النتائج 1 إلى 13 من 13
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي محمد بن المختار الشنقيطي: الخلافات السياسية بين الصحابة

    كتاب مهم حسب تصوري لأنه من آخرما كتب في الفكر السني، ورغم مافيه من بعد طائفي، يؤكد أحياناً أن الطائفية تستغرق حتى المعتدلين في الإنتماء المذهبي السني. لا بأس بقراءة الكتاب لمن يريد الإطلاع على التغيرات التي طرأت على نهج التفكير السني مع محورية العقل التبريري ومركزية إبن تيمية.


    http://www.fiqhsyasi.com/Sahaba.pdf



    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    المشاركات
    402

    افتراضي

    الرابط لايعمل، لربما هناك بديل او سبب؟

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    الكتاب
    تقبلوا التحية


    الخلافات السياسية بين الصحابة
    رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ


    محمد بن المختار الشنقيطي



    إهداء

    إلى الذين يُؤْثِرون
    المبدأَ على الشخص
    والوحيَ على التاريخ


    "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
    الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"
    سورة الحديد، الآية 25



    "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل،
    فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب
    والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما
    كانوا فيه يختلفون.. اهدني لما اختُلف
    فيه من الحق، فإنك تهدي من تشاء
    إلى صراط مستقيم"
    صحيح ابن حبان 6/335



    "إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في
    كل حال . والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال"
    ابن تيمية



    "إن الظالم يظلم فيُبتَلى الناس بفتنة تصيب من لم
    يظلِم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع
    الظالم ابتداء، فإنه كان يزول سبب الفتنة"
    ابن تيمية



    هداك الله يا تاريخ !!

    هداك الله يا تاريـخ *** يا شيـخ الأضاليلِ
    فما أقدر كفيــك *** على نسج الأباطيلِ
    تحابي الـحي أو *** تظلــم يا تاريخ أحيـانا
    فما مثلك مأمـون *** على أخبار موتـانا

    محمد الأسمر



    فهرس الكتاب

    تقديم: بقلم الشيخ راشد الغنوشي
    مقدمة المؤلف
    مدخل: التأصيل الشرعي والوعي التاريخي
    - جدلية المثَل والمِثال
    - عبرة من قصص القرآن
    - لماذا ابن تيمية؟
    - ولماذا أهل الحديث؟
    - درس بليغ من عمار
    - منهج العلم والعدل
    القاعدة الأولى: التثبت في النقل والرواية
    القاعدة الثانية: استصحاب فضل الأصحاب
    القاعدة الثالثة: التمييز بين الذنب المغفور والسعي المشكور
    القاعدة الرابعة: التمييز بين المنهج التأصيلي والمنهج التاريخي
    القاعدة الخامسة: الاعتراف بحدود الكمال البشري
    القاعدة السادسة: الإقرار بثقل الموروث الجاهلي
    القاعدة السابعة: "اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل"
    القاعدة الثامنة: الأخذ بالنسبية الزمانية
    القاعدة التاسعة: عدم الخلط بين المشاعر والوقائع
    القاعدة العاشرة: الابتعاد عن اللعن والسب
    القاعدة الحادية عشرة: الابتعاد عن التكفير وعن الاتهام بالنفاق
    القاعدة الثانية عشرة: التحرر من الجدل وردود الأفعال
    القاعدة الثالثة عشرة: إدراك الطبيعة المركبة للفتن السياسية
    القاعدة الرابعة عشرة: التركيز على العوامل الداخلية
    القاعدة الخامسة عشرة: اجتناب الصياغة الاعتقادية للخلافات الفرعية
    القاعدة السادسة عشرة: الابتعاد عن منهج التهويل والتعميم
    القاعدة السابعة عشرة: التمييز بين السابقين وغير السابقين
    القاعدة الثامنة عشرة: اجتناب التكلف في التأول والتأويل
    القاعدة التاسعة عشرة: التدقيق في المفاهيم والمصطلحات
    القاعدة العشرون: التمييز بين الخطإ والخطيئة، بين القصور والتقصير
    القاعدة الواحدة والعشرون: التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدَري
    القاعدة الثانية والعشرون: الحكم بالظواهر والله يتولى السرائر
    ملاحظات على منهج ابن تيمية
    حوارات مع مدرسة "التشيع السني"
    مآخذ منهجية على ابن العربي
    ملاحظات على كتاب "العواصم"
    1- أحكام على النصوص
    2- أحكام على الوقائع
    3- أحكام على الرجال
    ابن العربي متكلما وقاضيا
    خاتمة: عود على بدء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    تقديم
    بقلم / الشيخ راشد الغنوشي


    كتاب جدير أن يقرأ وتعاد قراءته: الخلافات السياسية بين الصحابة


    على قلة ما يصدر من كتب في بلاد العرب (ما يصدر في جميعها لا يتجاوز ما ينشر في بلد أوروبي صغير) فإن ما يقرأ منها قليل، وما هو جدير بالقراءة أقل. ولست أرتاب في أن كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" لمؤلفه الأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي هو في الخط الأمامي منها. لقد كان من بين الكتابات القليلة التي وجدت في قراءتها متعة ظلت تشدني الى استئناف ومتابعة القراءة، كلما قطعتني مشاغل الحياة عنها.

    بدأتُ القراءة قياما بواجب الأخوة، استجابة لطلب كريم من الأستاذ المؤلف، إذ اختصني بشرف تقديم مؤلَّفه إلى القراء، ولكني ما إن مضيت في القراءة بضع صفحات - مستصحبا نية القيام بالواجب - حتى تحولت القراءة مقصدا بذاتها، أو قل لما تسكبه في النفس من لذة روحية مع كل صفحة، بل مع كل فقرة ترتشفها من هذا المعين المعرفي الصافي، وأنت تتابع نظمه الدقيق العميق للقواعد الاثنتين والعشرين التي استخلصها منهاجا في التعامل مع مرحلة التأسيس لحضارة الإسلام منذ يوم السقيفة، يوم انتقلت مهمة هداية البشرية من طور النبوة المعصومة إلى طور خلافة البشر الخطائين، وقد أزف زمن تجسيم وصية القائد عليه السلام وهو يودع أمته عن: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" < متفق عليه>.

    إنه كما وفق الشيخ البنا في صياغة الاسلام ومنهج الوصول الى حقائقه في عشرين مسألة غاية في الوضوح والدقة، فقد وفق سليل العائلة الشنقيطية ذات الأيادي البيضاء في خدمة هذا الدين - علومه وآدابه وجهاده - إلى تناول مرحلة التأسيس لحضارة الاسلام في كل أبعادها، تلك المرحلة التي تَشطّر فيها الضمير الإسلامي والاجتماع الإسلامي، ولا يزال الجرح مفتوحا، ولا يزيده كرّ الزمان إلا عمقا، لا سيما مع ما تحمله هذه الأيام ضروب الإحياء الديني من بشائر، لا تخلو من نذر الغلو والتشدد، تأجيجا لما خمد من نيران الفتن والهرج، حتى تحول - أو كاد - خير القرون والأدنى إلى مثاليات الاسلام إلى حقل منازعات من دون نهاية، ومصدر هدر غير محدود لطاقات الإسلام، وأساسا لتمزيق أبدي للاجتماع الإسلامي.. بدل أن يمثّل قاعدة للإجماع، وقبلة تهدي الحائرين. وما ذاك إلا بسبب المناهج الخاطئة التي تناولت خلافات الأصحاب بالتأريخ والسرد ثم بالتأويل، خدمة لأغراض أو انسياقا مع جهالات، وذلك بعيدا عما أوجبه الإسلام على المسلم من التزامٍ بنهج العلم والعدل معا.

    ولقد تبدو الإثارة المتجددة لما حدث من منازعات بين الأصحاب رضوان الله عنهم- مهما كان المنهج والقصد- نوعا من نكء الجراح، أو بحثا متجددا عن نصرة مذهب أو حزب، أو الإساءة الى آخر، وهو ما يحمل النفوس الطيبة على العزوف عن الخوض مطلقا في هذه المخاضة، لما يشغلها من هموم مواجهة التحديات الراهنة ما يكفيها ويغنيها، وقد ترى فيها نوعا من الملهيات والصوارف عن مواجهة الراهن، والتورط في لجج فتن لم نخرج منها بطائل غير نكء الجراح ومزيد من التمزقات.. بما يبدو معه الموقف الأسلم هو طيّ صفحة تلك المرحلة من تاريخنا بخيرها وشرها، مكتفين بشمل الجميع بالترضي أو التّرحّم: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" (البقرة 134).

    ومع أن الكف مطلقا عن الخوض أو التفكير فيما حصل هو من قبيل الافتراض النظري المتعذر، إذ كيف تُصرف أمة عن تناول مرحلة التأسيس فيها، وعصرها الذهبي، فإنه حتى ولو كان ذلك ممكنا- وما هو بالممكن - فليس هو بحال نافعا، لما يورثه من عُقد وأخلال فادحة في بنية الشخصية الحضارية للأمة. بل هو غير جائز أصلا، فنحن مأمورون بالتأسي "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"< أخرجه الترمذى وصححه وابن حبان والحاكم، وضعّفه ابن القطان الفاسى >

    إن التناول لوقائع التأسيس لا مناص منه، بل نحن مأمورون به لما يحمله لنا في كل حين من قربات ومنافع، إذا ما توفَّقنا إلى المنهجية العلمية القويمة التي تجمع بين قاعدتي العلم والعدل، والإحاطة التامة بموضوع البحث، وخلوص القلب من الأغراض غير غرض درك الحق والتمسك به. وهو ما تحقق فيه للأستاذ الشنقيطي شأو بعيد من التوفيق في هذه الكتاب الصغير حجما العظيم فائدة ومؤونة.

    لقد قدم الأستاذ الشنقيطي خدمة مهمة جدا لأجيال الحركة الاسلامية المعاصرة من خلال إعادة قراءة وقائع الاختلاف بين الأصحاب، الذي لوَّن تاريخنا ولا يزال بصبغته الخاصة، حسب نوع القراءة الأيديولوجية له. وإذا كانت القرءات الخِداج بسبب ما خانها من علم أو عدل أو منهما معا قد أسهمت الى حد بعيد في النيل من قوة تماسك الأمة وعزتها، حتى في زمن لم يكن أعداؤها قد مالت موازين القوة لجانبهم، فكيف وقد مالت كفتهم ميلانا عظيما، فاستطالوا علينا، وضربوا في القلب من دار الإسلام، وذرّت قرون التهديد والوعيد لكل متعلقات الأمة العقدية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبلغت استطالتهم حد تكثيف الضغط على مؤسسات طباعة المصحف، وعلى مؤسسات التعليم الديني، والإعلان عن ميزانيات لفرض مناهج العلمنة، كل ذلك وسيف الاحتلال فوق الرؤوس..

    وبدل أن تفشو في مثل هذه المناخات ثقافة الإجماع ورص الصفوف، لمواجهة خطر وجودي يتهدد الأمة بكل مكوناتها وفِرَقها، تنبعث وتستطير في أوساط من صحوة الإسلام - المعول عليها بعد الله في التصدي لتلك الأخطار - دعوات ومناهج الغلو والتكفير، تأسيسا لاستباحة الدماء والأموال المعصومة، وإفشاءً للرعب والتقاتل بين المسلمين، واستعداءً للأمم عليهم.. في ذهول عن أراض محتلة يستغيث أهلها إخوانهم لدعم جهادهم التحريري، و ذهول كذلك عن حقوق مضيعة في الأمة وشرائع معطلة، ما يوجب بذل الوسع في وحدة وتراص صفوف المقاتلين، مما جاء الوحي بالثناء والتحريض عليه: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"<الصف 4>.

    وليس إلى ذلك من سبيل غير إعادة بناء ثقافة الإجماع. وبدهي أن الغلو أبعد ما يكون عن النهوض بهذه المهمة، بل هو النقيض لها من كل وجه، بما يشيعه من ثقافة التكفير والإقصاء، واحتكار النطق باسم السماء، بعيدا عن المنهج الوسطي القادر وحده على صناعة الإجماع، من أجل مواجهة فعالة لما يتهدد الأمة من جسيم الأخطار والتحديات الخارجية والداخلية.

    لقد توفق الأستاذ الشنقيطي في تناوله بالبحث والتحليل لما نجم من خلافات بين الأصحاب الى الالتزام بقواعد منهجية واضحة ودقيقة ومؤصلة، مثل "الفصل بين الشخص والمبدإ وبين الوحي والتاريخ ترجيحا لقدسية المبادئ على مكانة الأشخاص مع الاعتراف بفضل السابقين في حدود ما تسمح به المبادئ".. بما يرفع الحرج عن المؤمنين من تناول وقائع تلك المرحلة تأثما، كما يمنع التوظيف السياسي انتصارا لحزب غلاة التشيع، في مقابل "التسنن الشيعي" الذي انتهجه قوم من السنة بدافع رد الفعل على غلو التشيع، فلجُّوا في الخصام، وركبوا مركبا صعبا في الدفاع عن الظلم والاستبداد والردة السياسية، وترسيخ التفسير التآمري للتاريخ، على أنقاض الحقيقة التاريخية الموثقة، ومقاصد الإسلام في العدل والشورى..

    توفق الأستاذ الشنقيطي أيما توفيق في تصحيح تصورات الأجيال الإسلامية الجديدة عن مرحلة التأسيس، بما يقدم خدمة كبيرة للنظرية السياسية الإسلامية، تأكيدا لسلطان الأمة على حكامها، باعتبارها المستخلفة عن الله ورسوله في إقامة الدين.

    والجديد الأهم في ذلك هو اعتماده منهج المحدثين في التعامل مع الروايات الواردة حول وقائع الاختلاف، بما أتاح له الفرز بين الصحيح والسقيم. وتتمثل أهمية ذلك في أنه كثيرا ما تسلح الغلو والتشدد في عصرنا بالاعتزاء إلى علماء السلف، حتى احتكروا هذا الوصف، مستظهرين على مخالفيهم بشيخ الإسلام وتلاميذه من العلماء والمحدثين، لا يترددون في رمي المخالف بكل نقيصة مثل التغرب أو التقليد أو أن بضاعته في علوم الحديث مزجاة، بما يهز الثقة في كل مقالته ولو صحت، منتصرين لمقالتهم وإن جانبت الصواب، أكان ذلك من جهة سندها أم من جهة صحة الاستنتاج.

    هذا الكتيب الصغير في حجمه، الكبير في مدلولاته، يسد هذه الثغرة بحرصه على صرامة التحقيق الروائي، كحرصه على الاعتماد شبه الكامل على تناول مسائل الاختلاف بين الأصحاب من خلال تراث شيخ الاسلام ابن تيمية وبالخصوص في موسوعته القيمة "منهاج السنة".

    ورغم أن شيخ الاسلام رحمه الله وجزاه الله كل خير عن الاسلام وأهله أهلٌ للتنويه والتقدير في أبواب كثيرة تفرد في الإبداع فيها، ومنها مسائل الاختلاف بين الأصحاب والأئمة، إلا أنه أخذ يداخلني بعض الحرج من شدة تكثيف التمركز حول تراثه، وكأنه في كفة وبقية علماء الاسلام أولهم وآخرهم في كفة، وقد يرجحهم ..!! وهي مبالغة قد تكون مفيدة للغرض الذي ابتغاه الأستاذ الشنقيطي في تجريد الغلو والتشدد من أهم أسلحته التي يستطيل بها على الأمة: سلاح علم الرواية وتراث شيخ الاسلام ابن تيمية. فأن يُجرَّد التشدد والتكفير والتفسير التآمري للتاريخ وشرعنة الاستبداد من هذين السلاحين، خدمةً للإجماع والاعتدال والوسطية والشورى والديمقراطية، فذلك فضل يُحسب للأستاذ الشنقيطي إذ هُديَ إليه: "يوتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولوا الالباب"

    راشد الغنوشي
    لندن في 15 رمضان 1424 هـ
    [align=center][/align]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة المؤلف


    هذه رسالة خفيفة الوزن، كثيفة المادة، تستهدف تجديد القول في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، والخروج من دائرة الجدل والمناظرة في قضايا المفاضلة بين الصحابة وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين – وهي قضايا نظرية استنزفت العقل المسلم في غير طائل - إلى دائرة التأصيل والتحليل والاعتبار. ويتحكم في هذه الرسالة همُّ الفصل بين الشخص والمبدإ، بين الوحي والتاريخ. وهي في خلاصتها دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد، يمنح قدسية المبادئ رجحانا على مكانة الأشخاص، مع الاعتراف بفضل السابقين ومكانتهم في حدود ما تسمح به المبادئ التي استمدوا منها ذلك الفضل وتلك المكانة.

    وليست هذه الرسالة سردا للخلافات السياسية بين الصحابة أو خوضا في تفاصيلها، بل هي جملة قواعد منهجية مقترحة للتعاطي مع تلك الخلافات، بما يعين على استخلاص العبرة منها لمستقبل أمة الإسلام وآتي أيامها. وليس فيها من تفاصيل تلك الأحداث إلا ما كان ضربا لمثَل، أو دعما لتحليل. ولعل هذه القواعد تكون دليلا لمن هم أحسن تأهيلا وأوسع معرفة بدقائق التاريخ الإسلامي، ليدلوا بدلوهم في إعادة قراءة ذلك التاريخ.

    على أن الرسالة تنتمي إلى الفقه السياسي أكثر مما تنتمي إلى علم التاريخ، وهي بمثابة المقدمة المنهجية لكتابيْ "السنة السياسية" و"الشرعية السياسية" اللذيْن نستعين الله في إتمامهما، ونستجديه قبولهما، وقبول هذه الرسالة.. ووصولَها.

    وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة". كما حرصنا على صياغة الرأي طبقا للوقائع، لا صياغة الوقائع في قوالب الآراء، كما هو شائع في أكثر الكتابات حول الموضوع.

    لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته حرب "صفِّين"، ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية، وهو ما يجعل المهمة اليوم عسيرة. ولا بد للدارس للفقه السياسي والتاريخ الإسلامي من الانتباه لهذه الظاهرة، والاجتهاد في البحث والتنقيب لبناء صورة دقيقة لما حدث في صدر الإسلام من فتن وخلافات سياسية لا تزال تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم. فالبحث في هذا المجال أقرب إلى عمل علماء الآثار الذين يدرسون أطلالا دارسة عبثت بها أيدي الزمان.

    ومما يزيد في عسر المهمة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصيرٍ في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط.

    إن الذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوإ الأدواء الفكرية والعملية. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنته بإطلاق، لأنه معصوم: "عليكم بسنتي.."، ثم أمرنا باتباع سنة الخلفاء من بعده، لكنه قيدها بالرشد: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدإ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء الراشدين. لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد – بكل أسف - في قراءتنا لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، وتبريرٍ للجبرية والخنوع.

    ومن هنا حرصنا في هذه الدراسة على تبني فكرة الإمكان التاريخي، وهي فكرة تنطلق من أن الصيرورة التاريخية – بما هي فعل بشري إرادي – حبلى بالاحتمالات دائما. وما يتحقق في واقع الحياة، ليس هو كل الممكن، بل هو جانب من إمكانات شتى، رجَّحت ظروف الفعل البشري ظهوره. وبذلك تكون فكرة الإمكان التاريخي أداة منهجية فعالة، يتبين من خلالها الفارق بين ما كان، وما هو ممكن، ويصبح التقييم متاحا، استنادا إلى ذلك الفارق.

    لكن "الجبرية الأموية" و"الكربلائية الشيعية" لا تزالان سائدتين في دراسة تاريخ صدر الإسلام، وهما وجهان لفلسفة واحدة، تنطلق من أن ما كان هو حدود الإمكان، وأن لا مجال للنقد أو المراجعة. وبسيادة هذين المنهجين ضيع الفكر الإسلامي فكرة الإمكان التاريخي، وعطل العقل المسلم نفسه في دراسة تاريخه.

    إن الانفعال السائد في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، واستحال ردا للغلو بغلو، مع تعميم وتهويل يساوي بين عثمان وكاتبه مروان، وبين عمار وقاتله أبي الغادية. وقد بدا لنا أن الشباب الإسلامي المعاصر وقع ضحية لمنهج ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" ثم لمدرسة "التشيع السني" المعاصرة التي يقودها محقق كتاب "العواصم" الشيخ محب الدين الخطيب وتلامذته. ولذلك ختمنا هذه الرسالة بمناقشة ضافية لمنهج تلك المدرسة وبعض مزالقها.

    إن ثقافتنا التاريخية العليلة جزء من محنتنا الراهنة. والعلاقة بين الثقافة العليلة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، ولذلك لا عجب أنْ كان السحر ثقافة المصريين أيام الفراعنة. وقد أثمرت ثقافتنا التاريخية العليلة مفارقات غريبة، من مظاهرها أن ضحايا الاستبداد في العالم الإسلامي اليوم هم أقوى المدافعين عنه فكريا، وأشد المبررين له أخلاقيا.. وهم لا يشعرون!!

    لقد انتصر المجتمع الإسلامي الأول على الردة الاعتقادية التي ثارت في أطرافه، لكنه انهزم أمام الردة السياسية التي نبعت من قلبه. والردة – كما يقول ابن تيمية - قد تكون عن الدين كله، أو عن بعض الدين. وتلك الردة السياسية المتمثلة في تحويل الخلافة إلى ملك هي التي رسمت صيرورة الحضارة الإسلامية ومآلها، ولا تزال تتحكم في حياة المسلمين حتى اليوم.

    ولئن كانت الأولوية عند بعض علماء السنة في الماضي هي كشف "فضائح الباطنية" و"الرد على الشيعة والقدرية"، لأن المبتدعة كانت لهم صولة ودولة يومذاك، تكاد تطبق على مشرق العالم الإسلامي ومغربه.. فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية. إضافة إلى أن البدع السياسية لا تقل خطورة عن بدع الاعتقاد، كما تشهد به عبرة أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام.

    لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوع بطابع التبرير والدفاع، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ، لا فقه التقويم. ذلك أن من طبيعة المبدإ الأخلاقي العموم والاطراد، فليس من الممكن تحريم الظلم السياسي على الخلف، وإباحته للسلف، دون وقوع في تناقض فكري وأخلاقي.

    لقد كان التحرج من الخوض في الخلافات السياسية بين الصحابة واضحا وشائعا لدى علماء الأمة وصلحائها، لكن ذلك لم يمنعهم من الخوض فيه لغاية التعليم والتأصيل والاعتبار. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمعه بابا بعنوانٍ ذي دلالة، فقال: »باب فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الإمام أحمد رحمه الله وأصحاب هذه الكتب أخرجوه ما أخرجته« وهو يقصد بـ"أصحاب هذه الكتب" أصحاب المسانيد التي جمعها الهيثمي في كتابه، كالطبراني والبزار وأبي يعلى.. فالهيثمي يلخص هنا الإشكال: لا ينبغي التخوض في هذا الموضوع لمجرد التسلية وتزجية الوقت، لكن الحديث فيه يكون أحيانا ضرورة علمية وعملية. وليس هو بالبدعة المستحدثة، بل سبق إليه أكابر من أهل السنة والحديث، كالإمام أحمد وغيره.

    ومهما يعترضْ معترض أو يجادلْ مجادل بأن الكتابة في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة نكءٌ لجراح الماضي السحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر.. فإن الأمة لن تخرج من أزْمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت إليها.

    لا أحد يطرب بالحديث عن الاقتتال الذي نشب بين الرعيل الأول من المسلمين، ولا أحد يستمتع بنكء جراح الأمة، لكن الطبيب قد يوصي بالدواء الـمُـرِّ، ويستخدم مِبْضَعه وهو كاره.. وتلك أحيانا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء.

    والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل


    محمد بن المختار الشنقيطي
    01 رمضان المبارك 1424 هـ الموافق 27 أكتوبر 2003م
    لباك – تكساس – الولايات المتحدة الأمريكية
    [align=center][/align]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    مدخل
    التأصيل الشرعي والوعي التاريخي


    يعتبر الوعي التاريخي جزءا أساسيا من ثقافة أية أمة حريصة على بناء مستقبلها ضمن قيمها الخاصة. وتتأكد قيمته في أمتنا الإسلامية، نظرا لارتباط حضارتها بالوحي، ونظرا لإرثها التاريخي الضخم. وبالوعي التاريخي الصحيح يتوصل أبناء الأمة إلى تحقيق أمور ثلاثة:

     وضع حد فاصل بين الوحي والتاريخ، بحيث يتم التقيد بالوحي المنزل كتابا وسنة، ويتم الاعتبار بالتجربة التاريخية، دون اتخاذها أصلا يُبنىَ عليه، أو معيارا تتم المحاكمة على أساسه.

     وضع حد فاصل بين المبادئ ووسائل تجسيدها التاريخية. بحيث يصبح الباب مفتوحا أمام تجديد الوسائل دون تحريف للمبادئ، ولا يتم الجمود على وسائل معينة، حتى ولو أثبتت جدواها في الماضي.

     وضع حد فاصل بين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ. فالأشخاص يستمدون مكانتهم من خدمة المبدإ، فإذا تحول الحفاظ على تلك المكانة إلى غض من المبدإ، أو عدم وضوحه في أذهان الناس، فقد انحرف عن قصده.

    وتمتاز فترة التأسيس في تاريخ أية أمة بأهميتها الخاصة، ويصبح الوعي التاريخي بها ضرورة لازمة، نظرا لتداخل المبادئ والوسائل والأشخاص في هذه المرحلة. فالغالب أن مرحلة التأسيس تتحول في أذهان الأجيال التالية إلى "مرحلة تقديس": ليس تقديسا للمبادئ فقط – فهذا أمر لازم – بل تقديس لوسائل تلك المرحلة ورجالها.

    تأسيسا على كل هذا، تهدف هذه الرسالة إلى المساعدة على بناء وعي تاريخي متزن بالخلافات السياسية بين أهل الصدر الأول – وخصوصا الصحابة رضي الله عنهم – مع التركيز على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث في هذا الشأن. وقد اجتذبتني للكتابة في هذا الموضوع عدة اعتبارات، منها:

     أن جيل الصحابة رضي الله عنهم يمثل جيل التأسيس في تاريخ الإسلام، فهو الجيل الذي عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره، وهو الجيل الذي أرسى دولة الإسلام الأولى وبسط حدودها. فكل ما صدر عن ذلك الجيل أخذ صبغة الأساس - صراحة أو ضمنا - عند من تلاهم من أجيال الإسلام. فلصوابهم قيمته التأسيسية، ولخطئهم خطره الخاص، نظرا لميل الناس إلى استسهال تقليد الأكابر في كل شيء .

     أن الخلافات السياسية التي ثارت بين الصحابة رضي الله عنهم ألقت بظلالها على جميع مراحل التاريخ الإسلامي، بل صاغت الحضارة الإسلامية وطبعتها بطابع خاص، منذ القرن الأول الهجري حتى اليوم. فهي – بحق - مفتاح التاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي . وقد عبر عن ذلك ابن تيمية بقوله: ».. وذلك الشجار بالألسنة والأيدي أصل لما جرى بين الأمة بعد ذلك، فليعتبر العاقل بذلك« .

     أن فهم تلك المرحلة التاريخية الحساسة عبر دراستها دراسة استقصائية تقويمية هو الذي يمكن من تجاوز مضاعفاتها التي لا تزال تتحكم في فكر وواقع الأمة اليوم. ولن يتم الاعتبار الذي يدعو إليه ابن تيمية هنا إلا بدراسة تلك المرحلة التاريخية دراسة دقيقة في ضوء المبادئ الإسلامية الهادية، وكيف يتم الاعتبار بما نجهل حقيقته، ونكمم الأفواه عن الحديث فيه.
     أن كثيرين ممن تصدوا لدراسة تلك الفترة لم يسلكوا منهج عدل وسط يجمع بين قدسية المبادئ ومكانة الأشخاص. بل تحكمت فيهم ردود الأفعال، فوقعوا في الغلو. ولست أعني غلو الشيعة – فهذا واضح وضوح الشمس، وقد تصدى له كثيرون - بل أعني غلو بعض من ردوا عليهم من أهل السنة، وهو غلو خفي دقيق، لأنه صدر باسم الدفاع عن الصحب الكرام.


    جدلية المثَل والمِثال

    إن الصلة بين التأصيل الشرعي والوعي التاريخي أوثق مما يتصور كثيرون، فكل إنسان يحمل صورة ذهنية يسترشد بها في حياته، مركبة من ثلاثة أجزاء:

     مثَل أعلى في صورة مبادئ مجردة يطمح إلى الالتزام بها والنسج على منوالها.

     ومثال في صورة أشخاص استطاعوا الاقتراب من تلك المبادئ، يطمح إلى الاقتداء بهم.

     ووسائل أفلح أولئك الأشخاص في إعمالها بنجاح في خدمة المثَل، يميل إلى اعتمادها.

    ولم يعرف التاريخ البشري - ولن يعرف - تحول المثَل إلى مثال بشكل مطلق، لأن ذلك في غير مستطاع البشر. وحتى حين يوجد الأنبياء - وهم قمة الكمال البشري - فإن حدود الزمان والمكان لا تسمح لهم بتحويل المثل إلى مثال في مجتمعاتهم، والارتفاع بمستوى التدين إلى مستوى الدين بشكل مطلق، لأن الدين هداية إلهية كاملة، والتدين كسب بشري ناقص. ولعل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتطلع إلى إقامة البيت على قواعد إبراهيم نموذج لذلك. أما غير الأنبياء فإن أخطاءهم وذنوبهم تزيد الفجوة بين الدين والتدين اتساعا، إذ هم غير معصومين.

    لكن ليس كل الناس يملكون مستوى من التجريد يمكنهم من التفريق بين المبدإ وحامله، وبين المبدإ ووسائل التعبير عنه زمنيا. وهنا يدخل داء "التجسيد": فتصبح المبادئ مجسَّدة في أشخاص مهما يكونوا عظماء فهم غير معصومين، وفي وسائل مهما تكن ناجحة أيام التأسيس فهي محدودة بزمانها ومكانها.

    ويتولد عن داء التجسيد داءان: الجبرية الجمود. أما الجبرية فهي إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ونظرٌ إلى أحداث الماضي على أنها ضربة لازب لم يكن منها بد، بما يترتب على ذلك من الخضوع لامتدادات الماضي في الحاضر، وسد لأبواب الطموح إلى الاستدراك والتصحيح. وأما الجمود فهو تبلد وانكفاء على وسائل نجحت في الماضي، لكنها لم تعد مناسبة في الحاضر، ولا مجدية في المستقبل، مما يؤدي إلى تخلف المبادئ عن الحياة، وقد كانت مرشدها وحاديها.

    أما العلاج فهو الوعي التاريخي الذي يُدخل فكرة الزمن في دراسة المبادئ، فيتضح التمايز بين المثَل والمثال: بين المبدإ وحامله، وبين المبدإ ووسائل خدمته، فتنفتح أبواب التقييم الصحيح للماضي، المرشد إلى سلامة البناء في المستقبل.

    وهكذا فإن التأصيل لمبادئ الإسلام في السياسة والحكم – مثلا - لن يكون كافيا، إذا ورد في صيغة حديث مجرد عن الشورى والبيعة والعدل …الخ دون تحليل تاريخي لمراحل المد والجزر والاقتراب والابتعاد من هذه المبادئ في تاريخ الأمة، وخصوصا في مرحلة التأسيس التي يتخذها الجميع أصلا ومرجعا. ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحكم والقسْم، فسيجد من المصابين بداء التجسيد مَن يحتج عليه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين آثروا أقاربهم بالولايات والأموال. ومهما يرهقْ نفسه في الحديث عن حق الأمة في اختيار قادتها، فسيجد من يحاججه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين ورَّثوا أبناءهم السلطة.

    وليس من حل لهذه الأزمة الفكرية والعملية سوى التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه بـ"قول الحق وإن كان مرا" ، وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصا أخطاء الأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة من أجيال الأمة.

    لقد أفضى أولئك الأكابر إلى ما قدموا من خدمات جليلة لرسالة الإسلام، فأجرهم على الله تعالى، وعذرهم عنده سبحانه. أما المبادئ فهي حية خالدة، فالحفاظ عليها واجب، ووضوحها في أذهان الناس ضرورة. وحاجة الناس إلى المثَل الأعلى أكبر من حاجتهم إلى أي مثال بشري مهما سما، بعد أن أغناهم الله بالأنبياء المعصومين عمن سواهم.


