربة والملاحظة الدقيقة، لأن الناس في مقاييس العلم ليسوا متساوين، إلاّ في صفة الإنسانية العامة، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعية والفسيولوجية والنفسية والعقلية، وانما يعبر مبدأ المساواة عن قيمة خلقية هي من مدلولات العقل لا من مدلولات التجربة.

    وهكذا نستطيع بوضوح : ان نميز بين طابع النظام الإجتماعي في الحضارة الغربية الحديثة، وبين الطابع العلمي. وندرك أن الإتجاه العلمي في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة.. لم يشمل حقل التنظيم الإجتماعي، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه اوروبا انظمتها ومبادئها الإجتماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع.

    ونحن بهذا إنما نقرر الحقيقة، ولسنا نريد أن نعيب على الحضارة

    {35}

    الغربية اهمالها لقيمة المعرفة العلمية، في مجال التنظيم الاجتماعي أو نؤاخذها على عدم اقامة هذا النظام على أساس التجارب العلمية الطبيعية، فان هذه التجارب العلمية لا تصلح لأن تكون أساساً للتنظيم الإجتماعي.

    صحيح أن حاجات الإنسان يمكن إخضاعها للتجربة في كثير من الأحايين، وكذلك أساليب اشباعها.. ولكن المسألة الاساسية في النظام الاجتماعي، ليست هي اشباع حاجات هذا الفرد او ذاك، وانما هي ايجاد التوازن العادل بين حاجات الافراد كافة وتحديد علاقاتهم ضمن الإطار الذي يتيح لهم اشباع تلك الحاجات. ومن الواضح ان التجربة العلمية على هذا الفرد او ذاك، لا تسمح باكتشاف ذلك الاطار، ونوعية تلك العلاقات، وطريقة ايجاد ذلك التوازن.. وانما يكتشف ذلك خلال ممارسة المجتمع كله لنظام اجتماعي، اذ تتكشف خلال التجربة الاجتماعية مواطن الضعف والقوة في النظام، وبالتالي ما يجب اتباعه لإيجاد التوازن العادل المطلوب، الكفيل بسعادة المجموع.

    اضف الى ذلك: ان بعض الحاجات أو المضاعفات لا يمكن اكتشافها في تجربة علمية واحدة، فخذ اليك مثلاً هذا: الشخص الذي يعتاد الزنا، فقد لا تجد في كيانه ـ بوصفه انساناً سعيداً ـ ما ينقصه أو يكدره، ولكنك قد تجد المجتمع الذي عاش ـ كما يعيش هذا الفرد ـ مرحلة كبيرة من عمره، وأباح لنفسه

    {36}

    الانسياق مع شهوات الجنس.. قد تجده بعد فترة من تجربته الاجتماعية منهاراً، قد تصدع كيانه الروحي، وفقد شجاعته الادبية، وارادته الحرة وجذوته الفكرية.

    فليست كل النتائج، التي لا بد من معرفتها لدى وضع النظام الاجتماعي الاصلح.. يمكن اكتشافها بتجربة علمية، نمارسها في المختبرات الطبيعية والفسلجية، او في المختبرات النفسية.. على هذا الفرد او ذاك وانما يتوقف اكتشافها على تجارب اجتماعية طويلة الأمد.

    وبعد هذا استخدام التجربة العلمية الطبيعية، في مجال التنظيم الاجتماعي، يمنى بنفس النزعة الذاتية التي تهدد استخدامنا للتجارب الإجتماعية. فما دام للفرد مصالحه ومنافعه الخاصة التي قد تتفق مع الحقيقة التي تقررها التجربة وقد تختلف.. يظل ممكناً دائماً أن يتجه تفكيره اتجاهاً ذاتياً، ويفقد الموضوعية التي تتميز بها الافكار العلمية، في سائر المجالات الاخرى.

    ***

    والآن وقد عرفنا مدى قدرة الإنسان على حل المشكلة الإجتماعية والجواب على السؤال الاساسي فيها.. نستعرض أهم المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامة اليوم ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي، على اختلاف مدى

    {37}

    وجودها الإجتماعي في حياة الإنسان. وهي مذاهب اربعة:

    1 ـ النظام الديمقراطي الرأسمالي.

    2 ـ النظام الاشتراكي.

    3 ـ النظام الشيوعي.

    4 ـ النظام الإسلامي.

