تاريخ التعليم في العراق في العهدين العثماني والملكي..
د. اسماعيل نوري الربيعي
التعليم في العهد العثماني
احتلت المدارس الدينية أهمية ورعاية من بعض الولاة ، فخلال حكم آل الجليلي في الموصل ( 1726-1824) برز الاهتمام ، إلا أن الظاهرة البارزة في الحياة التعليمية في العراق والتي بقيت ملازمة له حتى النصف الأول من القرن العشرين ، هي انتشار الكتاتيب ، والتي تستند إلى تعليم الصغار بعض آيات من سور الكتاب الحكيم ، بطريقة " التهجأة " وغالباً ما يعمد الملا إلى استخدام القوة والعقوبات الشديدة مع التلاميذ الصغار ، ولم تكن تلك الطريقة عملية بالمرة ، حتى أن التلاميذ كانوا يحفظون عن ظهر قلب ليس إلا أما القراءة والكتابة فكانت عملية تكاد تكون مستحيلة عليهم لتخلف الطريقة وإبقائها على النهج القديم دون عناية أو تطوير .
بقيت أحوال التعليم تعاني من الركود وضعف المستوى إلا أن قدوم الوالي مدحت باشا حرك الأوضاع من خلال الإجراءات الإصلاحية التي نشط بها في مختلف مرافق الحياة العامة .
وكانت للتعليم وإفتتاح المدارس الحديثة حصة وافية منها إلا أنه من المفيد الإشارة إلى أن العراق قد شهد ظهور المدارس التي تعتمد الأسس الحديثة بالنسبة للأقليات الدينية حيث ظهرت مدرسة الآباء الكرمليين عام 1721 والمدرسة الكلدانية عام 1843 ، ومدارس الاتحاد الإسرائيلي 1865.وأقدم مدحت باشا على افتتاح أربع مدارس : المدرسة الرشدية المدنية ، والمدرسة الرشدية العسكرية ، والمدرسة الإعدادية العسكرية ، ومدرسة الفنون والصنائع ، واعتمدت هذه المدارس التركية لغة رسمية لها ، وقد تلقى طلبة المدرسة الرشدية العسكرية تدريباتهم في مواد متنوعة ، حفلت بالغزارة والجدية ، مثل الجغرافية والتاريخ والحساب والخط واللغات الأجنبية ، وكانت المدرسة الأولى التي تم تأسيسها عام 1869 المدرسة الرشدية العسكرية ، والتي تم فيها استقبال الطلبة الذين أنهوا تعليمهم في الكتاتيب، وكان من الطبيعي أن تحظى تلك المدرسة بإقبال واسع من قبل الطلبة ، لا سيما وأنها تتجه نحو تخريج ضباط عراقيين ، وما يمكن أن يناله المتخرج من مكانة أجتماعية وفرصة وظيفية مميزة تكفل له التدرج والتفوق في مجال ، ينال الاحترام والتقدير من جميع الفئات الاجتماعية ، ونتيجة لنجاح التجربة ، عمد إلى تعميمها في مدن العراق الأخرى حيث شهدت مدينة كركوك إفتتاح مدرسة رشدية عسكرية عام 1870، تم فيها قبول ثمانين طالباً ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل التوسع والاهتمام،بتطوير تلك المدارس ، وإفتتاح مدارس بمستوى أرفع ، حيث تم إفتتاح مكتب إعدادي رشدي عام 1871 ، لإعداد الطلبة المتخرجين منه للدخول في الكلية العسكرية في استنابول وقد بلغ عدد المقبولين في تلك المدرسة خمسة وعشرين طالباً،ولم يقف الأمر عند الاهتمام بإفتتاح المدارس العسكرية بل تم إفتتاح مدرسة رشدية مدنية عام 1870، الغاية منها الحصول على موظفين إداريين ، إلا أن الإقبال على تلك المدرسة لم يكن بمستوى الاتجاه نحو المدارس العسكرية ، حيث اصطدمت بعدة عوائق كان أبرزها ، لغة الدراسة التركية ، وعدم ثقة العراقيين بالجهاز التركي الإداري ، حيث لم يعتقد الجمهور بأن المتخرجين من تلك المدرسة سوف ينالون فرصاً متساوية أو متناسبة في التعيين، حيث تسود المحسوبية والوجاهة على حساب الكفاءة وعلى هذا تعرض التعليم المدني في العراق إلى ضربة في الصميم ، حتى أنه بقي متخلفاً عن مستوى التعليم في الولايات العثمانية الأخرى.
وللحصول على الأيدي الفنية الماهرة والمدربة التي كان يشكو العراق النقص الواضح فيها ، تم إفتتاح مدرسة الصنائع عام 1869 حيث قبل فيها مائة وأربعة وأربعون طالباً ، أغلبهم من الأيتام والفقراء ، مما كان له أبلغ الأثر في إحجام الفئات الاجتماعية الأخرى من إنخراط أبنائهم في تلك المدارس وكانت أبرز أقسام المدرسة هي البرادة والحدادة والخراطة والسباكة والنجارة والخياطة وصناعة الأحذية بالإضافة إلى تعليمهم دروس في التاريخ والرياضيات والرسم الميكانيكي والدين واللغات الأجنبية ، وقد اعتمدت المدرسة في تدريب طلبتها على الحرفيين ذوي الخبرة والمهارة من أبناء البلد ، وعلى الرغم من العناية التي نالها التعليم خلال ولاية مدحت باشا وإفتتاح عدد من المدارس إلا أن التعليم الابتدائي عانى من الإهمال مما كان له صداه العميق لدى الجمهور الذي طالب بضرورة العناية بالتعليم الابتدائي الذي يمثل الأساس الذي ينطلق منه الطالب لتلقي العلوم والمعارف المختلة ، وقد بقي هذا الصنف من التعليم يعاني من الإهمال حتى عام 1889 ، حيث شرعت الحكومة بتأسيس أربع مدارس ابتدائية هي الحميدية ، جديد حسن باشا ، العثمانية ، الكرخ .
الفترة الدستورية
بغداد في العصر العثماني
انطلاقات الوعي الذي ساد بعد بروز الحياة الدستورية وانتشار مفاهيم الإصلاح والتغيير ، برزت المطالبة بضرورة العناية بقطاع التعليم ، لا سيما وان المجتمع بدأ يعي جدوى التعليم وأهمية انخراط أبنائه في المدارس للحصول على مستقبل أفضل ، حتى أن أفتتاح المدارس كانت مناسبة تحظى برعاية واهتمام الوجهاء والولادة، فخلال افتتاح كلية العراق الإسلامية "كلية الأعظمية"في شهر حزيران 1911 ، نظمت حفلة كبيرة وصفتها مجلة لغة العرب :" وكان قد حضر حفلة ترقيتها جمع غفير من أكابر البلدة ورجالها الأماثل من عسكريين وملكيين ومدنيين" .. وعلى الرغم من كل الملاحظات التي يمكن أن تؤشر على نظام التعليم العثماني ، إلا أن كل التطورات التي برزت في العهد الدستوري ، لم تكن لتحيد عن القانون الذي أصدرته الدولة العثمانية ، والذي أطلقت عليه قانون المعارف العام " معارف عمومية نظامنامة سي " في 20 أيلول 1869 والاستناد عليه في تنظيم شؤون المعارف في الدولة العثمانية وعلى مختلف المراحل الدراسية ابتدائي ، رشدي ، إعدادي.
ولحرص جمعية الاتحاد والترقي على إقناع الجميع بأن حالة التحديث والتوجه نحو الإصلاح في مختلف القطاعات أشارت في شهر أيلول 1909 إلى أن نصيب التعليم سيحظى برعاية واهتمام كبيرين على اعتبار أنه الركيزة التي يمكن أن يتم من خلالها ، توثيق عرى التعاون والاتحاد مع مختلف الأقوام التي تعيش تحت كنف الدولة العثمانية .
حفزت الأوضاع الجديدة حماس الوجهاء وأصحاب الأموال للتبرع بالمال بغية تأسيس المدارس ، حيث تبرع أهالي الهويدر من قرى بغداد بمبلغ 7715 قرشاً ، لتأسيس مكتب أهالي يساهم في تعليم أبنائهم العلوم والمعارف ، أما الإنجازات الحكومية فقد برزت في حيز العمل حيث أقدم مجلس المعارف في الأستانة على تقديم الأموال لتأسيس المدارس ودور العلم، إذ تم رصد مبلغ 10.600 ليرة لتأسيس دار المعلمين في بغداد والتي أحتفل بوضع حجر الأساس لها في 8 كانون الأول 1911 فيما تم إنفاق 35 ألف قرش على طلبة المكتب الإعدادي الملكي في بغداد .
أن المناخ الدستوري الذي حاول الاتحاديون إشاعته ، جعل من مجلس المبعوثان منبراً للتصريح عن المطالب ، حيث عمد بعض النواب العراقيين إلى المطالبة بوجوب العناية بإفتتاح المدارس والأهتمام بأوضاع الطلبة . فيما دعت الصحف إلى ضرورة الالتفات إلى اللغة العربية وأهمية أن تكون اللغة الرسمية في التدريس ، وعبرت بحنق إلى العقبات التي تضعها بعض العناصر الرجعية ،بإشارتها إلى الإعاقة التي تعرض لها برنامج مدرسة الأعظمية العالية ، وضياع الجهود التي بذلها نعمان أفندي الأعظمي صاحب مجلة (تنوير الأفكار) ، حيث قالت مجلة لغة العرب : " خفافيش العلم ووطاويطه وأعداء النور والعمران والوطن أخذوا يفتلون في الذورة والغارب"، ولم تقف العقبات التي واجهها التعليم في العهد الدستوري ، على مواقف العناصر المحافظة بل أن السلطة العثمانية ممثلة بالوالي جمال بك حاولت فرض نفسها على سير المعارف ، الذي راح يبذل الجهود الحثيثة نحو إغلاق "مدرسة الحقوق " ، التي تأسست في بغداد عام 1908إلا أنه عدل عن فكرته تلك ، حين وجد التيار العربي القومي الذي رفض الإلغاء وأصر على استمرار المدرسة .
يقدم " ناجي شوكت"رئيس وزراء الحكومة العراقية الأسبق وصفاً للأوضاع الدراسية أبان العهد الدستوري مشيراً إلى أن مدة الدراسة الابتدائية كانت ثلاث سنوات ، أما مدة الدراسة في الإعدادي الملكي فهي سبع سنوات ، منها ثلاث سنوات للرشدية وسنتان للإعدادي الأول وسنتان للإعدادي الثاني ، وكيف أن الطلبة قد فهموا معنى "المشروطية" بالتمرد على الأنظمة وعدم الألتزام بها ، حين بادروا إلى تنظيم مظاهرة داخل المدرسة طالبوا فيها بإقصاء المعاون الأول لمدير المدرسة من منصبه ، والواقع ان التعليم كانت له خصوصيته ، الشديدة الاحترام في نفسية المجتمع العراقي ، إذ كان ينظر للطالب باحترام تقدير ، حتى أن الطلبة المسافرين لإنهاء علومهم في الاستانة ، كانوا يودعون بمراسيم احتفالية إذ أشارت جريدة " صدى بابل " :"سافر طلبة المكتب الإعدادي العسكري من مدينة دار السلام إلى العاصمة لإنهاء دروسهم ، شيعتهم ثلة من العسكر وجمع غفير من الأهالي إلى ظاهر المدينة تتقدمهم الموسيقى ، وكان للطلاب دور واضح على الصعيد الاجتماعي ، لا سيما في مجال مساعدة العوائل المعوزة والأيتام ، فعلى سبيل المثال قامت مدرسة الإمام الأعظم ومدرسة التربية الإسلامية بعقد اجتماع شعبي من أجل جمع التبرعات المالية لمساعدة الأيتام والأرامل .
اهتبل المنورون العراقيون الفسحة التي منحتها إياهم الفترة الدستورية فعمدوا إلى تأسيس مدارس حديثة ، وضعت في مناهجها التركيز على التراث العربي واستخدام اللغة العربية في التدريس . حيث عمد سليمان فيضي إلى تأسيس مدرسة "تذكار الحرية" في مدينة البصرة في 27 تشرين ثاني 1908، فيما عمدت مجموعة من مثقفي بغداد منهم جعفر أبو التمن ورؤوف القطان ومهدي الخياط وعلي البازركان إلى تأسيس مدرسة الترقي الجعفري في 12 كانون الأول 1908.وقد ركز المشرفون على سير التدريسات فيها على أهمية فتح الآفاق وتوسيع مجالات الإطلاع بالنسبة للناشئة على العلوم الحديثة واللغات الأجنبية ليتسنى لهم الانصهار في بوتقة المتغيرات التي كانت تبرز بقوة.
معاهد التعليم الرسمية في العراق أبان العهد العثماني أوائل الحرب العالمية الأولى
التعليم في العهد الملكي
فترةالاحتلال البريطاني
كان البريطانيون يعون جيداً تخلف المعارف وركود فعالياتها إذا ما قيست بأوضاع التعليم في بلاد الشام ، وعليه عملت الإدارة البريطانية على فتح عدد من المدارس في المدن البارزة ، بالإضافة إلى التحسينات الطفيفة التي ظهرت في العناية بالتدريسات ، لا سيما ما نالته مدرسة الحقوق حيث جعلت لغة التدريس الرسمية العربية بدلاً من التركية ، ولمواجهة النقص في عدد المعلمين ، تم استقدام عدد من المعلمين العرب من مصر وبلاد الشام ونتيجة لإرتباك أوضاع التعليم ، فإن الإدارة البريطانية عمدت إلى الاستفادة من نظام التعليم المصري ، ونقله إلى العراق للعمل به ، حيث تعرضت أوضاع التعليم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى إلى الإرتباك والتوقف بسبب الأعمال الحربية ، وكان لدخول القوات البريطانية عام 1917 لبغداد الأثر في إعادة انتظام التدريسات وقد شمل هذا الأثر مختلف المدارس مع تحديد الصلاحيات للجهات المسؤولة عن إدارة شؤون تلك المدارس فعلى سبيل المثال تم استئناف الدراسة في كلية الإمام الأعظم وهي كلية دينية في العام 1917 مع ربط شؤونها بدائرة الأوقاف .
وقد واجهت دائرة المعارف معوقات وصعوبات بالغة تمثلت في قلة المعلمين وصعوبة الحصول على الكتب المنهجية التي انقطع طريق وصولها من بيروت بسبب ظروف الحرب ، ليكون الاتجاه نحو مصر للحصول على الكتب ، وتوجهت الإدارة نحو العناية بالأبنية المدرسة ، مع استقبال تبرعات الوجهاء وتشجيعها ، إلا أن هذا النشاط كان محدوداً وضئيلاً حتى أن مناطق عديدة من العراق بقيت من دون مدارس فيما أعلن العديد من السكان عن عدم استعدادهم لدفع الأموال من جيوبهم من أجل بناء المدارس ، وكانت الإدارة البريطانية قد حرصت على تجميل صورتها من خلال التوسع في فتح المدارس ، مع الأخذ بنظر الأعتبار أهمية هذا العمل بالنسبة للمناطق الرئيسية بالإضافة إلى محاولة تجاوز الأخطاء التي وقعوا فيها في الهند التي أهملوا فيها إنشاء المدارس الثانوية ، وكانت المناهج الدراسية التي تم اعتمادها في المدارس الابتدائية قد ركزت على المواضيع ، القراءة ، الكتابة ، الحساب، الجغرافية ، التاريخ،قراءة القرآن وعلوم الدين واللغة الإنكليزية وكان الانطباع السائد بأن التعليم لا يعني سوى القراءة والكتابة وعلى هذا فان اغلب المدارس بقيت تتخبط في الفوضى التي كانت سائدة أبان العهد العثماني ، وعلى الرغم من توجه سلطات الأحتلال لإقرار رؤاها التربوية ، وفرضها على أبناء العراق ، إلا أن عدداً من المنتفعين حاولوا تزييف الأوضاع بدعوى حرص المعارف البريطانية وفضلها في تعليم اللغة العربية وتقديم العون المالي للمدارس ، فيما تابعت الصحافة العراقية أنشطة مديرية المعارف التي كانت تتم ببطء شديد ، بالإضافة إلى رصد الأنشطة والفعاليات لإدارة المدارس حول تشجيع طلبتها .
تميز أسلوب الإدارة الاحتلالية في مجال المعارف ، على عدم الإندفاع نحو التوسع في إفتتاح مدارس جديدة ، انطلاقاً من النقص الواضح في عدد المعلمين والواقع أن هذا الأسلوب ميز طريقة تعاملهم ، أبان فترة الاحتلال الأولى ، حيث بسطت القوات البريطانية نفوذها على البصرة والمناطق الجنوبية خلال سنوات 1914-1917 وكان التوجه نحو إعداد الكوادر التي يمكن الاستفادة منها في الوظائف التي تتطلبها إدارة الاحتلال .
لم تستطع إدارة الاحتلال بعد دخولها بغداد في11 آذار 1917 ممارسة أسلوبها السابق في المنطقة الجنوبية لاسيما وأن الفئة المثقفة ، كانت تمارس ضغوطها وتعلن عن إرادتها والمتلخصة بضرورة العناية بإفتتاح المدارس .مما حمل القوات البريطانية إلى إفتتاح دار المعلمين في بغداد ، حيث كان القرار أن يكون التدريس فيها على شكل دورات سريعة مدتها ثلاثة أشهر ، ومن أجل مواجهة الأصوات المعارضة قررت السلطات البريطانية الإعلان عن مجلس المعارف ، الذي دعا له كل من محمود شكري الآلوسي ، وعلي الآلوسي ، وجميل صدقي الزهاوي والأب أنستاس ماري الكرملي وحمدي بابان وحتى أيلول 1918 بلغ عدد المدارس الأولية والابتدائية 28 مدرسة بلغ عددها في بغداد 19 أما في البصرة فكانت تسع مدارس.
وعت القوى الوطنية لأهمية المدارس ودورها الفاعل في إيقاظ الشعور الوطني حتى كانت المدرسة الأهلية في بغداد التي تأسست عام 1919 ، مقراً لأغلب أعضاء جمعية حرس الاستقلال ، ولم تختلف عن أداء هذا الدور المدرسة الجعفرية التي حرصت على إثارة المشاعر الوطنية ونبهت إلى ضرورة رفض الاحتلال والمطالبة بالحرية والاستقلال من خلال نشاط طلبتها .
ويضع ساطع الحصري وصفاً للأسس التنظيمية التي قامت عليها المدارس أبان دور الاحتلال العثماني 1917-1921 مشيراً إلى أن مدة الدراسة في المدارس الأولية أربع سنوات لا يتم فيها تدريس اللغة الإنكليزية ، أما المدارس الابتدائية فمدة الدراسة فيها أربع سنوات يتقدمها سنتان أوليتان ،ويبدأ التعليم باللغة الإنكليزية من الصف الأول الأبتدائي .
أثر التعليم في تكوين الفكر السياسي
كان التقرير الصادر عن حالة المعارف في العراق لسنة 1922-1923 قد أشار إلى أن عدد المدارس سنة 1920-1921 ، قد بلغ ثماني وثمانين مدرسة فقط ، وكان عدد المعلمين فيها أربعمائة وستة وثمانين ، أما عدد الطلاب فيها فقد بلغ ثمانية آلاف وواحد .وقد مثلت هذه الإحصائية عموم القطر ، عدا السليمانية ، وقد تطلعت وزارة المعارف في سياستها التعليمية إلى التمييز بين المدارس الأولية والابتدائية ، حيث حاولت تعميم تجربة المدارس الأولية التي تشابه طريقة تدريس "الملا" في القرى الصغيرة ، حيث حددت مدة الدراسة فيها بأربع سنوات . ويتم تدريس مواد اللغة العربية والقراءة والكتابة والحساب والدين ، مع إمكانية إضافة مواد التاريخ والجغرافية وعلم الطبيعة .ولم يحبذ القائمون على شؤون المعارف تدريس اللغة الإنكليزية فيها .وكانت وجهة نظر الوزارة قد ركزت على ضرورة تدريس العلوم الدينية للطلبة ، لاعتبارات تتعلق بفقر البيئة الثقافي ، لا سيما وأن أغلب الأمهات يعانين من الأمية مما ينعكس أثره على نشوء الطفل .وكان الطموح يتمثل في الإرتقاء بالمدارس الأولية إلى مستوى المدارس الأبتدائية ، حيث قرن المشرفون بحصول الإناث على التعليم ، ليكن قادرات على تقديم المعلومات لأبنائهن ، مما يجعل الحاجة إلى تلك المدارس منتفية .أما والحال التي عليها المرأة العراقية من جهل مطبق بالقراءة والكتابة والمعلومات العامة فأن المدارس الابتدائية الحقيقية هي في الوقت الحاضر من الكماليات في القرى الصغيرة.
لقد تم الإبقاء على الدورة الدراسية ، بالنسبة للدراسة الابتدائية وهي ست سنوات مع إضافة دراسة اللغة الإنكليزية في السنتين الأخيرتين ، والأخذ بنظر الاعتبار ضرورة إفتتاح مدارس صناعية في المدن الكبيرة يتم فيها قبول الطلبة من خريجي المدارس الأولية أو الابتدائية ، إنطلاقاً من أهمية تزود الصناعي والحرفي بالمعلومات الأولية ، ليكون قادراً على التمييز والنظر إلى الأمور بعقل متفتح ، أما على صعيد الدراسة الثانوية فقد أعلنت وزارة المعارف عن عجزها في إفتتاح مدارس ثانوية لعموم القطر ، لاعتبارات تتعلق بقلة الأموال ونقص المدرسين وكان الأقتراح أن يصار إلى انتخاب عدد من خريجي المدارس الابتدائية لدخول الثانويات ، مع ضرورة أيجاد نظام مساعدات مالية لإتمام هذه العملية ، وللأهمية التي تنطوي عليها المدارس الثانوية ، كان الحرص شديدا على ضرورة العناية بالمناهج المقدمة للطلبة ، حيث يصار إلى تقسيم الدراسة إلى نصفين الأول : الدراسة المتوسطة حيث يتم فيها تقديم مناهج عامة تشتمل على مختلف العلوم ، أما الثاني : وهي الدراسة الإعدادية ، فلا بد أن يصار إلى التخصص في القسم الأدبي الذي يحوي على اللغة العربية والإنكليزية والتاريخ والجغرافية أو القسم العلمي الذي يتضمن اللغة الإنكليزية والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات ، من أجل إعداد طلبة القسم الأدبي لدخول كليات الحقوق واللغات في الجامعة ، أما خريجوا القسم العلمي فأن إعدادهم يتم لدخول كليات الهندسة أو الطب أو الزراعة، وكان التشديد على ضرورة الاهتمام بالدراسات الإنسانية العليا يجب عدم إهمالها ويجب الإصرار على مستوى عال في اللغة العربية وفي التربية العربية وإذا لم تكن هذه لا يوجد شيء في الجامعة يرضى الشبيبة المنورة فيعودون إلى أنفسهم والسياسة.
إن حالة فرض المادة الدراسة والتخصص فيها ، لم يكن يتم على حساب الدارس ، وعلى الرغم من قلة المتعلمين ، إلا أن الفسحة كانت واسعة لمجالات الاختيار وليس أبلغ من محاولات الإقناع التي كانت تبذل من قبل وزارة المعارف للطلبة المرشحين للبعثات العلمية ، بحيث أن المبادرة تبقى بيد الطالب لاختيار التخصص البديل داخل القطر ، ولا بد من التنويه هنا ، إلى ان حالة تكافؤ الفرص ومنح البعثات العلمية لم تكن بالنموذجية التي قد يتصورها من يطالع مسألة حرية الاختيار في التخصص ، بقدر ما كانت تخضع لاعتبارات أخرى ، متعلقة بالرصيد العائلي ومدى القرب والبعد من أصحاب القرار وتأثير الوجهاء ، ولم تسلم المعاهد العليا من معاملات النكاية بهذه الفئة أو هذا الطرف حتى أن مسألة قبول بعض الطلبة في مدرسة الحقوق على سبيل المثال ، كانت قد خضعت لتدخل اكثر من طرف في سبيل قبول بعض الطلبة فيها حيث حاول الملك فيصل الأول إحداث نوع من الموازنة في حصول أبناء الطوائف العراقية على فرصهم من التعليم العالي والتوظف في المؤسسات العراقية.
إن الإفصاح عن التوجه نحو المعاهد الأكاديمية ، إنما كان يرتكز على محاولة الحصول على المكانة الاجتماعية التي أفرزتها المؤسسات الحكومية التي برزت في أعقاب تأسيس الحكم الوطني ، حتى أن مسألة الحصول على الشهادة في الأغلب ، لم تخرج عن مبررات الحصول على الوظيفة أو الوجاهة الاجتماعية في حين أن القلة المتعلمة التي نهلت من المدارس الدينية والأديرة ، تمكن من فرض نفسها في الواقع الثقافي ، وقيض لها تقديم نتاج ثقافي مميز وليس أبلغ من الإشارة إلى أن أبرز من أهتم بالدراسات التاريخية خلال حقبة ما بين الحربين ، إنما كانت مرجعيته الثقافية والعلمية ، تشير إلى إنخراطه في المدارس الدينية أو من كان مهتماً بالمتابعة ، وأهلته في ذلك موارده الاقتصادية . إلا أن هذا القول لا يعني بأن أتهاماً مبطناً يوجه إلى المدارس العلمية الحديثة ، بقدر ما نحاول الإشارة إلى الأسبقيات التاريخية التي رافقت ظهور نتاج النخبة المثقفة فالكثير من المثقفين وأن هم كانوا يقدمون عطاءهم ونتاجهم الفكري في فترة ما بين الحربين ، إلا أنهم كانوا يعبرون عن المرحلة السابقة لجيل ما قبل الحرب العالمية الأولى حيث بقي مكنونهم المعرفي يخوض في المفاهم التي أكتسبوها في المرحلة السابقة ولم يفدهم أو بالأحرى لم يستفيدوا من فترة التخضرم التي عاشوا في كنفها ، حيث ظلوا مصرين على التمترس بأفكارهم التي ورثوها عن الأجيال السابقة ، مما عطل إمكانية بروزهم ووسمهم بالسكون نتيجة عدم تمكنهم من اللحاق بإيقاع العصر إلا أن هذا الأمر لا يعني أن المرحلة قد تعطلت ، ولم تثمر عن بروز بعض الأسماء التي رفدت الكتابات التاريخية ، ومن مختلف الاتجاهات والمرجعيات حتى أن الإشارة إلى مؤرخ إسلامي مثل محمد حبيب العبيدي أو مؤرخين عبروا عن اتجاهات وطنية من أمثال ، عباس العزاوي ، محمد بهجة الأثري ، أو قوميين مثل ، ساطع الحصري ، أحمد عزت الأعظمي ، علي الجميل ، طه الهاشمي ، سامي شوكت وآخرين غيرهم .. ولعل المرحلة قد أفصحت عن بروز أسماء مؤرخين حصلوا على التخصص الأكاديمي من أمثال مصطفى جواد ، جعفر الخياط، عبد الرحمن البزاز، وهؤلاء وان حاولوا أن يعبروا عن الالتزام بالمنهج الأكاديمي إلا أن هذا لم يمنع من بروز مكوناتهم الفكرية واتجاهاتهم في الطروحات التي قدموها.
.