    عبرة من قصص القرآن

    لقد درج كثير من علماء المسلمين في الماضي والحاضر على الكتابة عن حياة الصحابة وتاريخ السلف بمنهج سرد المناقب والفضائل فقط، محكومين بالجدل مع القادحين في الصحابة رضي الله عنهم، والذين لم يعترفوا لهم بفضل السبق. ورغم فائدة هذا المنهج في استنهاض الهمم الراكدة، وفي الرد على الطوائف المعاندة، إلا أنه يشتمل على جوانب قصور منهجية، أهمها أنه يسلخ حياة الصحابة والسلف الأول من طبيعتها البشرية: طبيعة الصراع بين المثَل والواقع، والمعاناة النفسية في سبيل الارتفاع إلى مستوى المبدإ، ومظاهر السقوط والنهوض، والذنب والتوبة، والغفلة والإنابة.. وهذا هو جوهر التجربة المؤمنة في كل عصر، فإذا فقدها التاريخ استحال من تاريخ حي نابض، إلى تاريخ جامد مقدس، يثير الحماس لكنه لا يمنح الخبرة، يحرك الهمة لكنه لا يقدم العبرة، يُظهر تقصير الخلف لكنه يُقْنطهم من الاقتداء بالسلف ..

    ولم يكن هذا نهج القرآن الكريم في عرض قصص الأولين، وحياة السالفين. فحتى حينما تحدث القرآن الكريم عن الأنبياء المعصومين بالوحي المستدرِك، قدم الصورة مكتملة، متضمنة نقاط القوة والضعف، حتى يستوعب المتدبر العبرة، ويظل التاريخ تاريخ بشر من لحم ودم، لا تاريخ ملائكة جبلوا على الطاعة دون جهد أو معاناة. واقرأ قول الله عز وجل عن آدم عليه السلام: »وعصى آدم ربه فغوى« وعن نوح عليه السلام: »قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم« وعن داود عليه السلام: »وظن داود أن ما فتناه« وعن سليمان عليه السلام: »ولقد فتنا سليمان« وعن يوسف عليه السلام: »ولقد همت به وهمَّ بها« وعن موسى عليه السلام: »قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي« ثم أخيرا عن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأكرم الخلق على الحق سبحانه: »عبس وتولى أن جاءه الأعمى« »عفا الله عنك لم أذنت لهم« .

    وهذا المنهج القرآني هو الذي يجعل الصورة مكتملة، والحجة قائمة، وإلا فما لنا وللاقتداء ببشر تجردوا من صفة البشرية؟! إن الخالق الحكيم العدل لم يكلفنا بذلك، ولذلك بعث إلينا بشرا رسولا، لا ملَكا رسولا، عن قصد وحكمة: »قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا« .

    وخلاصة العبرة من هذا المنهج القرآني أن دراسة تاريخ الأولين - صحابة أو غير صحابة - ينبغي أن تحرص على تقديم الصورة كاملة، بجوانبها المضيئة والقاتمة، فلا يوجد تاريخ كله مناقب أو مثالب، والعبرة من الخطإ والتقصير تساوي العبرة من الصواب والنهوض، بل قد تفوقها أحيانا. وفي حياة كل المؤمنين عبرة، سواء من كان منهم ظالما لنفسه، أو مقتصدا، أو سابقا بالخيرات بإذن الله.


    درس بليغ من عمار

    إن المنهج الذي ندعو إليه في هذه الدراسة، ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث خيرَ من نظَّر له وطبقه، هو منهج قائم على التوازن بين احترام مكانة الأشخاص والتقيد بقدسية المبادئ. وهو يراعي الترجيح الذي يصبح ضرورة شرعية وعملية أحيانا، حين لا يكون الجمع بين الأمرين متاحا، فيتحيز للمبادئ دون لجلجة.

    وقد وجدنا أبلغ الدروس في هذا الشأن درسا من عمار بن ياسر رضي الله عنه أيام حرب الجمل: »عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي، فقدما الكوفة، فصعدا المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه، فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي« وفي رواية: ».. فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها« وفي رواية أخرى »إن عائشة لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنه بلاء ابتليتم« وفي أخرى: »فقال عمار: إن أمير المؤمنين بعثنا إليكم لنستنفركم، فإن أمنا قد سارت إلى البصرة … « »وفي لفظ ثابت : "أشهد بالله إنها لزوجته.. « . و»عن عمرو بن غالب: أن رجلا نال من عائشة عند عمار، فقال [عمار]: اغربْ مقبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟« .

    قال الحافظ ابن حجر: »ومراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي، وأن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام، ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق« »وقال ابن هبيرة: في هذا الحديث أن عمارا كان صادق اللهجة، وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب« .

    على أن أهم ما ينبغي إبرازه هنا هو صياغة عمار لموقفه الحرج تلك الصياغة الدقيقة التي لا يستطيعها إلا الذين استوعبوا معادلة العلاقة بين الشخص والمبدإ. فبدأ ببيان فضل عائشة رضي الله عنها إقرارا بمكانتها ونصحا للسامعين، وانتهى بالدعوة إلى دفعها، إنصافا للمبدإ وبيانا لرجحانه على مكانة أي شخص، حتى ولو كان شخص أم المؤمنين عائشة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: »فقد شهد لها عمار بأنها من أهل الجنة، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره« . والأهم من ذلك أن عمارا بيّن لسامعيه أن الأمر ابتلاء، يحتاج المؤمن المتبصر إلى إدراكه وأخذ العدة له، وهو ابتلاء يجعل الجمع بين الحفاظ على قدسية المبادئ (إياه تطيعون) ومكانة الأشخاص (أم هي) أمر ممتنع أحيانا، ويجعل الاختيار والترجيح أمرا لازما، بعد أن انحصر الأمر بين "إما" و"أمْ"، وأصبحت طاعة المخلوق مقابلة لطاعة الخالق. ولله در الحافظ ابن الجوزي إذ يقول: »… فإنه لا يُقلَّد في الأصول لا أبو بكر ولا عمر. فهذا أصل يجب البناء عليه ، فلا يهولنَّك ذكر معظَّم في النفوس« .

    ولو أن الباحثين الذين يدرسون الخلافات السياسية بين الصحابة نظروا إلى الأمر من هذه الزاوية – زاوية الابتلاء – لنجحوا في منهج التناول. لأنهم في هذه الحالة سيحافظون على مكانة الأشخاص في حدود ما تسمح به المبادئ، لكنهم سيجعلون المبدأ هو الحاكم والمعيار في نهاية المطاف، دون سقوط في داء التجسيد.

    ولا يستمد درس عمار أهميته الخاصة من مجرد شهادة أهل العلم له بالفقه والإنصاف والورع، بل من شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه على الحق في تلك الخلافات، كما سنرى فيما بعد. بل لقد شهد لعمار خصومه في تلك الأحداث، بمن فيهم عائشة رضي الله عنها. قال ابن حجر: »أخرج الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال: قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من [حرب] الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهد عليكم، يشير إلى قوله تعالى: "وقرن في بيوتكن"، فقالت: أبا اليقظان؟ قال: نعم، قالت: والله إنك ما علمتُ لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانكِ« .
    [align=center][/align]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    إن منهج شيخ الإسلام ابن تيمية لا يعدو أن يكون امتدادا لدرس عمار هذا، ولذلك كانت أعظم خاصية لمنهجه في هذا الشأن هي خاصية الاتزان والاعتدال الذي يحرص على إعطاء الرجال حقهم، وإعطاء الحق حقه، وجعل الحق فوق الرجال مهما سموا. وقد شرح منهجه في هذه العبارة البليغة، فقال: » .. ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويثاب ويُعاقَب، ويُحَبُّ من وجه ويُبغَض من وجه« .


    لماذا ابن تيمية؟

    لقد ركزنا في هذه الدراسة على الاستمداد مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وأهل الحديث حول الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم. ولعل سؤالا يثار عن السر في اختيار ابن تيمية دون غيره من أعلام الإسلام الذين تناولوا هذا الموضوع، وكتبوا فيه مجلدات. وأُجمل الجواب على ذلك فيما يلي:

     أن جهد شيخ الإسلام متميز من حيث الكم. فهو كتب في مناقشة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم ما لم يكتبه غيره. ولا نعلم أيا من علماء الإسلام كتب في هذا الموضوع كتبا بحجم "منهاج السنة النبوية " بمجلداته التسعة، أو في حجم المجلدات العديدة من "الفتاوى" التي خصصها ابن تيمية لهذا الموضوع، فضلا عن الكتب والرسائل الأخرى والفصول الكثيرة المنثورة في ميراثه العلمي الضخم.

     وهو متميز – كذلك - من حيث الكيف. فقد استطاع شيخ الإسلام إلى حد كبير أن يجمع بين الدفاع عن مكانة الصحب الكرام رضي الله عنهم، والدفاع عن قدسية المبادئ الإسلامية الجليلة. وهذه معادلة أعيت كثيرين: فإما أنهم أنصفوا المبادئ على حساب الأشخاص، أو أنهم أنصفوا الأشخاص على حساب المبادئ، وهو الأكثر.

     أن كثيرين ممن ينتسبون إلى مدرسة شيخ الإسلام – في هذه الأيام - ويعلنون تبني منهجه في هذا الشأن، لم يدرسوا ما كتبه في هذا الأمر دراسة استقرائية مستوعبة، ولم يدركوا خاصية الاتزان والاعتدال التي اتسم بها منهجه. فاشتط بعضهم في مجادلاته مع الشيعة، ودافعوا عن الحق بباطل حينا، وقدموا صورة شوهاء للمبادئ السياسية الإسلامية أحيانا، حرصا منهم على الدفاع عن أشخاص الصحب الكرام.

     أن شيخ الإسلام نفسه حذر من هذا الأسلوب في المناظرة، وانتقد الذين استفزتهم الخصومة مع الشيعة »فقابلوا باطلا بباطل ، وردوا بدعة ببدعة« وأدرك مخاطر هذا المنهج على الحق وأهله من خلال متابعاته للجدل الدائر بين المسلمين وأهل الكتاب، فقال: »إن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم … وكثيرا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة الله التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة« .

     أن ابن تيمية ميز بين الخلافة والملك بوضوح لم يسبقه إليه أحد، وأعلن أن »خبره [صلى الله عليه وسلم] بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له« وأن الملك » متضمن ترك بعض الدين الواجب« ورفَض تفسير الاستخلاف الذي وقع من أبي بكر وعمر بما يخدم فكرة توريث السلطة كما سنرى فيما بعد.. وذلك هو الفصل بين المبدإ والشخص وبين الوحي والتاريخ الذي نقصده.


    ولماذا أهل الحديث؟

    ويرد نفس التساؤل حول السبب في اختيار أهل الحديث دون غيرهم، والاستمداد من فقههم دون سواهم في هذه المسألة. ونوجز الجواب عن هذا التساؤل في نقاط ثلاث:

     أن المحققين من أهل الحديث اعتادوا على منهج الجرح والتعديل. وعلم الجرح والتعديل علم يتأسس على اعتبار قدسية المبادئ الشرعية فوق مكانة الأشخاص مهما سموا. ولذلك لا يجد أهل الحديث غضاضة في الكشف عن كذب الكذابين ووصفهم بشتى النعوت حماية للسنة من شرهم، ولا يترددون في الكشف تدليس المدلسين وتخليط المخلطين، ومنهم أكابر في العبادة والزهد. وهو ما عبر عنه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بالقول: »باب: بيان أن الإسناد من الدين، وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة« .

     أن أهل الحديث أشد تدقيقا من غيرهم في تلقي الأخبار التاريخية. وفي تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، يتعين الاعتماد على علم الحديث، لأن علم التاريخ "غير مأمون على أخبار موتانا" كما قال – بحق – الشاعر محمد الأسمر في أبياته التي صدرنا بها هذه الرسالة. كما أن العديد من أهل الحديث الذين اعتمدنا تحليلاهم هنا – كالذهبي وابن حجر - جهابذة في علم التاريخ أيضا، جمعوا بين الصنعتين وأحاطوا بالعلمين. فهم أهل للاستناد إليهم والاعتماد عليهم.

     وأخيرا الانطباع الشائع بأن أهل الحديث عموما – وابن تيمية منهم خصوصا - ملتزمون بمنهج التحفظ والتبرير في حديثهم عن الفتن والخلافات السياسية بين الصحابة، وأن كلامهم في الموضوع لا يتجاوز السرد أو الدفاع دون تقويم أو تحليل. فهذه الرسالة تقدم للقارئ البرهان على عكس هذا الانطباع الخاطئ. وسيجد القارئ النبيه من خلال كلام المحدثين الوارد هنا ما يدحض هذا الرأي، ويبين أن العديد من المحدثين تحدثوا عن هذا الموضوع بإسهاب وجرأة وجدارة، وأن شيوع هذا الانطباع مجرد أثر من الآثار السلبية العديدة لعدم الاطلاع الكافي على تراث ابن تيمية وأهل الحديث.


    منهج العلم والعدل

    وقد بين ابن تيمية منهجه في تناول مسائل الخلاف التي مزقت الأمة ، وهو منهج أساسه العلم والعدل. ودعا المسلمين إلى انتهاج هذا النهج. ولم يكن ليخفى على شيخ الإسلام – وقد عايش خلافات الأمة طويلا وخاض غمارها – أن آفة الخائضين في هذه الخلافات دائما تنحصر في أمرين اثنين:

     الجهل بموضوع الخلاف، والتفريط في بحثه واستقرائه استقراء كافيا، يحرر نقطة النزاع، ويتحرى الصدق في الرواية، وينقب عن خلفيات الوقائع وبواعثها. والخوض مع الجهل مخالفة لتحذير الخالق سبحانه: »ولا تقف ما ليس لك به علم« كما هو مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حول القضاة الثلاثة، حيث جعل القاضي بجهلٍ في النار .

     الظلم لأحد الطرفين المختلفين، تعصبا ضده وتجاوزا، أو إغضاء عن الطرف الآخر ومجاملة، رغم أن الله تعالى حذرنا من أن نندفع مع غريزة العداء، أو أن تستخفنا الخصومة، فنتجاوز حدود بيان الحق و الأخذ به، إلى الظلم والتعدي على المخالفين. كما أمرنا بالشهادة بالقسط، ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، فقال تعالى: »ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى« وقال جل من قائل: »يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا« .

    تلك هي المعاني التي استصحبها ابن تيمية، فأوصى أن لا يخوض في هذا الموضوع إلا من تسلح بالعلم والعدل، وإلا فليترك الأمر لأهله، ويفوض الخلافات إلى رب العباد الحكَم العدل. ولم يجعل ابن تيمية مسألة "الكف عما شجر بين الصحابة" مسألة اعتقادية –كما فعل بعض من لا يميزون بين الوحي والتاريخ – وإنما بين أن جماع الأمر كله هو العلم والعدل، فلا مانع عنده أن يخوض المسلم في ذلك »إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله« .

    وقد ألح شيخ الإسلام على تحري العلم والعدل في هذا الموضوع في أكثر من كتاب من كتبه:

     فأعلن أن »الدين كله العلم والعدل« وأن »الله يحب الكلام بعلم وعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتنزيل الناس منازلهم« وقد صدق في ذلك وأحسن، فبالعلم والعدل ومن أجلهما أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل يعلَّمون الناس الكتاب والحكمة، ويدلونهم على منهج القيام بالقسط، قال تعالى: »هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة« وقال جل من قائل: »لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط« .

     وأن السنة مبناها العلم والعدل، وذلك هو منهج المنتسبين إليها صدقا لا ادعاء، فقال: »وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله. فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه، ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله« وقال: »..وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل، ولا من أهل الأهواء، ويتبرأون من طريقة الروافض والنواصب جميعا، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم، ولا يرضون بما فعله المختار [بن أبي عبيد] ونحوه من الكذابين، ولا بما فعله الحجاج [بن يوسف] ونحوه من الظالمين« وهكذا فإن »أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل، ويعطون كل ذي حق حقه« . وابن تيمية يتحدث هنا عما ينبغي أن يكون، أما ما كان بالفعل، فإن بعض المنتسبين إلى السنة لم يلتزموا ذلك، كما سنوضحه في هذه الدراسة من خلال كلام ابن تيمية نفسه، ومن خلال الأمثلة التي نوردها في نهاية البحث.

     وأن العلم والعدل إذا كانا مطلوبين في الفروع الجزئية، فهما في "المقالات" – ذات الصلة بأصول الدين وكليات الشريعة - أولى، والناس إليهما أحوج، فقال:»فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار" . فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه، وأمره ووعده ووعيده« . وفي هذا موعظة للمجترئين على الخوض في هذه الموضوعات بغير علم ولا عدل، والمطلقين الكلام فيها على عواهنه دون تحر أو تدقيق.

     وأن هذا هو منهج الراسخين في العلم من أعلام الأمة، فقال: »ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يُثنى عليه ويُحمَد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهو الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بُعَداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس«

     وأن المناظرة العلمية في أمور الخلاف لا تصلح بغير هذين المبدأين، وتلك هي »المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل، لا بجهل وظلم« . ومن لم يلتزم بذلك فهو إلى البدعة أقرب منه إلى السنة مهما كانت التسميات، لأن السنة طريق ومنهاج، وليست شعارا وادعاء، فقال: »والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع« .

     وأن تحري العلم والعدل في الحديث عما شجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أمر لا مناص منه، وهو أولى وأحرى من تحري ذلك في الحديث عن خلافات غيرهم من عموم المسلمين، قال: »والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر« . »ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم. فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال« .
    [align=center][/align]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

     وأخيرا أن الذب عن الصحب الكرام ليس مبررا للخروج عن هذين المبدأين، بل »إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل« . فلا بد من التأكد أن كلام الخصم قدح بباطل، ولا بد أن يكون دفاعنا محكوما بقاعدتي العلم والعدل، وإلا فهو جهل وظلم، ورد لباطل بباطل.


    أصول منهجية

    إن ما نطمح إليه في هذه الدراسة ليس حصر كلام ابن تيمية وتحليله للخلافات السياسية بين الصحابة – فذلك أمر خارج عن اهتمامنا – وإنما نطمح إلى استقراء بعض القواعد المنهجية التي ذكرها ابن تيمية في كتاباته تصريحا، أو أمكن استنباطها تلميحا من خلال تحليلاته لتلك الخلافات. فهذا البحث يتعلق بالأصول المنهجية الكلية في التعامل مع تلك الخلافات، لا بتفاصيل تلك الخلافات وجزئياتها. وقد دعا إلى ذلك ما عايشناه ورأيناه من انحرافات منهجية عند بعض الخائضين في الموضوع والمتناظرين فيه، أخرجتهم عن حدود العلم والعدل، رغم حسن النيات وسلامة القصد في الغالب. وقد بين ابن تيمية أهمية تلك الأصول الكلية والمبادئ المنهجية العامة في التزام العلم والعدل، فقال: »لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فسيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم« .

    هذه الكليات المنهجية هي أثمن ما قدمه ابن تيمية في هذا المجال حسبما نرى، وهي كليات لا يستغني عنها الباحث في التاريخ الإسلامي والفقه السياسي الإسلامي.

    أما التحليلات الجزئية التي قدمها ابن تيمية فقد اشتملت على بعض الأخطاء الخفيفة في الرواية أو التحليل، سنبين نماذج منها في ثنايا هذه الدراسة. فلسنا نتمذهب بحروف أقوال الشيخ، ولا نرى غضاضة في رفض بعضها، إذا تبين ضعف في سندها، أو تكلف في تقديمها، وهو أمر نادر في كل الأحوال.

    ومهما يكن فإن هذه الرسالة ليست دراسة وافية للخلافات السياسية بين الصحابة، ولا حشدا لكل ما كتبه ابن تيمية في الموضوع، بل مجرد قواعد منهجية حاولنا استنباطها من كتاباته السياسية، وقد أنعم الله بصحبتها زمنا. وربما نزيد أحيانا تحليلات لبعض علماء الحديث، كالحافظين الجليلين الذهبي وابن حجر. وهي قواعد نرجو أن يكون فيها ما يساعد الباحث عن الحق، الطامح إلى فهم أبعاد تلك الخلافات وخلفياتها، المقتنع بأهمية ذلك الفهم لبناء مستقبل الأمة.


    القاعدة الأولى
    التثبت في النقل والرواية

    إن آفة الكثيرين من خاضوا في الخلافات السياسية بين الصحابة هي عدم التحري في النقل. فقد ورثت أجيال المسلمين تراثا ضخما من الروايات المتناقضة عن تلك الأحداث، وفعلت التعصبات والأهواء فعلها، فأصبح جل الباحثين ينتقون الروايات التي تناسب رؤيتهم، دون اعتماد معيار موضوعي في النقل.

    وليس من معيار علمي أحسن من منهج أهل الحديث في النقل، لأنه منهج موضوعي يحكم على الرواية من خارجها، فلا يهتم بدعمها لهذه الرؤية أو تلك، ما دامت قد وردت بسند متصل من الرواة العدول، ولم تشتمل على شذوذ أو علة قادحة.

    لكن الغريب والمثير للأسى في آن هو أن بعض المعاصرين من يُتوسم فيهم الالتزام بمنهج أهل الحديث – بحكم الانتساب والتخصص – لا يلزمون أنفسهم به إلا نظريا، في دراستهم للخلافات السياسية بين الصحابة. فهم يهاجمون الكذابين والمتساهلين في النقل، ثم يسمحون لأنفسهم بكل أنواع التساهل إذا كانت بعض الروايات تدعم وجهتهم في النظر والتحليل. وسنتحدث باستفاضة عن أمثلة من ذلك في ختام هذه الرسالة، حينما نتناول منهج ابن العربي وتلامذته المعاصرين، ضمن فقرة: "حوارت مع مدرسة التشيع السني".

    وقد اطلعنا على عدد من الدراسات لباحثين معاصرين، بذل مؤلفوها جهدا رائعا في نقد روايات المؤرخين حول الفتنة – خصوصا الطبري - وبيان صحيحها من سقيمها. وهو جهد يحتاج الباحثون القادرون على التحليل إلى الاستفادة منه، إذا ما أرادوا الأخذ عن هؤلاء المؤرخين.

    لكن هذه الدراسات عانت من خلل في جانبين:

     أولهما: أن مؤلفِيها لم يبذلوا جهدا كبيرا في استقراء الروايات الواردة في كتب الحديث. ولو فعلوا ذلك بتوسع كاف، لما احتاجوا إلى روايات المؤرخين – وضمنهم الطبري - إلا قليلا. وهذا تقصير غير لائق، خصوصا من المتخصصين في علوم السنة.

     وثانيهما: أنهم لم يلزموا أنفسهم بمقتضى المنهج الذي دعوا إليه. فحالما انتهى كل منهم من نقد روايات المؤرخين، وبدأ تحليل الأحداث، نسي كل قواعد التحديث، وغدا يسرد نقول المؤرخين التي تدعم تحليله – بمن فيهم المعاصرين - دون أي نقد أو مراجعة، ويرد الروايات التي تخالف تحليله دون برهان من قواعد التحديث التي تبناها.

    ومع ذلك تظل لهذه الدراسات قيمة علمية عظيمة في مجال التمييز بين الروايات الصحيحة والسقيمة في تاريخ الطبري، ولعل باحثين آخرين يستفيدون من ذلك الجهد العلمي في تحليل تلك الأحداث أكثر مما استفاد منه كتاب تلك الدراسات، فرب مبلغ أوعى من سامع.

    ومهما يكن فإن الطامح إلى دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة - دون مجازفة في النقل - يحتاج إلى أن يكون صبورا، فيسيح في الكتب الصحاح والسنن والمسانيد دون كلل، ثم يتجه إلى كتب التراجم التي كتبها أهل الحديث، والتي تتضمن تصحيحا لكثير من الروايات التاريخية، وطعنا في الدخيل والمعلول منها. ويكون ممن يملكون قدرة منهجية تركيبية تمكِّنه من ضم هذه الأخبار المتناثرة في سياق واحد، وبناء صورة كلية منها - دون أن يكون عالة على تبويب الأقدمين واهتماماتهم - ثم استنباط دلالة تلك الصورة في الماضي وعبرتها في المستقبل .

    ومهما يكن من أمر، فإن في كتب الحديث غُنْية، وكلما تمرس الباحث في التعامل معها، وغاص على كنوزها، اقتنع أن فيها من التفصيلات عن حياة الصدر الأول كفاية لكل راغب. فإن أراد التوسع، فلن يحتاج من المؤرخين إلا إلى تفصيلات بسيطة تسد ثغرات في صرحه النظري الذي بناه على الروايات الصحيحة، وربما لا يحتاج إلى ذلك أصلا.

    وخير المؤرخين هم أهل الحديث أيضا، فقد جمع عدد من العلماء بين العلمين، وأتقن الصنعتين، ومن هؤلاء الذهبي وابن كثير وابن حجر وغيرهم.. فهؤلاء وإن لم يلتزموا منهج الجرح والتعديل في كتاباتهم التاريخية، إلا أن تمرسهم بالصحيح والسقيم، وخبرتهم في نقد المنقول نقدا مقارنا، يجعلهم ينتبهون في الغالب إلى الروايات المنكرة والشاذة والمكذوبة، التي خالفت ما يعرفونه من الروايات الصحيحة، فينبهون على نكارتها أوشذوذها أو انتحالها، وفي ذلك عون جليل للباحث الحريص على التزام صحة النقل.


    القاعدة الثانية
    استصحاب فضل الأصحاب


    لقد غالى كثير ممن تناولوا الخلافات السياسية بين الصحابة في الغض من بعضهم بالحق وبالباطل. ولم يكتفوا بأخذ هذا الخطإ أو ذاك على هذا الصحابي أو ذاك، بل تناسوا فضائل الصحابة وسابقتهم وجهادهم، فأطلقوا ألسنتهم بالإساءة إليهم، والافتراء عليهم.

    وقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية لهؤلاء – وعلى رأسهم روافض الشيعة – فألف في الرد عليهم كتابه القيم: "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية" ويعرف أيضا باسم "ميزان الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال"، وهو موسوعة اعتقادية وسياسية شاملة، بل لعله أوسع ما كتب في فقه الخلافة على الإطلاق. كما خصص مساحة واسعة من فتاواه لهذا الأمر.

    ومن أبلغ الحجج التي ساقها ابن تيمية في هذا الصدد تبيانه لفضل الصحابة على جميع أجيال المسلمين، باعتبارهم حمَلَة الدين ومبلغيه إلى مَن خلا بعدهم. وفي ذلك يقول: »كل مؤمن آمن بالله، فللصحابة عليه فضل إلى يوم القيامة« . فليس من الإنصاف – فضلا عن العرفان بالجميل – أن تسيء إلى من قدم إليك رسالة الله وهداية الحق. فهذه الحجة ببساطتها وبلاغتها تكفي لإلجام كل منصف عاقل.

    ولا يكون احترام الصحابة الكرام بالغلو فيهم، أو إضفاء صفة غير بشرية عليهم، وإنما بالتزام قواعد الشرع، الذي جعل للسابقة فضلا، ومنع من إهدار ذلك الفضل بمجرد وقوع هفوة أو ذنب من هذا الصحابي أو ذاك. إن الدفاع عن الهفوات وتبريرها لا يستساغ شرعا، لكن إهدار فضل الأكابر بها لا يستساغ كذلك. ولا بأس أن نورد مثالين يمكن اتخاذهما أصلا في ذلك:

    المثال الأول: مِسْطح بن أثاثة رضي الله عنه، وهو رجل من المهاجرين البدريين، وقعت منه هفوة فاشترك في حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. تحكي عائشة قصة سماعها لحديث الإفك أول مرة، فتقول في حديث طويل نقتطع منه الفقرات ذات الصلة بالموضوع : »… فانطلقت أنا وأم مسطح … فعثرت أم مسطح، فقالت: تَعِس مسطح، فقلت لها: بئس ما تقولين، أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ … فأنزل الله هذا [القرآن] في براءتي. قال أبو بكر الصديق – وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره – والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: "ولا يأتلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" قال أبو بكر الصديق: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا …« »ووقع عند الطبراني أنه صار يعطيه ضِعْف ما كان يعطيه قبل ذلك« .

    وتتضمن هذه القصة درسين على قدر كبير من الأهمية لموضوعنا:

     رد عائشة على أم مسطح، واستنكارها لسبها ذلك الرجل المجاهد الذي شهد بدرا، وهو ما يدل على أن الاعتراف بفضل السابقين وأهل نصرة الدين في ساعة العسرة أمر لازم شرعا، وقد كان الصحابة يدركونه ويقدرونه.

     وأن ذلك الفضل والسبق يشفع لصاحبه، فيستحق على المؤمنين أن يتجاوزوا له هفواته، فقد أمر الخالق سبحانه أبا بكر الصديق أن لا يقطع صلته عن ذلك المؤمن المهاجر في سبيل الله، بسبب هفوة بدرت منه، وعثرة أصابته، فهو بشر في نهاية المطاف.

    المثال الثاني: حاطب بن أبي بلتعة الذي حاول تسريب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتحركات جيشه إلى المشركين، وليس ذلك بالخطإ البسيط في ظروف الحرب، ولذلك أورد البخاري القصة تحت عنوان "باب الجاسوس" وأوردها أبو داود تحت عنوان " باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما" . لكن النبي صلى الله عليه وسلم قبِل عذر حاطب، وشفعت له سابقته وجهاده، بعد أن هم عمر بضرب عنقه »فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. قال عمرو [بن دينار]: ونزلت فيه "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" .. « . ففي هذا الحديث كسابقه درس عظيم في الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ، وعدم إهداره بما يقع منهم من عثرة أو كبوة.

    لكن لا بد من التنبيه هنا على أمر غفل عنه الغلاة في كل عصر، وهو أن الاعتراف لذوي الفضل والسابقة بفضلهم، لا يتضمن إقرارهم على هفواتهم، ولا يعطل أحكام الإسلام العامة، ولا يجعل في الحكم الشرعي ازدواجية، بحيث ينطبق على هؤلاء ويستثني أولئك، فقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف على الذين جاءوا بالإفك كافة بمن فيهم المهاجر البدري مسطح بن أثاثة ونزل القرآن يحذر من موالاة أعداء الله وأعداء المؤمنين بعد ما فعله المهاجر البدري حاطب بن أبي بلتعة..


    القاعدة الثالثة
    التمييز بين الذنب المغفور والسعي المشكور


    لقد وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد بالجنة لعدد من الصحب الكرام، منهم العشرة المبشرون، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، مثل حديث حاطب المتقدم، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: »لن يدخل النار أحد شهد بدرا« »لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة« مما يقتضي أن الله تعالى قد تفضل على الذين شهدوا تلك المشاهد الجليلة بالمغفرة والتجاوز عن ذنوبهم. وقد أخطأ في فهم هذه النصوص صنفان من الناس:

     صنف فهم من البشارة بالجنة نوعا من العصمة الضمنية، التي لا يرتكب صاحبها ذنبا بعد ذلك إلا ما كان متأولا فيه من خطإ مرفوع، ورفضوا تسمية الأمور بأسمائها، وتكلفوا في التأول لأخطاء وقع فيها بعض أولئك السابقين، وذنوب أصابوها.

     و صنف أخذوا الذنب غير مقرون بالبشارة، فرتبوا عليه وعيدا دلت نصوص السنة أنه غير واقع، وأنه لا يتناول أولئك القوم، لخصوص البشارات الواردة فيهم. فأخطأوا الفهم، وخالفوا نصوصا صحيحة صريحة.

    وقد بين شيخ الإسلام خطأ كل من المنهجين فقال: »والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان: القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له. والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور. فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل حسناته سيئات، وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات« . ثم يطبق هذه القاعدة الجليلة في حديثه عن العشرة المبشرين وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فيقول: »نحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة، ولا يدخله النار، بل يدخله الجنة بلا ريب. وعقوبة الآخرة تزول عنه إما بتوبة منه، وإما بحسناته الكثيرة، وإما بمصائبه المكفرة، وإما بغير ذلك« »فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية« .

    وهو نفس التحليل الذي انتهى إليه ابن حجر، حينما نبه إلى أن المراد بذلك »أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة، تفضيلا لهم على غيرهم، بسبب ذلك المشهد العظيم« .

    وتمييز ابن تيمية هنا بين الذنب المغفور والسعي المشكور أمر دقيق المسلك، وهو على قدر كبير من الأهمية. لأن بعض المتحمسين الذين لم يلتزموا منهج العلم والعدل حولوا الذنب المغفور هنا إلى سعي مشكور. وهذا أمر خطير، لأنه يؤثر على وضوح القاعدة والمبدإ الشرعي في أذهان أجيال المسلمين. والمنهج العدل يقضي بتسمية الخطإ أو الذنب باسمه دون مواربة، ثم بيان البشارة المتضمنة للمغفرة بالنسبة لمن وردت في أشخاصهم. وبذلك يتم سد الباب أمام الذين يستسهلون الاقتداء بأخطاء الأكابر وذنوبهم، وأمام الذين يريدون القدح فيهم والتطاول عليهم، ويتم إنصاف الشخص والمبدإ كليهما.


    القاعدة الرابعة
    التمييز بين المنهج التأصيلي والمنهج التاريخي


    إن الخلاف الذي دار حول تقييم العديد من مواقف الصحابة وأشخاصهم كان مرده إلى عدم التمييز بين منهج التأصيل ومنهج التاريخ. فالمنهج التأصيلي ينطلق من المبدإ ويحاكم الناس إليه، وهمُّ أصحابه هو الدفاع عن مبادئ الإسلام أن تلتبس بأعمال البشر، أو تغشاها غواشي التاريخ. أما المنهج التاريخي فينطلق من وصف التجربة البشرية العملية، ويقيس بعضها على بعض. وهمُّ أصحابه هو الدفاع عن رجالات الإسلام أن تنطمس مآثرهم، أو تنهار هيبتهم في النفوس. ولو أننا أخذنا بهذا التمييز، لأفادنا ذلك في التقييم المنصف.

    فلنر الآن كيف طبق ابن تيمية هذه القاعدة في تقييمه لشخصية معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما.

    إن أصل الخلاف في الحكم على شخصية معاوية ينبني على الخلاف بين المنهجين:

     فالآخذون بالمنهج التاريخي يقيسون ملك معاوية على من جاءوا بعده من الملوك أو على حكام عصرهم، فيميلون إلى الدفاع عنه. وهذا أمر منطقي، فقد كان معاوية في حكمه وقسْمه ودفاعه عن حوزة المسلمين وبيضة الإسلام.. خيرا من جل أولئك يقينا.

     والآخذون بالمنهج التأصيلي يحاكمونه إلى المبادئ الإسلامية الأصلية التي انبنت عليها دولة النبوة والخلافة الراشدة فيميلون إلى انتقاده. وهذا أمر منطقي كذلك، نظرا للثغرات الكبيرة التي دخلت نظام الحكم الإسلامي على يديه.

    فالأمر – كما هو واضح – يرجع إلى خلاف في المنطلق المنهجي، وكل من التقييمين صحيح في حدود منطلقاته، ما التزم صحة النقل وسلامة التحليل. وقد طبق ابن تيمية هذه القاعدة، فتوصل إلى تقييم منصف لشخصية معاوية، وخرج من الخلاف، فقال: »لم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وأما إذا نسبت أيامه إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. ومعاوية – على ذنوبه – لم يأت بعده مثله ملك« »ومعلوم أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر« . وفي الفتاوى يؤكد ابن تيمية على هذا المعنى بقوله : »اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك« .


    القاعدة الخامسة
    الاعتراف بحدود الكمال البشري


    إن كل دارس منصف يدرك أن جيل الصحابة – إجمالا وليس أفذاذا - بلغ غاية الكمال البشري، وكل مؤمن صادق يتعبد الله بحبهم وبغض من أبغضهم، لكنه – إذا سلم من الغلو - لا بد أن يدرك أن كمالهم كمال بشري. ولذلك لن يستغرب أن يجد حالات من ضعف الجبلة البشرية:

     فقد يكون المرء تقيا، لكن يمسه طائف من الشيطان، بنص القرآن: »إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون« .

     وقد يكون مهاجرا في سبيل الله – بشهادة القرآن - مثل مسطح بن أثاثة، لكنه يشترك في الإفك، ويتخوض فيه.

     وقد يكون رجلا صالحا – مثل سعد بن عبادة – لكن تستفزه الحمية، وقد وصفت عائشة سعدا في أحد المواقف بأنه »كان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية« .

     وقد يكون مجاهدا في سبيل الله – مثل أهل بدر وأحد – لكنه يتوق إلى شيء من عرض الدنيا: »منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة« »تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة«

    وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد شرب الخمر على نعيمان بن عمرو الأنصاري كما أقامه عمر بن الخطاب على قدامة بن مظعون وكل من نعيمان وقدامة ممن شهد بدرا. وهكذا البشر: ضعيف مهما قوي، ناقص مهما كمل، إلا من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين. وإذا صح هذا عن السابقين الذين تخرجوا من مدرسة النبوة بعد طول ابتلاء وعناء، فما بالك بالأعراب والمتأخرين إسلاما، مثل مسلمة الفتح.

    لقد بين ابن تيمية جوانب الضعف البشري هذه لدى العديد من الأكابر، فهو يعلل امتناع علي بن أبي طالب من بيعة الصديق في الشهور الستة الأولى من خلافته بأن عليا »كان يريد الإمرة لنفسه « ويعلل رفض سعد بن عبادة بيعة الصديق تارة بأن الأنصار »كانوا قد عينوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر« وتارة »لكونه كان هو الذي يطلب الإمارة« وتارة بالتحيز لقومه: »وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار« وفي موطن آخر يقول ابن تيمية: »وتخلُّف سعد قد عُرف سببه، فإنه كان يطلب أن يصير أميرا، ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا« . ولم يرهق شيخ الإسلام نفسه في التكلف لتبرير ما قام به سعد أو في التأول له، بل قال: »وسعد وإن كان رجلا صالحا، فليس معصوما، بل له ذنوب يغفرها الله له، وقد عرف المسلمون بعضها« . ومثل هذا التعليل ما ذكره الحافظ الذهبي عن سعد من أنه »كان ملكا شريفا مطاعا، وقد التفت عليه الأنصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعوه، وكان موعوكا، حتى أقبل أبو بكر والجماعة، فردوهم عن رأيهم، فما طاب لسعد« .

    ومن الاعتراف بحدود الكمال البشري عدم تنزيه غير المعصوم عن الهوى والطموح الدنيوي مهما سمت مكانته، وعلا كعبه. قال شيخ الإسلام: »ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحا في وَلايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه، حتى تخرجه من الإيمان. وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا« . وقد طبق ابن تيمية هذا المبدأ على موقف سعد ليلة السقيفة، فقال: »ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتُبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة، فإن الإمامة أمر معين [متعين]. فقد يتخلف الرجل لهوى لا يُعلم، كتخلف سعد، فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوى. ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه« . وحينما تحدث ابن تيمية عن أهل صفين ذكر أن »فيهم المذنب والمسيء والمقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى« وسنورد كامل كلامه فيما بعد.
    [align=center][/align]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    القاعدة السادسة
    الإقرار بثقل الموروث الجاهلي


    لقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم في مجتمع جاهلي له خصائص مميزة، منها:

     الإعلاء من قيمة الدم والنسب، وتوارث المكانة الاجتماعية بعيدا عن المعايير الموضوعية من كفاءة شخصية أو قيمة أخلاقية. وقد عبر عن ذلك عمرو بن كلثوم في معلقته بقوله:

    إذا بلغ الفطامَ لنا صبي يخر له الجبابر ساجدينا

     التسيب والروح العسكرية، فقد كان العربي آنذاك مغرما بامتطاء الجياد وامتشاق السيوف، مولعا بالحرب والنزال، إن وجد عدوا قاتله، وإلا اختلق أعداء من أهله وذويه فقاتلهم، على حد قول قائلهم:

    وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

     انعدام الضوابط الأخلاقية، باستثناء بعض القواعد المتصلة بصيانة الشرف والعرض، وقد أدى ذلك إلى سيادة منطق الأثرة وقانون الغاب. يقول عمرو بن كلثوم مؤصلا لهذه القاعدة الجاهلية:

    ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا

    وقد أتى الإسلام بمفهوم جديد للتضامن الاجتماعي يتأسس على رابطة العقيدة والفكرة، بدلا من رابطة الدم والنسب. وجعل معيار الكفاءة السياسية هو الأمانة والقوة، بدل الوراثة والمكانة الاجتماعية. ووجه تلك الروح العسكرية إلى الجهاد في سبيل الله، بدل التناحر الداخلي. وألهم الناس ضوابط أخلاقية تكفكف من غلواء الذات الفردية والعشائرية، وتقضي بالمساواة بين البشر. وهكذا حول الإسلام القبيلة إلى أمة، والصعلكة إلى جهاد، والطبقية إلى مساواة، والوراثة إلى كفاءة.

    بيد أن الإرث الجاهلي كان ثقيلا، ولم يكن المسلمون الأوائل متساوين في مستوى التحرر منه، والانسلاخ من معاييره السياسية والاجتماعية انسلاخا تاما، كما دلت عليه بعض الوقائع في عصر النبوة. ومنها: ما وقع بين الطائفتين المؤمنتين في العودة من غزوة المريسيع، حتى اضطر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهرهم قائلا: »ما بال دعوى الجاهلية؟!« وما وقع من أبي ذر رضي الله عنه حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:» إنك امرؤ فيك جاهلية« .

    وما نقصده بالموروث الجاهلي هنا، ليس المظهر الاعتقادي الوثني، فذلك أمر طهر الله منه جزيرة العرب بعد الإسلام، إنما نقصد معاييرها السياسية والاجتماعية، وهو المعنى الذي قصده البخاري في عنوانه لهذين الحديثين فقال: »باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفَّر بها صاحبها إلا الشرك« . فالجاهلية هنا هي تلك المعاصي التي اشتهرت بين العرب في الجاهلية في مجال الظلم الاجتماعي والسياسي بالذات، ثم بقيت منها بقايا في المجتمع المسلم عبر العصور.

    وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ثقل هذا النمط من الموروث الجاهلي، حين أوضح أن أمته لن تستطيع التحرر من بعضه، فقال: »أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب .. الخ« .

    وليس غريبا أن تبقى في المجتمع الإسلامي الأول بقايا جاهلية، وأن يتفاوت الناس في التطهر من معاييرها الاجتماعية والسياسية، إذ كان من المسلمين سابقون دخلوا الإسلام أيام المحنة إيمانا واحتسابا، واستمتعوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم مدة مديدة تطهروا فيها وزكت نفوسهم، وكان منهم من دخله متأخرا ضمن الأفواج التي دخلت بعد الفتح، وكان منهم أعراب لم يعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم فترة كافية للتطهر والتزكية. وقد أشار الإمام البخاري إلى أن إسلام كثير من الأعراب كان استسلاما عسكريا، لا إسلاما اعتقاديا، فقال: »باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"، فإذا كان على الحقيقة، فهو على قوله جل ذكره: " إن الدين عند الله الإسلام"« . ولا يعني ذلك بحال أن جميع أولئك الأعراب كانوا منافقين، بل زكا بعضهم وتطهر، وارتد بعضهم وكفر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما المراد أن معايير التنظيم الاجتماعي والسياسي ظلت مشوبة عند كثيرين منهم وعند بعض مسلمة الفتح - وحتى أفراد من السابقين أحيانا - بشوائب الجاهلية، وكان ذلك سببا من أسباب الفتن السياسية والعسكرية التالية بين المسلمين.

    ومن أمثلة ذلك ما رواه عبد الرزاق »لما بويع لأبي بكر رضي الله عنه، جاء أبو سفيان إلى علي، فقال: غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش، والله لأملأنها عليكم خيلا ورجالا، قال: فقلت: ما زلت عدوا للإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئا، إنا رأينا أبا بكر لها أهلا« . والظاهر أن هذه المحاورة بين علي وأبي سفيان – إن صحت - جاءت متأخرة عن بيعة علي للصديق بعد ستة أشهر من خلافته، وإلا فإن عليا اعترض على بيعة الصديق ابتداء، وإن كان من منطلق مختلف عن منطلق أبي سفيان.

    ومنها أيضا ما رواه الحاكم »عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن خالد بن سعيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن، قدم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربص ببيعته [للصديق] شهرين يقول: "قد أمَّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يعزلني حتى قبضه الله عز وجل"، وقد لقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، فقال: "يا بني عبد مناف طبتم نفسا عن أمركم يليه غيركم" فنقلها عمر إلى أبي بكر، فأما أبو بكر فلم يحملها عليه[=لم يؤاخذه عليها]، وأما عمر فحملها عليه، ثم أبو بكر بعث الجنود إلى الشام، فكان أول من استعمل على ربْع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: "أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال"؟ فلم يزل بأبي بكر رضي الله عنه حتى عزله، وأمَّر يزيد بن أبي سفيان« .

    وقد علل شيخ الإسلام بعض الأحداث السياسية في ذلك العصر بثقل المواريث السياسية الجاهلية وكثافة معاييرها الاجتماعية العرفية. ومن ذلك:

    أولا: اعتراض بعض من سادة بني عبد مناف - مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد - على بيعة الصديق – كما رأينا - لأن الصديق من بني تيم، وليس من بني عبد مناف بيت السيادة والقيادة في قريش أيام الجاهلية. قال ابن تيمية: »ولا يستريب عاقل أن العرب – قريشا وغير قريش – كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وبني عدي … ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال : أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم ؟ فقال : يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية، أو كما قال« ثم يعلل شيخ الإسلام ذلك بقوله: »وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلية العرب، يكره أن يتولى على الناس رجل من غير قبيلته، وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف. وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا، فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي، وقال: أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف« . ويشير ابن تيمية هنا إلى قصتي أبي سفيان وخالد بن سعيد الواردتين أعلاه.

    ثانيا: ما بدر من بعض القوم من حرص على جعل الخلافة في البيت النبوي. قال ابن تيمية : ».. وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالولاية، لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس كانوا يقدمون أهل بيت الملك. فنُقل عمن نُقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان. وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده - بحكم رأيه - أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية وحكم الإسلام. فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض – وهو التقديم بالإيمان والتقوى – فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر« .

    ثالثا: ما بدر من بعض الأكابر أحيانا من عصبية لأبناء العشيرة، على حساب أخوة الإيمان، مثل ما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه أيام الإفك من تحيز لعبد الله بن أبي رأس المنافقين، رغم إساءة ابن أبي إلى بيت النبوة. قال ابن تيمية: »وقد عُرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لسعد بن معاذ :"والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله"« .

    ثم عمم شيخ الإسلام تعليله بتأثير الموروث الجاهلي، ليشمل كل المعترضين على بيعة الصديق من قريش ومن الأنصار، فقال: »ففي الجملة جميع من نقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر. وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته، وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية والطرق الدينية، ولا هو مما أمر الله ورسوله المؤمنين باتباعه، بل هو شعبة جاهلية، ونوع عصبية للأنساب والقبائل، وهذا مما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهجره وإبطاله« .

    لقد كان للأعراف الاجتماعية والتاريخية تأثير بالغ في إشعال الفتن السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم. وليس مما يستغرب أن يكون معاوية هو أول من حوَّل الخلافة إلى ملك، فقد أمضى شطر عمره في بيت سيادة قريش، وشطرَه الثاني على حدود دولة الروم.


    القاعدة السابعة
    "اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل"


    لقد جعل الإسلام الأمانة والقوة معيارا للكفاءة السياسية. أما الأمانة فتشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالمال والسلطان، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيا من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأمثل والأصلح للأمة. وقد اجتمعت الأمانة والقوة في أفذاذ من الصحابة، منهم أمير المؤمنين عمر، فقد »قيل: يا رسول الله، من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة. وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم. وإن تؤمروا عليا – وما أراكم فاعلين – تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم« . ومنهم عتاب بن أسِيد الأموي الذي ورد فيه من حديث أنس: »أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين« . وسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه »أمين هذه الأمة« .

    لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد، وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن، وليس جيل الصحابة في ذلك استثناء من أجيال البشر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: »اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة" … ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه مرة رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" … وكان أبو ذر أحسن منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا … لا تأمَّرن على اثنين، ولا توَلَّين مال يتيم"« .

    ففي هذا النص التحليلي يورد ابن تيمية مثالين على عدم التوازن في الأمانة والقوة لدى اثنين من الأكابر: المثال الأول هو خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي غلبت عليه صفة القوة، فأحسن الذهبي في وصفه بأنه »سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد« لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله. وهي التي جعلت عمر يستنكر قتله مالك بن نويرة، ثم يعزله فيما بعد.

    يعلل ابن تيمية فعل خالد بقوله: »لم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمـنـزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية. ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حركه على قتالهم« .

    والمثال الثاني هو أبو ذر رضي الله عنه، وقد كان إماما في الزهد والورع وصدق اللهجة ونقاء السريرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يوليه إمارة، وعلل ذلك بضعف أبي ذر الذي يفقده عنصرا من عناصر الكفاءة السياسية بغض النظر عن ورعه الشخصي.

    ويورد ابن تيمية مثالا آخر على عدم التوازن بين الأمانة والقوة، هو ذو النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه الذي طغت أمانته على قوته فآنس فيه بعض الطامعين ضعفا »فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا« وسنورد كامل تحليله لأسباب مقتل عثمان رضي الله عنه لاحقا إن شاء الله.

    ومما يدل على عمق الفقه السياسي لدى ابن تيمية ما لاحظه من حرص الخلفاء الرشدين على انتهاج نهج التكامل في التولية والعزل. والمراد بالتكامل هنا أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوة، لأن التوازن المطلق كمال مطلق، وهو غير متاح للبشر. يشرح شيخ الإسلام ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة، فيقول: »إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه« .

    وفي قوله عن عمر: »كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله« .

    إن منطق التكامل هذا هو الذي دفع الصديق إلى التشبث بخالد في وقت ارتداد العرب ورميهم للإسلام عن قوس واحدة، رغم أنه كانت لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه "المرهِق"، وتصرفه في المال، ومخالفته للخليفة. قال ابن حجر: »كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر« . لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مأزق الردة، إدراكا منه لرجحان الاعتبارات العسكرية على غيرها يومذاك. ولهذا »حين أشار عليه عمر بعزله قال أبو بكر: فمن يُجزئ عني جزاء خالد؟« . ويروَى أن أبا بكر قال مرة حينما اعترض لديه عمر على سلوك خالد:»والله لا أشيم سيفا سله الله على عدوه« .

    إن الانتباه إلى عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب البشر، وعدم توازنهما لو اجتمعتا في الشخص الواحد، يمكِّننا من الأخذ بالنسبية الموضوعية في دراسة تلك الحقبة التاريخية ورجالاتها، حتى ننصف القوم ونقدرهم، وننصف المبادئ ونقدسها. فقد يستحق شخص الثناء في جانب والنقد في جانب، رغم أنه عظيم من العظماء. فلو أن دارسا يكتب عن موضوعات تدخل في نطاق صفة "القوة" مثل الخبرة العسكرية أو العبقرية الإدارية أو الدهاء السياسي، لوجد لدى شخصيات مثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ما يستحق الإشادة والثناء بدون ريب، بل لوجدهم على قمة من عرفهم التاريخ البشري من القادة السياسيين والعسكريين والإداريين. لكن نفس الدارس لو كتب عن موضوعات تدخل في نطاق الأمانة مثل الشرعية السياسية، أو العدل في القسْم والحكم، أو الزهد في الولايات العامة، وعدم الإيثار أو الاستئثار بها.. لوجد لدى تلك الشخصيات ذاتها ما يستحق النقد حقا لا ادعاء. واسمع إلى الحافظ الذهبي في حكمه على شخصية معاوية: »قلت: حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم، فيضبطه ويقوم به أتم قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه … وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد« ويقول في موضع آخر: »ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات، والله يعفو عنه« »وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد، وترك الأمة من اختياره لهم« . واسمع إلى الذهبي أيضا في حكمه على شخصية عمرو بن العاص: »داهية قريش ورجل العالَم، ومن يُضرَب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم« »كان من رجال قريش رأيا ودهاء وحزما وكفاءة وبصرا بالحرب، ومن أشراف ملوك العرب، ومن أعيان المهاجرين، والله يغفر له ويعفو عنه، ولولا حبه للدنيا، ودخوله في أمور لصلح للخلافة، فإن له سابقة ليست لمعاوية« »افتتح إقليم مصر، ووليَ إمرته زمن عمر وصدرا من دولة عثمان. ثم أعطاه معاوية الإقليم، وأطلق له مغلَّه ست سنين لكونه قام بنصرته.. ولقد خلَّف قناطير مقنطرة« .


    القاعدة الثامنة
    الأخذ بالنسبية الزمانية


    إن كثيرا من أحداث الماضي يأخذ حجما أصغر أو أكبر من حجمه إذا كان منظورا إليه نظرة مجردة من الزمان. وبإدخال عنصر الزمن في ثنايا الحدث التاريخي يظهر على حقيقته، دون تضخيم أو تحجيم. وقد طبق شيخ الإسلام هذه القاعدة في كتاباته التاريخية، فامتاز تحليله – في الغالب - بالاتزان والبعد عن المبالغات والمجازفات. ومن أمثلة تطبيق هذه القاعدة ما ذكره الحافظ الذهبي – تلميذ شيخ الإسلام – في كلامه عن يزيد بن معاوية في قوله: »كان [يزيد] قويا شجاعا، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة، وله شعر جيد. وكان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر، ويفعل المنكر. افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة. فمقته الناس ولم يبارَك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، كأهل المدينة قاموا لله، وكمرداس بن أدية الحنظلي البصري، ونافع بن الأزرق، وطواف بن معلى السدوسي، وابن الزبير بمكة« .

    لكن الذهبي لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما استخدم النسبية الزمانية ليضع تلك الأحداث في سياقها وحجمها، فقال: »ويزيد ممن لا نسبه ولا نحبه، وله نظراء من خلفاء الدولتين [الأموية والعباسية] وكذلك في ملوك النواحي، بل فيهم من هو شر منه. وإنما عظم الخطب لكونه وُلِّيَ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وأربعين سنة، والعهد قريب، والصحابة موجودون، كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده« .

    أما قول الذهبي: "كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده" فهو رد لطيف منه على قول معاوية يوم اجتماع الحكمين بدومة الجندل: »من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر [أمر الخلافة] فليُطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه« ففي رواية عبد الرزاق زيادة أن معاوية في قوله ذاك كان »يُعرِّض بابن عمر« وسنورد تمام نص هذا الحديث فيما بعد.

    فالذهبي بوضعه يزيد ضمن امتداد تاريخي يشمل الدولتين الأموية والعباسية، بل يشمل كثيرا من ملوك المسلمين من بعد يزيد، يعلمنا أهمية الأخذ بالنسبية الزمانية، ووضع الأمور في موضعها. فلا شك أن يزيد كان من شرار الملوك، وقد ارتكب الفظائع التي تحدث عنها الذهبي، لكن ليزيد أمثالا في تاريخ الأمة بكل أسف.

    ولا يجوز أن نفهم هذه القاعدة فهما جبريا، فنتخذها سبيلا للتهوين من فظائع يزيد، وتسويغ ما لا مسوغ له، وإنما نستعين بها لفهم كل حدث تاريخي ضمن سياقه.
    [align=center][/align]

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    القاعدة التاسعة
    عدم الخلط بين المشاعر والوقائع


    لقد آلمت الخلافات السياسية بين الصحابة جميع أجيال المسلمين التالية، نظرا لمكانة الصحابة في قلوب كل مؤمن صادق، ونظرا لما تكشفت عنه تلك الخلافات من أحداث مروعة سالت فيها أنهار الدماء، وما استتبعته من آثار على المجتمع الإسلامي طيلة تاريخه من تمزقات سياسية وعسكرية، وانشقاقات طائفية ومذهبية. ولا شك أن أي مؤمن صادق يتمنى من أعماق قلبه أن لا تكون تلك الخلافات قد حدثت أصلا. لكن الأماني شيء، والوقائع شيء آخر. ولقد نتج خطأ منهجي عن هذه المشاعر الطيبة، فلم يستطع كثيرون ممن درسوا فتن القرن الأول الهجري أن يفصلوا الحقائق عن المشاعر، بل خلطوا هذه بتلك، فجاءت كتاباتهم مزجا عجيبا بين الذات والموضوع. ولا يرجو الباحث عن الحق أن يجد ضالته في كتابات كهذه، يعبر كتابها عما يتمنون أن يكون حدث، لا عما حدث فعلا.

    ولو أن هؤلاء تجنبوا الخوض في تلك الأحداث أصلا – كما يحبذه بعض أهل العلم – أو انتهجوا نهج السيوطي في إغفال الحديث عن بعض الأحداث المؤلمة انسياقا مع مشاعره، لما كان عليهم من ملام، فقد قال السيوطي عن مقتل الحسين: »وقد وردت في مقتل الحسين قصة طويلة لا يحتمل القلب ذكرها« . ولو أنهم سلكوا منهج "كان ما كان" الذي سلكه بعض أهل العلم لتجنب بعض التفاصيل لما كان في ذلك من بأس، فهذا الإمام مسلم يروي »عن عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت في زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان...« وهذا الحافظ ابن كثير يقول عن معاوية: »ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان« »ثم كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان« ويقول: »ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان« »ثم كان من أمر التحكيم ما كان« »وكان ما كان في أيام صفين« ومثله قول ابن حجر: »فأنشبوا الحرب بينهم الى أن كان ما كان« »فكان من وقعة الجمل ما اشتهر … فكان من وقعة صفين ما كان« (الإصابة 2/501-502) »فكان منهم في صفين بعد الجمل ما كان« .

    إن منهج "كان ما كان" يسع الكثيرين، وليس مثل هذا التحرج بخطإ، إنما الخطأ هو الخوض في الأمر حتى الذقون، دون التزام بمنهج العدل والإنصاف.

    وربما جاء الغلو الناتج عن الخلط بين المشاعر والوقائع في صورة فجة واضحة مثل ما ذهب إليه بعض المتكلمين من إنكار وقوع حربيْ الجمل وصفين أصلا »فقد ذكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفين« لكنه قد يرد في صورة أدق وأخفى، وعلى يد علماء أرسخ قدما من أولئك المتكلمين المتحذلقين. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك..

    المثال الأول: إنكار الحقائق الثابتة بأصح معايير التثبت التاريخي عند المسلمين مثل إنكار امتناع علي بن أبي طالب من بيعة الصديق رضي الله عنهما طيلة الشهور الستة الشهور الأولى من خلافته، وإنكار امتناع سعد من مبايعة الصديق بقية حياته. رغم أن الحديث بالواقعتين صحيح، فقد أخرج البخاري قصة سعد وفيها: »فأخذ عمر بيده [بيد أبي بكر] فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل قتلتم سعدا، فقال عمر: قتله الله« وفي رواية لابن حبان: »ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعدا، قال عمر فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر« .

    وأخرج البخاري ومسلم قصة امتناع علي عن بيعة الصديق ستة أشهر. لكن البعض ينكر ذلك. منهم – على سبيل المثال لا الحصر - إمام الحرمين الجويني، الذي عد الأمر كذبا صريحا افتراه الروافض، فقال: »وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراسا وشماسا في عقد البيعة له [أي للصديق]كذب صريح« . ومنهم القاضي أبو بكر بن العربي وتلميذه المعاصر الشيخ محب الدين الخطيب، وسنتحدث عنهما في نهاية هذه الدراسة بإسهاب. أما البغدادي فيقول: إن عليا والعباس »توقفا عن البيعة له أياما« . ومن الواضح أن هذا لا يثبت - بالنسبة لعلي على الأقل - أمام حديث عائشة الوارد في الصحيحين الذي ورد فيه أن امتناع علي من البيعة دام ستة أشهر، وفيه: »وكان لعلي من الناس وجهةٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر« . وسنعود إلى هذا الأمر بمزيد تفصيل في نهاية الدراسة بإذن الله.

    المثال الثاني: اعتماد نصوص ضعيفة خالفتها نصوص ثابتة، لمجرد أن مضمون النصوص الضعيفة هو الذي يريح ضمير المؤلف. فقد استدل البعض على بيعة سعد للصديق بأثر منقطع رواه أحمد في مسنده عن حُميد بن عبد الرحمن الحميري عن الصديق رضي الله عنه، وفيه أن الصديق قال لسعد: »ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" قال فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء« ورفضوا حديث البخاري في الموضوع أو تكلفوا في تأوله. والمعروف أن الحميري من صغار التابعين، وأنه لم يدرك حياة الصديق ولا بيعة السقيفة، وإنما روى عن متأخري ومُعمَّري الصحابة أمثال أبي هريرة وأبي بكرة وابن عمر وابن عباس. وقد صرح بانقطاع هذا الخبر ابن حجر والهيثمي وأحمد شاكر والألباني وغيرهم. أما قول محقق "منهاج السنة": »وصحح الألباني الحديث« فهو لا يخرج عن إطار ما ذكرناه من الميل إلى تصحيح الضعيف المؤيد لرأي المؤلف ورؤيته. وإلا فإن الألباني لم يصحح إلا أصل الحديث: »قريش ولاة هذا الأمر« بناء على طرق وشواهد أخرى، فقال: »وللحديث شاهد من حديث جابر، وآخر من حديث أبي هريرة، وسيأتي بلفظ: "الناس تبع لقريش"« أما الحوار بين سعد والصديق – وهو مدار الخلاف هنا – فلم يصححه الألباني، بل وافق سلفه من المحدثين، فصرح بانقطاعه قائلا: »رجاله ثقات، إلا أن حميدا لم يدرك أبا بكر كما في "المجمع"[مجمع الزوائد]« .

    المثال الثالث: إيراد بعض المتبحرين في علم الحديث أحاديث موضوعة بينة الوضع، دون تنبيه على وضعها ما دامت تؤيد رأيهم. ولعل الحافظ ابن عساكر من أبلغ الأمثلة هنا، وإن لم يكن الوحيد بكل أسف: فقد ذكر ابن كثير الحديث الموضوع الذي أورده الحافظ ابن عساكر »أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتاب معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين« ثم علق ابن كثير على ذلك بقوله: »والعجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على صناعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره – بل ومَن تقدَّمه بدهر – كيف يورد في تاريخه هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط، ثم لا يبين حالها، ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة، لا ظاهرة ولا خفية. ومثل هذا الصنيع فيه نظر، والله أعلم« وقال في موضع آخر: »والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها« وقريب منه قول الحافظ الذهبي: »وقد ساق ابن عساكر في الترجمة [ترجمة معاوية] أحاديث واهية وباطلة طول بها جدا« .

    وقد فهم شيخ الإسلام ابن تيمية مصدر هذا النوع من الغلو، فحسم الأمر بدون مواربة، ولم يقبل الدفاع عن الصحابة بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو التنكر لحقائق التاريخ. فصرح أن »لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما، ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح« وهاجم أولئك الذين وضعوا لمعاوية فضائل لم ترد في السنة »ورووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب« . وحينما أورد ابن تيمية حديث حميد الحميري في بعض نسخ "المنهاج" صرح بإرساله، كما تقتضيه الأمانة العلمية، ولم يتكلف في رد حديث الصحيحين في السقيفة كما فعل بعض الأقدمين والمعاصرين، بل بنى عليه الكثير من تحليلاته.

    المثال الرابع: الدعوى القائلة أن أحدا من الصحابة لم يحضر الفتنة غير الأكابر المشهورين مثل عائشة وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت. وهي دعوى تعبر عن مشاعر أصحابها الطيبة تجاه الصحابة رضي الله عنهم، لكنها – مع الأسف - لا تعبر عن الحقيقة التاريخية. فقد سرد الحافظان الذهبي وابن حجر أسماء عشرات من الصحابة الذين اشتركوا في الفتنة . وقد ادعى شعبة أن وقعة صفين لم يحضرها من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت واتبعه في ذلك عدد من المعاصرين، وهذا حصر غير دقيق، بل حضرها غيره من أهل بدر، وقد ذكر منهم الإمام البخاري فضالة بن أبي فضالة الأنصاري فقال: »وقُتل فضالة مع علي يوم صفين، وكان من أهل بدر« وذكر الذهبي منهم كعب بن عمرو الأنصاري، فقال :»وقد شهد صفين مع علي، وكان من بقايا البدريين« وذكر ابن حجر منهم ثابت بن عبيد وأسيد بن ثعلبة وسهل بن حنيف وأبا عمرو الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان .كما دلت نصوص عامة على وجود عدد من الأصحاب بصفين، مثل ما أورده الهيثمي في قصة طويلة: »فكان عمار بن ياسر يكون علما لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا يسلك عمار واديا من أودية صفين إلا تبعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم« .

    إن كل هذه الانزلاقات عن منهج العلم والعدل سببها عدم الفصل بين الحقائق والمشاعر في هذه المواضيع الحساسة التي تثير عواطف كل مسلم. وهو فصل ضروري لكل باحث عن الحق في كل عصر ومصر.


    القاعدة العاشرة
    الابتعاد عن اللعن والسب


    لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن لعن بعض المسلمين العصاة، مثل قوله في الرجل السكير الذي كان يلقب "حمارا" لما لعنه بعض القوم: »فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله« . كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن سب المسلم عموما في قوله: »سباب المسلم فسوق وقتاله كفر« والنهي عن سب الأموات: »لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا« »لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا به الأحياء« بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن سب الدهر وسب الريح وسب الديك . ولعل بعض الحكمة من لك تنزيه لسان المؤمن عن قول السوء مطلقا.

    وقد وردت نصوص مخصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن سب أصحابه رضي الله عنهم، أشهرها حديث أبي سعيد الخدري أنه »كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه« .

    وبناء على هذه النصوص النبوية، كره أغلب علماء السنة السب واللعن، ونهجوا نهج التورع عن لعن الشخص المعين بالاسم مهما كانت ذنوبه كبيرة. وقد رسخ ابن تيمية هذه القاعدة وأصلها وطبقها، فقال رحمه الله: »نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله نقول كما قال القرآن: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ولا نحب أن نلعن أحدا بعينه. وقد لعنه [يعني الحجاج] قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد. لكن ذلك المذهب [الأول] أحب إلينا وأحسن. وأما من قتََل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا« . وما كان شيخ الإسلام بالذي يدافع عن رجل مثل الحجاج ارتكب من المظالم والفظائع ما لا يعلمه إلا الله، بل ورد عنه ما يفيد استحلالها والعياذ بالله: »عن عاصم، قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: … والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم . والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان لي ذلك من الله حلالا … « . وإنما قصد ابن تيمية هنا التأدب بأدب الإسلام، وتنزيه اللسان عن اللعن والسب والتكفير، وليس دفاعا عن الظلمة كالحجاج ويزيد ومن لف لفهم، كما نجد لدى مدرسة "التشيع السني" المعاصرة بكل أسف.

    إن موقف ابن تيمية هنا هو امتداد لموقف الإمام أحمد الذي »ثبت عنه أن الرجل إذا ذكر الحجاج ونحوه من الظلمة وأراد أن يلعن يقول: "ألا لعنة الله على الظالمين"، وكره أن يلعن المعيَّن باسمه« .

    وقصة الفقيهيْن الحنبلييْن عبد المغيث الحربي وأبي الفرَج بن الجوزي تكشف عن حساسية هذا الموضوع، وعمق الخلاف حوله، فقد »وقع بينه [أي عبد المغيث] وبين ابن الجوزي نفرة بسبب الطعن على يزيد بن معاوية، فإن عبد المغيث كان يمنع من سبه [لعنه] وصنف في ذلك مصنفا وأسمعه، وصنف ابن الجوزي مصنفا [في الرد عليه] وسماه "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" وقرىء عليه، ومات الشيخ عبد المغيث وهما متهاجران« .

    على أن هذا الجدل الفقهي بين علماء أهل السنة في هذا الموضوع، إنما يتناول من ليسوا بصحابة، مثل الحجاج ويزيد، وأما الصحابة فلا خلاف بين أهل السنة في عدم جواز لعن أي منهم، لخصوص النهي عن سبهم في نصوص السنة.

    والعجب أن بعض المعاصرين من ذوي المكانة في علوم السنة لا يزالون يتعاملون مع أحداث الصدر الأول بأسلوب اللعن والسب. ومن هؤلاء الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي الذي يقول: »..وثمة بدعة أخرى كريهة ظهرت في عهد معاوية، وهي أن معاوية نفسه وسائر ولاته بأمره كانوا يكيلون السب والشتم لسيدنا علي بن أبي طالب في خطبهم على المنابر، لدرجة أنهم كانوا يلعنونه – لعنهم الله – وهو أحب أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قلبه الشريف من فوق منبر المسجد النبوي نفسه، وأمام الروضة النبوية ذاتها. وكان أولاد سيدنا علي وأقرب أقربائه يسمعون هذا اللعن بآذانهم« .

    ويشير الدكتور قلعجي إلى أحاديث صحيحة – بكل أسف - تفيد بأن معاوية وأمراءه كانوا يسبون ويلعنون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على المنابر، ويأمرون الناس بذلك، ومنها:

    »عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب [عليا] ، فقال [سعد] : أمَّا ما ذكرتُ ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وخلفَه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال [سعد]: فتطاولنا لها فقال: ادع لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح الله عليه، ولما أنزلت هذه الآية "قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم" الآية .. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي… « زادت بعض الروايات: »فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة« أو :» فلا والله ما ذكره ذلك الرجل بحرف حتى خرج من المدينة« »وعند أبي يعلى عن سعد من وجه آخر لا بأس به قال: لو وضع المنشار على مفرقي على أن أسب عليا ما سببته أبدا« .

    »عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: استُعمِل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها« . و»عن عمير بن إسحاق قال كان مروان أميرا علينا ست سنين فكان يسب عليا كل جمعة ثم عزل ثم استعمل سعيد بن العاص سنتين فكان لا يسبه ثم أعيد مروان فكان يسبه« .

    »عن عبدالرحمن بن الأخنس أن المغيرة بن شعبة خطب، فنال من علي، قال: فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، ثم قال: إن شئتم أخبرتكم بالعاشر، ثم ذكر نفسه. ورواه الإمام أحمد أيضا عن وكيع عن شعبة« و»عن عبدالله بن السهو قال: لما بويع لمعاوية بالكوفة أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا رضي الله عنه، قال: فأخذ بيدي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة أشهد على تسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم أبال..« .

    وليس من ريب أن سب ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بدعة شنيعة، كما قال الدكتور قلعجي، لكن الرد عليه بالسب واللعن لا يقل شناعة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: »ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش« .


    القاعدة الحادية عشرة
    الابتعاد عن التكفير وعن الاتهام بالنفاق


    لقد درج جهلة الشيعة على اتهام جل الصحابة بالكفر والنفاق، وبالارتداد عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وركز هؤلاء الجهلة على أشخاص كانت بينهم وبين أمير المؤمنين علي خلافات سياسية أفضت إلى مقاتلة بعضهم، مثل معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، أو من لهم صلة بهؤلاء مثل أبي سفيان بن حرب.

    وقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية لهؤلاء بقلمه، وبيَّن لهم بالبرهان الساطع والِحجاج المقنع أن هؤلاء رجال مؤمنون، ظلوا على إيمانهم منذ أن دخلوا الإسلام. بل أسلم بعضهم – مثل عمرو بن العاص - في ظروف لا تدع مجالا لتهمة النفاق. أما الأخطاء التي ارتكبوها والذنوب التي أصابوها فهي لا تنفي عنهم صفة الإيمان وحب الله ورسوله.

    أما عمرو بن العاص فيكفي في صدق إيمانه وبراءته من النفاق أنه من المهاجرين، والهجرة والنفاق نقيضان، كما يبرهن شيخ الإسلام في تحليله المنطقي المفحم، فيقول: »فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، هاجروا إليه من بلادهم طوعا لا كرها. والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار. وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة، فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقا، لعز الإسلام وظهوره في قومهم. وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارا، فلم يكن يُظهر الإسلام إلا من هو مؤمن ظاهرا وباطنا، فإنه كان مَن أظهر الإسلام يُؤْذَى ويُهجَر. وإنما المنافق يظهر الإسلام لمصلحة دنياه، وكان مَن أظهر الإسلام بمكة يتأذَّى في دنياه … « . فإذا أضفنا دلالة النص النبوي إلى هذا التحليل المنطقي الذي تذعن له العقول، علمنا أن عمرو بن العاص كان مؤمنا حقا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: »ابنا العاص مؤمنان: عمرو وهشام« . و»عن عمرو بن العاص قال: كان فزع بالمدينة، فأتيت سالما مولى أبي حذيفة، وهو محتبٍ بحمائل سيفه، فأخذت سيفا فاحتبيت بحمائله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، ألا كان مَفْزَعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان المؤمنان« . وقد قال عمرو بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو صادق في ذلك مصدَّق-: »يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكني أسلمتُ رغبة في الإسلام، ولِأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...« . ثم جاء الفعل النبوي معضدا للشهادة القولية، فعمرو بن العاص »قد أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يول على المسلمين منافقا« . وفي ندم عمرو بن العاص وتحسره على سيرته السياسية وهو يحتضر دليل كاف على إيمانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: »من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن« ومن الأخبار التي وردت في ندم عمرو بن العاص رضي الله عنه على سيرته السياسية: »عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفَرَ لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله. وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي« .» وعن عمرو بن العاص قال: لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال، لقد غُبِـنَا وضلَّ رأيهما، وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. وإن كان لا يحل لهما فأخذناه بعدهما لقد هلكنا. وأيم الله ما جاء الوهم إلا من قِبَلنا« »وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعا شديدا، فلما رأى ذلك ابنه عبدالله قال: يا أبا عبد الله ما هذا الجزع وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟ قال أَيْ بنيَّ قد كان ذلك وسأخبرك عن ذلك، أما والله ما أدري أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني، ولكن أشهدُ على رجلين أنه فارق الدنيا وهو يحبهما: ابن سمية [عمار بن ياسر] وابن أم عبد [عبد الله بن مسعود]. فلما حزبه الأمر جعل الأغلال من ذقنه، وقال: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك. وكانت تلك هجِّيرَاهُ حتى مات« .

    وأما معاوية، فيكفي تولية عمر له دليلا على براءته من النفاق، قال ابن تيمية: »وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم بالحق وأعلمهم به … ولا استعمل عمر قط - بل ولا أبو بكر – على المسلمين منافقا، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم. بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح، حتى تظهر صحة توبتهم. وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق: "لا تستعمل أحدا منهم، ولا تشاورهم في الحرب". فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدي، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس الكندي، وأمثالهم. فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولُّوهم على المسلمين« »وكيف يكون رجلا متوليا على المسلمين أربعين سنة نائبا [أميرا] ومستقلا [خليفة]، يصلي بهم الصلوات الخمس، ويخطب ويعظهم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم فيئهم ومغانمهم وصدقاتهم، ويحج بهم، ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم، وفيهم من أعيان الصحابة جماعة كثيرة؟« .

    صحيح أن مجرد تولية عمر لأي شخص لا تعني براءته من ارتكاب ظلم أو إتيان معصية، وقد أوردنا قول ابن تيمية من قبل: »كان عمر يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله«. ولكنها تعني براءته من النفاق. فما كان عمر ليولي منافقا، وما كان لينخدع بنفاق المنافقين لهذا الحد.
    [align=center][/align]

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    وأما أبو سفيان – وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية يروي عن بعض أهل العلم توقفا في حسن إسلامه فقد ثبت عنه ما يفيد حسن الإسلام، بل والمشاركة في الجهاد. وقد أورد الذهبي قصة اشتراك أبي سفيان في الجهاد يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان، ثم قال: »فإن صح هذا عنه فإنه يغبط بذلك« وقد وجدنا بحمد الله أن القصة صحيحة، قال الحافظ ابن حجر: »روى يعقوب بن سفيان وابن سعد بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: فُقِدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل يقول: "يا نصر الله اقترب"، قال فنظرت فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد [بن أبي سفيان]« . كما استدل الذهبي على صدق إيمان أبي سفيان بحواره مع هرقل، ضمن الحديث الطويل الجميل الذي رواه البخاري وبعض أهل السنن والمسانيد، فقال: »ولا ريب أن حديثه عن هرقل وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على إيمانه ولله الحمد« وهو كما قال، فقد ورد في ختام ذلك الحديث: » قال أبو سفيان: والله ما زلت ذليلا مستيقنا بأن أمره [صلى الله عليه وسلم] سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره« . أما ابن تيمية فقد استدل على إيمان أبي سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على نجران »وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان عامله على نجران« وهذا وهم من أوهام شيخ الإسلام رحمه الله، فالحديث الذي ورد فيه طلب أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوليه وموافقته له على ذلك هو حديث ابن عباس: »قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان [بعد فتح مكة] ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال نعم، قال أبو زميل ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال نعم« وهذا حديث معلول المتن، وفي سنده متهم بالكذب، رغم أنه في صحيح مسلم ، فقد أعلَّه العديد من أهل الحديث، منهم ابن حزم وابن الجوزي اللذان جزما بأن الحديث موضوع، واتهما أحد رواته (عكرمة بن عمار) بالكذب. وقد أفرد الحافظ ابن القيم هذا الحديث بمناقشة ضافية ثم توصل إلى النتيجة التالية: »فالصواب أن الحديث غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط والله أعلم«. وقد جزم ابن حجر بعدم صحة هذه التولية فقال: »ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على نجران، ولا يثبت« .

    ومهما يكن، فإن تهمة الكفر والنفاق منتفية عن أولئك القوم بأدلة الشرع والعقل. ومهما يؤخذْ عليهم من مآخذ، في سلوكهم السياسي وفي دورهم في هدم أركان الخلافة الراشدة، فإنها لا تنفي عنهم صفة الإسلام والإيمان. وكل من اتهمهم بالنفاق فهو متخرص بظن، و مدع بكذب. فحري بالباحث عن الحق أن يتجنب هذا الأسلوب، ويكل السرائر إلى عالِم السرائر.


    القاعدة الثانية عشرة
    التحرر من الجدل وردود الأفعال


    لقد تحكمت ردود الأفعال في كثيرين ممن تعاملوا مع الخلافات السياسية بين أهل الصدر الأول، وسادت نزعة المراء والجدل. وردة الفعل بطبيعتها لا تكون متزنة، لأنها فعل لا إرادي. وهكذا كانت الردود على الشيعة تنحرف أحيانا لدى عوام أهل السنة وبعض محدِّثيهم وفقهائهم، فتتحول إلى نوع من "التشيع السني" الذي لا يقف عند الدفاع عن الخلفاء الراشدين ضد المتطاولين عليهم من جهلة الشيعة، بل يتجاوز ذلك إلى الدفاع عن انحرافات الملوك الأمويين وتبرير ظلمهم. وكان محمد بن الحنفية رحمه الله من أول من حذروا الناس هذا التشيع المتبادل، فقد ورد عنه أنه كان يقول: »أهل بيتين من العرب يتخذهم الناس أنداد من دون الله: نحن وبني عمنا هؤلاء: يريد بني أمية« .

    قال الحافظ ابن كثير يصور مشهدا من هذا التشيع المتبادل: »وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تُضرب ببغداد ونحوها من البلاد يوم عاشوراء، ويُذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتُعلَّق المسوح على الدكاكين، ويُظهِر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين، لأنه قتل عطشان. ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق … وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم. وقد عاكس الروافضَ النواصبُ من أهل الشام، فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب، ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا، يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم« .

    كما صور ابن تيمية جانبا منه فقال: »وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا، ويجهر بذلك على المنابر وغيرها، لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه، وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها ... وغلت شيعة علي في الجانب الآخر، حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص، ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص« .

    وقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر وبيَّن خطأ الطرفين، وأكد على أن الحق لا ينتصر بباطل، والسنة لا تنتصر بابتداع، فقال: »صارت البدع والأهواء تزداد، حتى حدث أمور يطول شرحها مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء: فقوم [من الشيعة] يجعلونه مأتما يظهرون فيه النياحة والجزع، وتعذيب النفوس، وظلم البهائم … وقوم من المتسننة روَوْا ورُوِيتْ لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعارا في هذا اليوم، يعارضون به شعار أولئك القوم، فقابلوا باطلا بباطل، وردوا بدعة ببدعة« .

    وقد مات الإمام النسائي صاحب السنن – رحمه الله - ضحية لردود الأفعال هذه، لأنه ألف كتاب "الخصائص" في فضل علي بن أبي طالب، ولم يكن النسائي متشيعا، بل إمام من أئمة السنة، ولم يعتمد الروايات المكذوبة فيما رواه من أحاديث في فضل علي، بل »جمع من ذلك شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جياد« كما يقوا ابن حجر . لكن كل ذلك لم يشفع له: »قال الدارقطني: خرج [النسائي] حاجا، ومر على دمشق، فسئل بها عن فضل معاوية بن أبي سفيان، فقال: ألا يرضى رأسا برأس حتى يُفضَّل؟ … فما زالوا به يدفعونه في خصييه حتى أخرجوه من المسجد، فاعتل على إثر ذلك، فقال: احملوني إلى مكة، وتوفي بها« .

    ولو أن ردود الأفعال هذه ظهرت عند بعض عوام أهل السنة فقط لهان الأمر، ولكنها تجاوزت إلى بعض أهل العلم، فدفعتهم إلى ارتكاب أخطاء علمية فادحة أحيانا، دفعهم إليها المراء والجدل. ومن هذه الأخطاء ما سبق أن ذكرناه من قبل من ميل إلى تضعيف الصحيح وتصحيح الضعيف والسكوت على الروايات الباطلة، تأييدا لرأي يريح الضمير، وإن لم يكن له مستند مكين. ويمكن أن نضيف هنا أمثلة أخرى منها:

    أولا: اتهام علماء أجلاء بالتشيع والرفض ظلما. فقد اتهم البعض إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري بالتشيع بسبب تصحيحه لحديث غدير خم: »من كنت مولاه فعلي مولاه « رغم أن الحديث رواه جمع من الصحابة منهم زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب، وابن عباس، وعلي نفسه وأخرجه جمع من الحفاظ منهم أحمد وابن ماجه والحاكم والترمذي وابن أبي شيبة والنسائي وابن حبان بطرق كثيرة جلها »صحاح وحسان« كما قال الحافظ ابن حجر . وزاد ابن حجر: »وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلَّف فيه أضعاف من ذُكر. وصححه واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابيا« . وقد تكشَّف أن التهمة التي ألصقت بالطبري كانت وراءها مواقف مذهبية لا علاقة لها بالدفاع عن الصحابة، أو بالتحقيق العلمي في الحديث. وذلك أن الطبري جمع كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيها، إنما كان محدِّثا. فاشتد ذلك على الحنابلة، فبدأوا يطعنون فيه ويتهمونه بالرفض والتشيع تعصبا لإمامهم. ولذلك كان الحافظ ابن خزيمة يقول إن الطبري »ظلمته الحنابلة« . ولم يكن الإمام الطبري آخر من اتهم بتهمة الرفض ظلما وبغيا، فقد اتهم بها أكابر آخرون من علماء السنة، منهم الدارقطني والحاكم والنسائي وابن عبد البر. ويكفي أن الإمام الشافعي اتُّهِم بالتشيع ظلما لأنه كان يفعل أمورا رأى أنها من السنة وافقت عمل الشيعة، مثل الجهر بالبسملة »وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها، وبسبب القنوت، ونسبه إلى قول الرافضة« .

    ثانيا: تحريم أمور رغَّب فيها الشرع أو أباحها، لمجرد مخالفة الشيعة، وهو خطأ وقع فيه كثيرون نتيجة لردود الأفعال. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية – تمسكا بمنهج الاتزان والاعتدال - رفض ذلك، فقال: »الذي عليه أئمتنا أن ما كان مشروعا لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع، لا الرافضة ولا غيرهم. وأصول الأئمة [الأربعة] كلهم توافق هذا« ثم أورد أمثلة فقهية على ذلك منها:

     تسنيم القبور عند أبي حنيفة وأحمد.

     الجهر بالبسملة والقنوت عند الشافعي.

     تضعيف مالك للقول بالمسح على الخفين في الحضر.

     الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي حنيفة.

    وقد اشتهر الشيعة بكل هذه الأمور حتى كرهها بعض أهل السنة، لكن ابن تيمية لا يرى لتلك الكراهة وجها، خصوصا إذا تحولت من موقف عارض إلى فتوى دائمة. وهو يشرح ذلك بقوله: »إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحبا. ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم [الشيعة] فإنه لم يترك واجبا بذلك، لكن قال: في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التميز عنهم أعظم من مصلحة هذا المستحب. وهذا الذي ذهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على فعل ذلك المستحب. لكن هذا الأمر عارض، لا يقتضي أن يُجعل المشروع غير مشروع دائما« .

    ويروي ابن تيمية عن الإمام أحمد رفضه الحاسم الانسياق مع ردود الأفعال هذه »قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، قوَّيتَ قلوب الرافضة، لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة [من الحج؟] فقال: يا سلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق، والآن قد ثبت عندي أنك أحمق. عندي أحد عشر حديثا صحاحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أتركها لقولك ؟!؟« وسنورد أمثلة أخرى على "التشيع السني" من كتاب ابن العربي "العواصم من القواصم" فيما بعد إن شاء الله.

    ومهما يكن من أمر، فإن التحرر من ردود الأفعال ضرورة شرعية ومنهجية للتعامل مع تلك الخلافات تعاملا علميا منصفا، يحفظ للرجال حقهم، وللحق حقه.


    القاعدة الثالثة عشرة
    إدراك الطبيعة المركبة للفتن السياسية


    إن من أسباب دقة شيخ الإسلام في هذه النقطة التي عمم فيها كثيرون، هي إدراكه للطبيعة المركبة للفتنة، وتأثير كل من الشهوات والشبهات فيها، وهو يشرح ذلك بقوله: »إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فبالهدى يُعرَف الحق، وبدين الحق يُقصَد الخير ويُعمَل به، فلا بد من علم بالحق وقصد له وقدرة عليه. والفتنة تضاد ذلك: فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يُلبس الحق بالباطل حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور الشر ما يضعف القدرة على الخير« .

    وأهم أسباب الفتن السياسية في نظر ابن تيمية هو الظلم السياسي، وأكبر عاصم منها هو الوقوف في وجه الظلم، والأخذ على يد الظالم ابتداء قبل استفحال الأمر وخروجه من أيدي الصالحين. قال تعالى: »واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة« وقد فسر ابن تيمية الآية بما يخدم هذا المعنى فقال: »إن الظالم يظلم فيُبتَلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلِم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداء، فإنه كان يزول سبب الفتنة«

    وبفضل هذه الرؤية المركبة، ابتعد شيخ الإسلام عن التبسيط والنظرة الآحادية المشوِّهة للحقائق، ونظر إلى الأمور نظرة شاملة، أدرك من خلالها تعقيداتها وتشابكها: فبينما يفسر البعض – مثلا - مقتل عثمان رضي الله عنه بسبب واحد، هو تآمر اليهود أو المجوس أو غيرهم، يفسره ابن تيمية بجملة أسباب متعاضدة: منها حب الدنيا لدى القتلة ولدى بعض أقارب عثمان وأمرائه، ومنها الواقع الاجتماعي المتغير وأثر فيض المال عليه، ومنها شخصية ذي النورين غير الحازمة وبعض الأخطاء السياسية التي تراكمت في أواخر خلافته. يقول ابن تيمية: »وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمِع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولايات والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أُنكرتْ عليه. فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال، ما أوجب الفتنة، حتى قُتِل مظلوما شهيدا« وفي موضع آخر يقول: »فلما كان آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع في الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر، فحصل بين القلوب تنافر حتى قُتِل عثمان« .

    فتأوُّل ابن تيمية لعثمان ليس مبنيا على تصويب لسياسات عثمان رضي الله عنه، وإيثاره لأقاربه بالولايات والمال، بل هو مبني على أن »عثمان بن عفان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها ويَظهر أنها منكر، وهذا مأثور عنه رضي الله عنه وأرضاه« »عن إبراهيم – يعني بن عبد الرحمن بن عوف – قال: قال عثمان: "إن وجدتم في كتاب الله عز وجل أن تضعوا رجلي في القيد فضعوها« .

    أما الذين لم يدركوا الطبيعة المركبة للفتنة، فقد نحوا منحى الآحادية في التفسير، والتبسيط في الوصف، والتعميم في الأحكام: فالشيعة اقتصروا على جانب الشهوة في الفتنة، ففسروا به كل شيء ، واتهموا نيات الجميع – غير أهل البيت طبعا – وطعنوا فيهم وبغوا عليهم. وبعض المتصدين لهم من أهل السنة – ممن لم يلتزموا بمنهج العلم والعدل - اقتصروا على جانب الشبهة، ففسروا به كل شيء، وغالوا في التكلف والتأول لتسويغ غير المستساغ، وتبرير ما لا مبرر له. حتى بلغ الأمر بابن العربي أن يتأول لقتلة الحسين وأهل بيته، كما سنرى فيما بعد.


    القاعدة الرابعة عشرة
    التركيز على العوامل الداخلية


    لقد درج العديد من الأقدمين والمعاصرين على تفسير الفتنة بالعوامل الخارجية، أعني بنظرية التآمر، مغفلين أهم العوامل التي سببت الفتنة، وهي العوامل الداخلية النابعة من أحشاء المجتمع الإسلامي الأول. وقد وجد هؤلاء في شخصية عبد الله بن سبأ أحسن تفسير لكل ما جرى. لكن هؤلاء نسوا أنهم بذلك يغُضُّون من قدر الصحابة رضي الله عنهم – من حيث لا يشعرون – حينما يصورونهم في صورة جماعة من المغفلين يتلاعب به يهودي مجهول النسب والأصل، ويدفع بعضهم إلى قتال بعض دون علم منهم أو فطنة، كما يحولون التاريخ الإسلامي إلى أساطير، بدلا من تاريخ بشر من لحم ودم. وكيف لعاقل أن يصدق أن الصحابة الذين بنوا دولة الإسلام، وهزموا أقوى الجيوش في العالم، وهدوا عروش كسرى وقيصر، يستطيع غِرٌّ يهودي التلاعب بعقولهم لهذه الدرجة. ومع ذلك يوجد من يتبنى هذا الطرح بحسن نية، خوفا من مواجهة الحقيقة المرة. لكن نظرية المؤامرة لا تستقيم، وكثيرا ما يضطر أصحابها إلى إعمال الخيال والافتراض لسد الثغرات فيها. فبدلا من تفسير حرب صفين بأسبابها الحقيقية وهي مطامح الملك لدى معاوية وعمرو، وتجاوزهما حدود الشرع في الدماء والجنايات في الطريقة التي طالبا بها الأخذ بدم عثمان، ثم رفضهما ما ارتآه أبو موسى الأشعري من الصلح وتأمير عبد الله بن عمر وخلع كل من علي ومعاوية، يحاول الكثيرون إيجاد عناصر متآمرة داخل المعسكرين هي المسؤولة عن كل شيء.

    لقد رأينا منذ قليل كيف فسر ابن تيمية مقتل عثمان رضي الله عنه بأسباب داخلية، كلها ترجع إلى تسيير الدولة، وما طرأ على المجتمع من مسالك وتطورات، دون أن يشير من قريب أو من بعيد إلى ابن سبإ أو غيره من العناصر الخارجية. وها نحن الآن نعرض تلخيصا لأسباب مقتل عثمان كما رآها الحافظ ابن حجر، وسنرى كيف حصر ابن حجر تلك الأسباب في عوامل داخلية، وخلا عرضه من ذكر لابن سبأ أو غير ذلك من عناصر نظرية المؤامرة، التي وجد فيها كثيرون ملاذا للتهرب من مواجهة حقيقة ما جرى، فانساقوا وراء افتراضات لا تعين المسلمين على فهم تاريخهم والاعتبار به. يقول ابن حجر: »وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه: كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر. وكان من حج منهم [من المسلمين في هذا الأقطار] يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل بعض أمرائه فيرضيهم، ثم يعيده بعد، إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله وكتب له كتابا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوا به عثمان، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سلمنا كاتبك، فخشى عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال، إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار فدخلوا عليه فقتلوه« . وقال ابن حجر: »ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه، ثم عليه بتوليته لهم« . وكلام ابن حجر هنا عن إحسان عثمان ولين عريكته، هو صياغة مهذبة لما وصفه ابن تيمية من قبل بـ"ضعف عثمان" وعدم خوف الناس منه.

    والحق أن من يقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: »هلكة أمتى على يد غلمة من قريش« ليس في حاجة إلى التكلف في إيجاد تفسير تآمري خارجي للفتن السياسية التي حدثت في تلك الحقبة التاريخية.


    القاعدة الخامسة عشرة
    اجتناب الصياغة الاعتقادية للخلافات الفرعية


    لقد بالغ بعض السلف في صياغة خلافاتهم مع المبتدعة صياغة اعتقادية »حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة، كما يذكرون [في عقائدهم] المسح على الخفين، لأن تركه كان من شعار الرافضة« . وهذه مجرد ردة فعل مغالية، لا يمكن أن نبني عليها مفاصلة في المعتقد. ولذلك رفض الإمام الشافعي هذا المنحى، وأعلن عن تبني كل ما ثبت أنه سنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن وافق فعل الشيعة أو غيرهم، وتحمل الشافعي ثمن ذلك تهما باطلة. بل إن الأئمة الأربعة رفضوا هذا النهج كما أوضحناه في كلام شيخ الإسلام من قبل.

    وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أبعد الناس عن تضخيم الخلافات الفرعية، أو تحويلها إلى أمور اعتقادية: »عن طارق بن شهاب أن خالد بن الوليد كان بينه وبين سعد بن أبي وقاص كلام، فذُكر خالد عند سعد [بسوء] فقال: مه ! فإن ما بيننا لم يبلغ ديننا« .

    وإليك هذه القصة التي أخرجها البخاري في صحيحه: »دخل أبو موسى وأبو مسعود على عمار حين بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم، فقالا: "ما رأيناك أتيت أمرا أكره عندنا من مسارعتك في هذا الأمر منذ أسلمتَ" فقال عمار: "ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرا أكره عندي من إبطائكما في هذا الأمر، وكساهما حلة حلة، ثم راحوا إلى المسجد« . فانظر كيف يكون أدب الخلاف في أمر ينبني عليه حمل السيف والقتال، وكيف لم يتهم أي من الطرفين الآخر في معتقده. و»عن أبي البختري قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا« وفي رواية »عن عبد خير قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل فقال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم، وقد فاؤوا وقد قبلنا منهم« . و»عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: انتهينا إلى علي رضي الله عنه، فذكر عائشة، فقال: خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم« قال الحافظ الذهبي بعد أن أورد هذا الأثر:»هذا حديث حسن... وهذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة مع ما وقع بينهما، فرضي الله عنهما« . كما ورد في خبر طويل أن أهل صفين كانوا إذا وضعوا السيف وتوادعوا أيام القتال »دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء« . وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهو يتقاتلون لم يصوغوا خلافاتهم السياسية بلغة الكفر والإيمان، فحريٌّ بالباحثين اليوم أن يتقيدوا بذلك، ولا يخلطوا بين الوحي والتاريخ. فحُسْن التناول يقتضي من الدارس للخلافات السياسية بين الصحابة – وبين المسلمين عموما – أن يضع حدا فاصلا بين كليات العقيدة وفروع الدين، وأن لا يحول الفرع إلى أصل، فيقع في الغلو، ويحيد عن الجادة.


    القاعدة السادسة عشرة
    الابتعاد عن منهج التهويل والتعميم


    لقد أسلفنا إدراك شيخ الإسلام لتعقيدات هذا الموضوع وطبيعته المركبة. ومن أدرك ذلك لا بد أن يتسع صدره لقبول تفسيرات مختلفة لما حدث، بعضها يميل إلى التأول والتبرير، وبعضها إلى الصراحة والنقد، ما دام الجميع يستصحبون فضل الصحابة رضي الله عنهم، ويعتمدون منهجا علميا في التناول. لكن كثيرين ممن درسوا تلك الحقبة يميلون إلى التهويل والتعميم: فيحذِّرون ويُنذِرون، ويرغِّبون ويرهِّبون، ويردون روايات صحيحة، وينقلون نصوصا وأقوالا، ويغفلون أخرى، ويحسمون القول حسما في أمور خلافية، ويدَّعون الإجماع في غير موضعه.

    وقد اشتهر عدد من أهل العلم بهذه التجاوزات المنهجية، لا في دراستهم لتاريخ المسلمين السياسي فقط، بل حتى في مواقفهم الفقهية. ومنهم من فقهاء المالكية ابن عبد البر فيما ينقله من إجماعات، وابن رشد فيما ينقله من اتفاقات، ولذلك قال "النابغة الشنقيطي" في نظم له عن المعتمد من مؤلفات المالكية وأقوالهم:

    وحذر الشيوخ من إجماعِ عن ابن عبد البر ذي السماعِ

    وحذروا أيضا من اتفـاقِ عن ابن رشد عالِم الآفــاقِ

    والذي يتأمل كتابات أعلام أمثال الإمام النووي والحافظ ابن حزم رحمهما الله يدرك نزعتهم إلى الإطلاق والحسم ونقل الإجماع – لا إجماع العلماء فقط، بل إجماع الأمة – في أمور فيها اختلاف جدي مبناه تعارض الأدلة. وهذا يغر طالب العلم المبتدئ الذي يقرأ كلامهم، فيسد عقله عما عداه.