    والثلاثة الاولى من هذه المذاهب تمثل ثلاث وجهات نظر بشرية، في الجواب على السؤال الاساسي: ما هو النظام الاصلح؟. فهي أجوبة وضعها الإنسان على هذا السؤال، وفقاً لامكاناته وقدرته المحدودة التي تبينا مداها قبل لحظة.

    وأما النظام الإسلامي فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعي، بوصفه ديناً قائماً على أساس الوحي ومعطى إلهياً، لا فكراً تجريبياً منبثقاً عن قدرة الإنسان وامكاناته.

    ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الانظمة الاربعة: فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الارض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اخرى. وكل من النظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطالها في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه.

    وأما النظام الشيوعي والإسلامي، فوجودهما بالفعل فكري

    {38}

    خالص. غير ان النظام الإسلامي، مر بتجربة من أروع تجارب النظم الاجتماعية وانجحها، ثمّ عصفت به العواصف بعد ان خلا الميدان من القادة المبدئيين او كاد، وبقيت التجربة في رحمة اناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوض الكيان الإسلامي، وبقي نظام الإسلام فكرة في ذهن الأمة الإسلامية وعقيدة في قلوب المسلمين، وأملاً يسعى الى تحقيقه ابناؤه المجاهدون.

    واما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة حتى الآن تجربة كاملة، وانما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم الى تهيئة جو اجتماعي له بعد ان عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم، فأعلنت النظام الاشتراكي، وطبقته كخطوة الى الشيوعية الحقيقية.

    فما هو موضعنا من هذه الانظمة؟

    وما هي قضيتنا التي يجب ان ننذر حياتنا لها، ونقود السفينة الى شاطئها؟.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    {41}

    الدّيمقراطيّة الرأسماليّة:

    ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية، وبجمود الكنيسة وما اليها في الحياة الفكرية وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلت محل السابقين وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد.

    وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية: على الايمان بالفرد ايماناً لا حد له، وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل ـ بصورة طبيعية ـ مصلحة المجتمع في مختلف الميادين.. وان فكرة الدولة انما تستهدف حماية الافراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز لها أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.

    ويتلخص النظام الديمقراطي الرأسمالي: في إعلان الحريات الأربع: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.

    فالحرية السياسية: تجعل لكل فرد كلاماً مسموعاً ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة، ووضع خططها ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها. وذلك لأن النظام الإجتماعي للامة، والجهاز الحاكم فيها، مسألة تتصل اتصالا

    {42}

    مباشراً بحياة كل فرد من أفرادها، وتؤثر تأثيراً حاسماً، سعادته او شقائه، فمن الطبيعي حينئذ ان يكون لكل حق المشاركة في بناء النظام والحكم.

    واذا كانت المسألة الإجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياز موت، ومسألة سعادة او شقاء للمواطنين، الذين تسري عم القوانين والانظمة العامة. فمن الطبيعي، أيضاً ان لا الاضطلاع بمسؤوليتها لفرد. او لمجموعة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة؟؟؟ ورجاحة عقله، على الاهواء والاخطاء.

    فلا بد إذن من اعلان المساواة التامة في الحقوق السياسية المواطنين كافة، لأنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الاجتماعية والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية. وعلى هذا الاساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام، الذي يفتن انبثاق الجهاز الحاكم ـ بكل سلطاته وشعبه ـ عن أكثرية المواطنين.

    والحرية الاقتصادية ترتكز: على الإيمان بالاقتصاد الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح، وتقرر فتح جميع الأبواب وتهيئة كل الميادين. أمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملك للاستهلاك وللانتاج معاً، وتباح هذه المللة الانتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وقد

    {43}

    وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في انتاج أي اسلوب وسلوك أي طريق، لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها، على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.

    وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية الاقتصادية: ان قوانين الاقتصاد السياسي، التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية، كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه.. وان المصلحة الشخصية، التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة وان التنافس الذي يقوم في السوق الحرة، نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والانصاف، في شتى الاتفاقات والمعاملات. فالقوانين الطبيعية للاقتصاد، تتدخل ـ مثلا ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن، بصورة تكاد أن تكون آلية وذلك: أن الثمن اذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة، انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم: (بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض الطلب.)، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر، ولا يتركه حتى ينخفض به الى مستواه السابق، ويزول الشذوذ بذلك.

    والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد دائماً التفكير في كيفية زيادة الانتاج وتحسينه، مع تقليل مصارفه ونفقاته. وذلك

    {44}

    يحقق مصلحة المجتمع، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصة بالفرد أيضاً.

    والتنافس يقضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين بشكل عادل، لا ظلم فيه ولا اجحاف لان كل بائع او منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه او تخفيض اجور عماله، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين.

    والحرية الفكرية تعني أن يعيش الناس احراراً في عقائدهم وأفكارهم، يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ويعتقدون ما يصل اليه اجتهادهم أو ما توحيه اليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة. فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها والإعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.

    والحرية الشخصية تعبر عن : تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف الوان الضغط والتحديد. فهو يملك ارادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكه. فالحد النهائي الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد: حرية الآخرين. فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح عليه أن يكيف حياته باللون الذي يحلو

    {45}

    له ويتبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها. لأن ذلك مسألة خاصة تتصل بكيانه وحاضره ومستقبله. وما دام يملك هذا الكيان فهو قادر على التصرف فيه كما يشاء.

    وليست الحرية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي، وعن الحرية الشخصية في الجانب العلمي، الذي يتصل بالشعائر والسلوك.

    ويستخلص من هذا العرض: ان الخط الفكري العريض لهذا النظام ـ كما المحنا اليه ـ هو: ان مصالح المجتمع مرتبطة بمصالح الأفراد فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الإجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها.

    هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية، التي قامت من أجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والامم، في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه: يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد اجريت عليها بعد ذلك عدة من التعديلات، غير انها لم تمس جوهرها بالصميم بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها واسسها.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    الاتجاه المادي في الرأسمالية:

    ومن الواضح: أن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص أخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه، وآخرته، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادية، وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية.. لم يبن على فلسفة مادية للحياة وعلى دراسة مفصلة لها. فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام، فصلت عن كل علاقة خارجة عن حدود المادية والمنفعة، ولكن لم يهيأ لاقامة هذا النظام فهم فلسفي كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك ان العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادية وأنصار لها، بل كان فيه اقبال على النزعة المادية، تأثراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي (1) وبروح الشك والتبلبل الفكري

    ــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) فان التجربة اكتسبت أهمية كبرى في الميدان العلمي، ووفقت توفيقاً لم يكن في الحسبان الى الكشف عن حقائق كثيرة، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية. وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة، أشاد لها قدسية في العقلية العامة، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقلية، وعن كل الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحس والتجربة، حتى صار الحس التجريبي في عقيدة كثير من التجريبيين ـ الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم. وقد أوضحنا في (فلسفتنا): ان التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي، وأن الأساس الأول للعلوم والمعارف هو العقل، الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحس كما يدرك الحقائق المحسوسة.

    {47}

    الذي أحدثه انقلاب الرأي، في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة (1) وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم، الذي كان يجمد الأفكار والعقول، ويتملق للظلم والجبروت، وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين (2).

    فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية في كثير من العقليات الغربية...

    كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فان المسألة الاجتماعية للحياة، تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل

    ــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) فان جملة من العقائد العامة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العام، مع أنها لم تكن قائمة على أساس من منطق عقلي أو دليل فلسفي، كالإيمان بأن الارض مركز العالم. فلما انهارت هذه العقائد في ظل التجارب الصحيحة، تزعزع الإيمان العام، وسيطرت موجة من الشك على كثير من الأذهان، فبعثت السلطة اليونانية من جديد متأثرة بروح الشك، كما تأثرت في العهد اليوناني بروح الشك الذي تولد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدة الجدل بينها.

    (2) فإن الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلالاً الدين استغلالً شنيعاً وجعل اسمه أداة لمآربها وأغراضها وخنق الانفاس العلمية والاجتماعية، وأقامت محاكم التفتيش، وأعطت لها الصلاحيات الواسعة للتصرف في المقدرات، حتى تولد عن ذلك كله التبرم بالدين والسخط عليه، لان الجريمة ارتكبت باسمه مع أنه في واقعه المصفى وجوهره الصحيح لا يقل عن أولئك الساخطين والمتبرمين ضيقاً بتلك الجريمة واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها.

    {48}

    صحيح إلاّ اذا أقيمت على قاعدة مركزية تشرح الحياة وواقعها وحدودها والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتظليل، او على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، مع ان قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية الى واقع الحياة، التي تمون المجتمع بالمادة الاجتماعية ـ وهي العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها واكتشاف أسرارها وقيمها. فالإنسان في هذا الكوكب ان كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه قائمة على تنظيمه وتوجيهه.. فمن الطبيعي ان يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لانها أبصر بأمره واعلم بواقعه، وانزه قصداً واشد اعتدالاً منه.

    وأيضاً، فان هذه الحياة المحدودة ان كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها، وتتلون بطابعها، وتتوقف موازينها على مدى اعتدال الحياة الاولى ونزاهتها.. فمن الطبيعي ان تنظيم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معاً.

    واذن فمسألة الايمان بالله وانبثاق الحياة عنه، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها، مع اغفال تلك المسألة

    {49}

    وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً.

    والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها: أن الفكرة فيها تقوم على أساس الايمان بعدم وجود شخصية او مجموعة من الافراد، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها، الى الدرجة التي تبيح ايكال المسألة الاجتماعية اليها، والتعويل في اقامة حياة صالحة للامة عليها. وهذا الاساس بنفسه لا موضع ولا معنى له، إلاّ اذا اقيم على فلسفة مادية خالصة، لا تعترف بامكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود.

    فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى، فهو اما أن يكون قد استبطن المادية، ولم يجرؤ على الاعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها. واما ان يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي، بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة، التي لا بد لكل نظام اجتماعي أن يرتكز عليها. وهو ـ بكلمة ـ: نظام مادي، وان لم يكن مقاماً على فلسفة مادية واضحة الخطوط.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    موضع الاخلاق من الرأسمالية:

    وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظام بروحها: أن اقضيت الاخلاق من الحساب، ولم يلحظ لها وجود في ذلك

    {50}

    النظام او بالاحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها، واعلنت المصلحة الشخصية كهدف اعلى، والحريات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث، ومآسي ومصائب.

    وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية، عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين: أن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية، وان النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي، لكن لا عن طريق الأخلاق بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها. فان الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضاً، باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد افاد نفسه أيضاً لان حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها، واذن فالدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الإجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل الى مصالح خاصة ومنافع فردية.

    وهذا الدفاع أقرب الى الخيال الواسع منه الى الاستدلال. فتصور بنفسك ان المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الامة اذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة، على أوسع نطاق وابعد مدى، وكانت الدولة توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير

    {51}

    تحفظ ولا تحديد. فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟! وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه الأفراد، نحو الأعمال التي تدعو اليها القيم الخلقية؟!، مع ان كثيراً من تلك الاعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، واذا اتفق ان كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع، فكثيراً ما يزاحم هذا النفع الضئيل، الذي لا يدركه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية، بفوات منافع عاجلة او مصالح فردية، تجد في الحريات ضماناً لتحقيقها، فيطيح الفرد في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    مآسي النظام الرأسمالي:

    واذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية، التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل لا على اساس فلسفي مدروس.. فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ولذا نلمح اليها:

    فأول تلك الحلقات: تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية. فان الحرية السياسية كانت تعني: ان وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الأكثرية، ولنتصور ان الفئة التي تمثل الأكثرية في الامة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية وهي عقلية مادية خالصة

    {52}

    في اتجاهها، ونزعاتها وأهدافها فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟ أو ماذا ترتقب للاقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الأكثرية ولحفظ مطالحها؟!، وهل يكون من الغريب حينئذ اذا شرعت الاكثرية القوانين على ضوء مصالحها الخاصة، واهملت مصالح الاقلية واتجهت الى تحقيق رغباتها اتجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه الاقيلية كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد وما دامت الاكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها الاجتماعية؟؟. وبطبيعة الحال: ان التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق، وان مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم.. ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الاجواء الاجتماعية القديمة وغاية ما في الموضوع من فرق ان الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قبل أفراد بامة، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الاكثريات بالنسبة الى الاقليات، التي تشكل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر.

    وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذاً لكانت المأساة هينة ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر مما يعرض من دموع، بل ان الامر تفاقم واشتد حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك، فقررت الحرية الاقتصادية على هذا النحو

    {53}

    الذي عرضناه سابقاً، واجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذاً في طريقته وأسبابه، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير، والعلم يتمخض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الاقلية من أفراد الامة، ممن أتاحت لهم الفرص وسائل الانتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها الى أبعد حد والقضاء بها على كثير من فئات الامة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلحين بالحرية الاقتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها، وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعات والانتاج وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت الى المستوى العام المنخفض وصارت هذه الاكثرية المحطمة تحت رحمة تلك الصفوة، التي لا تفكر ولا تحسب الا على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية. ومن الطبيعي حينئذ ان لا تمد يد العطف والمعونة الى هؤلاء، لتنتشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية فيما تعمل، وما دام النظام الديمقراطي

    {54}

    الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!.

    فالمسألة اذاً يجب ان تدرس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام، وهي: ان يستغل هؤلاء الكبراء حاجة الاكثرية اليهم ومقوماتهم المعيشية، فيفرض على القادرين العمل في ميادينهم ومصانعهم، في مدة لا يمكن الزيادة عليها، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم. هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه، وتنقسم الامة بسبب ذلك الى: فئة في قمة الثراء، واكثرية في المهوى السحيق.

    وهنا يتبلور الحق السياسي للامة من جديد بشكل آخر. فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين، وان لم تمح من سجل النظام، غير انها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالا وتفكيراً خالصاً: فان الحرية الاقتصادية حين تسجل ما عرضناه من نتائج، تنتهي الى الانقسام الفظيع الذي مر في العرض، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام وتقهر الحرية السياسية أمامها. فان الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية، وتمكنها من شراء الأنصار والاعوان.. تهيمن على تقاليد الحكم في الامة وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال، بعد ان كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية

    {55}

    انه من حق الامة جمعاء. هكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكماً تستأثر به الاقلية، وسلطانا يحمي به عدة من الافراد كيانهم على حساب الآخرين، بالعقلية النفعية التي يتستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية.

    ونصل هنا الى أفظع حلقات المأساة التي يمثلها هذا النظام فان هؤلاء السادة الذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ، وزودهم بكل قوة وطاقة.. سوف يمدون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ الى الآفاق ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم انهم في حاجة الى مناطق نفوذ جديدة وذلك، لسببين:

    الأول: ان وفرة الانتاج تتوقف على مدى توفر المواد الاولية وكثرتها، فكل من يكون حظه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى واكثر. وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة. واذا كان من الواجب الحصول عليها فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد لامتصاصها واستغلالها.

    الثاني: ان شدة حركة الانتاج وقوتها. بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية، وانخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين، بدافع من الشره المادي للفئة الرأسمالية، ومغالبتها للعامة على حقوقها بأساليبها النفعية، التي تجعل المواطنين عاجزين

    {56}

    عن شراء المنتجات واستهلاكها... كل ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسة الى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها وايجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة.

    وهكذا تدرس المسألة بذهنية مادية خالصة. ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخلقية ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية الا اسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات.. أن ترى في هذين السببين مبرراً ومسوّغاً منطقياً للاعتداء على البلاد الآمنة، وانتهاك كرامتها والسيطرة على مقدراتها ومواردها الطبيعية الكبرى واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة. فكل ذلك امر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر.

    وينطلق من هنا عملاق يغزو ويحارب، ويقيّد ويكبل ويستعمر ويستثمر، إرضاء للشهوات واشباعاً للرغبات.

    فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام، باعتباره مادياً في روحه وصياغته واساليبه واهدافه، وان لم يكن مركزاً على فلسفة محدودة تتفق مع تلك الروح والصياغة وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا اليه؟!!.

    وقدّر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا

    {57}

    النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الايثار والثقة المتبادلة، والتراحم والتعاطف الحقيقي وجميع الاتجاهات الروحية الخيرة، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وأنه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيى في صراع دائم ومغالبة مستمرة، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصة، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصة.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    {61}

    الإشتراكيّة والشيُوعيّة:

    في الاشتراكية مذاهب متعددة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية، التي هي عبارة عن: فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبق الماديون الديالكتيكيون هذه المادية الديالكتيكية على التاريخ والاجتماع والاقتصاد، فصارت عقيدة فلسفية في شأن العالم، وطريقة لدرس التاريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد وخطة في السياسة. وبعبارة أخرى: انها تصوغ الإنسان كله في قالب خاص، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره الى الحياة وطريقته العلمية فيها. ولاريب في أن الفلسفة المادية، وكذلك الطريقة الديالكتيكية.. ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته، فقد كانت النزعة المادية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي، سافرة تارة ومتوارية اخرى وراء السفسطة والانكار المطلق، كما ان الطريقة الديالكتيكية في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني، وقد استكملت كل خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وانما جاء (كارل ماركس) الى هذا

    {62}

    المنطق وتلك الفلسفة فتبناها، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة فقام بتحقيقين:

    أحدهما: أن فسر التاريخ تفسيراً مادياً خالصاً بطريقة ديالكتيكية.

