فاوست .. عندما يختفي الوجه في غابة المرايا


بقلم: الحسن مختار






تعتبر شخصية (الدكتور فاوست) واحدة من أبرز رموز الأدب الغربي الحديث والمعاصر فقد تم رسم بورتريه لهذه الشخصية اصطبغ لكل بلد ولكل حقبة بما يناسبهما, وطيلة القرون الخمسة الماضية اتخذ فاوست بطلاً لمئات القصص والحكايات الشعبية, كما قدم بطلاً على خشبة المسرح بأشكال مختلفة منذ مارلو وحتى جوته وبول فاليري, ومع مرور الوقت ترسخت الصورة حتى غدا فاوست شخصية نمطية ورمزاً (لحضارة الغرب, بكل أحلامها وانجازاتها وشرورها.


وغدا أيضاً في تاريخ الأدب والفن لوحة هوى كل فنان عليها بفرشاته وصبغها بألوانه, ليصبح بهذه الطريقة ظاهرة تستحق التأريخ والعودة الى جذورها, وذلك لأن فاوست كرمز أدبي وكفكرة يشبه من أوجه كثيرة كرة الثلج, لأنه كلما تدحرج الى الأمام مع التاريخ, ازداد حجمه, وبعدت حقيقته, وتحول الى اسطورة وحينما يتعلق الأمر بالأدب والابداع, يكون للأساطير معنى مميزاً, لأنها هي ملح الأدب, وسنرى أنها ملح التاريخ أيضاً, سواء بسواء.


الوجه والقناع


تذهب معظم الروايات المتعلقة بحكاية (الدكتور فاوست) الى انه شخصية حقيقية, تحولت بفعل ألسنة الرواة, ومكائد السرد, لتصبح اسطورة, وحين يؤمن الناس باستراتيجية الأساطير في تسمية الأشياء, تصبح من وجهة نظرهم حقائق, ويسهل عليها بالتالي أن تمارس ذلك الانتهاك الجميل للخط الوهمي الفاصل بين التاريخ والاسطورة, على نحو ما قدر لفاوست أن يكون كشخصية نمطية في الأدب الغربي الحديث والمعاصر, وكبطل من أبطال الميثولوجيا, وكقناع أخفى وجوها كثيرة على خشبة المسرح والتاريخ أيضاً.


ولد الدكتور فاوست في ورتمبرج بألمانيا حوالي 1480م وتوفي بستوفن سنة 1540م, وكان محدثا لبقاً ذكياً, مع أنه مشعوذ على قدر خارق من المعرفة بعلوم السحر والتنجيم, وقد سافر الى باريس وكراكوفيا للاستزادة غير انه بهر الجميع بطول يده في الطلسمات وقدرته على انجاز الخوارق, وكان الخيميائيون وقتها لا يزالون يبحثون عن (حجر الفلاسفة) الذي يحول الحجارة الى ذهب, وكان السحرة يمارسون دورا موازيا لدور العلماء والمفكرين, لكن أحدا منهم لم يصل الى درجة فاوست, الذي أصبح بسرعة مضرب مثال, ثم بطلا من أبطال الحكايات الشعبية في عموم أوروبا خلال القرن السادس عشر, فظهرت عشرات القصص عن خوارقه لتبتعد به الى عالم الخيال, كما هي الحال مع معظم أبطال الحكايات, يزيد كل راوٍ على شخصياتهم مسحة من خياله, حتى ينتهي الأمر إلى أن يصبحوا مرتعاً لجميع أنواع الممكنات والمستحيلات, ومتنفساً لمختلف الآمال والأحلام الجمعية.


بعد ان عاد الدكتور فاوست الى ورتمبرج غدا ساحرا عظيما, أبرم عقداً مع الشيطان, يجعل بموجبه قدراته السحرية غير محدودة, ويطلعه على أسرار وألغاز متعلقة بالمدينة والناس, على ألا يخالف هو للشيطان أمراً), وقد جاءت نتائج هذ الصفقة, كما يمكن أن نتوقع سريعة وفعالة, فقد تيسر للدكتور فاوست أن يسحر أعين الناس, وأن ينجر الكثير من الخوارق جعلت السحرة يذعنون له جميعا.