    وسنذكر فيما بعد ما أخذه الحافظ ابن حجر على القاضي أبي بكر ابن العربي من نزوع إلى التهويل والتعميم، وبعض الآثار السلبية لذلك على منهج ابن العربي في دراسة الخلافات السياسية بين أهل الصدر الأول.

    أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد نأى بنفسه عن هذه المزالق المنهجية، لأنها تخرج عن حد الاتزان والاعتدال الذي حرص عليه. فهو يدرك أكثر من غيره أن جمهور أهل السنة يتأولون للصحابة فيما كان بينهم من خلاف، وقد تأول لهم فيما كان التأول فيه سائغا، لكنه لا يصوغ ذلك بلغة حدية إطلاقية، ولا يحوله إلى مسألة اعتقادية، كما فعل كثيرون في الماضي والحاضر. بل يقول: »فائدة: ومما ينبغي أن يُعلَم أنه وإن كان المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة والاستغفار للطائفتين جميعا وموالاتهم، فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسكر لم يكن إلا مجتهدا متأولا كالعلماء، بل فيهم المذنب والمسيء، وفيهم المقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى. لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة« .

    والذي يستقرئ موقف أهل السنة من الفتنة، فلن يجد مذهبا واحدا، كما يريد أن يقنعنا به أصحاب التهويل والتعميم، بل سيجد مذاهب خمسة على الأقل:

    1. مذهب الممسكين عن الخوض في الخلاف مطلقا، وهذا الذي عليه متكلمو أهل السنة، فهم أقل الناس خوضا وكتابة في الموضوع، رغم ولعهم بالجدل وتشقيق الكلام في مواطن أخرى.

    2. مذهب الداعين إلى الإمساك عنه، مع خوضهم فيه، كالذهبي في "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" وابن كثير في "البداية والنهاية". ويحمل خوضهم على أنه ترخص لغرض تعليمي، أو أن المراد بالخوض عندهم هو ما كان على سبيل الذم والقدح.

    3. مذهب الخائضين في الخلاف مع التأول لكل الأطراف بأن كلا منها مجتهد مأجور، وهذا مذهب مشهور ذائع اتبعته جماهير الأمة عبر القرون، خصوصا غير المتمكنين من خلفيات الأحداث ومراميها.

    4. مذهب الخائضين دون تأول، وقد اشتهر من أهله بعض علماء التابعين أمثال الحسن البصري والربيع بن نافع وغيرهما.. وهذا الذي أشار إليه شيخ الإسلام بقوله: »فائدة : ومما ينبغي أن يعلم …«

    5. مذهب المغالين في الدفاع، المنفعلين بردة الفعل، المتأولين للصحابة وغير الصحابة، بحق وبغير حق. وهذا الذي أدعوه "التشيع السني". ويمثله ابن العربي وتلامذته المعاصرون.

    وهذا المذهب الأخير هو الأعلى صوتا اليوم، والأقوى نبرة، لأسباب سياسية ومذهبية كثيرة ليس هذا مكان عرضها. كما يغذيه جهل أبناء الأمة بتاريخها في هذا العصر.

    أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فلم يلزم نفسه بمذهب مخصوص، بل خاض في الأمر عن دراية، وتأول – من غير تكلف في الغالب - في مواطن، وانتقد نقدا صريحا في مواطن أخرى، وعرف للرجال حقهم وللحق حقه. وتجنب التعميم والتهويل، وحرص على أن لا ينصر حقا بباطل، أو يرد بدعة ببدعة.. وكذلك فليكن مذهب الباحثين عن الحق.


    القاعدة السابعة عشرة
    التمييز بين السابقين وغير السابقين


    إن ابتعاد شيخ الإسلام عن أسلوب التعميم والتبسيط جعله يتعامل مع الفتنة من منطلق التمييز بين السابقين وغيرهم. وهو يميل إلى اعتماد القول القائل إن حرب "الجمل" كانت قتال فتنة، وأن حرب "صفين" كانت قتالا بين أهل بغي وعدل. ولذلك فهو يلتزم التأول لقادة جيش الجمل: عائشة وطلحة والزبير، أما قادة جيش الشام في صفين كمعاوية وعمرو فهو يتأول لهم أحيانا، وأحيانا لا يتأول، ويروي مذاهب مختلفة لأهل السنة في شأنهم، ثم يقول: »وهذا في حرب أهل الشام. والأحاديث تدل على أن حرب الجمل فتنة، وأن ترك القتال فيها أولى، فعلى هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة« .

    وهذا التمييز من حسن فقه شيخ الإسلام ودقة فهمه، لأن قادة جيش الجمل من الأكابر الذين ثبت لهم من السابقة، ومن التزكية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يجعل حمل قتالهم على الطموح الشخصي أمرا لا يحتمل. ومن هذه التزكية قوله صلى الله عليه في طلحة: »من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله« وقوله فيه يوم أُحُد »أوجَبَ طلحة« وقوله في الزبير: »لكل نبي حواريٌّ، وحواريَّ الزبير« وقوله له: »فداك أبي وأمي« وقوله صلى الله عليه وسلم حينما »كان على [جبل]حِراء فتحرك: فقال: اسكنْ حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. وكان عليه [معه] أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير« . أما علي فقد ورد فيه ما يعسر حصره، وقد جمع الحافظ النسائي منه كتابا »فجمع من ذلك شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جياد« . وأما عائشة فليس بعد ثناء الله تعالى عليها ثناء.

    كما أن هؤلاء السابقين انتقلوا إلى الله دون حصول على ثمرة دنيوية من قتالهم يمكن لمتهم أن يتهم نياتهم بها، ومن بقي منهم حيا بعد الحرب – عائشة – ندم واستغفر، وأعلن خطأه وتوبته. وكانت عائشة رضي الله عنها »إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها« .

    إن استصحاب النصوص الدالة على فضل هؤلاء السابقين خير معين للباحث المنصف على فهم مقاصد القوم ونياتهم. ولذلك التزم شيخ الإسلام بالتأول لما وقع بينهم من قتال.

    وليست مكانة قادة حرب الجمل وسابقتهم هي السبب الوحيد في تأول ابن تيمية لهم - فقد برهن ابن تيمية على أنه يكره التكلف في التأول حتى للسابقين - وإنما تأول لقادة جيش "الجمل" لوجود نصوص أخرى كثيرة دلت على حسن نياتهم، وعدم قصدهم أي مصلحة دنيوية في خروجهم إلى العراق. ومنها:

    1. »لما أقبلت عائشة [يعني إلى البصرة] فلما بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب، فقالت: أي ماء هذا ؟ قالوا ماء الحوأب. قالت: ما أظن إلا أنني راجعة. قال بعض مَن كان معها: بل تقدمين ، فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟« . وفي رواية أن الذي قال لها ذلك هو الزبير .

    2. »عن محمد بن قيس قال: ذُكر لعائشة يوم الجمل، قالت: والناس يقولون يوم الجمل؟ قالوا: نعم، قالت: وددت أني جلست كما جلس أصحابي، وكان أحب إلي [من] أن أكون وَلِدْتُ من رسول الله صلى الله عليه بضع عشرة، كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومثل عبد الله بن الزبير« و»قالت عائشة – وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها – [مع النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه] فقالت: إني أحدثتُ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثًا، ادفنوني مع أزواجه، فدفنت في البقيع رضي الله عنها« قال الحافظ الذهبي: »قلت: تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامة كلية، وتابت من ذلك. على أنها ما خرجت إلا متأولة قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع« وقال في موضع آخر: »ولا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ« .

    3. »عن ابن عباس أنه قال للزبير يوم الجمل: يا ابن صفية، هذه عائشة تملِّك الملك طلحة، فأنت علامَ تقاتل قريبك عليا. زاد فيه غير ابن شهاب: فرجع الزبير، فلقيه ابن جرموز فقتله« . و»عن جون بن قتادة قال: كنت مع الزبير يوم الجمل، وكانوا يسلِّمون عليه بالإمرة، إلى أن قال: فطعنه ابن جرموز ثانيا فأثبته فوقع، ودفن بوادي السباع، وجلس علي رضي الله عنه يبكي عليه هو وأصحابه« . وهناك بعض القرائن على أن الزبير رضي الله عنه بدأ يندم على خروجه حتى قبل بدء الحرب: » عن مطرف قال: قلنا للزبير رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" لم نكن نحسب أنا أهلها، حتى وقعت منا حيث وقعت« .

    4. »عن قيس بن سعد بن عبادة قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول لابنه الحسن: "يا حسن، وددت أني مت منذ عشرين سنة"« »وعن طلحة بن مصرف أن عليا انتهى إلى طلحة بن عبيد الله وقد مات، فنزل عن دابته، وأجلسه، فجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه، ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة« وفي رواية »عن الشعبي قال: رأى عليٌّ طلحةَ في واد ملقىً، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال: عزيزٌ علي أبا محمد أن أراك مجدَّلا في الأودية تحت نجوم السماء. إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري [=عجزي وضعفي]« .

    وواضح من هذه النصوص أن أم المؤمنين عائشة بدأت تستشعر الخطأ في خروجها وهي في الطريق إلى البصرة، وأنها لم تواصل مسيرها إلا حرصا على إصلاح ذات البين، ولا أحد يستطيع اتهامها بالطموح إلى قيادة الأمة. وواضح كذلك أن الزبير ندم ورجع قبل بدء القتال، وأن عليا ندم على القتال وبكى على القتلى من خصومه، وأن اقتتالهم كان بدءا وانتهاء قتال فتنة »وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية، لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم« كما يقول ابن تيمية بحق.

    من هنا تأول شيخ الإسلام للسابقين الذين شاركوا في حرب الجمل، فقال: »فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها. وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان عليٌّ غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه … فخشي القتلةُ أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم، فحملوا دفعا عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم« وقال: »وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي، فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه: لم يكن لعلي غرض في قتالهم، ولا لهم غرض في قتاله، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان، وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم، فلم يتمكنوا منهم. فلما قدم علي وعرَّفوه مقصودهم، عرَّفهم أن هذا أيضا رأيه، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر. فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد المعسكرين، فظن الآخرون أنهم بدأوا القتال، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة، لا بقصد السابقين الأولين، ثم وقع قتال على الملك« . وقال شيخ الإسلام: »لم يكن علي – مع تفرق الناس عليه – متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة أشد شرا وبلاء. ودفع أفسد الفاسديْن بالتزام أدناهما أوْلى من العكس، لأنهم كانوا عسكرا، وكانت لهم قبائل تغضب لهم، والمباشر منهم للقتل – وإن كان قليلا – فكان ردؤهم أهل الشوكة، ولولا ذلك لم يتمكنوا« . ومثله قول الحافظ بدر الدين العلائي: »فلو أقاد [علي] من أحدهم لنفرت قبائلهم كلها، وكثرت الفتن، وزاد الهرج« .
    [align=center][/align]

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    وتأوُّل ابن تيمية لعائشة وطلحة والزبير هو من نوع تأوله لعثمان رضي الله عنه، فهو لم يصوب سياسات عثمان في إيثار الأهل والأقارب بالمناصب والأموال – كما يفعل المتكلفون اليوم – بل صرح على الملإ: »نحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية، وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة« »نعم! كان يعطي أقاربه عطاء كثيرا، ويعطي غير أقاربه أيضا، وكان محسنا إلى جميع المسلمين« »وكان عثمان في السنين الأُول من ولايته لا ينقمون منه شيئا، ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء، بعضها هم معذورون فيه، وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه« لكن ابن تيمية يبين أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما شهيدا، ولم يكن في كل ما فعله ما يسوِّغ سفك دمه الطاهر. كما أنه هنا لم يصوب خروج هؤلاء الأكابر من قادة جيش الجمل على الإمام الشرعي، وتسرعهم في المطالبة بدم عثمان بطريقة الثأر الجاهلي، بدلا من احترام الإجراءات الشرعية في رفع الدعوى لدى الحاكم، وصدور حكم قضائي، ثم تنفيذ الحكم على يد سلطة شرعية.. لكن ابن تيمية يبين أيضا أن من يتهم نيات أولئك الأكابر ظالم متعد، بعدما ثبت عنهم من صدق النية وسلامة الطوية، وحب الله ورسوله، والندم على خطئهم في الخروج على الجماعة وإمامها.

    أما قادة جيش الشام في صفين فليست لهم مثل تلك السابقة والمكانة، وقد جنوا ثمرة وقوفهم في وجه خلافة علي ملكا امتد أعواما مديدة، بل دولا ورَّثوها أبناءهم وأحفادهم عقودا عديدة. ويروي ابن تيمية الخلاف بين أهل العلم في تكييف قتالهم ليالي صفين، فيقول: »وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء، وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العدل والبغي« . وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفاد دون ريب أن أهل الشام بغاة، حين قال عن عمار بن ياسر: »تقتله الفئة الباغية« وهو حديث متواتر. ورواية البخاري للحديث لا تدع لبسا حول بغي أهل الشام في تلك الحرب، فقد ورد فيها: »ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار« . ونظرا لذيوع هذا الحديث، فإن عمارا كان منارة للحق يأوي إليها من التبس عليه أمر الفتنة، حتى قال ابن العماد الحنبلي إن »عمار بن ياسر ميزان العدل في تلك الحروب« .

    ولذلك يميل ابن تيمية – أحيانا - إلى عدم التأول لقادة جيش الشام في صفين، لكن الغالب عليه هو التكلف في التأول لهم. ويظل ذلك التكلف في الدفاع عن قادة الشام بصفين – خصوصا معاوية – من نقاط الضعف الأساسية في تحليلات ابن تيمية، كما نبينه في "الملاحظات على منهج ابن تيمية" التي تلي هذه القواعد.


    القاعدة الثامنة عشرة
    اجتناب التكلف في التأول والتأويل


    إن باب التأويل باب واسع دخل منه الانحراف في العقيدة وفي الشريعة، لأنه يؤدي إلى تسويغ ما لا يستساغ، وتسهيل العظائم. وليس التأويل المضر هو ذلك المتعلق بالعقيدة فقط، كما يفهم البعض اليوم، بل إن باب التأول والتأويل يضر كل تعاليم الإسلام. وقد أفرد ابن القيم رحمه الله التأويل بحديث مستفيض بين فيه أضراره ومساوئه. فقال: »..وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل؟ وماالذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟« .

    وفي دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم حري بالباحثين أن يتذكروا أثر التكلف في التأويل والتأول في طمس معالم المبادئ الإسلامية، وتمييع المعايير الشرعية، وهو أمر يقود إلى استسهال الناس الإتيان بكل الموبقات السياسية، من قتل الأنفس المحرمة، والاستبداد بالأمر، والإيثار والاستئثار بالسلطة والثروة، والتساهل مع الظلم والبغي، وتجاهل قيم الشورى والعدل في القَسْم والحكم..الخ بسبب التبرير الذي يقوم به البعض لأعمال بعض الأكابر والأصحاب، ممن استزلهم الشيطان في بعض المواقع، فلم يلتزموا بتعاليم الإسلام في بعض المواقف السياسية.

    إن مكانة الأشخاص بمن فيهم الصحب الكرام لا يجوز اتخاذها ذريعة لطمس المبادئ الجليلة التي يستمد منها أولئك الأشخاص مكانتهم، وإلا وقعنا في تناقض، وخذلنا الإسلام من حيث أردنا أن ننصره.

    وهنا تكمن ميزة ابن تيمية الذي استطاع أن يحافظ على قدر من التوازن، رغم أن الدافع لأغلب كتاباته السياسية هو الدفاع عن أشخاص الصحب الكرام. لكنه استطاع أن يجمع بين عمل المحامي وعمل القاضي، فلم يترك دفاعه يتحول إلى غض من المبادئ، أو تبرير للظلم السياسي، كما وقع لابن العربي وآخرين. وما نحتاحه اليوم هو الدفاع عن المبادئ أكثر، إذا أريد لهذه الأمة أن تستعيد شيئا من كرامتها، وتعيش طبقا لرسالتها الخالدة.


    القاعدة التاسعة عشرة
    التدقيق في المفاهيم والمصطلحات


    إن من أعظم الحواجز التي تمنع المسلمين المعاصرين من دراسة حياة الصدر الأول دراسة اعتبار وتدبر وتقويم، القول بأن ذلك فيه سب للصحابة رضي الله عنهم، وطعن في عدالتهم، و"خوض" فيما امتنع أهل العلم من أهل السنة عن الخوض فيه. لكن كل هذه الحواجز عند التمحيص ترجع إلى لبس في الاصطلاح، وعدم فهم العديد من المسلمين اليوم لمدلول مصطلحات مثل: "عدالة الصحابة" و"السب" و"الخوض" .. في معناها الشرعي الأصلي، أو في معناها الاصطلاحي الذي قصده السالفون من علماء الإسلام. وفيما يلي توضيحات لبعض أوجه اللبس في هذه المصطلحات:

    لقد سبق أن أوردنا قول الحافظ الذهبي في يزيد بن معاوية: "ويزيد ممن لا نسبه ولا نحبه..". ثم رأينا كيف أشفع ذلك بوصف يزيد بأنه: "كان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر ويفعل المنكر". فهل هذا تناقض من الحافظ الذهبي؟ وهل يوجد سب أفظع مما قاله في يزيد؟ الحق أنه ليس تناقضا، وإنما يرجع الأمر إلى مصطلح السب ومعناه كما كان يفهمه الحافظ الذهبي في سياق حديثه عن تاريخ صدر الإسلام.

    إن مصطلحات "السب" و"الشتم" و"الذم" في سياق الفتن السياسية في صدر الإسلام لا تعني شيئا آخر غير اللعن، رغم أن هذه الألفاظ في وضعها اللغوي تشمل ما هو دون ذلك من أية أوصاف مستهجنة. وقد دخلت هذه المصطلحات – بمعنى اللعن - الفكر السياسي الإسلامي مع استيلاء معاوية على السلطة وتحويلها ملكا. وأوردنا من قبل جملة من النصوص التي تفيد ذلك. ومنها حديث سهل بن سعد »استُعمِل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب..« . فأنت ترى أن الأمير الأموي ما قصد بالشتم هنا إلا اللعن، ولذلك رجع فقال:" أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب". وفي قول ابن تيمية: »ويزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين« دليل آخر على ترادف السب واللعن في عرف الناس يومذاك.

    وحينما سمى ابن الجوزي كتابه: "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" لم يقصد بـ"ذم" يزيد سوى اللعن، فهو موضوع الخلاف بينه وبين الشيخ عبد المغيث ولذلك قال ابن تيمية عن الخلاف بين ابن الجوزي وعبد المغيث: »وأما أبو الفرَج بن الجوزي فله كتاب في إباحة لعنة يزيد، رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي، فإنه كان ينهى عن ذلك« .

    فمدار الخلاف هنا هو اللعن، أما ذم يزيد بالمعنى اللغوي، وذكر قبائحه ومساوئه فهو أمر اتفق عليه لاعنوه والناهون عن لعنه. ولو كان المراد بالسب معناه اللغوي الوضعي، لما قال الحافظ الذهبي في يزيد ما قال، في حين يعلن إمساكه عن سبه.

    ومن المصطلحات التي وقع فيها اللبس واستحالت حاجزا ذهنيا ونفسيا أمام دراسة تلك الحقبة مصطلح "عدالة الصحابة"، فقد خلط كثيرون بين عدالة الرواية – والمطلوب فيها هو الصدق والتدقيق في المروي – وعدالة السلوك بمعناها الفقهي القضائي التي تستلزم "اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر إلا نادرا، واجتناب المباح القادح في المروءة" كما يقول الفقهاء.

    وعدالة الصحابة التي يتحدث عنها أهل الحديث ليست سوى عدالة الرواية، وإلا فقد وقع من بعضهم ما استدعى إقامة الحد عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، كما أصاب بعضهم ذنوبا ومعاصي مسطرة في صحاح الأحاديث، دون أن يعتبر ذلك قادحا في صدقه فيما ينقله من حديث.

    لقد انطلق أهل الحديث من التسليم بعدالة الرواية لدى جميع الصحابة، دون حاجة إلى البحث في خلفياتهم، وقد أحسنوا في ذلك، لأن مجال الرواية مجال ظني، ويكفي من تحصيل الظن بالصدق هنا غلبة الخير على جيل الصحابة، واستعظام الناس للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجيل، وقد سمى الحافظ العلائي ذلك "استصحاب الحال" أي الحكم بالغالب على أهل ذلك الجيل الخيِّر من صدق في الرواية وحذر من المجازفة في النقل، فقال: »..وبهذا يتبين أنه ليس المعني بعدالة كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن العصمة له ثابتة، والمعصية عليه مستحيلة، ولكن المعنيُّ بها أن روايته مقبولة وقوله مصدَّق، ولا يحتاج إلى تزكية، كما يحتاج غيره إليها، لأن استصحاب الحال لا يفيد إلا ذلك« . وقد أفرد الهيثمي بابا في مجمعه بعنوان: "باب لا تضر الجهالة بالصحابة لأنهم عدول" ثم أورد حديثا: »عن حُميد قال: كنا مع أنس بن مالك فقال: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذِب بعضنا بعضا« . ثم أيد الاستقراء والتجربة هذا النقل، فقال ابن تيمية: »وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – ولله الحمد – أصدق الناس حديثا عنه، لا يُعرف فيهم من تعمد عليه كذبا، مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب وليسوا بمعصومين. ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان [=علماء الجرح والتعديل] أحاديثهم، واعتبروها بما تُعتبر به الأحاديث [من تمحيص] فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كِذبة« وهذا أمر يشمل من سلكوا مسلكا سياسيا لا يصلح، مثل معاوية وغيره، فقد قال ابن عباس: »ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متهما« وقال محمد بن سيرين: » وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم« و»عن القاسم بن محمد عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "إن صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا" قال: فتعجب الناس من صدق معاوية« .

    لكن بعض المتأخرين أساءوا فهم عدالة الصحابة، وفهموا من هذا المصطلح أن الصحابي لا يذنب إلا متأولا، وأن كل ما صدر عن بعضهم من اختلاف واقتتال مجرد اجتهاد، ولا مجال فيه للهوى والمطامح الدنيوية. وهذا غلو وتنكر لحقائق الشرع والتاريخ والطبيعة البشرية.

    إن الذي يسوي بين عمار بن ياسر وبين قاتله أبي الغادية الجهني في العدالة وفي الاجتهاد المأجور صاحبه سواء أخطأ أم أصاب.. لهو ممن لا بصيرة لهم. علمًا بأن أبا الغادية صحابي، بالمعنى الاصطلاحي المتوسع الذي يأخذ به أهل الحديث. وقد ترجم الحافظ الذهبي لأبي الغادية في "سير أعلام النبلاء" تحت عنوان: "أبو الغادية الصحابي" و»قال البخاري: له صحبة« وقال مسلم: »له صحبة« ومع ذلك قال الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الغادية: »أبو الغادية الجهني: اسمه يسار بن سبع، سكن الشام ونزل واسط، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" روى عنه كلثوم بن جبر وغيره، وكان محبا لعثمان، وهو الذي قتل عمار بن ياسر، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول: "قاتل عمار بالباب" يتبجح بذلك. وانظر إلى العجب: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن القتل ثم يقتل مثل عمار« وقد روى الإمام أحمد عن أبي الغادية حديث: »إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام« قال ابن حجر: »فكانوا يتعجبون منه أنه سمع "إن دماءكم وأموالكم [عليكم] حرام" ثم يقتل عمارا« . وقد قال كلثوم بن جبر عن أبي الغادية، وهو الذي روى عنه تبجحه بقتل عمار: »لم أر رجلا أبْيَن ضلالة منه« .

    فهل يصلح وضع عمار بن ياسر وأبي الغادية في سياق واحد بحجة الصحبة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: »من يعاد عمارا يعاده الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله« فما بالك بمن سفك دم عمار باغيا عليه؟

    إن جيل الصحابة لم يكن غير مجتمع بشري فيه الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، و ليست غلبة الخير على أهل ذلك الجيل مسوغا كافيا للتعميم والإطلاق، وإضفاء صفات القدسية على كل فرد فيه، مما يناقض حقائق الشرع قبل حقائق التاريخ. وإذا كان لأهل الحديث مبررهم في قبول رواية كل الصحابة دون استثناء، فإن تحويل عدالة الرواية هنا إلى عدالة في السلوك يشمل كل الصحابة خلطٌ في الاصطلاح، وتنكر للحقيقة الساطعة لا يليق بالمسلم الذي يؤثر الحق على الخلق مهما سموْا.

    ومن المصلحات المثيرة للبس في أذهان طلاب العلم وعامة المسلمين مصطلح "الكف عما شجر بين الصحابة" الذي تردد ذكره في كتب العقائد والمقولات والفرق، حتى أصبح يعد أصلا من أصول أهل السنة والجماعة. وقد ذكر اللالكائي من "اعتقاد أهل السنة": »الترحم على جميع أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] والكف عما شجر بينهم« .

    ومرد اللبس هنا أيضا هو عدم فهم المصطلح في السياق الزمني الذي استخدمه علماء الإسلام فيه. فقد أراد أعلام الإسلام بهذا المصطلح معنيين: أولهما إلجام من لم يتسلح بتفاصيل تلك الأحداث ودقائقها من المصادر الموثوقة عن الخوض فيها أصلا، حذرا من المجازفة في النقل والكذب على الأصحاب، والثاني: النهي عن الخوض المؤدي إلى لعن الصحابة أو تكفيرهم.. مما اعتاد المبتدعة على فعله.

    لكن الخلَف فهموا من كلام السلف هنا غير ما أرادوا، وأوَّلوه على أن المراد به الإمساك مطلقا عن الحديث في الموضوع أو تناوله، ولو لغرض التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي، فضيقوا واسعا، وألزموا الناس بما لا يلزم.

    ولو أن أعلام الإسلام فهموا "الكف عما شجر بين الصحابة" كما يفهمه الناس اليوم، لما سودوا آلاف المجلدات في هذا الموضوع، لكنهم قضدوا قصدا آخر. فهذا الحافظ الذهبي مثلا يقول: »سبيلنا أن نستغفر للكل، ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم« ويقول في موضع آخر:»سبيلنا الكف والاستغفار للصحابة، ولا نحب ما شجر بينهم، ونعوذ بالله منه، ونتولى أمير المؤمنين عليا« . ونحن نعلم أن الذهبي كتب آلاف الصفحات في تلك الحوادث، ولو جُمع ما كتبه عنها في كتابيه "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" وحدهما لتحصَّلت من ذلك مجلدات ضخمة.. وما يصدق على الذهبي يصدق على ابن تيمية وعلى ابن كثير وآخرين غيرهم من أعلام أهل السنة.


    القاعدة العشرون
    التمييز بين الخطإ والخطيئة، بين القصور والتقصير


    من أعظم أسباب الخلط في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم الخلط السائد بين الخطإ والخطيئة، والحكم على الأفعال بنتائجها لا بصورتها ومراميها.

    ومن أمثلة ذلك أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه ارتكب بعض الأخطاء السياسية في تعامله مع أهل الجمل وصفين ومع الخوارج، وقد توصل كثيرون ممن درسوا تلك الحقبة التاريخية بأثر رجعي إلى أن عليا كان من الأفضل له أن لا يندفع في تتبع أهل الجمل، وأن الأولى به أن يجامل معاوية ويداريه بتثبيته على الشام حتى يستتب الأمر وتستقر النفوس بعد مقتل الشهيد عثمان، ثم يعمد إلى عزله بعد ذلك إن شاء. وأن يداري الخوارج ويخليهم وشأنهم وهو مهدد من طرف عدو أقوى منهم وأحسن تنظيما وتخطيطا، وأخطر على نظام الخلافة الذي كان الخوارج – على انحرافهم – يؤمنون به إيمانا راسخا.

    وارتكب الحسين بن علي بعض الأخطاء بمبالغته في تقدير قوة أنصاره بالعراق، وعدم استيعابه للمعادلة السياسية والعسكرية القائمة هنا، وللتغيير الأخلاقي والنفسي الذي دخل على المجتمع مع اتساع الفتوح، مما جعل قلوب بعض الناس معه وسيوفهم عليه..

    ومن أمثلة ذلك أيضا إساءة التقدير الذي وقع فيه أهل المدينة في ثورتهم على يزيد بن معاوية، والتي انتهت بفاجعة "الحرَّة"، واتخذها يزيد ذريعة ليعيث فسادا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ويستأصل بقية الصحابة..

    ومن أمثلته تعويل عبد الله بن الزبير على قوة قوم سرعان ما انسحبوا من المعمعة، وتركوه في ثلة من أصحابه الأبطال يواجهون بطش الحجاج بن يوسف ودمويته، وانتهاكه لحرمات الإسلام وبيت الله الحرام.

    وكان من أسباب كل هذه الأخطاء أن أهل المدينة والحجاز في مركز الخلافة اعتادوا على جيوش الجهاد، وهي جيوش تطوعٍ يدفعها الإيمان للقتال، وفي ظروف تكون الراية واضحة لا لبس فيها. وكان جيش الشام قد تحول مع الزمن إلى جيش نظامي، بعد أن أدخل معاوية النظام الإداري والعسكري الموروث عن الدولة البيزنظية في الشام. ثم أصبحت الراية أقل وضوحا لأن القتال الآن ليس بين مسلم وكافر، بل بين مسلم عادل ومسلم باغ.

    ولم يكن جيش من المتطوعين في هذه الظروف ليستطيع هزيمة جيش نظامي، ولا كانت النفوس تجود بالقتل كما كانت أيام الفتوح والغزوات. ولعل أولئك السادة لم يستوعبوا تلك الحقيقة الجديدة، ابتداء من علي، مرورا بالحسين وأهل المدينة، وانتهاء بابن الزبير.

    لكن الخلط المنهجي يدخل على بعض الباحثين هنا، حين يسوُّون بين الخطإ السياسي والعسكري الذي اجتهد صاحبه في طلب الحق، والتزم قواعد الشرع في مسعاه، وبين الخطيئة الشرعية والمبدئية التي لم يبذل صاحبها جهدا في طلب الحق، ولا التزم مبادئ الشرع في مسعاه..

    فكون عليٍّ والحسين وأهل المدينة وابن الزبير أخطأوا التقدير السياسي أو العسكري لا يجعلهم مذنبين، بل هم اجتهدوا في طلب الحق ونصرته، بوسائل الحق وأدواته، فخطؤهم من النوع المرفوع الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم: »إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه« . بل هو من الاجتهاد الذي يؤجر صاحبه سواء أصاب أم أخطأ، كما قال صلى الله عليه وسلم »إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر«

    لقد قاتل علي والحسين وأهل المدينة وابن الزبير من أجل الحق والعدل، وقاتل خصومهم من أجل السلطة والثروة. فليس من الحق أو الإنصاف وضع الطرفين في سياق واحد، وتسوية خطإ أحدهما بخطيئة الآخر. ولذا قال الحافظ الذهبي إن "أهل المدينة قاموا لله" في ثورتهم على يزيد، وقد أوردنا كامل كلامه من قبل. وقال ابن العربي عن الحسين إنه ثار "غضبا للدين وقياما بالحق"، وسيأتي كلامه فيما بعد.

    ومن المعلوم أن الخالق سبحانه لم يضمن النصر الدنيوي لكل من جاهدوا في سبيله، وإنما ضمن لهم إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

    فالمعيار الصحيح في الحكم هو السعي إلى الحق، والتزام قواعد الشرع في ذلك المسعى، وليس النتيجة الدنيوية المترتبة على الفعل.

    إن القرآن الكريم يعلمنا أن ارتكاب خطإ عملي لا يعني بالضرورة أن صاحبه آثم، ولا يترتب عليه نقص من جهده وجهاده في العاقبة. ففي ذلك التعقيب القرآني الجميل على غزوة أحد بين القرآن الكريم للمسلمين دون مواربة أنهم قصَّروا فأصيبوا: »قل هو من عند أنفسكم« لكنه أعلن لهم دون لبس أن قتلاهم شهداء :»وليتخذ منكم شهداء« .

    ومن أحسن الأمثلة على التمييز بين الخطإ والخطيئة بالمعنى الذي نقصده هنا، ما فعله العلامة ابن خلدون. فحينما تحدث ابن خلدون في مقدمته عن مقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه في كربلاء ، بيَّن أن الحسين ارتكب خطأ في تقديره لاستعداد أتباعه في العراق وقوتهم ، لكن ابن خلدون لم يغفل التنبيه على أن ذلك »خطأ دنيوي، وليس دينيا« حسب تعبيره أي أنه قصور في الخطة والأداء، وليس تقصيرا في الشرع والمبدإ، فهو خطأ لا خطيئة، بخلاف ما فعله أعداؤه، فهو جريمة وخطيئة منكرة.

    وما قاله ابن خلدون عن الحسين يمكن قوله عن علي وأهل المدينة وابن الزبير وابن الأشعث، وكل من بذل دمه من أجل تثبيت أو استرداد الخلافة الراشدة في القرن الأول الهجري، ثم أخفق في ذلك أمام كثافة القوة وبطشها.

    وهذه المعادلة التي تميز بين القصور والتقصير وبين الخطإ والخطيئة هي التي تعوز دارسي تاريخ الصدر الأول اليوم.


    القاعدة الحادية والعشرون
    التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري


    لقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة حول الفتن، وما سيصيب هذه الأمة في تاريخها من بلايا ومصائب، وحروب داخلية، وتمزقات مذهبية وطائفية. ويكفي مطالعة أبواب "الفتن والملاحم" في كتب الحديث للاطلاع على ذلك.

    لكن كثيرا من المسلمين – ومنهم علماء أجلة – فهموا هذه الأحاديث فهما جبريا، لأنهم لم يحسنوا التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدَري.

    أما الخطاب الشرعي – في عرف الأصوليين – فهو الذي يتضمن أمرا ونهيا، وهو يتوجه إلى الضمير الخلقي لدى المؤمن، وينير له طريق حياته العملية. وأما الخطاب القدَري فهو يدخل في نطاق الغيبيات، ولا ينبني عليه فعل أو ترك، بل إيمان وتصديق.

    ومن أمثلة الخطاب القدري ذات الصلة بموضوعنا هذا حديث عامر بن سعد عن أبيه »أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرَق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها«

    فحينما يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره أن هذه الأمة ستشهد اقتتالا وفتنا مريرة، فهذا خطاب قدري نؤمن بأنه سيقع. لكن يجب لا ننسى أن الخطاب الشرعي يطالبنا بأمر آخر أكثر من مجرد الإيمان بوقوع الفتن والاقتتال.. إنه يطالبنا بالإصلاح بين المؤمنين، والوقوف في وجه الباغي، والأخذ على يد الظالم: »وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ..« .

    فإذا وقف المسلمون على الحياد، وقالوا: لا نصلح بين الإخوة، ولا نقاتل الباغي، لأن ما وقع هو مصداق لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.. فلا شك أن هذا انحراف في فهم مقصود الشرع، وتخل عن المسؤولية الأخلاقية.

    ومثل ذلك يقال في الأحاديث التي تنبأت بوقوع الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم، فالحياد الأخلاقي السائد في الفكر الإسلامي في تناول تلك الأحداث يرجع جزئيا إلى الخلط بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري. وهو حياد يحرِم المسلمين من الدراسة التقويمية للخلافات السياسية بين الصحابة، واستخلاص العبرة منها للمستقبل.

    لذا فإن التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري أداة منهجية مهمة في دراسة تلك الحقبة التاريخية ورجالاتها.


    القاعدة الثانية والعشرون
    الحكم بالظواهر والله يتولى السرائر


    وهذه القاعدة هي جماع الأمر كله وخلاصته، ولو التزمها المسلمون لوفرت عليهم الكثير من الجدل والمراء حول هذا الموضوع، ولمكنتهم من دراسة تاريخ الصدر الأول دراسة اعتبارية، تضمن لهم الحفاظ على مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ في ذات الوقت، وتفيد حاضرهم ومستقبلهم، وتقيهم مزالق الماضي وامتداداتها السلبية في الحاضر، وخطرها على المستقبل.

    وقد انبنت شريعة الإسلام كلها على أخذ الناس بظاهر أمرهم، وإيكال سرائرهم إلى الله عز وجل. ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: »إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة« . وليس مَن حاكَمَ الناس بظواهرهم بظالم لهم، حتى ولو أخطأ الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي أعلن على الملإ: »إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من النار« .

    ولو أن الباحثين في الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم احتكموا إلى هذه القاعدة، دون تنقيب في السرائر، ودون تكلف في التأويل والتأول، لوفروا عليهم كثير وقت وجهد، ولأمكن استخلاص العبرة والخبرة من خلافات الصدر الأول بما يفيد حاضر الإسلام ومستقبله.

    إن الذي يلتزم بقواعد الشرع في الحكم بالظواهر، يدرك أن التباينات السياسية بين الصحابة بدأت ليلة السقيفة، وتجلت أكثر ما تجلت في إحجام علَمين من أعلام الصحابة عن بيعة الصديق، هما علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة على نحو ما بينا وسنبينه فيما بعد، لكن ورع ذانك العلَمين وسلطة المجتمع الراشد في عهد الخلافة الراشدة، دفعت عليا إلى مراجعة الحق، كما دفعت سعدا إلى الاعتزال دون إثارة فتنة أو خلاف.

    ثم بدأت خلافات أخرى من نوع جديد في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، راجعة إلى انحرافات سياسية، واستئثار وإيثار بالسلطة والثروة، لكن كبار الصحابة – رغم تململهم من سياسات عثمان رضي الله عنه – التزموا بعهد البيعة الذي في رقابهم للخليفة، وحاولوا إصلاح ما يمكن إصلاحه بالحسنى.. ثم ثارت ثائرة قوم لا خلاق لهم، ولا تربوا على التزام عهود الإسلام ومواثيقه، فاعتدوا على الخليفة الشهيد وقتلوه بغير حق شرعي، بعدما أعلن توبته وعزمه على الإصلاح، وعاضدهم في ذلك مواقف من بعض أقارب عثمان مثل مروان بن الحكم وغيره، ترفض الانصياع للحق، وتؤثر الدنيا على الدين.. وبايع الناس الخليفة الراشد الرابع في ظروف اضطراب، فخرج عليه أهل الجمل، وهم نفر من الأكابر ساءهم مقتل الخليفة الشهيد، واستعجلوا أمرهم دون التزام ما يلزم من إجراءات جنائية شرعية، تقتضي رفع الدعوى من طرف أولياء القتيل، والتقاضي لدى السلطة الشرعية..

    ثم خرج على الخليفة الراشد أهل الشام وهم قوم مزجوا شبهة مقتل الخليفة الشهيد بشهوة الملك ومطامح الدنيا »وكان شبهة معاوية ومن معه الطلب بدم عثمان، وكان الواجب عليهم شرعا الدخول في البيعة، ثم الطلب من وجوهه الشرعية، وولي الدم في الحقيقة أولاد عثمان، مع أن قتلة عثمان لم يتعينوا« فقاد معاوية ومن معه الأمة إلى حرب ضروس سقط فيها سبعون ألفا من خيار المسلمين.. والأسوأ من ذلك أنهم هدموا أركان الخلافة الراشدة. فلا هم التزموا قواعد الشريعة في التقاضي حول دم الخليفة الشهيد، ولا هم حفظوا للأمة منهاجها النبوي في السياسة والحكم بعدما استقر الأمر بأيديهم، بل ابتدعوا بدعة الملك، وهي أول البدع في الإسلام وأبعدها أثرا على الأمة والملة. ولأن الملك "مقتضٍ ترك بعض الدين الواجب" كما يقول ابن تيمية، فإن الذين ابتدعوه نقضوا به عروة من عرى الإسلام، وفتحوا به ثغرة في كيان الأمة لم تنسد حتى اليوم.. والله المستعان.


    ملاحظات على منهج ابن تيمية


    إن هذه القواعد المنهجية – وأكثرها من كتب ابن تيمية - تدل على فقه الرجل وعمق فهمه للشرع والتاريخ، وقدرته على الموازنة بين الدفاع عن مكانة رجالات الإسلام وقدسية مبادئ الإسلام في ذات الوقت. ويبقى أن نبين بعض المآخذ الجزئية، مما لم نجده منسجما مع الدليل، ولا مع التوجه العام لفقه الشيخ ومنهجه، كما أوضحته القواعد السالفة.

    ونبدأ ببيان أمر على قدر من الأهمية، وهو أن ابن تيمية حين ألف كتبه حول الخلافات السياسية بين الصحابة، لم يهدف إلى التأصيل للفقه السياسي الإسلامي كما نهدف اليوم، بل ألفها منازلة للشيعة وردا على طعونهم في مكانة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. فلا يعدم القارئ المتأمل ردود أفعال عنيفة أحيانا في كتابات شيخ الإسلام، بعضها يرجع إلى عنف التهمة وشناعتها، وبعضها يرجع إلى مزاج الشيخ وطبعه.

    ورغم أن الشيخ حاول الحفاظ على توازنه، ونجح في ذلك في أغلب الأحيان، فإن بعض التكلف والاضطراب - والتناقض أحيانا - يظهر في بعض دفاعه عن قادة جيش الشام بصفين عموما، وعن معاوية خصوصا. فقد اضطرب تشخيص ابن تيمية لحرب صفين، فهو أحيانا يضع يده على عمق المسألة، ويصرح بأنها قتال بين أهل عدل وأهل بغي، فيقول: »وعلي هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين« وأحيانا يتكلف فيقسِّم خروج أهل الشام على عليٍّ إلى مرحلتين: مرحلة ما بعد التحكيم، ومرحلة ما قبل التحكيم، فيقول: »الوجه الثاني أنها [يعني طائفة أهل الشام] صارت باغية في أثناء الحال، بما ظهر منها من نصب إمام، وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعْن إمام الحق ونحو ذلك، فإن هذا بغي بخلاف الاقتتال قبل ذلك [ أي قبل التحكيم]، فإنه كان قتال فتنة« . وبناء على هذا التقسيم المتكلف يتوصل ابن تيمية إلى أن أصحاب علي أخطأوا حينما قاتلوا معه قبل التحكيم – لأن القتال آنذاك كان قتال فتنة – وأخطأوا حينما لم يقاتلوا معه بعد التحكيم – لأن القتال أصبح قتالا بين أهل عدل وبغاة .

    ولو أن ابن تيمية قال بعكس هذا لكان كلامه أدق وأكثر انسجاما مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم: فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وقد قُتل عمار قبل التحكيم اتفاقا، فمتى يكون بغي أهل الشام إن لم يكن قبل التحكيم، حينما سلوا السيوف وقتلوا عمارا؟!

    وهذا مجرد مثال على الاضطراب الذي يقع فيه الشيخ حين يتحدث عن حرب صفين، وهو اضطراب يظهر حتى في لغته وأسلوبه، ويدركه من اصطحب كتب الشيخ وتمرس بها.

    ومن مظاهر هذا الاضطراب والتكلف تكرار ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره أن معاوية لم يسع إلى الخلافة في حياة علي، ولا نازع عليا الخلافة. وهو أحيانا يطلق، فيقول – مثلا - متحدثا عن علي: »..ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه« وأحيانا يتحفظ بعض الشيء، فيصرح أن منازعة معاوية لعلي في الإمامة إنما حدثت بعد حكم الحكمين، فيقول: »..وكذلك معاوية لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمى بأمير المؤمنين، ولا سماه أحد بذلك، ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين« .

    وكل هذا تكلف في التأول، يناقض نصوصا صحيحة صريحة.

    إن الدلائل على مطامح الملك لدى معاوية أثناء الفتنة كثيرة وافرة، وهي كلها تدل على أن قصده من الخروج على الخليفة الرابع لم يكن مجرد الثأر للخليفة الثالث، بل كانت مطامح الملك حاضرة في سعيه منذ أول وهلة. فضلا عن أن أسلوب الثأر - دون تقاض - على طريقة عرب الجاهلية لم يعد له مكان في دولة الإسلام. ومن الدلائل على منازعة معاوية عليا في الخلافة، ومطامحه إلى أن يكون ملِكا ما يلي:

    أولا: حديث البخاري في قصة التحكيم: »عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها [=ضفائرها] تنطف [=تقطر ماء]، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يُجعَل لي من الأمر شيء، فقالت: الحقْ فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعْه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ« وفي رواية الطبراني: »عن ابن عمر قال: لما كان اليوم الذي اجتمع فيه علي ومعاوية بدومة الجندل، قالت لي حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر بن الخطاب. فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال من يطمع في هذا الأمر أويرجوه أو يمد له عنقه؟ قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك على الاسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه« ورواية ابن سعد لهذه القصة أصرح من سابقتيْها: »عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: لما كان موعد علي ومعاوية بدومة جندل ما كان أشفق [=أخْوفَ] معاوية أن يخرج هو وعلي منها [= من الخلافة]، فجاء معاوية يومئذ على بختي فقال: ومن هذا الذي يطمع في هذا الأمر أو يمد إليه عنقه، قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا إلا يومئذ، فإني هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك عليه حتى أدخلكما فيه، ثم ذكرت الجنة ونعيمها وثمارها فأعرضت عنه« .

    فهذه القصة تكفي دلالة على أن محل النزاع الجوهري بين معاوية وعلي لم يكن حول قتَلة عثمان، بل حول الخلافة والإمساك بزمام أمر المسلمين، وأن معاوية كان يخشى من قطع الطريق على محاولته انتزاع الخلافة، أكثر من خشيته على هروب القتلة بدم الخليفة الشهيد. ولذلك لم يحرك ساكنا ضد القتلة حينما استقر له الملك، وأمسك الدولة الإسلامية من أطرافها، باعتراف ابن تيمية نفسه في كلامه السابق والآتي.

    ثانيا: »عن أبي بردة [بن أبي موسى الأشعري] عن أبي موسى: أن معاوية كتب إليه: أما بعد، فإن عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد، وأُقسِم بالله لئن بايعتني على الذي بايعني، لأستعملن أحد ابنيْك على الكوفة، والآخر على البصرة، ولا يُغلَق دونك باب، ولا تُقضى دونك حاجة، وقد كتبت إليك بخط يدي، فاكتب إليَّ بخط يدك. فكتب إليه [أبو موسى]: أما بعد، فإنك كتبتَ إليَّ في جسيم أمر هذه الأمة، فماذا أقول لربي إذا قدمتُ عليه. ليس لي فيما عرضتَ من حاجة، والسلام عليك« . وقد علق الذهبي على هذه المراسلة فقال: »قلت: كان أبو موسى صواما قواما زاهدا عابدا، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيرْه الإمارة، ولا اغتر بالدنيا« .

    وتكشف هذه المراسلة عن الفرق بين تصور أبي موسى الأشعري لموضوع الخلافة، الذي اعتبره "جسيم أمر هذه الأمة" يخاف ربه إذا سأله عنه، وبين تصور معاوية الذي لم يكن يرى بأسا بالاستيلاء عليها بتوزيع العطايا والمناصب، وإشهار السيوف والرماح. كما تكشف الرسالة عدم دقة ابن تيمية في تأكيده على أن معاوية "لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة"!! فمعاوية نفسه يصرح هنا بأن عمرو بن العاص بايعه على ما يريد، فما الذي بايعه عمرو عليه؟ قد يقول بعض المتكلفين: إن عمْرا بايعه على الأخذ بدم عثمان!! لكن معاوية تخلى عن موضوع قتلة عثمان حالما أمسك بزمام الأمة، وكأن ذلك الموضوع لم يكن، باعتراف ابن تيمية نفسه الذي يقول: »فمعاوية رضي الله عنه الذي يقول المنتصر له: إنه كان مصيبا في قتال علي، لأنه كان طالبا لقتل قتلة عثمان، لما تمكَّن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان. فإن كان قتْلهم واجبا وهو مقدور له، كان فعله بدون قتال المسلمين أوْلى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك. ولو قتل معاوية قتلة عثمان، لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي صفين … ومن قال: إن قتْل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان، فقتْل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا. وهو لم يفعل ذلك لما تولى، ولم يقتل قتلة عثمان« .

    ثم ما معنى وعد معاوية في رسالته لأبي موسى بتنصيب ولديه حاكميْن للبصرة والكوفة – وكلتا المدينتين كانت تحت إمرة عليٍّ يومذاك – سوى أن معاوية وعمْرا كانا ينازعان عليا الخلافة، ولا يرضيان بأقل منها؟

    لقد أحسن الإمام الحسن البصري حين شخَّص الأمر في قضية التحكيم دون تكلف فقال: »كان الحكمان أبا موسى وعمراً، وكان أحدهما يبتغي الدنيا، والآخر يبتغي الآخرة« .

    ثالثا: »عن ميمون [بن مهران] قال: دس معاوية عمرو بن العاص، وهو يريد أن يعلم ما في نفس [عبد الله] بن عمر، يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نُفيْر يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجَر لم يكن لي فيها حاجة. قال [ميمون]: فعلم أنه لا يريد القتال. قال: هل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفٍّ لك! اخرجْ من عندي ثم لا تدخلْ عليَّ، ويحك! إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية« . فمحاولة شراء البيعة من عبد الله بن عمر، وهو المرشح لتولي الأمر بعد التحكيم – كما سنرى فيما بعد - لا يترك لبسا حول دوافع معاوية وعمرو يغفر الله لنا ولهما.

    رابعا: استمرار معاوية – بمساعدة من عمرو - في شراء البيعة بالمال وسلوك مسالك في السياسة لا تصلح طوال فترة حكمه، وخلال توليته لابنه يزيد: »عن محمد [بن سيرين] قال: لما ورد معاوية الكوفة واجتمع عليه الناس، قال له عمرو بن العاص: إن الحسن مرتفع في الأنفس لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه حديث السن عييٌّ، فمره فليخطب، فإنه سيعيَى فيسقط من أنفس الناس، فأبى، فلم يزالوا به حتى أمره، فقام [الحسن] على المنبر دون معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لو ابتغيتم بين جابلْقَ وجابرْسَ رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا معاوية بيعتنا ورأينا أن حقن الدماء خير، وما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار بيده إلى معاوية. فغضب معاوية، فخطب بعده خطبة عيِـيَّة فاحشة، ثم نزل وقال: ما أردتَ بقولك فتنة لكم ومتاع؟ قال: أردت بها ما أراد الله بها« و»عن نافع أن معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد، فأبى وقال: لا أبايع لأميرين. فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدس إليه رجلا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال [ابن عمر]: إن ذاك لذاك!! - يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة – إن ديني عندي إذن لرخيص« .

    إن كل هذه النصوص تدل على أن معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول، وصرح بمطامحه في قيادة الأمة دون لبس. فالقول بعد ذلك إنه لم ينازع عليا الخلافة ولا سعى إليها.. تكلف بارد، كان الأوْلى بشيخ الإسلام ابن تيمية أن يتنزه عنه.

    على أن دور معاوية أكبر من مجرد الخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله. فهو الذي أرسى نظام الملك بديلا عن دولة الخلافة، فسن في الإسلام تلك السنة السيئة، وفتح بها أبوابا من المظالم التي لم تتوقف، ومن الدماء التي لم تجف منذ أربعة عشر قرنا، وأخرج بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع: كالشورى والبيعة والعدل.. إلى منطق القوة وقانون الغاب، وهو أمر لا يزال المسلمون يعيشون مساوئه إلى اليوم.

    فسواء تأولنا لمعاوية في مواقفه خلال الفتنة أم لم نتأول، فإن سلوكه السياسي اللاحق ليس مما يمكن التأول له، وهو سلوك كان أبعد أثرا على الإسلام والمسلمين من الفتنة ذاتها، بل من أي حدث تاريخي خلال الأربعة عشر المنصرمة. فقد كانت الفتنة التي قادها معاوية هدما لأركان الخلافة الراشدة، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لابنه بالترغيب والترهيب كان أسوأ أثرا، لأنه إرساء لبناء جديد منحرف على أنقاض تلك الخلافة، وسد لأبواب استردادها. فليتكلف المتكلفون ما شاءوا في تأولهم لما حدث أثناء الفتنة، لكنهم لن يجدوا ما يتأولون به لما حدث بعد ذلك، إذا كانوا حقا ممن يجعل قدسية المبادئ فوق مكانة الأشخاص.

    لقد استاء النبي صلى الله عليه وسلم من الملك – كما رأينا من قبل - فلم لا نستاء نحن منه، ونستاء ممن أدخله على الإسلام وأهله؟ وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والعض عليها بالنواجذ، فلماذا لا نعض عليها كما أمرنا؟ ولماذا نتنازل عنها بجرة قلم تكلفا وتأولا لأشخاص ليسوا بمعصومين، وإهدارا لقدسية المبادئ الإسلامية حفاظا على مكانة أولئك الأشخاص؟

    لقد نأى ابن تيمية بنفسه عن التكلف في التأول للسابقين من أمثال سعد بن عبادة – كما بينا من قبل - وفسر إحجام سعد عن بيعة الصديق بأن سعدا »بقي في نفسه بقيةُ هوىً« كما فسر تأخر عليٍّ عن بيعة الصديق بأنه »كان يريد الإمرة لنفسه « . وقال عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهو من السابقين البدريين: »..كانت له سيئات معروفة، مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وإساءته إلى مماليكه« .

    بل إن ابن تيمية لم يتأول للخليفتين الراشديْن عثمان وعلي، وصرح بأن كلا من عثمان وعلي ترخص بعض الترخصات، وعمل ما لا يُقتدى به فيه، فقال: »إن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد – الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص على رجحانه – وكان سبب افتراق الأمة، لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء. وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل في الدماء والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلَّب الرغبة وتأول في الأموال، وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. فأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال« لكن المرء يدهش حين يجد التساهل والتكلف في الدفاع عن معاوية، ممن يقول هذا الكلام الصراح في الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين!!

    فإذا كان سعد غير منزه عن الهوى، وعليٌّ غير منزه عن "التأول في الدماء"، وعثمان غير منزه عن "التأول في الأموال" بحسب تحليل ابن تيمية.. فلماذا لا نعترف أن معاوية وعمرا غير منزهين عن مطامح الملك، ولدينا من الدلائل على ذلك الكثير..

    لقد كان حريا بابن تيمية هنا أن يعترف - كما فعل دائما – بالطبيعة المركبة للفتنة، وباختلاط الشبهات والشهوات فيها، ويقبل أن دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرد شبهة الاقتصاص للخليفة الشهيد، بل خالطتها شهوة الملك وحب الدنيا. وليس اتفاق أهل الجمل وصفين في الشعار – وهو المطالبة بدم عثمان – مبررا كافيا للمساواة بينهما في الدوافع، بعدما كشف أهل صفين عن مطامح الملك لديهم، وسعوا لها سعيها، على عكس أهل الجمل.

    أعتقد أن ابن تيمية لو التزم بمقتضى منهجه لقال غير ذلك، ليكون منسجما مع طرحه العام وتحليلاته العميقة للخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم.

    ومهما تكن المآخذ على منهج ابن تيمية، فإنه يظل أعمق وأوسع من درس الخلافات السياسات بين الصحابة، وتظل المآخذ على منهجه طفيفة جدا بالمقارنة مع أخطاء غيره، كما يتبين من بقية هذه الدراسة.
    [align=center][/align]

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    حوارات مع مدرسة "التشيع السني"


    ولكي تتضح هذه القواعد المنهجية في ذهن القارئ الكريم أكثر، نختم هذه الدراسة بمقارنة سريعة لمنهج ابن تيمية وأهل الحديث في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة وبين منهج ابن العربي وتلامذته المعاصرين – ممن أدعوهم مدرسة التشيع السني - حتى تتضح المساوئ المنهجية السائدة في تناول هذه القضايا اليوم.

    يعتبر القاضي أبو بكر ابن العربي (468-543 هـ) علما من أعلام المذهب المالكي وفاضلا »من فضلاء المالكية« . وهو من علماء الأندلس الذين لهم مشاركة في علوم شتى منها التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه والأصول والأدب والنحو والتاريخ. ذكر السيوطي أنه »جمع وصنف وبرع في الأدب والبلاغة، وبعد صيته. وكان متبحرا في العلم، ثاقب الذهن، موطَّأ الأكناف، كريم الشمائل« وأضاف الذهبي أنه »أدخل الأندلس علما شريفا وإسنادا منيفا« . ووصفه ابن فرحون بأنه »الإمام العلامة الحافظ المتبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها« كما وصفه ابن كثير بأنه »كان فقيها عالما وزاهدا عابدا« .

    وقد ألف ابن العربي في مختلف العلوم. ومن أشهر مؤلفاته "أحكام القرآن" و"سراج المريدين" و"القبس في شرح موطإ الإمام مالك بن أنس" و"عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي".

    ومن ضمن كتب القاضي ابن العربي كتاب سماه "العواصم من القواصم" بسط فيه العقائد الإسلامية على طريقة الأشاعرة، وضَمَّنه فصلا عن الخلافات السياسية بين الصحابة وخصوصا حربيْ الجمل وصفين.

    وقد نشر المرحوم الشيخ محب الدين الخطيب هذا الفصل في مجلد واحد صغير، وكتب بعض التعليقات على الكتاب، لا تخرج عن منهج ابن العربي في التناول، أغلبها من كتب التاريخ والأخبار، بل إن بعضها منسوب إلى كتاب معاصرين، لا شأن لهم بهذا الأمر، ولا علم لديهم به. ثم توالت طبعات الكتاب واشتهر، وانتشر بين طلبة العلم، وتوالت عليه التحقيقات، وعم معه أسلوب كاتبه بين كثير من الشباب وطلبة العلم.

    والنسخة التي نعتمدها من الكتاب هنا من طبع "دار الجيل" في بيروت عام 1994، وقد كتب على صفحتها الأولى بعد عنوان الكتاب: "حققه وعلق حواشيه العلامة الشيخ محب الدين الخطيب. خرج أحاديثه وعلق عليه الأستاذ محمد مهدي الإستانبولي. وثقه وزاد في تحقيقه والتعليق عليه الدكتور محمد جميل غازي" !!

    ومع كل ذلك ظل الكتاب بحاجة إلى الكثير من التحقيق والتعليق !!


    مآخذ منهجية على ابن العربي


    ولا بأس أن نعرض بعضا من المساوئ المنهجية التي انطبعت بها كتابات القاضي ابن العربي رحمه الله، وورثها أتباعه المعاصرون. وحتى لا نتحامل على الرجل – وهو علم من أعلام المسلمين الذين نجلهم – نترك الحديث لبعض المحققين من العلماء الأقدمين الذين انتبهوا إلى هذه المساوئ ونبهوا عليها:

    أولا: السطوة والشدة: قال السيوطي في معرض حديثه عن حياة القاضي ابن العربي: »..ولي قضاء إشبيلية، فكان ذا سطوة وشدة ..« . وليست هذه السطوة والشدة بعيب مطلق، بل ربما كانت نافعة للقاضي في قضائه أحيانا. وقد افتخر القاضي ابن العربي – وحق له – بصرامته في القضاء، فقال: »ولقد حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى لم يك في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصْب، وعظم على الفسقة الكرْب« كما امتَدح القاضي عياض ابنَ العربي بذلك »قال القاضي عياض: واستُقضِيَ [ابن العربي] ببلده، فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه. وكانت له في الظالمين سوْرة مرهوبة« . لكن المناظرات العلمية غيرُ القضاء، فالسطوة والشدة فيها في أمر سلبي، يدفع صاحبه إلى تجاوز حدود العدل والتوسط والإنصاف في التعامل مع المخالف. وهو ما وقع فيه ابن العربي، مع الأسف.

    ثانيا: التحامل على المخالفين، وغمطهم حقهم، والوقوع فيهم دون إنصاف. ولا بأس بإيراد أمثلة من ذلك مع تعليق المنصفين من أهل العلم:

     قال ابن العربي متحدثا عن العلامة ابن حزم: ».. سخيف كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم … زعم أنه إمام الأمة يرفع ويضع، ويحكم ويشرع، وينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا تنفيرا للقلوب عنهم، وخرج على طريق المشبهة في ذات الله تعالى وصفاته فجاء فيه بطوام … وعضدته الرياسة بما كان عنده من أدب ونسبة كان يوردها على الملوك، فكانوا يحملونه ويحمونه، لما كان يُلقي إليهم من شُبه البدع والشرك ..« وكأنما نسي ابن العربي أن »مما يعاب به ابن حزم وقوعه في الأئمة الكبار بأقبح عبارة وأشنع رد« فارتكب نفس الخطإ. وقد علق الحافظ الذهبي على كلام ابن العربي بإيراد كلام مَن أنصف ابن حزم، ثم قال: »قلت: هذا القائل منصف، فأين كلامه من كلام أبي بكر بن العربي وهضمه لمعارف ابن حزم؟« .

     وقال القرطبي وهو ممن يجلون ابن العربي وينقلون عنه كثيرا: »وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار [إشعار الهدي] فقال: "كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة! لهي أشهر منه في العلماء"« ثم بين القرطبي بأسلوب علمي رصين أن أبا حنيفة لا يجهل هذه الشعيرة كما أوهم ابن العربي، لكنه ردها بنصوص أخرى من السنة تنهى عن تعذيب الحيوان والتمثيل به. فالخطب سهل، والأمر لا يستدعي تحاملا ولا تجهيلا.

     وقال المباركفوري: »قال ابن العربي: "اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع" .. وهو كما قال، إلا أنه أساء في قوله "الغافلين" على عادته .. « .

     وقال ابن العربي في الرد على الطبري: »والعجب من الطبري يرى أن طرفْي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل... قال الطبري: "والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الآخر المغرب". ولم يُجمع معه على ذلك أحد« وقد علق القرطبي على ذلك بقوله: »قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد، وأنه لم يُجمِع معه على ذلك أحد. وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح.. « .

    ثالثا: رد الأحاديث الصحيحة والوقائع الثابتة إذا خالفت رأيه الفقهي أو رؤيته السياسية. وهاك بعض الأمثلة :

     قال ابن حجر: »وقد حكى [القاضي] عياض عن هشام وعباد أنهما أنكرا وقعة الجمل أصلا ورأسا، وكذا أشار إلى إنكارها أبو بكر بن العربي في "العواصم" وابن حزم. ولم ينكرها هذان أصلا ورأسا، وإنما أنكرا وقوع الحرب فيها على كيفية مخصوصة، وعلى كل حال فهو مردود، لأنه مكابرة لما ثبت بالتواتر المقطوع به« .

     وقال الشوكاني: »روى ابن أبي شيبة في المصنف بسند صحيح عن ابن المسيب قال: "أول من أحدث الأذان في العيد معاوية". وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به« .

     قال القرطبي: »قال ابن العربي: وقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه" وهو حديث ضعيف .. قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح أخرجه النسائي وأبو داود .. قال البخاري عن علي بن المديني: "سماع الحسن من سمرة صحيح"، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: "وأنا أذهب إليه". فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما« .

     قال ابن حجر: »وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي، فحمل قوله "أذَّن" على الأذان المشروع، وطعن في صحة حديث ابن عمر، وقال: "عجبا لأبي عيسى [الترمذي] كيف صححه، والمعروف أن الأذان إنما كان بحديث عبد الله بن زيد" انتهى. ولا تُدفع الأحاديث الصحيحة بمثل هذا مع إمكان الجمع كما قدمناه. وقد قال ابن منده في حديث ابن عمر: إنه مجمع على صحته« .

    رابعا: التكلف والتعسف في إثبات الرأي الموافق ونفي الرأي المخالف.

     قال المباركفوري عن حديث "الخال وارث من لا وارث له": »وقد تعسف القاضي أبو بكر بن العربي في الجواب على هذا الحديث، فقال: المراد بالخال بالسلطان« وقال الشوكاني: »ومن الأجوبة المتعسفة قول ابن العربي: إن المراد بالخال السلطان« .

    خامسا: الإطلاق في نفي الأدلة التي لم تصل إلى يده أو لم تستحضرها ذاكرته. ومن أمثلة ذلك:

     قال ابن حجر: »ومن المستغرب قول ابن العربي: "لم يرد في الثوب الأصفر حديث"، وقد وردت فيه عدة أحاديث«

     وقال ابن حجر: »قال ابن العربي: "لم أر للقميص ذكرا صحيحا إلا في الآية المذكورة وقصة أُبيّ، ولم أر لهما ثالثا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم" قال هذا في كتابه "سراج المريدين"، وكأنه صنفه قبل [تأليفه] شرح الترمذي، فلم يستحضر حديث أم سلمة، ولا حديث أبي هريرة.. ولا حديث أسماء بنت يزيد.. ولا حديث معاوية بن قرة.. ولا حديث أبي سعيد.. وكلها في السنن، وأكثرها في الترمذي« .

     نقل الشوكاني عن القرطبي قوله: »ومن العجيب أن ابن العربي قال: "إن قولهم (الممسوخ لا نسل له) دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل، وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه". وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم «.

     قال الشوكاني: »وقد بالغ ابن العربي فقال: لم يرد في الظهار حديث صحيح« .

    سادسا: التهويل والمبالغة : وممن انتبهوا لذلك الحافظ ابن حجر فقال:

     »..فجرى [ابن العربي] على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف« .

     »وبالغ ابن العربي على عادته، فقال: إن ذكر سعد بن معاذ في قصة الإفك وهم .. « .

     »قلت: بالغ [ابن العربي]كعادته في تضليل من حمل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد« .

    سابعا: نقل الإجماع في الأمور الخلافية. وقد ورد في الفقرة السابقة ما قاله ابن حجر في ذلك، ولا بأس بتعزيزه هنا ببعض التفصيلات. قال ابن حجر:

     »وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورُدَّ بأن الخلاف ثابت قديما، وإن كان الراجح أفضلية خديجة« .

     »وأما قول ابن العربي [في الركعتين قبل المغرب]: "اختلف فيها الصحابة، ولم يفعلها أحد بعدهم"، فمردود بقول محمد بن نصر: "وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب " ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة« .

     »وأغرب ابن العربي فحكى الإجماع على أن السعي ركن في العمرة .. « .

     »وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها [الجمعة] لا تجب حتى تزول الشمس... وقد نقله ابن قدامة عن جماعة من السلف« .

     وقال القرطبي: ».. إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى بـ"القبس": قال علماؤنا رحمة الله عليهم: "هذا الحديث مردود بالإجماع". قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع، فلم يصح ما ادعوه من الإجماع، وبالله التوفيق« .

    ثامنا: حدة الطبع: فالقاضي – رحمه الله – ممن يكتبون بأسلوب متوثب يكاد صاحبه ينقض على خصمه باليد، ولا يكتفي باللسان. واسمع إليه وهو يعلق على أقوال "الغرابية" – وهي طائفة من غلاة الشيعة - فيقول: إن هذه الأقوال »كفر بارد، لا تسخِّنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه« . ولا تخطئ عين القارئ لكتابيه "أحكام القرآن" و"العواصم" ما يعضد هذا الانطباع. وربما لم يجد البعض بأسا في مثل هذا التعامل في التصدي للمبتدعة، لكنهم ينسون الأثر السلبي لذلك على المتصدي نفسه في سلامة تحليله، وعدالة حكمه.

    ولا بد من التأكيد هنا على أن ذكر هذه المساوئ المنهجية التي تتسم بها كتابات ابن العربي ليس الهدف منه تتبع العورات، وإنما التنبيه على أثر هذه المساوئ على تناوله للخلافات السياسات بين الصحابة، وما ورَّثه ابن العربي للشباب المسلم وطلبة العلم المعاصرين من انحراف في المنهج في تناولها.

    لقد جعلت هذه المساوئ المنهجية كتابات القاضي في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة بعيدة عن منهج الاتزان والاعتدال الذي دعا إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، فجاءت ردة فعل عنيفة، تجاوزت حدود العدل والتوسط. والذي يتأمل الجدل الشائع الآن في الساحة الإسلامية حول هذا الموضوع يدرك إلى أي حد تتحكم هذه المساوئ المنهجية فيه: سطوة وشدة، وتحامل على المخالفين، ورد الأحاديث الصحيحة والوقائع الثابتة، وتكلف وتعسف في النقل والتحليل، وإطلاق في نفي الأدلة التي لم تصل المُناظر، ومبالغات وتهويل، ونقل للإجماع في أمور فيها خلاف معتبر..الخ

    ونحن نحاول هنا التنبيه على بعض الأخطاء العلمية والمنهجية التي وقع فيها ابن العربي في كتاب "العواصم" واتبعه في أكثرها محققوا الكتاب، ومئات الآلاف من طلبة العلم الآخرين، حتى يتبين القارئ الكريم الفرق الهائل بين منهج ابن العربي ومنهج ابن تيمية: منهج الاتزان والاعتدال والتحقيق العلمي، ومنهج التهويل والتعميم وعدم التحقيق. وحتى يدرك الجميع أن منهج أهل السنة ليس إفحام الخصم بالحق وبالباطل، وإنما هو منهج العدل والاتزان والتوسط.

    ولسنا نغض من قيمة جهد ابن العربي – معاذ الله - بل نعترف له بالفضل، وندعو الله تعالى أن يتقبل منه جهده، وأن يثيبه على قدر نيته ومحبته للصحابة رضي الله عنهم. لكن القصد الحسن أمر، والتحقيق العلمي أمر آخر، والغلو يدخل على الناس مع حسن النية كما يدخل مع سوئها، ويكفي ما فسر به ابن حجر ظاهرة وجود الخوارج، قال رحمه الله: »وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التدين ، ومن ثم صار منهم الخوارج« .


    ملاحظات على كتاب "العواصم"


    وفيما يلي بعض الملاحظات على الكتاب، نصنفها إلى ثلاثة أصناف: أحكام على النصوص، وأحكام على الوقائع، وأحكام على الرجال.

    أولا: أحكام على النصوص

    المثال الأول: أنكر ابن العربي أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة يوم الجمل وكان في جيشه، فقال: »ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب؟ ولم ينقله ثبت« ثم علق محقق الكتاب يقول: »آفة الأخبار رواتها... وهذا الخبر عن طلحة ومروان لقيط لا يعرف أبوه ولا صاحبه. وما دام لم ينقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات فإن للقاضي ابن العربي أن يقول بملء فيه: ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب؟!« . والواقع أن الأثبات نقلوا هذا الخبر وصححوه: قال ابن حجر: »وروى ابن عساكر من طرق متعددة أن مروان بن الحكم هو الذي رماه [رمى طلحة] فقتله منها. وأخرجه أبو القاسم البغوي بسند صحيح عن الجارود بن أبي سبرة« . وقال الذهبي : »عن قيس قال رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم، فوقع في ركبته، فما زال ينسح حتى مات« وقد أخرجه الحاكم وابن سعد بسند صحيح وقال الهيثمي: »رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح« . وممن ذكر مقتل طلحة على يد مروان من المحدثين الآخرين ابن عبد البر، وزاد: »ولا يختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ وكان في حزبه« ومنهم العجلي وابن حبان والكلاباذي .

    المثال الثاني: أنكر ابن العربي حديث "الحوأب" وقال: »ما كان شيء قط مما ذكرتم، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام« ثم علق الشيخ محب الدين قائلا: »إن الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة« . والواقع أن الحديث صحيح، وأنه موجود في دواوين السنة المعتبرة، ومنها مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وصحيح ابن حبان، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى. وقد صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر: "سنده على شرط الصحيح" وقال ابن كثير: "وهذا إسناد على شرط الشيخين" وقال الهيثمي في رواية أحمد له: "رجال أحمد رجال الصحيح" وقال في رواية البزار: »رواه البزار ورجاله ثقات« .

    المثال الثالث: في دفاع ابن العربي عن الوليد بن عقبة قال: »وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله سماه فاسقا في قوله: "إن جاءكم فاسق بنبإ … " فإنها في قولهم نزلت فيه … وقد اختلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك [يعني الوليد] وقيل: في علي، والوليد في قصة أخرى« . ثم علق الشيخ محب الدين على ذلك بتعليق طويل ذكر فيه أنه عكف على دراسة الأخبار الواردة في هذا الموضوع، قال: »فوجدتها موقوفة على مجاهد أو قتادة أو ابن أبي ليلى أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بينهم وزمن الحادث« وشن هجومه على الذين »ملأوا الدنيا أخبارا مريبة ليس لها قيمة علمية«. ثم ذكر أن الخبرين الموصولين بهذا الأمر عن أم سلمة رواتهما ضعفاء أومجاهيل …الخ . ويبدو أن الشيخ الخطيب قد خانه الاستقراء هنا أيضا: فقد أخرج هذا الحديث أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه عن الحارث بن أبي ضرار، وهو صحابي ووالد أم المؤمنين جويرية، كما أنه أصدق شاهد عيان، إذ هو سيد قبيلة بني المصطلق التي أُرسل إليها الوليد، وهذه غير رواية أم سلمة، وغير الأخبار الموقوفة التي ركز عليها الشيخ الخطيب. وقال السيوطي في الحديث بهذا الطريق »سنده جيد« وقال الهيثمي: »رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات «. أما قول ابن العربي: »وقيل في علي« فما أعلم أحدا سبقه إليه، أو لحقه فيه، خصوصا وأن المفسرين أطبقوا على نزول هذه الآية في الوليد، حتى نقل النسفي إجماعهم على ذلك . وأصل قول ابن العربي هذا هو أن بعض أهل العلم ذكروا أن الآية :"أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون" نزلت في الوليد بن عقبة وعلي بن أبي طالب لكنهم ميزوا المؤمن من الفاسق، ولم يكن أمرهم عليهم غمة، ولذلك قال الشاموخي بعد إيراد هذه الرواية: »فالمؤمن علي بن أبي طالب، والفاسق الوليد بن عقبة« . وأرجو أن لا يكون حماس ابن العربي لتبرئة الوليد قد دفعه إلى القول بما يوهم تفسيق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

    المثال الرابع: وفي محاولة لتدعيم رأي ابن العربي حول قصة الوليد استدل الشيخ محب الدين بحديث للبيهقي يفيد بأن الوليد كان صبيا يوم الفتح، فلا يتأتى أن يتم إرساله إلى بني المصطلق لكنه نسي أن في سنده مجهولا. قال الحافظ المزي: »والحديث منكر مضطرب لا يصح« . وقد أكد ابن حجر وابن عبد البر وغيرهما أن الوليد كان يوم الفتح رجلا . وورد من وقائع حياته ما يفيد ذلك: ويكفي من ذلك ما رواه بعض أصحاب المسانيد »أن امرأة الوليد أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت يا رسول الله إن الوليد يضربها – قال نصر بن علي في حديثه: تشكوه – قال [النبي صلى الله عليه وسلم]: قولي له قد أجارني. فلم تلبث إلا يسيرا حتى رجعت، فقالت ما زادني إلا ضربا. فأخذ هُدْبة من ثوبه فدفعها إليها فقال: قولي له إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجارني، فلم تلبث إلا يسيرا حتى رجعت فقالت: ما زادني إلا ضربا. فرفع يديه فقال: اللهم عليك بالوليد أثِم بي مرتين« .

    المثال الخامس: قال الشيخ محب الدين الخطيب: »روى الإمام الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين وأعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء أن عمر بن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية، قال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اهد به". ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين عمر..« لكن الشيخ الخطيب أغفل أمرين هنا يقتضي البحث العلمي عدم إغفالهما: أولهما أنه لم يذكر تعليق الترمذي على الحديث، فقد ورد في سنن الترمذي بعد إيراد الحديث مباشرة: »قال أبو عيسى هذا حديث غريب، قال: وعمرو بن واقد يضعف« وثانيهما أن رواية القصة عن عمر لم تصح فكان التنويه بذلك حريا بمن وعد قراءه بتخليصهم من أكاذيب المؤرخين والإخباريين. فقد أورد الذهبي هذا الحديث عن عمر ثم قال: »هذا منقطع« .

    ثانيا: أحكام على الوقائع

    المثال الأول: قال محقق الكتاب الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: »وبيعة علي هذه [يعني بعد ستة شهور من بدء خلافة الصديق] هي الثانية بعد بيعته الأولى في سقيفة بني ساعدة« . وهذا أمر مخالف لمنطوق الحديث الوارد في الصحيحين عن عائشة. وقد أشرنا إلى هذا الحديث من قبل، ونورد هنا كامل نصه: »عن عائشة أن فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال"، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يُؤْذِن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهية لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينهم، فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا، حتى فاضت عينا أبي بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي، فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارا للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، ففرح بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر المعروف« .

    والعجب أن الشيخ الخطيب نقل جزءا من هذا الحديث من صحيح البخاري حتى بلغ قوله: »فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته« ثم توقف، ولم يذكر الجملة التالية:" ولم يكن بايع تلك الأشهر".. لأنها لا تنسجم مع رؤيته المسبقة للأحداث. وهذا أمر غريب حقا، خصوصا وأن ابن العربي ومحب الدين الخطيب ظلا يحذران على طول صفحات الكتاب من الأخبار التي يرويها غير الثقات، ويلحان على الاعتماد على المحدِّثين فقط، حتى اتهم ابن العربي كل المفسرين والمؤرخين بالكذب. ومما يزيد الاستغراب أن الشيخ محب الدين اشترك في تحقيق كتاب "فتح الباري" مع المرحوم العلامة محمد فؤاد عبد الباقي، فليس هو بالذي يجهل أحاديث البخاري في الموضوع. ثم جاء تعليق الشيخ محمود مهدي الاستانبولي منسجما مع منهج ابن العربي ومحب الدين في التهويل، وضرب عرض الحائط برواية الصحيحين، فقال: »لقد اضطربت الروايات في بيان موقف علي بن أبي طالب من خلافة أبي بكر الصديق، ولعبت الدسائس دورها، ونسجت الافتراءات والأكاذيب حولها بقصد زعزعة الثقة بالإسلام بصورة عامة، وبالصحابة بصورة خاصة، وإظهارهم بمظهر الجشع والمتهالك على المناصب والأموال ولو بمخالفة الشريعة. ونحن هنا ننقل فيما يلي أصح الروايات عن موقف علي النبيل، ثم نأتي على بعض الروايات الأخرى التي تقول بامتناعه عن البيعة حتى وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونوضح زيفها وكذبها« .

    ولا بد أن القارئ سينتظر من الشيخ الاستانبولي مباحث علمية رصينة، وسيتحمس إلى متابعة القراءة له، خصوصا وأنه يقدم رأيه في إطار الدفاع عن أعراض الصحب الكرام ومكانتهم. لكن ظنه سيخيب قطعا حينما يقرأ الفقرة التالية لكلامه هذا، حيث قال: »قال العلامة محمد عزة دروزة في كتابه "الجنس العربي" ..!!« ثم أورد قصة اقتبسها الأستاذ دروزة من تاريخ الطبري، تقول إن عليا »أتى إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلا كراهية أن يبطئ في بيعته« وعقب الشيخ الإستانبولي بقوله: »وهناك روايات أخرى مختلطة ومكذوبة في رفض علي وبني هاشم بيعة أبي بكر، ضربنا عنها صفحا لتهافتها، وللروايات الكثيرة التي تثبت مسارعة علي لبيعة أبي بكر ..« . وبالنظر في أصل القصة في تاريخ الطبري نجد في سندها سيف بن عمر الإخباري المشهور الذي امتلأت كتب الجرح والتعديل تحذيرا منه ومن أكاذيبه، وهذا بعض ما قاله فيه علماء الرجال: قال الذهبي: »متروك باتفاق« وقال ابن حبان: »يروي الموضوعات عن الأثبات« وقال العقيلي: »هو ضعيف« وقال ابن العجمي: »كان سيف يضع الحديث وقد اتُّهم بالزندقة« وقال النسائي والدارقطني: »ضعيف« وقال ابن أبي حاتم: »متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي« وقال أبو نعيم الأصفهاني: »متهم في دينه، مرمي بالزندقة، ساقط الحديث، لا شيء« .

    فهل قصة من رواتها سيف بن عمر - نقلها الشيخ الاستانبولي عن تاريخ الطبري نقلا غير مباشر - تصلح معارضا لحديث البخاري ومسلم؟ أم يصلح كتاب "الجنس العربي" منافسا علميا للصحيحين؟ وأين ما وعد به الشيخ من إيراد "أصح الروايات عن موقف علي"؟ وأين هي " الروايات الكثيرة التي تثبت مسارعة علي لبيعة أبي بكر"؟! وهل روايات الصحيحين داخلة في الروايات "المختلطة والمكذوبة في رفض علي وبني هاشم بيعة أبي بكر"؟

    لقد كان في وسع الشيخ محب الدين والشيخ الاستانبولي الاستشهاد لرأيهما – على ما فيه من تكلف – بما ذكره ابن حجر، قال: »وقد صحح بن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أن عليا بايع أبا بكر في أول الأمر« يعني البيعة العامة التي كانت في المسجد في اليوم التالي لبيعة السقيفة. فهذه الرواية أقوى من روايات الطبري، وإن كان يشوش عليها أمران:

    1. تساهل ابن حبان في تصحيحاته، حتى أعرض معظم علماء الحديث والمعاصرين عن تصحيحاته. ومن هؤلاء من الأقدمين: الذهبي وابن حجر والسخاوي والصنعاني، ومن المعاصرين عبد الفتاح أبو غدة وشعيب الأرنؤوط وحسين سليم أسد والسبب أن لابن حبان منهجا في التصحيح شذ فيه عن منهج أهل الحديث الآخرين، فهو يقول بتوثيق المجهولين من الرواة، وهذا تساهل مفرط خالف فيه عامة المحدثين. وقد أثر ذلك سلبا على "صحيح ابن حبان" فورد »في تقاسيمه من الأقوال والتأويلات البعيدة والأحاديث المنكرة عجائب« حسب تعبير الحافظ الذهبي . وفي ترك ابن حجر – وهو الناقد المدقق - العهدة على ابن حبان في هذا إشارة كافية إلى ضعف هذا الخبر.

    2. أن رواية الصحيحين المذكورة أعلاه – وقد رواها ابن حبان كذلك! – بلغت من الصراحة والوضوح ما لا يمكن دفعه، إذ كيف يمكن فهم عبارات مثل: "استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته" إذا كان علي قد بايع من قبل؟ وما معنى قول عائشة: "وذكر [أبو بكر]شأن علي وتخلفه عن البيعة"، بل ما معنى قولها: "ولم يكن بايع تلك الأشهر" إذا كان علي سبق أن بايع الصديق؟

    إن كل هذا التكلف سببه الغلو والتهويل، والانطلاق من مقدمات خاطئة، مثل القول إن تخلف علي عن بيعة الصديق يقتضي "زعزعة الثقة بالإسلام بصورة عامة، وبالصحابة بصورة خاصة، وإظهارهم بمظهر الجشع والمتهالك على المناصب والأموال ولو بمخالفة الشريعة"!! حسب تعبير الشيخ الاستانبولي. وليس الأمر كما فهم الشيخ، ولا هكذا فهمه أئمة أعلام سلخوا حياتهم في الدفاع عن الصحب الكرام، من أمثال ابن تيمية والذهبي والقرطبي. وقد أوردنا من قبل تعليل ابن تيمية لتخلف علي عن بيعة الصديق بأن عليا »كان يريد الإمرة لنفسه « وتعليله لتخلف سعد بن عبادة عن بيعة الصديق بأن سعدا: »كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك ، فبقي في نفسه بقية هوى. ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه« . فهل كان غرض ابن تيمية هنا "زعزعة الثقة بالإسلام بصورة عامة، وبالصحابة بصورة خاصة" !! أم أنه وجد التزام الحق أولى بالاتباع؟

    الحقيقة أن لا شيء يدل على عظمة الصحابة رضي الله عنهم – وأبي بكر وعلي تخصيصا – مثل رواية الصحيحين، فهي تدل على استعداد علي لمراجعة الحق والدخول في جماعة المسلمين، مضحيا في سبيل ذلك بغرضه الشخصي وطموحه الدنيوي، كما تظهر سماحة الصديق في ذهابه إلى بيت علي وهو خليفة المسلمين - رغم أن عليا هو المخطئ هنا - إكراما للبيت النبوي، وتألفا للمسلمين، وتوحيدا لكلمتهم. وما أحسن ما قاله القرطبي في مدلول هذه القصة: »قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الإنصاف، عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا، لكن الديانة ترد ذلك، والله الموفق« . وتلك هي عظمة النفس البشرية التقية كما وصفها القرآن الكريم: »إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون« لا عظمة الملائكة التي يتكلف ابن العربي وتلامذته لإيجادها، فيسلبون حياة الصحابة من معناها الشرعي ومغزاها الإنساني.

    لكن للقصة مدلولا آخر يتجاوز الخليفتين الراشدين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وهو أن الخلافة الراشدة هي وليدة مجتمع راشد: فرغم مكانة علي بن أبي طالب العظيمة في قلوب المسلمين، فإنه "استنكر وجوه الناس" حينما شذ عن الجماعة "فالتمس مبايعة أبي بكر ومصالحته". وقد أشار ابن حجر إلى أثر سلطان الجماعة هنا على بيعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما فقال في شرح الحديث: »قوله: "وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة" أي كان الناس يحترمونه إكراما لفاطمة، فلما ماتت واستمر على عدم الحضور إلى أبي بكر قصر الناس عن ذلك الاحترام، لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس، ولذلك قالت عائشة في آخر الحديث لما جاء وبايع "كان الناس قريبا اليه حين راجع الأمر بالمعروف"، وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة لشغله بها وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم، ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث رأى علي أن يوافقها في الانقطاع عنه« .

    لقد راجع علي رضي الله موقفه من بيعة الصديق لسببين: أولهما ما في قلبه من تقوى وبر يجعله يتذكر ويراجع الحق، وثانيهما ما لقيه من صدود من الجماعة المسلمة. وهكذا فإن سلطان الجماعة لم يكن أقل شأنا من سلطان التقوى في الخلافة الراشدة، وهو ما ضيعته المجتمعات الإسلامية بعد ذلك فضاعت.

    وقد كان علي فيما بعد يُثني على الشيخين أبي بكر وعمر أعطر الثناء، ومما رويَ في ذلك: »عن عبد خير قال: قام علي بن أبي طالب على المنبر، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر، فعمل بعمله وسار بسيرته حتى قبضه الله، ثم استُخلف عمر، فعمل بعملهما وسار بسيرتهما حتى قبضه الله على ذلك« كما »كان أبو بكر يستعيذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن« يعني عليا. ويكفي هذا دلالة على أن روح المحبة هي التي كانت سائدة، وأن الخلاف السياسي بينهما لم يكن سوى سحابة صيف.

    وقد ودع عليٌّ عمرَ إلى مثواه الأخير بأعطر الثناء: »عن ابن عباس يقول: وضع عمر على سريره، فتكنَّفه الناس يدعون ويصلُّون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفتَ أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت إني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر« كما خرج علي من الدنيا وهو يثني على أبي بكر أعطر الثناء: »عن أبي وائل قال: قيل لعلي [وقد أشرف على الوفاة]: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلفُ، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم« .

    المثال الثاني: أورد ابن العربي حوارا بين معاوية وابن عمر حول بيعة يزيد، مقتضاه أن ابن عمر يتمنع من المبايعة ليزيد. فعلق الشيخ محب الدين قائلا: »هذا الخبر معارَض بما في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن ابن عمر أن أخته أم المؤمنين حفصة نصحت له بأن يسرع بالذهاب إلى البيعة، وقالت: الحقْ، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في تخلفك عنهم فرقة« ويشير الشيخ الخطيب إلى حديث البخاري » عن عكرمة بن خالد عن بن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها [=ضفائرها] تنطف [=تقطر ماء]، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يُجعَل لي من الأمر شيء، فقالت: الحقْ فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعْه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ« .

    لكن الشيخ الخطيب جانبه التحقيق في هذا أيضا لعدة أسباب:

    أولها: أن هذا الخبر لا علاقة له ببيعة يزيد أصلا، بل هو حول اجتماع الحكمين بدومة الجندل كما بينه الحافظ ابن حجر في شرحه له، بل صرحت بذلك رواية كل من عبد الرزاق والطبراني للحديث. قال ابن حجر: »قوله: "فلما تفرق الناس" أيْ بعد أن اختلف الحكمان وهما أبو موسى الأشعري وكان من قِبل علي، وعمرو بن العاص وكان من قِبل معاوية. ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر في هذا الحديث: "فلما تفرق الحكمان"، وهو يفسر المراد ويعيِّن أن القصة كانت بصفِّين« ثم رد ابن حجر على الذين فسروها بغير ذلك، فقال: »وجوز بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي ورواية عبد الرزاق ترده« ثم زاد الأمر توضيحا اعتمادا على رواية الطبراني فقال: »ثم وجدت في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه علي ومعاوية بدومة الجندل، قالت [لي] حفصة: إنه لا يجمُل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد، وأنت صهر رسول الله، وابن عمر بن الخطاب، قال: فأقبل معاوية يومئذ على بختيٍّ عظيم، فقال: من يطمع في هذا الأمر أو يرجوه أو يمد إليه عنقه.. الحديث أخرجه الطبراني« . وقد أوردنا نص رواية الطبراني من قبل في الفقرة الخاصة بالملاحظات على منهج ابن تيمية، وكذلك نص رواية ابن سعد في الطبقات وهي أصرح من سابقتيْها إذ ورد فيها ».. لما كان موعد علي ومعاوية بدومة جندل ما كان أشفق [=أخْوفَ] معاوية أن يخرج هو وعلي منها [= من الخلافة].. « .

    فذكْرُ "افتراق الحكمين" في رواية عبد الرزاق، و"اجتماع علي ومعاوية بدومة الجندل" في رواية الطبراني، و"موعد علي ومعاوية بدومة جندل" في رواية ابن سعد.. لا يترك مجالا للشك في أن القصة تتعلق بحادثة التحكيم، وأن لا علاقة لها ببيعة يزيد.

    ولا يتحمل الشيخ الخطيب وحده مسؤولية هذا الخطأ على أية حال، فقد سبقه إليه الهيثمي وابن الجوزي .

    ثانيها: أن أم المؤمنين حفصة لم تنصح أخاها بالإسراع إلى بيعة أحد – يزيد أو غيره - بل باللحاق بجماعة المسلمين وهي تبحث عن صلح، ولفظ الحديث برواية الطبراني ناطق بذلك، فقد قالت حفصة لأخيها: "إنه لا يجمُل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد، وأنت صهر رسول الله، وابن عمر بن الخطاب.." ومن الواضح من هذا النص أن عبد الله بن عمر لم يأت إلى دومة الجندل لبيعة أحد، بل لحضور الصلح، ولوضع ثقله المعنوي وراء ذلك الصلح. بل كان ابن عمر نفسه من المرَشَّحين لتولي الخلافة يومئذ، لو نجحت خطة الصلح. قال ابن العماد الحبنلي: »وكان قد عُيِّن للخلافة يوم التحكيم مع وجود علي والكبار رضي الله عنهم« وقال الحافظ الذهبي: » قلت: كادت تتم البيعة له يومئذ مع وجود مثل الإمام علي وسعد ابن أبي وقاص، ولو بويع لما اختلف عليه اثنان« وقال فيه أيضا: »أحد الأعلام في العلم والعمل، شهد الخندق، وهو من أهل بيعة الرضوان، وممن كان يصلح للخلافة، فعين لذلك يوم الحكمين مع وجود مثل الإمام علي وفاتح العراق سعد ونحوهما رضي الله عنهما« .

    وكانت بيعة عبد الله بن عمر لو تمت ستكون انقلابا على معايير الجاهلية السياسية التي بدأت تطل برأسها يومذاك، ورجوعا بالأمة إلى الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. لكنه لم يبايَع بكل أسف، لأن معاوية لم يقبل، وأعلن أنه أوْلى بالأمر من عبد الله بن عمر ومن أبيه!! وقد أوردنا من قبل رد الذهبي عليه بأن عبد الله بن عمر كان أوْلى بالأمر من يزيد "ومن أبيه وجده".

    ومهما يكن فإن سياق الحديث ناطق بأن ابن عمر لم يكن يومذاك مستعدا لمبايعة معاوية – فكيف بيزيد - ولا كان يرى أيا منهما أهلا للخلافة. ولذلك همَّ أن يقول لمعاوية: "أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام".

    صحيح أن عبد الله بن عمر بايع معاوية فيما بعد، ثم بايع يزيد، ثم عبد الملك بن مروان من بعد ذلك، طبقا لمنهجه في السير مع الجماعة بعد أن أفقدها طموح الطامحين خيارها، وقد اتضح هذا المنهج من رسالة بيعته لعبد الملك التي قال فيها:»بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلتُ فيما دخل فيه المسلمون« . لكن من الصحيح أيضا أن ابن عمر ندم في أواخر أيامه على حياده، وتحسر على عدم قتال الفئة الباغية تحت راية علي بن أبي طالب: »عن ابن عمر قال: لم أجدني آسَى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي« وفي رواية: »عن ابن عمر أنه قال حين حضرته الوفاة: ما أجد فى نفسى من أمر الدنيا شيئا إلا أنى لم أقاتل الفئة الباغية مع على بن أبى طالب« وفي أخرى: »قال ابن عمر حين احتضر ما أجد في نفسي شيئا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب« وربما ورد بصيغة مختلفة: »عن ميمون بن مهران قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: كففت يدي فلم أقدم والمقاتل على الحق أفضل« قال أبو عبد الله الحاكم: »هذا باب كبير رواه عن عبد الله بن عمر جماعة من كبار التابعين« وقال أبو عمر بن عبد البر: »»وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من وجوه أنه قال: ما آسي على شيء كما آسي أني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه« وزاد: »وكان رضى الله عنه لورعه قد أشكلت عليه حروب على رضى الله عنه وقعد عنه وندم على ذلك حين حضرته الوفاة« .

    لقد عاش عبد الله بن عمر عمرا مديدا حتى تكشفت له آثار الردة السياسية التي حاقت بالمجتمع المسلم، ورأى نتائج الانحراف سافرة: مذبحة ضد البيت النبوي في كربلاء، واستباحة المدينة النبوية في وقعة الحرة، وغزو مكة وإحراق الكعبة، والتخلي عن مبادئ الشورى والعدل في الحكم والقسْم، وسيادة الظلم السياسي والإيثار والاستئثار بالسلطة والثروة.. فلذلك ندم على الحياد، وهذا الندم هو الذي يعبر عن حقيقة موقفه الأخير وخلاصة تجربته في الحياة، وصدق القائل: إن الفتنة إذا أقبلتْ أشكلتْ، وإذا أدبرتْ أسفرتْ.

    وليس ما توصل إليه عبد الله بن عمر ببعيد مما توصل إليه ابن تيمية، وأوردناه في من قبل: "إن الظالم يظلم فيُبتَلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلِم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداء، فإنه كان يزول سبب الفتنة".
    [align=center][/align]

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    ثالثا: أحكام على الرجال


    المثال الأول: قال ابن العربي في حكمه على شخص مروان بن الحكم: »مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد روى عنه، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن كان جازهم باسم الصحبة في أحد القولين. وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه، واعتبار خلافه، والتلفت إلى فتواه، والانقياد إلى روايته. وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم « .

    ولنا وقفة مع هذا التقييم لشخصية مروان:

    أما أنه رجل عدل فهو أمر يرجع إلى الخلاف الاصطلاحي في مفهوم العدالة، فإن كانت عدالة الرواية فنعمْ، فقد كان مروان بن الحكم – على أفاعيله - لا يتهم بالكذب في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له بذلك عروة بن الزبير فقال: »كان مروان لا يتهم في الحديث« وهو غير متهم في الرواية عند جمهور المحدثين، »وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه« كما روى عنه جملة من فقهاء التابعين كما قال ابن العربي بحق، وأخرج له البخاري في صحيحه، وإن لم يسلم البخاري من الانتقاد على ذلك. قال ابن حجر: » وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة [المبشرين بالجنة] يوم الجمل، وهما جميعا مع عائشة فقتله، ثم وثب على الخلافة بالسيف« وقال: » تُكُلِّم فيه لأجل الولاية« .

    والكلام في رواية مروان لا يخلو من وجاهة، خصوصا بعد أن كذَّبته عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري: »كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايَع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: "والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني.."، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري« وفي رواية النسائي: »عن محمد بن زياد قال ثم لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن والد مروان ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله« . قال ابن حجر: »وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك« . ومنها مما هو جيد الإسناد مارواه البزار ».. قال مروان أنت الذي نزلت فيك "والذي قال لوالديه أف لكما"، فقال عبد الرحمن: كذبت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك« .

    وقد اعتذر ابن حجر عن الصحابي سهل بن سعد، وبعض خيار التابعين في روايتهم عن مروان بقوله: »فإنما حمل عنه سهل بن سعد، وعروة [بن الزبير]، وعلي بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه - لما كان أميرا عندهم بالمدينة، قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم« . فهم رووا عنه – حسب تعليل ابن حجر – قبل أن يتلطخ بما تلطخ به، وليس في ذلك دليل على عدالته عندهم بعد ذلك. وليس مما يعاب على أهل الخير أن يرووا عن مروان قبل أن يفعل أفاعيله، ومثل هذا حدث مع ابنه عبد الملك بن مروان الذي كان معدودا من أهل الفقه قبل أن يتلوث بدماء المسلمين في سعيه إلى توطيد ملكه غير الشرعي بالقوة. قال ابن القيم »وكان عبد الملك بن مروان يعد في المفتين قبل أن يلي ما ولي« .

    أما إن المراد بعدالة مروان عند ابن العربي عدالة السلوك، كما يفهم من قوله "عدل من كبار الأمة" فليس مروان من أهلها بكل أسف، والله يغفر لنا وله. فحتى العلماء الذين دافعوا عن الرواية عنه شهدوا عليه بما لا ينسجم مع تلك العدالة. قال الذهبي: » هو تابعي له تلك الأفاعيل« وقال ابن حجر عن مروان وزياد بن أبيه والمختار بن أبي عبيد: »والعجب أن هؤلاء الثلاثة أنسابهم متقاربة، وكذا نسبتهم إلى الجور في الحكم« وحسبك بمن هذان صاحباه !!

    فهل مَن هو مِن طبقة زياد بن أبيه والمختار بن أبي عبيد الثقفي يصلح وصفه بأنه "من كبار الأمة"؟ وهل الذهبي وابن حجر والهيثمي – وكلهم صحح حديث مقتل طلحة على يد مروان وبينوا أفاعيله – داخلون ضمن "السفهاء من المؤرخين والأدباء" الذين عناهم ابن العربي، أم هم من »الذين يبردون الغِل الذي في قلوبهم بالطعن في مروان ومن هو خير من مروان« حسب تعبير الشيخ الخطيب؟ كل من لديه علم وإنصاف يدرك أنهم لا من هؤلاء ولا من أولئك، بل هم أعلام من أهل الورع والتحقيق، آثروا الحق على الخلق، ولم يروا مسوغا للدفاع عن مروان بالباطل.

    أما الإيحاء بأن مروان من الصحابة في قول ابن العربي: "..وإن كان جازهم باسم الصحبة" فهو مما لا يستقيم نقلا: »قال الترمذي سألت محمدا - يعني البخاري - قلت له: مروان بن الحكم رأى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا" و»قال أبو زرعة لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم« وقال الذهبي: »لم يصح له سماع« .

    ولم أجد من شرف مروان برؤية النبي صلى الله عليه وسلم غير الإخباري الكذاب الواقدي، قال الباجي في ترجمة مروان: »قال الواقدي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئا!!« فمن ذا الذي يترك قول البخاري وأبي زرعة والذهبي - وهم قمة التحقيق والدراية بعلم الرجال - إلى قول الواقدي الذي أجمع الجميع على ترك روايته؟!

    إن الذي يدرس الخلافات السياسية في صدر الإسلام، بمنهج العدل والإنصاف، لا بمنهج "التشيع السني" الذي نهجه ابن العربي وتلامذته المعاصرون، يدرك أن مروان بن الحكم كانت له اليد الطولى في بذر الفتنة وفي هدم أركان الخلافة الراشدة، وقد اتبعه في ذلك ابنه عبد الملك وآخرون من ذريته، ولولا أن الله أخرج من بني مروان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لصح تعميم هذا الحكم عليهم. ولذلك فهِم عدد من الصحابة والتابعين قول النبي صلى الله عليه وسلم »هلكة أمتي على أيدي غلمة من قريش« على أن المعني به بنو مروان. قال الإمام البخاري: »حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي على أيدي غلمة من قريش، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم« ورواية أحمد أوضح وأصرح: »عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: أخبرني جدي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هلاك أمتي على يد غلمة من قريش. قال مروان في الحلقة قبل أن يلي شيئا: فلعنة الله عليهم غلمة. قال [أبو هريرة]: أما والله لو أشاء أقول بنو فلان وبنو فلان لفعلت، قال فكنت أخرج أنا مع أبي وجدي إلى بني مروان بعدما ملكوا فإذا هم منهم، ومن يُبايَع له وهو في خرقة [صبي في المهد] قال لنا: عسى أصحابكم هؤلاء أن يكونوا الذين سمعت أبا هريرة يذكر، إن هذه الملوك يشبه بعضها بعضا« قال ابن حجر في شرح حديث البخاري: » والمراد أنهم يهلكون الناس بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن. وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم« .

    أما قول مروان: "لعنة الله عليهم غلمة" فالسبب هو أن أبا هريرة حدث بهذا الحديث في عهد معاوية كما يقول ابن حجر، وقبل أن يتقلد مروان أي منصب سياسي كما توضحه رواية أحمد. وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: » تنبيه: يُتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم من ولده. ولعل الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة عليهم لعلهم يتعظون. وقد وردت أحاديث في لعن الحكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك« . وأسوأ ما في دور مروان في تلك الفتن السياسية أمور أربعة:

    أولها: تأثيره على ذي النورين عثمان رضي الله عنه، ودوره الجوهري في إيثار بني أمية بالسلطة والثروة في أيامه، خصوصا مع كبر عثمان في السن، وضعفه الفطري الذي تحدث عنه ابن تيمية و"لين عريكته" الذي تحدث عنه ابن حجر. وقد أشار ابن عبد البر إلى هذا التأثير بقوله إن مروان »استكتبه عثمان وضمه إليه فاستولى عليه« وكلام ابن عبد البر هنا منسجم مع ما نبه عليه ابن تيمية من أن ذا النورين رضي الله عنه أسنَّ في الخلافة، ولم يعد ممسكا بأزمَّة الأمور. قال ابن تيمية: »وعثمان رضي الله عنه كان قد كِبر، وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها« .

    وثانيها: دوره في الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان وفي حرب الجمل. قال الذهبي: »كان [مروان] ابن عم عثمان، وإليه الخاتم، فخانه. وأجلبوا بسببه على عثمان، ثم نجا هو، وسار مع طلحة والزبير للطلب بدم عثمان، فقتَل طلحة يوم الجمل ونجا – لا نُجِّي – ثم وليَ المدينة غير مرة لمعاوية« . والذي يدرس تلك الحقبة التاريخية بإمعان، بعيون الوقائع لا الافتراضات التبريرية، سيجد أن دور مروان في الفتنة كان أنكى من دور أي شخص تاريخي آخر. وأقول: "شخص تاريخي آخر" لأني لا أُدخل في هذا التعميم عبد الله بن سبأ المختلف في وجوده التاريخي أصلا، إذ أن أقوى ما لدينا عن دور ابن سبأ هو رواية سيف بن عمر التميمي وقد قال ابن حجر: »لا يصح إسنادها« .

    وثالثها: قتله طلحة بن عبيد الله غدرا يوم الجمل، وطلحة أحد السابقين الأولين، والعشرة المبشرين بالجنة وهو من كبار أصحاب رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا كيف غدر به مروان وهو في جيشه، وقد خرج معه بدعوى الطلب بدم عثمان رضي الله عنه. وقد علق الذهبي على قصة قتل مروان لطلحة بقوله: »قلت: قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علي« وكفى ذلك بشاعة.

    ورابعها: استيلاؤه على السلطة بالدم والقوة بعد أن بايعت كل الأقطار الإسلامية عبد الله بن الزبير خليفة شرعيا للمسلمين بعد البيعة لابن الزبير، و»تضعضع أمر بني أمية حتى كاد يندثر« . قال ابن حجر: »فبايع معظم الآفاق لعبد الله بن الزبير، وانتظم له ملك الحجاز واليمن ومصر والعراق والمشرق كله وجميع بلاد الشام حتى دمشق، ولم يتخلف عن بيعته إلا جميع بني أمية ومن يهوى هواهم، وكانوا بفلسطين« .

    ولم يكن مقتل ابن الزبير مستبشعا فقط لأنه »كان صواما قواما، مستغرق الساعات في الطاعات، بطلا شجاعا« بل لأن مروان بخروجه على ابن الزبير هدم آخر أمل للمسلمين للعودة إلى نهج الخلافة الراشدة.

    قال ابن العماد الحنبلي: »وذكر ابن عبد البر والذهبي وغيرهما مخازي مروان، بأنه أول من شق عصا المسلمين بلاشبهة، وقتَل النعمان بن بشير أول مولود من الأنصار في الإسلام، وخرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة، وقتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل« .

    ولسنا نقول إن مروان وحده السبب في هدم أركان الخلافة الراشدة، وإنما نقول ما قاله ابن تيمية: »إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده، بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان« لكنها أمور ليست بالسهلة، وإنما يدرك خطورتها من درس تلك المرحلة التاريخية بتجرد، لا بمنهج التشيع السني أو التشيع الشيعي.

    المثال الثاني: يزيد بن معاوية. قال ابن العربي في دفاعه عن يزيد بن معاوية : »وهذا أحمد بن حنبل – على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه - قد أدخل عن يزيد بن معاوية في "كتاب الزهد" أنه كان يقول في خطبته :"إذا مرض أحدكم مرضا فأشفي ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه، ولينظر إلى أسوإ عمل عنده فليدعه" . وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويرعوى من وعظهم. ونعم ! ما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين« .

    وفي هذا الكلام أخطاء ثلاثة:

    الخطأ الأول: أن ابن العربي قد اختلط عليه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان مع يزيد بن معاوية النخَعي، وهو عابد زاهد روى العديد من الأئمة كلامه في الوعظ والزهد. قال ابن حجر في ترجمته: »يزيد بن معاوية النخَعي الكوفي العابد، حكى ابن أبي خيثمة أنه معدود من العباد« وقال ابن حبان: »يزيد بن معاوية النخعي، يروى عن ابن مسعود، عداده في أهل الكوفة، روى عنه أهلها. قُتل غازيا بفارس« كما ذكر البخاري وابن أبي حاتم قصة استشهاده في بلاد فارس .

    الخطأ الثاني: أنه ينسب إلى الإمام أحمد رأيا في يزيد أبعد ما يكون عن الدقة. والذي لا ريب فيه أن الإمام أحمد لا يعتبر يزيد "في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويرعوى من وعظهم" . وقد روى عن الإمام أحمد من هم أدرى بفقهه رأيا في يزيد مناقضا لهذا تماما: »قال صالح بن أحمد [بن حنبل]: قلت لأبي: إن قوما يقولون إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدا؟« وقد رفض الإمام أحمد رواية الحديث عن يزيد لظلمه وجوره: قال الحافظ ابن الجوزي: »أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسنادنا إليه متصل. غير أن الإمام أحمد سئل: أيُروى عن يزيد الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة. فلذلك امتنعنا أن نسند إليه« . وزاد ابن تيمية: »قال [الإمام أحمد]: لا ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟« . وقال كل من الذهبي وابن حجر عن يزيد: »مقدوح في عدالته، وليس بأهل أن يُروَى عنه، وقال أحمد بن حنبل: "لا ينبغي أن يروى عنه"« »وقال مهنا: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية، فقال: هو الذى فعل بالمدينة ما فعل، قلت: وما فعل؟ قال: نهبها، قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه الحديث، ولا ينبغى لأحد أن يكتب عنه حديثا« .

    الخطأ الثالث: هو قوله "ما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين" فهو يدل على عدم تدقيق في مجال التاريخ وعلم الرجال. إذ كيف يُدخل الإمام أحمد – وهو من هو في الاطلاع على حياة الصحابة وعلم الرجال – رجلا ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من عقد من الزمان في جملة الصحابة؟!؟ قال ابن حجر عن يزيد: »ولد في خلافة عثمان، وقد أبطل من زعم أنه ولد في العهد النبوي« وقال الربعي: »سنة ست وعشرين فيها ولد يزيد بن معاوية« .

    ورغم أن أهل السنة في عامتهم يكرهون لعن المعين، كما رأينا في القاعدة العاشرة، فقد رأى بعضهم - بمن فيهم الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه - أن لا بأس بلعن يزيد بن معاوية. قال ابن كثير: »وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال وأبو بكر بن عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وابنه القاضي أبو الحسن. وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنته« .

    وممن قالوا بلعن يزيد التفتازاني: »قال التفتازاني: فنحن لا نتوقف في شأنه، بل في كفره وإيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه« . وممن نحوا هذا النحو أيضا الفقيه الشافعي "الكيا الهرَّاس" فقد »استفتي الكيا الهراسي فيه [ في يزيد] فذكر فصلا واسعا من مخازيه حتى نفدت الورقة، ثم قال: ولو مُددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل. وأشار الغزالي إلى التوقف في شأنه، والتنزه عن لعنه، مع تقبيح فعله« وفي ذلك درس لأتباع مدرسة "التشيع السني" المعاصرين الذين لا يتوقفون عند التنزه عن لعن يزيد، بل يبررون فعله، كما سنبينه فيما بعد.

    ومستند المجيزين لعنَ يزيد هو أن يزيد داخل في مدلول أحاديث كثيرة وردت بلعن من آذى أهل المدينة المنورة. ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا« »اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفْه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل« »من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيَّ« »اللهم اكفهم من دهمهم ببأس – يعني أهل المدينة – ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء« .

    ولا شك أن يزيد جارَ على أهل المدينة واستباحهم بظلم، في وقعة الحَرَّة المشهورة، قال ابن حجر: »فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وأن يبايعهم على أنهم خول وعبيد ليزيد، فإذا فرغ منها نهض إلى مكة لحرب بن الزبير، ففعل بها مسلم [بن عقبة] الأفاعيل القبيحة، وقتل بها خلقا من الصحابة وأبنائهم وخيار التابعين، وأفحش القضية إلى الغاية، ثم توجه إلى مكة، فأخذه الله تعالى قبل وصوله، واستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، فحاصروا ابن الزبير، ونصبوا على الكعبة المنجنيق، فأدى ذلك إلى وهي أركانها ووهي بنائها، ثم احترقت، وفي أثناء أفعالهم القبيحة فجئهم الخبر بهلاك يزيد بن معاوية، فرجعوا وكفى الله المؤمنين القتال« وقال ابن تيمية: »فصار عسكره في المدينة ثلاثا، يقتلون وينهبون، ويفتضون الفروج المحرمة. ثم أرسل جيشا إلى مكة المشرفة، فحاصروا مكة، وتوفي يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فُعل بأمره« .

    على أن الذين كرهوا لعن يزيد لم يكن ذلك منهم تعظيما له ولا إكراما، بل خوفا من انفتاح الباب إلى لعنة معاوية أو غيره ممن صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم أو رأوه. قال ابن تيمية مبينا أصل المسألة وكيف دخل فيها الغلو: »فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية، وربما كان غرضهم بذلك التطرق إلى لعنة غيره، فكره أكثر أهل السنة لعنة أحد بعينه، فسمع بذلك قوم ممن كان يتسنن فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى« ومثله قول ابن كثير إن أهل السنة كرهوا لعن يزيد »لئلا يُجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة« .

    أما شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يعتبر لعن يزيد "مما يسوغ فيه الاجتهاد" لكنه يفضل عدم اللعن، تنزيها لألسنة المؤمنين عن السوء، وسدا لذلك الباب من أبواب الشر. وما أعظم الفرق بين الكف عن لعن يزيد تنزيها للألسنة عن السوء و سدا للذرائع، وبين الكف عن ذلك لأن يزيد داخل في "جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقتدَى بقولهم ويُرعوَى من وعظهم" حسب تعبير ابن العربي!!

    وفي غمرة دفاعه المستميت عن يزيد قال ابن العربي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما: »وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم :"إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان". فما خرج الناس [لقتال الحسين] إلا بهذا وأمثاله« . وهكذا بجرة قلم يتحول قتلة الحسين ومرتكبو مذبحة قتلوا فيها ستة عشر من أهل البيت النبوي جلهم فتيان صغار، يتحول هؤلاء إلى مجاهدين، ما خرجوا للقتال إلا تنفيذا لوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم في قتال البغاة الخارجين المفرقين لكلمة الأمة!؟! وهو تبرير لا نعلم من علماء أهل السنة من سبق ابن العربي إليه أو لحقه فيه. ولذلك استنكره ابن خلدون رغم نزعته التبريرية في تحليل التاريخ الإسلامي، فقال: »وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي في هذا فقال في كتابه الذي سماه "العواصم والقواصم" ما معناه : "إن الحسين قتل بشرع جده". وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل. ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء ؟« . ويقع ابن العربي هنا في تناقض عجيب، فهو قد ذكر قبل ذلك بصفحات أن خروج الحسين كان »غضبا للدين وقياما بالحق« . ثم ها هو يجعله هنا خارجا مفرقا لكلمة المسلمين ، وكأن كلمة المسلمين اجتمعت على يزيد في يوم من الأيام !!

    وفي الكتاب أخطاء ومجازفات أخرى لا نستطيع الاستطراد أكثر في مناقشتها، حتى لا تخرج هذه الدراسة عن غايتها.. والله الموفق لكل خير.


    ابن العربي متكلما وقاضيا


    وتبقى كلمة لإنصاف ابن العربي لا بد منها. لقد طغى على كتاب ابن العربي نهج علماء الكلام والجدل، وهو نهج يستعذب المماراة ويسعي إلى إفحام الخصم بالحق والباطل. لكن هناك جانبا آخر من شخصية ابن العربي خفف من غلواء هذا النهج.

    لقد ذكرنا من قبل أن ابن العربي كان قاضيا، بل اشتهر باسم القاضي. ويبدو أن مهنة القضاء أفادت ابن العربي في كتاباته حول الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، فحينما يتحدث ابن العربي بمنطق التقاضي تجد عنده من الدقة والتحقيق ما لا تجد في أحاديثه الأخرى. من أمثلة ذلك :

    أولا: ردُّه على الذين برروا موقف طلحة والزبير بأنهما إنما بايعا عليا ابتداء على أن يقتاد من قتلة عثمان، ولما لم يفعل ذلك كان من حقهما التملص من بيعته. فقد رفض ابن العربي هذا التبرير وقال: »فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان. قلنا: هذا لا يصح في شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم. فأما على الهجْم عليه بما كان من قول مطلق، أو فعل غير محقَّق، أو سماع كلام، فليس ذلك في دين الإسلام« فابن العربي يتحدث هنا بلغة القاضي الممحِّص، لا المجادل المنفعل، وشتان بين الإثنين.

    ثانيا: تنبيهه إلى أن أهل الشام لم يتلزموا قواعد الشرع في التقاضي في قوله: »إن الطالب للدم لا يصح أن يحكُم، وتهمة [طالب الدم] القاضيَ لا توجب عليه الخروج عليه، فإن ظهر له قضاء [بحقه] وإلا سكت، فكم من حق يحكم الله فيه. وإن لم يكن له دِين فحينئذ يخرج عليه، فيكون له عذر في الدنيا« .

    ثالثا: بيانه أن أهل الشام لو التزموا الإجراءات الشرعية في التقاضي، وأعانوا خليفة المسلمين على لم الشمل وتهدئة النفوس ورص الصفوف.. فحينئذ سيكون »الوقت أمكنَ للطلب، وأرفقَ في الحال، وأيسرَ وصولا إلى المطلوب« إذا كان المطلوب حقا هو مجرد الاقتصاص الشرعي للخليفة الشهيد. فالتقاضي النزيه ومنازعة الأمر أهلَه نهجان مختلفان تمام الاختلاف.

    رابعا: تنبيهه على قضية نبه عليها ابن تيمية فيما بعد، وغابت عن بال المتكلفين في كل عصر، وهي أن معاوية تغافل عن موضوع قتَلة عثمان بمجرد استتباب الأمر له، وكأن لا وجود لهم على وجه الأرض، قال ابن العربي: »فالذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحدا إلا بحكم، إلا من قُتل في حرب تأويل، أو دُسَّ عليه فيما قيل، حتى انتهى الأمر إلى زمان الحجاج، وهم يُقتلون بالتهمة لا بالحقيقة. فتبين لكم أنهم [أي أهل الشام] ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أضحوا له يطلبون« .

    وقد صدق القاضي ابن العربي ووضع يده على الداء هنا. فمهما نتكلفْ في التأول لأهل الشام، ونفترضْ حسن المقاصد والنوايا، فإن عدم التزامهم بقواعد الشرع في التقاضي أمر لا يمكن التأول له، وتغافلهم عن قتلة عثمان بعد أن استتتب لهم الملك أمر مريب حقا. فإذا كان قتلهم ممكنا وتركوه حفاظا على استقرار ملكهم، فما كان أحراهم بعدم عتاب عليٍّ في تركهم، وإن كان قتلهم متعذرا، فعذر عليٍّ في ذلك أبين وأوضح.

    ومهما يكن فإن هذه الفقرات من كتاب ابن العربي تدل أن أنه حين يفكر بمنطق القضاء الذي تمرس به ردحا من حياته، فإنه يتوصل إلى نتائج أقرب إلى التحقيق والعدل. فابن العربي القاضي غيرُ ابن العربي المتكلم. كما تدل هذه الفقرات على أن ابن العربي كان أقرب إلى التحقيق من محققي كِتابه ومن نحا نحوهم من أبناء مدرسة "التشيع السني" المعاصرة.

    خاتمة: عود على بدء


    وبعد: فقد كنا أشرنا في مدخل هذه الدراسة إلى العلاقة بين التأصيل الشرعي والوعي التاريخي، ونزيد هنا أن رؤيتنا للتاريخ لها تأثير كبير على تصورنا للمبدإ والتزامنا به، والعكس صحيح أيضا: فإن وضوح المبدإ في الأذهان يساعد على بناء رؤية تقويمية موضوعية للوقائع التاريخية.

    لقد اتضح من الصفحات السالفة الفرق بين منهج ابن تيمية والمحققين من أهل الحديث، وبين منهج ابن العربي وتلامذته المعاصرين، في فهم تاريخ الصدر الأول وتفسير الخلافات السياسية بين الصحابة. فلننظر كيف أثر هذا الاختلاف في رؤية كل ابن تيمية وابن العربي للمبدإ السياسي الإسلامي. ونكتفي بمثال واحد هو شرعية السلطة، لأنها لب الإشكال وموطن الداء في الحضارة الإسلامية. أما ابن العربي فلا يقيم وزنا لرأي الأمة في اختيار قادتها، بل ذهب إلى أن »واحدا أو اثنين تنعقد بهما الخلافة وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا!« وهو يميل إلى تفسير مبايعة عمر لأبي بكر ليلة السقيفة واستخلاف أبي لعمر يوم وفاته بما يزكي هذا الفهم الاستبدادي. أما ابن تيمية فيبرئ عهد الراشدين من ذلك، بل يبرئ أهل السنة من القول بذلك، فيقول: »ليس هذا قول أئمة أهل السنة، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أهل السنة« كما يوضح ابن تيمية أن مبايعة عمر لأبي بكر واستخلاف أبي بكر لعمر لم يكن في الحالتين إلا ترشيحا، فقال: »ولو قُدِّر أنهم [أي الصحابة] لم ينفذوا عهد أبي بكر في عمر لم يصر إماما... ولو أن أبا بكر بايعه عمر وطائفة وامتنع سائر الصحابة من بيعته لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الناس... وأما عهده إلى عمر فتم بمبايعة المسلمين له بعد موت أبي بكر فصار إماما« .

    ولأن هذه الرسالة ليست تأصيلا مبدئيا، بل مجرد قواعد منهجية في التحليل التاريخي، فسنكتفي بهذا المثال، وهو يكفي دلالة على أن منهجنا في فهم تاريخ الصدر الأول يؤثر تأثيرا عميقا في فهمنا للمبادئ الإسلامية..

    وسنترك تفصيل ذلك وتطبيق هذه القواعد لكتابيْ "السنة السياسية" و"الشرعية السياسية" اللذين نسأل الله العون على إتمامهما، وأن يجعلهما ويجعل كل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتقبل هذا العمل ويجعله نافعا لعباده الصالحين، الطامحين إلى استعادة الحياة الإسلامية، وتجريد مبادئ الشرع من غواشي التاريخ.

    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..


    من مصادر الكتاب..


    1. محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: الجامع الصحيح المختصر (صحيح البخاري)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة، 1987
    2. مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت
    3. محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري: صحيح ابن خزيمة، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1970
    4. محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1993
    5. محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت 1990
    6. أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي المقدسي: الأحاديث المختارة، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410 هـ
    7. محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي: سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت
    8. عبد الله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي: سنن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت 1407 هـ
    9. أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي: سنن البيهقي الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1994
    10. أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي: سنن البيهقي الصغرى، تحقيق: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1989
    11. علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي: سنن الدارقطني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت 1966
    12. سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي: سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر
    13. أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي: السنن الكبرى، تحقيق: د.عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت 1991
    14. أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي: المجتبى من السنن، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة، كتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1986
    15. محمد بن يزيد بن ماجه أبو عبد الله القزويني: سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت
    16. أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني: مسند أبي عوانة، تحقيق: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، 1998
    17. مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي: موطأ الإمام مالك، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر
    18. أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، 1409 هـ
    19. أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني: المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، لمكتب الإسلامي، بيروت، 1403 هـ
    20. أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: مسند البزار تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن ومكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة وبيروت، 1409 هـ
    21. سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني: المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1983
    22. سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني: المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد و‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسين، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ
    23. سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني: الروض الداني (المعجم الصغير)، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، بيروت، 1985
    24. أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: مسند الشاشي، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1410هـ
    25. أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني: مسند الإمام أحمد، مؤسسة قرطبة، مصر
    26. أحمد بن علي بن المثنى الموصلي أبو يعلى: مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، 1984
    27. أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: شعب الإيمان، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت 1410 هـ
    28. أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض 1402 هـ
    29. أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال: السنة، تحقيق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، 1410 هـ
    30. أبو عبد الله نعيم بن حماد المروزي: كتاب الفتن، تحقيق: سمير أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة، 1412 هـ
    31. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت 1379 هـ
    32. أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387 هـ
    33. محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله البخاري الجعفي: التاريخ الكبير، تحقيق: السيد هاشم الندوي، دار الفكر
    34. محمد بن عبد الله بن أحمد بن سليمان بن زبر الربعي: تاريخ مولد العلماء ووفياتهم، تحقيق: د. عبد الله أحمد سليمان الحمد، دار العاصمة، الرياض 1410 هـ
    35. عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس أبو محمد الرازي التميمي: الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1952م
    36. محمد بن إبراهيم بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي: التاريخ الصغير، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، 1977
    37. محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي أبو عبد الله: سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1413 هـ
    38. عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرج: الضعفاء والمتروكون، تحقيق: عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت 1406 هـ
    39. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني: تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت، 1984م
    40. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني: تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، تحقيق: د. إكرام الله إمداد الحق، دار الكتاب العربي، بيروت
    41. يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت 1980
    42. سليمان بن خلف بن سعد أبو الوليد الباجي: التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح، تحقيق: د. أبو لبابة حسين، دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، 1986
    43. محمد بن سعد بن منيع أبو عبد الله البصري الزهري: الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت
    44. أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1412 هـ
    45. برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض 1990م
    46. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت 1992م
    47. أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني: العلل ومعرفة الرجال، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، المكتب الإسلامي، بيروت 1988م
    48. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني: تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة 1964م
    49. أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني: فضائل الصحابة، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت 1983م
    50. علي بن أبي بكر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ‏دار الكتاب العربي، بيروت، 1407 هـ
    51. محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت
    52. تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري: خزانة الأدب وغاية الأرب، تحقيق: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال، بيروت 1987م
    53. شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي: ميزان الإعتدال في نقد الرجال، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبدالموجود، دار الكتب العلمية، بيروت 1995م
    54. عمرو بن أبي عاصم الضحاك الشيباني: السنة، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ
    55. محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي: الأدب المفرد، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية، بيروت 1989م
    56. أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: لسان الميزان، تحقيق: دائرة المعرف النظامية بالهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1986م
    57. أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت
    58. شهاب الدين أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط ومحمود الأرنؤوط، دار ابن كثير، بيروت، 1988م
    59. مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري أبو الحسين: الكنى والأسماء، تحقيق: عبد الرحيم محمد أحمد القشقري، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1404هـ
    60. أحمد بن علي بن الحسن أبو المحاسن الحسيني: الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال، تحقيق: د. عبدالمعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، 1989م
    61. عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي أبو الفضل: طبقات الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ
    62. محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي أبو بكر بن العربي: العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلة الله عليه وسلم، تحقيق: الشيخ محب الدين الخطيب، دار الجيل، بيروت، 1994م
    63. محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ
    64. محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب: عون المعبود شرح سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ
    65. أحمد بن عبد الله بن صالح أبو الحسن العجلي الكوفي: معرفة الثقات، تحقيق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1985م
    66. محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي: مشاهير علماء الأمصار، تحقيق: م. فلايشهمر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1959م
    67. محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي: الثقات، تحقيق: السيد شرف الدين أحمد، دار الفكر، بيروت، 1975م
    68. أحمد بن محمد بن الحسين البخاري الكلاباذي أبو نصر: الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد (رجال صحيح البخاري)، تحقيق: عبد الله الليثي، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ
    69. إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي: مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق: د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، 1991م
    70. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي: المغني في الضعفاء، تحقيق: نور الدين عتر
    71. أبو حاتم محمد بن حبان البستي: كتاب المجروحين، محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب
    72. أبو جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلي: كتاب الضعفاء الكبير، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية، بيروت، 1984م
    73. إبراهيم بن محمد بن سبط ابن العجمي أبو الوفا الحلبي الطرابلسي: الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث، تحقيق: صبحي السامرائي، مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1987م
    74. أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو نعيم الأصبهاني الصوفي: الضعفاء، تحقيق: د. فاروق حمادة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1984م
    75. أحمد بن عبدالرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي: تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل، تحقيق: عبدالله نوارة، مكتبة الرشيد، الرياض، 1999م
    76. أبو سعيد بن خليل بن كيكلدي أبو سعيد العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل، تحقيق: حمدي عبدالمجيد السلفي، عالم الكتب، بيروت، 1989م
    77. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي: الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، 1992م
    78. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس: مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، السعودية
    79. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس: منهاج السنة النبوية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، 1406هـ
    80. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس: درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: د. محمد رشاد، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391هـ
    81. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس: السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، دار المعرفة
    82. شمس الدين ابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله: جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، دار العروبة، بيروت 1987م
    83. شمس الدين ابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م
    84. عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: طبقات المفسرين، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، 1396هـ
    85. عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت، 1993م
    86. محمد بن علي بن محمد الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت
    87. عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي: مدارك التنزيل في حقائق التأويل (تفسير النسفي)، تحقيق: الشيخ إبراهيم محمد رمضان، دار القلم، بيروت، 1989م
    88. أبو الفداء الحافظ ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق د. عبد الله أنيس الطباع، مكتبة المعارف، بيروت
    89. عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرَج: صيد الخاطر، تحقيق: الشيخ أسامة محمد السيد، دار الفكر، بيروت 1996م
    90. عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرَج: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار صادر، بيروت، 1358هـ
    91. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي: مقدمة ابن خلدون، دار القلم، بيروت، 1984م
    92. محمد بن علي بن محمد الشوكاني: نيل الأطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، دار الجيل، بيروت، 1973م
    93. محمد عبد الله أبو صعيليك: الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي فيلسوف الجرح والتعديل (ضمن سلسلة أعلام المسلمين) دار القلم، دمشق 1995م

    عن المؤلف
    محمد بن المختار الشنقيطي


    ولد عام 1966 في الجمهورية الإسلامية الموريتانية
    باحث مهتم بالفقه السياسي والأدب الإسلامي، والعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب. نشر العديد من البحوث والدراسات والتحليلات في مجلات ومواقع ألكترونية مشهورة، منها مجلة "المنار الجديد" و"العصر" و"شؤون العصر" و"نوافذ" وفي موقع "الجزيرة نت". وهو يحرر "مجلة الفقه السياسي" الألكترونية : www.fiqhsyasi.com

    من مؤلفاته المنشورة: "الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي" (دار الحكمة في لندن 2002)

     1972-1981: حصل على إجازة في حفظ القرآن الكريم ورسمه وضبطه، وقراءته على مقرإ الإمام نافع بروايتي ورش وقالون.
     1981-1985: صحب عددا من العلماء الموريتانيين وأخذ عنهم طرفا من مختلف العلوم الشرعية والعربية، خصوصا الفقه والأصول والنحو.
     1985-1989: حصل على شهادة المتريز (الباكالوريوس) في الشريعة الإسلامية، تخصص الفقه والأصول.
     1991-1994: حصل على شهادة المتريز (الباكالوريوس) في الترجمة (عربية – فرنسية – انكليزية ).
     1997-1999: عمل مدرسا لمادتي التفسير والنحو بجامعة الإيمان في صنعاء (اليمن) وباحثا متعاونا مع المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية.
     1999- 2001: عمل مدرسا لمبادئ الإسلام واللغة العربية للناطقين بالانكليزية في المركز الإسلامي بواشنطن والجامعة الأمريكية المفتوحة في فرجينيا. ويعمل حاليا مديرا للمركز الإسلامي في "ساوث ابلين" (تكساس– الولايات المتحدة الأمريكية).
    [align=center][/align]

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني