[align=center]الاتجاه التربوي في القرآن الكريم[/align]


[align=left]محمد حسين فضل الله[/align]

للقرآن ـ في المفهوم الاسلامي ـ الدور الاساس الذي يمثل قاعدة المعرفة فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور وفي ضوء ذلك لابد لنا من ان نقرأه ونتدبره ونستغرق في فهم معانيه ونستنطقه في كل قضايانا، على مستوى حركة المفاهيم القلقة التي تبحث عن الاستقرار الفكري أو حركة المشاكل الباحثة عن الحل العلمي الواقعي لانه يؤكد الخطوط العامة للنظرية ويحرك الخطوط التفصيلية للتطبيق ويوحي للانسان بالحكمة التي تحوّله إلى وعي الحياة في كل مواقعها ومجالاتها ويحقق للفكرة الكثير من الوضوح في المبدأ والتفاصيل.

***

وإذا كان للقرآن هذا الدور في حركة الانسان المؤمن الرسالي فقد يفرض علينا ان نعمل على صياغة ذهنيته على الطريقة القرآنية في الصورة التي تتمثل فيها ملامح الفكر والمنهج والشريعة والحركة بحيث يتحول إلى حالة قرآنية متجسدة على هدى الصورة التي رسمتها بعض زوجات النبي «ص» للرسول الاعظم محمد «ص» عندما قالت: «كان خلقه القرآن» وفي بعض الكلمات المأثورة «انّه القرآن الناطق» لان القرآن امتد إلى عقله وقلبه واحساسه وحركته الفاعلة في الحياة، فلا تستطيع الفصل بين المضمون القرآني في الفكرة وبين السلوك النبوي في المعنى والحركة. الامر الذي يجعل للتربية الاسلامية اثرها الكبير في التخطيط الدقيق للشخصية الاسلامية في مضمونها الفكري والعاطفي والعملي في التوازن المنفتح على الدراسة المقارنة بين المفاهيم المتعددة، حتى لا يطغي احدها على حساب الآخر، فيهمله ويحوله إلى مفهوم ضائع في الفراغ. مثلاً، قد نواجه مفهوم الزهد في القرآن في مضمونه النفسي والحركي وعلاقته بالتخطيط المتوازن للنظام الكوني في الحياة وفي الانسان.. وذلك في قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكيلاً تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما اتاكم) «الحديد 22 - 23».

فنحن نلاحظ ان الزهد المعبر عنه بترك الحزن على ما فات والفرح بما هو حاصل، كحالة وجدانية داخلية، ترفض السقوط امام الخسارة والطغيان امام الربح، قد انطلق من وعي النظام الكوني الذي يخضع له الانسان في علاقة المسببات بأسبابها مما يجعل السلب خاضعاً لفقد الاسباب والايجاب تابعاً لوجودها، ليكون الموقف طبيعياً في هذا الجانب أو ذاك.

ونقارن ذلك بالآية الكريمة (قل من حرّم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) «الاعراف 32».

فنلاحظ ان الآية تدعو الانسان إلى النظرة الايجابية لحاجاته الطبيعية في الانفتاح على زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق ليمارسه بشكل متوازن على اساس انها هبة من الله للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة من دون حساب.

فلا نرى هناك تنافراً بينها وبين الآية الاخرى، لان الممارسة الطبيعية للزينة وللطيبات لا يترك تأثيره السلبي على الزهد في مضمونه الاخير بالابتعاد عن التعلق بالاشياء بالدرجة التي لا تستطيع الانفكاك عنها فلا يدفع فقدانها إلى الحزن ولا يبعث للحصول عليها على الفرح الكبير وبذلك يمكن للانسان المنفتح على الحياة كلها في خلالها ان يكون الانسان الزاهد فيها بشكل متوازن.

وإذا استقرأنا بعض الآيات الاخرى فاننا نرى فيها عملية مقارنة بين الدنيا والآخرة كقوله تعالى: (فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا) «البقرة 200 - 202».

فهناك الفريق الذي يستغرق في الدنيا بكل فكره وشعوره حتى انّه يغفل عن الآخرة في حالة العبادة لتكون الدنيا حاجته الوحيدة التي يطلبها من ربه في دعائه له عند المشعر الحرام. وهذا هو الانسان البعيد عن رحمة الله في الآخرة لانه لا يفكر فيها في العمق، ولا يستعد لها في الممارسة، ولا يؤكدها في العلاقات، وهناك الفريق الآخر الذي يقف في خط التوازن بين الدنيا في حاجاتها وبين الآخرة في حاجاتها، ويضيف إلى ذلك الرغبة في الوقاية من عذاب النار، وهذا الانسان هو الذي يمنحه الله نصيبه من خلال كسبه في الدارين معاً، على اساس النتائج التي يحصل عليها مما ترتبط فيها النتائج بالمقدمات المتمثلة بالارادة الصحيحة القوية في الاتجاه السليم.

وكقوله تعالى ـ في قصة قارون في حديث قومه معه: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض انّ الله لا يحبّ المفسدين) «القصص 77».

ففي هذه الآية حديث عن الآخرة ـ في مضمونها المنفتح على رضوان الله ـ لتكون هدفاً فيما آتاه الله في الدنيا من المال ونحوه، من دون اغفال الحاجات الضرورية أو الطبيعية أو المهمات المادية في حياته الدنيا باعتباره كياناً جسدياً، ووجوداً انسانياً مسؤولاًعن حركته في الواقع الذي يعيش فيه ربما كانت كلمة ـ نصيبه من الدنيا ـ تتناول كل الاوضاع المحيطة به في اموره المتصلة بوجوده الانساني، كما يطل عنوان الدار الآخرة على تفاصيلها ليتداخل مع المفردات الحركية للانسان باعتبار ان ذلك يعني القيم الروحية الانسانية المتحركة في كل نصيبه في الدنيا، لان الانسان يتكامل في العناصر الحية لاقواله وافعاله وعلاقاته ومواقعه ومواقفه، فلا فصل بين هذا وذاك في الممارسات العملية.. ثم تضع الآية الخط العريض للعنوان الكبير للنشاط الانساني في الاحسان إلى الناس والى الحياة، من خلال معنى الاحسان الالهي الذي يفرض على الانسان مسؤولية تحريكه في الاحسان إلى الناس، لان الله لا يمنح العطاء الاحساني للناس ليقتصروا به على حياتهم الذاتية، بل ليقدموه إلى الناس الآخرين، باعتبار ان الله يرزق عباده من خلال عباده على أساس الارتباط في الوجود الانساني بين مفرداته، وهكذا يبتعد عن خط الفساد في الارض الذي يعطل الاهداف الكبرى في الحياة بما يسيء إلى النظام العام للانسان وللحياة.

وفي ضوء ذلك كله، نفهم ان القرآن الكريم يخطط لبناء الذهنية الاسلامية للانسان المسلم على اساس التنوّع في اهتماماته ونشاطاته من خلال التنوع في مواقعه، فاذا كانت هناك دنيا وآخرة، فلابد للدنيا من شروط للامتداد، ولابدّ للاخرة من شروط التوازن مما يفرض الكثير من المفاهيم المتحركة والاحكام المتنوعة والعلاقات المنفتحة، وهذا هو الذي يساعد على بناء الشخصية الاسلامية المتوازنة التي تتحرك في الحياة بشكل طبيعي بحيث تنطلق اهتماماتها الفكرية واساليبها الحركية في خط الخلافة الانسانية الكونية على الارض، فلا مجال للانعزاليين الذين لا يمارسون اية مسؤولية متحركة في الحياة العامة ولا مجال للمنفتحين على الحياة اللاهية العابثة بعيداً عن المسؤوليات الجادة في الواقع الانساني.

***

وفي هدى هذا الجو نستطيع اكتشاف الشخصية الاسلامية في حركة الواقع السياسي على اساس الذهنية الملتزمة بالمبادىء العامة المتصلة بالواقع الانساني كله، وذلك من خلال مفهوم العدل الشامل للواقع الفردي والجماعي باعتبار انّه لا ينفصل عن الحركية السياسية في مستوى الفصل أو رد الفعل، في اسلوب اللين أو اسلوب العنف في قضايا الحكم والحاكم والقانون والحركة والادارة، مما يختزنه الواقع من مفردات متنوعة على صعيد الواقع المنفتح على قضايا التغيير في خط الممارسة الذاتية والعلاقات العامة وهذا هو ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) «الحديد 25».

فقد جعلت القيام بالقسط ـ وهو العدل الشامل ـ هدفاً حيوياً للرسل في حركة الرسالات في الخطوط الفكرية القائمة على ادارة الصراع الفكري الانساني على اساس البينات المرتكزة على النظرة الموضوعية للخلاف الفكري أو في الخطوط العملية الواقعية في انفتاح الكتاب على مفاهيم الانسان والحياة والكون من جهة وعلى حركة التطبيق في الحركية الواقعية في دائرة التطبيق وهذا هو الذي يحتوي في داخله مفاهيم الصورة والتغيير والحركة في مواجهة الامر الواقع الضاغط على الحياة لمصلحة الاتجاه المنحرف من أجل الوصول إلى الاهداف العليا على خط المستقبل الجديد الذي ينفتح على الرسالات.

وقد حاولت التربية الاسلامية ان تؤكد على بناء الشخصية الاسلامية العادلة في علاقة الانسان بالله وبنفسه وبالحياة وبالناس، فلا تكون المسألة السلوكية لديه مسألة ذاتية منطلقة من حاجة المزاج للتنفيس عن نزواته الذاتية، فيما تريد وفيما لا تريد، بل تكون مسألة موضوعية منهجية في نطاق العقيدة والشريعة والمنهج والخط الفكري المستقيم في خط العمل فلا مجال لأي تحرك إلاّ من خلال الحكم الشرعي الذي يخطط للانسان حركته في عباداته ومعاملاته في حياته الفردية والاجتماعية لان لله في كل واقعة حكماً شرعياً، مما لا يترك مجالاً لاي انفعال ذاتي، أو لاية عقدة نفسية، بحيث يوحي للانسان بحريته الحركية الخاصة والعامة، وهذا هو الذي يثيره القرآن الكريم في التأكيد على خطين، خط الشريعة الالهية المتكفلة بالضوابط الفكرية والسلوكية في الجانب الفكري والعملي للانسان وخط الاهواء الضائعة في اجواء النزوات الذاتية والانفعالات النفسية التي يختلف فيها الانسان في وعيه وحركته بين حالة واخرى، وينطلق التوجيه القرآني في الالتزام بخط الشريعة التي تنظم للانسان كل حياته لينسجم مع النظام الكوني المحيط به، وهذا هو قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون) «الجاثية 18».

وفي صلابة الالتزام بالخط جاء قوله تعالى: (فلا وربكّ لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) «النساء 65».

وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وهكذا نجذ ان الشخصية المؤمنة تعني الشخصية الملتزمة بالاسلام عقيدة وشريعة، فلا قيمة للإيمان بدون الالتزام والخضوع لحكم الله في كل القضايا التفصيلية المتعلقة بحياة الانسان المؤمن.

وهذا هو الذي يجعل من هذا الانسان الثابت على الخط السياسي المستقيم المنسجم مع النهج الاسلامي في الحرية والعدالة، بالرغم من كل الانفعالات النفسية السلبية، أو الصعوبات الواقعية، أو السلبيات العملية المترتبة عليه الامر الذي يجعله اميناص على الناس من حوله فيما يتحمله من المسؤولية عن قضايا الحياة المتصلة بحياته، فلا تأخذه في الله لومة لائم من الداخل أو الخارج، ولا تهزه الهزاهز من الضغوط الضاغطة على المواقف، ولا تنحرف به المتغيرات السياسية عن الخط مهما كانت طبيعتها في موازين القوى، إلاّ في الحالات التي تمنحه فيها الشريعة تعديل بعض المواقف على أساس المستجدات المعقدة التي قد تقضي على الموقع كله كما في حالات التقية التي تسمح للانسان الانحناء للعاصفة ريثما تمرّ، لئلا تقصف الموقف كله وذلك في ضمن الضوابط الشرعية التي تتلخص في الابتعاد عما يفسد الدين وينحرف بالواقع انحرافاً كبيراً، فلا يأخذ الانسان بالرخصة بحرية مطلقة بل يبقى مراقباً لله في كل اوضاعه وذلك هو قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير) «آل عمران 28».

وفي ضوء ذلك لابد لحركة التقية عند توفر شروطها ان تكون منسجمة مع العناصر الحية لسلامة الموقف واستقامة الخط، بحيث لا يسيء للهدف الكبير ولا يسقط روحية العاملين ولا يحولهم إلى هامش من هوامش الواقع المنحرف، بل يبقى الرفض لكل اوضاعه حياً في التصور وفي الاحساس والموقف عند زوال الحالة الطارئة، ولعل من الطبيعي ان المسألة خاضعة للدراسة الدقيقة الواقعية من قبل أهل الخبرة الذين يحددون الموقف على اساس تحديد الظروف المحيطة بالوضع الذي يعيشه الناس في هذه المرحلة أو تلك للتعرف على طبيعة الخط الشرعي الذي ينبغي لهم ان يسيروا عليه.

***

وقد لا يكون العدل الذي يريد الاسلام للناس ان يلتزموا وان يكون موضع اهتماماتهم هو العدل بين المسلمين، بل هو العدل الشامل الذي يشمل الجميع حتى الكافرين لان الله لا يريد للظلم ان ينال احداً باعتبار ان الكفر لا يمنع من وجود حق للكافر في النظام الاجتماعي الذي يكفل لكل افراده العدل في الحكم على اساس الشريعة العادلة التي تعطي لكل ذي حق حقه وهذا هو ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا * اعدلوا هو أقرب للتقوى) «المائدة 8».

وفي ضوء ذلك لابد من التحرك الاسلامي في العالم كله على اساس مواجهة الظلم كله بالموقف القوي المتحدي لمصلحة المستضعفين المظلومين، أياً كان انتماؤهم المذهبي أو الديني، انطلاقاً من رسالة العدل الشامل التي يتحمل المسلمون تأكيدها في الحياة من جهة، ومن الارتباط العضوي بين مواقع العدل والظلم في الواقع الانساني، لان اي موقع للظلم يحقق القوة للموقع الآخر له كما ان اي موقع للعدل يمنح الثبات للموقع الآخر منه، وهذا هو الذي يحدد للمسلمين التحالفات السياسية مع القوى الاخرى التي تختلف معهم في في الدين والانتماء الفكري أو السياسي، في مجالات الصراع بين المستكبرين والمستضعفين لنكون مع المستضعفين في قضاياهم العادلة ضد المستكبرين في سلوكهم الظالم، فما قد يفرض عليناـ في بعض الحالات ـ ان نقف ضد بعض المسلمين الذين يفرضون الظلم على شعوبهم أو شعوب اسلامية مع غير المسلمين أو غير اسلامية اخرى لاسقاط الحكم الظالم أو القوة الظالمة، وذلك بالتعاون مع غير المسلمين الذين نتفق معهم في هذا الهدف من دون ان يؤثر ذلك تأثيراً سلبياً على الموقف الاسلامي كله وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) «الانعام 152».

(يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وان يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا) «النساء 135».

فقد نلاحظ ان الآية الكريمة تؤكد على ان الخصوصيات الحميمة للاقربين لا تمنع من الموقف المضاد الذي يؤكد العدل ضدها لمصلحة الابعدين، كما ان الفقر والغنى لا يمثل شيئاً في حسابات العدل، مما يوحي بأن الفكرة الاسلامية عن العدل تنطلق من ابعاد الحواجز النفسية والمادية عن الوقوف امام حركته، سواء على مستوى بناء الشخصية العادلة للانسان، أو على مستوى حركتها في صعيد الواقع، وذلك من أجل تأكيد الحيوية والشمول للعدالة الانسانية على مستوى الكون كله، ومن هنا كانت الآية الكريمة في قوله تعالى: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان) «النمل 90».

تؤكد على اعتبار العدل كما الاحسان الخط العريض في القضايا الكبرى التي يريد للحياة ان تخضع لها في نظامها الواسع الشامل.

كما نلاحظ ان الله ينهى المؤمنين عن الركون إلى الظالمين باعتبار ان ذلك يترك تأثيره المباشر على حركة العدل مما يعرض الانسان الذي يفعل ذلك للدخول في النار كأية معصية كبيرة من المعاصي التي يستحق عليها دخول النار.

***

وإذا كان العدل هو اساس الرسالة الاسلامية تماماً كما هي كذلك في الرسالات الالهية الاخرى، فلابد من تحريك الحياة في دائرة الالتزام الاسلامي في افعال الانسان واقواله وعلاقاته، كفريضة دينية مهمة من اجل تحقيق الاهداف الكبرى في الحياة فلا يمكن ان يكون حيادياً امام الواقع الاسلامي أو منعزلاً عن حركة العدل في الصراع الدائر بين الظالمين والمظلومين في ساحة الصراع بين المستكبرين والمستضعفين، بل لابدّ من أن يأخذ دوره في كل الخطوط العامة أو في الخطوط التفصيلية كمسؤولية حيوية مهمة في الواقع الانساني باعتباره مظهراً من مظاهر طاعة الله في سبيل الحصول على رضاه.

وفي ضوء ذلك لابدّ من دراسة المواقف السياسية في حركة الانسان في الواقع من المفاهيم الاسلامية القرآنية حتى لا تكون خاضعة للاهواء الذاتية وللعناوين الطارئة التي تفرضها التطورات التي تحركها التيارات المنحرفة في الساحة الفكرية والسياسية لان الانسان المسلم لابدّ ان يفكر سياساً بالطريقة الاسلامية في المفردات التشريعية التي يرتكز عليها الخط الاسلامي الحركي في النشاط الانساني المسلم، وهذا هو الذي ينبغي ان تنطلق فيه التربية الاسلامية في وعي الانسان المسلم، فلا مجال للحرية الذاتية في اتخاذ المواقف بعيداً عن الخطوط الشرعية تماماً كما هو الحال في المواقف العبادية أو الاخلاقية العامة التي لا يملك الانسان الخيار فيها امام قضاء الله ورسوله في ذلك كله.

وقد يكون من الضروري ان ندرس مسألة الانفتاح والانغلاق، أو المقاطعة والمواصلة، وحركة العلاقة مع الكافرين والمستبكرين في الدائرة الاسلامية لهل يفرض علينا الاسلام ان نغلق عنهم ونقاطعهم، ونفرض اقامة العلاقات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية والتربوية والامنية معهم على اساس ان ذلك يمثل لوناً من الوان الموادة والموالاة للذين يحادّون الله ورسوله، وهو مرفوض قرآنياً على هدى الآية الكريمة في قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا اباءهم أو ابناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايديهم بروح منه يدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه اولئك حزب الله ألا انّ حزب الله هم المفلحون) «المجادلة 22».

أو ان هناك فرقاً بين مفهوم الموادة والموالاة وبين مفهوم الانفتاح والتواصل واقامة العلاقات، مما يدخل في حركة التعامل الواقعي المنطلق من دراسة المصلحة الاسلامية في حاجة المسلمين إلى الكثير مما لدى هؤلاء الذين يملكون المواقع المتقدمة في القضايا الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها من الشؤون المتعلقة بالحياة العامة، الامر الذي يجعل من الانعزال مشكلة مستعصية للمسلمين في العالم، بحيث تترك تأثيراتها السلبية الكبيرة على مجمل قضاياهم العامة لانهم لا يملكون الاكتفاء الذاتي في حاجاتهم الحيوية بل يحتاجون إلى الاخذ من غيرهم من جهة والى تصريف منتجاتهم وثرواتهم الطبيعية في اسواق الآخرين مما يؤدي إلى اقامة علاقات اقتصادية متنوعة. كما ان التعقيدات السياسية والامنية تفرض عليهم دراسة العلاقات المتصلة بهذه الجوانب في دائرة المصلحة الاسلامية العليا التي قد تفرض بعض المعاهدات والتحالفات بين المسلمين وبعض الكافرين في مواجهة الخطر الداهم المشترك الذي قد يحتاج إلى التعاون في سبيل دفعه، وهكذا تتمثل المشكلة في المسألة العلمية والثقافية والتربوية في الحاجات المرتبطة بهذه الامور في الواقع العلمي والثقافي والتربوي للمسلمين.

قد نلاحظ ان هناك خلطاً بين مفهوم الموادة وبين مفهوم التعامل الخارجي، فان المفهوم الاول يرتكز على الانفتاح الروحي والفكري والعملي على واقع الكفر والكافرين بحيث تزول كل الحواجز النفسية لتتحول المسألة إلى نوع من العاطفة الانسانية المتصلة بالجانب الشعوري المتحرك في اتجاه العلاقات الواقعية العملية، مما يتنافى مع الروحية الرافضة للكفر كله فكرياً وشعورياً بحيث ينعكس على الموقف من الكافرين روحياً.

اما المفهوم الثاني، فانه يرتبط بحركة المسلم في الواقع من خلال مصالحه العامة المتفتحة على حاجاته المتصلة بالواقع الآخر للناس الآخرين، لارتباط الواقع الاقتصادي والسياسي والعملي والامني في مواقعه المتقدمة في الكون بحيث يصعب العزلة الخانقة التي تسيء إلى الواقع الاسلامي العام اكثر مما تسيء إلى واقع الآخرين.

وربما يكون من البديهي ان تعالج مثل هذه الامور بطريقة مدروسة على اساس الحسابات الدقيقة للمفردات الكثيرة في نطاق التعرف على المصالح والمفاسد العامة في ذلك كله، ليكون التحديد للمواقف في دائرة العلاقات السلبية والايجابية منطلقاً من دراسة عميقة شاملة، لان الاندفاع السلبي في موقع والايجابي في موقع آخر قد يسيء إلى الواقع كله.

***

اننا نؤكد على البعد عن مواقف الانفصال والارتجال والنظرة السطحية في اتخاذ المواقف أو الحكم عليها، اولها، لان ذلك قد يلحق الهزيمة بالمعركة الدائرة بين الاسلام والكفر أو الاستكبار والاستضعاف وقد يخذل القيادات المخلصة التي قد تتخذ بعض المواقف الحكيمة في مصلحة الاسلام والمسلمين، مما لا شعبية له أو لا تفسير له في النظرة السطحية السريعة.. اننا لا ندعو إلى الابتعاد عن نقد القيادة والخط والنهج والواقع كله، ولكننا ندعو إلى الدقة في تحريك النقد ليكون الموقف خاضعاً للتقويم الموضوعي المنطلق من الوعي والايمان بحيث تتحرك القضية في العلاقة بين القيادة والقاعدة في اتجاه التفاهم والتعاون على حماية الاوضاع الاسلامية من الاهتزاز والانحراف من اجل تركيزها على اساس ثابت.

***

وقد تفرض علينا المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها العالم الاسلامي الآن ان نثير المسألة اليهودية في نطاق الموقف من اليهود من جهة ومن اسرائيل من جهة اخرى، لان هناك اصواتاً كثيرة تتحدث عن ضرورة الحوار بين الاديان في العالم لاسيما الاديان الكتابية ـ ان صح التعبير ـ وهي اليهودية والنصرانية والاسلام، وذلك من اجل ايجاد قاعدة فكرية روحية للتعايش بين اتباعها، أو للوقوف على الكلمة السواء على هدى قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) «آل عمران 64».

حيث نلاحظ انها اكدت على المواقع المشتركة بين اهل الكتاب وفهم اليهود والمسلمين، مما يعني ان الاسلام يستهدف الوصول إلى الكلمة السواء معهم كما هو الحال مع النصارى.

ويحاول هؤلاء الذين يثيرون هذه المسألة الحوارية ان يصلوا إلى الواقع السياسي الذي ينفتح على الواقع اليهودي الاسرائيلي في فلسطين المتمثلة بالدولة الاسرائيلية القائمة على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه وسيادته.

***

ولكننا نلاحظ على ذلك هو التركيز على الفرق بين المسألتين، فهناك الجانب الفكري الذي يتصل بالحوار الاسلامي ـ الكتابي في الحديث عن وحدة الله في العقيدة، ووحدة الانسانية في الممارسة وهناك الجانب السياسي المتصل بسيطرة اليهود على فلسطين من دون حق، ولابد لنا من الفصل بينهما بشكل دقيق حتى لا تضيع الملامح الحقيقية للصورة ولا نقع تحت تأثير الكلمات العامة التي تجتذب الاحساس، فنحن نؤمن بالتوراة وبموسى عليه السلام كما نؤمن بالنبيين ورسالاتهم مما يجعل علاقتنا باليهود كمتدينين في المضمون الديني لليهودية علاقة بالعنوان الكبير الذي وضعه القرآن الكريم في علاقة المسلمين بأهل الكتاب، ليكون الكتاب الذي نؤمن به كله هو القاعدة التي ينطلق منها الحوار، ويمتد ـ من خلالها ـ الدرب الطويل المشترك. وإذا كانت هناك خلافات بين الاسلام واليهودية في التفاصيل المتصلة بالعقيدة والشريعة والامتداد، فان الحوار الموضوعي الذي يطلق فيها القرآن التحدي لقوله (قل فاتوا بالتوارة فاتلوها ان كنتم صادقين) لتكون الكلمة للحجة لا للسباب وللكلمات غير المسؤولة. اما اليهود كشعب يتحرك بعقلية عنصرية وعلى اساس انهم اولياء الله واحباؤه وانهم «الاولياء لله من دون الناس» و«شعب الله المختار» مما جعلهم يتحولون إلى قومية منغلقة على نفسها بعيدة عن المعنى الانساني، فهم يرون انّه (ليس عليهم في الاميين سبيل) فيستجيبون لانفسهم ان يفعلوا ما يشاؤون بغير اليهود مهما كانت درجة الوحشية في ذلك.

اما هؤلاء في حركتهم القائمة على العصبية، المتمثلة بالصهيونية التي اقامت دولة اسرائيل في فلسطين على اساس تشريد الشعب الفلسطيني من ارضه، اما هؤلاء الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقتلون النبيين بغير حق، ويسعون في الارض فساداً ويكيدون لله ورسوله، اما هؤلاء فهم اشد الناس عداوة للذين آمنوا.. حتى انهم كانوا يقولون عن المشركين في مقارنتهم بالمؤمنين (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) «النساء 51» في الوقت الذي لا يلتقون فيه مع المشركين ـ من خلال دينهم التوحيدي ـ بشيء إلاّ الحقد على الاسلام والمسلمين.

ولذلك فان المسألة بيننا وبين اليهود الذين يتبنون دولة اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، هي مسألة العدوان علينا واغتصاب ارضنا وتهديد أمننا واقتصادنا ومقدراتنا الحيوية مما يجعل القضية تتصل بالطبيعة العدوانية التي يختزنونها في داخل كيانهم القومي، ولا ترتبط بالمسألة الدينية وهذا ما أوحى به الله في قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم) «العنكبوت 46»، فاعتبروا الظالمين منهم بعيدين عن الحوار، لان الموقف الذي يفرضه ذلك هو رد العدوان والتمرد على الظلم.

وهذا هو الذي يجعل الموقف من اسرائيل، ومن كل الذين يدعمونها في ظلمها، حاسماً بالرفض لشرعية وجود الدولة، ولكل النتائج المترتبة عليها، لان الحرام لا يمكن ان يكون حلالاً ولان الظلم لا يمكن ان يكون عدلاً، وهذا هو الذي يجعلنا نرى في مؤتمر السلام، مؤتمراً يقوم على اعطاء الشرعية للعدوان بالاعتراف به في أكثر من مواقعه، وافساح المجال للتفاوض في المقدار الاقل، وقد لا يؤدي ذلك إلى نتيجة انّه الموقف الاسلامي الذي لا يمكن ان يتغير أو يتبدل ما دامت القاعدة الشرعية التي تفرضه، من القواعد الثابتة على مستوى المفاهيم والاحكام الاسلامية.

***

هذا هو بعض الحديث عن الاتجاه الاسلامي التربوي في بناء الشخصية الانسانية الاسلامية على اساس المفاهيم القرآنية، بحيث يتحول كل مسلم أو مسلمة إلى حالة تجسيدية للمضمون الفكري والروحي والعملي المتمثل في آيات القرآن الكريم، وذلك من خلال التدبر فيها والانفتاح على مفاهيمها والعمل على تحويل كل مفرداتها وايحاءاتها إلى حالة ذاتية في عمق الشخصية الاسلامية.

***