تأملات في الشخصية الإسلامية

محاضرة ألقيت في المؤتمر الثاني عشر لرابطة الشباب المسلم في لندن ( * )
15 ربيع الثاني 1398هـ الموافق 2-4-1978م


[align=left]العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله[/align]

في مسيرتنا التي نسير، ونحن نتطلع إلى مواقع لأقدامنا في الطريق، كمسلمين يريدون أن يؤكدوا إسلامهم من خلال الممارسة كما يؤكدونه من خلال الشعار، ويريدون أن يشعروا بأن إسلامهم يعني شيئاً للحياة الصاعدة المتحركة التي تتلمس أعالي الطريق ومنحدراته من أجل أن تتطور إلى الأفضل، وتصعد إلى الأعلى، ويعملون على أن يتمثلوا أنفسهم، وهم يعملون، ويتمثلون أهدافهم وهم يتحركون نحو هذه الأهداف، لأن المجتمع أو الفرد، لا بد له من تحديد هدفه بشكل واضح جيد، سواء أكان هدفاً قريباً أم كان هدفاً بعيداً، من أجل أن يملك وضوح الرؤية، لأن وضوح الهدف يساهم في وضوح الطريق، وبالتالي، في ثبات الخطوات المتحركةِّ على امتداد الطريق.

في مسيرتنا هذه، التي نواجه فيها المستقبل من خلال قضية المصير، نريد أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل، لندرسها من خلال الداخل، لنتعرف عليها جيداً، ونرى، هل نحن نحمل روحية الإنسان المسلم الذي يريد أن يحمل مسؤولية الحياة على كتفيه، أو أننا نحمل روحية الإنسان المسلم الذي يريد أن يبقى حاملاً هموم الحياة وآلامها دون تطلعاتها؟ وفي ضوء ذلك نواجه الظواهر التالية:

[align=right]1ـ الروح الباكية:[/align]

عندما ندرس ما يلقى من كلمات تتناول الواقع، أو ما يتحدث به الوعَّاظ في أساليبهم الوعظية، وما نعالج به كثيراً من مشاكل الواقع ومآسيه، وما نتذكره من أحداث الماضي في هزائمه وانتصاراته المشوبة بالآلام... فإننا نلاحظ ونشعر بأن الروح الباكية هي التي تسيطر على مشاعرنا، وتهيمن على أساليبنا وكلماتنا. فنحن نبكي حين نتطلع إلى المستقبل بعينين مغرورقتين بالدموع، ونبكي أمام قوة عوامل الانحراف المندفعة في الطريق، ونبكي من خلال السلبيات التي تواجه العاملين في جهادهم، ونبكي في محاولتنا للمقارنة بين الماضي والحاضر... وهكذا رأينا في أدبنا، أدب الشعر والنثر. إن أدباءنا يتحدثون عن الماضي من خلال دموعهم، ويتحدثون عن الحاضر وهم يجهشون بالبكاء... وقد تحوَّل الأسلوب من البكاء على الأطلال، الذي عاش في أجواء العصر الجاهلي وما بعده، إلى بكاء على الأشخاص والماضي والحاضر.

وقد نلاحظ في بعض مجتمعاتنا الدينية، أن الصورة المأساوية هي التي تتجسد في وعيهم ووجدانهم عندما تثار قضايا التضحيات التي يقدمها الأنبياء والأئمة والأولياء في سبيل رسالاتهم، أو عندما يتحدث المتحدَّثون عن وقفةٍ من وقفات الجهاد التي تفرز بعض الآلام، أو عن حالة الموت التي تحدث لهؤلاء بشكل طبيعي. إننا نلاحظ استحضار دور المأساة في القضية، والإلحاح على إثارة الأساليب التي تستدر الدموع، ما يدفع بالموقف إلى جو مشحون بالبكاء، ويبتعد به عن جو العبرة أو تقديس البطولة، من خلال الدروس التي توحيها القضية، ويحوّل الداخل إلى مشاعر مرهفة تمتص الدمعة من خلال البسمات، وتتحسس الموت في قلب الحياة.

إنه الواقع الذي أدمن الدموع حتى أصبحت جزءاً من شخصيته، ومظهراً حياً يطبع الحياة ـ من حوله ـ بطابع المأساة، فكيف نفكر فيه ونحن نواجهه؟!

1ـ إن ما نريده هو التأكيد على أن البكاء ليس شأن العاملين الذين يفهمون الحياة ويواجهونها من موقع الواقع، فيندفعون إلى قضاياهم بهدوء وجدية وتخطيط، فإذا انتهت أعمالهم بالنتائج الطيبة المنتظرة على أساس الخطة الموضوعة، واجهوا النجاح بروح واقعية تتلمس أسباب النجاح لتستفيد منها في تحركها نحو المستقبل، وإذا انتهت أعمالهم بالفشل، لم يهزمهم الفشل، ولم تصرعهم صدمة الواقع، بل وقفوا يتقبلونها بهدوء باعتباره شيئاً طبيعياً اقتضته سنَّة الحياة عندما يفقد العمل بعض عناصره، أو تبرز للساحة بعض الأوضاع غير المنتظرة. ثم يبدأون في دراسة الأسباب الطبيعية للفشل، ليتفادوها في المستقبل، وذلك هو ما حاول القرآن الكريم أن يوحيه للإنسان من خلال تقريره لفكرة القضاء والقدر، وذلك هو قوله تعالى:{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}[الحديد/22-23].

وخلاصة الفكرة في الآية، أن الحياة تنطلق في أوضاعها العامة من قضايا الخسارة والربح والتقدم والتأخر في القوانين الكونية التي تشمل واقع الطبيعة والإنسان، فلكل ظاهرة طبيعية أو إنسانية أسبابها وظروفها المستمدة من سنة الله في الكون التي تفرض الربح أو النجاح تارة، كما تفرض الخسارة أو الفشل تارة أخرى، فينبغي أن يكون الربح منتظراً من خلال توفر الظروف الطبيعية له، كما ينبغي أن تكون الخسارة منتظرة للسبب نفسه، وليست الحياة ربحاً كلها لتكون الخسارة صدمة مفاجئة، وليست خسارة كلها ليكون الربح باعثاً على الفرح الكبير... فلماذا الألم والبكاء في حالة الخسارة، ولماذا الفرح والانبهار في حالة الربح... إنه ـ تماماً ـ كشروق الشمس في الصباح، وغروبها في الليل، اللذين نتقبلهما كظاهرتين طبيعيتين لا تحدثان في النفس إلا الآثار العادية التي تواجه كل ظاهرة عادية مألوفة.

وقد نلاحظ في حديث الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(ع) الربط بين فكرة الزهد في الإسلام وبين هذه الفلسفة القرآنية للحياة، حيث قال ـ كما في نهج البلاغة ـ:

"جمع الله الزهد في كلمتين: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم..."

ولعل السّر في هذا الارتباط بين الفكرتين، هو أن هذا الفهم الموضوعي للحياة يمنع الإنسان من الاندفاع نحوها أو التعلق بها بشكل غير طبيعي، ويدفعه إلى مواجهتها من خلال طبيعتها الواقعية، ما يخلق لديه الحالة النفسية المتحررة من ضغط الحاجات الشخصية البعيدة عن منطق الواقع، ويجعله منسجماً مع نتائج الخسارة بالروح نفسها التي تنسجم مع نتائج الربح، وذلك هو الزهد الصحيح في الإسلام، حيث يرتبط بالحرية الداخلية التي لا يخضع معها الإنسان لضغط الحاجة الطبيعية، بل يملك ـ في كل الحالات ـ موقف الرفض وموقف القبول.

وهكذا لا نجد في هذا الفهم الموضوعي لواقع الحياة أي أثر للروح الباكية، بل نواجه ـ بدلاً من ذلك ـ رفضنا لها، للنهي الذي توجهه الآية من ناحية، ولمخالفتها لفكرة الزهد المحبوبة في الإسلام من ناحية أخرى.

2ـ إن البكاء مظهر حي من مظاهر التعبير عن العاطفة الكامنة في الأعماق، المتفاعلة مع واقع المأساة في مشاهدها المؤلمة وحالاتها المفجعة، وليس حالة طبيعية دائمة لحركة الإنسان في الحياة، وإذا كان مظهراً من مظاهر التعبير عن العاطفة، فقد نجد أن العاطفة ـ في مفهومها الإسلامي ـ ليست حالة ساذجة تتحرك لتعبر عن النفس ثم تذوب وتضيع في الفراغ مع الهموم الجديدة، بل هي العاطفة الموجّهة الواعية التي أرادها الله أن تتحرك في داخل الإنسان لتقوده إلى الإحساس بالواقع، والتفاعل معه من أجل الأهداف الكبرى في الحياة.. وتلك هي سنّة الله في خلق الإنسان عندما خلق له طاقاته، فقد أرادها أن تحقِّق له إنسانيته في ما يفكر وفي ما يعمل، فإذا بكى القلب لمظاهر الألم أو تحركت الحياة في اتّجاه الإحساس الوجداني بالمأساة، فإنَّ الفطرة تقود الإنسان إلى مواجهة واقع المأساة وبواعث الألم، من أجل القضاء على منابع الألم وعوامل المأساة. وتلك هي الفطرة التي خلقها الله في داخل الإنسان، من أجل أن يقابل الحياة بفكر تثيره المشاعر عندما تندفع إليه العاطفة لتخرجه من جموده وجفافه، وبعاطفة يوجهها بالتخطيط لآفاقها والتركيز لخطواتها عندما يتحرك الفكر معها ليخفف من اندفاعها نحو المجهول.. وبذلك كانت العاطفة الإنسانية، قوة روحية كامنة في الإنسان لا تتوقف عندها المشاعر في حالة استرخاء لذيذ، بل تمر بها في رحلتها الطويلة نحو الأهداف، تماماً كأيّة قوة فطرية مخلوقة لغاية محددة، فلا بد لها من أن تتحرك في اتجاه ما خلقت له.

وفي هذا الإطار، نحاول فهم قضية العاطفة التي تدفع إلى البكاء، فنواجهها بروح إيجابية تندفع مع البكاء الإيجابي الذي ينطلق مع الأهداف المرتبطة بالواقع اليومي الذي يعايشه الإنسان في ما يحمل من همومٍ وآلام، وذلك عندما تكون القضية قضية الحياة في اندفاعاتها العملية والشعورية..

أما عندما تكون القضية قضية الرسالات، فإن على الإنسان أن لا يتطلع إلى العاطفة التي تحجبه عن رؤية الواقع، بل يتحول إلى عيون تحدق في الواقع لتفهم الواقع، فتعرف سنة الله في الأرض في قضايا الهزيمة والنصر، والتقدم والتأخر، وفي كل حركة من حركات الإنسان في أي جانب من جوانب الواقع، وسيكتشف ـ من خلال ذلك ـ أن الحياة لا تمنحه فرصة للبكاء، بل تعطيه المجال للدراسة التي تقف أمام السلبيات والإيجابيات في الماضي والحاضر، لتفهم الواقع منها لا لتنعاه، ولتحوِّل السلبيات إلى إيجابيات، وتستفيد من الإيجابيات في خلق إيجابيات جديدة، لأن الإيجابيات التي ساهمت في صنع التقدم في الماضي تستطيع أن تساهم في صنع التقدم في المستقبل. إننا نشعر بالحاجة إلى بديل لروحيتنا العاطفية الباكية التي نواجه بها قضايا الرسالة في ماضيها وحاضرها، فلا ننظر إليها بروحية النعاة الذين ينعون للواقع خسائره، بل بروحية الدارسين الذين يثيرون الرغبة في تجاوز الخسائر وتحويلها إلى أرباح، وذلك عندما يتألّمون فكرياً ولا يكتفون بالألم العاطفي، لأن آلام الفكر تدفعه إلى أن يعمل من أجل فرح الفكرة، بينما لا تتحرك آلام العاطفة إلا لتحوِّل الإنسان إلى إنسان يختنق ـ في مشاعره ـ من خلال دموعه، فنحن لا نريد أن نختنق، بل نعمل على أن نظل منفتحين على الحياة وعلى الفكرة من خلال الله في الطريق الصاعد نحو الرسالات.

[align=right]2ـ الروح الخائفة المنبهرة بالواقع المنحرف:[/align]

1ـ إننا نواجه، في روحية إنساننا المسلم، في كثير من نماذجه، حالة انبهار بالواقع المنحرف، بكل ضغوطه وإغراءاته، وبكل ما يملك من قوى مادية، في امتداده وسعته، ما يخلق في نفوسنا عقدة الشعور بالنقص، والتقزم أمامه، وقد يتمثل ذلك في الشعور بالتضاؤل أمام الحضارة الأوروبية، أو القوى الغاشمة التي تقف ضد الإسلام، وقد تحوّل هذا الانبهار إلى شعور بالخوف والضعف، وربما انعكس ذلك على التزامنا بالأحكام الشرعية الإسلامية في المجتمعات التي تسيطر عليها الطريقة الأوروبية في الحياة، فقد ينتابنا الشعور بالخجل من تطبيق بعض الأحكام على حياتنا الفردية والاجتماعية، لئلا يسيء الآخرون فهمنا من جهة، أو لئّلا ينعتونا بالتأخر والرجعية، أو يشعرونا بالغربة عن الحياة العامة من جهة أخرى، ولهذا تكثر الأسئلة عن المبررات التي تبرر شرعية الانحراف عن الحكم الشرعي، بحجة إثارته للسخرية، وتشويهه لصورتنا أمام الآخرين.

إن هناك شعوراً بالخوف والضعف والانسحاق أمام قوة الواقع الضاغطة، وقد يكون مثل هذا الشعور طبيعياً في إطار المرحلة، لأن الشباب المؤمن لا يزال في خطواته العملية الأولى، ما يجعله بعيداً عن التجربة التي تربطه بالمعرفة الواعية للواقع في نقاط ضعفه وقوته، ولا تزال الخطوات بحاجة إلى تركيز وتعميق، ولا تزال قضية الإيمان بالله تلامس الشفاه قبل أن تلامس القلوب في الأعماق... إنها ظاهرة طبيعية في إطار الواقع المعاش... وقد يكون من الواجب علينا أن نتعايش معها برفق وهدوء، لنعمل على تبديلها وتغييرها، لأن الإنسان الذي يعيش الإنبهار بالحضارات المنحرفة، سوف يتحوَّل إلى إنسان منحرف روحياً ولو بشكل غير مباشر، وقد يصبح في بعض الحالات عبئاً ثقيلاً على حركة الواقع والرسالة في مسيرتها نحو المستقبل، بما يثيره أمامها من مشاكل وسلبيات واهتزازات تربك الخطى في الطريق.

2ـ لقد عالج الإسلام هذه العقدة، في بعض الآيات الكريمة التي أنزلها الله على نبيه ليوجِّه بها مسيرته ومسيرة المسلمين ويثبتهم على الخط المستقيم، على أساس الطريقة القرآنية الحكيمة التي كانت تسير في سياق التدرّج القرآني، لتثبت بها القلوب عندما تنطلق الآية في حركة المشكلة لتضع الحل في الموقع الطبيعي المناسب، ليواجه الناس الحلّ الإسلامي، وكيف يتحرك في خطوات المشكلة على صعيد الواقع، ما يجعل قضية الوعي مرتبطة بالواقع الحي لا بالفكرة المجردة، وذلك هو قوله تعالى:{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}[الفرقان/32].

فقد واجه النبي (ص) بعض المواقف الّتي حاول المشركون فيها إثارة الأساليب التي يحسبون تأثيرها على موقف النبي، بفعل ما حشدوه فيها من ألوان الضغط والإغراء، وربما خِّيل إليهم أن النبي بدأ يستسلم لما يريدون منه، انطلاقاً من أسلوبه العملي الذي لا يواجه التحديات بعنف، بل يعالجها بالرفق والهدوء مهما أمكن.. ولكن الله ثبَّت نبيَّه بقوة الإيمان الرسالي التي تصاحبه في كلِّ حالات الشدّة، فلم يستسلم لكل أساليبهم وضغوطهم، فأنزل الله الآيات الكريمة التي تصوِّر دقة الأسلوب الذي اتّبعوه، كما لو كان ناجحاً في كل ما يحاولون إثارته من حوله، فكانت تخاطب النبي بالموقف، ليخاطب الأمة من خلاله، على الطريقة القرآنية التي توحي للأمة بالفكرة ومسؤوليتها الدقيقة، من خلال اعتبارها فرضية متمثّلة في حياة النبي (ص) وسلوكه، وذلك قوله تعالى:{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لأتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا به نصيراً}.[الإسراء/73-75].

إنه الموقف نفسه الذي يقفه المؤمن أمام ضغط الأساليب الساحرة للمجتمع المنحرف، ولا بد للمؤمن أن يثِّبت أقدامه على الخط لئلا تنـزلق في طريق الهاوية بدون وعي أو تفكير.

وقد واجه المسلمون حالة التخويف التي كان يخوّف بها أعداء الله أولياءه، بالقوى البشرية المدعّمة بالقوى المادِّية من السلاح والمال، ليتراجعوا وينهزموا نفسياً خوفاً من المصير المحتوم الذي ينتظرهم، فأنزل الله آياته ليجسِّد لنا الفكرة من خلال مواقف المسلمين الأوّلين الذين واجهوا التحدي بقوة الإيمان ووعي المعرفة، وذلك هو قوله تعالى:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}[آل عمران/173-175].

إنه الشعور العميق بالقوة التي تستهين بالناس وبالعالم انطلاقاً من الإيمان بالله، فإذا كان الإنسان مع الله في كل خطوات حياته، فإنه يشعر بأن الله هو خالق القوة والحياة، وهو القادر أن يسلبها من كل أحد ومن كل شيء، ما يوحي إليه بأن يرتفع فوق كل مظاهر القوة أو وسائل الضغط، فلا يضعف أمامها، ولا ينهزم نفسياً قبل الدخول في المعركة، مهما كانت الكلمات التي تحاول أن تهزم إرادته وإيمانه ومواقفه، بل يجد بدلاً من ذلك، شعوراً بتنامي القوة وتصاعدها، وذلك هو ما تمثله الآية الكريمة {فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.. وتتدرج الآية لتوحي لنا بأن ذلك من تسويلات الشيطان الذي يخوِّف أولياءه بهذه الأساليب، ليثير فينا روح الرفض لمنطق الخوف مهما كانت أساليبه، باعتباره منطق الشيطان الذي يهاجم به الروح التي تستسلم وتخضع له، وهي روح أوليائه الذين أطاعوه، أما أولياء الله فلا يخافون إلا الله، الذي لم يجعل للشيطان سلطاناً على عباده المتقين.

هذا هو الخط القرآني الذي نتحرك من خلاله لنستجمع القوة التي تربطنا بالحياة عندما تربطنا بالله، في شعور عميق بالقاعدة الصلبة التي نقف عليها عندما نريد الانطلاق إلى الحياة القوية الثابتة.

3ـ ربما يجب علينا أن ننطلق في وعي الموقف لمعالجة عقدة الخوف والانبهار، من قاعدة واقعية تدرس تاريخ نشوء القوى وكيفية تطوّرها وامتدادها في العالم، لنواجه القوة الضاغطة التي تتقدم بكلِّ ثقلها وكبريائها وجبروتها لتهدِّم الروح المعنوية التي تعيش في داخلنا.. لأننا قد نشعر بأن السبب في ذلك الخوف الذي نحسُّ به، هو أننا ننظر إلى القوة بعد أن تكاملت من خلال الظروف الموضوعية التي تحققت لها في الحياة، بينما تفرض علينا الدراسة الموضوعية أن ننظر إلى بدايات هذه القوى الحضارية، حيث كانت لا تمثل شيئاً كبيراً في البداية، بل كل ما هناك أنها سارت على سنن الله في الحياة، حيث جعل لكل شيء سبباً، ولكل ظاهرة قانوناً، وبهذا استطاعت أن تحشد القوَّة عندما سارت على هذه السنن الكونية، بعد أن جاءت على أنقاض قوة أخرى، فلم تنهزم أمامها نفسياً، بل سارت على الطريق بثقة وإيمان، فحققت لأتباعها القوة من موقع الصفر، على أساس المراحل المتدرجة التي تعطي لكل حالة أسلوبها، فإذا تمت لنا هذه الدراسات التي تتبع ولادة القوى وموتها في كل مراحل التاريخ الإنساني، أمكننا أن نخطو الخطوات الأولى بمرونة وواقعية، وثقة وإيمان، لنستجمع عناصر القوة من هنا وهناك، حيث تمنحنا قوة جديدة قد تفوق القوة الحاضرة للآخرين في نهاية المطاف.

إننا عندما نقول هذا، لا نتعلَّق بالخيال، ولا ننطلق من خلال النـزعة المثالية، بل من خلال الواقع التاريخي للإسلام عندما كان في بداياته، فقد كان هناك إنسان واحد يقف في وجه العالم، كل العالم، ليهزَّ أعماقه، في دعوة هَادرة حاسمة ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا..)). لقد قال الكلمة، وأصرّ عليها، وتحرَّك في الطريق داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبدأ بالضعفاء الذين يمثلون جيل الرسالات الأول وجيشه، وانفتحت القلوب البسيطة الطيبة على هذه الكلمة.. وتتابعت الكلمات في آيات الله، ونمت في قلوب المؤمنين، ثم تحَّولت إلى قوة تتحرك في كل مجال لتضم العالم إليها في عملية صنع القوة من جديد على أساس إرادة الله.

إننا ننطلق من الواقع الحيّ الذي يتحرك ويرتبط بسنّة الكون، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً.. وربما كان علينا أن نتدبر هذه النقطة ونعيشها ونتمثلها من أجل أن نحوِّلها إلى حقيقةٍ واقعة في حياتنا المعاصرة ولو بعد حين.

[align=right]3ـ الروح الانفعالية:[/align]

إننا نلاحظ ـ ونحن ندرس أنفسنا من الداخل ـ أننا انفعاليون أمام الواقع، فقد نجد أننا نملك رصيداً كبيراً من الإيمان والمعرفة بعقيدة الإسلام وشريعته، ولكننا نخضع للأجواء الانفعالية الضاغطة التي تغرقنا في الحماسة المجنونة في أغلب الحالات.

أما السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع، فهو ما إذا كنا نطالب بإلغاء الانفعال من حياتنا، أو أن نتجه اتجاهاً آخر في طرح الفكرة بالتركيز على التخفيف منه أو التخطيط له، ولماذا؟

[align=right]وللجواب عن ذلك، نثير الموضوع في عدة نقاط:[/align]

1ـ إننا لا نمانع من وجهة نظر إسلامية أن يعيش الإنسان بعض الحالات الانفعالية، لأن الإنسان الذي لا ينفعل بالواقع، هو إنسان متجمد يظل مشدوداً للجو الفكري الفارغ من العاطفة، لأن الفكر ـ حالة كونه داخلياً ـ يتحرك في قوالب جامدة، فلا بد له من العاطفة التي تنفعل بالمضمون الفكري في هزة شعورية، من أجل أن يربط الفكرة بالشعور فيحوّلها إلى إيمان، لأنها إذا ابتعدت عن الشعور تحوَّلت إلى شيء محنَّط مدفون في داخل دماغ الإنسان. ولهذا، فإننا لا نرفض الانفعال كمبدأ أو كحالة طبيعية، بل كل ما عندنا هو أننا نرفض أن يكون الانفعال كل رصيدنا في مواجهة الواقع، فينطلق في حياتنا كأساس وحيد للتحرك من دون أي انطلاقة عقلانية تدرس الواقع في ظروفه الموضوعية المحيطة به.. ولعل هذا ما نعيشه في بعض خطواتنا العامة، عندما نواجه أوضاعاً قلقةً على صعيد الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية، في أجواء حادّة يغلب عليها طابع المأساة والتحدي في آن واحد، وعندما نعيش، في الوقت نفسه، اهتزازاً في الأمن والمواقف الأخرى المتصلة بالحياة العملية، وقد ترتفع ـ في هذا الجو ـ الصرخات العنيفة من داخل الذات والانفعالات المجنونة من خارجها، لتدعو إلى الانطلاق والتحرك لنخرج من حالة الجمود والسكون والترقب والخوف، فليس المهم ـ في هذا الجو ـ التفكير في نوعية الحركة، بل المهم أن نفعل شيئاً أيَّ شيء، أن نحارب، أن نجابه، أن نتحدى، أن ندمر الحياة من حولنا على رؤوسنا ورؤوس الآخرين.. وقد لا نمانع في صحة المبدأ من ناحية عامة، ولكن ربما كان علينا أن نناقش الفكرة في تفاصيلها وخطواتها لنثير الملاحظة التالية: إنَّ علينا ـ في مسيرتنا نحو الهدف ـ أن نحقِّق اتجاه الطريق الذي يوصلنا إلى هدفنا، ما يستدعي التوقف في بداياته لنحدِّد خطواتنا العملية في هذا الاتجاه، ولنفكر كيف نحمي هذه الخطوات من التحرك نحو متاهات الضياع.. وقد يكون من الطبيعي أن لا يحقق الانفعال شيئاً من ذلك بل قد تضيع العقبات في أسلوب مواجهة الأشياء، لأنه يربطنا بالهدف مباشرة في جوٍّ من الضباب الكثيف الذي يحجب عن أعيننا وضوح الرؤية، فنندفع في الفراغ من دون انتباه إلى طبيعة المراحل التي يجب أن نقطعها في الطريق إليه.

وقد نقترب من الفكرة بطريقة واقعية، إذا واجهنا الدعوات التي تصرخ بانفعال أمام واقع الانحراف أو واقع العدوّ الاستعماري والصهيوني، فقد نسمع كلمة الثورة، وكلمة الحرب، وصرخة العنف الداوية التي تهزُّ المشاعر والمنابر، وقد لا نكون بعيدين عن الإحساس بكل هذه المعاني التي تثيرها هذه الصرخات والكلمات، فنحن نحب زوال الكفر والانحراف من الوجود ونعمل له، ونتمنى إنهاء سيطرة الاستعمار والصهيونية على بلادنا، ونجاهد في سبيل ذلك، لأننا ـ كمسلمين ـ نعاني من الأزمات الروحية إزاء تحديات الواقع السياسي الذي يمس مواقع الإيمان والعزة والكرامة من حياتنا في الصميم.. ولكن قد يكون من الضروري أن نفكر في الخطوات العملية التي يمكن تحقيق الثورة من خلالها، وفي الوسائل العملية التي يمكن أن نستخدمها في حالة الحرب وفي الإمكانات المتوفرة لدينا على المستوى المادي والمعنوي، وفي الخلفيات السياسية والاقتصادية التي تختفي وراء الأحداث، وفي الظروف الموضوعية المتعلقة بالقضايا التي نواجهها بشكل عام، وفي قدرات العدوّ بالمقارنة مع قدراتنا، وفي الطريقة التي نستجمع بها طاقاتنا وننميها ونطورها في نطاق حركة المعركة.

ربما كان من الطبيعي أن نثير أمامنا هذه القضايا وغيرها مما يتصل بقضية النجاح والفشل في حركتنا نحو الهدف، لنواجه الموقف من موقع الوعي والقوة والمسؤولية، لا من موقع الجهل والضعف واللامبالاة.

2ـ إن هناك نقطة حيوية جداً، قد نغفل عن طبيعتها في غمرة الانفعال والحماس الروحي والسياسي، وهي: أننا نتحدث ـ غالباً ـ عن الموقف بصيغة الجمع المترابط الذي يمثل وحدة عضوية أو رابطة حقيقية، وذلك عندما نقول "نحن" و "أننا" وما أشبههما من الكلمات ذات المدلول الجمعي، ولكن هل فكرنا من هم "نحن" هؤلاء الذين نتحدث عنهم بهذه الصيغة، وما الذي يمثلونه من صفة دينية أو سياسية أو عنصرية؟ إن هذه الكلمة تمثل ـ فيما نعتقد ـ المجموعة من الناس التي تملك برنامجاً محدداً، لهدف محدد، وتملك الرؤية الواضحة لما حولها، وتحقق الترابط العضوي الذي يحدد لكل واحد موقعه ودوره في واجهة الصورة أو في داخلها أو في زواياها، فهل نملك في واقعنا مثل هذه ال "نحن" إن صحّ التعبير؟!

قد يكون السلب هو الجواب الصحيح في المسألة، لأن القضية لا تعدو في مجملها أن تفرض وجود أفراد يرتبطون بأفكار غائمة ومشاعر تنبض بأحلام ضبابية لا وضوح فيها ولا تحديد، أما فيما عدا ذلك، فلا تجد _غالباً ـ أيّ ارتباط بين فرد وفرد، أو بين مجموعة ومجموعة، فلكل واحد منا طريقته في التفكير، وفي فهم الواقع، وفي معرفته الوسائل والأهداف، ولكل واحد منا مزاجه الخاص في ممارسته لما يفكر فيه، أو في مواجهته لقضية المصير.

إننا نثير هذه الأفكار أو هذه التساؤلات، لنواجهها بأجوبة هادئة في هدوء الفكر ووعي الواقع، لئلا نعطي وجودنا الفعلي حجماً أكبر من حجمه، أو نمنح أنفسنا صفات لا نملكها، فإن خطورة ذلك كله أنه يجعل الأجواء العملية تتخبط في وهم كبير كاذب يتجه بها إلى هوة المجهول من غير شعور.

3ـ إن القضية التي نريد أن نثيرها بإيجاز في هذا الحديث، هي أننا نؤمن بالأهداف الكبيرة التي يجب أن نتوفر على الإيمان بها، على صعيد العقيدة أو الواقع المتعلق بالأرض وبالأمة.. وعلى كل الأصعدة التي يتحرك فيها الإنسان، ولكن الإيمان يفرض علينا ـ من موقع المسؤولية، الابتعاد عن اعتبار الانفعال كقوة وحيدة في اندفاعنا نحو الهدف، ويؤكد علينا الارتباط بالعقل الذي يخطط بهدوء، والإرادة التي تتحرك بوعي، والحركة التي تنفذ باتزان، لئلا نسير نحو هدف لا نملك الوسيلة إليه، فنظل نتطلع إلى مواقع الأهداف في أعالي القمم، كما يتطلع الحالمون إلى مواقع القمر والكواكب وهم يعيشون أحلام اليقظة في الوصول إليها دون جدوى. إن ما نريده هو أن لا نتحول إلى أناس يقعون صرعى عدم وضوح الرؤية، وعدم التخطيط الذي يربط البداية بالنهاية، لأن صرعة الاسترسال لا تستقال ـ كما يقول الإمام علي (ع) ـ بينما يمكن للإنسان الذي يتعثر أمام العقبات المفروضة أو التحديات المحسوبة أن يقوم من عثرته ليواصل السير من جديد.

[align=right]خاتمة المطاف:[/align]

إن هذه الملاحظات التي أثرناها في هذا الحديث، تدخل في طريقة بناء الشخصية الإنسانية الإسلامية، وفي طبيعة حركة العقيدة والحياة، لأن الإنسان يطبع الفكرة التي يؤمن بها والقضية التي يعمل لها بطابعه الشخصي، فإذا تحولنا إلى أناس "بكّائين"، فسيتحول الإسلام في وعينا إلى قضية تبكي على الواقع ويبكي عليها الواقع، بدلاً من أن يتحول إلى قوة تغير الواقع، تماماً كما حصل في موقفنا أمام قضية الثورة الحسينية في كربلاء، عندما نظرنا إليها من خلال شخصياتنا الباكية، فحوّلناها من قضية عظيمة تجسد أعلى مواقف التضحية في سبيل الإسلام، إلى قضية تثير الأسى والحزن وتستنـزف الدموع، وبذلك انطلقت العاطفة التي كانت وسيلة من وسائل تخليد القضية لتكون غاية وهدفاً نسعى إليه بدون فائدة.

أما إذا عشنا روح الخوف والانبهار بالواقع المنحرف، فإن الموقف سيتحوّل إلى انبهار بالانحراف الذي يبدأ بالبحث عن مبرراته الشرعية في ما يملك من وسائل التبرير، ما يفقد الإسلام شخصيته الحقيقية، ويفقد الإنسان المسلم توازنه الفكري والروحي، فيسقط صريعاً أمام الحرب النفسية التي يثيرها الآخرون ضده، أما الشخصية الانفعالية، فإنها تدفعك إلى الهوة في الوقت الذي تحسب فيه أنك تندفع صعداً في اتجاه القمة، لأنها تضيع عليك الفرصة للتمييز بين القمة والحضيض، فلا تملك خطواتك في اندفاعها نحو المصير المحتوم.

إنها القضايا التي أردنا أن نواجهها ـ كمسلمين ـ بوعيٍ ودراسةٍ وتفكيرٍ، لنضمن لأنفسنا سلامة العمل، ونضمن للحياة سلامة الأهداف.


--------------------------------------------------------------------------------

( * ) رغم إن هذا المقال، كتب في بداية انطلاقة الحركة الإسلامية التي أحدثت تغييرات هامة على مستوى بناء الشخصية الإسلامية وعلى مستوى الإنجازات السياسية والإجتماعية، إلا أن الكثير من ملامح الضعف في هذه الشخصية على الصعيد العالم لم يتغير، ما يبرر إعادة نشر هذا المقال وذلك لأهميته.