فقد (استحضر الاسكندر المقدوني أمام شارل الخامس, وأثار الضحك بخدعه, واصطحب ثلاثة أصدقاء نبلاء إلى الفضاء فوق ردائه, وابتز أموال بعضهم, وقام بألعاب سحرية بقصد تملق الآخرين, ودبر لأصدقائه طعاماً فاخراً, وجلسات خليعة, وملاهي الكرنفال, وأظهر (هيلين) الاسطورية أمام الطلبة, ووبخ قرويا, وبإشارة قتل ساحراً) وحين نصحه أحد الجيران بالتخلي عن السحر, ولان للنصيحة حضر الشيطان وأجبره على إبرام عقد إخلاص جديد, فعاد لغيه وزيف نفسه, وأسحاره وخدعه البصرية, مثل صرعه لبعض الحاضرين, وابتلاع النار وهنالك أمور مضحكة أخرى وحيل, وفي السنة الأخيرة من حياته أصبحت (هيلين) تلازمه, وأنجبت له ولدا, وفي آخرها تنازل فاوست عن أمواله وسحره لخادمه فاجنر, ثم غمره الفزع والهم حين فكر بقرب وفاته, فراح يشكو بألم تشيعه سخرية الشيطان, ثم يدعو أصدقاءه وطلابه لتناول الطعام, ويخبرهم بعقده وقرب وفاته, ويعبر لهم عن ندمه الشديد, وتمر ليلة رهيبة على الساحر, وفي الصباح يعثر على جثته ممزقة إرباً إرباً, ولايشك أحد في أن الشيطان هو من مزقها).


انتهى فاوست هذه النهاية المفجعة, ومات ميتة تليق بالأشرار, لكن مالم ينته, ما لم يمت هو الحكاية, فقد كان موته نقطة مولد شخصيته الأدبية, وبدأت تظهر عنه حكايات وسير شعبية منذ منتصف القرن السادس عشر, بعضها شفهي, والبعض الآخر مكتوب, وهي كثيرة يخطئوها العد, وقد نبه (هيل) الى الكثير منها في دراسة عن رواية (ولفانبوتل) لقصة فاوست الأصلية, ففي فرانكفورت ظهرت سنة 1987م, قصة مغفلة من ذكر اسم المؤلف بعنوان (قصة الدكتور فاوست الساحر المدهش) كما ازدهرت حكاياته في ألمانيا وأوروبا بعد الموقف المعادي الذي وقفته الكنيسة منه, لأن الناس وقتها كل ما هو ضد الكنيسة, فأصبح بذلك مطلوباً على مستوى الوعي الجمعي الصاعد وقتها, وهنا تكمن المفارقة, لأن فاوست الخارج من معتقدات القرون الوسطى, المخلص للسحر والشعوذة واللاعقلانية, يفترض ألا يكون له مكان في القرن السادس عشر الذي عرف بداية العقلانية الحديثة, وظهور العلم والفكر الحديثين, ما يعني إلغاء كل ما له علاقة بالعصر القديم.


وعلى العكس تماماً, عرفت هذه الشخصية رواجا منقطع النظير, ووصلت الأمور بالبعض إلى مقارنته بالساحر (سيمون) الشهير, وأكثر من ذلك قدر له اختراق حاجز الزمان والمكان معا, وفي وقت قياسي, فالأول نجده في مجموعة (حكايات أرفورت) المتعلقة بفاوست, حيث يجعله الراوي ساحراً في ليبزيج (يركب برميل خمر ضخم كما لو كان البرميل دابة, فيخرج به متدحرجاً من القبو, أمام حانة أويرباخ الشهيرة بليبزيغ), ووجه المفارقة الزمنية بينه ريسكه, الذي أثبت أن هذه الحانة لم تبن طيلة حياة فاوست, ولا حتى أثناء القرن الذي عاش بدايته, أما اختراقه للمكان فكان ايضا سريعا حيث خرج من حدود ألمانيا, فقد كان موضوعا لأعمال كثيرة في انجلترا كان من أبرزها كتاب ظهر بلندن سنة 1588م عنوانه (اسطورة شعرية: حياة وموت الدكتور فاوستوس الساحر العجيب).


كما ظهرت ترجمة توصف بالأصالة لحكاية فاوست الشعبية الألمانية, ومن هذه الترجمة استلهم الشاعر الانجليزي كريستوفر مارلو مسرحيته (القصة المفجعة للدكتور فاوستوس) التي مثلت لأول مرة ما بين سنتي 89 ــ 1592م وهي من خمسة فصول, ومارلو يستحق وقفة خاصة, لأنه شاعر حالم, وكاتب مفعم بالعواطف الجامحة التي جعلته ينتج فاوستا خاصا به, سوداوي المزاج, منقادا وراء أحلام غير متحققة, ونزوات متقلبة, تماما مثل مارلو نفسه, ومثل معظم شخوص مسرحياته (يهودي مالطة) و(ادوارد الثاني) و(مذبحة برتلمي في باريس) وآخرها مسرحيته هذه (فاوست).





لقد كان كريستوفر مارلو أحد أصدقاء شكسبير ومعاصريه الذين طويت روائعهم في مجاهل النسيان, وكانت موضوعات مسرحه قريبة بعض الشيء من نظيرتها عند شكسبير, إلا انه مات مبكرا سنة 1593م في احدى الحانات بعد أن طعن بخنجره اثر مشادة بينه وصديقه انجرام, حول من يدفع الحساب, وقد أصر كل منهما أن يكون الدافع, وكانت هذه القتلة الشنيعة موضوع فضول واهتمام الباحثين أكثر من اهتمامهم بمسرح مارلو الراقي, المعبر بصدق عن روح العصر الأليزبتي, وهي روح يمكن الحفر عنها في طبيعة بطله (فاوست) الذي هو (عاشق هائم بالجمال المثالي) بهلين كما كان في وسع شاعر من عصر النهضة أن يتصورها, ويتغنى بها, مستوحيا الملاحم والأساطير اليونانية القديمة), واستعادة هيلين من أساطير طروادة, والإشارة الى هو ميروس والاسكندر, كلها تعبر عن ايمان مارلو بأن عصره كان يتخذ الاغريق مثلاً أعلى, ويسير على طريقتهم في عبادة الجمال.


وهكذا نجد فاوست مارلو (شخصية مادية لا تتورع عن الانغماس في الشهوات والاستهتار حتى في العالم الروحي كأن يلطم البابا على وجهه, وكأن يصر على التأكد من شخصية هيلين بشامة في ظهرها, ثم تلك القسوة التي قطع بها الشياطين جسد فاوست بعكس ما سيفعله جوته, كل ذلك لأن العصر الأليزبتي تميز ببشاعة الانتقام, والعواطف المهلكة, والتعطش لسفك الدم, وسحق الخصوم, والتخبط في حمامات الدماء والصراع الديني والطائفي.


فاوست جوته


وخلال القرنين السابع والثامن عشر ظلت شخصية فاوست تعرف رواجا أدبياً, فاتخذت موضوعا لقصص وحكايا كثيرة, كما أصبحت خاصة موضوعا أثير لدى مسرح العرائس, وفي كل مجتمع أوروبي كانت تتلون بثقافته, وتصطبغ بسحنته, إلى أن جاءت (جماعة العاصفة والاندفاع) مع مطلع القرن التاسع عشر مبشرة بالعصر الرومانسي وقيمه الجمالية, فآثرت استلهام تقاليد شكبير.


وكان من أبرز الداعين لمسرحه الشعري لسنج أستاذ جوته الروحي, الذي صرح في الرسالة السابعة عشرة من كتابه (فن المسرح في هامبورج) بأن شخصية فاوست لايمكن تجسيدها إلا عن طريق مسرح شكسبير الشعري, لأنه فضاء غير محدود, يمكن أن يتصارع فيه الخير والشر, ميفيستو (الشيطان) والملاك (ايتورييل) وعلى خطوات لسنج سار فريدريش موللر المعروف باسم (موللر مالر) وهو ايضا من الجماعة نفسها الى ان جاء يوهان جوته ضمن الجيل الثاني من (جماعة العاصفة) ففهم شخصية الدكتور فاوست, وقولبها في مسرحية شعرية, من جزئين, غطت على جميع ما قبلها كعادة أي مبدع كبير حين يمد جناحيه على الكون ويغني فكيف كل مغن سواه.


ومسرحية (فاوست) لجوته تستحق أيضاً وقفة خاصة, فقد كتبها طيلة عقود عديدة كان يضيف اليها في كل مرة شيئاً, حتى صدرت في خمسة فصول سنة 1808م, والفصول متفاوتة الطول تتعرض فيها مأساة فاوست من خلال ما يتجاذبه من عواطف وقيم بين ميفيستو الشيطان وعالم الحق والخير, ومحاولته الفكاك من ثلاث مآس متقاطعة الخيوط, أولها (مأساة الرجل العالم) حيث ان فاوست بعد أن سئم العلم اتجه الى السحر, وقد أثبت جدارته, فبه (استحضر روح الأرض) كما أقنع تلميذه فاجنر ثم بقية الناس بخوارقه, وأيضاً مأساة الحب العاصف الذي لا يعرف المنطق ولا القيم, وأخيراً مأساة الوجود الانساني بصفة عامة.


إن فاوست جوته في قرارة نفسه ممزق بين عالمين متناقضين هما قوى الخير والقيم والايمان من جهة ومن جهة ثانية, قوى الشر ممثلة في الشيطان ميفيستو والرغبات والشهوة, وكما يمكن أن نتوقع, يميل جوته ببطله الى الشهوات الآنية, وإلى أن يرجح الطرف الثاني في الرهان دون الإعلان عن أنه الطرف الشرير, لأن أحكام القيمة هنا غير محسومة بالنسبة له لصالح أي طرف كان, ولذا كان العاجل الملموس يبدو طافحاً على السطح أكثر من أي شيء آخر, وابتداء من اهداء المسرحية, الذي جاء في شكل قصيدة تسبق المقدمة, أما المقدمة نفسها (فهي عبارة عن حوار يتناول مصاعب المسرح, يدور بين الشاعر والمخرج المسرحي والمهرج.


وتبدأ المسرحية بتمهيد أيضاً تدور أحداثه في السماء, حيث نجد المخلوقات العلوية تتغنى بجمال العالم والوجود, ونجد الشيطان ميفيستو ينكي هذا الجمال بشدة, ويسخر من البشر ويعير فاوست بجشعه, ويؤذن للشيطان بإغواء فاوست), وبسرعة ينقاد له ولشروره, وتزداد مأساته, وينغمس في الرذائل وتتوالى المشاهد, وحين يصل مرحلة اليأس من العالم والحياة يتدخل منفستو ويعرض عليه توقيع عقد معه, ومن ثم يأخذ بيده الى (مباهج الحياة الحقيقية) ويستمر الاغواء حين يستقبل الشيطان ميفيستو أحد الطلبة وينصحه لجميع أنواع الرذائل ويؤكد عليه أن يستمع إلى نصائحه كما فعل فاوست, وينغمس الاثنان فيما نصح به الشيطان, ففي (حانة أويرباخ بليبزيج تسمع بعض الأغاني يرافقها رقص رخيص مبتذل وجلسة عربدة ماجنة, ويبقى فاوست أثناء ذلك صامتا, ولكن ميفيستو ينخرط في أداء (أغنية البرغوث) ويملأ الأقداح, وفجأة يشل حركة الحاضرين, ويسقطهم صرعى للدلالة على قدراته الخارقة).


ثم يبدأ شبح هيلين الجميلة يطارد فاوست, كما يشغله خاصة مصير مارجريريت, ويوبخ ميفيستو لأنه أخفى عنه حقيقتها, ومع تقدم السن به يحاول فاوست أن يثوب لرشده إذ نجده في الفصل الخامس يؤنب أيضاً ميفيستو وثلاثة من جنوده ويعيرهم بما جمعوه من أموال وخيرات دنيوية من القرصنة والاحتيال, وفي تلك اللحظة بالذات نراه هو يقدم على نفس الرذيلة متمنياً الحصول على بيت فيلمون بنفس الطريقة ويستعين بالشيطان لتحقيق غايته.


وفي النهاية يسقط فاوست ويأتي ميفيستو وأتباعه من الأشرار لأخذ روحه لكن المخلوقات العلوية الخيرة تسبقه اليها وترفع روحه عاليا الى عالم الخير (فوق العالم وبين الخيرين الذي يتغنون بالحب الأسمى وفي عالم السماء) وهذه النهاية السعيدة هي واحدة من أكثر عناصر مسرحية جوته, لأنها تقدم لأول مرة نهاية ايجابية لهذه الشخصية التي جرت العادة على اعتبارها رمز الشر والسحر ومثالا لمن باع نفسه للشيطان وتخلى عن الفضائل لينال خسيس الرذائل, واستعاض عن الجواهر بالأعراض, وعن الحقيقة بزيف النفس وفسادها وفنائها الشهواني الخسيس.


وهذه الرؤية المتفائلة الايجابية كانت تحمل ايضا إعلانا من جوته عن قيمه الشخصية, خاصة إذا تذكرنا أن حياته هو نفسه تشبه من أوجه كثيرة حياة فاوست كما رآها ورواها, وهي على النقيض تماماً من رؤية سابقيه خاصة مارلو الذي كانت نهاية فاوست في مسرحيته بأيدي الشياطين ومصيره في العالم السفلي الشرير.


أما الجزء الثاني من فاوست عند جوته فكان فلسفياً عميقاً وأقل رومانسية من الجزء الأول, وقد جرت العادة لدى مؤرخي الأدب على الاهتمام بالجزء الأول فقط, في حين كان الثاني أكثر الفاتا لمؤرخي الأفكار والمهتمين بتقاليد الفلسفة الألمانية المثالية خاصة.


روح العصر


تطرح إذن مسرحية (فاوست) مسألة الصراع الأبدي بين الخير والشر, وتقف منتشية أمام مستويات الجمال في الذات الانسانية وفي العالم, ومثلما كان عرض مارلو معبرا عن روح العصر الاليزبتي, كان عرض جوته معبرا عن روح العصر الرومانسي بفنائه الفني في الجمال والحب, وتغنيه الحر بالحرية والتطلع والانطلاق, ولنتذكر ان هذا العصر هو الذي أنجب بايرون وشيلي وشاتوبريان وشيلر وهاينة وشوبنهاور وبيتهوفن وغيرهم من الرومانسيين. إن فاوست العصر الرومانسي يعبر عن تطلعات الطبقة البورجوازية الصاعدة مطلع القرن التاسع عشر بعيد الثورة الفرنسية, وهي تطلعات لا حدود لها وآخرها التعلق الشديد بالحياة الدنيوية وشهواتها, والنظر الى التاريخ باعتباره عصرا ذهبيا يتم انجازه بيد الناس, ثم الالتفات الى المستقبل وقطع الصلة بالماضي التاريخي القديم, في نظرة بارادوغمية كشفها بما فيه الكفاية ماكس فيبر في كتابه (البروتستانتية والأخلاق الرأسمالية) حين برهن على أن مفهوم (العصر الذهبي) ظل في العقلية الغربية منسوبا الى حقبة من الماضي بعينها حتى ازدهار الرومانسية, والقيم البورجوازية, فأصبح البحث عن (عصر ذهبي) متجها دوما الى المستقبل منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.


إلا ان جوته خاصة لا يقطع الصلة بـ (العصر الذهبي) القديم, بل نجده يستحضره في مسرحيته, حين ربط بين قيم عصره وقيم الاغريق, القدامى, ورمز الى ذلك بزواج فاوست من هيلين, وبأنهما أنجبا طفلا اسمه بوفوريون كان يرمز به هو أيضاً الى (مولد الشعر الحديث بجموحه وشطحاته التي كان بايرون خير مثال عليها حسب جوته المفتون بشعره) والذي استلهم مضامينه في مسرحه الشعري وعكس قيمه المشبوبة بالانفعالات وعواصف العواطف المعتملة في ثنايا وطوايا النفس الانسانية وفي صميم الحياة باعتبارها قفزة مجازفة في المجهول والممكن, لتحويل ما هو موجود في هذا العالم إلى ما هر مرغوب, وهذا هو سر المغامرة والاندفاع في العصر الرومانسي الذي هو عصر فاوست جوته بامتياز.


وخلال القرن التاسع عشر ظل تأثير جوته متعاظما في تقديمه لشخصية فاوست النمطية, حتى جاء مال فاليري وكتب مسرحية أخرى عن فاوست تعكس قيم النصف الأول من القرن العشرين وذلك لأن فاليري عاش حربين عالميتين في جيل واحد, ورأى أهوالا وشرورا تفوق كل وصف, وشهد على نهاية الحلم الرومانسي وظهور الواقعية في الأدب, والسيزيفية في الواقع, وأيضا تعاظم دور الوضعية والعلم, وأكثر من ذلك قدر له كمعاصريه أن يتلقى صدمات القرن العشرين الثلاث (الداروينية, والماركسية, والفرويدية) لذا جاء فاوست مختلفا عن سابقيه مقلم الأظافر في جموحه, وأكثر استسلاماً للواقع وتصالحا معه.


وبعبارة أكثر ايجاز لقد كان فاوست القرن العشرين معبرا أكثر عن شخصية انسان هذا القرن رازحا تحت سلطة الحتميات العلمية والايديولوجية مسلوب الأمل, غامض المصير, ضائعا في نقطة ما بين مالا نهاية في الكبر كالكواكب والمجرات, واللا نهاية في الصغر كالذرة والخلية وغيرهما, ولهذا حاول شاعر عظيم مثل بول فاليري أن يصف أدواءه, وأن يتلمس آلامه, في مسرحية تعبر عنها العبارة (أنا الانسان انا اللا شيء) تنذر بنهاية الانسان واختفائه كما يختفي وجه مرسوم فوق الرمل المبلل على حافة البحر.