النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي الشهيدة بنت الهدى: ليتني كنت أعلم

    ليتني كنت أعلم

    القاصة والروائية
    بنت الهدى



    بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة
    كانت القصة والحكاية في الأيام الدابرة هواية بحتة للشباب والفتيات وترف أدبي يلتجىء إليها بعض الأدباء والقصاصين للترفيه على الإنسان الذي يرزح تحت أعباء مشاكل الحياة والتسلية للهارب عن الواقع المعاش الكئيب.
    ولكنها غدت فناً جميلاً يفصح عن مغزىً يهدف إليه الروائي من ثنايا الرواية والقصة فكم من فلاسفة قد أعربوا عن وجهات نظرهم الفلسفية عبر القصص ؟ وكم العابثين والمستهزئين بالقيم والاخلاق أو التقاليد والأعراف قد حققوا رغباتهم وميولهم في الكتب الروائية ؟ وكم من المخلصين والمرشدين قد وجهوا المجتمع وانقذوا الشعب من الانحطاط والرذائل من خلال الحكايات والأحاديث العذبة الروائية ؟
    لقد أصبحت القصة مدرسة هادفة يقصدها كثير من الكتّاب المعاصرين لبلوغ مآربهم الاجتماعية والفلسفية والأدبية.
    إن الفاضلة الكاتبة بنت الهدى من المؤلفات التي انتهجت هذا المنحنى لرسم طريق الهدى في كتبها الإسلامية . وقد وضعت مجموعة من القصص الصغيرة الرائعة ذات المضامين الاجتماعية والاخلاقية للجيل الناشىء الذي لا يبصر إلا الظواهر ولا يدرك إلا البريق الخاطف.
    وفي هذا اليوم أقدم لكم هذا السفر الهادف لهذه الكاتبة القديرة لعل الله بهاته ينقذ هذه الطليعة من التيه والفساد.
    الناشر




    ليتني كنت أعلم
    جلست ( انفال ) في عيادة الطبيب ، تنتظر نتيجة الفحص ، وكانت تستعجل الوقت لأنها مدعوة إلى حفلة ! لم تكن تفكر في طبيعة النتيجة بقدر ما كانت تخشى من تسرب الوقت وفوات موعد الحلاقة ، فهي لم تكن تجد في التحليل الذي تنتظر نتائجه سوى إجراء احتياطي جاء نتيجة رغبة الأهل واهتمامهم بأمرها ، وإلا فهي لا تحس بأي عارض مخيف ، ولا تستشعر من المرض ما يريب ، عدا بعض الآلام الطفيفة في المفاصل ، وأخيراً استدعيت إلى غرفة الطبيب ، فدخلت عليه وهي مستعجلة إنهاء الأمر ، والاسراع في الخروج ، وفوجئت عندما دخلت بسحابة من كآبة ترين على وجه الطبيب ، الشيء الذي دعاها أن تقول عندما سألها :
    هل أنت صاحبة التحليل ؟
    كلا إنها ابنتي.

    فقد أرادت أن تعرف الحقيقة ، ولعله سوف يتحفظ معها لو عرف أنها صحابة التحليل ، ووقفت أمامه تنتظر ، فأشار
    إلى كرسي هناك ، وطلب منها أن تجلس فجلست ، وقد بدأ الوجل يتسرب إلى نفسها ، وتطلعت إليه في لهفة ، ولكن ليس من أجل الخروج في هذه المرة بل من أجل فهم الحقيقة.
    قال :
    لماذا لم ترسلوا رجلاً بدلاً عنك لأخذ النتيجة يا أنسة ؟
    قالت :
    لأني كنت مارة من هنا ولهذا لم نجد ما يستدعي إرسال سواي ثم أنني أتمكن أن أسمع الحقيقة مهما كانت.
    فسكت الطبيب وهو ينظر إليها في جد مشوب بالأسف ثم قال :
    إن هذا يؤكد أنك فتاة مثقفة فاهمة لطبيعة الحياة.
    قال هذا ثم سكت ، فسرت في جسمها رعدة من الخوف وتساءلت :
    كيف ؟ وماذا تعني يا دكتور ؟ قال إن نتائج التحليل تشير إلى وجود مرض في الدم.
    قال هذا ثم سكت وأطرق في أسى ، فلم تجد أنفال
    حاجة لأن تستزيده أو تستوضحه أكثر ، فرددت في فزع قائلة ( سرطان ) ؟
    ولم يرفع الطبيب رأسه وبقي ساكتاً في ألم من أجل هذه الأخت المصابة ، وكان هذا السكوت بمثابة حكم بالاعدام عليها فغمغمت تقول في شبه حشرجة :
    آه لقد انتهيت إذن ...
    وهنا عرف الطبيب أنها كانت تكذب عليه .. نعم عرف ذلك ولكن بعد فوات الأوان فرفع إليها وجهه ونظر نحوها نظرة حنو وقال :
    أنني آسف ، لماذا كذبت عليّ يا بنتاه ؟ ولكن وعلى كل حال فإن الموت والحياة بيد الله وكم من مريض عاش وصحيح مات ؟
    وكانت ( أنفال ) تشعر أن روحها أخذت تغور إلى الأعماق وأن يداً فولاذية امتدت لتشد على قلبها فتعصره في قساوة ولكنها استجمعت فلول قوتها وهي تقول :
    أرجو المعذرة يا دكتور وشكراً.
    فرد عليها الطبيب مشجعاً :
    كوني قوية ومتفائلة ، فإن الطب لا يزال
    في تقدم ولعل المرض الذي لا يوجد دواء له اليوم سوف يوجد دواؤه غداً ولهذا فإن الأمل لا يزال موجوداً وسوف أبحث عن أحدث الأفكار الطبية لعلني أجد الدواء المطلوب ولهذا فأنا أرجو أن تتركي لي رقم تليفونك يا بنتاه.
    وبطريقة روتينية ذكرت له رقم الهاتف فهي لم تكن تعي ما تقول أو ما يقول فقد كانت تعيش آثار الصدمة في عنف ومرارة ثم أعادت عليه كلمة الشكر وخرجت.
    وفي البيت ... كتمت الحقيقة فلم تكن تعرف أو تقوى أن تتحدث عنها ثم إنها وجدتهم في شغل عن ذلك بالاستعداد للذهاب إلى الحفلة ... وسألتها أمها قائلة :
    ألم تمري على الدكتور يا أنفال ؟ ثم لماذا لم تذهبي إلى الحلاقة ؟
    كان السؤال عابراً غير منتظر للجواب ولهذا فقد ردت عليها باقتضاب قائلة :
    لأنني سوف لن أذهب إلى الحفلة ، قالت هذا وصعدت إلى غرفتها وأغلقت الباب من الداخل ثم استلقت على السرير وهي بكامل ملابسها وأصوات أهلها تصلها وكأنها تأتي من وراء بعد ساحق وكان
    صوت الريح يطرق أذنها فتجد فيه عزفاً جنائزياً حزيناً وكأنه العويل الذي ينعى إليها شبابها وحياتها الفتية ...
    حتى غرفتها الحبيبة إليها أصبحت تجد أنها غريبة فيها ما دامت راحلة عنها بعد قليل والبيت ؟ أنها أصبحت ضيفة في هذا البيت وسوف تتركه مجبرة لكي يحل آخرون مكانها فيه يذكرونها فترة ثم ينسونها بعد حين ، وحاولت أن تبكي فلم تسعفها الدموع فهي تريد أن تفكر ولا تريد أن تبكي وتلفتت حولها في ألم ... وجدت الستائر التي بذلت الكثير من الجهد حتى حصلت عليها والتي فتشت عن أحلى وأحدث تصميم لخياطتها ، هذه الستائر سوف تبقى لتذهب هي إلى غير رجعة فماذا يهمها الآن لو كانت من خام او كتان ؟ أنها ذاهبة عنها ومخلّفتها لسواها ، ليتها ما بذلت الجهود من أجلها ، ليتها وفرت ذلك الوقت والمال لشيء يفيدها في محنتها هذه ، وهنا بدأت تفتش في ذاكرتها عن شيء لعله يفيد ماذا ؟ أن لديها كل شيء الشباب . والجمال والثقافة والمال والأثاث والرياش. ولكن هل يفيدها شيء من ذلك أو يدفع عنها خطر الموت ؟ إنها كانت تتمنى لو تصبح موظفة تتقاضى راتباً شهرياً محترماً وها هي الآن موظفة تتقاضى راتباً ولكن هل سوف يستنقذها راتبها من الموت ؟ وهنا خطرت لها فكرة سارعت إلى التليفون وكان البيت قد أصبح خالياً إلا منها فقد ذهب الجميع إلى الاحتفال فاتصلت بطبيبها وتساءلت في لهفة قائلة :
    لو ذهبتُ إلى الخارج هل سوف أجد علاجاً شافياً هناك ؟
    قال :
    ليس هناك من جديد أنها أتعاب وخسارة بدون فائدة...
    فأغلقت السكة وجلست على المقعد بجوار الهاتف متهالكة ... حتى راتبها لا يغير من الواقع شيئاً ... ثم نهضت تتجول في أرجاء البيت وكأنها تريد أن تودع هذه المعالم الحبيبة اليها وألقت نظرة على الحديقة وقالت ليتها تعلم ، ليت هذه الأشجار تعلم أنني راحلة. ليت هذه الأحجار تفهم أنني راحلة ليت هذه الجدران تعرف أنني راحلة وأنني سوف لن أبدو متنقلة بين جوانبها بعد الآن ، ليت هذه الأبواب تفهم بأنني راحلة وأن يدي التي كانت أول فاتح لها سوف لن تفتحها بعد اليوم ، ليت هذه الروض يتمكن أن يستوعب معنى أنني راحلة ، وهذه الأزهار التي غرستها يداي في التربة مستهينة بجميع ما كلفني ذلك من وغزرات شوك مدمية أو صلابة صخور متحجرة هذه الزهور التي طالما سقيتها من عرق جبيني إذا انقطع عنها الماء ورويتها من دموع عيني متى ما لاحت عليها علامات الذبول. أما الآن فليتها تعلم بأنني راحلة ، هذه الأشجار المثمرة التي استلمتها صغيرة ضعيفة فأمددتها بما وسعني من عناصر الحياة
    والرواء حتى اهتزت وربت وأنبتت نباتاً حسناً ، هذه الأشجار أتراها تفهم بأنني راحلة أو تراها سوف تذكر احتضاني لها أيام زمان حينما كانت لي معها أيام ؟ آه ليتها تعلم وليتها تفهم ، ثم هذه المقاعد التي كانت تحتضن رأسي تارة وتسند ساعدي أخرى أتراها تحس بأنني راحلة عنها عما قريب ، أم تراها سوف تستبدل بي غيري وتمهد الجلوس لسواي ومنضدتي هذه التي كتبت فوقها بالدموع مرة وبالبسمات مرات أتراها تعلم بأنني راحلة ؟ وهل تفتقد رنة قلمي فوقها وموضع أوراقي داخل جرارها ، آه ليت كل ما حولي يعلم بأنني راحلة... ثم ( ليتني كنت أعلم ) بأنني راحلة إذن لما عشت الحرص على الدنيا ولما استشعرت الفخر والغرور ، نعم ليتني كنتُ أعلم بأنني ضيفة في هذه الدنيا أذن لما خدعتني بخداعها ولما غرتني بزخرفتها. ( ليتني كنت أعلم ) إذن لعرفت أن الرحيل عن حياة بسيطة هو أسهل من الرحيل عن حياة منعمة مترفة ، لو لم أكن أعيش هذا الترف لكانت النقلة من هذه الحياة إلى تلك الحياة أسهل بالنسبة إليّ ، إن أهلي الآن في الاحتفال... هذه الاحتفالات التي كثيراً ما كنت أنتظرها في المناسبات وأعد من أجلها الفساتين وأفتش بسببها عن أحدث التسريحات هل أغنت عني شيئاً من طربها وسرورها ؟ وهنا تهاوت أنفال على مقعد إلى جوارها وكأنها توصلت إلى حقيقة كانت تجهلها وقالت :
    ماذا آخذ معي ؟ وهل آخذ معي شيئاً
    سوى الأكفان والأعمال ؟ ولكن ما هي الأعمال التي سوف تصحبني خلال هذه الرحلة البعيدة ؟ لا شيء ! نعم لا شيء !
    وسرح بها الفكر بعيداً إلى نصائح صديقتها سرّاء عندما كانت تحبب إليها طاعة الله قائلة :
    ( فَتَزَوَّدوا إنَّ خّيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) إنها حينئذ لم تكن تشعر بأهمية الزاد ، أما الآن فهي في حاجة إلى زاد ، في حاجة إلى عمل صالح تقدمه بين يديها أمام الله ، بماذا تجيب يوم الحساب ؟ كيف سوف تطلب الرحمة من ربها وقد عصته في أبسط الاشياء ؟ كيف سوف تأمل العفو من خالقها وهي لم تستجب لأمره خلال مسيرتها في الحياة ؟ ليتها كانت قد قرأت القرآن بدل الساقط من الروايات . ليتها كانت قد تعرفت على دينها عن طريق الكتب بدلاً عن طريق التعرف على مسارح هوليود عن طريق المجلات ... واستمرت أنفال تقول ليتني ليتني ما أسخطت فلانة ولا اعتديت على فلانة ، ليتني ما كذبت على أحد وما اغتبت أحداً ، ليتني ما اسكتبرت على فقير ولا استعليت على مسكين ، ليتني أعيش من جديد لكي أصحح أخطائي وأعمل ما يرضي ربي ، لقد عبدت أهوائي ورغباتي وتجاهلت عبادة ربي ، ليتني أعيش إلى فترة عسى أن أكفر عن سيآتي . وخطرت ببالها آية سمعت جدها يقرؤها يوماً :
    ( حَتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعونِ * لعلي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) وكأنها تناجي ربها بذلك... كلا أنها ليست كلمة عابرة أعني ما أقول يا رب ... وهنا وخلال مناجاتها لرب الرحمة انبجست الدموع من عينيها بحرقة وغزارة وأسندت رأسها إلى يدها وأخذت تبكي. نعم تبكي ولكنه بكاء ندم وليس بكاء ألم ، وصممت أن لو أمتد بها العمر فسوف لن تعصي الله طرفة عين ، ورن جرس الهاتف فقامت إليه متثاقلة ورفعت السماعة لتقول ( نعم ) وكان صوتها متهدجاً قد غيرته الدموع فجاءها صوت يقول :
    هل أن الآنسة أنفال موجودة ؟
    فعرفت أنفال الصوت ، أنه صوت الطبيب ! قالت :
    نعم إنها أنا يا دكتور. فاندفع يقول في فرحة صادقة : تهنيك السلامة يا بنتاه ، إنه اشتباه ، أنك صحيحة سالمة والحمد لله...
    وأذهلتها الكلمات فلم تعد تعرف بماذا تجيب ورددت وكأنها في حلم قائلة :
    سالمة وكيف ؟ لعلك تهزأ بي يا دكتور ؟ قال : معاذ الله أن أكون هازئاً ولكنه
    اعتذار وصلني الآن من المشرف على التحليل يشرح فيه أنه وقع في خطأ إذ سجل اسمك أمام اسم مريضة أخرى ، وها هي نتيجة تحليلك سالمة من كل ما يضير فاحمدي الله على سلامتك يا بنتاه ...
    فرددت أنفال معه كلمات الحمد قائلة :
    الحمد لله . وشكراً لك يا دكتور.
    ثم أغلقت السكة وهي تحس بأنها تحيا من جديد وتذكرت ما عاهدت الله عليه وعرفت أنها إن نجت من موت معلوم الوقت فهي لن تنجو من موت مجهول الوقت وإن الانسان ضيف في هذه الدنيا مهما طال به الأمد ... فكان أول عمل قامت به أنها توجهت إلى القبلة لكي تصلي صلاة المغرب والعشاء بعد أن بعد بها العهد عن الصلاة ، وحين انتهت من أداء الفريضة عاهدت الله من جديد أن تبقى متمسكة بكل ما أمرها به من صلاة وصيام وحجاب وأن تترك كل ما نهاها عنه ، ولأجل أن لا ننسى فقد خطت هذه الآية المباركة وجعلتها على جدار غرفتها : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعني لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخُ إلى يوم يبعثون ) ووضعت في الجهة المقابلة الحكمة التي تقول : « تب
    قبل موتك بيوم ولما كنت لا تعلم متى تموت فكن تائباً على الدوام ».
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    صفقة خاسرة
    جلس أمامها في وله لكي يقول لها :
    بأنني أحبك إلى درجة العبادة ، وبأنك حياتي التي لا غنًى لي عنها...
    صحيح أنهما كانا في بداية أيام الخطوبة ولكنه كان يؤكد لها أن الحب كالتيار الكهربائي الذي لا تحتاج انطلاقته إلى مزيد من المقدمات !! وكانت تستمع إليه في سعادة وتستشعر لكلمات الاطراء بشيء من الغرور قال :
    أنه يود لو تم العقد في أقرب فرصة فهو لم يعد يجد للحياة معنى بدونها ! وقال أيضاً أنه يعجب كيف أمكن له أن يعيش سنيّ حياته الماضية وهو بعيد عنها فهي قد أصبحت بالنسبة إليه محور السعادة ومنطلق الهناء ! قال أنه سوف يستأجر بيتاً كبيراً فخماً يتماشى مع حجم السعادة التي يحسها ، وقال أيضاً أنهما سوف يقضيان
    شهر العسل في الخارج لأن حياة زوجية تقوم على مثل هذا الرصيد الضخم من الحب لا يناسب استهلالها إلا مصايف باريس !!
    وكان يتحدث باندفعان ويملأ حديثه بكلمات الحب والاعجاب ... وكانت هي سارحة وراء أحلامها التي بدأت تتحقق في شخص هذا الخطيب ... وانتبهت على خصلات من شعرها أخذت تتطاير فوق جبينها فرفعت يدها إلى شعرها تصففه وهي تقول في دلال :
    لكم كنت تتعجل الخروج بشكل لم أتمكن فيه حتى من ترتيب شعري ؟ قال : أن شعرك جميل على أي صورة كان وأنت مرتبة على أي حال من الأحوال.
    فابتسمت في زهو وكأنها أرادت منه المزيد فقالت :
    حتى فستاني الجديد لم تنتظر حتى يصلني من الخياطة.
    قال :
    ألم أقل لك أن هذا لا يهم ؟ أنا لا أهتم بأمثال هذه الأمور ما دام الهدف الحقيقي قد تحقق من حصولي عليك يا عزيزتي.
    قالت في شيء من الحماس :
    أتراك هكذا حقاً ؟
    قال : نعم وأقسم لك بحبي على صحة ما أقول .
    قالت : إذن فأنا سعيدة إذا كنتُ أتمنى أن أحصل على زوج لا تهمه المادة...
    قال : نعم أنني هكذا وسوف تلمسين بنفسك صدق ما أقول ...
    فتشجعت من جوابه وقالت :
    نعم أن المادة هي عرض زائل وأنا لا أحسب لها في حياتي أي حساب ولهذا فقد تنازلت لأبي عن جميع ما كنت قد أدخرته من راتبي حينما وجدته في ضائقة مالية...
    وهنا وعلى خلاف عادته في الاسراع في الجواب سكت برهة ولكنه استعاد نشاطه بسرعة وقال :
    لطيف أن تمدي إلى أبيك يد المساعدة فأن الضائقة المالية قاسية لا تطاق ولهذا فأنا أشك بمقدرتنا على استئجار بيت كبير !!
    قالت :
    المهم في البيت أن يكون مريحاً سواء كان كبيراً أو صغيراً...
    قال :
    نعم وأن تكون فيه وسائل الراحة من ثلاجة ومكيف هواء وغسالة واشباه ذلك ...
    قالت :
    إن هذه حوائج تشترى بشكل تدريجي فنحن نتمكن في البداية أن نكون على شيء من البساطة لأن أبي كما لعلك تعلم لا يتمكن في الوقت الحاضر أن يساهم بشيء يذكر..
    فأطرق برهة وهو يتشاغل بتوقيت ساعته ثم رفع رأسه في شيء من البرود قائلاً :
    إن البساطة لطيفة في كل شيء ولهذا فإن في إمكاننا أن نستغني عن السفر إلى الخارج !!.
    قالت :
    نعم ان هذا هو الاصلح سيما وأنني مرتبطة ببعض السلف والأقساط !!
    وهنا لم يتمالك نفسه فقال بشيء من الحدة :
    إذن فأن راتبك مستهلك على ما يبدو ؟
    قالت :
    تقريباً...
    فتململ في جلسته ثم قال :
    وأنا أيضاً مرتبط بكثير من الديون والسلف ولهذا سوف لن أفكر في أمر الزواج حالياً !!
    ثم نهض وهو يقول :
    أخشى أن لا أتمكن من رؤيتك ثانية ولهذا اتمنى لك كل السعادة وموفقية !.
    قال هذا ثم انصرف وكأنه هارب من وحش مخيف !! وكأن هذه لم تكن قبل قليل حبيبته التي لا يتمكن أن يحيا بدونها ... وتقدم منها الجرسون يطلب دفع الحساب فعرفت أنه خرج حتى دون أن يدفع فحدثت نفسها قائلة وهي
    تضحك : لقد كنت أظن هذا ولذلك حشدت له هذه المجموعة من الأكاذيب ، إنه غبي ، فقد فاته أنني كنت اختبره في ذلك وأن رصيدي في المصرف ضخم وأنني غير مرتبطة بأي سلفة ولكن الخير فيما وقع فقد كانت ( صفقة خاسرة ) بالنسبة إلي.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    آخر هدية
    كانت تعيش في قلق وانتظار ، فماذا كانت تنتظر يا ترى ؟ بعد أن رحل عنها الحبيب وفار قها القرين ؟ لقد كانت تنتظر هدية ! نعم هدية ارسلها اليها قبل أن يرحل وقبل أن يغلق عينيه الغاليتين عن هذه الحياة ليفتحها من جديد في عالم النور والخلود وهدايا الحبيب حبيبة مهما كانت لأنها التعبير المجسد للعواطف والمثال الناطق عن التجاوب والتقارب ، ولكن هذه الهدية فريدة في بابها لأنها هدية زوج راحل أعدها لكي تصل إلى يد زوجته في وقت يكون هو فيه قد فارق الحياة ... أنها ذخيرة واحدة من مجموع ما أمدها به من ذخائر ثمينة خلال أيام اللقاء ... ولهذا كانت تنتظرها بفارغ صبر ولهذا أيضاً كانت تتساءل عمن عساه يعرف من أمرها شيئاً ... لقد أخبرها بذلك قبل أن يرحل عندما كانت يتدرب على خوض معركة الانتصار معركة الكرامة وأكاليل الغار ولكنه رحل قبل أن يسلمها إياها . نعم أنه رحل وتركها تنتظر عودته سالماً يحمل إليها معه هديته المنتقاة ... ولكنه لم يعد ، نعم أنه لم
    يعد وأنّى له أن يعود ؟ إن من يذهب إلى ساحة الحرب وهو مؤمن بقضيته التي يدافع عنها من العسير عليه أن يعود دون أن ينال إحدى الحسنيين :
    ( فأما حياة تسر الصديق * وأما ممات يغيظ العدا )

    كثيرون أولئك الذين ذهبوا وعادوا للحياة ... ولكن أتراها حياة هذه التي اشتروها بثمن باهظ من الانهزامية والتخاذل والاستسلام ؟ كلا أنها الموت بعينه والله ... وزوجها الراحل ، هذا الشهيد الذي سقط في ( معركة الكرامة ) وهو يدافع عن أرضه المغتصبة ، ودياره المباحة نعم زوجها الذي فارقها قبل أن تطفأ شمعة عرسه وودعها وزهرة زواجهما لم تتفتح بعد ، هذا الحبيب الذي غرس في نفسها من قبل أن الروح الغالية حقاً هي التي ترخص أمام الواجب ولهذا خلفها وهي ما زالت ترفل في ملابس عرسها . وذهب إلى ساحة الجهاد ، هذا الحبيب كان قد وعدها بهدية فما الهفها على استلام تلك الهدية الحبيبة لقد انتظرته طويلاً وهو في مكانه البعيد تتسقط اخباره وتتابع آثاره وتبتهل إلى الله أن يشد أزره ويضاعف صبره وثباته في مجابهة العدو ... ثم ها هي الآن تنتظر هديته بعد أن خاب انتظارها لشخصه الحبيب بعد أن سقط شهيداً في معركة البطولة وملحمة الحق والكرامة ، أفتراها تنسى أنه كان قد وعدها بهدية وأنّى لها أن تنسى ؟
    وقد نقشت صورته على صفحات قلبها بخطوط من نور زادها الموت بهاء ورداء ... أنه فارس أحلامها حياً وميّتاً . أنها ما زالت تعيش معه وتعيش من أجله وهي فخورة به سعيدة لذكراه ، إذن فمن حقها أن تنتظر الهدية وتترقبها في شوق وحنين ... ثم وصلتها الهدية بعد فترة من الزمن قصيرة في حساب الأيام طويلة في حساب العواطف والأحداث ... نعم لقد وصلتها الهدية فتطلعت نحوها وهي ما زالت في اليد التي حملتها اليها من بعيد ... تطلعت إليها كما تطلعت إليه من قبل شهور وهي تراه لأول مرة كطيف ملائكي مشرق بالنور ، وعادت بأفكارها إلى تلك اللحظات حيث كانت تتطلع إليه كأمل لحياة زوجية سعيدة وحيث كادت تهتف لولا رادع من حياء ـ أنه أمل حياتي وفارس أحلامي المنتظر ـ نعم إنه كان ولا يزال فارس أحلامها وأمل حياتها حتى ولو أنه ذهب ولن يعود. لأنه ذهب من أجلها هي ، من أجل كل زوجة مظلومة . من أجل كل طفل بائس من أجل كل شاب تائه نعم أنه ذهب من أجل أن يعيد إليها وإلى كل فرد كرامته ووطنه السليب ، ذلك الوطن المقدس الحبيب الذي أصبح نهباً للدخلاء والعملاء والمستعمرين ، أفلا يحق لها أن تبقى تعيش معه ومن أجله كما كانت تعيش من قبل ؟ وامتدت يدها تستلم الهدية وكل ذرة في كيانها تنطلق بالفرحة والحسرة وفتحتها أمامها وأطرقت ملياً تتطلع اليها ببلسم من بلاسمه التي طالما مسح بها على جراح قلبها من قبل فماذا كانت
    الهدية يا ترى ؟ كانت لوحة خضراء كتب عليها بحروف بارزة هذه الآية الكريمة :
    ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون ).
    وعلقتها حيث يمكنها أن تفتح عليها عينيها في كل صباح وحيث تكون آخر ما تبصره عيناها في كل مساء تماماً كما كان هو من قبل ... ثم وقفت أمامها لكي تعاهد الله وتعاهده من جديد بأنها سوف تبقى سائرة على الطريق الذي سار به من قبل حتى تجد أمامها راية الحق وهي ترفرف فوق الأرض المحتلة في فلسطين ، ومتى عصف بها الشوق أو ضج بها الحنين تذكرت الآية المباركة لكي تكتسب منها مزيداً من الإطمئنان...
    واحسرتاه ، لم أكن أعلم أن تلك كانت هي أيامها الأخيرة وان ذلك اللقاء كان هو اللقاء الأخير ، ليتني علمت ذلك... نطقت ( سراء ) بهذه الكلمات التي خنقت العبرات بعض حروفها وشاركت الشهقات البعض الآخر واستمرت تردد في يأس : ليتني علمت ذلك ... وكانت صالحة لا تزال تقف أمامها بصمودها الذي ساعدها على حمل هذا الخبر المشؤوم . فما كان منها إلا أن مدت إليها يداً حاولت أن تجعلها ثابتة ولكنها كانت ترتجف وودت لو أنها دافئة وهي باردة كالصقيع ، مدت إليها هذه اليد وهي تقول ما الذي كان يجديك يا ( سراء ) أنها جنبتنا جميعاً معرفة أنها سوف تنتهي وآلام ذلك واستقبلت حكم انتظار الموت بصمود وانطوت وحدها أهوال ذلك الانتظار ، فماذا كان يجديك معرفة ذلك يا سرّاء ؟ قالت : لو كنت أعلم لتزودت منها زاداً يرشدني ويساعدني على شق طريقي في الحياة ، ثم لألقيت
    نظرة أخيرة أُودعها جميع ما أكنه لها من حب وأحكي لها من خلالها قصة الود الصادق والوفاء الذي لا يزول. آه يا لضيعتي ببعدك يا أختاه ؟ ما أراني إلا تائهة بعدك بين أمواج الحياة ؟ وهنا عادت صالحة لتقول :
    أنها كانت تعرف مكانتها لديك ولهذا فقد أوصت إليك بكتاباتها الاخيرة.
    فانتفضت ( سراء ) ومسحت دموعها لتتطلع إلى صالحة وهي تتساءل :
    كتاباتها الأخيرة ؟
    قالت صالحة :
    نعم يبدو أنها كانت تكتب مذكرات ... وها أنا قد سافرت اليك لأحمل لك هذه الوديعة الغالية.
    قالت صالحة هذا ثم أخرجت من محفظتها دفتراً وقدمته إلى سرّاء . فمدت سرّاء يدها نحوه وهي ترتجف وسرعان ما طالعتها ورقة بيضاء قد ألصقت على غلاف الدفتر وهي تحمل هذه الآية المباركة ـ فرددت قائلة : إنا لله وإنا إليه راجعون ثم فتحت الدفتر لتقرأ على صفحته الأولى هذا العنوان ( الايام الاخيرة ).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    « الأيام الأخيرة »
    بسم الله الرحمن الرحيم

    بالأمس عرفت أنني سوف انتهي وبسرعة ! عرفتُ أن حياتي أصبحت تعد بالأيام ، فما هي إلا مسألة وقت فقط ، وأنها النهاية على كل حال من الأحوال ، نعم النهاية ، ولكنني الآن لا افكر بالنهاية كما أُفكر في البداية وفيما يفصل بينهما من أحداث فإن ذلك يرتبط في الصميم مع الوضع الذي سوف تكون عليه النهاية ، كما تقول الآية المباركة : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) إذن عليّ أن أُراجع نفسي وأُحاسبها لأعرف ما الذي ينتظرني هناك ؟ النور أم الظلمة ؟ السرور أم الوحشة ، القيود أم الانطلاق ؟ ولهذا ، فأنا الآن لا أُفكر في النهاية كما أُفكر في البداية ولكن ما هي البداية ومتى يحق لي أن أُوقّت بداية حياتي ؟ هل يكون ذلك من زمن
    الطفولة ؟ ولكن كلا ... فأنا لا أريد أن أكتب هنا قصة حياتي فأشغل بها الآخرين ولكنني احاول أن أُصور مشاعري ، مشاعر الانسان عندما يقف على مفترق طريقين. الحياة الأولى ، والحياة الثانية. ولهذا فلا دخل لطفولتي في ذلك ولا ارتباط لها مع تحديد ما ينتظرني الآن ... لأن الطفولة هي فترة المهلة التي أعطاها الله للانسان قبل توجيه التكليف إليه ، ثم أن للطفولة بعض المعاني التي لم أتعرف عليها ، فقد سمعت كثيراً عن الطفولة كما وقد قرأت الكثير عنها ، قيل : أنها عالم زاخر بالمرح والانطلاق ، عامر بالأماني والآمال ، وقيل عنها أيضاً : أنها فرصة تتوفر خلالها أسباب السعادة للطفل لأنه سوف يكون سعيداً بما لديه راضياً عن حياته ، نعم قيل هذا وقيل عنها ما هو أكثر من هذا وقد سمعت ما قيل وقرأتُ ما كتب ولكنني شخصياً لم أتعرف على معنى الطفولة كما يصورها الآخرون فلم تكن طفولتي بالنسبة لي سوى فترة من حياة خضتها بدون سلاح من تفكير أو
    شد من إيمان فأرهقتني بآلامها وأربقتني بإحكامها وحيرتني بالصراع الذي كنت أُعانيه بين نفسي الكبيرة وجسمي الصغير وبين مسؤوليتي الخطيرة وتفكيري الضعيف ولهذا فان الطفولة لا تعني بالنسبة لي إلا فترة زمنية جامدة غير معطاء ، فلأدع محاسبة أيام الطفولة لأبدأ بدارسة ومحاسبة أيام الصبا والشباب...
    الصبا ؟ أنه شريط يمر أمامي وهو مثقل بالصور ينوء تحت وطأة ثقلها تارة ويتراقص لخفة حملها أُخرى ، أنه مسرح يحكي قصة النفس التي تاقت إلى التكامل فتلفتت حولها تفتش عن الخيط الذي يصل بها إليه ثم أردت أن أفهم ، فلم أكن أرضى من فهم الحياة مجرد ظاهرها وإنما كنت أغور في الأعماق لأصل إلى ما أهدف إليه وأنشده ، فهمتُ من الكون أن هناك يداً عظيمة تسيره وقوانين ثابتة تقدره فإذا به على هذا النسق وهذا الجمال ... ثم سبرت أغوار النفوس ... فكانت الحيرة وكان التردد بل وكانت التعاسة والخيبة في كثير من الأحيان كنتُ أبحث
    عندهم عن الحب لا الرياء ، والصداقة لا الرفقة ، والصدق لا الزيف ، فكثيرا ما كنتُ أعود كليمة الفؤاد دامية القلب صريعة الدمعة. نعم كثيراً ما كنت أعود كليمة الفؤاد دامية القلب صريعة الدمعة. نعم كثيراً ما كنت أعود هكذا وليس دائماً والحمد لله. ولكنني في كل تجربة كنت استمد منها مزيداً من العلم ومزيداً من المعرفة بتلك الطبائع وتلك الخفايا... ومن ثم بقيت وأنا أطلب المزيد من الفهم والمزيد من المعرفة. فأين وجدتها يا ترى ؟ وجدتها في معرفة اسلامي الذي به أدين ووجدتها في قرآني الذي أعرف أنه رسالتي السماوية في الحياة... فهرعت إلى هذا الرواء وأنا على لهفة الظمأ والحرمان ، كانت هذه هي بداية فترة الصبا التي أحاول أن استعيد ذكرى أيامها في كتابة هذه السطور... نعم وساعاتها بكل ما زخرت به من سعادة وشقاء وسخط ورضاء لأرى مدى مسايرتي لكل ذلك دون أن انحرف عما رسمه الله لي في الحياة ، وما أراني الآن وأنا واقفة على
    أبواب الآخرة إلا مدفوعة إلى إقرار الحقيقة مهما كانت ، حقيقة موقفي من الأحداث وواقع تفاعلي معها على أساس الايمان ، لأن اللف والدوران ومحاولة تغطية الحقائق سوف لن يجديني نفعاً وأنا في طريقي إلى المثول أمام الحاكم العادل حيث لا إنكار ولا إصرار ، لا مغالطة ولا مواربة : ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) إذن فلأكن صريحة في محاسبة نفسي ودراستها ولأكن واقعية في تلك المحاسبة ! ولكن ألم أكن أعلم أن الموت خط على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ؟ ألم أكن سمعت من قبل قول إمامنا عليه السلام : « أيها الناس أنكم طرد الموت » إذن فلست وحدي من ينبغي أن يتوخى جانب الصراحة في محاسبة النفس ولكنه كل إنسان !! نعم كل انسان عرف أنه وجد ليتكامل عن طريق العبادة ثم ليموت بعد ذلك فيجني حصاد ما قدمت يداه.
    يا آمن الأيام بادر صرفها * واعلم بأن الطالبين حثاث
    الفاقة المالية
    والآن ، فلأقرار الحقيقة ، لقد مررت في بداية عهد الصبا بضائقة مالية خانقة امتدت خيوطها نحو المأكل والمشرب والمسكن والملبس والفقر حالة قاسية يجر معه اشكالاً وأشكالاً من المآسي والآلام فماذا كان شعوري حين ذاك ؟ هل ضعفت أمام الأزمة أم قويت حتى جعلتها تضعف أمامي ؟ الواقع أنها كانت تجربة أشعرتني بأهمية الايمان في حياة الانسان وعلمتني مفهوم كلمة الرسول الأعظم التي تقول : ( ليس منا من لم يتغنى بالقران ) فالانسان وأي انسان مهدد لأن يتعرض لأزمة مالية أو فاقة مادية فأي حال سوف يكون عليه إذا لم يكن لديه غناء روحي واكتفاء ذاتي ، وكلاهما لا يوجدان إلا عن طريق الايمان الذي يرتفع بالفرد المؤمن عن المواد الأرضية ويعلمه كيف يكون سيد نفسه وسيد الآخرين.
    هب الدنيا تساق إليك قسراً * أليس مصير ذاك إلى الزوال

    إذن فليس عجيباً أن أقول أنني خلال تلك الفترة كنتُ سعيدة ! ولم يخطر ببالي أبداً أن الفقر أحد أنواع الخيبة بل على العكس من ذلك تماماً فقد كنت أحاول أن افتش عن الطاقات الروحية الكامنة في وجودي لاستثمرها في عمل كل ما هو صالح وكل ما هو خير فما دمت قد افتقدت المواد الزائلة التي أستند إليها في مسيرة الحياة فقد كان عليّ أن أسند خطواتي على دعائم جوهرية ثابتة منطلقة من المثل البناءة والمفاهيم الخلاقة ، وهذه المثل وهذه المفاهيم هي وحدها الكفيلة ببناء شخصية الانسان وصقل أبعاد وجوده في الحياة ، ومن هنا عرفت معنى الفقر ومعنى الغنى ، عرفت أن الفقير هو ذلك الذي يتأرجح كيانه الاجتماعي على كفة ميزان المادة فهو يرتفع مع ارتفاع ارقام ما يملك وهو ينزل مع هبوط العدد في رصيده الخاص ، ولهذا فهو فقير! فقير إلى الدنانير التي تستند وجوده فقير إلى العمارات التي تشير إليه ، فقير إلى الأثاث والرياش الذي يحببه إلى الناس ويشجعهم على الالتفات حلوه ، أنه فقير إلى المادة لأنها عنوان عزه وحريص عليها لأنها محور تبادر وجوده ، وهو يخشى من زوالها لأن زوالها يعني زواله هو ، أو ليس هذا هو الفقير بعينه ؟ ولما كنت أعرف من الفقر معناه الحقيقي فقد كان من حقي أن لا أدع للفاقة المالية مجالاً لأن تسمني بسمة الضعف أو الحيرة أو تلون نظرتي إلى الحياة بمنظار الحسرة والحرمان كنت خلال تلك
    الفترة سعيدة وسعيدة جداً وكان فكري خالياً من كل شائبة بعيداً عن كل نائبة لا يهمني سوى بناء شخصي على أساس من الدين ولا أسعى إلا إلى وراء المعرفة ، نعم المعرفة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وقد كنت أجد من قليل ما أناله من آثار المعرفة الكثير الكثير من النشوة الروحية والراحة النفسية لأنني كنت أسعى إلى ذلك القليل بجهد كثير وجناح قليل ولهذا فقد كان للفوز عندي معنى الانتصار ، وهكذا كنت والحمد لله غنية وسعيدة وهذه هي الروعة الربانية في حياة الفرد المؤمن.

    فترة الركود
    إنها فترة جمود مؤسفة وإن كانت قصيرة الأمد والحمد لله... ولكنني الآن وحينما أجد أن منيتي قد عاجلتني قبل أن أحقق غايتي في مستوى العبادة والعمل في سبيل الله من حقي أن استشعر الندم والحسرة لمرورها فما قيمة حياة الأنسان ما لم تكن ساعاتها موصولة بالعمل من أجل الله يا الله... ما أقسى الجمود وما أمر أن يعمل الانسان على التسويف والتخفيف ؟ ها أنا ذي أحس أن تلك الأيام تعاتبني فتكويني بعتابها أنها تأسى على ساعاتها وهي تخط في صفحة الاعمال بدون عمل ( غير ما وجب من الفرائض ) إنها خجلى إذ تعرض أمام الحاكم العادل وهي زاهدة في ثواب أو متواضعة في التطلع إلى الرضوان ، ولكن ماذا عساي أن أصنع ؟ وما فات لا يعود ، أنا لا أنكر إن كان علي تعويضها فيما بعد ولكن أتراني عرفت أن ساعات الانسان ودقائقه محسوبة ومكتوبة ؟ أتراني أديت لهذه المعرفة حقها ؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله عز وجل...

    الانفتاح من جديد

    إن من رحمة الله عليّ أن فترة الجمود تلك لم تكن طويلة فقد حدث ما هزني وبعث فيّ الحياة من جديد ودفعني إلى التعرف على مسؤوليتي بشكل أقوى مما كنت عليه ، وهكذا فان الانسان لا يتبلور ويتكامل إلا بعد المرور بمختلف أشكال التجارب والمحن وفعلاً فأنا أحمد الله إن مررت بمحنة حسستني بأهمية الايمان عندي من جديد وما أحسن قول الشاعر حينما يقول :
    لك الحمد أن البلايا عطاء * وأن المصيبات بعض الكرم
    إذن ... فنحن لا ينبغي لنا أن ننظر إلى فداحة المحن وقساوتها فقط ، ولكن علينا أن نقيس كل ذلك مع الدروس التي تعطيها والفوائد الروحية والمعنوية التي يجنيها الانسان من ذلك لكي نتمكن من استقبالها بثغر باسم وصدر رحب وعزيمة وإصرار . وأنني لأذكر حادثة خلال هذه المحنة ، أذكرها وقد كنت أذكرها دائماً لعمق ما أثرت عليّ في حينها ، كان
    ذلك خلال فترة ضيق قاسية قد تشابكت خيوطها حتى كاد اليأس يتسرب إليّ فانتزعت نفسي من البيت وخرجت إلى الشارع وكأنني كنت أحاول بذلك التحلل ولو إلى قليل من أسلاك المحنة الشائكة التي كانت تحيط بي ولكنني سرعان ما أحسست أنني كنت غلطانة ! فلم تكن المحنة التي أعيشها وليدة البيت لكي تتركني أو أتركها عندما أغادره ، ولهذا وقفت حائرة مخذولة لا أعلم إلى أين أتجه وماذا اعمل ؟ وإذا بصوت اسمعه من بعيد فيشدني إليه ، وإذا بكلماته تجذبني نحوها وكأنني لم أسمعها من قبل : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) عند ذاك تنبهت من جديد وأفقت من الاغفاءة الفكرية التي كادت أن تجرني إلى اليأس ، وتذكرت أن الله عز وجل لا يخذل عباده المخلصين ، وان المحن والبلايا ليست سوى بعض طرق التكامل والنضوج ، وهي مثلها للانسان مثل مختبر للتحاليل يظهر حقيقة الانسان ويكشف له ما كان يجهله من نفسه وجوانب الضعف والوهن فيها.
    ومضيت بعد ذلك أقطع مسيرة الحياة بين آلام وآمال ووسط أزهار وأشواك ، وهل يوجد الزهر إلى جوار الشوك ولولا الألم لما وجد الأمل ، ولهذا كنت منسجمة مع تقلب الحوادث وتتابع الأدوار ، لا يغرني نعيمها ولا يحزنني أليمها انتظر سراءها عند الضراء واترقب ضراءها عند السراء وكأنني وإياها كما يقول الشاعر:
    تزيـده الأيـام إن أقبلت * شـدة خـوف لتصاريفهـا
    كأنــها في وقع اقبالها * تسمعـه رنــة تخويفـها

    ومرّت السنوات تتتابع وأنا أجد من رحمة الله فوق ما استحق حتى أصبحت أحس نحو نفسي بالصغار أمام ما أجد من عطف الله عليّ ورحمته بوجودي ، فأخذت استصغر عطائي واستكثر ما أجد وكان هذا الشعور هو بداية الألم في حياتي التي نذرتها لله ، فقد أصبحت أحس بعذاب ومرارة. وأصبح قصوري أمام الله عز وجل يتراءى أمامي على شكل تقصير تارة وعلى شكل عجز وتهاون أخرى فتبرمت بما أجد حولي بعد أن حسبت نفسي دخيلة عليه وأخذت أحاول أن أبتعد عن مسرح حياتي بعد أن وجدته أكثر مما استحق ، وهل هناك أقسى من شعور الانسان بالتقصير أمام الله ؟ ولهذا فقد رانت على قلبي غمامة من ألم وحسرة لوثت صفاء روحي وسعادتها في العمل من أجل الله... ولولا أن الله عز وجل رحمني باشراقه من نور كانت تضيء جوانب روحي بضيائها الهادي الوديع لحدث ما لا يحمد عقباه ، فالحمد لله الذي لا يغلق على موحديه أبواب رحمته.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الساعات الأخيرة
    كنت أريد أن أكتب عن الأيام الاخيرة وارتباطها بالأيام التي قبلها ولكن يبدو أن عليّ الآن أن أكتب عن الساعات الأخيرة لأنها عاجلتني وفرضت وجودها عليّ بشكل لا مفر منه وهل هناك مفر من الموت ؟ ـ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ـ أم هل هناك مهرب من قضاء الله وقدره ألم نسمع الحديث القدسي الذي يقول « من لم يرض بقدري وقضائي فليخرج من أرضي وسمائي » إذن فما على الانسان المؤمن إلا أن يستقبل الموت برضا واقتناع ولسان حاله يقول :
    « عنـدي لمــا تقضيـه * ما يرضيك من حسن الرضا »
    والآن ... أتراني آسفة على الدنيا وفراقها ؟ نعم ، وكلا ... أما نعم فلأن الدنيا هي الطريق الذي يمهد إلى رحمة الله ورضوانه وأنها هي أيام التجربة التي منّ الله بها على عبيده لتكون لهم فترة اختبار فلعلها لو طالت لتمكنت أن أسجل رقماً جديداً وأن أحصل على درجة أعلى ... ثم من أجل قلوب والهة سوف تستشعر الحسرة من بعدي. ولكن أليست هذه هي طبيعة الحياة ؟
    أما كوني غير آسفة على الدنيا فان حالي منها كما يقول الشاعر :
    ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة * فليخش ساحر كيدها النفاث

    طلقتهـا الفـاً لأحسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
    وثباتهـا مرهوبـة وعداتها * مكذوبـة وحبالهــا انكـاث
    أني لأعجب للذيـن تمسكوا * بحبائل الدنيـا وهـي رثاث
    أتراهم لـم يعلموا أن التقى * هـو زادنا وديارنـا الأجداث

    آه كم يأس الانسان في ساعاته الأخيرة على هفواته وزلاته وكم يود جاهداً لو كان قد افتدى تلك الأخطاء بكل ما يملك ، ما أحلى أن يكون الأنسان رقيباً على نفسه وأن يكون لديه ما يمكنه من دراسة كل أمر قبل الاقدام عليه لكي لا يقف في ساعاته الأخيرة موقف النادم المغبون فان النفس امارة بالسوء إلا ما عصم ربي سبحانك يا رب أنني أحبك بقدر ما أخافك فلا تبعدني منك ولا تقطعني عنك ولا تحرمني برد عوفك ورضاك... سبحانك يا رب أنني الآن أشعر بالراحة كما لم أشعر بها من قبل. أنني سعيدة وأنا أحس بانعتاقي من قيود الدنيا وغلالها وانفكاكي من آلامها وأثقالها وابتعادي عن شرورها وآثامها فاسبغ يا إلهي على القلوب التي أحبتني أبراد الصبر وضاعف لهم الأجر ووفقهم يا رب ليكونوا بعدي صدقة جارية وعلماً ينتفع به الناس لكي لا ينقطع أثري عن الدنيا بوجودهم وهبني من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب.
    مغامرة
    جلست آسية في الموعد المحدد الذي حددته لصديقتها بيداء تنتظر قدومها وهي تتطلع إلى الساعة في قلق ولهفة فهي تستغرب من صديقتها طلب موعد واشتراط الخلوة فيه ولهذا كانت تترقب أن تجد لدى صاحبتها مشكلة غير مريحة ، ولم يطل انتظارها فقد وصلت بيداء بعد موعدها بدقائق وجلست آسية تنتظر أن تبدأ بيداء بالتحدث عما لديها من أنباء ، وكانت بيداء تبدو هادئة وهي تحاول أن تخفي بعض بوادر القلق والحيرة واستمر بها السكوت إلى فترة ثم قالت :
    أتراك تسمحين لي بسؤال يا آسية ؟
    فردت آسية قائلة :
    نعم وأُرحب بذلك.
    قالت بيداء :
    ويكون الجواب صريحاً ؟
    قالت :
    على عادتي معك دائماً يا بيداء ...
    قالت :
    لماذا رفضت يد فؤاد يا آسية ؟
    فسكتت آسية قليلاً وكأنها فوجئت بسؤال لم تكن تتوقعه من قبل ثم قالت :
    والآن هل تسمحين لي أن أسأل ؟
    قالت بيداء :
    نعم بطبيعة الحال.
    قالت :
    ما الذي يدفعك إلى هذا السؤال يا بيداء ألا تجدين أن الجواب عنه قد يسبب لي بعض الاحراج ؟
    فأطرقت بيداء برهة ثم رفعت رأسها وهي تقول :
    لأنه يهمني يا آسية !
    قالت آسية :
    وماذا يهمك منه ؟ قريب تقدم لخطبتي فرفضته لأسباب خاصة...
    فترددت بيداء ثم قالت :
    لأنه قد تقدم لخطبتي يا آسية وأنا أُريد أن أعرف السبب في رفضك إياه ؟
    قالت آسية :
    آه هكذا إذن. ثم سكتت.
    فأردفت بيداء قائلة في توسل :
    ولهذا تريني مضطرة لأن أسأل أو لستُ صديقتك يا آسية ؟ أو ليس أمري يهمك يا أختاه ؟
    قالت آسية :
    نعم ولأنك صديقتي ولأن أمرك يهمني سوف أقول لك السبب في رفضي إياه ولكن أنت ماذا تعرفين عنه لحد الآن ؟
    قالت :
    لقد عرفت أنه شاب مثقف جميل الشكل حسن التصرف ممدوح السيرة يتمتع بمركز اجتماعي مرموق !
    قالت آسية :
    نعم أنه كما تذكرين يا بيداء وأُزيدك أيضاً
    أن حالته المادية جيدة ولكن هل أن ما ذكرتيه هو كل شيء ؟ فعلت وجه بيداء صفرة باهتة وتمتمت تقول : ولكنه غير ملتزم دينياً !!
    وقالت :
    إذن ومع علمك بهذا ما زلت تجهلين السبب في رفضي إياه ؟
    قالت :
    أنا أعترف أن الدين هو أهم من جميع هذه الصفات ولكن ذلك أمر يمكن إصلاحه على ما أعتقد.
    قالت آسية :
    وكيف ؟
    قالت :
    ألم يخطر ببالك أنك كنت تستطيعين أن تجعلي منه إنساناً صالحاً يا آسية.
    فرددت آسية بهدوء قائلة :
    وأنت هل يخطر ذلك ببالك يا بيداء ؟
    قالت :
    بصراحة أنني أعتبر الرفض لوناً من الجبن أو الهروب !.
    قالت آسية :
    ما دمت تتكلمين بصراحة فأنا أرجو أن توضحي لي رأيك في الموضوع !.
    قالت :
    إنني أجد في جر فؤاد وأمثاله إلى الدين مكسباً دينياً ينبغي العمل من أجله.
    فابتسمت آسية وقالت :
    طبعاً فإن هذا أمر مفروغ منه ولكن عن أي طريق وعلى أي حساب ؟
    قالت بيداء :
    إن هذا طريق قد تهيأ لنا تلقائياً فلماذا لا نستغله يا آسية ؟ وبصراحة مرة ثانية ولماذا أرفض فؤاد مع جميع المميزات التي تتواجد فيه وأتركه لزوجة تبتعد به عن الدين أكثر فأكثر بدل أن أتقبله وأحاول جره إلى الايمان ؟
    قالت آسية :
    إنها وجهة نظر لا أريد أن أُملي عليك خلافها فأنا لا أتمكن أن أفرض عليك أمراً يا بيداء ولكنها مغامرة خطرة وليس ما هو أصعب من أن يغامر الانسان بدينه أو بحياته الزوجية.
    قالت بيداء :
    أرجوك يا آسية لا تحاولي تهويل الأمر إلى هذا المستوى فإن الزواج بشكل عام لا يعدو أن يكون مغامرة وأنا أحس بمقدرتي على خوض هذه التجربة.
    قالت آسية :
    ولكنك غلطانة بزعمك هذا يا بيداء فشتان بين المغامرة مع شاب مؤمن يتمتع في سلوكه وتصرفاته بحصانة من تعاليم الاسلام والمغامرة مع شاب لا يحصنه ضدها سوى العرف والقانون وكلاهما يخضعان للتبديل والتطوير.
    قالت بيداء :
    ولكنها مغامرة لو نجحت لكانت في صالح الدين ...
    قالت آسية :
    ها أنت تقولين ( لو نجحت ) وهذه ( اللو ) دليل على عدم ثقتك بنجاحها والحياة الزوجية بناء مقدس لا يمكن له أن يرتفع على أساس مضعضع.
    فأطرقت بيداء وكأنها كانت تقاوم الصراع الذي يعتلج في روحها ، ثم رفعت رأسها وهي تقول :
    إذن فما هو رأيك يا آسية ؟
    قالت آسية :
    الحقيقة أنني أخشى عليك من عواقب هذه المغامرة ولا أتمكن أن أُعطيك رأياً أكثر من هذا ولكنها لعبة خطرة يا بيداء فالزوج مهما كان لا يمكن له أن يخضع لفكرة زوجته ما دام غير مؤمن بها تلقائياً بل أنه هو الذي سوف يحاول أن يخضعها لفكرته ويجرها نحو الايمان بوجهة نظره وعند ذلك تقف الزوجة على مفترق طريقين فأما خراب بيت الزوجية وأما
    خراب دينها وهو أقسى الأمرين وأهولهما كما تعلمين.
    قالت آسية هذا ثم سكتت تنتظر تأثير كلماتها على بيداء ... فسكتت بيداء برهة ثم قالت بصوت مبحوح :
    إذن ؟
    قالت آسية :
    إذن فأنا أجدك في غنى عن زج نفسك في موقف لا تحسدين عليه.
    قالت بيداء :
    لنفترض أنني أُجبرت على ذلك فماذا أصنع ؟
    قالت آسية :
    عليك أنتِ وحدك تقرير مصيرك يا بيداء وليس لك أن تخضعي لارادة أحد أياً كان.
    فأطرقت بيداء وكأنها تفكر وطالت اطراقتها تلك وهي تفتت بين أصابعها ورقة بيضاء صغيرة ثم رفعت رأسها وهي تقول في شبه تحدٍ :
    ولكنني سوف أُغامر يا آسية وأرجو أن يكون النجاح حليفي.
    ولم يسع آسية إلا أن تنظر إليها نظرة طويلة معبرة ثم قالت في شيء من البرود :
    أنتِ وما تختارين لنفسك يا بيداء وأتمنى أن لا تندمي على قرارك هذا فيما بعد.
    وهنا لملمت بيداء أطراف أبرادها ثم نهضت وهي تقول :
    أرجو أن لا أكون قد أزعجتك يا آسية.
    قالت آسية :
    أنني لم أنزعج ولكنني تألمت فقط.
    ثم مدت بيداء يدها إلى آسية مصافحة فشيعتها آسية حتى الباب وعادت وهي تشعر أنها فقدت صديقتها إلى الأبد.
    * * *
    جلست بيداء تنتظر عودة فؤاد والساعة تناهز الحادية عشرة مساء وأحست بالقلق من أجله فهو ما عودها التأخير منذ زواجها الذي مرت عليه ثلاثة أسابيع . وكانت تتابع عقارب الساعة حتى وجدتها تقترب من الحادية عشرة والنصف. وعند ذلك سمعت صوت الباب وهو يفتح ثم يغلق برفق. فنهضت من مكانها تتطلع نحو الباب لتجد فؤاد وهو يدخل فأشرق وجهها فرحاً.
    وقالت :
    لقد أبطأت عني يا فؤاد.
    فراعها أنها وجدت مسحة من ضيق تتراءى على وجهه حاول أن يخفيها بسرعة وهو يرد قائلاً :
    ولماذا لم تنامِ لحد الآن يا بيداء ؟
    قالت : كيف أنام وأنت لا تزال خارج البيت يا فؤاد ؟
    قال وهو يخلع عنه ملابسه ويستبدلها بملابس البيت :
    ولكن ذلك سوف يكلفك الكثير يا بيداء !
    قالت :
    وكيف ؟
    قال :
    لأني سوف لن أتمكن أن أعود مبكراً إلى البيت في أغلب الليالي ولهذا لا أجد ما يدعوك إلى السهر وحيدة...
    فسكتت بيداء وقد هالها ما سمعت ثم حاولت أن تكذب سمعها أو تكذب فهمها فانتظرته حتى جلس ثم قالت :
    إن العشاء جاهز يا فؤاد.
    فابتسم على شيء من الخجل وقال :
    لقد تناولت عشائي في الخارج يا بيداء.
    قالت :
    آه وكيف ؟
    قال :
    لقد كنت مدعواً عند بعض أصدقائي في النادي ولم أستطع الرفض لأن الدعوة كانت على شرفي.
    قالت :
    هنيئاً مريئاً ولكن لماذا لم تخبرني من قبل ؟
    قال :
    لم أجد ما يدعو إلى إخبارك وأنا أعلم أنك سوف لن تذهبي معي إلى هناك !!
    قالت :
    ولكن لكي لا أقلق من أجلك على الأقل...
    قال :
    ولكنك يجب أن تعرفي أنني انسان اجتماعي أعيش في وسط مثقف متحرر ولا أتمكن أن أعتكف في بيتي مع امرأة.
    قال هذا وفي نبرته بعض الحدة ثم أردف قائلاً :
    والآن تفضلي فتناولي عشاءك أنت يا بيداء !
    فجالت الدموع في مآقيها وهي تنظر إليه في حسرة ثم قالت :
    لست أشعر بالميل إلى الطعام .
    قال :
    إذن دعينا ننام !
    فاستجمعت فلول قوتها وقالت في نبرة وادعة :
    يبدو أنك قد أديت فريضة الصلاة ولهذا تريد أن تنام ؟
    قال في شيء من البرود :
    إن الليل قد انتصف وبذلك ذهب وقت الصلاة !
    قالت :
    كلا لعله لم ينتصف بعد ثم أن وقتها الاضطراري لا يزال موجوداً.
    قال :
    كأنك لا تعلمين كم أنا مثقل وتعبان يا بيداء.
    قالت :
    ولكن التعب لا يكون عذراً شرعياً عن الصلاة يا فؤاد.
    فضحك في تهكم ثم قال :
    إن الله يقبل مني هذا العذر...
    قالت :
    ولكن هذا يعد تهاوناً منك في الصلاة ألم تتمسك بها ما دمت تحبني يا فؤاد ؟..
    وهنا بدت عليه دلائل الغضب فنهض وهو يقول :
    أرجوك أن لا تقرني حبك مع الصلاة
    والصيام يا بيداء دعيني أحبك كما أريد أنا لا كما تريدين أنت ثم أنني لا أسمح لك بمحاسبتي في كل ليلة من أجل الصلاة.
    قال هذا ثم توجه نحو السرير وانصرف إلى النوم ... أما بيداء فقد تسمرت في مكانها من هول الصدمة إلى فترة وشعرت أن كلمات آسية قد بدأت تتجسد أمامها كواقع محسوس فما كان منها إلا أن لجأت إلى القرآن عساها تحصل من تلاوته على بعض الأمان والاطمئنان ففتحته من حيث اتفق فكانت الآية الاولى من الصفحة وهي ( وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون ).
    واستمرت الأيام والأسابيع تتتابع وتتلاحق وبيداء لا تكاد تجد حيلة تكسب بها فؤاد إلى جانبها فهي كلما حدثته عن الدين جابهها بالسخرية تارة وبالنفور تارة أخرى ، وهي مهما هيأت له من أسباب الراحة والسعادة في البيت وجدته يتوق إلى الخارج أكثر فأكثر وفي ليلة من الليالي وقد أعياها السهر والانتظار عاد إليها فوجدته منفتح الصدر منبسط الوجه فحسبت أن الفرصة مواتيه لها لكي تتحدث معه بما تريد فقالت في نغمة حاولت أن تكون هادئة وناعمة :
    هل تعلم كم أتألم يا فؤاد ؟
    فأبدى فؤاد شيئاً من الدهشة وقال :
    أنت تتألمين ولماذا ؟ ألم أهيىء لك جميع أسباب الراحة ؟
    قالت :
    نعم إنني أعترف أنك قد هيأت لي جميع أسباب الراحة ولكن المهم هو السعادة يا فؤاد فلا راحة بدون سعادة.
    قال :
    وكيف أو لست سعيدة يا بيداء ؟
    قالت :
    كيف أكون سعيدة وأنا أجدك بعيداً عني يا فؤاد ، نعم بعيداً عني في فكرك وقلبك وجسمك.
    قال :
    أما فكري فهو بعيد عن فكرك وأنا أعترف بذلك وأما جسمي فهو يتبعد عنك البعد الفكري. وهذا أمر طبيعي ، وأما قلبي فهو يحبك يا بيداء ولهذا اعترض على هذا القسم من كلامك يا عزيزتي.
    قالت :
    ولكن الحب يقتضي إرضاء المحبوب وأنت تعلم أنني غير مرتاحة من وضعك يا فؤاد.
    قال :
    في دهشة غير مرتاحة من وضعي ؟ هل أسأت إليك في شيء ؟
    قالت :
    كلا أنت لم تسىء إلي إساءة مباشرة ولكنك تسيء إلى الفكرة التي أُؤمن بها والتي عاهدتني على احترامها في البداية وبعبارة أصرح إنك لا تلتزم بالدين بالشكل الذي يشدك إليّ يا فؤاد.
    قال :
    إنني لا أتمكن أن أُغير من وضعي شيئاً يا بيداء فهل من المعقول أن أُقاطع أصدقاء العمر أم هل من المعقول أن أعتزل الحياة الاجتماعية وأنطوي مغلقاً خلف هذه الجدران هل من المعقول أن أصلي الظهر
    في المسجد وأصلي المغرب في الجامع لأن زوجتي تريد ذلك ، إن العبادة ينبغي أن تكون بدافع من إيمان شخصي أما أن أعبد الله لأنك أنت تريدين ذلك فإن هذا ليس سوف نفاق وخداع ، إنني رجل مستقيم مخلص في عملي أمين على حقوق الأخرين وفي علاقاتي مع أصدقائي فماذا تريدين أكثر من هذا يا عزيزتي ؟
    كانت بيداء تستمع وفؤادها يغور إلى الأعماق فردت عليه قائلة في شبه توسل :
    وأنا ؟ أين يكون مكاني من كل هذا ؟
    قال :
    أنتِ ؟ أنت زوجتي الحبيبة التي لا أُقدم أحداً عليك أبداً فتعالي إليّ لتعرفي أية سعادة سوف أُذيقك إيها يا بيداء.
    قالت :
    ماذا تعني من تعالي ؟
    قال :
    أعني أن تتركي هذه الفكرة المعقدة التي
    تحجب عنك أنوار الحياة وتقبلي علي بروحك وقلبك وفكرك جميعاً لكي أُعرفك معنى الحياة التي ما زلت تجهلينها ومع كل الأسف أنك الآن على مفترق طريقين يا بيداء إما أن تعطيني يدك لآخذك معي إلى دنيا السعادة والهناء وإما تبقي سجينة دارك قانعة بما تجدين.
    قالت :
    وليس هناك شق ثالث يا فؤاد ؟
    فسكت لحظة ثم قال :
    نعم وهو أن نفترق وإن عز علي ذلك ولكنه مع رفضك للشق الأول أهون الشرين.
    .... فأطرقت بيداء وهي تود لو تصرخ ، لو تبكي ، لو تهرب من هذا البيت ، ولكن لم يكن في وسعها أن تعمل شيئاً سوى الإطراق.
    * * *
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    وأ شرق الصباح أخيراً بعد ليلة ما طرق النوم فيها عيني بيداء وأنّى لها أن
    تنام وهي بين نارين كل منهما كاوية وكل منهما قاسية وشديدة في قساوتها وكادت أن تجزم أمرها وتطلب الانفصال ولكن هذا الدبيب الذي في أحشائها يشدها إلى هذا البيت ويربطها مع هذا الزوج ، أنها الآن ليست زوجة فقط ولكنها سوف تصبح أماً عن قريب واعتراها دوار من الحيرة والسهر والتفكير ، فألقت برأسها على يدها واستسلمت لنوم هو أشبه بالاغماء... وانتبهت على صوت فؤاد وهو يناديها بصوت حنون قائلاً :
    بيداء . بيداء . مالك نائمة هكذا ؟
    ففتحت عينها لتبصره أمامها ضاحكاً مشرق الوجه وكأنه يجهل السبب فيما هي عليه فنظرت إليه ولم تفه بكلمة ... فقال في لهفة :
    مالك شاحبة اللون هكذا يا بيداء أتراك مريضة ؟
    قال هذا وأسندها لكي تجلس ثم جلس إلى جوارها فاستدارت نحوه وهي تقول في ذبول :
    هل حقاً أنك لا تعلم بما أُعاني يا فؤاد ؟
    فضحك في لطف وقال :
    هبيني كنت أعلم فماذا عساي أن أصنع وأنا الذي فتحت لك قلبي على مصراعيه فما ذنبي إذا أغلقت أنت دونك ذلك الباب ؟ وبالمناسبة فإن عندي ضيوف هذه الليلة أرجو أن تستعدي لاستقبالهم بالشكل المناسب.
    قالت :
    ومن هم الضيوف يا فؤاد ؟
    قال :
    أنهم مجموعة من أصدقائي مع زوجاتهم.
    قال هذا وسكت ينتظر ردود الفعل عند بيداء ففكرت بيداء برهة ثم قالت :
    وهل سوف تكون الجلسة مشتركة بين النساء والرجال ؟
    قال :
    طبعاً طبعاً فأنا لا أتمكن أن أعيد عهد الحريم في بيتي من جديد.
    قالت في انكسار :
    وأنا ؟
    قال :
    أنت حرة في تصرفك يا عزيزتي فأنا أترك الأمر لحسن اختيارك.
    وهنا صممت بيداء أن تقدم لزوجها بعض التنازلات حرصاً على الوئام والتفاهم فغالبت نفسها ثم قالت :
    سوف أكون حاضرة أيضاً.
    فاستطار فؤاد فرحاً وانحنى عليها يقبلها في لهفة وهو يقول :
    وهل حقاً ما تقولين يا بيداء ؟ ما أسعدني بك يا حبيبتي ها أنا سوف أصبح أسعد زوج ، سوف افتخر بك وبجمالك على أصدقائي وأجعلك الشمس التي تكشف زيف أنوارهم يا بيداء.
    وهنا ردت بيداء قائلة :
    ولكن اي دخل لجمالي في الموضوع ؟ انني وانسجاماً مع رغبتك وافقت أن أحضر مع حجابي يا فؤاد.

    فتراجع فؤاد إلى الوراء وبدت عليه علامات النفور وهو يقول :
    مع حجابك ؟ تحضرين وأنت محجبة ؟ كلا أنني لا أريد أن أكون سخرية للجميع ، كلا أن هذا لن يكون أبداً يا بيداء ، أعدي لنا المائدة واخرجي من البيت فإن ذلك أصلح لكي اعتذر عنك ببعض الأعذار.
    فطاش عقل بيداء وهي تستمع إلى كلمات الاهانة هذه ونهضت من مكانها لتقول :
    إذن فلأترك البيت منذ الآن يا فؤاد.
    قال :
    والضيوف ؟
    قالت :
    تتمكن أن تدعوهم إلى النادي.
    قال :
    وأنت متى تعودين ؟
    فأجابت بانفعال قائلة :
    لعلني لن أعود.
    عند ذلك القى فؤاد بأقسى سهم لديه فقال :
    وولدي الذي معك كيف سوف يكون مصيره ؟
    وكانت هذه الكلمات كفيلة لأن تشد بيداء إلى واقعها المرير وإلى أنها قد زجت نفسها في دوامة ليس من السهل اجتيازها ... فتهادت وهي تردد : آه ما كان أغباني وأصدقك يا آسية ؟ وسمعها فؤاد فقال في تهكمية ساخرة :
    آه أنت تذكرين آسية الفتاة المتعجرفة المعقدة تلك التي ما تقدمت لخطبتها إلا لكي اذل كبريائها وأسحق شموخها الديني وهنا أنت تذكرينها فماذا أجدتك نصائحها ومثلها يا بيداء ؟ ها أنت مهددة بخراب حياتك الزوجية وفشل وضعك العائلي نتيجة آسية العتيقة.
    فانتفضت بيداء وقالت :
    كلا أنا لا أسمح لك بالنيل من آسية لو كنت قد استجبت لنصائحها ومثلها لكنت في راحة ولكن الذنب ذنبي وعلي أن أتحمل أوزار ما عملت.
    كانت آسية جالسة وهي تفكر في بيداء بعد مرور سنتين من زواجها فهي تسمع عنها الكثير مما يؤلم ومما تصدق بعضه ولا تكاد تصدق البعض الآخر فقد سمعت أنها وبعد صراع طويل ومرير بدأت تتحلل من حجابها وتخرج مع زوجها للنوادي والحفلات وسمعت أنها رزقت بولد اسمه فريد وسمعت أيضاً أنها دائمة الوجوم لا تكاد الابتسامة تبدو على شفتيها ، سمعت هذا وسمعت غير هذا وهي في كل ذلك مصدقة تارة ومكذبة أخرى ، وفي صبيحة ذلك اليوم كانت تفكر بها وتتمنى لو عرفت عنها شيئاً يوضح لها حقيقة ما تسمع فرن في أذنها جرس الباب فهرعت إليه بشكل لا اختياري وإذا بها تجد أمامها بيداء ! نعم بيداء بلحمها ودمها لولا شحوب هائل كان يلون وجهها بشكل واضح فرحبت بها وقادتها إلى الغرفة وهي تترقب أنباء سيئة من وراء هذه الزيارة الغير مترقبة وجلست بيداء وهي ساكنة وكأنها لاتعرف كيف تبدأ الحديث فقالت آسية :
    لكم كان يهمني أن أراك يا بيداء فإن أخبارك كانت تصلني باهتة وكنتُ احب أن أسمعها منك مباشرة.
    وهنا اندفعت بيداء تبكي في مرارة وهي تقول :
    وهل لدي أخبار سوى العار والدمار يا آسية ؟ أو هل أنا سوى ضحية من ضحايا الطيش والغرور ؟ وماذ يهمك من أخباري بعد أن تهاويت إلى هذا الدرك أنا لم أعد جديرة بصداقتك يا آسية إنني إنسانة بائسة يائسة فليرحمني الله...
    فتأثرت آسية لحال بيداء وقالت في حنان :
    ولكنك أُختي على كل حال من الأحوال وعلي أن أنصرك ظالمة أو مظلومة ، حدثيني بما لديك وكوني معي صريحة كما كنت من قبل.
    قالت :
    نعم سوف أحدثك بكل شيء ، أنت تعلمين أنني قد خالفت مشورتك واندفعت وراء وهم كاذب. وحاولت أن أقاوم وأكابر فجاهدت أن أجرّه إليّ ففشلت ، بذلتُ المستحيل لكي أُرضيه بوضعي ففشلت . بدأ يسحق روحياتي بقساوة . وأخذ يعمل على اذلالي بضراوة... فتارة يخدعني برقته وتارة
    يخيفني في شدته ، فكرت أن أنفصل عنه فعجزت لانه كان لدي جنين منه يشدني إلى بيته وأخيراً أتعبتني المقاومة وأرهقني الصراع ، فاستسلمت له متخاذلة وانقدت إلى ما يطلب مجبورة مقهورة ، فتمادى في مطالبه الجاحفة واستغل ضعفي لكي يجرني إلى الحضيض ، نعم إلى الحضيض. وسرت وراءه كما يسير المحكوم إلى ساحة الاعدام ومع ذلك ومع كل هذا فها أنا ذي كما ترين !!.
    ولم يسع آسية أن تدخل معها في لوم أو تأنيب وهي على هذا الوضع اليائس المنهار فتماسكت وهي تقول :
    ومع هذا فماذا بك الآن ؟
    قالت :
    لقد طلقني قبل أسبوع بعد أن مات ابني واتهمني أنني أنا التي تسببت بموته ؟
    قالت :
    أنتِ تسببت بموته وكيف ؟
    قالت :
    لأني صمت شهر رمضان !.
    قالت آسية :
    وهل أن صومك أدى إلى موت ابنك جوعاً يا بيداء ؟
    قالت :
    كلا فهو لم يكن يقتصر على حليبي يا آسية أنه أصيب بعارض وقد أدى ذلك إلى موته ...
    وأشفقت آسية على هذه الانسانة المسكينة المطعونة في كرامتها ودينها المصابة بوليدها وصغيرها أشفقت عليها حتى انهمرت من عينيها الدموع .. واردفت بيداء قائلة :
    وهكذا ترين أنني فقدت كل شيء وخسرت كل أحد...
    فنهضت آسية اليها لتمسح على رأسها وتقبلها في عطف قائلة :
    كلا أنك لم تخسري كل شيء فإن الدين ما زال يدعوك لكي تعودي إليه عن طريق التوبة وأنا مازلت أفتح لك قلبي ليحتضنك من جديد والمستقبل أمامك
    واسع طويل ولعل هذه التجربة سوف تبني لك مستقبلاً صالحاً قائماً على أسس ثابتة مكينة فلا تدع اليأس يأخذ طريقه نحوك يا بيداء فأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
    * * *

    أختي الغالية وفاء :
    يا منار فكري وعماد روحي لا عدمتك ألف سلام وألف تحية يا عزيزتي وصادق إخائي ودعائي.
    ها أنا ذي أكتب إليك يا أختاه بعد أن راحت أنامل الليل تمسح برفق خيوط الألم التي حاكتها متاعب النهار ، وبدأ كل شيء هادئاً حالماً وعاد الصمت يعزف برفق لحن السعادة الخفي الذي انبثق من الأعماق ينساب انسياباً هادئاً فيشيع في النفس رضى ما كانت تجد إليه سبيلاً ، ويبعث في الروح فيضاً غامراً من النشوة ما عهدته يوماً ... وأعجب من ليل كيف استحال ظلامه الداكن إلى اشراقة من نور أرى على ضوئه معالم طريق جديد ، وأعجب
    للكلام كيف استحالت قسوته إلى رقة فباتت تمسح عن القلب بعض جراحه ، إنه الايمان يا اختاه ، وانه الاطمئنان إلى رحمة الله يا وفاء...
    وينبعث من الأعماق نداء هو كالنسيم في رقته والماء في عذوبته والسماء في صفائها والزهور في روعتها. ولكنه نافذ واضح ملك الجوارح كلها فانقادت إليه انقياد الأسير إلى سجانه وتطلعت نحوه تطلع الطفل إلى صدر اُمه فألقت عند ساحته رحلها وأرست عند شاطئه شفتيها ، وأنصت للنداء وأنا أسمع في تموجات لحنه قصة المولد الجديد... أتراك عرفت يا وفاء طبيعة هذا النداء وحدود هذا الميلاد إنه نداء الايمان وإنه رجع الآية المباركة التي تقول : ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان * أن آمنوا بربكم فآمنا ).
    ولهذا ، فقد عرفت بأنني بدأت أحيا من جديد بعد أن ولدت من جديد وبعد أن كان القلب يسبح في دياجير حالكة من العذاب نسجته لي الأيام فأحكمت
    نسيجه وكانت الروح ترسف في قيود قاهرة تشدها إلى الواقع المرير سلاسل قاسية ، وكان الفكر ميداناً لصراع مرير قاتل يتخبط فيه خبط عشواء فلا يكاد يرى شيئاً فيتيه ببيداء بعيدة الأطراف ويلفه الضياع... وامتد الظلام عبر سني حياتي يصبغها باللون القاتم فيحيل كل شيء إلى ظلام ، فكنت لا أرى إلا من خلال منظار أسود قاتم كئيب... وازداد تلاطم الأمواج وعصف الرياح وأوشكت سفينة حياتي أن تتهاوى إلى القاع حطاماً. ولكن عين الله الرحيمة الساهرة كانت ترى القارب الضعيف وهو يصارع الأمواج وتقلبه يد القدر القاسية...فمن خلال الدموع وتضارب الأمواج وصخب الريح امتدت إلى الغريق أنامل رقيقة ليد حانية هي أناملك يا وفاء أرسلتها إلى عين عناية الله لتمسح عن الفؤاد المرهق أتعابه وعن النفس المعذبة اشجانها وعن الروح القلقة حيرتها ، وقادت الفريق برفق وحنان إلى شاطىء السعادة والحياة ... وتقهقرت فلول الكلام أمام
    إشاعات النور واشرق الفجر يؤذن بمولد يوم جديد لحياة جيدة ورفعت يدي إلى أعلى أهمس بكلمات لا يدرك معناها إلا من انطلقت إليه تلك المناجاة وكأنني كنت أزف إلى خالقي نبأ المولد الجديد وأعاهده على المضي قدماً في طريق مصدره منه ومنتهاه إليه .. ثم عدت لكي أسجل لك نبأ المولد الجديد أيضاً فقد ولدت بفضل من الله وبهدي منك يا وفاء بعد أن عرفت منك معنى السعادة والشقاء في الحياة.
    أدامك الله أختاً هادية واسلمي لي دائماً وأبداً.

    رجاء
    عزيزتي رجاء لا عدمتك
    علم الله كم كنت أشعر بالسعادة وأنا أتابع سطورك وهي تبرز أمام عيني داخل إطار جديد ووسط هالة يبعث نورها الأمل ويحكي شعاعها عن المولد
    الجديد... نعم سعدت فيها كما يسعد اللاعب وهو يربح الجولة الأولى التي تتبعها جولات ... ولكن أية لعبة هذه ؟ أنها لعبة الحياة عندما تحاول أن تتلاعب بالعواطف والألوان التي تصبغ بها الحوادث. ولهذا فأنني عندما أربح الجولة إنما أتقدم خطوة لانتشال واحدة كادت أن تصبح إحدى ضحايا الحياة بواقعها المرير... رائعة هي سطورك التي أملتها عليك روح الايمان يا أختاه ولكن كان بودي لو استبدلت بجملة ( انقياد الأسير إلى سبحانه ) بجملة أخرى تكون أكثر اشراقاً وأنطق بالسعادة والرضا بهذا الانقياد ... وأخيراً فإلى الأمام وإلى مزيد الشعور بنعمة الايمان. أجعلي آمالك مركزة في كلمة صالحة وسطور هادية ، احصري اهتمامك في العمل من أجل الله وفي سبيل الله حبي لله واكرهي لله ، واسخطي من أجل الله ، وافرحي فيما يرضي الله فما خاب من اتجه إليه وتوكل عليه . ثم دعيني اسمع عنك ما يفرحني
    ويسعدني يا رجاء واستودعك الله الذي لا يخون الودائع.

    وفاء
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    أختي الغالية وفاء
    سلام الله عليك يا هداي ورحمته وبركاته وسلامي وإخائي وودادي وبعد...
    لا أدري أية حيرة هذه التي تتملكني فلا أكاد أتبين من أمري شيئاً ؟ لا أريد أن أقول أنني عدلت عما وصلت إليه من سعادة الروح وهناء الفكر . ولا أقول أنني كنت في نزوة من السعادة المؤمنة فلا زلت أشعر بها ولا زلت أحيا بها حياتي الوليدة بفجرها الوليد ولكنني لا زلت أتألم ولا زلت لا أعرف مصدر هذا الألم. قد تسألين لماذا ؟ ولكنني لا أملك إلا جواباً واحداً وهو لست أدري !! أفتراني ما زلت أعيش حياة ما قبل الايمان ؟ ساعديني على اجتياز هذه المرحلة الحرجة يا وفاء. يا هداي كثيرون هم الذين مروا في حياتي وحاولوا أن يغيروا نظرتي للحياة ولكن
    فكري ما استجاب لهم يوماً ونفسي ما ارتضت لهم قولاً... أما أنت فيكفيك يا غاليتي أن أقول أنك أنت الوحيدة التي محوت تلك النظرة القاتمة ومزقت ظلالها الداكنة... ولكن أما آن الأوان لأن تقوضي صرح الألم الذي قام على أنقاض راحتي وأمني... ساعديني يا وفاء ، حدثيني إن استطعت فلكم أجد في حديثك الأمن الذي أفتقده في حياتي ، لانه حديث الإيمان ، وأحاديثه الخلاقة المعطاء. نعم حدثيني وأنيري في نفسي مشاعر الهدى أكثر فربما تستطيع أن تمسح عن هذه الروح بعض عذابها وأخيراً أرجو أن لا أكون قد أتعبتك بآلامي يا أعز أُخت واسلمي لي دائماً.
    رجاء
    رجاء يا عزيزتي الغالية لا عدمتك...
    سلام الله عليك ورحمته وبركاته وصدق سلامي ودعائي وبعد...
    إن الألم يا أُختاه ما هو إلا عاطفة موهومة
    سيما إذا كان لا يرتكز على قاعدة واضحة أو ينتسب إلى ناحية معينة... إن في وسع أي شخص أن يمحو سطور الألم من قاموس حياته إذا نظر إلى مصدره بعين الواقع... والحقيقة ... إن الألم غير الواعي والمدروس لا ينتج إلا تتابع الألم ولا يجر على صاحبه غير الحط المتصل من الآلام ، إن آلام الحياة يا عزيزتي قاسية متحفزة تفتش أبداً عن صدر تعشش فيه وتنشب في حناياه أنيابها الحادة ، فدافعي عن نفسك أمام هذا الوافد الثقيل وحصني صدرك عن أن يكون مرتعاً لهذا المتطفل البغيض ... عالجي أحداث الحياة ببساطة ساعديني على استنقاذ روحك العزيزة من الأعاصير التي تعصف بها فإن من الحيف أن تستلمي لحكم هذه الأعاصير فتبتعد بك عن رحاب الله وتشغلك عن العبادة الخالصة المعطاء ، ومن الحيف أيضاً أن تصلي إلى نبع الهداية ثم تعيدك عنه ريح عاصفة قبل الورود. واخيراً وليس آخراً أستودعك الله متمنية لك مزيداً من الصمود أمام الأهواء فما
    أنت إلا خلال فترة انتقال وفي حاجة إلى مزيد من الثبات والاعداد وأتمنى لك الموفقية دائماً وأبداً يا أُختاه واستودعك الله.
    وفاء
    أُختاه يا شقيقة الروح لا عدمتك ...
    كيف أنت يا عزيزتي ؟ أرجو أن تكوني بخير وسلامة وعافية في الدين والدنيا.
    ليتني أنسى كلمة الألم يا وفاء ، وليتني أنسى حروفها بأسرها ، ليتني أغفو على حلم جميل فأصحو عازمة على تحقيقه جادة في المضي فيه راسمة البسمة الصادقة المنبثقة من الأعماق لا المرسومة قسراً على الشفاه. أفتعلمين أي حلم هو هذا الذي أتمناه يا وفاء ؟ إنه السعادة في ظلال الايمان وإنه رفض الألم المتبقى من حياة الضيعة والحيرة ، كم أتمنى أيتها العزيزة أن تختفي تلك الكلمة من قاموس حياتي فلا أعود أجد معناها الذي كنتُ أفرضه قسراً على نفسي لكي أنطلق في حياتي بلا قيد اسمه
    الألم وبلا سراب يصوره الألم ، وبلا عذاب يرسمه الألم ، لقد بدأت يدك الحانية ـ وبأمر من الله تعالى ـ تكسر القيد وبدأ قلبك يمنح من فيض رحمته ما يمزق ظلال العذاب ، وبدأت أنتِ بكل شيء يتمثل فيك ترسمين الطريق فتمهديه بالنور وتعبديه بالهدى وتفرشين جوانبه زهوراً من الأمل يكاد عبيرها ينفذ إلى الأعماق فيمسح عنها كل ظل داكن ، إنه الأمل برضاء الله ورضوانه وهل هناك ما هو أروع من هذا الأمل ؟ ولكن أتراها فترة انتقال حقاً يا أُختاه ؟ ولكن من أين وإلى أين ؟ إنها ليست من ظلال إلى هدى ومن شك إلى يقين فقط ، بل إنها من الشقاء إلى السعادة ومن الظلام إلى النور ومن اليأس إلى الأمل ومن الألم إلى المنطق اللانهائي إلى الله إلى الدين الذي أبذل له نفسي رخيصة دون ثمن.
    وها أنا ذي أرفع يدي إلى الله طالبة منه العزيمة والثبات وأنا في حاجة إلى مزيد من الدعاء واسلمي لي.

    رجاء

    عزيزتي رجاء لا عدمتك
    إسمحي لي أن أقول لكِ مع مزيد من العتاب ، أين كلماتك المشرقة بشعاع ينطلق من ومضات الهدى ؟ أين تلك المعاني المتلألأة في كتاباتك وهي ناطقة عن البشارة بميلاد جديد ؟ أين روح التفاؤل التي بدأت أجدها تنطلق من بين سطورك لتحدثني عن خطوات نجاحك في مغالبة الآلام ، دعيني أقول لك وبصراحة بأنني شعرت بالخيبة ، وليس أقسى على الانسان من أن يرى أملاً يذوي بين يديه بعد أن علق عليه الكثير ، وكان هذا أمري معك يا رجاء . أنت ما زلتِ تتحدثين عن الألم ولكن أي ألم هو هذا الذي يبقيه نور الايمان إذا اشرق على جنبات القلوب ؟ إن عليك أن تتحدثي عن السعادة التي تطرق بابك رغم أنك في تجاهل لتلك الطرقات ، فما أسعد الروح يا اختاه وهي تنفض عنها آلامها لترتفع إلى الملأ الأعلى نقية طاهرة وما أسعد الروح وهي تشرف على عالم خالد خلود الأزل كله رفعة
    وسمواً وجلالاً . ما أسعد الروح وهي تبني على انقاض آلامها قلعة للأيمان لا تدك أسوارها مهما عزل الزمان.
    أُختاه ، ها أنا أنظر إليك اليوم لا كما كنتُ أنظر سابقاً ، كنتُ أحبك لقلبك أما اليوم فأنا أحبك لروحك ، روحك التي أحس بها ترتفع عن الدنيا لتكتمل بنور القدس ، روحك التي عانت آلام الدنيا لتتعلق برجاء عظيم جليل هو غاية كل نفس وأمل كل روح ذلك هو رضاء الله تعالى وتلك هي الجنة ، ارفعي يديك إلى الله عز وجل كل حين واسأليه مزيداً من الايمان ومزيداً من التقوى والهدى ، إسأليه الرحمة والعون فأنه مجيب ، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فله الحمد وله الشكر ، أكثري من قراءة القرآن الكريم فهو أعظم راحة للنفس وأعظم دواء للروح وأكبر مطهر من الآثام أعبدي الله بقلب خاشع فأنا نعوذ بالله من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ، أذكريه في الليل ( ومن الليل فاسجد له وسبحهُ ليلاً طويلا ) فإلى
    الأمام يا عزيزتي وحاولي أن تتخلصي من شوائب الألم في حياتك لتنطلقي سعيدة محبورة في رحاب الله ، وها أنا أنتظر منك ما يفرحني ويسعدني من أجلك ويرفع عني آثار الخيبة من جديد واسلمي لي واستودعك الله.

    وفاء

    غاليتي وفاء ألف سلام وألف تحية ومزيد الوداد والاعتذار ،

    وبعد ،
    لا أدري ماذا أكتب ؟ وإنما الانسان الذي كان يتمنى الموت كل لحظة أصبح يرغب في الحياة ، لا لأجل الحياة ذاتها وإنما لأجل غاية مثلى أصبح يسعى لتحقيقها ويهفو لبلوغ الغاية القصوى فيها ألا وهي عبادة الله ... فمن هذا المنطلق بت لا أكترث بالحياة مهما تجنت وبالمصاعب مهما تفاقمت ، وهل الحياة بآلامها وصعابها إلا ذرة تسبح في هذا الكون اللانهائي ؟ شعور بالرضى يغمرني أينما حللت ، الرضى
    بكل شيء بالواقع الأليم والمستقبل الغامض ، رضىً تطمئن إليه نفسي فأجد عنده السلوى والعزاء ، علمتُ أن عجلة الحياة دائرة حزنتُ أم سعدت وعرفت أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء وهي ما اكترثت يوماً لدمعة محزون وما التفتت لابتسامة سعيد ، فلم نطالبها بأكثر مما تملك وبأكثر ما باستطاعتها أن تهب ، ولهذا عدت إلى الأمل أحكي له قصة القلب السعيد فلم تعد آمالي من رمال بعد أن بدأت أبني من جديد ولكن بركائز من الايمان ودعائم من اليقين ... سوف لن أسمح للألم مهما كان أن يقعد بي في صومعة الأحزان فأنا أريد أن انطلق صاعدة إلى عالم الطهر والايمان ، نعم أنني اريد الحياة الدنيا لأجل أن ابني خلالها دعائم السعادة في الحياة الثانية ، وأخيراً وليس آخراً أتمنى أن يتقبلن الايمان في رحابه العامرة وأرجو أن لا تنسيني من الدعاء يا وفاء واسلمي لي.

    رجاء

    عزيزتي رجاء يا أختي الغالية

    لكِ مني أصدق الاخاء والوفاء وأجمل التحيات والدعوات والآن... دعيني لكي أقول الحمد لله ، نعم ، الحمد لله فإن هذا ما كنت أتمناه. أن يكون الانسان الذي طالما تمنى الموت أصبح يرغب بالحياة هذا ما كنتُ أتمناه مهما كانت الأسباب التي تدفعه إلى ذلك ما دامت صالحة ومثمرة ، وهذا ما كنت أهفو إليه أن أجد روحك يغمرها شعور الرضى بكل ما حولك من أسباب الحياة ، صحيح أن الحياة قد تقسو أحياناً ولكن هذه هي طبيعتها فلنسلم بالأمر الواقع ونحاول أن نكيف أنفسنا بشكل نتمكن معه من الصمود أمام قساوتها مهما كانت مرة... ستكون سطورك هذه شاهدة لك يوم القيامة في أنك استجبت لنداء الايمان.

    ( ربنا إننا سمعنا مُنادياً ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ) وما أسعدني بهذا القلب السعيد الذي انطلق نحو رحاب الله بعزم شديد ووعي جديد تاركاً خلفه
    حياة المادة ودنياه اللعوب. فتقبلي فائق دعائي وصادق إخائي وأستودعك الله الذي لا يخون الودائع.
    وفاء
    أختي الغالية وفاء لا عدمتك
    في حياة مصدر هداية ومشكاة نور يا اختي سأكون قوية.. سأكون أقوى من الألم وأقوى من الحيرة... سأُبيد الألم وأسلوه من دون شوق ، سأفارقه دون رجعة بعد أن اشتد ساعدي بسلاح الايمان سأهدم صرح الألم الشامخ ذاك الذي أقمته على أنقاض راحتي وسعادتي ، لقد صحوت من بعد غفلة ، صحوت لكي أنطلق في مسيرة النور نحو العفو الإلهي ، نعم نحوك يا إلهي ، فما أروع رحمتك حين يتحسسها العباد وما أهون الصعاب في سبيلك يا رب وما أروع العذاب من أجلك ما أيسر العسير في طريقك وما أحلى المر في الوصول إليك ، هانت يا إليهي دمعة لا تذرف إلا من أجلك وبعدت يا مناي
    غاية لا تؤول إليك ، إلهي أن تظافرت في حياتي طرق الشقاء فإن لي في طريقي إليك سعادة لا تدرك وإن أطبقت علي سماء الدنيا فإن لي في ذكرك أُفقاً أرحب وأوسع إلهي ما أروع أن أسعى اليك فأحجب عنك فتنطلق إليك روحي من قيود أسرها وتهرب إليك نفسي من ثقل حديدها إلهي ما عدت أرغب إلا في رضاك ولا أطمع إلا في عفوك ولا أسعى إلا إلى فنائك.. إلهي. ما الدنيا إلا ساعة شوق إلى لقائك وما الحياة إلا ممر درب إلى فنائك ، وما العمر إلا لحظات كفاح من أجلك وفي سبيلك ، فاجعل حياتي يا رب كلمة رضا واجعل أعمالي يا إلهي ساعة جهاد واجعل روحي يا سيدي خفقة أمل ورجاء ترنو إلى عفوك وتشتاق إلى رفدك وتحن إلى رضاك.
    إلهي ما باتت الصعاب تقربني إلا اليك وما برح العذاب يشدني إلى إلى الأمل بك ، وما طفقت الدموع تنطلق إلا في سبيلك لعلك رب ترضى ؟ فما أحوجني إلى رضاك واخيراً وليس آخراً استودعك
    الله يا أختي ولك مني مزيد الشكر ومن الله الثواب والأجر واسلمي لي.
    رجاء
    عزيزتي رجاء سلامي ودعائي وصادق ودي وإخائي
    بروحي أنت ما أغلاك عندي وما أروع بلورة روحك الحبيبة وما أروعك يا غاليتي وأنت في حديثك عن الرجاء في الله تبارك وتعالى ، هذا الرجاء الذي يمكن الانسان أن يقف باسماً وسط الدموع ويجعله يضحك بين الآهات ، أنه رجاء برضاء الله وثوابه أن هذا الرجاء إذا نور جنبات قلب الانسان جعل وجهه يشرق بشعاع الأمل وهو في معترك الوحدة والوحشة ، وإن هذا الرجاء هو الذي يساعد الانسان المؤمن أن يفتح صدره للآلام برحابة وأن يمهد قلبه لمرامي السهام برضا واقتناع وليس عن طريق اليأس والاستسلام ، وان هذا الرجاء هو الذي يحيل مرارة الحياة لدى المؤمن إلى حلاوة وعلقمها إلى بلسم وشدتها إلى لين ودعة وقساوتها إلى رحمة
    وحنان ، وان هذا الرجاء هو الصفة التي يتصف بها المؤمن كما وصفه الامام ( عليه السلام ) عندما قال : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى. فما أصعب الحياة عند من لم يتطلع إلى مصدر هذا الرجاء وما أوعر مسالكها بالنسبة لمن لم يمهد له هذا الرجاء منعطفاتها ( سبحانك ما أوحش الطرق على من لم تكن دليله ) فالايمان يا اختاه جنة وارفة الظلال يلجأ إليها الانسان هرباً من سموم الحياة وقيظها. الايمان هو ذلك المنبع العذب الذي يمدنا بالنور والسعادة والنعيم والايمان هو ذلك المعين الذي لا ينضب أبداً والذي يبقى للانسان زاداً في الدنيا وذخراً في الآخرة ، سيري في طريقك يا اخيتي واطرقي بيدك الضعيفة باب الرحمة الالهية. واستودعك الله واسلمي لي.
    وفاء
    أختي الغالية وفاء لا عدمتك
    سلام الله عليك ورحمته وبركاته ... كيف
    أنت يا أعز أخت أرجو أن تكوني بخير... منذ مدة لم أكتب اليك يا عزيزتي وما كنت في ذلك قالية ولا ساهية ولكن الكلمات كانت تعوضني عن السطور وما زلت والحمد لله رافلة في سعاد الايمان ولكنني أشعر بالحاجة إلى مزيد من الاطمئنان. فأنا أخشى أن لا يقبلني الله عز وجل في عبيده ؟ نعم أنني أخشى أن يطردني عن رحابه ؟ لشد ما يقلقني هذا يا أُختاه افتراك مجيبة عنه ولو بكلمات... هذا واسلمي لي دائماً وأبداً أُختاً رحيمة هادية.
    رجاء
    غاليتي رجاء يا أُختي المصطفاة
    حرسك الله بعينه التي لا تنام ، وبعد
    متى كان الله عز وجل يطرد عن بابه من طرق تلك الباب بيد الثقة والرجاء ؟ ومتى كان الله عز وجل يصرف عن رحابه قلوباً ساقها الشوق إليه وقادتها العبودية المطلقة إلى التطلع نحو فيض حنانه والتماس
    غفرانه ؟ نعم كيف يكون ذلك والحديث الشريف يقول ـ من تقدم نحو الله خطوة تقدم الله نحوه عشر خطوات والآية المباركة تقول : ( من جاء بالحسنة فلهُ عشرُ امثالها ) حاشا لله أن يتجاهل النغمات التي صاغها الايمان لترتفع إليه نقية خالصة متبلورة... هذا وإليك مني أصدق الاخاء والدعاء واستودعك الله الذي لا يخون الودائع واسلمي.
    وفاء
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني