عوامل نجاح الحركة الإصلاحية للشهيد الصدر الثاني (1)
الشيخ محمد اليعقوبي

لقد كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني قائداً ناجحاً على اكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى إيصال صوت الهداية والإيمان إلى أقصى مكان وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصا في مناطق وسط وجنوب العراق التي أقيمت فيها صلاة الجمعة وأعاد للحركة الإسلامية نشاطها وحيويتها بعد أن جمدت روحها في الثمانينات بعد استشهاد السيد الصدر الأول , وهز أركان النظام الطاغوتي وأسياده , وادخل عليهم الرعب , وشد الجماهير إليه , ودخل قلوبها إلى حد العشق والفناء ..

فما السر في ذلك ؟ وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح ؟

عند تحليل شخصية السيد الصدر وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت , وهي في الحقيقة أسس نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لاصلاح الأمة :-

1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها وانتصاره على ذاته بحيث اصبح هو يملك زمام نفسه , وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات , وطالما كان يكرر انه يدوس ذاته بقدميه , ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر . ومن كلماته :-

( إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر ) وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي . وفي الحقيقة فان أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لابد له من المرور بهذه التجربة المريرة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه .وقد خاض هذه التجربة العملية على يد اكثر من شخص وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة نكتاً من هذه التربية .

وكان يحب الموعظة لان فيها أحياء للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام)ولده الحسن (عليه السلام):-

( يا بني احيي قلبك بالموعظة وامته بالزهادة ) فكان يحثني على مطالعة كتب الموعظة ( كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال) , ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينات , وحدثني انه كان ملازماً لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه , بل الذي ألتزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضراته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التاريخية في القرآن الكريم , وكان يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول لله (صلى الله عليه وآله) فمثلاً : حين يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول " صلى الله عليه واله " ( نعم البيت الحمام يزيل الدرن ويذكر الآخرة ) وقد فصلنا شيئا من الكلام في محاضرات ( الأسوة الحسنة ).

2. ارتباطه بالله تعالى وإدامة ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من اجله وقد انتقد في إحدى خطب الجمعة ما يفعله من أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة , أما هو فكان ينقل مقطعا من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لاحد الأئمة (ع) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى , وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى , وكان مراقبا لله سبحانه , ومراعياً له في السر والعلن ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء:- انه دخل عليه شخص فرآه بزي كامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك , قال:- لاني بحضرة الله تبارك وتعالى , وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب , ومما حكاه لي عن سيرته :- انه مرة صلى ركعتي استغفار لانه قال لشخص التقى به وكان غائبا عنه مدة :- مشتاقين , وهي كلمة متعارفة إلا انه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى وهذا – اعني العمل لله تبارك وتعالى – إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهو عمل عظيم إلا انه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى , وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة , وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين , ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس , ( من أراد عزا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته ) وفي الحديث القدسي ( إن العبد ليتقرب لي بالنوافل حتى يكون سمعي وبصري ) فيكون دليلا للخلق إلى الله تعالى .

3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه , ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفحات إثناء تلاوته للقرآن , ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه , وفي مرحله أخرى اخبرني إن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاتها القراءات المتعددة للكلمات القرآنية , وقال :- انه كان يستفيد من هذه القراءات معاني جليلة قد لا توحيها الكلمات المرسومة واحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماما مع قراءة أخرى , وختم حياته وهو يلقي محاضرات ( منة المنان في الدفاع عن القرآن) ويمكن مراجعة كتاب ( شكوى القرآن ) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين .

4. دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها , وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا , ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم منوعة وضر وفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة ( مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة , فعرف متى ينكمش ومتى يتحرك , وماذا عليه أن يفعل , وكيف يتعامل مع الآخرين أفرادا أو طوائف أو سلطات , فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول :- إننا في ظروف لعلها اشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام) , وحاجته إلى الصمت والتقية , تجده في سنيه الأخيرة تجده يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية .

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم . لان العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ اسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد . كان يقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشر ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف , وقال مرة انه إثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد , وهو إنجاز ضخم لمن مارس عملية التأليف والكتابة , وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فانه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف , وقد اجمع زملاؤه واقرانه على جده واجتهاده وعدم إضاعة وقته بما لا ينفع في وقت مبكر من حياته حتى قبل البلوغ حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة 1957م وهو في الرابعة عشر من العمر بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه .

6. عدم انفصاله عن واقعه وما يجري فيه ومواكبته له , فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية , ففي الثمانينات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم وإنجازاته وكان يهمه منها اكثر باب العلوم الباراسايكلوجية لأنها أولا تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة , ولان فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط , وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث .

ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي – وهي محفوظة لدي – بحث بعشرات الصفحات بعنوان ( فلسفةالاحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه) , وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب الي في أن أضمها في كتاب .

وكان مهتماً باخبارالجمهورية الإسلامية في إيران وقائدها العظيم السيد الخميني ويستمع إليه مباشرة باللغة الفارسية , وقال في ذلك :

لانه تجري على لسانه نكات عر فانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة العربية التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي . وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لاراضيها من القوات العراقية في معركة ( المحمرة ) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقية في تموز 1982 , سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهضة التكاليف بشرياً واقتصادياً , فكان من وجهة نظره :- إنها لا جدوى من استمرارها لانه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين ( وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك), ومقابله الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته , وكنت معه واردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والاردبيلي ومن ورائهم السيد الخميني :- إن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة , فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لانه كان تحت الإقامة الجبرية - لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً ( نظرات في الحرب والثورة ) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة .

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم , فقد كان إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية , وكان يحب أن يطلع على الآم المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو ( سكرتيرا) .

نقل أحدهم : انه قلد السيد الصدر (قده) بسبب الطماطة , قيل له: و كيف ؟

قال : لاني سألت عدداً من المراجع وأنا ابحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق , فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيد منها والرديئة فعلمت – والكلام له – إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة , وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم انه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم :

اللهم إيمانا كإيمان العجائز ,

أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالاشكالات والشبهات , وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم . ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والأطباء والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر , بحيث أحس الجميع انه منهم ولا يشعرون بالغربة والانفصال .

8. استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الإسلامية في العراق بالحاجة إلى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف الاشرف لان انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق إلى القيادات الدينية في إيران , وفي ذلك خطر عظيم عليهم ؛ لذا كانوا حساسين جدا من مقولة انتقال الحوزة العلمية إلى قم المقدسة , وحريصين على عدم حصوله , هاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة , في حين لم تكن تسمح بها ولا بأقل منها قبل ذلك فاستغل السيد الشهيد هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية , وكانت قمتها صلاة الجمعة , وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام إنها تؤدي إلى الخسارة كان يقول :-

إنما السلطة لنا كإشارات المرور , فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءا احمر فنقف ثم نتقدم وهكذا.

هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لإنجازات عظيمة , في حين إن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات إما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وإزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم والذين يقول فيهم السيد الخميني فيما ينقل عنه :-

( إن يعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار ) ,

أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح , أو الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين واهله ...

هذا ببعض ماستطعت أن ادونه في هذه العجالة , وهي أفكار ينفتح منها ألف باب لاولي الألباب .

أسال الله تعالى أن يتغمد شهداءه خصوصا العلماء الأعلام بالرحمة والرضوان , ويأخذ بيد الأمة والحوزة الشريفة لتسير على منهاجهم وتأخذ بتعاليمهم وذلك هو الفوز العظيم .

(1) كلمة القاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي في الحفل التابيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الاشرف بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد السيد محمد الصدر

الرافدين

http://www.alrafidayn.com/Story/Arti...0_12_04_8.html