    والآخر: زعم فيه انه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل(1).

    وأشاد على أساس هذين التحقيقين ايمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، واقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي، الذي اعتبره خطوة للإنسانية الى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً.

    فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكل وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادية خالصة، منسجمة مع سائر الظواهر والاحوال المادية ومتأثرة بها، غير انه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، حق تتجمع المتناقضات وتحدث تبدلاً في ذلك الوضع وانشاءاً لوضع جديد.. وهكذا يبقى العراك قائماً حتى تكون الإنسانية كلها طبقة واحدة، وتتمثل مصالح كل فرد في مصالح تلك الطبقة الموحدة.. في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقق السلام

    ــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) شرحنا هذه النظريات مع دراسة علمية مفصلة في كتاب (اقتصادنا).

    {63}

    وتزول نهائياً جميع الآثار السيئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي لأنها انما كانت تتولد من تعدد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدد انما نشأ من انقسام المجتمع الى منتج وأجير. واذاً فلابد من وضع حد فاصل لهذا الانقسام، وذلك بالغاء الملكية، وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية وذلك لان الاقتصاد الشيوعي يرتكز:

    أولاً: على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاماً من المجتمع وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها الى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في ادارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق، انما كان رد الفعل الطبيعي لمضاعفات الملكية الخاصة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد برر هذا التأميم: بأن المقصود منه الغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ليختم بذلك الصراع ويسد على الفرد الطريق الى استغلال شتى الوسائل والاساليب لتضخيم ثروته، اشباعاً لجشعه واندفاعاً بدافع الاثرة وراء المصلحة الشخصية.

    ثانيا: على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للافراد، ويتلخص في النص الآتي: «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته». وذلك ان كل فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع

    {64}

    للمجتمع كل جهده فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته .

    ثالثاً: على مناج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفق فيه بين حاجة المجموع والانتاج في كميته وتنويعه وتحديده، لئلا يمنى المجتمع بنفس الادواء والازمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما اطلق الحريات بغير تحديد.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    الانحراف عن العملية الشيوعية:

    ولكن أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام، لم يستطيعوا ان يطبقوه بخطوطه كلها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا انه لابد لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين: ان الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية، وتحيى فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ولا يندفع إلاّ في سبيلها.

    ولأجل ذلك كان من الضروري ـ في عرف هذا المذهب الاجتماعي ـ إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك، ليتخلص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدة للنظام الشيوعي. وهذا النظام الاشتراكي أجريت فيه تعديلات مهمة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية. فالخط الأول من

    {65}

    خطوط الاقتصاد الشيوعي، وهو الغاء الملكية الفردية، قد بدل الى حل وسط وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أخرى الغاء رأس المال الكبير مع اطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للافراد، وذلك لأن الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا اليه، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لأن المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم كما ان المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديداً لأكثر من ذلك؟ فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه، هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟! ولماذا يندفع الى توفير السعادة لغيره، وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة إلاّ القيمة المادية الخالصة؟؟!، فاضطر زعماء هذا المذهب الى تجميد التأميم المطلق. كما اضطروا أيضاً إلى تعديل الخط الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً: وذلك بجعل فوارق بين الأجور، لدفع العمال الى النشاط والتكامل في العمل، معتذرين بأنها فوارق موقتة سوف تزول حينما يقضي على العقلية الرأسمالية، وينشأ الإنسان إنشاءا جديداً. وهم

    {66}

    لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية، لتدارك فشل كل طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفقوا حتى الآن للتخلص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي. فلم تلغ مثلاً القروض الربوية نهائياً، مع انها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.

    ولا يعني هذا كله. ان أولئك الزعماء مقصرون، أو أنهم غير جادين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم.. وانما يعني انهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات، التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للاصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشرون به ففرض عليهم الواقع التراجع آملين أن تتحقق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.

    واما من الناحية السياسية: فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل الى محو الدولة من المجتمع، حين تتحقق المعجزة وتعم العقلية الجماعية كل البشر، فلا يفكر الجميع إلاّ في المصلحة المادية للمجموع وأما قبل ذلك مادامت المعجزة غير محققة، وما دام البشر غير موحدين في طبقة، والمجتمع ينقسم الى قوى رأسمالية وعمالية.. فاللازم أن يكون الحكم عمالياً خالصاً، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال، ودكتاتوري بالنسبة الى العموم. وقد عللوا ذلك: بأن الدكتاتورية العمالية في الحكم

    {67}

    ضرورية في كل المراحل، التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية وذلك حماية لمصالح الطبقة العاملة، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ومنعاً لها عن البروز الى الميدان من جديد.

    والواقع ان هذا المذهب، الذي يتمثل في الاشتراكية الماركسية ثمّ في الشيوعية الماركسية. يمتاز عن النظام الديمقراطي الرأسمالي: بأنه يرتكز على فلسفة مادية معينة، تنبنى فهماً خاصاً للحياة، لا يعترف لها بجميع المثل والقيم المعنوية ويعللها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية، فانها وان كانت نظاماً مادياً، ولكنها لم تبن على أساس فلسفي محدد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية، آمنت به الشيوعية المادية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية، أو لم تحاول ايضاحه.

    وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركز عليها وانبثق عنها، فان الحكم على كل نظام يتوقف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وادراكها.

    ومن السهل ان ندرك في أول نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفف او الكامل: ان طابعه العام هو افناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها. فهو

    {68}

    على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحر الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخره لمصالحه. فكأنه قد قدّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ ان تتصادما وتتصارعا، فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين، الذي أقام تشريعه على اساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوه الحياة في جميع شعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فأصيب الافراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    المؤاخذات على الشيوعية:

    والواقع ان النظام الشيوعي وان عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرة، بمحوه للملكية الفردية؛ غير أن هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والاساليب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كله، لانه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها

    {69}

    الشر حتى اكتسح العالم في ظل الانظمة الرأسمالية، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الأجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحل الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبب أدواءها ويستأصل أعراضها الخبيثة.

    أما مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جداً: فإن من شأنه القضاء على حريات الافراد، لاقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة. وذلك لان هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامة، الى حد الآن على الاقل كما يعترف بذلك زعماؤه ـ باعتبار ان الإنسان المادي لا يزال يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الافراد نهائياً، ويقضي على الدوافع الذاتية قضاء تاماً.. موضع التنفيذ، يتطلب قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامة نطاقاً لا يجوز أن تتعداه بحال وتعاقب على التهمة والظنة، لئلا يفلت الزمام من يدها فجأة.

    وهذا أمر طبيعي في كل نظام يراد فرضه على الامة، قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعم روحيته.

    نعم لو أخذ الإنسان المادي يفكر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل

    {70}

    مصالحه بعقلية جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصة والاهواء الذاتية والانبعاثات النفسية.. لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الافراد، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادي، الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها إلاّ اللذة المادية يحتاج الى معجزة تخلق الجنة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيون يعدوننا بهذه الجنة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الإنسان، ويخلقه من جديد انساناً مثالياً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرة من القيم المثالية والاخلاقية. ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام. وأما الآن، فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكل أسلوب من الأساليب. والفرد في ظل هذا النظام وان كسب تأميناً كاملاً، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته، لأن الثروة الجماعية تمده بكل ذلك في وقت الحاجة.. ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة، ويضطر إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟!.

    {71}

    وكيف يمكن أن يطمع بالحرية ـ في ميدان من الميادين ـ انسان حرم من الحرية في معيشته. وربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينة، مع أن الحرية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحريات جميعاً.

    ويعتذرعن ذلك المعتذرون فيتساءلون. ماذا يصنع الإنسان بالحرية والاستمتاع بحق النقد والاعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عبء اجتماعي فظيع؟!. وماذا يجديه أن يناقش ويعترض وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه الى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرية؟!.

    وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية، كأنها القضية الإجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها، لأنهم رأوا فيها خطراً على التيار الإجتماعي العام.. ولكن من حق الإنسانية أن لا تضحي بشيء من مقوماتها وحقوقها، ما دامت غير مضطرة إلى ذلك، وأنها إنما تقف موقف التخيير: بين كرامة هي من الحق المعنوي للإنسانية، وبين حاجة هي من الحق المادي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ويوفق الى حل المشكلتين.

    ان إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة وأجر عادل وتأمين في أوقات الحاجة.. لهو إنسان قد

    {72}

    حرم من التمتع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة كما أن إنساناً يعيش مهدداً في كل لحظة، محاسباً على كل حركة معرضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة.. لهو إنسان مروع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغص الرعب عليه ملاذ الحياة.

    والإنسان الثالث: المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟.

    وقد قلنا: أن العلاج الشيوعي للمشكلة الإجتماعية ناقص مضافا إلى ما أشرنا اليه من مضاعفات. فهو: وان كان تتمثل فيه عواطف ومشاعر إنسانية، آثارها الطغيان الإجتماعي العام فأهاب بجملة من المفكرين إلى الحل الجديد، غير أنهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنما قضوا على شيء آخر فلم يوفقوا في العلاج ولم ينجحوا في التطبيب.

    ان مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الاجير وجهوده بلا حساب ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من

    {73}

    منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه الى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا انتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه الى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الاسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح اسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعفت كرامتها وحريتها...

    كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وانما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع. فان من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة، فلو ابدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة، تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    الإسلام والمشكلة الاجتماعية



    التعليل الصحيح للمشكلة:

    ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية علينا أن نتساءل: عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي، مقياساً ومبرراً وهدفاً وغاية نتساءل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟. فإن تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي، وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته، وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة، فقد وضعنا حداً فاصلاً لكل المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة، ووفقنا الى استثمار الملكية الخاصة لخير الإنسانية ورقيها، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.

    فما هي تلك الفكرة؟.

    ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فإن

    {78}

    كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة، وآمن أيضاً بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وانه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذة التي توفرها له المادة.. وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ اساليبهم كاملة ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.

    وحب الذات هو: الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الإنسان ذاته ـ الذي يعني حبه للذة والسعاة لنفسه، وبغضه للالم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار، اذا وجد أن تحمل ألم الموت اسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.

    فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو: حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختاراً مرارة الالم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلاّ اذا سلبت منه انسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الالم.

    {79}

    وحتى الالوان الرائعة من الايثار، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة ايضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية: (غريزة حب الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم.. ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه، او تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.

    وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الإنسان بصورة عامة، في مجالات الانانية والايثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتعة الجنسية وما اليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي او عقيدة معينة، حين يجد الإنسان ان تلك القيم او ذلك الاليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهيئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليتها.. باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد ان ألواناً

    {80}

    اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها. وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انساناً الى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع انساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه الى الايثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.

    فمتى أردنا ان نغير من سلوك الإنسان شيئاً، يجب ان نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.

    فاذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة: عن طاقه مادية محدودة وكانت اللذة عبارة: عما تهيئه المادة من متع ومسرات.. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأن مجال كسبه محدود، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال، الذي يفتح امام الإنسان السبيل الى تحقيق كل

    {81}

    أغراضه وشهواته.

    هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية، الذي يؤدي إلى عقلية رأسمالية كاملة.

    أفترى أن المشكلة تحل حلاً حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكرون؟!. وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟!، مع ان ضمان سعادته واستقراره يتوقف الى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الاصلاحية، في ميدان العمل والتنفيذ. والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة، عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وانما الفرق أن هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد، بين خسارة وألم يتحملهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم، فماذا تقدر للامة وحقوقها، وللمذهب وأهدافه، من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة، التي تمر على الحاكمين؟!. والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي أفترضناه، بالغاء مبدأ الملكية الخاصة، بل هي

    {82}

    تتمثل في أساليب وتتلون بألوان شتى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين والتوائهم على ما يتبنون من أهداف.

    ان الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق، والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية.. تسلم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصة ـ الى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.

    فالخطر على الإنسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية وما ينبثق عنها من مقاييس للاهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية ـ الصغيرة أو الكبيرة ـ في ثروة كبرى يسلم امرها للدولة، من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية.. لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الأمة جميعاً عمال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.

    نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية. في أن

    {83}

    أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فهم لايملكون شيئاً من ذلك، في مفروض النظام، غير أن ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادي للحياة ـ الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرراً ـ لا يزال قائماً.

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني