صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 20
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي كتاب المملكة - روبرت ليسي

    المـمـلـكـة



    تأليف: روبرت ليسي

    ترجمة: دهام العطاونة

    روبرت ليسي، البالغ من العمر 43 عاما، صحافي وكاتب بريطاني مرموق. درس التاريخ في جامعة كامبريدج وعمل بعد تخرجه منها في صحيفة ((صَنْداي تايمز)) التي تعتبر من أرقى الصحف البريطانية. وقام في هذه الأثناء بتأليف عدد من الكتب عن بعض الشخصيات البريطانية التاريخية لاقت رواجا كبيرا. وبعد النجاح الكبير الذي حققه كتابه ((صاحبة الجلالة)) الذي يروي سيرة الملكة اليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا، قرر ليسي إعتزال العمل الصحافي والتفرغ لتأليف الكتب. وهكذا شرع في تأليف هذا الكتاب. ويعيش ليسي وزوجته ساندي وأطفاله برونو وشاسا وسكارليت في لندن.

    عزيزي القارئ

    يسعدني أن أقدم لك الطبعة العربية لكتاب ((المملكة)) الذي يتحدث عن نشأة المملكة العربية السعودية وحاضرها لقد صدر هذا المؤلف لأول مرة باللغة الإنجليزية في بريطانيا عام 1981 ولقي رواجا كبيرا بسبب تعاظم شأن المملكة على الساحة العالمية في مطلع السبعينات. وما كان صدور هذا الكتاب إلا استجابة للاهتمام الواسع الذي باتت المملكة تحظى به في جميع أنحاء العالم. فأعيد طبعه من جديد عدة مرات في بريطانيا والولايات المتحدة وتمت ترجمته إلى العدد من اللغات نذكر منها الفرنسية والإيطالية والإسبانية واليابانية، وأخيرا إلى اللغة العربية.

    * * *

    ويعود سبب التأخير في صدور الكتاب باللغة العربية إلى موقف السلطات السعودية منه إذ أنها منعت دخوله المملكة بسبب اعتراضها على بعض مواده. إننا نأمل بأن تعيد السلطات السعودية النظر في هذه الحظر ذلك لأن الكتاب ما هو إلا دراسة موضوعية ونزيهة لتأريخ المملكة منذ مطلع هذا القرن. لقد أرسل المؤلف مسودة هذا الكتاب إلى وزارة الإعلام السعودية لمراجعته وإبداء ملاحظاته على نصوصه. وبدلا من أن تقوم هذه بتصحيح أي أخطاء قد يكون المؤلف قد وقع فيها أو لفت إنتباهه إلى حقائق يجهلها، إكتفت بطلب حذف بعض الجمل والفقرات والصفحات دون أن تعلل ذلك. ((احذف السطر الخامس في صفحة. . .))، احذف الفقرة الثانية في صفحة. . .))، ((احذف الفقرات 2 و3 و4 في صفحة. . .))، ((احذف هذه الصفحة بكاملها. . .)).

    لقد قضى المؤلف ومعاونوه أربع سنوات في بحث وجمع مواد هذا الكتاب. فقرأ كل ما كتب عن المملكة تقريبا من كتب ودراسات وتحقيقات ومقالات ووثائق رسمية، وقابل مئات من الأشخاص من مختلف الجنسيات ممن كانوا قد عملوا في المملكة، دبلوماسيين ورجال أعمال وسياسيين. ثم ذهب هو وزوجته إلى المملكة حيث عاشا لمدة عامين عكفا أثناءها على دراسة اللغة العربي. وقابل المؤلف هناك المئات من السعوديين وعلى رأسهم جلالة الملك الراحل خالد بن عبد العزيز وأصحاب السمو الملكي الأمراء فهد وعبد الله وسلطان ونايف وسلمان وغيرهم من الأمراء، علاوة على عدد كبير من كبار المسؤولين وصغار الموظفين وبعض أصحاب الفضيلة العلماء. ثم عاد إلى لندن حاملا معه ما جمع من مواد وانطباعات وإعجاب بالإنجازات المذهلة التي حققتها المملكة في فترة وجيزة تحت راية آل سعود.

    فكانت النتيجة هذا الكتاب الرائع الذي يعتبر بجداره أحسن كتاب صدر حتى الآن عن المملكة العربية السعودية، ولا أعتقد أنه سيظهر له منافس لسنين عديدة. لقد وجدت متعة كبيرة في قراءته وترجمته وإني لعلى يقين بأنك عزيزي القاريء ستجده ممتعا بنفس الدرجة. والله من وراء القصد.

    دهام موسى العطاونة

    لندن 12/ 2/ 1987
    [align=center][/align]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    الجزء الأول

    الصحراء

    1ـ البدوي

    الشمس مشرقة على الصحراء.. السماء رمادية اللون.. والريح باردة… إبل تسعل وتخور معربة عن انزعاجها من القيود التي تكبل أرجلها الأمامية.. وعلى بساط صغير وضع أما بيت شعر، يجلس صبي منهمك في إعداد القهوة.. وبينما هو يضع الحطب على النار ارتفع صوته مناديا في طلب الماء وحب البن. .وبصمت تمتد يد من فوق الستارة التي تفصل الجزء المخصص للنسوة من الخيمة عن ذلك الجزء المخصص للرجال لتناوله ما طلب. . ويصب الصبي الماء في دلة القهوة المصنوعة من النحاس، والتي اكتست بالسواد بفعل النار، ليغليه، وفي الوقت ذاته يحمص حبات البن الجافة والخضراء في المحمصة [أو المحماس كما يسميها البدو].

    وما أن تبدأ رائحة حبوب البن المحمصة تفوح حتى يتغير لونها إلى بني فاتح. . ويبادر الصبي إلى وضعها في هاون نحاسي ثقيل. .ثم يشرع بدكها بكل قوة ضاربا جوانب الهاون ليبعث صوتا ـ يحاكي صوت الجرس يسمعه القاضي والداني. .[دق المهباش يا سويلم. .] ويقترب الرجال من النار ويجلسون متربعين حفاة الأقدام، يراقبون الشمس وهي تزداد حرارة رويدا رويدا ويضفي نورها لونا على الأرض..

    والآن ينادي الصبي طالبا حب الهيل. .وتمتد يد أخرى ـ أم تراها كانت نفس تلك اليد التي امتدت قبل قليل ـ لتناوله الحبات الرمادية اللون من فوق الستارة. . ويدق الصبي حبات الهيل في الهاون. .ثم يضعها في الدلة. . وعندما تغلي يضع الصبي لفافة من ورق سعف النخيل في بزبور الدلة تعمل على تصفية القهوة. . يتذوق الصبي القهوة بوضع قطرات منها في فنجان.. ثم يحمل كومة من هذه الفناجين، مكدسا بعضها فوق بعض، ويوازنها فوق يده اليمنى في الوقت الذي تمسك يسراه بالدلة.. ويسير في دائرة ساكبا في كل فنجان كمية قليلة جدا من السائل البني ـ الأخضر.. وعندما يريد الرجال مزيدا من القهوة يمدون أياديهم التي بها الفناجين.. ولدى اكتفائهم يمدون أياديهم ويهزون الفناجين من جانب إلى آخر.. عندها يأخذ الصبي الفنجان ويضعه في أسفل كومة الفناجين المكدسة في يده ويظل واقفا على قدميه إلى أن ينتهي آخر رجل من شرب قهوته..

    من الممكن أن يكون ذلك الوقت وقت الفجر من صباح أي يوم في أي مكان في بوادي المملكة العربية السعودية الحديثة ـ شاحنات صغيرة واقفة بجانب بيوت الشعر، والموسيقى تتعالى من جهاز راديو كاسيت وضع على سجادة فاخرة. ولكن قبل ما يقارب من القرن كان ذلك الصبي المنهمك في إعداد القهوة في بقعة ما شرق الجزيرة العربية هو عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة.

    كان آل سعود يومها لاجئين. وعلى الرغم من أنهم كانوا قد حكموا الرياض لعشرات من السنين فقد شردوا من مدينتهم على يد سلالة آل رشيد التي كانت تنافسهم وغدوا لا يملكون من المتاع أكثر مما كان بمقدورهم أن يحملوه على ظهور إبلهم. فراحوا يطوفون على وجه الأرض وهم يسوقون أمامهم كل ما باتوا يملكون عبر البراري. لقد كان ذلك في ربيع عام 1891.

    يبدأ تاريخ المملكة الحديث في بقعة ما من الرمال الواقعة على حافة البراري الجنوبية للجزيرة العربية. وكانت تلك البقعة صحراء داخل صحراء، جرداء لدرجة أنه حتى البدو يطلقون عليها اسم الربع الخالي. وعندما طرد آل سعود من موطنهم في الرياض عام 1891 لاذوا بالفرار إلى الربع الخالي. وكانت هنالك روابط وصلات تربطهم بقبيلة المرة التي كانت تجوب قفار منطقة الربع الخالي. وهكذا وجد الصبي عبد العزيز بن سعود الذي كان آنذاك يبلغ الخامسة عشر من عمره* نفسه يدق حبات البن أمام خيام المرة.

    تقضي العادة أن يستضيف البدوي ضيفه لمدة ثلاثة أيام. ويستطيع أي مسافر أن يحط رحاله بجانب خيمتك ومن ثم يقوم بتعديل رسن بعيره ببطء ويجب عليك أن تخرج لاستقباله والترحيب به. وإذا صادف أن كانت زوجتك وحدها في بيت الشعر، وجب عليها أن تخرج لهذا المسافر بطاسة من حليب النوق ومن ثم تدعوه إلى القسم المخصص للرجال من الخيمة حيث يمكنه أن يستريح لحين عودتك. ولدى رجوعك يتحتم عليك أن توفر له أفضل ما تستطيع أن توفره. ويمكن لهذا المسافر أن يبقى عندك لمدة ثلاثة ليال تستطيع بعدها بكل أدب أن تسأله عن وجهته وعما إذا كان باستطاعتك أن تمد له يد العون بتوفير أي شيء قد يعينه على سفره. ويعتبر ذلك بمثابة إشارة للضيف بأن الوقت قد حان ليواصل سفره.

    ولكن عبد الرحمن بن فيصل، والد عبد العزيز، لم يكن مجرد شخص غريب عابر إذ تمكن في الماضي عندما كان آل سعود يحكمون الرياض مع إقناع قبيلة المرة بأن تشترك معه في غزواته. وفي السبعينات من القرن الماضي قام أبناء الرياض وأبناء قبيلة المرة بالهجوم على بني خالد، الذين كانوا يحكمون شرق الجزيرة العربية نيابة عن الأتراك، وتقاسموا ما أخذوا من الغنائم. لذا كانت مضارب قبيلة المرة عام 1891 الملجأ الطبيعي لعبد الرحمن الذي كان يبحث عن ملاذ من آل رشيد المنتصرين. وتوقف آل سعود عن الهرب في مكان يقع إلى الجنوب من واحة يبرين.

    ويستفاد من السيرة النبوية أن النبي محمد (صلعم) أمضى صباه في الصحراء، وقيل إن الصحراء كانت إحدى العوامل التي أكسبته الحكمة وحسن الإدراك. واعتادت سلالته من الإشراف التي كانت تحكم مكة المكرمة أن ترسل أبناءها إلى البادية لينشأوا نشأة الرجال. وكانت تلك هي الطريقة التي اتبعها سكان الواحات لإتمام تربية شبابها. وبعد أن أصبح عبد العزيز حاكما على الجزيرة العربية كان يطيب له التحدث عن صباه كبدوي حافي القدمين ذا شعر مفروق في الوسط ومضفور، يرتدي ثيابا مهلهلة رثة، يركب الخيل ويخرج للصيد والقنص، قوته حفنة من التمر وسلطانية من حليب النوق. وكان حديثه في صباه مطعما بالتعابير التي كانت تستعملها قبيلة المرة ـ تعابير بدوية بسيطة ظل يستخدمها حتى وفاته. وكان يطيب له أن يروي الحكايات التي تتحدث عن قدرته على تقصي الأثر التي تعلمها من المرة ـ كيف تتعرف من آثار الجمل عن المكان الذي أتى منه وعلى وجهته وما إذا كان جملا أم ناقة، وحتى التعرف على لونه.

    إن عمق الأثر الذي يتركه خف البعير على الأرض يبين ما إذا كان البعير يحمل على ظهره إنسانا أو حملا ـ تخصص النوق للركوب في حين تخصص الجمال لحمل الأمتعة. وإذا كانت آثار خف البعير ناعمة وقد لمستها شرائح جلدية مهلهلة فإن ذلك يدل على أن الجمل كان قد أتى من أرض رملية وليس من السهول المكسوة بالحصى الناعم الذي يعمل على صقل الخف وجعله صلبا ناعم الملمس، الأمر يساعد على معرفة موقع مضارب العشيرة صاحبة ذلك البعير وبالتالي على لونه، نظرا إلى أن العشائر المختلفة تقوم بتربية بعران ذات درجات مختلفة من الألوان البني والأسود والبيج.

    ويستدل من روث البعير على النباتات التي كان البعير قد اقتات عليها، وتدل رطوبة أو جفاف الروث على طول المدة التي انقضت منذ أن مر البعير بذلك الموقع. ويترك البدو العائدون على عجل إلى مضاربهم بعد غزوة ناجحة أثرا معقدا معينا في حين تترك قافلة تجارية من الجمال المحملة بأحمال ثقيلة أثرا يختلف عن الأول. وكان باستطاعة أبناء قبيلة المرة قراءة كل هذه العلامات. وفي الثلاثينات والأربعينات قام عبد العزيز باستخدام أبناء قبيلة المرة كقصاصي أثر في المراكز التابعة لشرطة البادية في المملكة. وكان يحلو له أن يدعي بأن أفراد المرة كانوا يستطيعون من معاينة الأثر الذي يتركه قدم امرأة أن يعرفوا ما إذا كانت عذراء أم لا، وكانت تبدو عليه الجدية التامة عندما كان يشرح الأثر الميكانيكي الذي يخلفه الجماع على وضع ساقي العذراء.

    هذا وكانت الأرض التي تدّعي قبيلة المرة ملكيتها واسعة جدا. وكانت مساحتها بما فيها الربع الخالي تقرب من مساحة فرنسا أو مساحة ولاية تكساس الأمريكية، وضمن هذه المساحة كانت كل عائلة تقطع أثناء تنقلها وراء قطعان إبلها 1000 ميل على الأقل وربما 3000 ميل سنويا.

    إن الانطباع الذي تكون في الغرب عن الجمل هو تصور قافلة من الجمال يسير كل واحد فيها وراء الآخر ـ وهذه هي في الحقيقة الطريقة التي تسير بها الجمال المحملة بالأثقال. لكن معظم الإبل في الجزيرة العربية كانت وما تزال من النوق التي تربى من أجل حليبها*.

    وترعى البعران، كالماشية، فتتنقل من بقعة تنمو بها الشجيرات إلى أخرى، فالجزيرة العربية ليست كلها عبارة عن أرض واسعة جرداء تكسوها الكثبان الرملية المترامية الأطراف، وإن كان هناك في الواقع مثل هذه المناطق وأبرزها الربع الخالي. لكن الاسم الذي يطلق على تلك الصحراء نفسه يبين مدى اختلاف هذه الأخيرة عن باقي الجزيرة العربية، أن البدو يسمونها ((الخلا)).

    وإلى الشمال وإلى الغرب من الأرض القفر يتكون القسم الأعظم من الجزيرة العربية من الصخور أو الأرض المكسوة بالحصى والنباتات المتناثرة، وهي تحاكي في منظرها الأراضي التي يعيش فيها رعاة البقر في أمريكا والتي تشاهد عادة في الأفلام. وقد لا تكون خصبة بما فيه الكفاية لإعالة المزارعين على مدى العام، بأستثناء الواحات، لكنها كافية لحاجة البدو الرحل مثل قبيلة المرة ((بمزارع ألبانهم المتنقلة)) والمتكونة من خمسين أو ستين أو ربما تسعين أو مائة ناقة وثلاث أو أربع خيام لأب وأولاده ونسائهم.

    وفي وحدات كهذه تعلم عبد العزيز وتيرة حياة البدو الرحل. ففي الصيف عندما تصل درجة الحرارة في الظهيرة إلى 120 درجة فهرنهايت أي 45 ـ 50 درجة مئوية ترحل قبيلة المرة إلى الناحية الجنوبية ـ الغربية حيث تقع آبار مياهها الدائمة وحيث يمكنها أن تحصل على الماء بصورة أكيدة. وفي أيام أكتوبر [تشرين الأول] ونوفمبر [تشرين الثاني] الباردة تشرع القبيلة بالرحيل على عجل قاطعة مسافة تتراوح ما بين 30 و40 ميلا في اليوم باتجاه الشمال حيث تنمو أعشاب الشتاء. وبعد تهاطل الأمطار خلال شهري ديسمبر [كانون الأول] ويناير [كانون الثاني] من الممكن مشاهدة مساحات شاسعة من الجزيرة العربية وعلى امتداد شهر تقريبا وقد تحولت إلى مروج يكسوها العشب الأخضر والأزهار ذات الألوان النضرة التي تذكر بمراعي جبال الألب. وفي هذه الأراضي ترعى قطعان الإبل.

    وهذا هو الفصل الذي تكون فيه حياة البدو الرحل على أحسنها ـ إذ يكون النهار دافئا والليل باردا وتكون قطعان الإبل راضية والحليب متوفرا بكثرة ويكون هناك متسع من الوقت للاستراحة ولغزو القبائل الأخرى. ومن خلال اشتراكه مع قبيلة المرة في غزو الآخرين أصبح مؤسس المملكة يفهم الصحراء فهما كاملا إذ أن غزو الآخرين في الجزيرة العربية لم يكن قبل مقدم السيارة جريمة أو نشاطا تمارسه الأقلية كما كانت الحال عليه بالنسبة لسرقة الماشية في أمريكا في حينه مثلا. وكان الغزو يشكل الشغل الشاغل للبدو.

    ولقد تعلم نشوة كل ذلك ـ التنقل على ظهور الجمال مع الرفاق ليلا والإقامة خلف الكثبان نهارا والهجوم في أماكن نائية عن طرق القوافل والزحف على البطون وحل وثاق الإبل بصمت ومن ثم العودة إلى مضرب القبيلة بسرعة، يخامرك مزيج من الفرحة والخوف، فوق الصخور حيث يضيع مطاردوك أثرك.

    وإذا تصادف أن وقعت في الأسر فلا تطلق عليه النار وهو بدوره لا يطلق النار عليك، إن شاء الله، إذ أن الغزو كان نمط حياة في البادية وله أصول وقواعد كما يليق بأي رياضة جدية. إن الغزو عند البدو هو خليط من الفروسية ولعبة الكريكيت وقد عقد هذه المقارنة السير جون غلوب [كلوب باشا] الذي كان واحدا من آخر الأوروبيين الذين عاشوا مع البدو في الوقت الذي كان فيه الغزو نمط حياة. وفي إحدى المناسبات في العشرينات رأي غلوب رئيس جماعة غازية وقع أسيرا يعامل كضيف من قبل أمير القبيلة التي كان قد حاول لتوه غزوها. وفي مناسبة أخرى كان غلوب في ضيافة قبيلة عندما تعرضت للغزو. وقد لقي أفراد الجماعة الغازية ممن وقعوا في الأسر الترحاب في خيام العشيرة التي كادت أن تكون الضحية. فبعد أن قدم لهم الطعام تم إطلاق سراحهم وتزويدهم بالماء والطعام ولكن بعد أن تمت مصادرة إبلهم وأسلحتهم بأستثناء بندقية واحدة نظرا إلى أن العودة مشيا على الأقدام بعد غزوة غير موفقة هو جزء من اللعبة.

    إن الغزو يختلف تماما عن الحرب في العرف البدوي، كما يختلف أيضا عن أعمال نهب القوافل التي تمر عبر أراضي عشيرة ما دون أن تدفع مسبقا ما يستحق عليها من مال. فأنت تغزو من أجل الاستيلاء على الإبل وليس على الأرض او المتاع او القتل، وكانت الأصول المتبعة في هذا المجال دقيقة جدا ـ يحظر الغزو بين منتصف الليل والفجر ولا يجوز سرقة الأغنام أو الماعز او التعرض للنساء. وحتى إذا غزوت أحد مضارب عشيرة ما في حرب جدية فلا يمكنك أن تتعرض لنسائها، لأنه من الحرام أن تتعرض للنسوة أو تلحق الأذى بهن فذلك أمر مشين. وإذا صادف أن دمرت خيام الآخرين فينبغي أن تترك خيمة واحدة على الأقل للنساء وأن تترك لهن الطعام وأدوات الطبخ وبكارج القهوة إذ ربما تكون أنت المنتصر اليوم ولكن من المحتمل أن تقع والدتك أو اختك غدا تحت رحمة أناس آخرين.

    يشكل حليب الناقة الغذاء الأساسي للبدو ـ وحليب الناقة هو حليب دافيء، رغوي، يميل إلى الملوحة ويشربه البدو عادة بعد حلب الناقة مباشرة أو يبقون عليه إلى أن يتخثر قليلا. وفي المناسبات يأكل البدو لحم الجمل وهو ليس بلين ولكنه لذيذ. ويأكل البدو كبد الجمل نيا بعد تمليحه. حتى أخفاف الجمل تستهلك بعد أن تطحن وتطهى على الجمر على شكل كعكات.

    وتعود أهمية الجمل إلى قدرته الأسطورية على البقاء دون ماء لمدة تصل حتى ستة أسابيع إذا كانت الأعشاب متوفرة بكثرة. لكن الأهم من ذلك هو قدرته على تحويل العشب والماء الراكد إلى حليب ذي قيمة غذائية بالنسبة للإنسان على مدى العام كله تقريبا. وفي الثلاثينات قدر الكولونيل هـ. ر. بي ديكسون أن ربع البدو الذين كانوا يعيشون في البوادي المحيطة بالكويت كانوا يعيشون على حليب النوق فقط وربعا آخرا على الحليب والتمر والنصف الباقي على حليب النوق والتمر والخبز.

    علاوة على ذلك، إن قدرته على نقل وحدة اجتماعية بكاملها ـ رجال ونساء وأطفال وخيام وطعام بمعدل 20 ميل في اليوم الواحد بخطي اعتيادية و40 ميل في اليوم عند الضرورة، تجعل من الجمل كائنا ثمينا بما فيه الكفاية. إلا أن تكون الناقة لا تولد حتى بلوغها الخامسة، يليها حمل يدوم سنة كاملة وعام آخر تقضيه في رعاية وليد واحد يجعل الجمل واحدا من الممتلكات القيمة جدا.

    وللمحافظة على عدد كاف من الجمال تقوم المملكة باستيراد ما تحتاجه منها، ففي كل أسبوع أو نحو ذلك تصل الجمال إلى ميناء جدة من الصومال، وتنظر بفضول من فوق البواخر على ما حولها. إن الجمال بضاعة نادرة نسبيا وذات قيمة راسخة بحد ذاتها. وحتى في عصر الشاحنات والريال، يشكل الجمل الوحدة الأساسية التي يقدر البدوي ثروته بموجبها.

    لا يوجد هنالك ما يدعو البدوي المتنقل إلى تقييم الأرض، كما أنه لا يتوفر على الوسائل التي يمكنه بواسطتها نقل كميات كبيرة من الثروة، وعليه فإن الثروة التي يقدرها هي الثروة التي تملك أربعة أرجل والقادرة على نقل نفسها ـ وهذا هو الشيء الذي يعطي حياة البداوة تلك المرونة وتلك المساواة الفريدتين إذ أن من المستحيل اختزانها. فقد يرث الأبناء إبل آبائهم ولكنهم سرعان ما سيفقدونها إن كانوا هم لا يتوفرون على الحيوية التي ساعدت آباءهم على تربيتها. وفي بيئة الغزو التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قبل مائة عام كان الكسالى والجبناء يفقدون ثروتهم في حين ازدهرت حياة الشجعان والنشطاء، إذ لم يكن هناك من وسيلة يمكن بواسطتها الاحتفاظ بامتياز أو حق لم يكتسب بالجهد.

    وهنا يمكن مصدر الثقة بالنفس التي يتمتع بها البدو والتي تشاهدها اليوم عندما يمثل الرجال القادمون من الصحراء وباعتزاز بين أيدي حكام المملكة . فالأمير أو الحاكم بالنسبة لهؤلاء ليس إلا فردا مثلهم. ويرحب آل سعود بهذا الاعتزاز بالنفس.

    لم يقض ذلك الصبي البالغ من العمر 15 عاما، والذي اعتاد الجلوس أمام خيام قبيلة المرة يدق القهوة، أكثر من سنتين في الصحراء، إذ انتقل عبد العزيز وعائلته عام 1893 أو 1894 إلى سواحل الخليج العربي وإلى الحياة الأكثر راحة في ميناء الكويت.

    دأب ابن سعود في أواخر سني حياته على القول بأن العامين اللذين عاشهما بين المرة كانا الفترة التي استحوذ خلالها على كافة المهارات التي تمكن بفضلها من إرساء قواعد وتشييد المملكة. ففي كل ليلة خلال تلك الفترة كان عبد العزيز يتلحف ببطانيته الخشنة المصنوعة من وبر الجمل وينام في العراء تحت النجوم. وفي الشتاء تعين عليه أن يلف جسده جيدا بسبب الصقيع الذي كان يأتي إلى الصحراء خلال شهري ديسمبر [كانون الأول] ويناير [كانون الثاني] وينفذ إلى العظام في الليل. ولكنه لم يحتج في الصيف إلا لثوبه الذي كان يلبسه في النهار وينام به ليلا. وكان هذا الثوب القطني هو الحاجز الوحيد بين جسمه والقبة المظلمة العالية المرصعة بالنجوم.

    وفي الليل يسود الصحراء سكون.. وتسمع الأصوات لمسافات بعيدة .. صوت جمل أو عواء كلب. وفي خضم هذا السكون كان عبد العزيز ينام بجانب خيام المرة ويحلم باستعادة الرياض والثأر لشرف عائلته.. وباكتساح الجزيرة العربية كلها ليعيد بناء إمبراطورية أجداده.

    ولكن كان هناك شيء واحد لم يكن باستطاعة مؤسس المملكة أن يحلم به عندما كان ينام على الرمال في شرق الجزيرة العربية.. لم يكن باستطاعته أن يحلم بأن أكبر حقل للنفط في العالم موجود تحت وسادته الرملية.
    [align=center][/align]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    2ـ المنفى

    عندما تطلب من سكان المملكة العربية السعودية اليوم أن يقولوا لك شيئا عن ذلك الرجل الرائع الذي شيد بلدهم، من الممكن أن يبادروا إلى سرد القصة التالية عليك:

    كان عبد العزيز يحارب يوما قبيلة العجمان وكانت هذه القبيلة من دون القبائل كلها مصدرا دائما للشغب والتمرد. وكانت حملة آل سعود ضدها في حالة يرثى لها إذ لم تعد هنالك بارقة من أمل في النصر. وكان رجال آل سعود قد بدأوا يفقدون الأمل. وبدأ البدو يهربون ليلا بعد أن تلاشى أمل الحصول على الغنائم. لقد فقد عبد العزيز مهارته.

    وفي صبيحة أحد الأيام جرح عبد العزيز أثناء اشتباك مسلح حيث أصيب بطلقة في بطنه. وعلى الرغم من أنه طلب من رفاقه أن يبقوا الأمر سرا، سرعان ما انتشر الخبر بين أتباعه، فكان بمثابة نذير الشؤم الأخير. عندها استدعى عبد العزيز أمير القرية التي كان قد نصب معسكره بجوارها، لغرض الاستفسار عن بنات ذلك الأمير وعما إذ كن في سن الزواج وهل هن عذارى. فرد الأمير بالإيجاب. ولدى سماع عبد العزيز لذلك قال مخاطبا الأمير: في هذه الحالة انهض وأقم وليمة لأني سأتزوج أجمل بناتك هذه الليلة.

    ونحرت الأغنام والإبل وأكل أفراد جيش عبد العزيز حتى شبعوا. ولما حان الوقت دخل عبد العزيز على عروسه. وكانت العادة البدوية هي أن تدافع العروس عن عذارتها في ليلة الزفاف وتقاوم عريسها كتعبير عن عفتها، بينما تنصت النسوة خارج الخيمة للأصوات التي تنبعث من داخلها. وتثبت أصوات المقاومة شرف العروس، وقد تدوم وقتا طويلا.

    ولكن في تلك الليلة لم تدم المقاومة إلا قليلا. وسرعان ما خرجت النساء تحملن منديلا مضخما بدماء الطهارة، الأمر الذي يثبت عذرية العروس. غير أن جنود عبد العزيز رأوا في بقع الدم برهانا آخرا: أن قائدهم على الرغم من جراحه مقتدر كما عهدوه وفي اليوم التالي انقض رجاله على العجمان وهزموهم شر هزيمة.

    * * *

    تزوج عبد العزيز لأول مرة وهو في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره، ويعلم كل مسلم أن الغاية من الزواج هي إنجاب الأولاد. إلا أنه لا يوجد هنالك رجل ينجب ثلاثة وأربعين ولدا وعشرين بنتا [وهذا تقدير محافظ] في أقل من نصف قرن من الزمان بدافع الشعور بالواجب فقط، كما لم يدع عبد العزيز قط أنه لم يستمتع بعملية الإنجاب أشد الاستمتاع. ((إنها متعة لا مثيل لها على وجه الأرض)) ـ هذا ما قاله عبد العزيز ذات مرة للشيخ عبد الله السالم الصباح ـ ((أن تضع شفتيك على شفتيها وجسمك على جسمها وقدميك فوق قدميها)). ويقول القرآن الكريم ((نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم)). إن الآية القرآنية الكريمة التي تجيز للمسلم أن يتزوج أكثر من واحدة ـ ((فانكحوا من طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع)) ـ تضع شرطا أساسيا لذلك إذ تقول ((فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم)). ولكن الله عز وجل يقول للمؤمنين في نفس السورة ((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)).

    ويستشهد الشبان السعوديون أحياناً بهذه الآيات قائلين إنها نصيحة إلهية لهم بأن لا يتزوجوا من أكثر من امرأة واحدة لأنهم سيجدون أنه يستحيل عليهم أن ينصفوا ويعدلوا بين أكثر من زوجة. إلا أن عبد العزيز لم يخامره أي شك أبدا في قدرته على أن يعدل بين زوجاته كما أمر الله سبحانه وتعالى. وتزوج عبد العزيز العدد المسموح له من النساء حالما أصبح ذلك باستطاعته، واقتنى عددا كبيرا من الحظيات على الرغم من أنه أفشى سرا لأصدقائه في وقت لاحق من حياته بأنه لم يزاول متعته أكثر من مرة واحدة في الليلة.

    لقد كان السماح للمسلمين بأن يتزوجوا من أربع نساء هو الحل الذي أتى به القرآن الكريم للعدد الكبير من الأرامل والفتيات اليتيمات الذي أوجدته المعارك التي خاضها المسلمون في صدر الإسلام، ونظرا إلى أن هذه المعارك خلفت عددا كبيرا من النساء الأسيرات فقد سمح للمسلمين بأن يتخذوا ((ما ملكت أيمانكم)) من الحظيات. إن القرآن الكريم لا يقر أبدا اتخاذ الحظيات ولكن بما أنه لا يدين على وجه التحديد مزاولة ذلك، فلقد أصبحت عادة تاريخية أن يعاشر الأمراء والحكام المسلمون ما طاب لهم من حظيات من مختلف الأشكال والألوان ـ وقد اتبع عبد العزيز هذا التقليد بكل سرور حالما توفرت له السبل لتحقيق ذلك.

    لكن عندما تزوج عبد العزيز لأول مرة لم يتوفر لديه آنذاك المال الكافي للحصول على زوجة واحدة فما بالك بحريم من الحظيات؟! لقد كان آل سعود، كما قيل لنا، معدمين جدا عندما انتقلوا من البادية إلى ميناء الكويت في أواخر القرن التاسع عشر ولم يكن هنالك مال للزواج. واضطر عبد العزيز إلى تأجيل زواجه إلى أن أشفق عليه وعلى العائلة أحد التجار ووفر لها ما لزم من المال.

    غدا عسر الأحوال نمط حياة خلال فترة الإقامة الطويلة التي قضتها العائلة في الكويت. فمنذ وصولهم إلى الكويت عام 1894 أو 1895 وحتى السنوات الأولى من القرن العشرين عاش آل سعود في بيت من الطين مكون من ثلاث غرف يقع في حي قديم من الأزقة المطلة على البحر، حيث كانت روائح زيت السمك والبراز هي الروائح السائدة كما ذكر ذلك زائر قام بزيارة الكويت عام 1904. وكانت مياه المجاري في الكويت آنذاك تصرف في بالوعات عمومية كبيرة، وعلى الرغم من أن الأثرياء كانت لهم مراحيض خاصة على ساحل البحر ـ عبارة عن أكواخ خشبية متداعية ـ فإن الناس البسطاء كانوا يقضون حاجتهم بالتقرفص على الشاطئ تاركين أمر تنظيفه بعدئذ لمياه المد والجزر. وكان البيت الذي يسكنه آل سعود غير صحي، وبعد انقضاء ستة أشهر على زواج عبد العزيز توفيت زوجته الأولى.

    ولم يكن يطيب لعبد العزيز ابدا أن يستعيد ذكريات السنوات الستة التي عاشها في الكويت بالمقارنة بالقصص التي كان يحلو له سردها والمتعلقة بالفترة الأقصر بكثير التي عاشها بين المرة. غير أن صلة عبد العزيز بالبادية لم تنقطع إذ أن الجزء الأعظم من الكويت، حتى في الوقت الحاضر، هو عبارة عن أرض جرداء يكسوها الحصى. وحيث تنتهي المدينة تبدأ الصحراء على امتداد البصر. وكان بإمكان المرء حتى المدة الأخيرة أن يشاهد خيام البدو السوداء مبعثرة بين الشجيرات التي تقتات عليها الإبل. وكانت تعيش هناك جماعات كثيرة من البدو، وفي مطلع القرن الحالي بدت مدينة الكويت وكأنها جزء من الصحراء.

    وصلت الآنسة اليزابيث تايلور كالفيري إلى الكويت عام 1912 لتباشر عملها في الإرسالية الأمريكية العربية وكتبت لدى وصولها تقول إن البيوت المنخفضة الرملية اللون كانت بالكاد تكسر خط الأفق، ولاحظت أن المنظر بكامله كاد يخلو من شجرة واحدة أو بقعة خضراء.

    إن هذه البقعة الصغيرة من الرمال الواقعة في إبط الخليج، والتي لم تكن آنذاك تبشر بأي خير، هي اليوم أغنى بلد على وجه الأرض من حيث الدخل للفرد الواحد من السكان. غير أن مساح الحكومة البريطانية في عام 1904 لم يعلق أية أهمية خاصة على ((القار الذي كان ينضح من باطن الأرض من حفرة قرب تل البرقان))، في القوت الذي كانت فيه باخرة تابعة لشركة ستاندارد أويل أوف نيوجيرزي تزور الكويت مرة واحدة في العام لتجلب الكاز [الكيروسين] الذي كان الناس يحتاجونه لإضاءة مصابيحهم وإيقاد مدافئهم في فصل الشتاء.

    وكان مصدر ثروة الكويت في الفترة التي مكث فيها عبد العزيز هناك هو الميناء. وتعني كلمة كوت باللغة العربية الحصن وما الكويت الا تصغير لهذه الكلمة. وكانت أهمية الكويت تنحصر في أنها تحرس مدخل أكبر ميناء طبيعي محمي في الخليج أو في أي مكان على امتداد ساحل الجزيرة البالغ طوله 4000 ميل.

    وكانت الكويت هي الميناء الرئيسي الذي كانت ترد عبره البضائع الواردة من الخارج إلى أواسط الجزيرة العربية. وكانت القوافل الكبيرة تأتي من السهول الواقعة داخل الجزيرة العربية مرة كل أسبوعين لتحمل بالأرز والتبغ والقهوة وبقطع السلاح وذلك من البواخر الراسية في الخليج الهلالي الشكل. ونظرا إلى اتساع مدخل الخليج فإنه لم يعان من الحواجز الرملية التي أوقفت النمو الطبيعي لشط العرب الذي يبعد عن ميناء الكويت مسافة 60 ميلا إلى الشمال. وكانت تلك القناة التي يشكلها نهرا دجلة والفرات هي نقطة انطلاق رحلات السندباد البحري الأسطورية. ولكن في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر أصبحت الكويت مركزا أكثر ازدهارا لتقاليد العرب العريقة في ارتياد البحار.

    ففي خريف كل عام كانت مراكب البوم الخشبية الكبيرة تبحر متتبعة إحدى أقدم الطرق البحرية التي كان الملاحون العرب قد اكتشفوها قبل ألف عام، متجهة إما نحو الجنوب الشرقي بمحاذاة ساحل الهند إلى جزيرة سيلان، مستغلة الرياح الموسمية في ذهابها وإيابها، أو نحو الجنوب الغربي إلى عدن ومن ثم إلى زنجبار حيث كانت تبيع أحمالها من التمور واللؤلؤ والخيول مقابل الملح والتوابل والخشب والعاج والسمن.

    كان بناة السفن يزاولون أعمالهم على مقربة من الحي حيث نزل آل سعود في الكويت، وكانت هنالك أعداد كبيرة من السفن والزوارق على اختلاف أنواعها على شاطئ البحر تطلى بزيت سمك القرش ذي الرائحة القوية والذي يضفي عليها لونا بنيا ويجعلها براقة. وكانت تشهد على شاطئ البحر بين حين وآخر أضلاع سفينة وهي في مرحلة البناء بموجب تصميم لم يتغير منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام. إن كلمة ((داو)) هي الاسم الذي يطلقه الأجانب بصورة عشوائية على كل سفينة عربية. ويطلق الكويتيون اسم البوم إلى ذلك النوع من السفن ذي المقدمة العالية الضيقة والذي قاموا بتطويره. علما بأن بعض سفن البوم هذه يبلغ طولها 200 قدم تقريبا، أي أكبر من الفرقاطة التي كانت تستخدم يوم كان الأميرال نيلسون قائدا للبحرية البريطانية.

    كانت سفن اليوم تنساب فوق الماء من ميناء الكويت وعلى جانبي كل واحدة منها ما بين 15 و20 مجذافا تتحرك سوية ((بجلال لم أشاهده أبدا من قبل)) كما كتب الدكتور بول هاريسون، أحد المبشرين الأمريكان الذي كان قد حل في الكويت آنذاك. وأضاف يقول ((كان الرجال يرددون أهازيج النصر أثناء عملهم. . .وكان هنالك علم حريري يرفرف فوق مؤخرة السفينة)).

    كان الدكتور هاريسون يصف بذلك مغادرة السفن ميناء الكويت إلى شواطئ [الهيرات] حيث اللؤلؤ والتي تقع على بعد 100 ميل جنوب الكويت. وكانت تلك الشواطيء أغنى مناطق العالم باللؤلؤ والمصدر الرئيسي لثروة الكويت. وعندما كانت السفن تصل المنطقة كانت المجاذيف تربط بالسفن بصورة أفقية ويربط بكل مجذاف أثقال من الحجارة أو من الرصاص تتدلى بواسطة حبال ومن ثم كان الغواصون يقفون. بعد أن كانوا قد شبكوا أنوفهم بملاقط خشبية [الفطام]، على هذه الأثقال لكي يتمكنوا من الوصول إلى القاع بسرعة. وعلى عمق 40 قدما تحت سطح الماء كان الغواصون يتحركون بسرعة، وهم يلتقطون وينتزعون المحار ويضعونها في سلال [الديين]. ويستمرون هكذا لمدة دقيقتين أو أكثر قليلا إلى أن يشعروا بضيق النفس، فيشدون الحبل ويتم إنتشالهم إلى سطح الماء للتنفس. وتكدس أصداف المحار على سطح السفينة ويتم فتح المحار بحثا عن اللؤلؤ غداة اليوم بحضور القبطان.

    وفي كل فصل صيف كان أكثر من 400 قبطان يفرغون أكياسهم الحمراء الصغيرة على مكاتب تجار اللؤلؤ الكويتيين. وكانوا يشغلون في أوج كل موسم صيد ما يقارب من 10.000 رجل. وكان العاملون بهذه المهنة ـ من عرب من مختلف أنحاء الخليج وبحارة السفن التي تبحر في المحيطات يشكلون بيئة تتكون من أقوام شتى: فكان هنالك البدو يبيعون روث إبلهم كوقود أو يصنعون الحلي من الدولارات الفضية النمساوية في خيامهم السوداء بجوار أسوار المدينة. وكان هناك الفرس بمعاطفهم الزرقاء وقبعاتهم العالية المصنوعة من اللباد، واليهود الذين كان لهم كنيسهم الخاص وبضعة آلاف من الزنوج الذين كانت لهم محلات خاصة بهم تحمل إشارات غريبة، حيث كانت تسمع موسيقاهم.

    راقب عبد العزيز كل ذلك بإمعان وحمل معه عند عودته من الكويت الشيء الكثير ـ عقله المتفتح وإدراكه أن العالم لا ينتهي عند حدود الجزيرة العربية وإنما يبدأ عندها وميله للأطعمة التي لم يكن لها مثيل داخل الجزيرة العربية، وقد كان شغفا بالأسماك الطازجة.

    * * *

    نزل آل سعود في الكويت ضيوفا على حاكمها الشيخ مبارك آل صباح، ذلك الرجل الداهية الذي حظي بقساوة كانت مبعث احترام كبير في الجزيرة العربية. وكان مبارك قد استولى على السلطة ذات ليلة من شهر مايو [آيار] عام 1896 بعد أن قتل شقيقيه عندما كان الإثنان نائمين على سطح قصر آل صباح. ولم تكن حماية أو دعم مبارك لآل سعود من باب الخير والإحسان.

    كان مبارك يؤمن بأن قوة الكويت تكمن في إبقاء وسط الجزيرة العربية منقسما على نفسه. ولقد أدى الاستيلاء على الرياض وهروب آل سعود منها إلى تعاظم قوة آل رشيد. وكان مبارك يريد الإبقاء على آل رشيد في البوادي الشمالية المحيطة بعاصمتهم حائل، ومن أجل ذلك بادر إلى دعم الخطط التي كان آل سعود يعدونها لاستعادة الرياض. ولم يرد عبد العزيز أن ينتظر طويلا للشروع في تنفيذ خططه. ويروى أنه جمع ذات يوم عددا من أصدقائه الشبان واتجه راكبا ذلوله نحو الجنوب الغربي، وكان هدفه هو كسب تأييد البدو على طول الطريق واستعادة الرياض. ويقول الكابتن آرمسترونج، وهو من أوائل الذين كتبوا عن سيرة عبد العزيز والذي سمع هذه القصة في جدة عام 1933، إن الشيخ مبارك هو الذي شمل عبد العزيز برعايته ودله على طرق أكثر واقعية تكفل له تحقيق طموحاته ـ إن هذا الجزء من القصة، على الأقل، هو صحيح. إذ تحدث شهود عيان كانوا قد حضروا اجتماعات عقدت فيما بعد بين عبد العزيز ومبارك عن الاحترام العظيم الذي كان عبد العزيز يكنه للرجل الذي كان يكبره سنا. وقال مراقب آخر كان قد التقى بالشيخ مبارك عندما كان هذا الأخير قد شاخ إن عينيه كانتا تشبهان عيني السياسي الفرنسي العظيم ريشيليو، وحتى في السنوات الأخيرة من عمره كانت للشيخ مبارك، مثل ريشيليو، طموحات لم يستطيع تحقيقها. لقد كان مبارك سياسيا بالفطرة، واعيا لكل حيل عالمه العربي، وكذلك ـ وسرعان ما برهنت الأحداث ذلك ـ لحيل العالم الأوسع من حوله حيث بدأت القوى العظمى تبدي اهتماما بالكويت وموقعها الاستراتيجي في رأس الخليج. ولم يكن باستطاعة عبد العزيز أن يلقى في كل الجزيرة العربية رجل دولة أكثر حنكة من الشيخ مبارك كي يتعلم على يديه مهنة السياسة.

    وبحلول القرن العشرين كان مؤسس المملكة العربية السعودية قد بلغ سن الرجولة. وعلينا هنا أن ننتظر عشر سنوات أخرى للحصول على أول وصف له [وكذلك على أول صورة]، إلا أنه باستطاعتنا أن نتصور شابا يافعا طويل القامة مربوع الجسم له وجه مفتوح وأنف طويل، يتوفر على قوة بدنية وله نظرة محدقة مباشرة. ومن الواضح حقا أن عبد العزيز كان يتوفر على جاذبية عظيمة. وسرعان ما أثبت مقدرته على كسب ثقة الآخرين به. وكان يأكله مطمح واحد فقط.

    في عام 1927 روى عبد العزيز لمحمد أسد* حلما كان قد رآه في إحدى الليالي عندما كان في الكويت، علما بأنه كان يأخذ الأحلام على محمل من الجد. ولما أصبح عبد العزيز ملكا بادر إلى استخدام مفسر للأحلام التي كان يراها الملك في منامه. إلا أن الحلم الذي رآه عبد العزيز في الكويت لم يكن بحاجة إلى أي تفسير، إذ أنه رأى نفسه وحيدا على ظهر جواد في الصحراء حين ظهر أمامه فجأة ابن رشيد، حاكم الرياض الجديد والذي كان هو الآخر على ظهر حصان. واستطرد عبد العزيز في سرده لوقائع ذلك الحلم قائلا: كنا أعزلين من السلاح، غير ان ابن رشيد رفع عاليا بيده مصباحا عظيما مشعا. وعندما رآني أدنو منه رأى ابن رشيد عدوه في شخصي، فلكز جواده بالمهامز وولى هاربا.

    لكني طاردته وأمسكت بطرف عباءته ومن ثم بذراعه وبعد ذاك أمسكت بالمصباح وأطفأته. وعندما استيقظت من نومي أدركت أن. ..

    ويتساءل المرء عما إذا كان عبد العزيز قد شعر باليأس ولو مرة واحدة وعما إذا كان قد فقد إيمانه وهو يقضي وقته، الشهر تلو الآخر، دون عمل يذكر في الكويت؟ ولكن ليس لهذا السؤال من معنى إذ أن اليأس غريب على عالم يؤمن بالأقدار. ولكن يقال لنا إن عزيمة الرجل الشاب قد تراخت مرة واحدة على الأقل ـ وهنالك روايتان اثنتان مختلفتان لهذا الحادث.

    الأولى رواها أحد أبناء عبد العزيز الصغار إذ قال إن والده سأل عبيده ورفاقه أي كانوا يذهبون ليلاً، إذ أن سهراتهم كانت مثيرة جداً. لقد كان هؤلاء ينسلون ليلا تحت جنح الظلام عبر الأزقة الخلفية الضيقة ولا يعودون حتى مطلع الفجر، ولدى عودتهم كانوا يتحدثون عن الموسيقى والغناء والنساء. وسأل عبد العزيز هل بإمكانه أن ينضم إليهم.

    وبدون أي تردد أجابه أحد عبيده ((لا. . .أبدا فأنت عبد العزيز، إنك تختلف عنا جميعا ويجب عليك أن لا تنس ذلك أبدا. ينبغي أن تبقى هكذا إذ يجب علينا أن نتطلع دائما إليك، استعدادا لذلك اليوم الذي ستقودنا فيه من هنا)). وهكذا بقي عبد العزيز في البيت.

    لكن هنالك قصة أخرى رواها عبد العزيز نفسه في كبره لأحد مستشاره وهو السيد جمال بك الحسيني، مفادها أن الشاب عبد العزيز تجرأ مرة وتسلل عبر الأزقة الخلفية والتقى هناك بإحدى المومسات. واقترح عليها عبد العزيز أن يختليا في مكان ما.

    هنا سألته المومسة بصوت عال ليسمعه الجميع ((من أنت؟ ألست عبد العزيز بن سعود؟ ألا تخجل؟ كفاك مضيعة للوقت ولقوتك وروحك المعنوية. عد إلي متى استطعت أن تحصل على شيء يمكنك أن تتباهى به وسنعرف كلنا مدى رجولتك عندما تتمكن من استعادة الرياض.))
    [align=center][/align]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    ـ المغامرة الكبرى

    ((وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله))

    قرآن كريم

    في أواخر صيف عام 1901 كانت السفينة بيرسيوس التابعة للبحرية البريطانية تتمايل في خليج الكويت. وكان الضجر قد تملك قائدها القبطان أي. آر. بيرس إذ أنه كان قد أمضى أربعة أشهر شديدة الحرارة على ظهر السفينة الراسية بمحاذاة شريط من الرمال ومجموعة من البيوت الصغيرة عهدت إليه حمايتها، لأن الشك كان يخامر الحكومة البريطانية في أن تركيا والألمان كانوا يسعون إلى إمتلاك الكويت.

    ولم يستطع قائد السفينة الحربية أن يفهم سبب اهتمام حكومته البالغ بهذه البقعة من العالم. وكتب يقول إنه لمن الصعب على المرء أن يتخيل أن هنالك بقعة في العالم موحشة أكثر وغير جديرة بالاهتمام من تلك البقعة التي أنيط به أمر حمايتها.

    وأبحر القبطان بيرس ذات يوم بسفينته لبضعة أيام أسفل الخليج للقيام بتمارين على الرماية في محاولة لمكافحة السأم الذي كان يعاني منه. ولكن لدى عودته إلى خليج الكويت في شهر سبتمبر [أيلول] 1901 دهش القبطان عندما شاهد بواسطة ناظوره أعداداً كبيرة من الماشية والإبل والخيل وخيام البدو تملأ الصحراء المحيطة بالمدينة إذ أنه لم يكن لها أثر عندما أبحر قبل أسبوع. واستنتج من كل ما رآه أن شيئا ما على وشك الوقوع.

    وكان استنتاجه صائبا إذا أنه كان يشاهد أسلوب الدفاع الذي كان أهالي الكويت يتبعونه. فبمجرد أن كانوا يشعرون بوجود خطر داهم يتهددهم، كانوا يأتون من البادية ويتجمعون حول أسوار المدينة، وفي شهر سبتمبر [أيلول] 1901 كمن الخطر في غزوات آل رشيد. وكان الشيخ مبارك قد قاد في وقت سابق من ذلك العام مجموعة من البدو، ومن بينهم آل سعود، إلى شمال الجزيرة العربية عبر مسافة طولها 400 ميل مهددا بذلك قلب مملكة آل رشيد حول مدينة حائل. إلا أنه كان قد هزم، والآن جاء آل رشيد ليحاربوا مبارك في عقر داره وباتوا على مسافة ثلاثة أيام من الكويت.

    ترك القبطان بيرس وضباطه السفينة إلى الشاطئ ليتحروا الأمر. وكالمعتاد استقبلت الخيول زورقهم وقد وصل الماء حتى بطونها ـ وكانت هذه هي الطريقة التي يتبعها الشيخ مبارك ليجنب ضيوفه تلويث أحذيتهم بالطين ـ وكالعادة، أشعل كل واحد من البريطانيين سيجارا [كانت هذه هي الطريقة التي يتبعونها لمكافحة الروائح الكريهة المنبعثة من الشاطئ]. ووجدوا مبارك في انتظارهم وكانت معنوياته مرتفعة.

    وكتب القبطان بيرس أن الشيخ مبارك يتطلع إلى القتال وأضاف ((إن الزعيم المسن يتمتع بمعنويات عالية جدا. ولم يسبق لي أن رأيته مرتاحا وكثير الكلام كما أراه الآن)). وكان هناك احتمال بوقوع معركة ضارية بين آل رشيد من جهة ومبارك وحلفائه السعوديين من جهة أخرى على بوابات الكويت. ودعيت المجموعة البريطانية البحرية لإستعراض القوات الكويتية ـ السعودية. وكتب القبطان بيرس: ((كان الشيخ ممتطيا صهوة جواد أبيض رائع عليه سرج بديع. وقاد الشيخ مبارك الموكب يتقدمه حرس كبير من حملة البنادق. وأخلى الحرس الطريق في المدينة وساروا على عرض الشارع وهم يرددون بصوت رنان عال أهازيج الحرب. وكان الجميع يرتدون أجمل ما لديهم من الأثواب ـ حمراء وبرتقالية وبنية اللون. وتجمهر الناس في أبواب البيوت وعند تقاطع الشوارع وهم يرددون الأهازيج والهتافات تحية للشيخ. وكانت النسوة المحجبات يزغردن ويلوحن بأذرعهن. وكان كل رجل شاهدناه يحمل بندقية، باستثناء العميان أو الذين لا حول ولا قوة لهم. وبينما كان مبارك يقود الضباط البريطانيين بين صفوف المحاربين المتحمسين، كان جميع الرجال المنفعلين يرقصون ويلوحون ببنادقهم ويهتفون محدثين ضجيجا عاليا زادت من حدته الطبول)).

    وأضاف بيرس: ((حقا لقد كان المشهد رائعا وفريدا. ولا بد أنه كان هناك ما لا يقل عن عشرة آلاف رجل، منتشرين في السهل. وكان من بينهم قوات آل سعود التي كانت تتلهف لفرصة إنزال ضربة بآل رشيد)). وكانت راية آل سعود خضراء اللون وهو اللون التقليدي لعباءة الرسول (صلعم) وقد كتب عليها ((لا اله الا الله محمد رسول الله)).

    وعلى ما يبدو أدى حجم تلك القوة وضراوة الرجال الذين حشدهم مبارك إلى ردع إبن رشيد. ولا بد أنه ازداد قلقا عندما بلغته أخبار وجود نصارى يرتدون بزات زرقاء اللون مذهبة يسيرون بجانب الشيخ المسن على ظهور الجياد. وكانت بريطانيا قلقة إزاء الخطط الألمانية الرامية إلى مد سكة حديدية بين برلين وبغداد تنتهي على ساحل الخليج العربي في الكويت. فإذا وقع الميناء بأيدي آل رشيد فمن الممكن أن تذعن هذه القبائل عن طريق حلفائها الأتراك لمطامع ألمانيا. وعليه قام طاقم السفينة الحربية بيرسيوس وغيره من طواقم سفن حربية بريطانية أخرى في شهرين سبتمبر [أيلول] وأكتوبر [تشرين الأول] من عام 1901 بإنزال مدافع لحماية مدينة الشيخ مبارك إلى الجانب الآخر منها في حين صوبت هذه السفن مدافعها بإتجاه الصحراء.

    وفشل ابن رشيد في مسعاه وأرغم على الاكتفاء بالاستيلاء على بضع مئات من الأغنام لإرضاء رجاله ثم انسحب نحو الشمال للتفكير في الأمر وللاجتماع مع السلطات التركية في بغداد. وكانت هذه هي فرصة عبد العزيز. إذ كانت معظم قوات ابن رشيد أبعد ما تكون عن مدينة الرياض وكان شغلها الشاغل هو مبارك والتكنولوجيا الأجنبية الهائلة التي أدخلها على أساليب الحرب العربية التقليدية. أما حامية ابن رشيد الصغيرة في الرياض، التي لم تكن على دراية بهذه الصعوبة الجديدة، فإنها كانت تنعم بطمأنينة زائفة.

    واستأذن الرجل الشاب أباه والشيخ مبارك في أن يجرب حظه، فكان له ما أراد لا بسبب الثقة في النصر ولكن ربما لإدراكهما أن الأخطار في المرة القادمة ستكون أفدح من ذلك بكثير.

    * * *

    إن الرقم أربعين هو غالبا الرقم الذي يختاره البدو عندما يودون وصف جماعة صغيرة من الرجال، ويقال إن عبد العزيز أخذ معه من الرجال قوة قوامها أربعون رجلا عندما غادر الكويت في أواخر سبتمبر [أيلول] عام 1901. كان معظمهم من جماعة آل سعود ـ أقرباء وخدم وعبيد ـ وكان البعض الآخر من الأصدقاء والمغامرين. وكان عبد العزيز قائدهم وكان نائبه أخاه محمد. كان محمد في سن عبد العزيز تقريبا. وقد ولد لزوجة أخرى من زوجات عبد الرحمن في الأيام التي سبقت فترة المنفى. وربما كان أكبر من عبد العزيز، ولكن قيل عادة إنه كان أصغر منه. وكان محمد قويا، مربوع القامة، كث الحاجبين، ذا لحية أكثر سوادا من لحية أخيه. غير أن ملامح وجهه ـ كما يتبين من صور التقطت له في وقت لاحق ـ كانت تنم عن ذكاء أقل من ذكاء أخيه.

    وكان أعوان عبد العزيز في هذا الهجوم أقرب روحا وهم مجموعة من أبناء العم الذين انحدر فرعهم من العائلة من فترة سابقة عاشها آل سعود في البراري. وكانوا يعرفون باسم بن جلوي وهو إسم اشتق من ((جلو)). وكان من شأن أشدهم، وهو عبد الله بن جلوي أن يساهم مساهمة حاسمة في حظوظ الجماعة الصغيرة التي غادرت الكويت في خريف عام 1901 متوجهة إلى الرياض.

    توجه أفراد هذه الجماعة نحو الجنوب والغرب، جاعلين ساحل الخليج العربي على يسارهم. وكانوا يبحثون عن مؤيدين من بين القبائل التي توفر اليوم العمال لحقول بترول المملكة. وكان هؤلاء الرجال كغيرهم من الجماعات المغيرة يسعون إلى طلب المؤازرة وقد لقوها فعلا. إذا التحق بهم بدو من بني خالد والعجمان، وبحلول منتصف شهر أكتوبر [تشرين الأول] 1901 كانت الكويت تعج بأخبار نجاح غزوة عبد العزيز قرب المجمعة الواقعة إلى الشمال من الرياض. أما عبد العزيز ورجاله فقد واصلوا تقدمهم.

    كانوا ينامون ليلا بين الكثبان في الصحراء وحرصوا على ألا تظهر ظلالهم في الأفق. وكانت الجمال تعقل وتناخ في دائرة الرجال النائمين. وكانت البنادق والأسرجة في متناول اليد. وكان الرجال يعيشون على الماء الذي كانوا يحملونه في قربهم والزبد الذي كانوا يحفظونه في جلود السحالي والتمر الذي كان يعلق من قرابيس الأسرجة، علاوة على أي غذاء آخر يحصلون عليه أثناء غزوهم للقوافل أو مضارب القبائل.

    وبتكرار غزواتهم ارتفع عدد القوة الأصلية من 40 إلى 200 شخص وكانت استراتيجية عبد العزيز تكمن في قيادة جيشه الصغير نحو الرياض من الجنوب ومهاجمة المدينة عن الطريق الأقل مقاومة. إذ رأى عبد العزيز أن الجنوب كان أكثر ولاءً لذكرى آل سعود. لكن هذه الاستراتيجية فشلت. ذلك أن غزوات عبد العزيز لم تخلف غنائم كافية لإرضاء البدو. ولما بلغت ابن رشيد أنباء نشاطات إبن سعود، قام بتحذير رجاله في الرياض. وكان الوقت فصل الشتاء، وكان الطقس حارا نهارا وقارس البرد ليلاً، وكان شهر رمضان على الأبواب.

    وذاب جيش عبد العزيز بعد أن قرر البدو العودة إلى عائلاتهم وإبلهم وخيامهم، وبحلول شهر نوفمبر [تشرين الثاني] 1901 لم يبق لدى عبد العزيز سوى عشرة رجال علاوة على الأربعين الذين كان قد بدأ بهم ـ أي ستين أو سبعين رجلا حسب أسخى التقديرات. وانسحب عبد العزيز إلى حرض في شمال الربع الخالي حيث جاءه رسول من الكويت يحمل رسالة من مبارك وعبد الرحمن يحذران فيها عبد العزيز من أن هنالك أنباء تقول إن ابن رشيد يجند دعما من تركيا. وكان المسلك الواضح أمام عبد العزيز هو العودة إلى الكويت حيث الأمان. وتوقعا لذلك قال ((وكيل الأنباء البريطاني)) في الكويت في 11 نوفمبر [تشرين الثاني] 1901 إنه يتوقع عودة الغزاة السعوديين بتاريخ 15 نوفمبر [تشرين الثاني].

    جمع عبد العزيز ما تبقى من أتباعه وقرأ عليهم الرسالة. مؤكدا الأخطار التي باتت تواجههم. إن مجموعته الصغيرة من المحاربين المعزولة في حرض والتي لم تكن تملك سوى إبلها وبنادقها كانت تافهة بالمقارنة بالقوات التي كانت تحت تصرف ابن رشيد. ولم يعد هناك بارقة أمل في إثارة القبائل ضد آل رشيد.

    لم يكن عبد العزيز نفسه مستعدا للاستسلام، ولم يكن قادرا على تحمل إهانة التقهقر إلى الكويت. فقال إنه يفضل الموت على أسوار الرياض ودعا أولئك الذين يرغبون في الموت معه إلى الوقوف إلى يمينه وأولئك الذين يفضلون العودة إلى بيوتهم، إلى يساره. لقد كانت تلك هي نقطة اللاعودة كما تذكر عبد العزيز فيما بعد. وكان عبد العزيز يلجأ إلى حيلة كلما أراد تأكيد لحظة درامية وهي تخفيض صوته إلى ما يقرب من الهمس، الأمر الذي كان يجعل الحاضرين يسكنون ويحبسون أنفاسهم. ترى هل سيستجيب رجاله إلى ندائه؟ ولم يتردد رجاله أبدا. ووقف ستون منهم إلى يمينه وصاحوا بصوت واحد ((حتى الموت!)).

    وتقول بعض الروايات إنه لم يقف حتى رجل واحد إلى يسار عبد العزيز، في حين تقول روايات أخرى إن عددا قليلا جدا اختاروا جانب السلامة. ولكن حوالي ستين هو الرقم المتفق عليه بالنسبة لحجم القوة الضاربة التي وضعت نفسها رهن إشارة عبد العزيز في حرض في شهر نوفمبر [تشرين الثاني] من ذلك العام. عندها التفت القائد السعودي الشاب عبد العزيز إلى الرسول وقال له: ((عد إلى والدي وأخبره بما رأيته هنا. واطلب منه أن يدعو لنا وقل له إننا سنلتقي ثانية في الرياض، إن شاء الله)).

    ثم جمع عبد العزيز رجاله الأشداء وقادهم جنوبا نحو الربع الخالي تاركا الرياض خلفه. لقد كان على وشك أن يقامر بحياته في رمية واحدة للزهر ولكن بعد أن يكون قد عمل على زيادة فرص النجاح بإتباع استراتيجية بسيطة. إن حامية ابن رشيد في الرياض ستسمع أن أتباع عبد العزيز من البدو قد تخلوا عن رايته. وعن انسحابه إلى ما وراء الأفق الجنوبي الشرقي. لذلك إذا انقطعت أخبار عبد العزيز عنها فإنها ستشعر بطمأنينة زائفة وتخفف من يقظتها. وذهب عبد العزيز إلى داخل الربع الخالي واختفى عن الأنظار في نقطة على مقربة من واحة يبرين، موطن قبيلة المرة. وكان آنذاك يستريح نهارا لتظل جماعته مختفية عن الأنظار. وكان رجاله يزحفون ليلا نحو آبار المياه التابعة للقبائل ويملأون قربهم منها ومن ثم يتسللون عائدين إلى الأماكن التي قدموا منها بعد أن يكونوا قد محوا آثارهم. وكانوا حريصين على أن لا يعرف أحد أنهم ما زالوا أحياء. واستطاعوا أن يعيشوا هكذا قرابة خمسين يوما قضوها بين الراحة والنوم في حالة خمول كالتي يعيشها البدو لمدة شهور بين نوبات من النشاط المكثف. وقضت إبلهم تلك المدة على هذا المنوال وانتفخت سناماتها استعداداً للمسيرة الشاقة المقبلة*. وتجدر الإشارة هنا إلى أن من الخطأ القول بأن الإبل تخزن الماء في سناماتها، إذ أن كافة أنسجة أجسامها لها قابلية كبيرة على الامتصاص، ولكن السنامة تخزن الدهن وبذلك توفر، كما هو الحال بالنسبة للثديات الأخرى، احتياطيا من الطاقة في أوقات الراحة تستهلكه في الأوقات الشاقة، وهكذا قضى الرجال والحيوانات معا فترة من السبات بالقرب من يبرين مع بداية شهر رمضان التي صادفت حلول منتصف شهر ديسمبر [كانون الأول] 1901.

    وفي كل صباح كانت الشمس تلهب الرمال وكان عبد العزيز ورفاقه يقضون أوقاتهم في النوم بين الشجيرات الشائكة. وعند حلول الظلام كانوا يشعلون النار ويقومون بعمل القهوة ويأكلون التمر ويشوون قليلا من اللحم إذا كان الحظ قد حالف أحدهم وتمكن من إصطياد طير أو سحلية، ويقرضون الخبز الأسود.

    إن هذا الخبز هو الطعام الرئيسي بالنسبة للبدوي أثناء تنقله، وهو يصنع من الطحين الذي كان البدو يحملونه معهم في أكياس صغيرة في ترحالهم. ويعجن الطحين لعمل أرغفة صغيرة توضع في الرماد حول بكرج القهوة. وعندما تخرج الأرغفة من الرماد يتقاذفها الرجال فيما بينهم بين صيحات من ((الاه)) و((الاوه)) المقترنة بالصياح والضحك. لقد كانت هذه اللعبة جزءا من تسلية البدو وهم جالسون حول النار، علاوة على القصص والأساطير وأحلام اليقظة التي كان الرجال يتبادلونها.

    وفي مساء كل يوم كان قمر شهر رمضان يصبح أكمل، إلى أن اكسب الرمال ليلا مسحة فضية، وكان بإمكان الكشافة المنبطحين على التلال المحيطة خلف جمالهم مسح الصحراء الوضاءة لمسافة عدة أميال. ثم أعطى عبد العزيز الأمر بشد الرحال بعد أن راح القمر يتناقص بأسبوع، في مطلع شهر يناير [كانون الثاني] من عام 1902. وكانت المسافة الفاصلة بينهم وبين الرياض سبع ليال من السفر على ظهور الجمال وستكون كل ليلة منها أحلك من سابقاتها، وكان من المفروض أن يصلوا الرياض عندما سيكون الهلاك أنحف ما يكون، فيتآمر عيد الفطر والظلام على تسهيل مهمته.

    تبلغ سرعة الجمل البطيء نحو 3 أميال في الساعة وبإمكان الجمل الجيد أن يسير بمعدل 4 أميال في الساعة لعدة أيام. غير أن بلوغ سرعة 5 أميال في الساعة يعني أن الجمل سريع حقا. وكان على عبد العزيز وصحبه أن يقطعوا مسافة 30 ميلا في الليلة كي يصلوا إلى الرياض بعد أسبوع واحد، ولم يكن ذلك عسيرا عند السير نهارا لكنه كان أكثر صعوبة ليلا بينما هم يتقدمون بحذر شديد كي لا يكشف أحد أمرهم.

    وفي نهاية شهر رمضان كان عبد العزيز وجماعته لا يزالون على بعد 40 ميلا عن الرياض. وكانوا قد وصلوا آبار أبو جيفان الواقعة شرق الرياض. وفي هذا الموقع احتفل عبد العزيز ورفاقه بعيد الفطر المبارك. إلا أن احتفالهم كان قصيرا. إذ سرعان ما امتطوا إبلهم وعاودوا سيرهم ليلا حتى وإن كان الفجر كانوا قد وصلوا الهضبة المطلة على الرياض والسهل الواقع في الناحية الشمالية ـ الشرقية منها حيث يجلس اليوم أولاد وأحفاد عبد العزيز على مقاعد وثيرة لمشاهدة هجنهم وهي تتسابق.

    قضى المغيرون طوال يومهم منبطحين في الهضبة دون أن يكتشف أحد أمرهم، إذ أن المزارعين وأهل المدينة كانوا لا يزالون يغطون في النوم. واختار عبد العزيز الفرقة التي ستقوم بالهجوم وقوامها أربعون شخصا. وكان على الآخرين البقاء فوق الهضبة مع الإبل والمؤن والأمتعة. وأعطيت لهم الأوامر بالعودة إلى الكويت بأسرع وقت ممكن في حالة عدم سماعهم لأي شيء خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة لأن ذلك سيعني أن عبد العزيز قد توفي أو أصبح أسيرا لدى آل رشيد.

    * * *

    لقد اختلفت الحكايات التي رواها عبد العزيز فيا بعد لأناس مختلفين في أوقات مختلفة عن الملحمة الشهيرة، إذ أنه كان يجب أن يحيا هذه القصة البطولية ثانية. لقد كانت تعيده إلى عالم أصغر وأبسط وكان عبد العزيز يقص على سامعيه المغامرة بصوته الموسيقي. وكان إبهامه ينحنيان إلى الوراء بدرجة كبيرة تثير الدهشة في الوقت الذي كان يقوم بتحريك يديه للتأكيد على ما كان يقوله.

    ولم تكن الأميرة أليس [من الأسرة المالكة البريطانية] تعرف العربية، لكنها حين التقت بعبد العزيز عام 1938 احتاجت إلى ترجمة لكلمات قليلة كي تفهم خلاصة حديثه وذلك بسبب غنى تعبيراته الدرامية وحركات يديه. لقد كانت تلك المغامرة الفاتحة المعتادة لأي محادثة مع الزوار الأجانب من دبلوماسيين وممثلي شركات النفط. وفي شهر مارس [آذار] 1950 قص عبد العزيز روايته هذه على أول سفير للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية، الذي بعث بتفاصيلها إلى واشنطن واصفا إياها بأنها ذات أهمية تاريخية.

    ولقد سمع أولاد عبد العزيز الرواية مرات ومرات حتى باتوا يحفظونها، وأخذ مؤرخو سيرة عبد العزيز الأوائل تفاصيل الملحمة من فم عبد العزيز نفسه. وكان من بين أصدقاء عبد العزيز الذين تعين عليهم الإستماع إليها مرارا مع بعض التغييرات على فنجان قهوة مدى أكثر من ربع قرن من الزمن السير هاري سانت جون فيلبي الذي بات يشعر بالضجر عند سماعها لدرجة أنه لاحظ عندما عهد إليه في منتصف الخمسينات كتابة التاريخ الجازم للمملكة العربية السعودية بأن ((تفاصيل تلك الرواية الدرامية قد رويت كثيرا ولا تحتاج إلى التكرار هنا)). ويعرف كل تلميذ سعودي الرواية. إن عبد العزيز بالنسبة لهؤلاء الأطفال هو بمثابة روبين هود القرن العشرين ـ رجل جريء، مندفع، كلل بمجد القلة التي خرجت لمحاربة الأكثرية، ولقد أصبحت غارته العظيمة على الرياض بالنسبة للجزيرة العربية بمثابة اجتياح سجن الباستيل في فرنسا.

    غير أن الأسطورة محاطة بغشاوة على الرغم من أنها رويت مرارا وتكرارا على لسان عبد العزيز نفسه، وذلك بسبب اختلاف كل منها عن الأخرى بدرجة كبيرة تحول دون التوصل إلى الرواية الجازمة بالمعنى التاريخي الغربي ـ وأنت بكل تأكيد لن تجدها في الصفحات التالية. وتكمن الصعوبة إلى حد ما في أن عبد العزيز كان يتهيج حينما يعيد روايتها بلغة البادية الأمر الذي كان يجعل متابعة القصة من قبل المستعربين الأجانب أمرا صعبا. ولكن الفرق الأعمق هو بين المفهومين الغربي والعربي للحقيقة التاريخية. وتشكل الترجمة الغير دقيقة جزءا من القصة لأن معظم مستمعي عبد العزيز كانوا يفهمونه تماما وفهموا كذلك أنه كان يبتدع شيئا أثمن من مجرد سرد للوقائع. إنه كان يطوع التاريخ بنفس الطريقة التي قام بها كتاب العهد القديم بتأليف أساطيرهم. ((حدثه عن قصة رحلتك إلى الرياض)) قال فيلبي لعبد العزيز لدى تقديمه أحد الشبان الأمريكيين العاملين في مجال البترول إلى عبد العزيز في أواخر الأربعينات. وامتثل الملك العجوز للطلب.

    وقال فيلبي لعبد العزيز بعد ذلك ((لم يسبق لي أن سمعتك تروي القصة على هذا النحو من قبل!)) فأجابه عبد العزيز قائلا ((هذا صحيح. فلم يسبق لي أبدا أن رويتها على هذا النحو. وأحببت اليوم أن أسردها بشيء من التغيير)).

    * * *

    عند الغروب، حوالي الساعة السادسة من مساء يوم 15 يناير [كانون الثاني] من عام 1902. تقدم الأربعون رجلا إلى الأمام. ولم يكونوا يحملون معهم سوى أسلحتهم ـ خناجر وسيوف وبعض البنادق. ومشوا لمدة ساعة ونصف من الزمن حتى وصلوا مشارف الرياض الشمالية ـ الشرقية في موقع يسمى العود في جنوب محطة السكة الحديدية الحديثة ومعمل صلصة الطماطم.

    وفي يناير [كانون الثاني] 1902 كانت بساتين النخيل تنتهي عند هذه النقطة واختار عبد العزيز جماعة قليلة قوامها ستة رجال لتقوم بعملية الاستكشاف، وترك بقية قوته الضاربة تحت الأشجار. وكان على أخيه محمد أن يحضر هؤلاء الرجال إلى الأمام بعد أن ينتهي أفراد المجموعة من معاينة المكان.

    وتقدم عبد العزيز إلى الأمام تحت جنح الظلام مع رجاله الستة. وكانت مزارع الخضروات التابعة لمدينة الرياض تفصل بساتين النخيل عن المدينة نفسها. وكانت هذه المزارع عبارة عن متاهة من الممرات وقنوات الري والنواعير والأكواخ والعرائش المصنوعة من سعف النخيل. وسارت المجموعة بحذر عبر هذه الحقول إلى أن وصلت سور المدينة. واستعملوا جذع نخلة قديم كسلم وسرعان ما وجدوا أنفسهم في الشوارع المظلمة والنائمة دون أن يشاهدهم أحد.

    وكان هدف عبد العزيز قلعة المصمك، ثكنة آل رشيد القوية الواقعة وسط المدينة والتي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. وتتلاشى جدرانها السميكة المبنية من الطين في الظلمة ليلا في حين تضيء أضواء إعلانات منتجات سوني وناشيونال باناسونيك الجزء الأسفل منها.

    وفي يناير [كانون الثاني] 1902 كانت قلعة المصمك تقف شامخة في وسط ساحتها الممهدة بالطين والتي هي عبارة عن أرض مكشوفة حيث يمكن لحامية القلعة توجيه النيران من على جدرانها. وكانت قصور الريا ض المبنية من الطين تقف حول هذه الساحة. ولقد كان عبد العزيز متجها إلى قصر من هذه القصور واقع مباشرة قبالة البوابة الرئيسية للقلعة لأنه كان قد بلغه أن ذلك القصر كان مقرا الحاكم عجلان. ممثل آل رشيد.

    وكان على مقربة من ذلك الموقع بيت لمزارع عرف بولائه لآل سعود. وفي حوالي منتصف الليل طرق عبد العزيز باب ذلك البيت. فأجابته امرأة كانت داخل البيت إلا أنها رفضت أن تفتح له الباب. فقال لها عبد العزيز ((لقد جئت من طرف الحاكم)). ولفق قصة عن نيته شراء خراف للحاكم. غير أن ذلك لم يقنع المرأة، فالوقت لم يكن مناسبا لشخص غريب أن يأتي طارقا باب بيت في داخله نساء.

    وهكذا راح عبد العزيز يتحدث بلهجة آمرة قائلا إنها إذا لم تفتح له الباب، فإنه سيبلغ الأمر للحاكم الذي سيعاقب رب البيت. انصرفت المرأة، وبعد حين جاء رجل وفتح الباب بحذر. وكان عبد العزيز وجماعته على أهبة الإستعداد فاندفعوا إلى الداخل، وكان الرجل حقا صديقا قديما لآل سعود. واستطلع عبد العزيز حقائق الأمر. كان للحاكم عجلان، أحد شيوخ جبل شمر، بيت يقع على مقربة من بيت المزارع يواجه بوابة القلعة. إلا أن زوجته فقط كانت تنام هناك، إذ أن عجلان نفسه كان عادة ينام داخل القلعة لأسباب أمنية. وكان لا يخرج من القلعة إلا بعد شروق الشمس بنصف ساعة، فيعبر الساحة ليتناول فطوره مع زوجته ويلاطف خيوله. وكان عجلان دائما مصحوبا بمجموعة من الحرس. كما كانت هنالك حماية قوية من جنود آل رشيد داخل القلعة حيث كان يقف حراس بجانب البوابات. ولكن لم يكن هنالك أي حرس علي بيت عجلان.

    زحف عبد العزيز ورفاقه على سطح البيت ونزلوا في البيت المجاور له مباشرة، حيث وجدوا رجلا نائما مع زوجته، فقام عبد العزيز وجماعته بتكميمهما بالبطانيات وتقييدهما، ومن ثم واصلوا تقدمهم. وكان يبت عجلان أعلى من البيت المجاور بطابق واحد. فتعين على عبد العزيز وجماعته أن يتسلقوا الواحد على كتف الآخر للوصول إلى سطح دار عجلان. وهنالك وجدوا شخصين نائمين أحدهما إلى جانب الآخر. ترى هل كان الحظ حليفهم فوجدوا عجلان في بيته؟ تقدم عبد العزيز وعبد الله بن جلوي يحذر وبصمت عبر الغرفة وأسلحتهما بيديهما. كانت تلك اللحظات من اللحظات الحاسمة التي عمل عبد العزيز في الأعوام التالية على وصفها بحماس، مقلدا تقدمه خلسة عبر الغرفة وهو يحمل بندقيته في يديه جاهزة للاستعمال، بينما تقدم ابن عمه بجانبه حاملا شمعة مضيئة ستر ضوءها بيده الأخرى. لكن تلك اللحظات جاءت مخيبة للآمال، إذ أنه على الرغم من أن أحد الشخصين النائمين كان زوجة عجلان وهي من أهالي الرياض فإن الشخص الآخر لم يكن سوى أختها. وقام عبد العزيز وبن جلوي بتكميم وتقييد الامرأتين ومن ثم فتحا ثغرة في الجدار الطيني تؤدي إلى البيت الذي كانا قد جاءا منه. وكان سبب ذلك أنهما كانا بحاجة إلى طريق يستطيع محمد وقوته بواسطته من الولوج عبره إلى داخل بيت الحاكم دون إثارة انتباه أحد. وأرسل أحد افراد الجماعة المكلفة بالاستكشاف إلى بساتين النخيل ليأتي بالتعزيزات.

    وبعد فترة قصيرة اجتمع الرجال الأربعون جميعا وبدأوا يتطلعون من النوافذ الخشبية المشبكية عبر الساحة إلى القلعة التي كان عليهم أن يهاجموها عند طلوع الشمس. وكانت هنالك بضع ساعات طويلة من الإنتظار حتى حلول الفجر. وأمضى الرجال ذلك الوقت حسب أحسن تقاليد البادية: احتساء القهوة وتلاوة القرآن الكريم والنوم. وقبل بزوغ الشمس وفي تلك اللحظة المعينة عندما يمكن تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود الموضوعان جنبا إلى جنب على يدك توضأ الرجال وصلوا صلاة الفجر خلف عبد العزيز.

    سمع الرجال أصوات الخيل وهي تجلب إلى خارج القلعة وتربط هناك انتظارا لمجيء عجلان. وتطلع الرجال عبر الساحة منتظرين ظهور الحاكم.

    واليوم يستطيع أي فرد أن يذهب ويقف عند باب قلعة المصمك نفسه الذي كان عبد العزيز ورفاقه ينظرون إليه بينما كانت مغامرتهم تدنو من ذروتها. وباستطاعتك أنه تلمس الباب وتتحسسه دون أي عائق، إذ لا وجوه هناك لأمناء أو حواجز. وفي الواقع لا توجد هنالك أية إشارة ولو صغيرة تدل على عناية خاصة بالقلعة باستثناء أنبوب إنارة صغير من النيون مائل فوق المدخل.

    وفي واسطة بوابة القلعة. المكسوة اليوم بالغبار والمرصعة بالمسامير والتي لم يتحسن مظهرها برغم محاولات ((الترميم)) عبر السنين. هنالك خوخة [باب صغير] لا يتجاوز عرضها بالكاد قدمين وارتفاعها ثلاثة أقدام على ارتفاع ثلاثة أقدام عن الأرض. لا تسمح بمرور أكثر من فرد في آن واحد. وكان الهدف من تصميمها على هذا النحو إرغام الشخص الذي يريد الولوج عبرها أن يدخل رجلا واحدة أو ذراعا واحدا أو رأسه عبر الفتحة وبذلك يكون تحت رحمة أي حارس يقف خلف الباب داخل القلعة شاهرا سيفه.

    إنه ليس ذلك الباب الذي يمكن للمرء أن يمر عبره بسهولة وكرامة. لذلك قام الحرس في صبيحة أحد أيام شهر يناير [كانون الثاني] 1902 بفتح البوابة الرئيسية للقلعة عندما ظهر أخيرا حاكم الرياض عجلان ليذهب إلى بيته لتناول طعام الإفطار، ثم أعادوا إغلاقها بعد خروجه. وسار عجلان في ضوء الشمس عبر الساحة متوجها إلى زوجته وخيوله.

    تختلف الروايات حول الخطط الدقيقة التي كان عبد العزيز قد أعدها مقدما للتنفيذ في تلك اللحظة. وتقول إحداها إن عبد العزيز ألبس أصغر أفراد جماعته حجما ثوب الخادمة التي كانت عادة تفتح الباب للحاكم. وكان الغرض من ذلك استدراج عجلان إلى داخل بيته ثم قتله. ويصر راوٍ آخر على أن عبد العزيز وضع بعض رجاله في الغرفة العليا لتأمين الحماية بينما هو يتبارز مع عجلان أمام البيت، في حين تتحدث رواية ثالثة عن عدم وجود خطة وتؤكد أن عبد العزيز، الذي كان قلقا ومتوتر الأعصاب، ذعر واندفع نحو عجلان قبل أن تحين اللحظة المناسبة.

    ولكن أحد السعوديين الذين شاركوا فعلا في المناوشة وصف عبد العزيز بأنه كان رابط الجأش تماما في اللحظات التي سبقت المواجهة. وقال هذا السعودي لهارولد ديكسون ((كم كان عبد العزيز هادئا. لقد رمى بعقاله جانبا وربط كوفيته فوق رأسه وحول رقبته وتبع ذلك يربط الأكمام الطويلة لدشداشته حول رقبته)). وهكذا تهيأ عبد العزيز للمعركة واندفع إلى الخارج مطلقا صرخة مدوية، واتجه نحو عجلان الذي أخذ على حين غرة. وكان عجلان مصحوبا بعدد قليل من الحراس، ولكنه كان قريبا نسبيا من بوابة القلعة. ولما خرج رجال عبد العزيز إلى الساحة بأسلحتهم استدار حرس آل رشيد نحو القلعة وغاصوا الواحد تلو الآخر عبر الخوخة في البوابة، في الوقت الذي بدأ فيه الحراس الآخرون يطلقون رصاص بنادقهم من أسوار القلعة على الحشد في الساحة.

    وراح عبد العزيز يتصارع مع عجلان الذي كان قد حاول الهرب نحو القلعة. لكن عبد العزيز أوقعه أرضا من الخلف، ثم راح الاثنان يتقاتلان وجها لوجه. وكان عبد العزيز يصد ضربات سيف عجلان بأخمص بندقيته. ويؤكد حافظ وهبه إن عجلان استدار محاولا الهرب ولربما نجح في ذلك لولا أن عبد العزيز أصابه برصاصة من بندقيته ـ في ذراعه كما يقول حافظ وهبه وفي ساقه كما قال أحد أبناء عبد العزيز.

    إلا أن الجميع يجمعون على أن الدور الذي لعبه عبد الله بن جلوي كان حاسما، إذ أنه قتل أحد حراس آل رشيد في الوقت الذي كان يتأهب لطرح عبد العزيز أرضا. ثم تحول إلى عجلان ورماه برمحه. إلا أنه أخطأه بمسافة قصيرة جدا. واستقر الرمح عميقا في بوابة القلعة بجانب الخوخة لدرجة أنه تعذر سحبه من البوابة دون كسر نصله الذي بقي غارزا هناك.

    عندئذ تحول القتال إلى لعبة شد حبل عبر الخوخة. فبينما كان حرس ابن رشيد يمسكون برأس وكتفي عجلان داخل القلعة، كان السعوديون في الخارج متشبتين برجلي عجلان الذي كان يركلهم بكل قواه. وفجأة تمكن عجلان الذي كان يقاوم بجنون من تسديد ركلة قوية إلى عانة عبد العزيز الذي هوى إلى الأرض لاهثا. وأرخى عبد العزيز رجلي عجلان وتمكن رجاله من جره إلى داخل القلعة. ولو أن عبد الله بن جلوي لم يلق بنفسه داخل القلعة وراء عجلان في تلك اللحظة لضاع كل شيء.

    هل أمسك بن جلوي بعجلان مرة أخرى من رجله داخل الباب مباشرة وقتله مما أدى إلى استسلام الحامية؟ هل قتل بن جلوي عجلان بالسيف [كما يقول آرمسترونج] أم أنه قتله رميا بالرصاص [كما يقول الزركلي] بينما كان يعدو صاعدا درجات الجامع [كما يقول فان ديرميولين] أو داخل باب المسجد بعد أن لجأ عجلان إلى هناك ولكنه جر إلى الخارج مرة أخرى [كما يقول أحمد بن عبد العزيز]؟

    أو ربما كان عبد العزيز نفسه هو الذي تمكن بصورة ما وفي مكان ما من سحب خنجره وقتل الحاكم، كما كان الوزير البريطاني ريدير بولارد يعتقد بعد أن سمع القصة من عبد العزيز نفسه عام 1937؟

    إن عبد العزيز نفسه كان دائما يقول إن الفضل يعود إلى ابن عمه، لكن ذلك ليس مهما إذ أن النتيجة كانت واحدة. فقد استسلمت حامية ابن رشيد وأصبحت الرياض تابعة لعبد العزيز. وعند ظهر ذاك اليوم تجمع بضعة آلاف من الناس وبايعوا البطل الشاب عبد العزيز ثم صلوا وراءه صفوفا في الجامع. وأصبح آل سعود مرة أخرى سادة بيتهم وبقوا كذلك منذ ذلك التاريخ.

    إن الرياض اليوم، المغرمة بالأسمنت السابق الصب، وأعمال هدم كل ما هو قديم، تبدي قليلا من الوعي بالعراك الذي قرر مصيرها في القرن العشرين، إذ ليس هنالك أية لافتة ترشدك إلى قلعة المصمك.

    ومع ذلك فإنك إذا تحسست البوابة إلى اليمين من الخوخة حيث صنع التاريخ فإن إصبعك سيتوقف عند حافة قطعة معدنية مدفونة في الخشب. إنها غارزة لدرجة أنها تحدث ثمانية عقود من عدم الإكتراث المحلي وعقدا واحدا من جامعي التذكارات الأجانب، ولا يمكنك مشاهدة رأسها المدبب. ولكن يمكنك أن تقدر القوة التي دفعت بالرمح الذي رماه عبد الله بن جلوي صبيحة أحد أيام شهر يناير [كانون الثاني] عام 1902 بمجرد لمسك لهذه القطعة المعدنية الرمادية اللون. المسها بأناملك واشعر بصلة بتلك المناوشة التي جرت في بوابة الصحن قبل أقل من ثمانين سنة.





    --------------------------------------------------------------------------------

    * إن تاريخ ميلاد عبد العزيز الصحيح ليس معلوما ولكن المؤلف يعتقد بناء على تحقيقاته أنه ولد في عام 1876.

    * تذبح الذكور عادة وهي صغيرة لأكل لحمها وهذه هي العادة المتبعة في الوقت الراهن نظرا إلى الاستغناء عن الجمال في حمل الأثقال.

    * بدأ محمد أسد حياته كيهودي بولندي وكان والده حاخاماً من مدينة لفوف. ومن خلال عمله كصحافي في الشرق الأوسط أقام صداقات مع شخصيات من أمثال عبد العزيز. ثم أشهر إسلامه ووصف ذلك في كتاب مبدع ومعقد هو ((الطريق إلى مكة)). ولقد وصلت سيرته أوجها عندما أختارته دولة الباكستان حديثة الاستقلال ممثلا لها لدى الأمم المتحدة. وهو يعيش في حين كتابة هذه السطور في طنجة.

    * تنبع قدرة الجمل على البقاء مدد طويلة بلا ماء من مرونة حرارة دمه والتي قد ترتفع بمقدار 6 درجات فهرنهايت قبل أن يبدأ جسمه في العرق. علاوة على مقدرة كليتاه التخلص من نفايات الجسم بفقدان كمية قليلة من السائل. إن الجمل يبول لمدة قصيرة وبقوة.
    [align=center][/align]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    الجزء الثاني

    آل سعود

    4ـ لا إله إلا الله

    كانت القرية الصغيرة المحاطة بسور بني من الطين والتي استعادها عبد العزيز في يناير [كانون الثاني] من عام 1902 نيابة عن عائلته أبعد ما تكون عن القرن العشرين من جميع النواحي تقريبا. ولم يستطع رسامو الخرائط الغربيون حتى تحديد مكانها بوضع خطوط طول وعرض لموقعها، إذ أنها كانت آنذاك مجرد نقطة وضعت بصورة عشوائية في مكان ما وسط الصحراء. وفي عام 1865 جرؤ رجل إنجليزي من عبور الصحراء البالغ طولها 250 ميلا والتي تفصل بين البلدة والخليج العربي. ولكن المقدم لويس بيلي لم يكن سوى واحدا من خمسة أوربيين فقط عرف عنهم أنهم زاروا الرياض على مدى تاريخها المدون بأكمله ولم يقم رجل غربي آخر بعده بزيارتها حتى عام 1912.

    كانت شبه الجزيرة العربية عام 1902 عبارة عن رقع من المشيخات والسلطنات المتنافسة. وكانت المنطقة المحيطة بالرياض تعرف باسم نجد. ولم تكن نجد غنية بوجه خاص، إلا أنه كان لها طابع خاص بها. وكان سكان نجد من المسلمين يتبعون مذهبا إسلاميا متقشفا يتنكر للمتع الدنيوية. وعندما وصل لويس بيلي بساتين النخيل المحيطة بالعاصمة السعودية عام 1865 طلب منه أن لا يدخن إلا خارج أسوار البلدة وذلك لأن التدخين كان محرما داخل تلك الأسوار.

    لقد كان التدخين واحدا من الملذات العديدة التي كان سكان الرياض لا يتقبلونها. وبعد سنوات من ذلك التاريخ كتب أحد الرحالة يقول ((كان هنالك رجال قساة نحفاء من حيث القامة ووجهات النظر. . لقد رفضوا جميع الأشياء الممتعة مثل الخمر والأطعمة الفاخرة والتبغ والملابس الناعمة والملمس)) ـ وحتى سجادات الصلاة. وكان سكان نجد يفسرون القرآن حرفيا.

    لقد أسماهم العالم بالوهابيين*، نسبة إلى المعلم والمصلح محمد بن عبد الوهاب الذي قام في أواسط القرن الثامن عشر بوضع تفسيرهم المتقشف للقرآن الكريم. ومن بين أوائل القصص التي تروى للصغار في المملكة اليوم قصة بن عبد الوهاب.

    قصة المعلم

    ولد محمد بن عبد الوهاب عام 1703، وقرر أن يكرس حياته لربه سبحانه وتعالى وذلك بدراسة القرآن الكريم وتفسيره حرفيا وبدقة. وبحلول عام 1740 كان المعلم نشيطا في نجد وكان ينظم حملات تطهيرية ضد الأشياء الوثنية التي كانت تقف حاجزا بي الإنسان وربه.

    واستغل منصبه كقاض ليأمر بهدم الأضرحة والقباب التي كان الناس يحجون اليها إذ كان المسلمون في الجزيرة العربية قد وقعوا فريسة للخرافات. وكانوا يقدسون أشجار الخصوبة التي كان يعتقد أنها تساعد على الإنجاب، وحتى النصب التذكارية التي كانت تقام تخليدا لذكر الموتى.

    وكان بن عبد الوهاب يقول في تعاليمه: ((إن الطين لا يستطيع إنقاذكم. صلوا لله ولله وحده)). وفسر المعلم الشريعة بكل دقة ـ شريعة الله التي أملاها سبحانه وتعالى على نبيه الكريم محمد (صلعم) في فجر الإسلام والتي لم تعد تطبق بدقة وبمراعاة الأصول. وعندما صادف امرأة ثبتت عليها تهمة الزنا أمر بإقامة الحد عليها كما تنص عليه الشريعة، فرجمت حتى الموت.

    واستاء الكثيرون من التغييرات التي جاء بها بن عبد الوهاب وبعد رجم الزانية تنكر له الناس الذين كانوا قد وفروا له الملجأ. وكان من حسن حظ المصلح أن محمدا بن سعود حاكم الدرعية، التي تقع وسط أشجار النخيل في وادي حنيفة على بعد بضعة أميال شمال الرياض [لم تكن الرياض يومها خاضعة لحكم آل سعود] كان قد سمع برسالته.

    وقال محمد بن سعود لابن عبد الوهاب: ((مرحبا بك في بلد هو خير من بلدك))، وأصبح المعلم قاضي الدرعية. وبذلك تم في عام 1744 إرساء التحالف العظيم بين آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب. وقام المعلم بإصلاح الدرعية فحرم التدخين والرقص والموسيقى لأنها تلهي عن التفكير بالله، وتم القضاء على الأضرحة والبذخ. ولكن الدعوة الوهابية تطلب أكثر من مجرد الإصلاح، إذ أن المعلم كان يدعو إلى الهداية أيضا. وكان يقول إن من واجب كل مسلم صالح أن يبدأ بنفسه ومن ثم يقوم بتطهير أولئك الذين من حوله ـ وإذا لم يستجب هؤلاء بالإقناع الودي فلا مناص من استعمال أساليب أقوى، وعلى الحاكم أن يعلن الجهاد.

    بعد مدة قصيرة من مجيء محمد بن عبد الوهاب بدأ آل سعود بالتحرك. فهاجموا بلدة الرياض القريبة ومن ثم سعوا لإخضاع نجد. قلب شبه الجزيرة العربية حتى وصلوا سواحل الخليج العربي. إن ذلك لم يتم بسهولة، إذ أن ذلك استغرق سنوات عديدة وتوفي أول ابن سعود وكذلك محمد بن عبد الوهاب. إلا أن أبناءهم في نجد استمروا في تلك الشراكة التي كان آباؤهم قد أرسوا قواعدها. وكانت جيوش نجد، الملهمة بالتعاليم الوهابية. بزعامة آل سعود شديدة البأس، لا تعبأ بالموت، لا يهمها شيء آخر سوى رغبتها في تنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى.

    وفي عام 1802 اتجهت هذه الجيوش غربا نحو الديار المقدسة، ولقد أبدت الطائف، الواقعة على حافة الجرف الذي يطل على مكة المكرمة، المقاومة وعانت من مصير مروع إذ ذبح من أهاليها كل فرد ذكر لم يتمكن من الهرب.وفتحت مكة المكرمة، بتأثير الهلع الذي انتاب أهلها، بواباتها للوهابيين، وكذا كان الحال بالنسبة إلى المدينة المنورة. وقام الرجال القادمون من نجد بتحطيم كافة الأضرحة والتماثيل، ولما وصلت قوافل الحجاج من مصر والشام قام الوهابيون بطردهم باعتبارهم عبدة أوثان.

    وتم تطهير المدن المقدسة، ولأول مرة منذ الأيام الأولى للإسلام تم توحيد معظم شبه الجزيرة العربية تحت سلطة واحدة. وبحلول القرن التاسع عشر كان آل سعود يسيطرون من نجد على إمبراطورية بلغت مساحتها مليون ميل مربع تقريبا ـ وقد فعلوا كل ذلك باسم إعلاء كلمة الله كما شرحها لهم محمد بن عبد الوهاب.

    في عام 1981 كان باستطاعتك أن تكتشف تأثير المعلم حتى قبل أن تطأ قدمك أرض المملكة. فبعد قيامك بربط حزام مقعدك على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية السعودية من طراز ترايستار ووضع السماعات على أذنيك وإدارة المفتاح إلى القناة رقم واحد تسمع تلاوة من القرآن الكريم. ولا تقدم المشروبات الروحية أثناء الرحلة أبدا. وتأكل ما يقدم لك من الطعام الخالي من لحم الخنزير وتشرب عصير التفاح أو ماء جلب من مكة المكرمة. ولدى وصولك إلى المملكة عليك أن تفتح حقائبك التي يتم تفتيشها بدقة للتأكد من خلوها من المشروبات الكحولية أو لحم الخنزير أو أية مواد ((خلاعية)) ـ ويشمل هذا كافة المطبوعات التي تقرأ من قبل البالغين والتي يمكن شراؤها من مكتبة المطار الذي أقلعت منه.

    ويمنع المسيحيون من ممارسة شعائرهم الدينية في المملكة العربية السعودية [تنظم السفارات والشركات الأجنبية بحذر ((محاضرات)) أسبوعية لرعاياها]. ولما حاولت بعض محلات السوبر ماركت استيراد شجيرات عيد الميلاد قامت السلطات بحرقها لأنها رموز وثنية. وفي أغسطس [آب] 1979 تم في المملكة تحريم بيع حتى ((البيرة)) و((الخمور)) و((الشمبانيا)) الخالية من الكحول خشية أن يتصور الناس مذاق وتأثير الكحول بينما هم يشربون المشروبات غير الضارة. وتسهر على تنفيذ كل ذلك هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجوب ممثلوها [المطاوعة] ذوو اللحى الشوارع وهم يحملون عصى الخيزران. وبحلول المغرب في الرياض يجوب هؤلاء أزقة السوق المغبرة ويضربون بعصيهم على النوافذ منادين ((الصلاة)). وعندها ترى أصحاب الدكاكين وهم يقفلون محلاتهم ليذهبوا إلى أقرب جامع.

    وكان صديق عبد العزيز الغربي، هاري سنت جون فيلبي، يسمي محمد بن عبد الوهاب أحد مؤسسين اثنين للمملكة العربية السعودية. لقد كان آل سعود حتى مجيء محمد بن عبد الوهاب إحدى عشائر نجد الصغيرة تعيش شأنها في ذلك شأن الكثيرين في نجد من حضر وفلاحين على التجارة وزراعة النخيل وربما تربية الخيول إلى حد ما. وكانوا ينضمون إلى القبائل في غزواتها كلما أحسوا بقوتهم ويمتنعون عن ذلك في الأوقات التي كانوا يشعرون فيها بالضعف. لقد كانوا مستقلين بصورة متواضعة ولكن ليسوا بناة إمبراطورية بأي شكل من الأشكال. ولم يكن من المحتمل أن يسمع العالم الخارجي بهم لولا تحالفهم مع المعلم.

    ولكن محمدا بن عبد الوهاب غير مسار آل سعود في اتجاه جديد، ولقد عكس اسم العائلة ذلك. واستطاع المؤرخون أن يعودوا بأصل العائلة إلى عام 1446م عندما نزح أب وأبنه يعتقد أنهما انحدرا من قبيلة عنيزة عن البادية وشرعا بزراعة الأرض بالقرب من الدرعية. وبعد عشرة أجيال رزق واحد من سلالته يدعى سعود إبنا سماه محمد وهو الذي وفر ملجأ لابن عبد الوهاب عام 1744. إننا لا نعرف إلا القليل عن سعود هذا ولسنا متأكدين من الاسم العائلي الذي كان يعرف هو وآباؤه وأجداده به. ولكن محمد بن سعود الذي أسس الشراكة بين العائلة ومحمد بن عبد الوهاب بات يعرف باسم ابن سعود. وهكذا أصبح ذلك اسم عائلة أحفاده منذ ذلك الحين حيث أن العائلة أصبحت ذات شأن في عهده*.

    لقد ألهمت ذكرى الإنجازات المشرفة لعائلته كحملة للراية الوهابية استعادة عبد العزيز للرياض في عام 1902. وبفرض سلطتهم على مكة المكرمة والمدينة المنورة قبل ذلك بقرن من الزمان أصبح آل سعود سادة أكبر كيان سياسي في الجزيرة العربية تم إنشاؤه منذ العصر الذهبي للإسلام. وفي عام 1804 كان آل سعود يحصلون على أتاوات من أراضي أكبر مساحة وتعدادا للسكان من الولايات المتحدة الفتية آنذاك. ومن نجد امتد سلطانهم من البحر الأحمر إلى الخليج العربي ومن اليمن إلى بوادي الشام، وشعرت العائلة بأن لها من القوة ما يكفي لتحدي الخليفة ـ السلطان العثماني في القسطنطينية بعدم السماح للحجاج القادمين لأداء فريضة الحج تحت حماية السلطان وسلطته بالقيام بذلك.

    غير أن القوة السعودية في أوجها لم تدم أكثر من إثنتي عشرة سنة نظرا للنهاية غير السعيدة لقصة المعلم.

    قصة التفاحة والسجادة

    غضب الخليفة ـ السلطان في القسطنطينية حينما سمع بأن النجديين قد نهبوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنعوا الحجاج من أداء فريضة الحج. وكان الخليفة ـ السلطان يدعي أنه حامي الأماكن المقدسة. لذا بادر إلى إصدار أوامره إلى نائبه في مصر، محمد علي، لمعاقبتهم على غطرستهم. وفي عام 1813 أرسل محمد علي جيوشا إليهم عن طريق البحر الأحمر. وتمكنت تلك الجيوش من إستعادة مكة المكرمة والمدينة المنورة، غير أنها كانت تهزم في كل مرة حاولت فيها التقدم إلى داخل شبه الجزيرة العربية نحو البوادي الوسطى، إلى أن يأس محمد علي من الاستيلاء على نجد ومعاقبة آل سعود.

    وذات يوم بينما كان محمد علي جالسا في قصره في القاهرة أخذ تفاحة ووضعها وسط في سجادة كبيرة. وكان كل قادة جيشه جالسين في القاعة، وكل منهم يتبجح قائلا إنه قادر على احتلال نجد بسهولة لو أن المهمة أوكلت إليه.

    ورد عليهم محمد علي قائلا: ((إن الأمر ليس بتلك السهولة. إذ أن الإنتصار على نجد يشبه هذه التفاحة التي وضعت وسط هذه السجادة الكبيرة، وإن الشخص الذي يستطيع أن يلتقط التفاحة دون أن تطأ قدماه السجادة سيكون قادرا على احتلال نجد)). فنظر القادة العسكريون إلى التفاحة وبدأوا يفكرون في كيفية التقاط التفاحة دون أن تطأ أقدامهم السجادة. وعجز الجميع عن التوصل إلى حل لهذه المشكلة باستثناء الابن الثاني لمحمد علي، إبراهيم باشا، الذي استأذن والده بالسماح له بتجربة حظه. فأجابه والده: ((بكل تأكيد)).

    وعندها سار إبراهيم الشاب نحو أحد أطراف السجادة وركع وبدأ يلف السجادة إلى أن استطاع أن يمد يده ويلتقط التفاحة بكل سهولة. لقد كان إبراهيم هو الرجل الذي كان والده يبحث عنه. وعليه أنيطت به.

    قيادة الجيوش التركية وأبحر في البحر الأحمر ومن ثم سار إبراهيم بجيوشه نحو الداخل وبدأ يلف سجادة نجد معتمدا على القبائل التي كان باستطاعته إغراءها بالبنادق المال. وانضمت إليه قبائل عتيبة وحرب ومطير، وبدأت القبائل تتخلى واحدة تلو أخرى عن آل سعود وتنضم إلى إبراهيم باشا. وتقدم إبراهيم باشا ببطء وثبات. وبعد أشهر من الرشوة والانتصار وصل جيشه عند أسوار الدرعية.

    وبالرغم من أن إبراهيم باشا استطاع لف سجادة نجد فإنه وجد صعوبة في التقاط التفاحة. وكان قد جلب معه المدافع ومهندسا فرنسيا لمهاجمة أسوار الدرعية المبنية من الطين. إلا أن سكان الدرعية قاوموا ببسالة. وأصبح القتال مريرا. وقام الأتراك بقطع كل شجرة نخيل كانت موجودة في الوادي، أي ما يساوي قوت ثلاثين عاما. وكان إبراهيم باشا يأمر بقطع رأس كل نجدي يقع في الأسر ويرسل رأسه إلى القاهرة. وعندما أصبحت هذه السلال ثقيلة جدا أمر إبراهيم باشا بالاكتفاء بالآذان بدلا من الرؤوس. وكان محمد علي يدفع خمس طالرات [قطع نقدية فضية] لقاء كل زوج آذان يسلم إليه. حقا لقد كانت تلك الأيام أياما قاسية ودامية.

    وفي النهاية وبعد مذابح استمرت ستة أشهر قرر عبد الله، عميد عائلة آل سعود، أن يجنب الناس المزيد من الآلام والمعاناة. واستسلم لإبراهيم باشا الذي أرسله إلى القاهرة مكبلا بالسلاسل. ومن هناك أرسله محمد علي إلى الخليفة ـ السلطان، وفي القسطنطينية حاول الأئمة وشيوخ الدين إقناعه بالعدول عن معتقداته. إلا أن عبد الله بن سعود تمسك بمبادئه ولم يحد عنها، ولما رأى الأتراك ذلك نفذوا حكم الإعدام. وقطع رأسه وهشمت جمجمته في هاون وعلق جسده ليراه الناس وعلقت الورقة التي كانت تتضمن حكم الإعدام بحقه بواسطة خنجر دفن في قلبه.

    ولم يكن عبد الله بن سعود الشهيد الوحيد، إذ ابتكر إبراهيم باشا الذي كان لا يزال في نجد طريقة شيطانية لتعذيب أحد شيوخ الدين وحفيد من أحفاد بن عبد الوهاب وذلك بإجباره على الاستماع إلى الموسيقى قبل إرساله المقبرة حيث أردي قتيلا بإطلاق النار عليه. وأمر إبراهيم باشا بخلع أسنان شيخ آخر حكم عليه بالإعدام. لقد قتل إبراهيم باشا العديد من الناس دونما رحمة أو شفقة وأمر بتدمير الدرعية تدميرا كاملا وقطع كل نخلة من أشجار النخيل المتبقية.

    وهكذا قام جنود إبراهيم باشا بتنفيذ أوامره وقصفت مدفعيته أسوار المدينة مرة أخرى، وبعدها عادت جيوشه إلى مصر.

    لا يستطيع من يزور الدرعية اليوم إلا أن يشعر بالرعب نتيجة الطريقة الكفؤة التي نفذت بها أوامر إبراهيم باشا عام 1819 وذلك لأن الأسوار والدور المهدمة في العاصمة السعودية الأصلية لا تزال موجودة اليوم في الحالة التي تركها فيها الأتراك تقريبا قبل قرن ونصف قرن من الزمن.

    بعد مغادرة إبراهيم باشا عادت أشجار النخيل لتنمو من جديد. ولكن سعفها تلقي ظلالا على بلدة مهجورة. فهنالك القصر الذي كان آل سعود فيما مضى يستضيفون فيه أيام عزهم ومجدهم 400 أو 500 بدويا كل يوم. وعلى مقربة من القصر كان هنالك إسطبل فيه 300 من أحسن الخيولة العربية الأصيلة. وبالإضافة إلى هذا هنالك جوامع ودكاكين وأبراج مراقبة ودور كلها مفتوحة للسماء ومهجورة مثل بقايا مدينة ((بومبي)) الرومانية.

    ولأول مرة في التاريخ المدون تم غزو وهزيمة قلب الجزيرة العربية من قبل جيش أجنبي وقامت مدفعية إبراهيم باشا بتلقين آل سعود درسا قاسيا، هو عواقب قيام مجتمع بدائي بإثارة غضب خصم متفوق تكنولوجيا.

    لم يحاول آل سعود إعادة بناء مدينة الدرعية أبدا. وبينما راحوا يعيدون بناء قوتهم ونفوذهم في نجد بعد مغادرة الأتراك فقد أبقوا هيكل عاصمتهم القديمة على حاله ليذكرهم بحدود ما هو ممكن. ورحلوا مسافة إثني عشر ميلا عبر وادي حنيفة إلى الرياض، ومن هناك أقاموا خلال القرن التاسع عشر دولة سعودية ثانية أكثر تواضعا من الأولى، غير أنهم فقدوها عام 1891 بعد أن استولى عليها آل رشيد الذين جاؤا من حائل.

    كان استيلاء عبد العزيز على الرياض من جديد بداية المحاولة الثانية التي قام بها آل سعود لبناء إمبراطورية. وشرع عبد العزيز في ذلك بالزواج. وكانت زوجته الجديدة هي طرفة ابنة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف قاضي المدينة. وكان الشيخ عبد الله كبير العلماء في الرياض وكان أيضا من سلالة محمد بن عبد الوهاب*.

    5ـ وابلٌ من الرصاص

    تلمع سيارات الكاديلاك الرابضة في الساحة وتعكس ضوء القمر الذي كان يتسرب من خلال سعف النخيل. إنها ليلة هادئة ودافئة وتحدث عجلات السيارات لدى توقفها على الرخام بجانب الدرج المؤدي إلى القصر صوتا حادا. ويقوم راكبوا السيارات بتعديل عقلهم لدى ترجلهم من سياراتهم، ويخلعون صنادلهم عند وصولهم باب القصر، ومن ثم يمشون حفاة على السجاد المفروش في الداخل. ومن الممكن أن تكون هذه أي ليلة تقريبا في مدينة الرياض العصرية. وما هؤلاء إلا مجموعة من أمراء آل سعود يجتمعون لتناول طعام العشاء.

    ويتم طبخ العشاء في قدور كبيرة جدا يتسع كل واحد منها لخروف، وتناسب رائحة السمن ورائحة النار عبر ساحة القصر. وفي داخل المجلس يحتسي الضيوف القهوة، وعندما يصل ضيف آخر ينهض الجالسون لتحيته فيعانقوه بلطف ويقبلونه على جبينه، وأحيانا يحكون ببطء أنوفهم بأنفه والابتسامة تعلو وجوههم وأعينهم مفتوحة.

    وعندما يكون الطعام جاهزا يغادرون المجلس ويتربعون حول صوان كبيرة جدا يبلغ قطر كل واحدة منها أربعة أقدام يقوم بحملها رجلان بشيء من الصعوبة. وتفرش كل صينية بطبقة من الأرز الأبيض ويرتفع في وسطها هرم من قطع اللحم توج برأس خروف يتدلى منه لسان ملتو بين أسنان ناصعة البياض ولثة سافرة. ويمد المضيف يده بحثا عن هذه الألسنة ليقطعها ويقدمها إلى ضيوفه، فيما يقوم أحد الخدم بإضافة المزيد من قطع اللحم الشهية من كبد وكلاوي وشحم.

    ويشمر الحاضرون عن سواعدهم ويبدأون بتناول الطعام بأيديهم. ويدور المضيف وبيده سكين ليقطع بها قطع اللحم ثم يقدمها إلى ضيوفه. وبعد أن ينتهي الضيوف من تناول طعامهم تتبعهم موجة أخرى من المهاجمين، هم أهل البيت، وبعد أن ينتهي هؤلاء من الأكل ترفع الصواني وتؤخذ إلى الخارج. ثم يقوم الضيوف بغسل أيديهم في أوعية يجلبها الخدم، ثم يمدون أيديهم لترش بالعطر. بعد ذلك يتناول الحاضرون الشاي، ثم القهوة ويتبادلون النكات والقصص والأحاديث. ويدخل صبي المجلس حاملا مبخرة تنبعث منها غيوم من البخور يقوم الأمراء بشمها ودفعها نحو لحاهم. وبعد ذلك ينصرفون إذ أن ظهور المبخرة دليل على أن الوقت قد حان للنهوض والانصراف.
    [align=center][/align]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    لقد أقام عبد العزيز في الأسابيع التي تلت استيلاءه على الرياض في يناير [كانون الثاني] من عام 1902 العديد من الولائم، وذلك لأن الجلوس معا لتناول الطعام هي طريقة نجدية قديمة لتكريم الأصدقاء وتسوية النزاعات والاحتفالات بالأحداث الكبيرة، وكان على عبد العزيز تسوية الكثير من الأمور.

    لقد كانت الرياض ملكا لآل سعود غير أنها لم تكن خلال الأسابيع الأولى من استعادتها ملكا لعبد العزيز. فلقد أعتبر الاستيلاء عليها على وجه العموم بمثابة مأثرة نفذها عبد العزيز نيابة عن والده عبد الرحمن. ولقد افترض بعد الاستيلاء على الرياض أن عميد الأسرة المكتنز البنية والذي كان يبلغ الخمسين من عمره آنذاك سيعود من الكويت ليزاول السلطة من جديد بعد أن كان آل رشيد قد اغتصبوها قبل اثني عشر عاما.

    وفي خارج الرياض بقي اسم ابن سعود يشير إلى عبد الرحمن. وكان ينظر إلى عبد العزيز الذي كان عمره آنذاك ستة وعشرين سنة على أنه قائد القوات التابعة لوالده. علاوة على ذلك، فإن الطريقة الباطنية التي تعمل بموجبها العائلة لم تكن أبدا هي تلك التي تبدو للعالم الخارجي تماما. وبموجب تناضح داخلي في العائلة فإن السلطة تنساب ويسمح لها عادة بأن تنساب إلى ذلك الرجل الأكثر قدرة من غيره على ممارستها في أي من الأوقات. وتبين شجرة العائلة التي وضعها علماء الأنساب الغربيين حكاما ينتسبون إلى خطوط نسب مختلفة إذ أنه ليس هنالك خط دم واحد يحتم من يرث من ولا حتى بروتوكول يقرر أن رب العائلة في أي وقت من الأوقات هو بالضرورة المسؤول كلية عن شؤون العائلة: ففي عام 1981 كان الملك خالد هو حاكم المملكة العربية السعودية إلا أن أخاه الأصغر فهد الذي كان آنذالك وليا للعهد كان يشرف فعليا على تسيير الأمور اليومية للمملكة، في حين كان محمد الذي تنازل عن حقه في وراثة الحكم وعاش بعيدا عن أنظار الناس منذ عام 1964 أخاهم الأكبر.

    وهذا هو أمر معقول إذا ما نظرت المملكة العربية السعودية على أساس أنها كيان عشائري، وليس نظاما ملكيا بالمعنى الغربي، وذلك لأن الفرد الأصلح هو الذي يحكم حسب تقاليد البادية. إن هذه هي الطريقة التي تعلمت بها العشائر البدوية وطبقات التجار البقاء على قيد الحياة: فبينما يحتفظ كبار السن في العائلة أو العشيرة بالسلطة النهائية إلا أنهم يعهدون بتسيير الأمور اليومية إلى أحسن رجل قادر على القيام بها.

    وهكذا عندما وصل عبد الرحمن في صيف 1902 إلى الرياض قادما من الكويت وبصحبته زوجاته وأطفاله الصغار، قام ابنه المنتصر والوفي بتسليمه المدينة، إلا أن والده رفض ذلك العرض بحزم. وخاطب ابنه قائلا: لقد استوليت أنت على الرياض فاحتفظ أنت بها. وأعطى عبد الرحمن سيفا ابنه قديما مزخرفا ـ يرمز إلى السلطة في العائلة وقيادة قواتها التي عهد بها إليه. ومنذ ذلك اليوم فصاعدا أصبح عبد العزيز أميرا على الرياض. إلا أن عبد الرحمن بقي سيد العائلة في نهاية المطاف. لقد دهش قنصل هولندا في جدة آنذاك. فإن دان ميولين، الذي شاهد عبد العزيز وهو يرحب بوالده لدى وصوله إلى جدة التي كان قد تم الاستيلاء عليها مؤخرا في عام 1926، عندما رأى الابن يركع على الأرض على مرأى من الناس بجانب حصان والده المسن كي يترجل عن حصانه مستخدما كتفي ابنه!

    * * *

    وبسرعة ومع تثبيت حكمه في الرياض عام 1902 اكتسب عبد العزيز احترام الناس له. وقام التجار بتسليفه المال. وما تزال هنالك إلى يومنا هذا كمبيالات لحامله تعود إلى ذلك التاريخ. وبادر الناس إلى ترميم أسوار البلدة ونفذوا ذلك بكفاءة لدرجة أنه عندما جاءت ساعة الامتحان بعد مرور سنة من ذلك التاريخ كانت التحصينات عالية وغير قابلة للاختراق.

    ولكن كسب احترام العلماء استغرق وقتا أطول من ذلك. إذ أنهم كانوا لا يعرفون إلا القليل عند عبد العزيز عندما وصل إلى الرياض في يناير [كانون الثاني] من عام 1902، لأنه كان قد غادرها عندما كان صبيا، ولقد كانوا مرتابين من نشأته بين ملذات الحياة في الكويت. ورفضوا في البداية التسليم بتفويض عائلته السلطة له، وفي اجتماع رسمي عقد في الجامع الكبير في الرياض ضم كبار رجال الدين اضطر عبد الرحمن إلى التحاجج معهم نيابة عن ابنه. وقبل الشيوخ التسليم بسلطة عبد العزيز الفعلية شريطة أن يحتفظ عبد الرحمن بلقب ((الإمام))، وتعين على الحاكم الشاب أن يعمل جاهدا لإثبات تقواه.

    وللتأكيد على إلتزامه بالحلف التاريخي بين آل سعود والوهابية قام بمنح سلطة كاملة للعلماء فيما يتعلق بالقانون والأخلاق في الرياض، وأخذ يستقبل كبير القضاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف يوميا في مجلسه، وتزوج من ابنته. وكان عبد العزيز آنذاك متزوجا ورب عائلة وكان يعرف باسم ((أبو تركي)) نسبة إلى ولده تركي الذي كان قد ولد في عام 1900، وكانت والدة تركي امرأة من آل عريعر، زعماء بن خالد الذين كانوا قد قاموا بشن الغزوات مع عبد العزيز في المنطقة الشرقية لمنع ابن رشيد من احتلال الكويت، والتي أنجبت له ابنا ثانيا في الوقت الذي كان هو فيه يسعى بعيدا للاستيلاء على الرياض. وقرر عبد العزيز أن أخا تركي قد ولد في اليوم الذي أصبحت الرياض ملكا له ـ أي في الخامس من شهر شوال من عام 1319هـ، الموافق 16 يناير [كانون الثاني] من عام 1902 ـ وأطلق على ابنه الثاني اسم سعود.

    كان عبد العزيز يحب الأطفال، وكان من عادته بعد القيلولة وصلاة العصر أن يخرج ممتطيا صهوة جواده إلى ظلال أشجار النخيل في وادي حنيفة، حيث كان يضع أبناءه الصغار أمامه على السرج واحدا واحدا، ثم يهمز الحصان فيعدو غدوة وإيابا. ويتذكر أبناء عبد العزيز ذلك حتى الآن.

    أسكن عبد العزيز زوجته الجديدة طرفة في قصره المبني من الطين بجوار الجامع الكبير. وفي خلال عام أنجبت له إبنا ثالثا، وكان طفلا ضعيف البنية ذا عينين واسعتين محدقتين، أسماه فيصل.

    * * *

    في عام 1902 لم يكن لدى أبو تركي متسع من الوقت لمباهج الحياة العائلية، إذ كان عليه أن يعد العدة للحرب. كان آل رشيد حلفاء لآل سعود قبل ذلك التاريخ بنصف قرن، لأن العائلتين كانتا شريكتين في الأعوام التي تلت عام 1829 عندما كان جد وأبو جد عبد العزيز يحاولان استرجاع قوة آل سعود بعد نكبة الدرعية ـ آل سعود في الرياض وآل رشيد في حائل.

    غير أنه في حوالي الوقت الذي ولد فيه عبد العزيز كانت السلطة السعودية في نجد قد ضعفت بفعل الخصومات العائلية واستغل آل رشيد ذلك لاحتلال الرياض. وكان عبد الرحمن، والد عبد العزيز، قد نظم تمردا، غير أن الهزيمة لحقت بحلفائه في شهر يناير [كانون الثاني] من عام 1891، وتجنبا لانتقام آل رشيد من آل سعود فر عبد الرحمن بعائلته واحتمى بقبيلة المرة. وفي عام 1902 كان على عبد العزيز، زعيم آل سعود الشاب الجديد، أن يستعد للهجوم الذي بات متوقعا أن يشنه زعيم حائل المروع، عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي اشتهر باسم رشيد، نسبة إلى عشيرته. غير أنه كان من حسن الطالع أن ذلك الهجوم جاء متأخرا بعض الشيء.

    ضحك ابن رشيد لدى سماعه خبر استيلاء السعوديين الوقح على الرياض، وقال ((إن الأرنب قد دخل جحره والقافلة تنتظر من حوله)). وشعر ابن رشيد والثقة تملأ نفسه بأن بإمكانه القضاء على آل سعود وقتما شاء، فقرر عدم القيام بأي عمل خلال شهور الشتاء الباردة، ثم قرر الانتظار حتى تنقضي أشهر الصيف الحارة. ومكن كل شهر تأخير النظام الجديد في الرياض من تعزيز قوته. لقد منح حاكم حائل خصمه السعودي الشاب فترة إمهال دامت عشرة أشهر قام عبد العزيز باستغلالها لصالحه على أحسن وجه.

    ومنذ البداية التف الأهل والأصدقاء حول عبد العزيز لأن عودة آل سعود، إلى الرياض عنت المزيد من القوة والأهمية لكل فرد في نجد تقريبا. إن آل رشيد لم يكونوا حكاما قساة أو طغاة، ولكنهم حكموا الرياض والقرى المحيطة بها لفائدة حائل التي تقع على بعد مئات الأميال. وكان للكثير من عائلات نجد البارزة روابط قديمة بآل سعود، وكان في مقدمتها عائلة السديري وهي عشيرة من المحاربين من شمال الرياض.

    لقد كانت والدة عبد العزيز، سارة بنت أحمد السديري، امرأة فارعة الطول ذات بنية كبيرة كغيرها من أفراد عائلة السديري. ويقال إن عبد العزيز ورث قامته المديدة وبنيته الكبيرة عن أمه. وكان عبد العزيز بفضل طول قامته البالغ ستة أقدام وأربع بوصات أطول معظم أولئك الذين عاصرهم. ولم يكن أخوه الأصغر سعد، آخر أطفال سارة، طويل القامة كعبد العزيز لكنه كان يتمتع بالإقدام الطموح، وهما صفتان تميزان أفراد عائلة السديري عن غيرهم حتى يومنا هذا وكان من شأنهما أن تجعلا العائلة الحليف الرئيسي لآل سعود في بناء المملكة.

    عاد سعد من الكويت برفقة عبد الرحمن في شهر مايو [آيار] من عام 1902 وانضم إلى ((فرسان المائدة المستديرة)) الشبان ـ محمد بن عبد الرحمن وابنا العم بن جلوي برئاسة عبد الله ـ الذين كانوا يقاتلون من أجل بناء الإمبراطورية السعودية الجديدة. لقد كونوا مجموعة رائعة تميزت بالعزم والتصميم والخبرة في القتال، عندما غادرت الرياض متجهة إلى القرى والعشائر المحيطة بالبلدة التي بات الاعتماد على تأييدها أمرا ضروريا بالنسبة لآل سعود. وكانوا يجلسون في المجلس حول عبد العزيز وهو يشرب القهوة. وعندما كان يحين موعد الصلاة كان أفراد الجماعة بتوضأون ويقيمون الصلاة مع مضيفيهم. وفي المساء كانوا يتناولون طعام العشاء وينامون تحت بطانياتهم، وفي صباح اليوم التالي كانوا يركبون جمالهم ويتوجهون إلى القرية أو العشيرة التالية.

    لقد كانت تلك هي سياسة كسب ولاء الناس العاديين على الطراز العربي. وكان عبد العزيز في كل قرية صغيرة وفي كل مجموعة من الخيام يبتسم ويتحدث ويوميء بيديه، ويصافح الرجال ويطلب مساندتهم. وكان الرجال يتوقون للقاء البطل الذي قام بالاستيلاء على الرياض ـ ذلك الحدث الذي أصبح أسطورة. وكان عبد العزيز يتمتع بمصدر قوة خاص آخر: لقد قام باستخدام المال الذي اقترفه من تجار الرياض لشراء كميات كبيرة من الذخيرة وتجنيد جماعة من الرماة المهرة من الكويت.

    تجنب ابن رشيد الرياض عندما توجه جنوبا في شهر نوفمبر [تشرين الثاني] من عام 1902. وكانت السيطرة على البلدة التي رممت أسوارها حديثا سيتطلب ضرب حصار طويل، وعلى أية حال لم يكن عبد العزيز موجودا فيها. لقد كان يحشد قواته في الجنوب حول الخرج والدلم والحوطة. وكانت جميعها قرى كبيرة مزدهرة تقع جنوب الرياض، تحيط بها أسوار بنيت من الطين وتتوفر على بساتين النخيل ومزارع وآبار ماء خاصة بها. ولم يكن هنالك ما يجمعهم بأهالي حائل إلا القليل. لذلك وجد ابن رشيد نفسه في مواجهة عداء متزايد عندما توجه جنوبا في أثر عبد العزيز.

    وحدثت المواجهة خارج أسوار مزارع وآبار الدلم التي كانت آنذاك القرية الرئيسية في منطقة الخرج، حيث كان عبد العزيز قد وزع رجاله في بساتين النخيل المغبرة المحيطة بها. واستحكم رجاله بجمالهم وصوبوا بنادقهم عبر الأرض المكشوفة. وعندما تقدمت قوات ابن رشيد نحو القرية غير مرتابة ـ فالبدو لا يتوقعون أن يجدوا خصومهم في مواقع ثابتة ـ أمر عبد العزيز رجاله بالتزام الصمت. ولم يقم حملة البنادق السعوديون والكويتيون بإطلاق النار إلا عندما كاد الأعداء أن يصلوهم، وعندئذ أطلقوا وابلا من النيران المدمرة فاضطرت قوات ابن رشيد للتراجع. ثم عادت هذه القوات لمهاجمة بساتين النخيل من جديد. ولكن كل هجوم قامت بشنه طيلة ذلك اليوم الطويل والشاق تم دحره بوابل من رصاص البنادق إلى أن حل الظلام.

    وعندما أشرقت الشمس في صباح اليوم التالي شوهد العدو وهو ينسحب. لقد واجه عبد العزيز جيش ابن رشيد وجها لوجه وأجبره على الانسحاب. وهكذا فإن الاستيلاء على الرياض لم يكن مجرد حظ سعيد، وسرعان ما انتشرت أخبار الانتصار السعودي بين الناس. إلا أن عبد العزيز احتفظ بثمن الانتصار لنفسه. لقد كلفه يومه الطويل كل ذخيرته التي كان قد افترض من أجل الحصول عليها أموالا طائلة، وكما كان يعترف عندما كان يتحدث فيما بعد عن أول مواجهة حاسمة فإنه ربما لم يكن باستطاعته أن يستمر في إطلاق النار ليوم آخر. ولم يعد بإمكان الجيش السعودي أن يحارب بوابل من الرصاص مرة أخرى إلا بعد مرور عشر سنوات على ذلك التاريخ.

    * * *

    لقد كان عبد العزيز فقير الحال. وكانت خزينته لا تتعدى الذهب الذي كان يحمله في خرج جمله ـ ومن المحتمل أنه لم يدفع لكل من الرماة الكويتيين أكثر من قطعة ذهبية واحدة ـ في حين لم تكن الأراضي التي كان يستولي عليها تمثل قاعدة اقتصادية قوية. إن بساتين النخيل والحدائق وقطعان الماشية والإبل في وسط الجزيرة تنتج بالكاد ما يكفي لمعيشة أهالي المنطقة، ناهيك عن دعم حملة عسكرية.

    لقد كانت المناوشات في الصحراء تهدف إلى سد الرمق: مجندون حملة سيوف على ظهور أكبر استثماراتهم ـ خيولهم أو جمالهم ـ، ولا يجازفون بها إلا عند الضرورة القصوى. وكانت ((حملات)) الصحراء تستدعي قضاء أشهر طويلة من ((قتال الظل)) من قبل مجموعات محاربين غير نظاميين لا يرتدون زيا موحدا ولا يتنقلون في تشكيلات عسكرية ولا يعرفون الانضباط ـ وهي الأمور التي تبرر استخدام كلمة ((جيش)) بالمعنى المتعارف عليه في الغرب. لقد كانوا يقومون بمناوشات لشهور عديدة بمنأى عن أنظار بعضهم البضع ويأملون عادة في أن يبقوا بمنأى عن النظر إلى أن توفر الأحداث فرصة يمكن انتهازها دون مجازفة تنطوي على خطر كبير وذلك لأن أيا من الطرفين لا يملك المال الكافي لدعم مواجهة مستمرة.

    وكان ذلك هو السبب الذي جعل من المدافع وقوة إطلاق النار البريطانية في خليج الكويت تلك الورقة المربحة في يد الشيخ مبارك الصباح والبلبلة التي تملكت ابن رشيد، بقدر ما أوجعته، بسبب تكتيك عبد العزيز المبتكر في الدلم، ألا وهو الصمود فعلا في موقعه والقتال، ولو كان خصمه رجلا أكثر تفكيرا فلربما قام بتقدير كلفة الإستراتيجية السعودية وانتظر حتى تحين فرصة مواتية. ولكن ابن رشيد اتبع أساليب القتال التقليدية بينما أدرك عبد العزيز بفطنته أهمية الثروة الغربية والتكنولوجيا اللتين كانتا لتوهما قد بدأتا ترويض طريقة عمل الاشياء الممعنة في القدم في شبه الجزيرة العربية.

    وفي الأشهر التي أعقبت الدلم عادت حملات ابن رشيد عبد العزيز إلى الطريقة التقليدية. ولم يكن باستطاعة عبد العزيز أن يتحمل غير ذلك. وبعد عشرين عاما من ذلك التاريخ وعندما كان عبد العزيز يصف التوتر الذي كان سائدا في تلك الأشهر الأولى، رفع يده وحركها ببطء من جنب إلى جنب في حركة مائجة أمامه بينما كان يحي من جديد عنصر الإثارة في السير القسري والسباق لساعات عديدة لمداهمة العدو أو لمجرد الوصول إلى الآبار قبله. وكان يقول ((ألف بعير تتقدم بخطى حثيثة ومنتظمة ـ لا تسمع خلالها إلا همهمة ودندنة الحركة نفسها ـ قوة متماسكة تتحرك كجدول ماء يجري على منحدر دون وقفة واحدة)).

    وبعد معركة الدلم لم تقع معارك بين الجانبين، غير أن عبد العزيز أثبت أنه كان أكثر مهارة وكفاءة من ابن رشيد في لعبة المناورات الصحراوية. وهكذا عندما بدأت الحملات بالتلاشي تدريجيا في قيظ صيف عام 1903 وجد آل سعود أنفسهم مسيطرين على المناطق المأهولة الرئيسية الواقعة شمال الرياض. وبالإضافة إلى ولاء المدن الواقعة حول الدلم صبح بوسع عبد العزيز أن يعتمد على تأييد القرى الواقعة على بعد مائة ميل إلى الشمال وإلى الجنوب من عاصمته الجديدة ـ وذلك في أقل من ثمانية عشر شهرا بعد الاستيلاء عليها.

    وخلال فصل الشتاء التالي توجه عبد العزيز إلى الشمال مرة أخرى وكان هدفه هذه المرة القصيم، تلك الأرض المزدهرة المتنازع عليها بين الرياض وحائل وميدان المناوشات التقليدي بين آل سعود وآل رشيد. وكانت ملكية هذه الأراضي بمثابة مؤشر جيد في أي وقت من الأوقات لتفوق أي من السلالتين، وكانت المدينتان التوأمتان عنيزة وبريدة المركزان التجاريان المحصنان والواقعان على طريق القوافل التجارية الهام الواصل بين الكويت والمدينة المنورة عبر شبه الجزيرة العربية تهيمنان على المنطقة . وكان ابن رشيد قد عهد بأمر هاتين البلدتين إلى ابن ابني عمه ماجد وعبيد بن حمود. وقام هذان الأخوان بتطهير المنطقة تماما من كافة المتعاطفين مع آل سعود وملاحقتهم حتى الكويت.

    غير أن هؤلاء المنفيين عادوا الآن ليقاتلوا إلى جانب عبد العزيز، وتتحدث الرسالة المتهللة التي بعث بها القائد الشاب إلى مبارك حاكم الكويت في ربيع عام 1904 عن الأحداث التي وقعت خلال تلك الفترة. وتقول الرسالة التي حفظت بترجمتها الإنجليزية إلى يومنا هذا في ملفات وزارة الهند في لندن: ((حفظكم الله… كنا قد بعثنا فيما مضى إلى سمومكم برسالة شفوية مع خادمكم مادي أخبرناكم فيها بأن في نيتنا القيام بحملة. وهكذا فإننا فمنا بالتحرك ضد ماجد الذي وجدناه في خيامه في منطقة حملان التابعة لعنيزة، وبعون من الله وبفضل مساعدتكم وصلنا عند الفجر إلى العثيثية. وفي الساعة الرابعة ليلا تحركنا إلى عنيزة. وبعد صلاة الفجر أرسلنا عبد الله بن جلوي ومعه 100 رجل من أهالي الرياض وتحركنا ضد ماجد وعندما شاهدنا فرسانه تخلى الله سبحانه وتعالى عنهم وأعاننا عليهم. فقضينا عليهم وذبحنا منهم 370 رجل ولم يقتل منا والحمد لله سوى بدويين)).

    وتمكن ماجد بن حمود آل رشيد من الهرب ولكن كان من سوء حظ أخيه عبيد أن وقع في الأسر ووجد نفسه وجها لوجه أمام سيف عبد العزيز. وليس من المؤكد ما إذا كان عبيد قد ارتكب جرائم قتل في الماضي مما استوجب الثأر منه أو ان عبد العزيز كان مندفعا بنشوة الاستيلاء على عنيزة. وتذكر عبد العزيز فيما بعد تلك الحادثة قائلا: ((ضربته بسيفي على رجله فجعلته مقعدا، وبعدئذ عالجته بضربة على رقبته فسقط رأسه جانبا وتدفق الدم من عنقه كالنافورة، ووجهت الضربة الثالثة إلى قلبه ورأيت قلبه ينشطر شطرين، وكان لا يزال ينبض على هذا النحو. . . لقد كانت تلك لحظة سعيدة وقمت بتقبيل سيفي)).





    --------------------------------------------------------------------------------

    * إن الوهابيين لا يحبون هذه التسمية بل يفضلون أن يعرفوا باسم ((الموحدون))، لأنهم لم سموا أنفسهم بالوهابيين لارتكبوا بذلك إحدى الكبائر التي كانوا دائما ينددون بها ـ تمجيد الإنسان والقديسين أو الأنبياء. وهكذا سواء طاب لهم ذلك أم لا فقد ظلوا معروفين بالاسم الذي أطلقه عليهم نقادهم.

    * الأسماء العربية مرنة جدا من هذه الناحية. لقد ظهرت عائلتان أخريان من آل سعود وهما آل ثنيان وآل جلوي ـ وكل من هاتين العائلتين اختارت اسم أحد أمراء آل سعود البارزين وأصبحت تعرف باسمه ـ ثنيان في الحالة الأولى وجلوي في الحالة الثانية. وفي الآونة الأخيرة أصبح اسم آل فيصل يطلق على أبناء الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز وآل فهد على أبناء الملك فهد ـ علما بأنه لا توجد قواعد ثابتة بهذا الخصوص.

    * أصبح المنحدرون من نسل محمد بن عبد الوهاب يعرفون بعد وفاته بآل الشيخ. وهم يحتفظون بهوية منفصلة في المملكة اليوم. إنهم إحدى أربع عائلات تتزاوج مع آل سعود، ويحتلون مكانة بارزة بين العلماء وفي مجلس الوزراء وفي القوات المسلحة والشرطة.
    [align=center][/align]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي


    الجزء الثالث

    الإخوان


    16ـ الأرطاوية

    واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا…

    إن الرحلة من الرياض إلى الكويت بالسيارة اليوم طويلة جدا ومملة جدا ويمكن للمرء أن يتجاوز بكل سهولة قرية الأرطاوية دون أن يلاحظها. وتوجد هناك على جانبي الطريق محطتا بنزين قذرتان. ويختلط دخان النرجيلات بدخان الديزل فوق مقاعد المقهى المفتوح بينما تقف في سفح التلة سيارات للشرطة مائلة بدت وكأنها علب بيبسي كولا وتشبه قرية الأرطاوية، الخاملة والكئيبة والمليئة بالنفايات، اليوم أيا من المدن المنتشرة في سهول شمال جزيرة العرب ولا يعني اسمها شيئا بالنسبة لمعظم الشباب السعودي.

    لكن بريقا غريبا يلتمع في عيون آبائهم وأجدادهم عند ذكر الأرطاوية لأن هذه القرية كانت مشهورة ذات مرة في جميع أنحاء الجزيرة العربية. لقد كان اسمها يقترن في أذهان الناس بمواقف مؤلمة. وكان مجرد ذكر اسمها يدب الرعب في قلوب الرجال وقد توقفت حظوظ آل سعود لبعض الوقت على صعود نجم هذه المستوطنة الصغيرة المتقشفة غير الجذابة وأُفوله.

    لم يكن لهذه المستوطنة وجود قبل سبعين عاماً على الإطلاق. لقد كانت هناك بعض الآبار حيث كانت تلتقي ممرات القوافل المتجه نحو الكويت من نجد والقصيم. إن كلمة الأرطوي تعني مرعى وبما أن الأرطاوية كانت تقع في أراضي قبيلة مطير، كانت جمال فيصل الدويش، شيخ قبيلة مطير، تسرح فيها أحيانا. وحدث حوالي عام 1330 للهجرة (1912 ميلادية) أن وصلت جماعة من الرجال المتدينين المتزمتين آبار الأرطاوية وقررت أن تشيّد من حولها معقلا للأتقياء إذ أن الماء والمرعى وفرا موقعا ممتازا لبناء جامعهم وبيوتهم سرعان ما ذاع صيتهم. وأصبحوا يعرفون باسم الإخوان* وكانوا فخورين بهذه التسمية. إننا لا نعلم بالضبط متى سمع عبد العزيز عن الإخوان لأول مرة. إن أقدم إشارة إلى الإخوان توجد في مفكرة الكابتن شكسبير الذي كان قد مر بالأرطاوية وهو في طريقه من الكويت إلى الرياض في فبراير 1914 إذ كتب بإيجاز ((محادثة حول إخوان الأرطاوية)).

    ولكن الإخوان لم يكونوا في هذا التاريخ تلك القوة المحاربة التي اشتهرت فيما بعد. فقد احتل عبد العزيز الهفوف عام 1913 بدون مساعدة منهم كما أنهم لم يساهموا مساهمة كبيرة في دعم القوات السعودية في معركة جرّاب (1915). فلو كان عددهم كبيرا لما تحملوا وجود الكابتن شكسبير الكافر ولكانت النتيجة بكل تأكيد مختلفة، ذلك لأن الإخوان لم يتخاذلوا أبدا طوال تاريخهم في المعركة كما فعل العجمان في جرّاب. كان الإخوان جند الله، لا يخشون الموت وكانوا متعطشين للأمجاد، وقد اشتهروا في تاريخ آل سعود بالمحاربين الذين لا يقهرون.

    كانت حركة الإخوان إحياء لحركة الإصلاح الديني التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب، وهي التطهير حسب كلمة الله، ووجد الإخوان في الحديث الشريف مرشدا لضبط حياتهم اليومية. فقالوا إن الرسول (صلعم) لم يلبس العقال وقاموا بتقليده فاختاروا لبس طاقية بيضاء بدلا منه. كذلك أدان الرسول (صلعم) التباهي الشخصي فتحاشوا الحرير والذهب والمجوهرات والزينات بما في ذلك الخيط الذهبي التقليدي في المشلح. وقصروا أثوابهم إلى ما فوق رسغ القدم ذلك لأن الرسول (صلعم) قال إن الملابس التي تلامس الأرض هي ضرب من الخيلاء وينطبق هذا أيضا على الشوارب المنمقة. وهكذا قاموا بقص شعر الشفة العليا حتى تبقى منه شبح شارب. إلا أنهم تبنوا قادة مختلفة بالنسبة لشعر الذقن وقرروا أن قصه هو بمثابة ضرب من الخيلاء ولهذا يجب أن يترك وشأنه.

    دل مظهر الإخوان المميز على رفضهم للعالم وعاداته ولكن تفسيرهم للكتب الإسلامية المقدسة لم يكن دائما واضح الانسجام. فقد حرم الإخوان بضراوة التدخين على أساس أن التبغ لم يكن معروفا للنبي (صلعم) ولهذا لم يحرمه وقد رفض الإخوان على هذا الأساس مجموعة كبيرة من الاختراعات التي تلت نزول القرآن الكريم، من التلفون وحتى اللاسلكي.

    لكن الإخوان لم يترددوا في مباركة البندقية واستعمالها وإن لم تكن معروفة للنبي (صلعم) بكل تأكيد، ذلك لأن المنطق والعقل لم يكونا من أولويات حركة كانت ديناميكيتها مبنية على الإيمان الأعمى. لقد كان الإخوان جماعة من المتزمتين المندفعين بقوة الإيمان الراسخ، جند الله، مهمتهم التطهير كما فعل محمد بن عبد الوهاب قبل 150 سنة. فحرموا الغناء والرقص وحتى ألعاب الأطفال في الأرطاوية بطريقة لم تكن لتحظى بموافقة الوهابي الأول لو أنه كان لا يزال على قيد الحياة.

    كان هناك فارق مهم بين حركة الإخوان في مطلع القرن العشرين والحركة الوهابية الأصيلة. فقد كان محمد بن عبد الوهاب حضريا، ترعرع بين القوافل والتجار وقام بنشر رسالته في المدن وقد تبناها الحضر في المقام الأول.

    أما إخوان الأرطاوية فقد كانوا من البدو وكانت رسالتهم موجهة إلى البدو. لقد كان البدوي وحده في الصحراء، بمنأى عن الوعاظ والمعلمين ولم يدخل مسجداً أو يشاهد القرآن الكريم يؤمن بالخرافات ويصلي مرتين في اليوم في أحسن الأحوال. وكان هدف إخوان الأرطاوية هو إخراج البدوي من القفر حيث ازدهرت الخرافات وإسكانه بالقرب من جامع حيث سيقوم إمام بإرشاده وإرشاد أولاده إلى الصراط المستقيم. وقد رمز إلى هذا لباس الرأس المميز للإخوان. لقد كان العقل يستعمل أصلا لعقل الجمل وكان البدوي يضعه على رأسه إلى أن يحتاجه لهذا الغرض. وهكذا فإن البدوي بتخليه عن العقال واستبداله بطاقية الرسول (صلعم) البيضاء كان يعلن تحولاً مادياً وروحياً في حياته.

    إننا لا نعلم إن كان الإخوان قد جاءوا إلى عبد العزيز طوعا أم أنه سمع بنشاطات هؤلاء المتطرفين في الأرطاوية، فأمر بالتحقيق فيها ووجد أنها كانت طيبة. ولكن مما لا شك فيه هو أن حركة الإخوان ما كانت لتزدهر وتنتشر دون تشجيعه النشيط ومساعدته المادية: فقد منحهم الأرض وأرسل دعاة إلى الصحراء لإحضار أعضاء جدد للانضمام إلى مستوطناتهم. وعندما اعترض شيوخ القبائل طريق العمل الصالح استدعاهم عبد العزيز إلى الرياض لكسب تأييدهم بالترهيب والترغيب. وقام عبد العزيز حوالي عام 1917 بطبع عدد كبير من كتاب محمد بن عبد الوهاب ((الأصول الثلاثة وأدلتها)) في الهند على حسابه الخاص ليتسنى نشر أفكار المعلم في الصحارى بصورة أشمل من أي وقت مضى.

    وجعل عبد العزيز نفسه على رأس الحركة التي بعثت من أول مستوطنة للإخوان في الأرطاوية عام 1912. وكرمز لالتزامه الشخصي بالتقشف الذي دعا إليه الإخوان أمر بتحطيم الفونوغراف (الحاكي) الذي عاد به من الكويت والذي كان يحب الاستماع إليه ترفيها عن نفسه في الليل في خيمته وذلك على رؤوس الأشهاد. ووصل نبأ تضحيته إلى مقاهي قل نجد فأومأ الإخوان برؤوسهم موافقة. فإنه لمن الواضح أن عبد العزيز هو واحد من إخوانهم.

    ولقد كان تحطيم الفونوغراف ثمنا للحل الذي عرضه الإخوان للمشاكل التي كانت تواجه عبد العزيز في السنوات التي تلت عام 1912، إذ أنه تعيّن عليه أن يجد طريقة جديدة لإخضاع القبائل ـ كما واجه خطرا جسيما من مكة المكرمة. فقد حصلت الجيوش الهاشمية أثناء الثورة العربية على أسلحة فعالة كما اكتسبت خبرة على القتال وبات من المؤكد أن تتجه أنظار الشريف حسين بن علي بعد انتهاء الثورة إلى الداخل سعيا وراء تحقيق قوله بأنه ((ملك العرب)).

    كانت هذه تحديات رئيسية لاستمرارية سلطة آل سعود ولا بد أن الانفجار المفاجئ لحركة الإخوان كان حقا تدخلا من قبل العناية الإلهية لأن الإخوان قدّموا لأمير الرياض حلا لمشكلاته الداخلية والأجنبية: إن انبعاث الدين سيروّض القبائل ـ في عام 1914. مثلا. تخلى فيصل الدويش طوعا عن تمرده وخيامه للإقامة في بيت من الطين في الأرطاوية ـ كما وفروا له أيضا طاقة عسكرية كامنة ذات قوة ونطاق فريدين.

    قال فيصل، جد عبد العزيز للكولونيل بلي عام 1865 هناك نوعان من حروب الصحراء: حرب دينية وحرب سياسية. أما الحرب السياسية فتقتضي القيام بتنازلات متبادلة. ولكن ((عندما تكون المسألة مسألة دينية فإننا نقتل الجميع)). ولقد كان البعد الديني هو الذي جعل جيوش الإمبراطورية السعودية ـ الوهابية الأولى تدب الرعب في القلوب. والآن أحيا الإخوان في القرن العشرين نفس تلك الروح المتعصبة التي لم تحسب أي قيمة لحياة الإنسان. فكان كل أخ يؤمن بأن الاستشهاد في المعركة هو نعمة من عند الله وأن المحارب يذهب مباشرة إلى الجنة. بينما يسقط كل من يعارض الجهاد حقه في الحياة ولم يأخذ جند الله أي أسرى. قال بيركهارد في سياق حديثه عن الجيوش السعودية في مطلع القرن التاسع عشر ((إن كل من كانوا يقعون في الأسر بالسلاح يقتلون بلا رحمة)). وإن ((هذه العادة المتوحشة ألهمت تعصب الوهابيين الشرس الذي جعلهم يوقعون الرعب في نفوس أعدائهم)).

    كانت هذه هي الروح التي أحياها الإخوان في الأرطاوية بعد عام 1912 وكانت الحد القاطع لانبعاثهم الديني. وبما أنهم كانوا يدعون إلى الطريق الصواب فلا بد أن تكون الطرق الأخرى زائفة، وكان التسامح مفهوما غريبا على إيمانهم البسيط وكانوا يسعون بكل حماسة لهداية الآخرين إلى طريقهم. فأرسلوا الدعاة لنشر كلام الله ولكن تعاليم النبي (صلعم) حول الجهاد بيّنت لهم كيف يمكنهم هدي الناس بالقوة في حالة فشل الإقناع. وكانت مستوطنات (هُجر) الإخوان التي أقيمت ما بين عام 1912 و1918 على نمط الأرطاوية ثكنات عسكرية بقدر ما كانت جماعات ريفية إذ كانت هناك إسطبلات وصناديق علف في الميدان المركزي حيث كان بالإمكان حشد المحاربين بمناداتهم من أعلى الجامع كما كانت هناك مخازن مركزية حيث كان يتم توزيع الذخيرة. وكان من بين الأعمال الأولى التي قام بها إخوان الأرطاوية بناء أبراج مراقبة في الهضبة الواقعة إلى الشمال من البلدة وكان السكان في حالة أهبة عسكرية دائمة.

    استغل عبد العزيز منذ البداية القوة العسكرية الكامنة في الحركة. فعندما كان الإخوان يجيئونه لطلب الأرض. كان يحدد لهم مواقع استراتيجية مثل غطغُط بالقرب من الرياض، تلك المستوطنة (الهجرة) التي سرعان ما أخذت شهرتها تنافس شهرة الأرطاوية. تقع غطغط إلى الجنوب ـ الغربي من العاصمة على طريق مكة المكرمة ويرجع سكانها إلى قبيلة أخرى كانت ذات مرة متمردة وهي قبيلة عتيبة، وأصبحت بزعامة أميرها سلطان بن بجاد المعقل الرئيسي للدفاع السعودي ضد أي هجوم من الحجاز.

    وبحلول عام 1917 كانت هناك أكثر من 200 مستوطنة موزعة في جميع أنحاء نجد، لا يزيد بعد أي منها عن الأخرى أكثر من مسيرة يوم واحد. وربما كان فيها حوالي 60.000 رجل تحت تصرف عبد العزيز عندما كانت الحركة في أوجها، الأمر الذي عنى أنه في غضون سنوات قليلة انتقل زهاء ربع مليون من الرجال والنساء والأطفال من حياة الترحال إلى مستوطنات دائمة. لقد كان هذا تحولا بالغ الأهمية في نمط الحياة في نجد ـ ولم يكن للعالم الخارجي أي علم به.

    وكان ذلك إلى حد ما بسبب عداء الإخوان الشديد لكل الأجانب وخاصة الكفار الغربيين الذين كانوا يريدون تدوين أعمالهم. فحتى فيلبي، الذي كان حريصا على إثبات مقدرته على الذهاب إلى أي مكان في جزيرة العرب. لم يدنُ منهم. إلا أنه قام عام 1918 بمسح الأرطاوية بحذر عن بعد ثلاثة أميال بواسطة منظار لأن الإخوان في ذلك الحين اكتسبوا سمعة غير محمودة بسبب لجوئهم إلى إرغام الناس على الانضمام إليهم وقتلهم كل من رفض دعوتهم للانضمام إلى الحركة. ووجد مسلمون أتقياء ممن توقفوا لسوء حظهم في الأرطاوية وهم في طريقهم من الكويت، وجدوا أنفسهم في شبه حجر صحي إلى أن يطمئن الإخوان إلى أن وجودهم في الميناء لم يفسد أخلاقهم فما بالك لو كانوا أجانب.

    وهكذا كان هناك عدد قليل من الناس ممن كانوا على دراية بالقوة العسكرية التي كان عبد العزيز يبنيها في نجد في السنوات التي تلت عام 1912. وكانت سياسته المرسومة تقضي بإسدال ستار من السرية حول الإخوان. فعندما طلب من هارولد ديكسون، في أول مهمة يقوم بها في الجزيرة العربية، اكتشاف المزيد عن الإخوان، وجد نفسه أمام جدار من الصمت وكتب يقول: ((كان من الواضح لي أنه أشير للناس، من قبل شخص ما أو آخر من أصحاب السلطة، بأن يكونوا كتومين)) وأضاف قائلا ((لا يسع المرء إلا أن يستنتج أن ابن سعود نفسه كان وراء هذا الأمر)).

    وكان عبد العزيز في ذلك الحين أو في أي وقت آخر إذا سئل سؤالا مباشرا عن الإخوان يراوغ بلطف. على الأقل عندما كان يتحدث إلى الأجانب. وقال في لاحق للمحسن الأمريكي تشارلز كرين إنه قد شجع الحركة ((لتنمية سمات شخصية ثابتة بين البدو بإعطائهم بيتا ثابتاً، ولتدريبهم على المواطنة الصالحة)).

    ولكن شريف مكة وأبناءه لم ينخدعوا. فقال فيصل بن الحسين شاكيا إن عبد العزيز لم يكن يبني الإخوان لأسباب اجتماعية أو سياسية، بل لدفع طموحاته الشخصية إلى الأمام. وتنبأ فيصل بأنه ((عندما سيصبح الوقت مواتيا له فإن عبد العزيز سيقوم بتوجيه قوة البدو ضد سكان الجزيرة الحضر)). هذا بينما أدان الشريف حسين نفسه الإخوان على أنهم ((جمعية سياسية متسترة وراء الدين))، وطالب الحكومة البريطانية بأن تكون حازمة مع عبد العزيز وأن ترغمه على تفريق الإخوان.

    في سبتمبر 1918 كانت الحرب العالمية الأولى تدنو من نهايتها وكان الشريف حسين الهرم، الذي كان مغمورا بنشوة انتصارات الثورة العربية، يعتقد بأن جيوش أبنائه لا تقهر وأن بريطانيا ستدعم طموحاته في السلم كما دعمتها أثناء الحرب. ولكن الإخوان خيبوا هذه الآمال بعنف وبسرعة.

    جاءت المواجهة في واحات الخرمة الواقعة في السهول البركانية السوداء وراء الطائف، في منطقة متنازع عليها في الصحاري التي تفصل الرياض عن مكة المكرمة، تركت عادة لقبيلة عتيبة، ولكن عندما كان حاكم الرياض أو مكة المكرمة يرغب في توسيع رقعة سلطانه، كان يرسل الرسل إلى الخرمة للتودد أو إخضاع أمير هذه الواحات الصغيرة المغبرة. ولقد كان الشريف حسين بن علي يبحث عن التأييد عندما صادف سعداً، شقيق عبد العزيز، عام 1910 وألقى القبض عليه. وفي السنوات التي تلت عام 1912 كان دعاة الإخوان هم المبادرون وبحلول عام 1916 كانوا قد تأسسوا بثبات ليس فقط في الخرمة بل أبعد منها في ترابة إلى الغرب التي تبعد عن مكة المكرمة حوالي 100 ميل. وبدأ الشريف حسين في مكة يشعر بالقلق.

    وكان الشريف نفسه قد عيّن خالد بن منصور بن لؤي، وهو شريف من فرع هاشمي آخر، أميرا للخرمة. ولكن عداءً نشأ بينهما عندما رحّب خالد، الذي كان وهّابيا متقشفاً، بدعاة الإخوان من نجد، وعندما أرسل الشريف نفسه أحد القضاة إلى الخرمة سعيا إلى إقناع الناس بالتخلي عن الوهابيين، قام خالد بطرده. وهكذا تأزم الخلاف. فأرسل الشريف جنوده إلى الخرمة لتأديب إبن لؤي ولكنهم أجبروا على مغادرة المكان ثلاث مرات على الأقل. فقد الهم حماس الإخوان سكان الخرمة فوقفوا وقفة رجل واحد في وجه جنود الشريف الذين عادوا من حيث أتوا وهم يشعرون بالخيبة. ولكن الشريف كان قد أرسل قوة رمزية إلى الخرمة، إذ أن معظم قواته كانت في مكان آخر. نصفها مع فيصل ولورنس في الطريق إلى دمشق والنصف الآخر مع ابنه الثاني عبد الله الذي كان يحاصر المعقل التركي المنيع في المدينة المنورة. وكان واضحا أن الشريف حسين وأولاده لن يتوانوا عن إخضاع الخرمة فور انتهاء الحرب.

    لقد كانت المسألة بالنسبة لإخوان نجد بسيطة: إن إخوانهم في الخرمة يعانون من الاضطهاد ويجب أن تواجه القوة بالقوة، ويجب على عبد العزيز أن يقودهم لمواجهة جيوش الشريف، أو على الأقل أن يطلق العنان لسلطان بن بجاد وإخوان قبيلة عتيبة في غطغط الذين جاء الكثيرون منهم من منطقة الخرمة. لقد كانت هذه فرصة لتطهير مكة المكرمة والمدينة المنورة وساحل البحر الأحمر بكامله.

    بلّغ عبد العزيز البريطانيين بأنه مستعد لقبول التحكيم في مسألة حدود الحجاز ونجد في الخرمة. ولكنه كان يعلم أكثر من غيره بأن الحروب الدينية لا تحسم بالتحكيم.وكانت حمّى الحرب تجتاح الإخوان وإنه إن لم يقم بتوجيه غضبهم فإنه لن يمض وقت طويل حتى يقوم زعيم قبيلة آخر من أمثال فيصل الدويش بقيادتهم. لقد أوجد عبد العزيز لنفسه عفريتا ولم يعد قادرا على إخضاعه.

    أما موظفو وزارة الخارجية في لندن فكان بإمكانهم استعارة التعبير ((تلميذ الساحر)) وتطبيقه على أنفسهم، كما لاحظ مسؤول في مكتب الهند البريطاني، ويبدو أن نتيجة جميع نشاطاتهم إبان الحرب كانت ((إيجاد قوتين في الجزيرة العربية تتبادلان العداء، ولكننا قطعنا وعوداً بالتأييد لكل منها)) وقد صدرت هذه الوعود عن مجموعتين من المسؤولين تتبادلان العداء أيضاً.

    أيد رجالات وزارة الخارجية السياسة التي أصبحت تعرف باسم ((سياسة السيادة))، التي تقوم بريطانيا بموجبها مكافأة الشريف حسين على ثورته العربية بتأييد محاولته تحقيق تفوق على جميع زعماء جزيرة العرب بمن فيهم ابن سعود. ولكن مسؤولي مكتب الهند في الخليج أشاروا إلى استحالة تقبّل عبد العزيز للسيادة الهاشمية، فوصف السير بيرسي كوكس ((سياسة السيادة)) بأنها ((غير عملية)) وطرحها فيلبي جانبا على أنها ((يوتوبية تماما)) (أي يتعذر تطبيقها). وكتب مسؤول حائر يقول ((إن نصيحة المسؤولين المحليين متعارضة للغاية بحيث أنها تجعل من المستحيل على الحكومة البريطانية أن تحكم بنزاهة على الجوانب الخاصة التي تتميز بها القضية)). ولم يساور اللورد كيرزون أدنى شك في أنه في حالة نشوب حرب بين مكة والرياض، عندها ((يجب علينا أن نؤيد الملك حسين)). ولكن الجميع كانوا يأملون من القلب بأن الخلاف حول الخرمة لن يتدهور إلى هذا الحد ـ وكتب أحد المسؤولين مواسيا يقول: ((وحتى لو حدث ذلك فقد لا تكون النتائج جسمية بالقدر الذي يخشى أحياناً. إن تجربة الماضي تبيّن أن نتائج الحروب بين العرب لا تكون دائما مذهلة جدا أو حاسمة)).

    إلا أن هذا الرضا الذاتي كان في غير مكانه لأن الإخوان كانوا على وشك أن يغيّروا وجه الحروب بين العرب كما كانت معروفة للمسؤولين البريطانيين ـ أو لعبد الله بن الحسين الذي بدأ يزحف جنوبا نحو الطائف وترابة والخرمة في اللحظة التي قام الأتراك بتسليم المدينة المنورة له. ورد عبد العزيز على ذلك بأن أمر سلطان بن بجاد بقيادة 1100 أخ من غطغط للدفاع عن الواحات، وكتب إلى البريطانيين مشيرا إلى أنه قد كان وافق على إحالة النزاع للتحكيم. وقال محذرا ((لن أكون مسؤولا إن هو [حسين] أقدم على العدوان)).

    في هذه الأثناء استولى عبد الله على ترابة. وكان تحت إمرته 5000 رجل وعشرة مدافع ميدانية وعشرون مدفعا رشاشا. وكان موقنا بأنه قادر على الاندفاع من الخرمة نحو الرياض والاستيلاء على نجد بكاملها، حتى ساحل الخليج في الشرق. وبلّغ والده بأنه سيكون في البحرين في غضون أسبوعين وتشدّق بمثل هذه العبارات لمبعوثي عبد العزيز. وكان موسم الحج يقترب وقال لهم عبد الله إنه ينوي الاحتفال بعيد الأضحى في قلب نجد نفسها. وأضاف متبجحا ((إننا لم نأت إلى ترابة من أجل ترابة أو الخرمة فقط)). إذا كان القصد من كل هذا هو التخويف، فقد كان وقعه العكس تماما. إذ أن صرخات الغضب تعالت في معسكر الإخوان عندما سمعوا تهديدات عبد الله وبدأوا يزحفوا على ترابة قبل صلاة العشاء. وكانوا قد عرضوا من قبل واحدة من عدة ابتكارات أحدثوها في الحروب العربية ـ وهي المقدرة على التحرك بسرعة بأعداد كبيرة عبر مساحات واسعة: فقطع الإخوان مسافة 300 ميل من غطغط في أيام معدودة وكان كل واحد منهم يحمل كيسا صغيرا من الدقيق وقليلا من التمر وقربة مملوءة بالماء. وركب العديد منهم اثنان للجمل الواحد، وفي هذه الأيام المبكرة عانى الإخوان من نقص في البنادق وكانوا يأملون في التقاطها في الميدان. وتوجهوا إلى المعركة وهم واثقون من كونهم جند الله أنهم سيذهبون فورا إلى الجنة في حالة استشهادهم.

    وصل الإخوان ترابة قبل الفجر وكشفوا عن الصفات الأخرى التي جعلتهم ((رعب الجزيرة العربية الأبيض)).

    وكان معسكر عبد الله يغط في النوم عندما هاجمه الإخوان وأعملوا السيوف في رقابهم وهم يرددون صرخة الحرب ((هبّي حبوب الجنة وينك يا باغيها)). قال شاب نجا لحسن حظه من المجزرة ((لقد رأيت الدم يجري كالنهر بين أشجار النخيل في ترابة. رأيت الأموات أكواما في القلعة قبل أن قفزت من الشباك. ولكن أغرب ما رأيت… كان منظر الإخوان أثناء المعركة وهم يتوقفون للصلاة في الجامع ثم يعودون إلى القتال!))

    كان ذلك بتاريخ 26 مايو [آيار] 1919. وانتهت المعركة قبل شروق الشمس وكان عبد الله بن الحسين محظوظا إذ تمكن من الفرار من الكارثة وهو يرتدي ملابسه الداخلية. وفر معه ستون أو سبعون من أتباعه، معظمهم من الضباط وهم يرتدون ملابسهم الداخلية. وعندما وصلوا الطائف وذاع خبر الكارثة دب الرعب في سكانها لأن الحجاز أصبحت بلا حماية بعد تدمير جيش عبد الله. ولم يعد هناك ما يمنع الإخوان من الزحف على مكة المكرمة والاستيلاء عليها في غضون أيام معدودة وإذا قاموا بذلك فستكون المجزرة شنيعة. لكن عبد العزيز كان يعلم أن لحظته لم تحن بعد. وكان يعلم أيضا أنه إذا أراد الاستيلاء عليها والاحتفاظ بالأماكن المقدسة على الدوام، فيجب أن يحظى بالترحاب. كما أنه كان من السابق لأوانه أن تسلّم بريطانيا أو يسلّم العالم الإسلامي بأسره باحتلاله للحجاز. لذا أمر الإخوان بالعودة إلى بيوتهم بحجة أنه في حاجة لهم لمواجهة تحدي آل رشيد. فلقد أثبت عبد العزيز ما كان في وسع محاربيه أن يفعلوه.



    17ـ وفاة جوهرة

    قضت الإنفلوينزا الإسبانية عام 1919 على عدد أكبر من الأرواح حول العالم من الحرب العالمية الأولى التي دامت أربع سنوات. ولم تكن الرياض تتمتع بمناعة ضدها. فقد وصلت العدوى بطريقة ما مع مسافر من الكويت وكان الهلاك الذي سببته رهيباً. كتبت الدكتور هاريسون الذي استدعى من البحرين إلى الرياض على وجه السرعة يقول: ((لقد عانوا أسوأ الآثار منها هناك وبلغ معدل الوفيات نحو مئة يوميا لبضعة أيام وكانت المدينة بكاملها مريضة، لدرجة أن الجثث كانت تحمل على الحمير والجمال ـ جثتين للحمار وأربع جثث للجمل)).

    وقدّر الدكتور هاريسون بتحفظ عدد الضحايا بنحو ألف ضحية ـ حوالي عشر السكان ـ وعانى آل سعود كغيرهم من الناس. وكانت وفاة أصغر أبناء عبد العزيز، سعد، ووفاة فهد، شقيق فيصل الصغير المفضل، ضربة قاسية له، إلا أن وفاة تركي، أكبر أبنائه ـ ذلك الشاب الوسيم والطويل، الذي كان مفعما بالحياة وأصبح زعيما بين الرجال والذي كان قد أنجب ابنا وثلاث بنات ببلوغه سن التاسعة عشرة، كانت وفاته أكبر فاجعة. وكان تركي قد أصبح ساعد والده الأيمن وأصبح جزءا من شخصيته إذ ان الناس كانوا عادة يسمونه ((أبو تركي)). فأرسل البريطانيون رسالة تعزية رسمية إلى أمير الرياض أثرت في نفسه ورد عليها برسالة عبرت عن محنته ((لقد تأثرتم بخسارتي وشاطرتموني حزني… على الحدث المؤسف المفاجئ… والمتمثل في فقداني ابني في ريعان شبابه وهو الذي كان قد استمال قلوب جميع الأصدقاء)).

    إن الحداد العلني على فقدان ابن أو محارب هو أمر مقبول، إلا انه تعين على عبد العزيز أن يحزن على فقدان أعز زوجاته، جوهرة، والدة أبنائه محمد وخالد، في السر. ويمكننا فقد أن نتصور الحزن الذي غمره. وتكهن محمد أسد في وقت لاحق بأن الجانب الشهواني لطبيعته الذي أطلق له العنان أكثر فأكثر في السنوات اللاحقة يتصل بوفاة جوهرة ويدل على رغبة غامضة لاسترداد شبح حب مفقود. وكان الإخوان ضد أي إظهار للحزن على ظاهرة اعتبرت تعبيرا عن مشيئة الله. وأطلقوا على السنة الهجرية 1337 (18 ـ 1919م) اسم ((سنة الرحمة)) لأنها كانت السنة التي عطف فيها الله على عباده ونقلهم إلى جواره بالآلاف. لكن حزن عبد العزيز لم يتلاش. وبعد مضي 13عاما، حسب رواية أحد الشهود [وبعد 30 سنة حسب رواية لاحقة] لم يكن عبد العزيز قادرا على نطق اسم جوهرة دون أن يغص حلقه وأن تدمع عيناه.
    [align=center][/align]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    18ـ رحلة إلى لندن

    دعت الحكومة البريطانية عبد العزيز لزيارة لندن في شهر يوليو عام 1919. وكانت بريطانيا تنظم آنذاك زيارات صداقة لحلفائها، وأرادت أيضا أن تبحث مشكلة الخرمة مع أمير الرياض. ولم يكن باستطاعة عبد العزيز أن يغادر نجد والإخوان في حالة هيجان، ولا أن يرسل ابنه الثاني، سعود، الذي أراده أن يشغل الحيز الذي تركه تركي منذ وفاته. وهكذا ذهب ابنه التالي، فيصل، نيابة عن والده. وكان لا يزال ولدا رقيقا ورزينا وهادئا يحفظ القرآن عن ظهر قلب. وهكذا أصبح فيصل، ملك السعودية في المستقبل، وهو في سن الرابعة عشر أول فرد من آل سعود يزور أوروبا الغربية.

    إنهم يقومون بزيارة أوروبا في يومنا هذا بالطائرات الخاصة. أما في عام 1919 فقد تعيّن على الأمير فيصل الصغير أن يركب سفينة بخارية قديمة من البحرين إلى بومبي وكانت الرحلة تستغرق عشرة أيام، ثم الانتظار عشرة أيام أخرى هناك في انتظار الباخرة التي كانت ستقلّه إلى إنجلترا عبر قناة السويس. صاح حاكم بومبي مخاطبا همفري باومان، مرافق فيصل البريطاني ((خذ عربك إلى سباقات الخيل في بونا ليشاهدوا ما في استطاعتنا تربيته من خيول!)). وهكذا زار العرب مدينة بونا وأقاموا في فندق تاج محل وسافروا بالقطار. وتمتعوا أيضا ببعض التسليات المناسبة لضيف شرف في سن الرابعة عشرة. يقول الحساب ليوم 18 سبتمبر [أيلول] 1919 ((زيارة الفيل إكرامية، خمس روبيات)).

    أرسل عبد العزيز مع ابنه وصيين: الأكبر سنا، عبد الله القصيبي*، وهو ابن عائلة تجار من الأحساء كان قد ساعد آل سعود على احتلال الهفوف. وكان حينذاك وكيل عبد العزيز التجاري في المنطقة الشرقية، وكان أحد أسباب مرافقته لفيصل القيام ببعض المشتريات في أوروبا لسيده. فبعد عودته بفترة ما وصلت إلى الرياض أول سيارة في نجد، سيارة فورد من طراز تي، قامت قافلة من الجمال بجرها عبر رمال الدهناء الحمراء. أما المرافق الآخر فقد كان أصغر سنا وذا قرابة يدعى أحمد الثنيان، الذي عهد إليه شرح موقف عبد العزيز من نزاع الخرمة لوزارة الخارجية البريطانية وإبلاغ اللورد كيرزون الوعد الذي قرر الأمير أن يقطعه بالنسبة للحجاز: إن عبد العزيز لن يقوم بشن حرب هناك لمدة ثلاث سنوات على الأقل.

    إن الثنيان الأصلي كان شقيق أول ابن سعود في منتصف القرن الثامن عشر، إلا أن الثنيان لم ينضم إلى شقيقه الأكبر في تبنيه لمحمد ابن عبد الوهاب. لقد كان آل ثنيان في الخط الذي انتهجوه أكثر تسامحا من الخط الرئيسي للعائلة. وكان أحمد الثنيان قد قضى طفولته في تركيا إلى أن استرد آل سعود الرياض. فدب الحماس في قلبه وقرر العودة إلى وطنه للمشاركة في حملات العائلة العسكرية. وكان يعرج بفخر نتيجة لجرح أصيب به في إحداها. وكان شعره طويلا ومجدلا على الطريقة البدوية كما كان فخورا جدا بالإمبراطورية السعودية ـ الوهابية الجديدة التي كان عبد العزيز يشيدها. وأقلق هامفري باومان أثناء الرحلة عبر الخليج العربي بالتلميح إلى ((مملكة أوسع بكثير)) سيقيمها آل سعود في المستقبل.

    وضايق الثنيان باومان أيضا بشكاواه المتكررة من عدم معاملة فيصل بنفس الوقار الذي كان الإنجليز يعاملون به الضيف العربي الآخر في نفس المجموعة المتجهة إلى إنجلترا، أحمد بن جابر، حفيد الشيخ مبارك الراحل الذي كان سيصبح عما فريب شيخ الكويت. ولم يفهم أحمد طيّب المزاج لماذا يجب عليه وهو رجل في الثلاثين من عمره أن يعامل باحترام أقل من ولد في سن الرابعة عشرة من عمره. ولم يسبب فيصل نفسه أيه مشاكل. وعمل الولد الجدي والمتحفظ الذي كان رقيق الصحة ـ لقد كانت هناك عدة فواتير طبية في الحسابات ـ بتواضع في إنجاز المهمة التي كانت بداية لسيرته كوزير للخارجية. وقد شغل هذا المنصب لمدة أطول من أي وزير خارجية آخر في القرن العشرين. فتعلم أسماء الدول العظمى الخمس (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، والولايات المتحدة) بالإنجليزية. لكن عبد العزيز كان قد أوصى أحمد الثنيان بأن يعزز مكانه إبنه، وكانت العلاقات بين الكويت ونجد في تدهور منذ استيلاء آل سعود على الأحساء. وكان آل سعود حينئذ يتحدّون تفوق الكويت في شمال ـ شرق جزيرة العرب. واستفحلت هذه المشاعر على ظهر الباخرة ((لورنس)) بسبب الخلافات الدينية بين الكويتيين والسعوديين: فقد حافظ الفريق الثاني بصرامة على مواعيد الصلاة بينما كان الفريق الأول أقل تمسكاً بها ـ ناهيك عن تدخينهم السجائر من حين لآخر.

    ومع هذا عكفت البعثتان معا على التدرب على ((تمرين الشوكة والسكين))، دروس في آداب المائدة الغربية واستعمال الشوكة والسكين اللتين لم يكن فيصل قد شاهدهما من قبل، وشعر أعضاء البعثتين بالخيانة في فندق بونا عندما شاهدوا معلميهم الإنجليز يتخلون عن السكين والشوكة لالتقاط الهليون (نوع من الخضار) بأصابعهم. وبعد لحظة من الدهشة المؤلمة، عاد العرب من جديد إلى القطع والطعن بعناد.

    وكانت هناك مفاجآت أخرى في لندن. إذ تبين لصندوق الضيافة الحكومي قبل أيام معدودة من وصول البعثة السعودية ـ الكويتية إلى ميناء بليموث بتاريخ 13 أكتوبر [تشرين أول] 1919 أنها تتكون من 11 شخصاً، بمن فيهم المرافقين والخدم، لا من شيخين كما قيل لهم من قبل. وبعد مكالمات هاتفية محمومة تم العثور على فندق في ضاحية أبر نوروود اللندنية كان مستعدا وقادرا على إيواء المجموعة لمدة أسبوع أو نحو ذلك. ولكن بعد أن دوى آذان صلاة الفجر في ردهات الفندق في الساعة الخامسة والربع صباحا قررت الإدارة أن الغرف كانت متوفرة لليلة واحدة فقط وطلبوا أن يغادر ضيوفهم الشرقيون الفندق في نفس ذلك اليوم.

    ولكن المشكلة كانت عدم وجود فندق على استعداد لقبولهم. وكان صندوق الضيافة الحكومي قد أجبر على إرسالهم إلى ضاحية أبر نوروود في جنوب لندن لأن ((عشرات الفنادق كانت قد رفضت إيواء الضيوف العرب. وكان السبب إلى حد ما الآذان للصلاة خمس مرات في اليوم، علاوة على استعداد الخدم لإشعال مواقد النار في كل مكان تقريبا وإصرارهم على النوم على الأرض خارج أبواب غرف أسيادهم. كما كان أيضا بسبب إغراق أرضية الحمامات بالماء أثناء الوضوء. ولقد رفض كل فندق كبير في لندن، من السافوي فما دونه، طلب صندوق الضيافة بتوفير الغرف، واضطر فيلبي، الذي أصبح مسؤولا عن الضيوف العرب منذ وصولهم إلى بليموث، إلى أخذهم إلى نزل خاص بحجّاب ضباط الجيش الهندي في شارع سانت جورج في فكتوريا.

    وثبت أن المكان كان مريحاً بما فيه الكفاية ولكن بما أن المسؤول عن النزل لم يكن قادراً على توفير وجبات الطعام، تعيّن عليهم أن يذهبوا إلى فندق غرورفنر قرب محطة فكتوريا لتناول وجباتهم هناك. ولا بد أن منظر العرب بثيابهم العربية وهم يجتازون المحطة ذهابا وإيابا قد جلب الانتباه. وسرعان ما تناولت الصحف ما وصفته صحيفة ((ديلي غرافك)) بـ ((سوء إدارة حكومي)). حتى صحيفة ((التايمز)) أجبرت على الإعراب عن أسفها على هذه ((الهفوة)) في الضيافة الحكومية)).

    وكانت من عادة الملك جورج الخامس أن يتفحّص كل إنش من ((التايمز))، من الإعلانات الشخصية وحتى رسائل القراء. فوصلت رسالة في اليوم التالي إلى مقر الحكومة في لندن كان الملك قد أرسلها من قصر ساندرينغهام في اسكتلندا يعرب فيها عن قلقه مما قرأه عن ((الزعماء المهمين من وسط الجزيرة العربية)) والمعاملة التي كانوا يحظون بها مضيفا بأنه على الرغم من تأكده من أن الصحافة كانت متهمة كالعادة بالمبالغة، إلا أنه كان للمسألة ((تأثير مؤسف)). فأمرت الحكومة بإجراء تحقيق رسمي في المسألة. وتمت دعوة الأمير فيصل لزيارة الملك في قصر باكنغهام يوم الخميس الموافق 30 أكتوبر [تشرين أول] في الساعة الثانية عشرة إلا ربعا وقت الظهر، وأخذ الولد معه سيفا مرصعا باللؤلؤ، صنع غمده ومقبضه من الذهب الخالص، وأهدى جورج الخامس بدوره فيصل صورتين موقعتين له ولزوجته.

    كان فيصل لا يزال ولدا من نواح عديدة. فقد ذهب إلى الكابتن باومان أثناء الرحلة باكيا لأن أحمد الثنيان كان يرغمه على تناول دوائه يومياً، وعندما كان في حديقة حيوان لندن وشاهد أسد البحر يندفع نحو سمكة أسقطت بجانب قدميه حمل ثوبه وهرب. ولكنه كان بالغاً بما فيه الكفاية ليدرك متى كان يعامل باستعلاء، فلم يعجب بتقديم الحلويات له في وزارة الخارجية من قبل اللورد كيرزون، وكان فيصل قد ذهب برفقة أحمد الثنيان إلى الاجتماع لبحث قضية الخرمة والخلاف مع الحجاز، وهي مهمته الرئيسية في هذه الرحلة، ولكنهما تركا الاجتماع، حسبما قاله الرائد بري الذي عهد إليه أمر مرافقتهما إلى باريس، ((غاضبين)) لأنهما عوملا ((كالأطفال)).

    أرسل النجديون إلى باريس لزيارة ميادين القتال في شمال فرنسا التي كانت قد هجرت منذ عهد قريب. وكانت الزيارة تهدف إلى تعريف الضيوف الأجانب على تضحيات بريطانيا الجسيمة أثناء الحرب العالمية الأولى. وكان فيصل، بعد جولته عبر حقول فلاندرز المهجورة التي كانت مليئة بمخلفات الحرب من دمار وأسلاك شائكة، دائما متحفظا في الحديث عن تجاربه الحربية في جزيرة العرب بقوله إنها ((لم تكن كثيرة)). ولكن كان هناك سبب آخر للزيارة وهو الأمل في إقناعهم بالتحدث إلى فيصل بن الحسين. وكان ابن الشريف في باريس يسعى لكسب تأييد مؤتمر السلام في فيرساي لمطلب والده بأن يُعترف به ملكا على العرب ولهذا السبب رفض أحمد الثنيان في البداية مقابلته. قال أحمد للرائد بري ((إنه يهين سيدي باستمرار)). إلا أنه وافق في النهاية على عقد الاجتماع شريطة أن لا يحضره عهدته، فيصل بن عبد العزيز. فلم يكن بمقدوره تعريض الولد للاستخفاف الذي كان يتوقعه ولقيه فعلا في حينه. قال ابن الشريف بازدراء بعد محادثة لم تأت بأي نتيجة ((من هم هؤلاء الإخوان؟ قيل لي إنه لا يسمح لهم بحلق لحاهم)).

    كان الأمير الهاشمي جالسا بجانب الثنيان على كنبة كبيرة وما أن سمع الثنيان الإهانة الموجهة إلى الإخوان حتى وصلت يده مقبض سيفه. فهب الرائد بري وجعفر العسكري، الضابط المرافق لفيصل، كرجل واحد للفصل بين الخصمين. وانتهى اللقاء عند هذا الحد. كان برنامج رحلة السعوديين طموحا. فزاروا في أوروبا كلا من كولون وشتراسبورغ ومارسيليا وزاروا في بريطانيا معامل الصلب في ويلز وحلبة السباق ((فينكس بارك)) قرب دبلن في أيرلندا. وأعجب الأمير فيصل بقرد محشو في متحف التاريخ الطبيعي بلندن قائلا بأنه يشبه أحد عبيده في نجد. وزار البرلمان حيث قام بإفراغ محتويات سلطانية من السكر في فنجانه في وقت كان فيه نظام التقنين ساري المفعول الأمر الذي أفزع مضيفيه.

    وطلب منه مرافقه في هذه المناسبة أن يحدد الشيء الذي استمتع به أكثر من غيره من بين جميع الأشياء التي شاهدها في إنجلترا. وكان فيصل قد شاهد الكثير. فقد تجول في بنك إنجلترا وفي غواصة ألمانية استولى البريطانيون عليها. وأعدت عنه باثي نيوز شريطا سينمائياً إخبارياً وشاهد الكواكب في وضح النهار في مرصد غرينتش، وزار كلية فيلبي القديمة في كامبرج ومدرسة إعدادية في إيستبورن وسار فوق جبل سنودوينا المكسو بالثلوج وشاهد مسرحية الميكادو وشاهد لأول مرة الآلة الكاتبة، والتلفون والطائرة. ولكن من بين جميع هذه التجارب الجديدة عرف فيصل في الحال أفضل ما شاهده إذ قال ((الصعود والنزول على الدرج المتحرك في محطة بيكاديلي سيركس)). إتضح أن فيصل أعجب جدا بالدرج الكهربائي المتحرك لقطارات لندن التي تسير تحت الأرض لدرجة أنه قضى صباح يوم كامل وهو يستقل الدرج صعوداً ونزولاً.



    19ـ السلطان

    كان الوقت هو موسم هجرة الجمال. وشاهد هارولد ديكسون الشاب، المعتمد البريطاني الجديد في البحرين، وهو في طريقه للقاء عبد العزيز في يناير عام 1920 آلافا منها ترعى ببطء وهي في طريقها إلى موقع جديد. واعتقد أنه شاهد ذات يوم 20.000 جمل بالقرب من الهفوف تابعة لقبيلة المرة متجهة شمالا في رحلة حتى الكويت تعود بعدها إلى مواطنها. وتستغرق هذه الرحلة أربعة شهور.

    وذكّرت الهفوف ديكسون عندما شاهدها بدمشق ـ ((زمردة في إطار من الرمل الأصفر)). فسار في حدائقها وعبر شبكة جداولها بواسطة جسور حجرية صغيرة، متمتعاً بأشجار الفاكهة وحقول الأرز والقمح. ورفض بعض الإخوان في الشوارع التحدث معه. وعندما حيّاهم، حجبوا وجوههم بأيديهم عن النظر إلى الكافر، وحتى في مجلس الأمير قام إثنان من شيوخ الإخوان وغادرا الغرفة وهما يتمتمان اللعنات على النصراني المتطفل. قال عبد العزيز لضيفه ((ربما لا تعلمون أيها الإنجليز من هم الإخوان)) وشرع في حديث مطول عن التأثير الحضاري للحركة على نجد.

    وصرخ في معرض حديثه وهو يضرب صدره بانفعال ((أنا الإخوان! أنا عبد الرحمن!)) ثم راح يتحدث عن القرآن الكريم وعن الخلفاء الراشدين والأتراك ونجد. وكانت الكلمات تتدفق من فمه كالسيل. وكتب ديكسون في مذكرته يقول ((إنه ذلك النوع من الرجال الذي يجعل الناس البسطاء يصابون بالجنون)). وأدان عبد العزيز في شرحه لعقيدته الدينية التدخين بحماس خاص قائلا إنه حرام وكان قد حرمه في جميع أنحاء نجد. ولكن في مساء ذلك اليوم سمع ديكسون قرعة على باب غرفته بعد غروب الشمس وعندما فتح الباب دخل أحد مستشاري عبد العزيز ومعه علبتان من السجائر المصرية. إن واجبات الدين، على ما يبدو، لم تطمس واجبات الضيافة. وطلب من الزائر البريطاني أن يتمتع بهديته في غرفته فقط.

    وكان عبد العزيز قد جاء إلى الهفوف للترحيب بإبنه فيصل بعد عودته من لندن. ووصل فيصل وحاشيته من البحرين بتاريخ 12 فبراير 1920. وقد فرح الوالد فرحا عظيما لمظهر ولده الذي دل على صحة جيدة وبالرسالة التي تكرم الملك جورج الخامس بكتابتها له. وطلب الأمير من ديكسون أن يترجم رسالة الملك وأن يقرأها عدة مرات على التوالي. وانشرح صدره، كما كان يحدث دائماً عندما كانت العائلة تجتمع. وذبحت أفواج من الخراف لوليمة كبيرة. ولكن مزاج الأمير تغير عندما أخرج أحمد الثنيان ملاحظات اجتماعه باللورد كيرزون في وزارة الخارجية. فطلب إحضار ديكسون. ووجده الإنجليزي فجأة قانطا. وكان اليوم يوم الجمعة وقال عبد العزيز لديكسون إنه يشعر بالكآبة لدرجة أنه لم يصلّ في ذلك الصباح كما أنه لم يبد الاهتمام اللائق بالخطبة في المسجد.

    وكان سبب كآبة الأمير التفضيل الذي كانت بريطانيا تبديه دائما لشريف مكة. واشتكى بمرارة من أن المساعدة التي كانت بريطانيا تقدمها إلى الحجاز كانت أكبر بكثير من الإعانة المقدمة لنجد كما بلغه أن ابنه لم يحظ في لندن بنفس الحفاوة التي حظى بها ابن الشريف وسأله عبد العزيز بمرارة ((لماذا لا تريدون إدراك الحقائق… أيها الإنجليز؟ ألا تعرفون أن الشريف هو مجرد خائن … أنتم تؤيدون عمودا مكسوراً … وبقدر ما أنا موقن من إمساكي بهذه العصا ـ هنا هز عبد العزيز عصا الخيزران التي كان يحملها دائماً ـ فإني لعلى يقين من أن أيام الشريف باتت معدودة!)). في هذه الأثناء، وفي الجانب الآخر عن الجزيرة، كان ممثلو بريطانيا يعالجون جيشاناً عاطفيا مماثلا من قبل شريف مكة المكرمة. فقضى لورانس جرافيني ـ شميث، الذي كان قد جرى استدعاؤه إلى جدة من السلك القنصلي للبلدان الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ ذات يوم خمس ساعات في محادثة على انفراد مع الشريف حسين سعيا إلى إقناعه بأن يعيّن ممثلا للتفاوض حول نزاع الخرمة الذي كانت بريطانيا تسعى للفصل فيه. ولكنه لم يتوصل إلى نتيجة. وأخيرا أخذ الرجل العجوز ورقة ورسم عليها خارطة الجزيرة العربية وأنهاها بطعنة في الكويت من قلمه. ثم صرخ الشريف قائلا: ((دعه يعود إلى هناك من حيث أتى وعندما يصبح في الكويت مرة ثانية، سأفكر في التحكيم!)).

    إن هزيمة القوات الهاشمية في ترابة لم تجعل الشريف حسين بن علي يتزحزح قيد أنملة عن سعيه إلى إخضاع أمير الرياض، وبحلول ربيع عام 1920 أخذت الصحافة البريطانية في تصعيد الخلاف بين الزبونين العربيين اللذين كانا يطالبان بالإعانات البريطانية لتمويل معاركهما ضد بعضهما البعض ـ وجندا، على ما يبدو، مسؤولين مدنيين بريطانيين متنافسين لأغراضهما. فكتبت مجموعة من أعضاء البرلمان البريطاني إلى صحيفة ((الديلي إكسبرس)) مطالبة بإقامة وزارة واحدة لتتولى توحيد اتجاه السياسة البريطانية في الشرق الأوسط ذلك أن العالم العربي كان لا يزال خليطا من الإدارات العسكرية والحكام المحليين الذين كانوا يدورون في دوامة الفراغ الذي خلفه الأتراك المهزومون، على الرغم من أن الحرب كانت قد انتهت منذ سنتين. وفي هذا الأثير عديم الشكل خطا السيد ونستون تشرتشل، والذي كان قد عين في منصب وزير الدولة لشؤون المستعمرات في أوائل عام 1920، بهدف تحويل هذه الفوضى إلى وضع منظم.

    وكان الحل الذي إرتآه هو عقد اجتماع ((لجميع خبراء وسلطات الشرق الأوسط))، وعنى بهذا حوالي 35 إنجليزيا، وإنجليزية واحدة (جيرترود بل) وعربيان (جعفر العسكري وساسون باشا ـ معاونا فيصل بن الحسين). واجتمع هؤلاء ((الأربعون حرامي))، كما سماهم تشرتشل، في القاهرة في منتصف آذار عام 1921 لتجزئة هذا الركن من العالم بين المجموعات المعنية التي كانوا يمثلونها. وكان تشرتشل، رئيس المؤتمر، يهرب بين جلساته لرسم الأهرامات حيث كان يجلس أمام أبو الهول، واضعا حامل لوحة الرسم ودهاناته في ظل سيارة مصفحة.

    إن لمسات الفرشاة الجريئة التي مرّ بها مؤتمر تشرتشل على لوحة الشرق الأوسط لا تزال الصورة السياسية للشرق الأوسط حتى يومنا هذا: فقد تركت سوريا ولبنان لفرنسا. ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، حيث أخذ الإنجليز على عاتقهم التوفيق بين المطامح العربية واليهودية، وأطلق اسم العراق على بلاد ما بين النهرين وأعطيت لفيصل بن الحسين تحت رعاية بريطانيا، وأطلق على ((القطعة الخالية)) بين فلسطين والعراق وسوريا اسم ((شرق الأردن)) وأعطيت لشقيق فيصل، عبد الله، وتم الاعتراف بوالدهم كملك على الحجاز. وتُرك عبد العزيز وشأنه في نجد واقترح السير بيرسي كوكس أن ترفع إعانة الأمير إلى نفس مستوى الملك حسين كنوع من التعزية على إحاطته من جميع الجهات تقريبا بقوات هاشمية معادية.

    حقد عبد العزيز، من الناحية الظاهرية، على دور صانع الملوك الذي لعبه تشرتشل في القاهرة. فكتب إلى المشايخ يقول ((لقد وصلنا إلى وضع أضحت فيه الأقدام في موضع الرؤوس)) وازدرى من أبناء الشريف ـ ((إنهم أغبياء صغار يقلدون الحكمة الإنجليزية)). ولكنه كان قلقاً في سره. وأفضى بدخيلة نفسه لامين الريحاني قائلاً ((لقد أحاطوني بأعدائي: الشايب في مكة… ابنه عبد الله في شرق الأردن وابنه الآخر فيصل في العراق)).

    وقرر عبد العزيز أن يقوم، ليس لأول ـ أو لآخر ـ مرة، بضربة واقية. كانت مملكة آل رشيد في حائل وجبل شمر تغطي مساحات شاسعة في قلب الشرق الأوسط الواسع والحالي، واصبحت عندئذ ممتدة بين عبد العزيز وأعدائه بمثابة منطقة عازلة أو السبيل الذي باستطاعة الهاشميين أن يتسللوا عبره إلى نجد وهكذا في غضون أسبوعين من انعقاد مؤتمر القاهرة، وقبل أن يتسنى لأبناء الشريف أن يوطدوا دعائم حكمهم في إقطاعياتهم الجديدة، ناهيك عن النظر خارجها، شرع عبد العزيز في تعبئة قواته لضمان حائل وجبل شمر لنفسه. وقد ساعده في ذلك دافع تشويه الذات الذي كان دائما موجودا عند آل رشيد. ففي ربيع عام 1920 سخر سعود بن رشيد، الذي حكم حائل لعقد من السنين، أثناء مباراة رماية عائلية مرتجلة، سخر من الرماية الطائشة لابن عم له. فما كان من الأخير إلا أن استدار فورا وصوب بندقيته إلى جبين سعود وأثبت بصورة لا تدع مجالاً للشك أنه قادر على أن يكون راميا بارعا إذا ما أراد.

    فقام عبيد سعود في الحال بتقطيع القاتل. وورث الحكم عنه ابن أخ له في الثالثة عشرة من عمره، ثبت أنه كان عاجزا عن حشد قوات حائل حين قرر عبد العزيز أن يزحف بقواته. وعندما غزت القوات السعودية جبل شمر في صيف عام 1921، هرب الولد وعلى الرغم من أن خلفه، محمد بن طلال (شقيق قاتل سعود بن رشيد)، كان محاربا شجاعا، إلا أن الفرصة كانت قد فاتته. فقد قرر تجار حائل أنهم عانوا بما فيه الكفاية من سلالة آل رشيد التي كان حكامها قد تبدلوا 14 مرة خلال 90 عاما (مات منهم اثنان فقط ميتة طبيعية). كما أنهم أرادوا تجنب استفزاز غضب فرق الإخوان بقيادة فيصل الدويش التي أحضرها عبد العزيز من الأرطاوية. ففتحوا أبواب حائل لآل سعود، وبعد مرور بضعة أسابيع، في مطلع نوفمبر [تشرين ثاني] 1921 استسلم محمد بن طلال أيضا. وهكذا ضاعف عبد العزيز مساحة إمبراطوريته بجرة قلم، ومنح نفسه لقباً جديداً. فأصبح أمير الرياض سلطان نجد.

    قصة عبد العزيز وأسرى آل رشيد

    عندما استولى عبد العزيز على حائل أمر في الحال بتوزيع المواد الغذائية على السكان للتخفيف من مجاعتهم. كما حرّم جميع أنواع النهب والقتل. إلا أن محمد بن طلال لم يتوقع هذه المعاملة الطيبة لأنه كان قد رفض الاستسلام مع المواطنين بل انسحب إلى حصن حائل لمواصلة القتال، وكان على علم بقصص انتقام آل سعود من الذين عارضوهم. وهكذا ظن آخر حكام آل رشيد أن ساعته قد دنت عندما طلب منه الخدم. بعد استسلامه، الاغتسال استعدادا لمناسبة عظيمة. وعندما جاء عبد العزيز نفسه لرش العطر عليه، ازداد قناعة بذلك . ولكنه وجد نفسه في مجلس ابن سعود. فنهض عبد العزيز ليعانقه وقبّله ثم قال ((إجلس هنا بجانبي)). وأضاف قائلاً ((إن وقت القتل قد ولّى فنحن جميعا إخوان الآن، وأنت وأهلك ستحضرون إلى الرياض لتعيشوا معي كجزء من عائلتي)). وهذا ما حدث. فذهب أمراء آل رشيد إلى الرياض وعاشوا ضيوفا معززين في قصر عبد العزيز لسنين عديدة.

    وكان عبد العزيز يقول ((عندما عاقبونا حثنا هذا على الانتقام. لذا يجب أن لا نعاقبهم)). وأولى عناية خاصة بنساء آل رشيد. وكان القتال قد ترك ثلاثة أرامل. فزوّج السلطان إحداهن لشقيقه الأصغر سعود بن عبد الرحمن، وزوج الثانية لأكبر أبنائه سعود بن عبد العزيز وتزوج هو من الأرملة الثالثة، فهدة بنت عاصي بن شريم. وخلف منها عبد العزيز إبنه الثامن، عبد الله، في غضون سنتين من احتلال حائل، ويشغل عبد الله حاليا منصب ولي العهد ورئيس الحرس الوطني والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء. إن هذا لتذكير حي على أن بناء العائلة بالنسبة لعبد العزيز عني أيضا بناء إمبراطورية.



    20ـ الحدود في قلوب الرجال

    كان هاري سانت جون فيلبي يستعرض خربة رومانية بالقرب من عمان، أكبر مدينة في إمارة شرق الأدرن حديثة العهد، في صيف عام 1922 فرأى علامة على الحائط سببت له الانزعاج. فقد تعرّف فيلبي، الذي كان قد أصبح في ذلك الوقت ممثل بريطانيا في شرق الأردن، على وسم حديث لقبيلة عنيزة النجدية، أي العلامة التي تضعها القبيلة على جمالها وآبارها للإشارة إلى ملكيتها. وكانت تستعمل أحيانا من قبل فرق الاستطلاع لإرشاد مجموعة غازية إلى فريستها، وازداد فيلبي قلقا. هل تمكن جواسيس الإخوان من التسلل حتى أصبحوا على هذه المقربة من عمان؟

    حصل فيلبي على الجواب بعد عدة أسابيع عندما قطع فطوره نبأ كون الإخوان على بعد عشرة أميال فقط. فقد تسللوا عبر وادي سرحان وهاجموا قرى بني صخر، وقد فاجأتهم طائرة كانت تقوم برحلة استطلاعية روتينية وهم منهمكين في المذبحة. فولى الإخوان الأدبار على ظهور جمالهم، في رتل يتكون من 1500 رجل، جنوبا بأسرع ما يكون. ولكنهم كانوا بعيدين عن وادي سرحان، فلحقتهم السيارات المصفحة البريطانية والطائرات في أم الأحمد.

    وكتب فيلبي الذي استقل سيارة في اليوم التالي إلى عين المكان يقول ((شاهدت طريق فرارهم الطويل. وقد خطته جثث الوهابيين التي انتفخت كالبالونات من أثر الشمس)). وعندما رجع الذين نجوا إلى نجد أصدر عبد العزيز أمرا بزج قادتهم في السجن. وأعرب للإخوان عن استيائه الشديد من تصرفاتهم المخلة بالقانون، واعتذر للسلطات البريطانية عن الغارة. إلا أن سلطان نجد تعاطف في سره مع رغبة الإخوان في الإغارة على ما يرغبون، لأنها كانت تلائم طموحه الشخصي في إعادة بناء إمبراطورية أجداده. فعندما راح الإخوان يتوسعون في الحيز الذي تركه الأتراك المهزومون في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان عبد العزيز يعترف بتوسعاتهم متى شعر أن بإمكانه أن يفعل ذلك من دون أن يلحق به ضرر.

    وقد نجح هذا الأسلوب في عسير، التي تكوّن جزءا من الركن الجنوبي ـ الغربي لجزيرة العرب، حيث وصل الإخوان بعد انتصارهم في ترابة. وكانت عسير الواقعة على البحر الأحمر بين الحجاز واليمن قبل قدوم الإخوان مستقلة، إذ كانت عبارة عن دولة صغيرة اقتطعتها عائلة الإدريسي في القرن التاسع عشر واكسبتها جبالها الخضراء وسفوحها شديدة الانحدار طابعا أقرب في طبيعتها إلى أثيوبيا الواقعة على الجانب الآخر من البحر الأحمر، منها إلى الصحارى الشمالية والسهول البركانية التي جاء منها الإخوان على ظهور جمالهم.

    كتب فيلبي عندما جاء ليرسم خريطة للحدود الجنوبية لعسير بناء على طلب عبد العزيز في الثلاثينات يقول ((لا بد أن جنة عدن تشبه هذا المكان إلى حد بعيد… والإنسان الذي يصادفه المرء من حين لآخر يبدو وكأنه خرج من سفر التكوين (في التوراة)، عاريا باستثناء قطعة من القماش تغطي عورته، وأحيانا بندقية، وله شعر مجعد جدا ودهني)) واستمع فيلبي للرعاة وهم يعزفون ألحانا ناعمة ذكرته باليونان. وحتى يومنا هذا فإن القبعات المنسوجة من القش وغابات العرعر والنساء غير المحجبات بقبعاتهن المدببة وهن يفلحن تلال عسير المدرّجة تكسب المرتفعات المكسوة بغشاوة من الضباب مظهراً مناقضاً تماما لما هو مألوف في شبه جزيرة العرب. لقد كانت عسير خاضعة لحكم عائلة إدريسي وكان محمد إدريسي عام 1920 يحاول تجنب التحدي من جانب الشريف حسين بن علي الذي كان مدركاً، مثل عبد العزيز، للفرص التي أوجدها ذهاب الأتراك. وبدأ الشريف بضم سهل عسير الساحلي الأمر الذي جعل محمد ادريسي يرحب تقريبا بتوجه الإخوان جنوبا بعد ترابة. ووقّع في صيف عام 1920 اتفاقية مع عبد العزيز اعترف بموجبها بالحماية السعودية الجبال عسير اعتبر هذه الاتفاقية بمثابة معاهدة صداقة. ولكن عندما حاول ابن محمد، الذي توفي بعد عامين من توقيع الاتفاقية، أن يؤكد سيطرته على المنطقة التي حكمتها عائلته زهاء قرن من الزمن، عامله سعود معاملة المتمرد وأرسل الإخوان بقيادة ابنه فيصل لإخماد تمرده. وعمل الإخوان على ((إقناع)) المستوطنات الواقعة حتى حدود اليمن عينها بتبني عقيدتهم. وهكذا أصبحت هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها حوالي 4000 ميل مربع خاضعة لسيطرة عبد العزيز الفعلية.

    ولم تستسلم الكويت لهذا الأسلوب بمثل هذه السهولة. وكان دعاة الإخوان من الأرطاوية قد تسللوا إلى المدينة. إلا أن سالم بن مبارك رفض محاولة تخويفه. لقد كانت إرادة والده سارية المفعول حتى مسافة 100 ميل في الصحراء. ولو أنه سلم بسياسة الضم الزاحف التي كان الإخوان يمارسونها فلن يبقى له سوى مدينة الكويت. لذا قرر أن يبيّن على وجه التحديد حدود أراضيه بإقامة حصن قرب المنيفة وهي نقطة تبعد عن ساحل الخليج حوالي 150 ميلاً. لقد أصبحت المنفية فيما بعد نقطة انطلاق لحقل بترولي كبير في مياه الخليج، ومع أن سالم كان يطالب بالأرض وليس بالبترول، فإن موقفه أذن بقدوم عالم ستجبر فيه مثل هذه الموارد الطبيعية القيام بتحديد دقيق للحدود الوطنية.

    إن هذا العالم لم يكن معروفا للبدوي في العشرينات من هذا القرن، ولم يكن عند البدوي استعداد لقبوله. وفي الواقع لم يكن هناك أبدا حد دقيق بين الكويت ونجد ولا حتى بين نجد وأي مكان آخر. ولقد كان هذا هو نصف مشكلة الخرمة، لأن الحدود الوحيدة التي كان البدو يعترفون بها هي المكتوبة في قلوب الرجال إنها ليست خطوطاً مرسومة على الرمال، بل مسائل تتعلق بالولاء والقيادة والسلطة الإنسانية.

    إن واقع كون الشيخ مبارك العظيم كان يحظى بولاء الناس على بعد 100 ميل عن الكويت لا يخول لابنه سالم غير المحبوب وغير المرن، تلقائيا صلاحية المطالبة بنفس الأرض كحق له. فمن وجهة نظر إخوان قبيلة مطير أن إمبراطورية مبارك تبعته إلى القبر. وكان هذا هو المنطق الذي استخدمه عبد العزيز لتسوية الخلاف. ذلك أن سالم نفسه توفي صدفة في أوائل عام 1921 في الوقت الذي كان فيه فيصل الدويش قد بدأ يحشد قواته لمهاجمة الكويت.

    وكان خليفة سالم هو أحمد بن جابر، الذي كان قد رافق فيصل بن عبد العزيز في رحلة لندن وكان شخصية محبوبة ورجلا لطيفا. واجتمع أحمد مع عبد العزيز في أبريل [نيسان] 1921 وتعانق القائدان وأعلنا أنه بما أنهما صديقان لا يمكن أن يكون هناك خلاف بين شعبيهما وأنه لم تعد هناك أي حاجة لتحديد الحدود بين الكويت ونجد,.

    لقد كانت هذه مصالحة تقليدية في ظاهرها. لكن الحقيقة كانت أن بريطانيا أرسلت سفنا حربية لحماية الكويت ضد الإخوان في شتاء 1921 ـ 1922 ولم يكن بمقدور عبد العزيز احتلال المدينة حتى لو أنه أراد ذلك. إن الحكومة البريطانية لم تكن مهتمة كثيراً بمن يسيطر على عسير. ولكن الكويت كانت مسألة مختلفة ـ وكذلك كان أيضا العراق إلى الشمال. فعندما تقدم رتل من الإخوان مكون من 2000 رجل نحو بادية العراق في مارس [آذار] 1922 بقيادة فيصل الدويش، واجهتهم فرقة من شرطة البادية العراقية مدعومة بطائرات سلاح الجو البريطاني كانت تحلق في السماء. وقرر الإخوان في هذه المرة أن الحذر خير من البسالة.

    هذا هو النحو الذي سار عليه تكوين معظم شكل المملكة في أوائل العشرينات: كان جند الإسلام يركبون جمالهم وفي أيديهم المصاحف والبنادق وينطلقون إلى الإمام إلى أبعد حد ممكن، باعثين من جديد التوسعات الوهابية التي حدثت في القرن الثامن عشر بأسلوب لم يتغير كثيرا خلال 150 عاما. بيد أنه كان هناك فارق واحد: كانت الطائرات البريطانية والسيارات المصفحة تقوم الآن بحماية العراق والأردن في الشمال. بينما تقوم السفن الحربية البريطانية بحماية الكويت والمشيخات المتصالحة التي اقتطعت من ساحل الجزيرة بمحاذاة الخليج. وهكذا فمهما كانت أهمية الحدود في قلوب الرجال، فإن الحكومة البريطانية هي التي قررت لعبد العزيز حدود ما هو ممكن.



    21ـ بداية زائفة

    ظهرت في نوفمبر 1922 شخصية غريبة على الشاطئ بالقرب من قرية العقير في شرق جزيرة العرب. فقد نزل من قارب صيد بحريني صغير رجل غربي متين البنية يرتدي بدلة وقميصا وربطة عنق وعباءة. وكانت على رأسه خوذة مغطاة بغترة وعقال. قدم هذا الشبح نفسه على أنه الرائد فرانك هولمز. رجل أعمال ومنقّب نيوزلندي. ومع نزول هولمز في جزيرة العرب مس البترول أو على الأقل إمكانية وجوده لأول مرة تاريخ المملكة ـ كان فرانك هولمز شخصا مخادعا وساحر الحديث، إدعى عندما زار العقيد ديكسون في البحرين إنه صياد فراشات. وأضاف مخاطبا المعتمد البريطاني أنه يبحث عن فراشة سوداء نادرة في واحة القطيف وأنه قد أطلق عليها اسم ((أدميرال القطيف الأسود)).

    لكن هذا التمويه كان أضعف من أن يتستر خلفه منقب عن البترول، إذ أن السيدة فيوليت ديكسون أدركت في الحال الشيء الذي كان الرائد هولمز يسعى وراءه ألا وهو الذهب الأسود الذي كانت تنضح به منطقة القطيف والذي كان هارولد ديكسون نفسه قد نظم عدة حملات للبحث عنه ويقال إن الأتراك هم الذين اكتشفوا تسرب هذه المواد الزيتية عندما كانوا يسيطرون على الأحساء ولكن الكثبان المتحركة طمرتها، أما عبد العزيز نفسه فلم يثق كثيراً في منافعها. لقد طلى نوح سفينته بالزفت واشتعلت نيران بلاد ما بين النهرين الأبدية لسنين عديدة. ولكن في نوفمبر [تشرين ثاني] 1922 لم يكن قد تم اكتشاف أي بترول بعد في الجانب العربي للخليج.
    [align=center][/align]

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    كان عبد العزيز العقير في نوفمبر [تشرين ثاني] 1922 لإجراء محادثات مع السير بيرسي كوكس. وكان البريطانيون قد رأوا أن الاضطرابات على طول الحدود السعودية مع الكويت والعراق يجب أن تحل في مؤتمر ـ وكان هذا أول مؤتمر عالمي يعقد على التراب السعودي. وبما أن العقير نفسها لم تكن بلدة بمعنى الكلمة بل كانت مجرد حصن ومركز جمارك وبعض الأكواخ، نظم سعود الاجتماع على الطراز العربي. فأمر بإقامة معسكر كبير من الخيام حول سرادقين عاليين. خصصت الخيام البدوية السوداء لحاشيته ونصبت مجموعة من الخيام البيضاء للزوار الأجانب تم تأثيثها بالمقاعد المنجدة والأسرة. وكان عبد العزيز قد أمر وكيله في المنطقة الشرقية، عبد الله القصيبي، أن يحرص على راحة ضيوفه ولذا كانت خيام الأجانب مزودة بالفواكه التي أحضرت من الهند والمياه المعدنية والويسكي والسجائر. وحرص القصيبي على توفير مطابخ وطباخين منفصلين للعرب والأجانب وهكذا كان الضيوف البريطانيون يجلسون كل ليلة ولمدة أسبوع في خيمة الطعام وهم يرتدون بذلاتهم الرسمية.

    إننا نعلم هذه التفاصيل المثيرة بفضل حضور أمين الريحاني لمؤتمر العقير. كان أمين الريحاني عربيا ـ أمريكيا بدينا وكثير السؤال، اكسبه اعتداده بالنفس محبة عبد العزيز. جاء الريحاني من نيويورك وكان فخوراً بمعرفته للهجة بروكلين إلا أنه قضى معظم طفولته في لبنان. وجعل مهمته في الحياة بعث روح الطموح والمثالية والتماسك التي أعجب بها في أمريكا في نفوس العرب. وكان أمين الريحاني يتجول في الشرق الأوسط ويكتب عن الشخصيات التي كان يلتقي بها. وهذا جاء إلى العقير في نوفمبر [تشرين ثاني] 1922 فقام هناك بتدوين وقائع لقاء عبد العزيز بالرائد فرانك هولمز.

    لقد كان عبد العزيز يطلب دائما الأطباء من البريطانيين. وكان يعاني من وسواس المرض الذي يعاني منه عادة حكام الشرق ويبدي احتراما لرجال الطب تجاوز قدراتهم الطبية المحضة فالذي يوثق به لعلاج طبي يوثق بنصحه في المجالات الأخرى. وحتى يومنا هذا فإن الدكتور رشاد فرعون، السوري الأصل الذي وصل الرياض عام 1936 للعمل كطبيب خاص لعبد العزيز، وأصبح فيما بعد الطبيب الخاص للملك فيصل والملك خالد، لا يزال أكبر مستشار سياسي في البلاط السعودي.

    وعندما تفشي الوباء المأساوي في الرياض عام 1919 كان عبد العزيز قد دعا أطباء الإرسالية الأمريكية في البحرين إلى نجد؛ ولكن السير بيرسي كوكس شك في أن هؤلاء الأمريكيين أثاروا مشاعر معادية لبريطانيا. وعندما طلب عبد العزيز عام 1921 طبيبا آخر، اقترح كوكس الدكتور الكس مان، وهو طبيب يهودي كان يعمل ضمن موظفيه. وثبت أن ديانة مان لم تكن عقبة بالنسبة لعبد العزيز الذي منحه كل الثقة التي كان يضعها عادة في رجال الطب، وعيّنه عام 1922 ممثلا له في لندن. وخصص له راتبا مقداره 1000 جنيه استرليني في السنة وفي لندن اتصل مان بمجموعة من المضاربين (إيسترن آند جنرال سنديكت) كانت تتخصص في شراء الإمتيازات البترولية وبيعها لشركات أكبر.

    وكان الرائد فرانك هولمز، المهندس السابق والضابط السابق في مشاة البحرية الملكية، ممثل هذه المجموعة في الخليج. وهكذا وجد هولمز نفسه يتخبط في الوحل على شاطئ العقير في نوفمبر 1922. ولم يجد السير بيرسي كوكس الأمر مضحكا. إنه لم يحضر إلى العقير ليتساوم مع تجار مضاربين. إن مهمته كانت التحكيم في مسألة الحدود الدولية. وقد ابتكر حلا بارعا للمشاكل التي أثارها مبدأ ((الحدود في قلوب الرجال)) تمثل في إيجاد منطقتين محايدتين حيث يكون بإمكان البدو أن يتنقلوا بحرية، ويشارك عبد العزيز في السيادة على الأرض ومواردها مع العراق في المنطقة الأولى ومع الكويت في المنطقة الثانية. لقد كانت هذه مسائل معقدة.

    وهكذا اضطر هولمز إلى نصب خيمته على بعد ما من المخيم البريطاني، الذي تجاهله عمداً، وقضى هناك معظم الأسبوع جالسا بينما كان البريطانيون يفردون خرائطهم في السرادق الكبير، لكن أمين الريحاني الذي كانت له نفسه مناوشات مع بيرسي كوكس استقبله استقبالا أكثر وداً. وعندما عرض عليه هولمز الطلب الذي صاغه واعتزم تقديمه إلى عبد العزيز قام الريحاني بإعادة صياغته بلغة عربية أصح. إن النيوزيلاندي كان يطالب بمنحه امتياز بترول: أي رخصة للتنقيب عن البترول، وفي حالة النجاح، رخصة لاستغلال الموارد المعدنية في الأراضي التابعة لآل سعود ـ وكان مستعداً لدفع إيجار سنوي بالذهب.

    أما السير بيرسي كوكس فلم يقف موقفا مشجعا. لقد وافق على الاجتماع بهولمز على مضض في آخر يوم للمؤتمر وبين بوضوح نفوره الشخصي من الرائد وسكب الماء البارد على خططه إذ خاطبه قائلا ((إن الوقت لم يحن بعد… لا تستعجل الامتياز.. إذ أن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تمنح شركتك أية حماية)).

    لكن كوكس لم يكن صادقا فيما قال لأنه كان قد أبرق قبل ذلك بقليل إلى صديقه ونائبه السابق النقيب (الذي أصبح يحمل لقب سير) أرنولد ويلسون، ممثل شركة البترول الأنجلو ـ فارسية التي كانت الحكومة البريطانية تملك معظم أسهمها، قام على أثرها ويلسون بالكتابة إلى عبد العزيز مباشرة. واقترح ويلسون على عبد العزيز ((عقد صفقة حول البترول))، وقام أحد مستشاري عبد العزيز بعرض هذه الرسالة على أمين الريحاني، الأمر الذي يفسر لماذا شعر كوكس إن الموت لم ((يحن)) بعد لمبادرة الرائد هولمز المستقلة. كتب اللبناني بتهكم قائلاً ((إن من الجلي إنه ليس في غير أوانه أن تتفاوض شركة البترول الأنجلو ـ فارسية بشأن الحصول على امتياز)).

    قام كوكس بكل ما في وسعه للحيلولة دون حصول هولمز على غايته وطلب من عبد العزيز أن يبلغ النيوزيلاندي أنه لا يمكن منح أي امتياز إلى أن تبحث الحكومة البريطانية المسألة. وذهب إلى حد أنه كتب بقلم رصاص مسودة الرسالة التي أراد عبد العزيز أن يكتبها. تساءل كوكس قائلا ((هل باستطاعة السلطان أن يتكرم بإرسال رسالة بالمعنى الوارد أعلاه إلى الرائد هولمز وأن يرسل لي نسخة منها؟)).

    غضب عبد العزيز غضبا شديدا إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى في العقير التي يقوم فيها كوكس بإرسال مثل هذه الرسائل الموجزة والمكتوبة بقلم رصاص إليه متوقعا منه أن يوافق عليها. ورفض السلطان التوقيع عليها ثلاث مرات وأصر كوكس على ذلك ثلاث مرات، إلى أن حصل المندوب السامي في نهاية الأمر على مراده. أصيب أمين الريحاني بخبية أمل مريرة. وكتب بمرارة يقول إن عبد العزيز يقول إنه لا يخشى إلا الله، ((لكني أخشى أنه يخاف أيضا أن يفقد مرتبه السنوي)).

    لقد كانت هذه هي الحقيقة الأساسية لمؤتمر العقير، لأن بريطانيا كانت مأمور صرف الرواتب ومأمور الإمدادات العسكرية لكل من العراق والكويت ونجد . وكان اعتماد عبد العزيز على الإعانة البريطانية وقدرها 60.000 جنيه ذهبي سنويا قد ازداد كثيرا. وقد حضر إلى العقير والأمل يحدوه بأن يحصل على زيادة في حجمها لأن احتلاله لبلاد آل رشيد وجبال عسير قد ضاعف من عدد الشيوخ الذين تعيّن عليه أن يكسب ولاءهم. وبما أن هولمز كان يتحدث عن بضعة آلاف من الجنيهات في السنة مقابل امتياز البترول فإن ذلك كان سعرا زهيدا بالمقارنة بسعر ثقة السير بيرسي كوكس.

    فهم هولمز المغزى. فقام بحزم أمتعته وغادر العقير. ولكنه قدم لعبد العزيز قبيل مبارحته للمكان مجموعة غير عادية من الهدايا: ما يزيد على خمسين صندوقا وأكياسا من الجلد وعلبا ومسدسات ـ وهذا مثال لأسلوب في المعاملات كان السير بيرسي يستهجنه بكل وضوح. إن الرشوة ليست عملا نزيها، أما ممارسة الضغط فهي على ما يبدو عمل نزيه.

    قابل أمين الريحاني هولمز مرة ثانية بالصدفة في الربيع التالي. وكان الرائد يستعد لمغادرة بغداد بتوديع معارفه ومن بينهم السيدة كوكس ـ وكان هذا خبرا سعيدا للسير بيرسي لأن مغادرة هولمز ستفسح الطريق أمام شركة البترول الأنجلو ـ فارسية كي تضمن مركزها في جزيرة العرب.

    لكن الرائد نزل من الباخرة دون سابق إنذار عند منتصف الخليج وتوجه مسرعا إلى الداخل قبل أن تسبقه رسالة من كوكس إلى عبد العزيز. وكانت بريطاينا قد أعلنت إنهاء إعاناتها المالية لحكام جزيرة العرب، لذا شعر سلطان نجد بأنه لم يعد مدينا بالفضل للسير بيرسي كما كان في السابق ـ وكان في الوقت ذاته بحاجة إلى المال.

    تسلم أمين الريحاني من عبد العزيز رسالة في أغسطس [آب] 1923 يقول فيها إنه قد منح إمتياز البترول في أراضيه للرائد هولمز ومجموعته ((إيسترن أند جنرال سنديكت)). وهكذا أحبطت مساعي كل من شركة البترول الأنجلو ـ فارسية والحكومة البريطانية.

    وتلاشت المغامرة بكاملها بعدئذ بصورة مخزية إلى حد ما. وكان كوكس قد حذّر عبد العزيز من أن مجموعة هولمز ليست شركة بترول بالمعنى الصحيح للكلمة بل إنها وكالة ستقوم ببيع الامتياز إلى طرف آخر، وقد أثبتت الأحداث أنه كان لهذا التحذير ما يبرره. فقد ازداد اهتمام هذه المجموعة بالبحرين. كما أنها لم تجد مشتريا لامتيازها السعودي ولم تستثمر إلا قليلا من الجهد والمال في التنقيب الجاد وفي النهاية أوقفت عام 1927 مدفوعاتها السنوية لعبد العزيز ـ وبالتالي تخلت عن حقوقها في التنقيب. هكذا فقد فرانك هولمز، الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم أبو البترول بفضل عمله الذي مهد الطريق لأول اكتشاف للبترول في البحرين عام 1932، الكنز الأعظم في جزيرة العرب. ومع ذلك كان لنجاح فرانك هولمز في اعتراض شركة البترول الأنجلو ـ فارسية نتيجة واحدة مهمة. لقد كانت هذه الشركة تملك الموارد للتنقيب عن البترول بصورة أشمل من مجموعة هولمز ولو أنها حصلت على الامتياز لتمسكت به، بتأييد من الحكومة البريطانية، بعناد أكثر من مجموعة هولمز الذي أتاح إحباطها لرجال البترول الأمريكيين فرصة تحديد مكان واكتشاف كنوز المملكة الهائلة في الثلاثينات. وترجع ((العلاقة الخاصة)) القائمة بين المملكة والولايات المتحدة إلى كون الأمريكيين هو أول من اكتشف البترول السعودي واستثمره ـ وكان صياد ((فراشة القطيف السوداء)) هو الذي جعل ذلك ممكنا بصورة غير مباشرة.



    22ـ عبد العزيز في البيت

    وصل أمين الريحاني إلى المدينة الرياض المسورة على ظهر جمل في نهاية عام 1922 وشاهد بضع مئات من الناس يجلسون على مقاعد صنعت من الطين ملتصقة بجدران قصر عبد العزيز. وكان عبد العزيز قد دعاه بعد مؤتمر العقير ليزوره، وتصور هذا اللبناني أن هؤلاء الناس قد تجمعوا لمشاهدة وصوله. ثم شاهد أن الكثيرين من هؤلاء الرجال كانوا يحملون اطباقاً من الخشب والقاشاني وأنهم لم يكونوا في الواقع في انتظاره، بل كانوا في انتظار الحصول على الطعام من القصر. فقد كان يحضر حوالي 500 رجل يوميا لتناول طعام الغذاء والعشاء كضيوف على عبد العزيز.

    أخذ شلهوب، مأمور التموين في القصر، الريحاني لمشاهدة المخازن المركزية: فرأى غرفا يكسوها الغبار مملوءة بالسروج والخروج والبنادق والسجاد والدقيق والتمر والسكر والسمن، تم شراء بعضها بالإعانات التي قدمتها بريطانيا إبان الحرب، وكان بعضها غنائم أخذت من الأعداء وكان البعض الآخر جزية من بعض القبائل التي ثم إخضاعها. وكان عبد العزيز يوزعها على الناس. ففي أحد الأعياد قام شلهوب بتوزيع 3000 عباءة مذهبة تم شراؤها من سوريا. وكان قادة الإخوان يحضرون إلى المخازن وهم يحملون قوائم مشتريات طويلة وافق عليها السلطان. وعندما رفعت رايات الحرب، جنى عبد العزيز ثمار كرمه.

    بقي أمين الريحاني ضيفا على عبد العزيز لعدة أشهر في شتاء 1922 ـ 1923 وتعطي مفكرته صورة فريدة للرياض كما كانت عليه قبل ستين عاما. فقال عن الرياض إنها ((مدينة جسور)). لقد كان قصر آل سعود متصلا بالمسجد الرئيسي بطريق مسقوف، عبارة عن رواق مرفوع على أعمدة ليتمكن عبد العزيز من السير مباشرة من مجلسه إلى الجامع وكانت هناك ـ جسور مماثلة تؤدي إلى غرف السلطان الخاصة.

    ودعا عبد العزيز الريحاني ذات يوم إلى الانضمام إليه هناك، فسار فوق ثلاثة أسطح وعبر جسرين ثم نزل عددا من الأروقة. وهكذا تمكن الريحاني من إلقاء نظرة خاطفة على حياة عبد العزيز الخاصة. ((هذا هو الحريم)) قال السلطان مشيرا إلى أربعة مباني قريبة ذات أعمدة وشرفات لإطلاق النار.((لكل منهن بيتها الخاص)). وتجول الريحاني في غرف السلطان الصغيرة الخاصة ـ حيث شاهد حمامه المزود بسخان ماء كبير وحوض وآنية معدنية، وغرفة للصلاة وكان هناك مجلس مريح صغير أيضا غني بالسجاد والوسائد، وغرفة نوم احتفظ عبد العزيز فيها برمح طوله 7 أقدام كان قد حمله في الليلة التي غزا فيها الرياض. ثم ذهب الاثنان للتجول في الحريم وقد بُهت الريحاني بزهاء وجمال الزخرفة الداخلية للمباني التي تبدو رتيبة من الخارج. فكتب يقول إن الأبواب ((مزركشة بالألوان الأزرق والأخضر والأصفر)) بينما كانت الجدران مزخرفة بنقوش نافرة على خلفية بنية فاتحة، بدت وكأنها مكسوة بحلية من الدانتيل الإسباني. كانت إحدى زوجات عبد العزيز في عام 1922 تدعى فهدة، أرملة الرشيد التي تزوجها عبد العزيز بعد سقوط حائل. وكانت حصة بنت أحمد السديري زوجة أخرى.



    قصة عبد العزيز وحصة

    كانت حصة بنت أحمد السديري بنتا صغيرة جميلة، مجرد طفلة، عندما رآها عبد العزيز لأول مرة. كان والدها أحمد أحد السديريين الذين ناصروا قضية آل سعود منذ البداية وخدم آل سعود بإخلاص منذ ذلك الحين. وعينه عبد العزيز حاكما على بعض المناطق التي تم إخضاعها وذات يوم شاهد عبد العزيز حصة الصغيرة تلعب وتمرح مع صديقاتها. ولم تكن حصة قد بلغت بعد سن التحجب وقد أخذ عبد العزيز بسحرها وقرر أن ينتظر حتى تكبر. وعندما بلغت حصة سن الثالثة عشرة تزوجها عبد العزيز وأنجبت له سعد الذي عاش لمدة خمس سنوات ثم ذهب ضحية وباء الإنفلونزا الإسبانية التي قضت أيضا على فهد وتركي.

    وطلق عبد العزيز حصة، ربما لأنه اعتقد أنها لم تعد قادرة على إنجاب الأولاد. نحن لا نعرف السبب. فتزوجت حصة من محمد بن عبد الرحمن، شقيق زوجها السابق، وأنجبت منه ابناً رائعاً (عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن) الذي عاش طويلاً. لكن عبد العزيز ندم فيما بعد على تطليق زوجته وأراد أن يستعيدها. فذهب إلى شقيقه محمد وأقنعه أن يطلق حصة كي يتزوجها مرة ثانية. ودام الزواج هذه المرة حتى آخر أيامه وأنجبت له ثمانية أولاد وخمس بنات ـ أي أكثر مما أنجبته أي زوجة أخرى. ولد أول إبن له من حصة بعد الزواج الثاني عام 1921 وسماه عبد العزيز فهداً.

    شاهد الريحاني أيضاً مخزناً مليئاً بأدوية الدكتور مان. وأخرج السلطان من غرفة نومه صندوقا من الجلد كان مليئا بالعطور وأصر على رش العطر على رأس ضيفه ولحيته وصدره. ثم دعاه السلطان عصر أحد الأيام لمصاحبته في نزهة عائلية. ركب الريحاني في المقعد الخلفي لسيارة عبد العزيز ـ أول سيارة في الرياض، سيارة فورد من طراز ((تي)) التي كان قد أرسلها عبد الله القصيبي والتي جرتها الجمال لمنتصف الطريق. وكان مع السلطان والريحاني أحد أمراء آل رشيد كان يعيش في الرياض بمثابة ((ضيف شرف))، وكانت هناك سيارة أخرى مليئة بالأطفال. ورافق الموكب أكثر من مائة خيّال كان سائق السلطان الهندي يبتعد عنهم بغبطة كبيرة كلما سمحت الصحراء بزيادة السرعة حتى 55 ميلا في الساعة. وكان الموقع الذي تم انتقاؤه للتنزه عبارة عن صخرة ضخمة اتخذت شكل قوس بفعل العوامل الجوية، تقف فوق أكمة على بضعة أميال عن المدينة، كانت العائلة قد استخدمتها بمثابة نقطة البداية والنهاية لسباقات الخيل العائلية. وكان عبد العزيز يجلس في ظلها ويشاهد المتسابقين وهم ينطلقون نحو الأفق ليعودوا بعد 15 أو 20 دقيقة مندفعين نحو نقطة النهاية، بينما كان المتفرجون يقفزون ويصرخون بعبارات التشجيع.

    فاز أمير الرشيد في السباق الذي شهده الريحاني ذلك اليوم متغلبا على سعود بن عبد العزيز ولكن السلطان لم يأبه لذلك وأمر شلهوب بتوزيع الجوائز: 15 جنيها ذهبيا للفائز الأول و10 جنيهات للثاني. وكان عبد العزيز يأخذ معه كلما ذهب في رحلة في سيارته كيساً من العملات الذهبية. ثم أسقط السلطان جنيها في وعاء مليء بالماء إيذانا ببدء اللعبة التالية. كان عنده مولّد كهربائي صغير وكان يضع سلكا في الماء ويدعو أي واحد لان يمسك السلك الثاني ويسترد الجنيه بينما كان هو يدير المولد بقوة. وكان المتنافس تلو الآخر يُسقط السلك مقهقها بألم، إلى أن جاء دور متنافس رفض في البداية أن يُسقط السلك ثم اكتشف أنه لم يعد قادرا على ترك السلك ذلك لأن التيار أصبح مسيطرا عليه، فسقط على الأرض وهو يتلوى من الألم وجر الوعاء والماء والعملة والمولد معه. فكان هو الفائز.

    قضى الأطفال وقتهم في اللعب حول أرجل السلطان ومن حين لآخر كان يحمل أحدهم ويضمه إلى صدره ثم يهمس شيئا في إذنه ويقبله. وكان بعضهم من أبناء آل رشيد، كما أشار عبد العزيز للريحاني وقال: ((إنهم جميعا أبناؤنا بلا تمييز)) . ولم تكن بعد في الرياض مدرسة عام 1922. وكان أبناء آل سعود يتعلمون القرآن في غرفة بسيطة من الطين على يد أحد العلماء. وكان جدهم عبد الرحمن ما زال حيا ونشيطا وكان يبدي إهتماما كبيرا بتقدمهم الروحي. وكان يتأكد من مدى حضورهم الدروس ومدى إطاعتهم للشيخ. وكان المرتد عن الطريق القويم يوضع في خزانة صغيرة تشبه الزنزانة طيلة الصباح.

    يوصف اليوم رسميا تعليم الملك فهد وولي العهد الأمير عبد الله وإخوانهم على أنه كان مبنيا على الدين والفروسية والسياسة في نطاق القصر. فكان الواحد منهم يتعلم القرآن حتى سن الحادية عشرة تقريبا، ثم يُرسل كل أمير صغير إلى معلم بدوي خاص للعيش مدة في الصحراء حيث كان يتعلم ركوب الخيل والعناية بها ويتعلم الرماية وقص الأثر ومعرفة الصحراء وتقاليدها. ثم يعود الأمير الشاب إلى الرياض حيث كان يجلس في مجلس والده ويستمع إلى المناقشات السياسية اليومية حول ما يحدث في جزيرة العرب والعالم ككل.

    لم يكن هذا هو الإعداد المتعارف عليه لإدارة العلاقات الدولية في الربع الأخير من القرن العشرين. ولم تكن هذه هي الناحية غير العادية الوحيدة لتربية أبناء آل سعود في العشرينات. فقد أصطحب كل منهم أثناء تعليمه بأحد أبناء العبيد الذي كان يسمى خوي ـ الأخ الصغير. كانت العبودية ظاهرة شائعة في جزيرة العرب في العشرينات ولم تلغ رسميا في المملكة إلا في عام 1962. وكان الحج مصدرها الرئيسي إذ كان السودانيون والنايجيريون يبيعون أولادهم في مكة المكرمة لتمويل رحلة العودة. وكانت تجارة الرقيق هي إحدى المصادر التقليدية لثروة الأشراف. وكان لكل أمير وشيخ في نجد عائلة من الزنوج تعيش معهم وكان أولادها يلعبون مع أولاد الشيخ أو الأمير وغالبا ما يصبحون أقرب مرافقيهم عندما يبلغون سن الرشد.

    أصيبت إدارة فندق وولدورف استوريا بصدمة عندما أحضر الأمير فيصل بن عبد العزيز عبده مرزوق معه أثناء زيارته نيويورك عام 1944 وكانت صدمتها أكبر عندما أصر الأمير على أن يأكل مرزوق معه، كما كان يفعل دائما، ذلك لأن هذا كان يقتضي السماح له بدخول قاعة المآدب و((ويدجوود روم)) التي لم يسمح لزنجي أبدا أن يدخلها.

    * * *

    فوجئ أمين الريحاني بتقشف الرياض عام 1922. وأعتقد أن هذا التقشف كان يدل إلى حد ما على المزاج الطبيعي لسكان الصحراء المقطوعين عن عالم القرن العشرين والذين لم يكن أمامهم خيار سوى ضبط أنفسهم إن هم أرادوا إخضاع بيئتهم القاسية. ولكن كان هناك أيضا دينهم. فكتب يقول ((إن كل ما يعزز مجد الإنسان محرم)). فقد كان الغناء والموسيقى محرمين. ولم يكن هناك أية نبتة أو أصيص في ساحات الرياض أو على مصطباتها. وكانت هناك أحياء لم يكن باستطاعة المرء فيها أن يضحك في بيته دون أن يقرع بابه ويؤنب على طيشه من قبل متدين عابر.

    يعرف اليوم الأفراد الذين يضعون الطريقة الوهابية موضع التنفيذ باسم المطاوعة. ولكن من الأفضل وصفهم بلجان الأمن الأهلية ـ ويبين وصف الريحاني للرياض قبل ستين سنة سبب ذلك. فقد كوّن الرجال الصالحون في كل حي جمعيات من أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجوب المنحدرون منهم هذه الأيام شوارع المدن السعودية. وتتلقى هذه الجمعيات دعماً من الحكومة إلا إنها ما زالت جميعات تطوعية تعمل في مجالها الخاص من العمل الاجتماعي.

    تحمّل عبد العزيز صرامتهم ولكن كانت هناك مرات، كما قال للريحاني، شعر فيها بأنه غريب في مدينته. وعندما واجه المظاهر المتطرفة للحماس الوهابي لم يشعر معها بأي ((التقاء للعقل أو القلب ـ ولا حتى الروح)).

    كان عبد العزيز جالسا ذات يوم في مجلسه، يستعيد مغامرات الماضي، عندما التفت إلى أحد العلماء الذين كانوا يجلسون معه كل عصر وسأله. ((هل تتذكر، يا شيخ تاريخ تلك المعركة؟)) فهز الشيخ رأسه ولم يقل شيئا. وبعد برهة انتقل الحديث إلى مواضيع دينية والتفت السلطان مرة أخرى لنفس الشيخ طلبا للمساعدة. وسأله عبد العزيز ((ألا تعرف الجواب؟)) بحثا عن جواب كان الشيخ الصامت على علم به. ـ ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة. وقال عبد العزيز بسخرية للريحاني بعد أن غادر الرجلان المجلس ((إن العلماء لا يتنازلون للتحدث الينا)).

    لم يكن سرا في الرياض أن سلطان نجد لم يكن سعيدا بجميع القيود الصارمة التي فرضت على مجتمعه بإسم الدين. ويقال إنه كان يأمر أتباعه عندما يصبح بعيدا عن عيون وآذان الرياض أن ينطلقوا في الغناء. ومع ذلك كان باستطاعة عبد العزيز أن يقوم بمثل هذه التصرفات الحذرة في نهاية الأمر لأنه لم يكن باستطاعة أحد أن يشك في عمق وإخلاص إيمانه. لقد كان دقيقا في أداء فريضة الصلاة وقد اشتهر باستيعابه الشامل لدروس القرآن في صباه. وكان في قصره عدد من مرتلي القرآن وكان دائما يصطحب أحدهم أثناء الرحلات الطويلة المملة على ظهر الجمل. واعتاد أن يجلس بعد ظهر كل يوم للإصغاء لقراءات من الحديث النبوي الشريف وإذا ما توقف الراوي كان عبد العزيز يتمم المقطع من ذاكرته دون أي خطأ.

    وحتى في الليل كان أفراد عائلة السلطان يسمعون صوته عبر باب جناحه الخاص وهو يتمتم الآيات القرآنية في تلك اللحظة من الليل التي يتوجه فيها المسلمون الأتقياء إلى الله بالدعاء. في هذه اللحظات، يقول أقرباؤه كان صوته يجش ويبدأ عبد العزيز في البكاء. كانت عواطف عبد العزيز سريعة الاستثارة بصورة ملفتة للنظر كما تبين للريحاني. وعندما كان السلطان يفقد أعصابه يفقد أعصابه كان يفعل ذلك بضراوة وبعنف. فينهال ضربا بعصا الجمل على من أثار غضبه ـ وقال الريحاني ((كنت لا أكاد أصدق أنني كنت في حضرة نفس الرجل.. لكن غضبه كان يزول بنفس السرعة)).

    وعندما مرض الريحاني كان عبد العزيز يعوده كل يوم وهو في سريره ويحضر معه هدية صغيرة: بعض الأملاح الصحية الفوارة أو البسكوت أو مؤلف قديم عن تاريخ آل سعود لأنه كان يعلم بأن ضيفه كان مهتما بالموضوع. وتوصل الريحاني إلى نتيجة مؤداها أن عبد العزيز كان مزيجا فذا وغير عادي. فقد كان ينعم بسحر وحساسية يجد الرجل الغربي أنه قادر على التجاوب معها ولكنه كان قادرا في الوقت نفسه على أن يكون مستبدا وصعبا على نحو لا يمكن وصفه إلا بكونه شرقيا. وكان مدفوعا بإيمان إسلامي عميق ومؤمنا بمهمة قيادة الحملة الوهابية في القرن العشرين وبطموحات عائلته أيضا ـ وكان سياسيا بارعا. وكتب اللبناني يقول ((لقد قابلت الآن جميع ملوك بلاد العرب ولا أجد أيا منهم أكبر من هذا الرجل… إنه كبير بالكلمة والإيماءة والعقل. إنه يعرف ما يريده والأفضل من ذلك أنه يعرف أي جزء من مراده يستطيع أن يحصل عليه في أي وقت محدد.))



    23ـ الطائف

    كان الناس في جدة، كما كان الحال في الرياض قبل عصر مكيفات الهواء، يقضون السهرة على الأسطح، وفي إحدى أمسيات عام 1920 دعا الشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، لورانس جرافتي ـ سميث نائب القنصل البريطاني الجديد في جدة، لتناول طعام العشاء على سطح الثكنة العسكرية المجاورة لضريح حواء. وكانت عادة الشريف أن يجبر ضيوفه على الأكل. فكان يحب التقاط لقم الطعام من الطبق الكبير ويدفعها في أفواه جيرانه متجاهلا جميع احتجاجاتهم وكأنه، كما كتب جرافتي ـ سميث، ((يحشو ديك حبش))، كانت هذه هي فكرته في الضيافة.وكانت فكرته في الترفيه مضحكة بنفس الدرجة. فقد ظهر عبد على السطح يقود قردا ضخما وراءه بسلسلة، فقام الشريف في الحال وحرّض القرد على أحد ضيوفه الذي اشتهر بالجبن. وأكد الضحية البائسة هذا عندما هب واقفا وراح يركض حول السطح وهو يصرخ، متعثرا بالناس والمقاعد وكان على وشك أن يلقي بنفسه من اليأس من حافة السطح الذي كان على ارتفاع عدة طوابق عن الأرض فأوقف الحيوان. وكتب جرافتي سميث يقول: كنت أراقب الملك طوال هذا المشهد المؤلم ورأيت كيف لمعت عيناه، ورأيت اللعاب يسيل من زوايا فمه)).

    أصبح الشريف حسين، حاكم الحجاز المطلق بعد طرد الأتراك، يتصرف بغطرسة المستبد. فقد حدث ذات يوم أنه كان يتكلم مع رونالد ستورز بالتلفون وكان الخط رديئاً. وفجأة سمع ستورز الشريف يخاطب سنترال التلفون ((بلغة أجف مما كنت أتوقع من رجل في مثل هذا المقام الديني الرفيع، آمرا العاملين بقطع جميع التلفونات في الحجاز باستثناء خطه وخطي لمدة نصف ساعة. ففعلوا ذلك في الحال وتحدثنا من الآن فصاعدا في سكون الموت.)) وشعر الملك جورج الخامس بالغيرة عندما سمع هذه الحكاية. فقال لستورز بكآبة ((أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك في لندن)). وبدأ تقدير ممثلي التاج البريطاني في الشرق الأوسط للشريف حسين بن علي يتضاءل بسبب تصرفاته المتعجرفة ولأنه أخذ يتّبعها في مجال السياسة الخارجية. فكان يرفض التسليم بأسلوب صنع الدول البريطاني في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب.

    وكانت معركة ترابة هي نقطة التجول. فحتى شهر مايو 1919 كان البريطانيون يعتبرون الجيوش الهاشمية التي قاموا بتمويلها وتدريبها وتجهيزها القوة المحلية المهيمنة في الشرق الأوسط وتحملوا عناد الشريف حسين وجنون عظمته لأنهم افترضوا بأنه لم يكن أمامهم أي خيار آخر. ولكن انتصار الإخوان الساحق في ترابة وهزيمة القوات الهاشمية النكراء ألقت ضوءا جديدا على ميزان القوى في الجزيرة العربية. قال جون تشكبر، مسؤول مكتب الهند بعد عدة أسابيع من المعركة ((إن لم يكن الشريف قويا بما فيه الكفاية للمحافظة على نفسه في مواجهة الوهابيين… فإنه سيغرق، وكلما أسرعنا في قبول هذه الفكرة كلما كان هذا من الأفضل)). وهكذا بدأت الحكومة البريطانية تبتعد عن ملك الحجاز. كتب ريدر بولارد، القنصل البريطاني الذي وصل جدة عام 1922 يقول ((تصور شيخا عربيا ماكرا وكذابا وساذجا ومرتابا وعنيدا ومغرورا وجاهلا وطماعا زُجّ به فجأة في مركز تعيّن عليه فيه أن يعالج مسائل مختلفة لا يفهمها وحيث لا توجد قوة قادرة على كبحه، عنده تتكون لديك صورة للملك حسين)).

    إن مشكلة الشريف حسين كانت تكمن في انه كان يتمتع بطاقة وشهية للعمل لا تعرف حدودا على الرغم من أنه كان في سن التاسعة والستين. فكانت ترسل إليه أتفه المشاكل الإدارية في الحجاز ليوليها عنايته الشخصية. وكان عند موظفي الحكومة عذر مقنع لعدم القيام بأي عمل بدون تفويضه الخاص إذ أنه كان يلقي بمن أغضبوه في السجن الواقع تحت قصره في مكة المكرمة، في القبو، حيث كان ينزل ومعه هراوة متى طاب له ذلك لينفس عن غضبه بضرب البؤساء الذين كان يحتفظ بهم في الظلام هناك.

    وكانت الحقيقة المحزنة أن الملك حسين بدأ يفقد صوابه. إن القرد المربوط بالسلسلة والهراوة في القبو والمنولوجات الطويلة الملتوية التي كانت في نظره ((محادثة))، دلت جميعها على الجانب الأسود لشخصية الرجل العجوز الذي أصبح يسيطر على شخصيته بكاملها*.

    إن السن وغرور القوة وحدودها التي جاءت مخيبة للآمال أخذت تتغلب على اللطف الذي فتن ذات مرة جميع من قابلوه وظهر الجانبان لانفصام شخصية الرجل العجوز للرائد باتن، القنصل البريطاني، بصورة مثيرة صباح أحد أيام شهر فبراير [شباط] عام 1921. وكان الإنجليزي يتأمل حال الحسين حيث بدا وكأنه استرد ذاته السابقة عندما التفت بصورة غير متوقعة ليكتشف أن القناع قد سقط وإذا به يرى رجلا مختلفا متجهم الوجه وقف متأملا في مكان الأب رقيق الفؤاد الذي كان هناك منذ لحظة)).

    إن تأمل الشريف حسين كان له ما يبرره لأن واقع حياته في أعقاب الحرب كان مختلفا بصورة قاسية من جميع الآمال التي بعثتها الثورة العربية. فقد ذهب الأتراك وبات ملك الحجاز بلا منازع ولكنه لم يعتبر إهداء العراق وشرق الأردن لأبنائه تعويضا مناسبا للمخاطر التي عرض لها نفسه شخصياً. وكان يشعر بمرارة خاصة حيال تسليم فلسطين لليهود، ونادرا ما يعترف العرب الذين يحقدون على هذا الرجل العجوز حتى يومنا هذا بأن الشريف حسين بن علي كان أول زعيم عربي يدرك الخطر الكامن لعرب فلسطين في تصريح بلفور وأول من حاربه. فرفض بكل ما في الكلمة من معنى أن يوقع معاهدة الصداقة الحجازية ـ البريطانية التي أحضرها لورنس بنفسه إلى جدة في شهر يوليو [تموز] 1921 لأنها اقتضت تسليمه بالانتداب البريطاني على فلسطين وبالتالي إقامة وطن يهودي هناك.

    قال لورنس بفظاظة ((إن فلسطين لا تريدك))، معتقدا أن اهتمام الشريف بالموضوع كان شخصيا أو عائليا. فأجابه الشريف حسين بقوله ((إن هذا لا يؤثر فينا. أنا لا أطلب هذا لنفسي أو لأبنائي: إن كل ما نطالب به هو أن تفي بريطانيا بالوعود التي قطعتها للعرب)). وكان الشريف حسين بأمسّ الحاجة إلى المعاهدة التي عرضها عليه لورنس إذ أنها وعدته بالدعم المالي والعسكري. وكانت بريطانيا تدفع له مبلغ 25.000 جنيه استرليني في الشهر إبان الثورة العربية، لكن هذه الإعانة توقفت بعد الحرب، ولم يكن باستطاعة الحسين السيطرة على القبائل بدون الذهب البريطاني. وأصبح بنو حرب خاصة متمردين. وكان التجار الذين يتجرأون على مغادرة جدة بلا حراسة يعرضون أنفسهم إلى خطر العودة إلى بيوتهم وقد تم تجريدهم من كل شيء بما في ذلك سراويلهم.

    وقام الشريف بفرض سلسلة يائسة من الضرائب على الحجازيين سعياً لإيجاد المال الضروري للحكومة: ضريبة دخل وضريبة مقايضة وضريبة طوابع وضريبة ماء وحتى ضريبة دفن ـ وكانت الضرائب التي فرضها على الحجاج أقسى. فتضاعفت الرسوم التي فرضها على الرحلة من جدة إلى مكة المكرمة خلال ست سنوات. وبما أن جمال الحج كانت امتيازا ملكيا، فقد منع استخدام جميع أنواع النقل الحديث، قائلاً ((يجب أن تبقى البلاد كما وجدها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لمصلحة كل مسلم)). وحطّم بنفسه بقضيب حديدي سيارة عثر عليها ذات يوم في مكة المكرمة وقد أمتد دافعه الجنوني للسيطرة على كل شيء إلى بيع السحالي المجففة التي كان يعتبرها سكان مكة المكرمة والحجاج في ذلك الحين دواء مقويا. وكانت هناك لافتات في جميع أنحاء المدينة المقدسة ترشد الزوار إلى الأكشاك الملكية حيث كان بإمكانهم أن يشتروا السحالي المجففة الوحيدة المرخص بها.

    ولاحظ السير رونالد ستورز أن الاعتبار الذي كان الملك حسين يلقاه من جانب الملوك الآخرين أخذ يتلاشى بالتدريج. وقال السير بيرسي كوكس في العراق إن الشريف بدا ((معتوهاً من الناحية العملية)). وحتى فيصل، ابن الشريف نفسه، اعترف في شهر مايو [آيار] عام 1922 بأن ((عناد والده الجنوني جعل رعاياه ينفرون منه، كما أكسبه عداء جيرانه)). وسأله كوكس في محاولة حذرة لبحث الخيار الذي بات كل مسؤول بريطاني في جدة تقريبا يشعر بأن عليه أن يقترحه: ماذا سيكون رد فعله لو أن تمت تنحية والده عن العرش؟ وجاء الرد ((من حيث المبدأ سنرحب بهذه الخطوة من القلب)) ـ وبرغم ذلك فإن فيصل بن الحسين لم يتصور، طبعا، الحل الذي بدأ يتكون في عدد من العقول البريطانية. وكتب السير آرثر هرتزل في يونيو [حزيران] عام 1922 ((هناك شعور متزايد بأنه لو استطاع ابن سعود ترسيخ مركزه في مكة فإن هذا سيكون شيئا حسناً)).

    * * *

    إن عبد العزيز لم يكن يشك أبدا في مقدرته العسكرية على احتلال المدينتين المقدستين. قال مخاطبا هارولد ديكسون عام 1930 ((آه لو أنكم أيها الإنجليز تسمحون لي فقط بأن أكسب نصيبي بالسيف، فسأحتل الحجاز خلال أسبوع)). اعتقدت جيرترود بل بأن هذا التباهي كان له ما يبرره إذ كتبت تقول في نفس السنة وهي تقارن قوتي عبد العزيز والشريف حسين ببعضهما (إن ابن سعود هو الأقوى بكثير من بين الاثنين والحقيقة الوحيدة التي منعته من ابتلاع الحجاز هي أنه كان يعمل بموجب رغباتنا)).

    إن موقف عبد العزيز المعتدل من الشريف حسين اعتمد إلى حد كبير على مبلغ الستين ألف جنيه الذي كانت بريطانيا تدفعه له سنويا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وعندما قررت الحكومة البريطانية إلغاء إعاناتها المالية لحكام الشرق الأوسط عام 1923، زال عائق كبير لطموحات سلطان نجد. ولم يعد عند عبد العزيز ابتداء من شهر مارس [آذار] عام 1924، وهو التاريخ الذي حددته بريطانيا لآخر دفعة من الإعانات لجزيرة العرب، سوى القليل مما قد يخسره لو أنه أغضب الحكومة البريطانية. وقد اختار الشريف حسين هذا الشهر لاختبار الاستقلال الجديد لسلطان نجد.

    كان الشريف في زيارة لابنه عبد الله في عمّان. وسافر من جدة إلى العقبة في احدى اليخوت البخارية التي حاولت بها الحجاز تخليص حركة نقل الحجاج في البحر الأحمر من سيطرة البريطانيين، ووجد في استقباله في العقبة موكبا من السيارات التي اشمأز من استعمالها في شرق الأردن كما في الحجاز. وهكذا ركب شريف مكة البالغ من العمر 71 عاما على بغل في رحلة إلى محطة قطار معان على بعد 75 ميلا استغرقت يومين. ((لم يبدِ عليه الإعياء أبداً)). كتب فيلبي بإعجاب يقول ((وكلما التفت إليه أثناء الرحلة وجدته دائما معتدلاً في جلسته مثل قضيب تنظيف البندقية)). كان الشريف حسين بن علي يتمتع بحيوية أكثر مما كان في صالحه. وسمع في 3 مارس [آذار] 1924 أن كمال أتاتورك قد ألغى الخلافة، في نطاق برنامجه لتحديث تركيا بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، متخليا بذلك عن زعامة العالم الإسلامي التي ادعتها اسطنبول لمدة 400 عام وبينما كانت وجهه نظر أتاتورك أن الخلافة قد ألغيت، اعتبر الشريف حسين المنصب قد أصبح شاغرا بأعجوبة. ومن كان أولى منه ليتولاها؟

    أعلن الشريف حسين نفسه خليفة على المسلمين في عمّان بتاريخ 5 مارس 1924 وعندما وصل النبأ إلى جدة كان وقعه على رعاياه في الحجاز نفس وقع فكرة ((أن تصبح النظرية النسبية أو نظام المعدنين ديانة الدولة)) كما قال ريدر بولارد. وأضاف القنصل البريطاني ((سمع الإعلان بلا حماس)) وقوبل خطاب ألقاه شاب سوري أنهاه بهتاف ((يحيا الخليفة حسين))، بسكون الأموات. واستقبل النبأ في بقية العالم الإسلامي ببرود أكثر. فتنبأ مسلمو جاوا بأن الله سيسحق الشريف من على وجه الأرض لوقاحته. أما مسلمو الهند فقد كانوا مقتنعين بأن هذه المناورة كانت بإيحاء من بريطانيا. وأصيب البريطانيون أنفسهم بصدمة ورفضوا الاعتراف بلقب الشريف الجديد ـ وكان رد الفعل في نجد غضبا شديدا لا يقبل التهدئة.

    * * *

    لم تكن الجمعية العمومية التي اجتمعت في الرياض بتاريخ 5 يونيو [حزيران] 1924 بدعوة من عبد العزيز الأولى من نوعها. فقد نظم قبل خمس سنوات اجتماعاً واحداً على الأقل من هذا القبيل عندما كانت بعض تصرفات الإخوان، مثل إجبارهم الناس على الانضمام إليهم، تسبب قلقاً، وعندما أراد العلماء أن يفرضوا النظام على الإخوان.

    ان استعمال الكلمات الغربية ((جمعية)) و((مؤتمر)) لوصف اجتماع روتيني موسمي للشيوخ والأمراء بمناسبة عيد الأضحى ربما كان مبالغا فيه. فقد اعتاد هؤلاء على القدوم إلى الرياض في مثل هذه المناسبات لتقديم تهانيهم لعبد العزيز. وكان هذا موعد توزيع الهدايا نصف السنوي، فطالب عبد العزيز في يونيو [حزيران] 1924 بصورة رسمية بالولاء الذي كان يشتريه بأن دعا الحضور للتعليق على انتحال الشريف حسين بن علي للخلافة. فاستشاط زعماء الإخوان الحاضرون غضبا كما كان متوقعا. وقاد زعيمهم سلطان بن بجاد الهجوم معددا الشكاوى المتكررة من التصرفات الشريفية المنكرة التي بلغت أوجها بانتحال الشريف للخلافة. وركز على الأخص على الحظر الذي كان قد فرضه مؤخرا على تأدية النجديين لفريضة الحج، لأن الشريف كان كارها لفتح مكة المكرمة لحشود من ((الحجاج)) الإخوان. ودعا ابن بجاد الإخوان إلى الزحف على مكة المكرمة وإرغام العجوز الشيطان على السماح لهم بتأدية فريضة الحج. ولكن رد فعل عبد العزيز المباشر على شكاوى الإخوان كان الانحياز للشريف ـ وحظر على النجديين الحج في السنة التالية. وقال عبد العزيز ان انتحال الحسين للخلافة هو بمثابة انتهاك للحرمات، وحذر أتباعه من أن الزحف المسلح على الديار المقدسة يعتبر أنتهاكا للحرمات ((إلا بتكليف من العالم الإسلامي، لأن الديار المقدسة كانت ملكا لجميع المسلمين)). إن الذكريات التي كانت عند المجتمع الإسلامي العالمي عن آخر دخول للوهابيين لمكة المكرمة والمدينة المنورة لم تكن سعيدة وكان عبد العزيز يعلم أنه يجب أن يتعايش مع هذا الواقع.

    وكان حظ السلطان سعيدا إذ أن الحسين بن علي جعل العديد من إخوانه المسلمين ينفرون منه وخاصة في الهند حيث فسر الوطنيون تولي الحسين للخلافة على أنه مؤامرة بريطانية. وكانت لجنة الخلافة الهندية تندد دائما بالتأييد البريطاني للشريف حسين على أنه تدخل لا مبرر له في الشؤون الإسلامية. وفي صيف عام 1924 طلبت اللجنة من سلطان نجد ((العمل على إحلال الوئام بين عرب الجزيرة العربية)) ـ ولم يكن عبد العزيز بحاجة إلى التشجيع. فقد كان عازما على الهجوم مهما كان الحال. وانتظر سلطان نجد لمدة ثلاثة أشهر إلى أن غادر آخر الحجاج مدينة مكة المكرمة، ثم أمر خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد في أغسطس [آب] 1924 بأن يقودا محاربيهما من الإخوان، ما يناهز 3000 فرد، غربا من ترابة عبر السهول إلى الطائف.

    وكان الشريف يعد لمثل هذا اليوم منذ مدة. فقد أمر بإعادة بناء سور المدينة وبناء حلقة من أبراج المراقبة من حولها. ولكن عندما وقف الإخوان أمام أحد هذه الأبراج بتاريخ 1 سبتمبر [أيلول] 1924 استسلمت الحامية الصغيرة من غير إبطاء، وانسحبت حاميات الأبراج الأخرى إلى داخل أسوار المدينة. كان جيش الهاشميين، الذي كان أكبر من قوات الإخوان ومزوداً بأسلحة أفضل، بقيادة علي، أكبر أبناء الشريف حسين الذي كان نحيفا ومسلولا. وكان البريطانيون قد تغاضوا عنه في تنظيمهم للثورة العربية لإدراكهم الصحيح بأن الصفات القتالية التي كانوا يبحثون عنها كانت موجودة في أخوية الصغيرين، عبد الله وفيصل.

    كتب رونالد ستورز عن علي يقول ((أعتقد أن هناك ذقنا ضعيفة (بمعنى شخصية ضعيفة) تحت لحيته الصغيرة)). ووصف تقرير قسم الشؤون العربية بوزارة الخارجية البريطانية وريث الشريف بأنه شخص ((حي الضمير وحذر ولطيف المعشر، إلا أنه يفتقر إلى قوة الشخصية)) ـ وأثبت علي صحة هذا الرأي بمعالجته للحصار السعودي للطائف. ولم يكن الإخوان قد بدأوا في تطويق المدينة بصورة جدية حين قام في ليلة 4 سبتمبر [أيلول] 1924 بسحب قوات والده من المدينة خلسة في الظلام، تاركاً أهلها تحت رحمة الإخوان.

    هناك خلاف حول ما حدث بعد ذلك مباشرة. يقال إن بعثة من المدينة تفاوضت مع خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد حول استسلام المدنية. وربما فتحت الأبواب بدون أية شكليات من قبل بعض المتعاطفين مع الإخوان. ولكن أهل المدينة بكل تأكيد لم يكونوا يفكرون في أية مقاومة بالقوة عندما تحول استيلاء الإخوان على الطائف إلى مذبحة رهيبة. وقيل فيما بعد إن النار قد أطلقت على الإخوان من مركز للشرطة، ولكن مهما كان الاستفزاز، حقيقيا كان أم وهمياً، فقد كانت المذبحة بلا رحمة. وكان قاضي المدينة والشيوخ قد التجأو إلى الجامع فأخرجهم الإخوان منه وقطعوا جثثهم. كما دمرت البيوت والحوانيت بعد نهبها وقطعت الحناجر وألقيت الجثث في آبار المدينة في حالة من الهيجان هيجان خلّفت أكثر من 300 قتيل في غضون ساعات قليلة.

    فدب الرعب في الحجاز من جراء مذبحة الطائف وتوجّه الملك حسين بطلب يائس للمساعدة إلى بريطانيا. ولكنه لم يتلق أي جواب لأن الحكومة البريطانية قررت عند سماعها نبأ الاجتياح السعودي للحجاز أن تدع الأمور تأخذ مجراها الطبيعي. وأرسلت إلى عبد العزيز برقية تحذره فيها من التعرض إلى الحجاج من رعاياها وحرية زيارة الديار المقدسة للخطر. ولكن البرقية لم تذكر الملك حسين أو أيا من حقوقه في الحجاز واستتنج عبد العزيز من ذلك بحق بأن بريطانيا قد تخلت عن حليفها السابق.وتوصل أهالي جدة بسرعة إلى نفس النتيجة، فاجتمع أعيانها بقيادة الحاج عبد الله رضا، قائمقام المدينة، بتاريخ 3 أكتوبر [تشرين أول] 1924.

    كان الحاج عبد الله رضا يحظى باحترام كبير. وكان آل رضا من أغنى تجار الحجاز واشتهروا بأعمال البر ـ فقد أسس وموّل محمد علي زينل رضا مدارس الفلاح*، أول مدارس حديثة في الجزيرة العربية، واقترح الحاج عبد الله إجراء بعض الإصلاحات منها تنازل الشريف عن العرش وإقامة حكومة دستورية بقيادة الأمير علي وكان الأمل كبيرا في جدة من أن ذهاب الحسين ـ ومعه الإدعاء المزعج بالخلافة ـ قد يغري عبد العزيز بالشروع في مفاوضات. وعهدت مهمة الذهاب إلى مكة وإقناع الشريف بمزايا هذه السياسة إلى علي المسكين الذي كان يعتبره والده ابنه المفضل لأنه لم يعارضه يوما في شيء. ولدهشة الجميع أصغى الرجل العجوز لابنه وفي الساعة التاسعة من مساء اليوم ذاته، 3 أكتوبر [تشرين أول] 1924، تناول الملك حسين قلمه المفضل في قصره المهجور والمعتم وتنازل عن العرش، وهكذا استسلم ألد أعداء آل سعود في الجزيرة بلا مقاومة تقريبا.

    وتلت ذلك برهة قصيرة بدا فيها الملك السابق وكأنه غير راغب في مغادرة مملكته السابقة. ولكنه قضى هذه الأيام في تعبئة ممتلكاته الخاصة التي تبينت طبيعتها عندما ركب أخيرا السفينة بتاريخ 16 أكتوبر [تشرين أول] 1924. فقد شوهد العبيد وهم يترنحون من ثقل صفائح الوقود المحكمة الإغلاق التي حملوها إلى الباخرة ((تو ميْر سيز)) لأنها كانت تحتوي على 800.000 جنيه ذهبي، هي حصيلة أرباح 16 عاما من الحج وما احتفظ به لنفسه من المساعدات البريطانية أثناء الثورة العربية.

    وهكذا أبحر الحسين بن علي إلى العقبة يرافقه البريطانيون الذين رافقوه فيما بعد إلى المنفى في قبرص. واتخذ وداعه لتاريخ جزيرة العرب شكل برقيتين قصيرتين أرسلهما في نفس اليوم من جزيرة مرجانية ما في البحر الأحمر. قال غاضبا في برقية إلى الوكالة البريطانية في جدة ((لقد جنحت باخرتكم)). وبعد مرور بضع ساعات جاء الخبر السار ((طفت باخرتنا مرة أخرى)).



    --------------------------------------------------------------------------------

    * أرسل إخوان نجد دعاة إلى بادية الشام في العشرينات ولعب هؤلاء دورا صغيرا في نشوء الإخوان المسلمين في سوريا. ولكن لم تكن للإخوان السعوديين أي صلات بحركة الإخوان المسلمين في مصر التي نشأت في الثلاثينات والتي لا تزال نشيطة، ويجب عدم الخلط بينهما. فحركة الإخوان المسلمين نشطة اليوم في بعض الجامعات السعودية ولكن صلاتها هي بالحركة المصرية وليس بالإخوان التي يمكن أحياناً مشاهدة بعض اتباعها الهرمين في الرياض والمستوطنات الصحراوية.

    * الجد الأكبر لغازي القصيبي، الشاعر ووزير الكهرباء والصناعة السعودي السابق.

    * نُحي طلال، حفيد الشريف حسين، عن عرش الأردن عام 1952 لصالح ابنه، الملك حسين الحالي، بعد صعوبات نجمت عن طبيعته الفصامية التي لم يكن بالإمكان التنبؤ بها.

    * أسس محمد علي زينل رضا، ((ملك اللؤلؤ)) الذي كان يبيع اللؤلؤ لأشهر الصاغة في الغرب مثل كارتييه وهاري ونستون، أول مدرسة في جدة عام 1901 متحديا العثمانيين، الذين كانوا يكرهون أن يعلم رعاياهم أنفسهم بأنفسهم. ونذر معظم ثروته لهذه المدارس التي كانت مجانية والتي تخرج منها العديد من وزراء ومسؤولي المملكة في العصر الحديث كما كانت المدارس الوحيدة حتى الأربعينات التي توفر التعليم الثانوي في الجزيرة.
    [align=center][/align]

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    الجزء الرابع

    البترول



    27ـ رجل وحصان

    جمع السيد تشارلز ر. كرين ملايينه من انتاج لوازم الحمامات والتجهيزات الصحية المبتكرة. إن شركة ((كرين باثروم إكويبمنت كومباني أف شيكاغو)) ـ المدموجة اليوم في شركة ((كرين كومباني أف نيويورك))، التي تملك 1.5 بليون دولار من الأصول ـ هي نصب تذكاري للدور الذي لعبته عائلته في تاريخ السمكرة في القرن العشرين. لكن تشارلز. كرين، الذي شغل منصب رئيس شركة العائلة في الفترة 1912 ـ 1914، لم يشعر بميل كبير نحو عالم السمكرة، وثبت أن مساهمته الأكثر أهمية كانت في تاريخ المملكة العربية السعودية ـ لأن تشارلز كرين كان العامل المساعد في اكتشاف بترول المملكة.

    أرسل السيد كرين إلى العالم العربي لأول مرة عام 1919 من قبل رئيس الولايات المتحدة ودرو ولْسون الذي كان يخشى أن يكون وعد بلفور والترتيبات البريطانية ـ الفرنسية الخاصة بتقسيم الشرق الأوسط بينهما قد تحايل على البند الثاني والعشرين لميثاق عصبة الأمم الذي يقضي بأن تكون إرادة الشعوب هي ((الاعتبار الرئيسي)) في أية ترتيبات جديدة يتم التوصل إليها. وعرض على الحلفاء إرسال لجنة تحقيق إلى الشرق الأوسط لدراسة هذه المشكلة، وربما لم يفاجأ كليا عندما رفضت بريطانيا وفرنسا التعاون معه حول هذا الموضوع. ومع ذلك ذهب المفوضون الأمريكيون. فاختار الرئيس ولْسون لهذه المهمة الدكتور هنري تشرتشل كنج، وهو بروفسور في كلية أوبرلين، والسيد تشارلز ر. كرين، الذي كان من أكبر مؤيدي حملة انتخاب الرئيس ولسون والذي قرر أن يكرس ثروته وأوقات فراغه لتحسين ظروف إخوانه من البشر.

    قامت لجنة التحقيق كنج ـ كرين* بإجراء التحريات ووجدت نفسها غير قادرة على المصادقة على خطط بريطانيا وفرنسا بالنسبة للشرق الأوسط وخاصة ما يتعلق بفلسطين. لقد عهد إلى اللجنة الاطلاع على الوضع ومدى تمشيه مع مبدأ تقرير المصير. ((وإذا أريد لهذا المبدأ أن يسود))، قال تقريرها، أي ((أن تكون رغبات سكان فلسطين هي الحاسمة بالنسبة لمستقبل البلاد، يجب أن لا يغيب عن البال أن سكان فلسطين من غير اليهود ـ الذين يكونون تسعة أعشار المجموع ـ يعارضون بشدة البرنامج الصهيوني بكامله)).

    قام الدكتور كنج والسيد كرين باستطلاع آراء العرب على جميع المستويات و((لم يكن هناك شيء آخر يتفق عليه سكان فلسطين أكثر من اتفاقهم على هذه المسألة. إن تعريض شعب ميال إلى وجهة النظر هذه لهجرة يهودية غير محدودة ولضغوط مالية واجتماعية مستمرة كي يتنازل عن الأرض يعد انتهاكا فظا لحقوق (هذا) الشعب)). ألقيت توصيات لجنة كنج ـ كرين في دوامة مؤتمر فيرساي للسلام لتختفي بلا أثر. لكن تشارلز ر. كرين خرج من هذه التجربة بشيء إيجابي: حبه للعرب وإعجابه بهم، والرغبة في مساعدتهم إلى الارتقاء بأنفسهم. فساعد الإمام يحيى، حاكم اليمن، على إجراء مسح للآبار الارتوازية. وكان يأمل أن يقوم بمساهمة مماثلة للزراعة في أنحاء أخرى من جزيرة العرب. فزار الحجاز مرتين في العشرينات من أجل هذا الغرض ولكنه لم يتمكن من ترك أثر كبير بسبب انهيار السلطة الهاشمية وتولي ابن سعود السلطة، باستثناء ترك عيّنة في جدة من انتاج شركته: حمّام مصقول قرنفلي اللون له أربعة أرجل ومزوّد بأحدث التجهيزات المصنوعة من الكروم. ونظرا لعدم توفر أي نظام لتزويد الماء وتسهيلات التصريف، احتل الحمّام مكانة الشرف على سطح قصر الشريف حسين بن علي على شاطئ البحر الأحمر.

    لكن تشارلز ر.كرين كان رجلا مثابرا ـ وشجاعا. فحدث ذات يوم في عام 1928 أنه كان متجها في سيارة برفقة المبشر المسيحي الأمريكي هنري بلكرت بالقرب من الحدود الكويتية عندما اقترب من مجموعة من الإخوان. فأطلق هؤلاء النار على هذين الكافرين. فقتل هنري المسكين، أما كرين فقد تمكن من الفرار ـ لحسن حظ المملكة ـ وازداد عزما على مساعدة هؤلاء البسطاء، فشرع في زراعة النخيل في مزرعته في كاليفورنيا في محاولة لتحسين أصناف تموز جزيرة العرب وحقق بعض النجاح. وراح يبيع إنتاجه من التمور بفخر في سان فرانسسكو بسعر دولار للصندوق. ثم بدأ يربي الجمال والخيول لنفس الغرض. وكان حلوله في مجلس الشيخ فوزان السابك في القاهرة في نهاية عام 1930 في اقتفاء أثر الخيول العربية الأصيلة.

    كان الشيخ فوزان السابك ممثل الملك عبد العزيز في مصر. وكان، مثل آل القصيبي في البحرين وآل النفيسي في الكويت. واحداً من تجار الجزيرة الناجحين الذين أخذو على عاتقهم القيام بالمهام القنصلية السعودية ونالوا مكافأتهم في صورة فرص تجارية أتاحها لهم هذا المركز. وهكذا افترض الشيخ فوزان أن تشارلزر كرين جاء ليعرض عليه صفقة تجارية. إلا أن تشارلز كرين كان يبحث عن حصان. وكان قد سمع أن الشيخ فوزان يملك اسطبلاً للخيول العربية الأصيلة، وأراد أن يشتري حصاناً فحلاً لتشبيه أفراسه. وسأل الشيخ سابك بواسطة مترجمه الأميركي ((متى يمكننا أن نذهب إلى الإسطبل؟)). وتم الاتفاق على موعد. وعاد كرين إلى مجلس الشيخ فوزان في اليوم التالي. وفي هذه الأثناء قام الشيخ فوزان باجراء التحريات عن هذا الزائر الأمريكي غير العادي. وسئل الأمريكي ((أيا من الحُصُن أعجبتك؟)) وأشار كرين إلى اثنين.

    قال الشيخ فوزان في الحال: ((إنها لك)).

    قال الأمريكي مستفسراً: ((كم سعرهما؟))

    أجاب الشيخ فوزان: ((لا شيء، إنهما هدية. لقد سمعت أنك تحبنا ونحن من جانبنا نحبك)).

    وقف كرين واجماً إذ يبدو عليه أنه لم يعامل بمثل هذا الكرم الذي يشتهر به العرب. ووجد المصريون الحاضرون صعوبة في إقناعه بأن هذه هي الطريقة العربية في رد الجميل وأن رفض الهدية يعتبر إهانة. إلا أن هذا لم يثبط عزيمة كرين الذي قال ((إن بلدكم فقير. ولكن لا بد من وجود ثروات معدنية في باطنها وعلى الأقل الماء. أرجوكم أن تدعوني أقدم لكم خدمة مهندس ليقوم بعمليات مسح في الجزيرة العربية لاكتشاف ما فيها)).

    والآن كان دور الشيخ فوزان أن يقف واجماً لأن سياسة عبد العزيز كانت عدم السماح للمنقبين عن المعادن بدخول الجزيرة. إن المنظر الوحيد من الأراضي المقدسة الذي سمح للأجانب بمشاهدته كان من على أسوار جدة. كما أن الوقت لم يكن مناسبا لإرسال فرق المنقبين إلى الصحراء خاصة بعد تمرد الإخوان مباشرة، وكانت تجربة كرين نفسه على الحدود الكويتية قد بيّنت ما قد يحدث. ولكن السابك وعده بالإبراق إلى مكة المكرمة، ولدهشته جاءه الرد في الحال. فقد كان عبد العزيز قد سمع عن كرين وأعرب عن أمله في أن يصل كرين إلى جدة في الفترة ما بين شهر رمضان وذو الحجة. وهكذا بدأت العملية التي أدت في غضون بضع سنوات إلى تمتع المملكة بثمار ثروتها المعدنية المدهشة.

    * * *

    كان عبد العزيز بحاجة ماسة للثروات المعدنية ـ أو ثروات من أي نوع كان في بداية الثلاثينات. وقد توحي قصة ((الرجل والحصان)) بأن كرين جاء إلى جدة في شهر فبراير 1931 فقط نتيجة لكرم الشيخ فوزان العربي الحق. ولكن الحقيقة هي أن عبد العزيز كان بحاجة ملحة للمال لدرجة أنه كان سيجد شخصا مثل تشارلز كرين في أي مكان، ولو أن كرين لم يكن على قيد الحياة، لوجد شخصاً آخر لتوفير ما كان الأمريكي يعرضه. وكان سبب المشكلة هو الركود الذي أصاب الاقتصاد العالمي منذ عام 1929 وأدى إلى انخفاض كبير في عدد الحجاج. لقد اعتادت سلطات الحجاز ونجد في العشرينات اعتبار العدد 100.000 حاج بمثابة الحد السنوي الأدنى للحجاج إلا أن هذا العدد انخفض إلى 50.000 عام 1930 ثم إلى 40.000 عام 1931، وقد ظهر هذا الانخفاض في هبوط الطلب على صادرات نجد القليلة وخاصة التمور.

    كان الحج هو المهم. فقد قدرت بريطانيا دخل عبد العزيز أثناء الحرب العالمية الأولى في نجد بأقل من 3000 جنيه في الأسبوع بينما كانت الحجاز تصدر ما تزيد قيمته على مليون جنيه من الذهب سنويا ـ أرباح موسم الحج. إنه لا يمكن مقارنة هذه الأرقام على وجه الدقة إلا أنها تعطي فكرة عن الفرق في حجم اقتصاديات الحجاز ونجد والتحول الذي طرأ على موارد عبد العزيز المالية من جراء احتلال الحجاز. فقد أصبح عنده فجأة مال أكثر بكثير من السابق ـ ملايين بلا مبالغة. ولعب ثراؤه الجديد دورا كبيراً في هزيمته للإخوان. فقد قام عبد العزيز بكسب تأييد القبائل بعائدات الحج. وكانت هذه العائدات هي أحد الأسباب لذهابه إلى مكة المكرمة بعد انتصاره في معركة السبلة في مارس 1929. لقد أراد أن يضمن ان دخله السنوي يتم جمعه كما يجب، إذ أن الحج أصبح مصدر قوت الجزيرة بكاملها.

    لقد أدى انهيار عائدات الحج إلى انهيار موارد عبد العزيز المالية. فتهاوى دخله السنوي من ما يزيد على 5 ملايين جنيه استرليني إلى أقل من مليوني جنيه. ووجد نفسه فجأة مدينا بمبلغ 300.000 جنيه. وتحطمت عملته الجديدة ـ الريال ـ وبدأ تجار جدة يشترون الذهب ويصدرونه إلى بنوكهم في القاهرة لصيانته تماما كما فعلوا في أيام الشريف حسين العصيبة. وتعيّن على عبد العزيز أن يعلن تأجيل دفع ديونه المستحقة. وكان الوقع العام للأزمة المالية أنها جعلته يشعر بالكدر الشديد. وكان يشعر أنه دون مستواه أن يلجأ إلى التجارة مثل شيوخ عمان وقطر. غير أنه شعر في وجه هذه الأزمة أنه قادر على نسيان تحفظاته بخصوص منح امتيازات التنقيب عن المعادن في بلده. قال ذات يوم لفيلبي بسأم وهو يقود سيارته في طريقه إلى الطائف ((لو أن أحدا أعطاني مليون جنيه الآن فسيكون له كل الامتيازات التي يريدها في بلادي)).

    إن تشارلزر كرين لم يحضر إلى جدة ومعه مليون جنيه لكن عرضه بالقيام بمسح جيولوجي مجاني كان بمثابة خطوة في ذلك الاتجاه. وهكذا رحب به عبد العزيز بحرارة عندما وصل جدة بتاريخ 25 فبراير 1931.

    كان كرين أول أمريكي يجتمع به عبد العزيز. وأمر الملك بأداء رقصة العرضة على شرفة. واعتبر الحجازيون الحاضرون هذه الرقصة شيئاً مملا ولكن عبد العزيز وجدها ممتعة للغاية. وقام هو وأولاده أيضا بأداء العرضة. وقد خلّف هذا انطباعا عظيما على الأمريكي الذي أعجب أيضا بصوت بعض مجودي القرآن الكريم من العميان في بيت عائلة نصيف في قلب السوق حيث كان يقيم. ولكن سعادته الكبرى كانت في لقاء عبد العزيز نفسه وقد كتب في مفكرته يصفه بأنه ((رجل خجول)). وبينما كان كرين يحيّي الملك أمسك عبد العزيز بيد الزائر وهو يتمتم عبارات الترحيب وهو ينظر جانبا. وربما كانت الهدية التي أحضرها كرين هي سبب تمتمة عبد العزيز ونظره جانبا: كانت عبارة عن صندوق من التمر أحضره من مزرعته في كاليفورنيا قيمته دولار واحد. لقد عني التمر الشيء الكثير لكرين، ولكن إعطاء عينة من غذاء جزيرة العرب الأساسي، كما لاحظ دفيد هوارث، كان بمثابة إهداء ملكة إنجلترا كيسا فيه سمكة وبعض البطاطا. ومع هذا يمكن للأمور إلا أن تتحسن من هذه البداية، وقد تأثر كرين كثيرا بالملك عبد العزيز. فكتب في مفكرته ((عندما يكون وجهه مرتاحا يبدو ساكنا ويبدو عادة كأنه مغطى بمسحة دائمة من الحزن. ولكن إذا حرّكه الموضوع فجأة، أو دخل سكرتير وهمس شيئا ما في أذنه، فتشرق ملامحه من الانفعال أو من حب الاستطلاع)).

    حمل كرين عدة أفكار حول الرقي بمملكة عبد العزيز. واقترح مثلا أن يأخذ معه أحد أبناء الملك لتعليمه في الولايات المتحدة. واعتبر عبد العزيز هذه الفكرة سيئة وقال ((إن ما تتطلبه جزيرة العرب، وأبناء العائلة المالكة على الأخص هو تعليم يؤهلهم لكي يصبحوا قادة رجال… ولكي يصبح الرجل قائدا يجب أن يتلقى تعليمه في بلده وبين شعبه وأن يترعرع في محيط مشبع بالتقاليد وبنفسية أبناء بلده. إن التعليم الغربي لا يوفر هذا الشرط ثم إنه يجعل الشاب يتخلى عن عادات وتقاليده بلده…)). لم يثبط رفض عبد العزيز لهذه الفكرة من عزيمة السيد كرين الذي رد قائلا إن أفكار الملك تطابق أفكار صديقيه هنري فورد [مؤسس شركة فورد للسيارات] وتوماس إديسون [مخترع الكهرباء]، وأضاف إن الملك قد يكون أيضا مهتما بقصة صديقه وستنجهاوس [مؤسس شركة وستنجهاوس] الذي كان قد ترك المدرسة فعلا بناء على نصيحة معلمه والذي حقق فيما بعد النجاح في حياته نتيجة لذلك.

    لقد عكر مغص في المعدة صفو الأيام الأخيرة من زيارة كرين التي دامت أسبوعاً، تسبب في اعتقاده من أكل بندورة محشية أثناء مأدبة أقامتها على شرفه بلدية جدة. إلا أن هذا لم يفسد الحرارة التي انتهت بها الزيارة ولا الإنجاز الأساسي للزيارة. وبعد مرور بضعة أسابيع تسلم الشيخ فوزان السابك في القاهرة قائمة بأسماء حوالي عشرين مهندسا ومؤهلاتهم يقترحهم كرين للقيام بمسح الثروات المعدنية في بلاد العرب.

    وسأل الشيخ فوزان وهو يمسك القائمة بالمقلوب إذ أنه لم يكن يجيد اللغة الإنجليزية ((أي واحد أختار؟)). وبعد أن حدّق في القائمة بضع دقائق أشار إلى اسم في منتصف القائمة. ثم سأل ((من يكون هذا؟)). واتضح بعد قلب القائمة أن الشيخ فوزان قد اختار السيد كارل س. تويتشل، المهندس الأمريكي الذي قام بعمليات المسح لحساب كرين في اليمن والحبشة والذي كان كرين قد اقترحه للتفتيش عن المياه الارتوازية حول جدة.

    وهكذا وصل كارل تويتشل، المتحمس والنشيط، إلى الحجاز في شهر أبريل 1931. وقام أولا بالبحث عن الماء في وادي فاطمة على طريق مكة المكرمة. ثم قام برحلة أبعد إلى الشمال للبحث عن مناجم ذهب مهجورة يقال إنها مناجم الملك سليمان الأسطورية. وفي شتاء 32 ـ 1933 اتجه شرقا نحو الاحساء. وشاهد أعضاء المفوضية البريطانية وهو يغادر جدة. وكتب أحدهم في تقريره ((إنه يبدو من الواضح للغاية أنه لن ينتج عن تحريات السيد تويتشل أي شيء ذو شأن. إنه يبدو إلى حد ما رجلا متطفلاً)).

    * * *

    بدت النتائج الأولية لرحلة كارل تويتشل عبر شرق الجزيرة في شتاء عام 1931 وكأنها تبرر تشاؤم وزارة الخارجية البريطانية المرجو. إذ أن تويتشل لم يشاهد تسربات البترول الأسود في القطيف التي جاء الرائد فرانك هولمز ليبحث عنها قبل ثماني سنوات، حاملا شبكة صيد الفراش، ولم يشعر تويتشل بناء على أبحاثه وحدها أنه قادر على كتابة تقرير مشجع عن احتمال وجود البترول. إلا أنه اكتشف، بينما كان على ساحل الخليج، أن بحثاً عن البترول كان يجري عبر الماء وعلى بعد بضعة أميال فقط، في البحرين، وعرف كجيولوجي مغزى ذلك.

    قال توتشيل لعبد العزيز عندما عاد إلى الرياض ((إن هناك فارقا بسيطا بين جيولوجية البحرين وجيولوجية البر. ولذا فإن تم العثور على البترول في البحرين فمن الأرجح أن بلدكم أيضا يحتوي على البترول)). وقد توصل الجيولوجيون في البحرين إلى نفس النتيجة. لقد كانوا ينقبون عن البترول لحساب شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا [سوكال]، وبدأوا يحدقون بكثير من الاهتمام عبر مياه الخليج الخضراء الضحلة منذ عام 1930. فكانت الشمس عندما تغرب كل يوم ترسم صورة ظليلة لمجموعة من التلال على البر تبشر بالخير. إلا أن الجهود التي قامت بها سوكال من أجل السماح لها بمسح قبة الدمام لم تؤدِ إلى شيء ـ ذلك لأن الشركة قامت بمساعيها عبر الوكالة التي حصلت على امتياز البترول السعودي الأخير: الرائد فرانك هولمز.

    لقد كان الرائد هولمز حقا واحدا من تلك النفوس المنحوسة التي أيقظتها دقات ساعات التاريخ في الليل فقط لتغلط في عد دقاتها. فقد سمحت مجموعة المستثمرين التي كان يمثلها، استرن آند جنرال سنديكت، للامتياز الذي فازت به بعد مؤتمر العقير عام 1922 بأن يصبح لاغي المفعول ويعود ذلك، إلى حد كبير، لوقوعها في شراك تعقيدات بيع امتياز مماثل في البحرين. إن هذه التشنجات الأفعوانية ـ التي هي ميزة المعاملات البترولية والتي يجعلها تكاثر الكلمات المكونة من الحروف الأولى للكلمات أكثر إبهاما للغرباء ـ تركت هولمز، بعد سنوات من المفاوضات المضيئة، وفي حوزته صفقة بحرينية شملت سوكال، واستياء الملك عبد العزيز.

    لقد بذل عبد العزيز جهداً كبيرا بعد مؤتمر العقير في مقاومة ضغوط السيد بيرسي كوكس ومنح امتياز الاحساء لفرانك هولمز عام 1923، فقط ليحوّل الأخير اهتمامه نحو البحرين ويتخلى عن الصفقة. واعتبر عبد العزيز أن مجموعة هولمز مدينة له بأجر سنتين، أي 5000 جنيه، وكان هذا الدين هو سبب فشل مساعي سوكال في الوصول إلى عبد العزيز عن طريق الرائد فرانك هولمز. وبدأ الأمريكيون في صيف عام 1932 يبحثون عن طريق جديدة للتأثير في عبد العزيز عندما عثروا على كارل تويتشل الذي ما أن قام فعلا بعبور الخليج إلى البحرين، حتى رفضه منقبوا سوكال الذين شكوا في زيه العربي وكان رجال سوكال في الميدان مقتنعين بأن هذا الأمريكي الفضولي لا بد أن يكون جاسوساً. بيد أن المسؤولين في مقر سوكال أدركوا في الحال قيمة هذا الجيولوجي الأمريكي الذي تعامل مع ابن سعود شخصياً، ووجدت سوكال سبب أهمية تويتشل عبر هاري سانت جون فيلبي ـ الذي باستطاعته الآن أن يدخل أخيرا القصة التي كان يتلهف على الانضمام إليها منذ البداية.

    إن من يقرأ بياناته ـ وهناك عدد منها ـ يجد أن فيلبي كان هناك منذ البداية. إنه هو الذي بدأ قصة البترول السعودي في خريف عام 1930 عندما قال لعبد العزيز في سيارته في الطائف إنه كان ((مثل الرجل النائم فوق كنز مدفون)). وكان هو الذي تحدث لعبد العزيز عن تشارلزر كرين، وكان هو الذي أعد ترتيبات زيارة كرين إلى جدة ـ ثم قام في وقت لاحق بالإعراب عن استيائه بقوله: إن ((السيد كرين لم يرسل لي أبدا حتى بطاقة شكر على الدور الذي لعبته)). بيد أن تشارلزر كرين لم يكن على علم بالدور البالغ الأهمية الذي لعبه فيلبي في حياته. ولا توجد أمامنا سوى شهادة فيلبي نفسه على أنه هو الذي قام بلعب الدور الرئيسي في اكتشاف البترول السعودي، حتى شهر مايو 1932 عندما أثناء زيارة للندن رسالة من السيد ألبرت هالستيد القنصل الأمريكي العام في لندن. كتب هالستيد في رسالته ((إسمح لي أن أعرفك بالسيد فرانسيس ب. لوميس المحترم، نائب وزير الخارجية الأمريكي السابق، والرجل الشهم الذي عرفته وحاز على رضائي بالفعل منذ سنين عديدة. لقد أعجب السيد لوميس بعملك في الصحراء كثيرا ويرغب في مقابلتك)).

    لقد كان الدليل على مدى غرور فيلبي ـ وأيضا على أنه لم يكن مقتفياً أثر البترول مباشرة كما ادعى فيما بعد، افتراضه بأن فرانسيس لوميس، المدير التنفيذي الكبير في شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا [سوكال] كان حريصاً على التحدث إليه عن استكشاف الصحراء وكان فيلبي قد اجتاز صحراء الربع الخالي لتوه وعاد إلى لندن للتشدق أمام الجمعيات العلمية المختلفة. وافترض أن الأمريكي لم يكن يرغب في شيء سوى الاستماع إلى حكاياته. ولكن منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها فيلبي السبب الحقيقي لفضول الأمريكي، التقط الكرة وراح يعدو بها بسرعة، والحق يقال إنه منذ هذه اللحظة لعب فيلبي دورا أساسيا في منح امتياز بترول المملكة العظيم. وكان فيلبي قد اعتنق الإسلام قبل سنتين ورحب عبد العزيز بإسلامه ومنحه الاسم عبد الله. وقال تجار جدة إنه كان من الأحرى أن يسمى ((أبو القرش)) لاعتقادهم بأن دافعه الحقيقي كان الدفع بوكالاته التجارية المختلفة إلى الأمام، من سيارات فورد إلى أجهزة ماركوني اللاسلكية. ولم يكن هذا الاعتقاد منصفا.. إن أحدا لم يدّع أبداً، ولا حتى عبد الله فيلبي نفسه، أنه أعتنق الإسلام لأسباب روحية. لقد كان مفكراً حرا وملحداً، إلا انه بدأ يشعر بالإعجاب نحو الإسلام وأدرك أنه لن يصبح جزءا من بلاد العرب إلا إذا تبنى شعائرها الدينية وإيقاعاتها. لقد كان عبد الله فيلبي متعطشاً إلى نمط حياة وليس لديانة. لقد أراد أن يصلي مع رفاقه وأن يتنقل بحرية خارج أسوار جدة وربما الأهم من هذا كله أنه أراد أن يتقرب من صديقه وبطله عبد العزيز.

    أصبح عبد الله فيلبي منذ لحظة اعتناقه للإسلام قادرا على المشاركة في حياة البلاط الملكي بالكامل وأن يقيم مع الملك في قصره في مكة المكرمة المطل على الحرم المكي الشريف وأن يشارك في صوم شهر رمضان ولياليه. وبدأ يحضر بانتظام مجلس الملك العام والخاص. ومنحه الملك جارية اسمها مريم، عام 1931.

    وكان اتصال فرانسيس لوميس به في صيف عام 1932 في لندن بصفته، أي عبد الله فيلبي، صديقا ومستشارا لعبد العزيز، وقال له بهذه الصفة أثناء تناولهما لطعام الغذاء في مطعم سيمبْسونز في شارع ستراند بتاريخ 11 يوليو [تموز] 1932 إن ما يريده عبد العزيز لقاء منح امتياز للتنقيب عن البترول هو دفع مبلغ من المال فوراً: إن الملك سيكون مهتما أكثر بحجم المبلغ الذي سيدفع مقدماً، من المفضل بالجنيهات الذهبية، من تفاصيل الاتفاقية الدقيقة. وبعد أن أكد على هذه النقطة لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا قام فورا بإبلاغ زملائه البريطانيين العاملين في ميدان البترول أن الأمريكيين يسعون وراء الحصول على امتياز بترول مملكة عبد العزيز. وهكذا وجد ممثلو سوكال أنفسهم في جدة بعد مضي ستة شهور في منافسة مع ممثلي شركة آي. بي. سي. البريطانية [شركة البترول العراقية ـ شركة البترول الأنجلو فارسية سابقاً التي حاولت إبقاء الرائد هولمز خارج مملكة عبد العزيز عام 1922]. وهكذا كان المسرح جاهزاً لبيع الامتياز بالمزاد العلني، ويبدو أن عبد الله فيلبي قد أعد مشاهد المسرحية بنفسه. وكان الخصمان هما ممثل سوكال المحامي لويد إن. هاملتون، خبير استئجار الأراضي في الشركة، يرافقه كارل تويتشل الذي وظفته الشركة مؤقتا بصفته الجيولوجي الذي قام فعلاً بمسح المنطقة، وستيفان هيمْسلي لو نجرج ممثل شركة آي بي سي، وهو خبير في اللغة العربية وآدابها وأصبح فيما بعد مؤرخا للمشاريع البترولية في الشرق الأوسط.

    لقد أحضر الأمريكيون زوجاتهم معهم وأقاموا في الطابق الأعلى من الفندق المصري الذي افتتح حديثاً، بينما أقام لو نجرج في المفوضية البريطانية التي أصبح فيها أول وزير مفوض معتمد في بلاد العرب بعد عقود من القناصل هو السير أندرو ريان، الذي كان دبلوماسياً مستقيما ومتعجرفا بعض الشيء، والذي سخر منه فيلبي منذ البداية عندما جدّف في قارب وهو سكران إلى السفينة كليميتس ليرحب بالدبلوماسي الجديد بقصيدة انتهى كل سطر من سطورها بالقافية ((ريان)). وانطلق فيلبي بين الممثلين في هذه المسرحية وهو يشعر بالغرور. واعترف فيما بعد أن لويد هاملتون عرض عليه مبلغ 1000 دولار في الشهر لتأييد مساعي سوكال وأنه قبل هذا العرض. بيد أن هذا لم يمنعه من قبول دفعات سرية من البريطانيين ولا من تحديد السعر بـ 100.000 جنيه ذهبي مع عبد العزيز وعبد الله سليمان الذي عمل جاهداً على إقناع الأمريكيين على دفعه، فكان فيلبي يذهب إلى مكة المكرمة للاجتماع بعبد العزيز وعبد الله سليمان ثم يعود إلى الأجانب في جدة للقيام بالتلميحات الهادفة إلى دفع السعر إلى أعلى. وغالباً ما كان يحيط المفاوضات بجوٍ من التوتر لم يكن له مبرر إذ أن المساعي البريطانية لم تكن في الصميم جادة لاعتقادهم بعدم وجود أي بترول في المنطقة الشرقية من السعودية. ولم يكن السعر الذي كانوا على استعداد لدفعه لقاء الامتياز قريبا بأي حال من الأحوال من سعر سوكال.

    لقد مُنح البريطانيون فرصة ثانية لضمان سيطرتهم على حقوق البترول السعودي ولكنهم اتبعوا نفس التكتيك الذي لجأوا إليه قبل عشر سنوات في العقير ضد الرائد هولمز: أي عرقلة الأمور دون أي محاولة جادة للتعهد بشيء. فقد قال لهم مساحوهم إنه لا وجود للبترول في بلاد العرب [سبق أن قالوا نفس الشيء بالنسبة للبحرين وهكذا سمحت لسوكال أن تستقر هناك]، وحتى لو كان هناك بترول في باطن قبة الدمام فقد كانت الشركة تملك بترولا في العراق أكثر من احتياجاتها لأن السوق العالمية اتسمت حينئذ بفرط الانتاج وتدهور الأسعار ـ لم يكن للبترول نفس الجاذبية التي اكتسبها في السبعينات وكان السبب الرئيسي لإرسال ستيفن لونجرج لجدة في ربيع عام 1933، كما اعترف بذلك لونجرج نفسه فيما بعد، هو محاولة إبقاء الأمريكيين خارج المنطقة. وسرعان ما أصبح هذا جليا إذ أن لو نجرج كان يتحدث بتذمر عن 200 جنيه في الشهر بينما كان الأمريكيون على استعداد لدفع نصف المبلغ الذي كان السعوديون يطالبون به: 50.000 جنيه على الأقل في الشهر.

    ويتذكر محمد المانع ((أن الجميع شعروا بالسعادة في الديوان)) عندما اتضح بأن الشروط المعروضة ترجح كفة الأمريكيين ((. . .لأننا شعرنا جميعا بأن البريطانيين ما زالوا موصومين بالاستعمار. وإن هم جاءوا من أجل بترولنا فلا يمكننا أبدا أن نتأكد من مدى التأثير الذي سيكون لهم على حكومتنا. أما الأمريكيون، من الناحية الأخرى، فسيأتون بكل بساطة من أجل المال وهذا دافع يستطيع العرب الذين هم تجار بالفطرة أن يفهموه بسهولة)). إن المانع حريص على أن لا يشمل عبد العزيز في هذا التقييم السياسي لمزايا التعامل مع الولايات المتحدة بالمقارنة مع بريطانيا ـ وهو على حق. ففي عام 1933 أصبح عبد العزيز يعرف عن الولايات المتحدة أكثر بكثير من ذلك الوقت الذي سال فيه فيلبي إذا كان جميع سكانها من الهنود الحمر. وكان يقدر عاليا حكمة البدو في تفضيل الحليف البعيد على القريب على أساس أن احتمال تدخل الحليف البعيد في شؤونهم المحلية هو دائما أقل من الحليف القريب. بيد أنه لا يمكن تفسير تفضيل عبد العزيز لستاندارد أويل أوف كاليفورنيا على أنه محاولة بعيدة النظر للخروج من فلك البريطانيين الاستعماريين الذين أصبحوا يحاصرونه منذ عام 1902. لقد كان يشك، مثل البريطانيين، في وجود البترول. ولم يعتقد أن هذا الامتياز سيأتي بأي شيء.

    إن أحدا لم يدرك أثناء تلك المساومات حول قيمة الثروة المعدنية المفترض أنها ستؤدي إلى ربط السعودية ربطا وثيقا بالدولة التي لم يكن لها عام 1933 حتى ممثل دبلوماسي في جدة. لقد حاول عبد العزيز حتى آخر لحظة أن يرجح كفة البريطانيين ولم يتخلَ عن هذا الاّ عندما قال له الدبلوماسي البريطاني أندرو ريان بهدوء أن يقبل العرض الأمريكي ـ مال مقابل لا شيء ـ وكانت الأرقام صريحة: أحسن عرض من شركة بترول العراق 10.000 جنيه مقابل ما يزيد على 50.000 جنيه ذهبي من سوكال. وهكذا جمع عبد العزيز مستشاريه يومي الثامن والتاسع من مايو [آيار] 1933 في مكة المكرمة لسماع الاتفاقية النهائية التي توصل إليها عبد الله سليمان مع سوكال: 35.000 جنيه مقدماً، 20.000 جنيه بعد 18 شهراً، ايجاز سنوي مقداره 5000 جنيه، 50.000 جنيه إذا تم كتشاف البترول و50.000 جنيه إضافي بعد سنة من ذلك ـ كل هذه على شكل قروض تسدد من العائدات بمعدل أربعة شلنات ذهبية للطن الواحد.

    لقد كان الجو حارا وراح عبد الله سليمان يقرأ بنود العقد بنبرة رتيبة: حقوق تفضيلية في المناطق المحايدة، يبدأ العمل خلال أربعة شهور، إقامة مصفاة محلية، أعفاءات ضريبية وجمركية ـ وكان عبد العزيز قد غفا في هذه الأثناء ليصحو فقط عندما انتهى عبد الله من القراءة. وهكذا انتهى فصل الحوادث السعيدة الذي بدأ بثري أمريكي ـ يبحث عن حصان. وربما قام بعض المشاركين في تلك الأحداث فيما بعد، بعد أن عرفوا النتيجة المدهشة للقصة، بجعل الأحداث تبدو أسعد وأكثر عرضية مما يبرره واقع ذلك الحين. بيد أنه من المؤكد أن عبد العزيز نفسه اعتبر المسألة بكاملها حظا سعيدا لأنه وجد صعوبة في تصديق احتمال وجود أي بترول في باطن مملكته. وكان يميل إلى الموافقة مع الدبلوماسي البريطاني على أنه سيحصل على 50.000 جنيه ذهبي مقابل لا شيء.

    28ـ البئر رقم 7

    يقال إنه عندما تسلم وزير مالية عبد العزيز أول دفعة من ثمن امتياز البترول ـ 35.000 جنيه ذهبي ـ قام بوضعها فورا تحت سريره. ولكن أبناء عبد الله السليمان ينكرون ذلك اليوم. إنهم يتذكرون وصول الصناديق الثقيلة إلى بيتهم في جدة في صيف عام 1933، إلا أن ثقلها حال دون حملها إلى الطابق الأعلى حيث كانت العائلة تنام. إن ظهور 35.000 جنيه ذهبي في السعودية عام 1933 كان حدثا كبيرا؛ وكانت المملكة تفتقر إلى بنية إدارية: فكان التجار في الخارج يصدرون التأشيرات وكان وزير المالية يحتفظ بالخزينة في بيته. ولم يكن هناك تمييز بين ما هو عام وما هو خاص. لقد اعتبر عبد العزيز المال الذي دفعته ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا بمثابة ملكه الخاص وليس ملكا للدولة التي كانت مفهوما لا يعني الكثير بالنسبة إليه. أما اليوم فهناك فصل بين ما هو خاص وبين ما هو عام ـ من حيث المظهر. فيتم تقسيم الدخل الوطني بدقة بحيث تدفع رواتب الأسرة المالكة على حدة من ميزانية الدولة. لكن معظم الميزانية يُصرف على مشاريع تنمية تقوم بها شركات يملك الأمراء حصصا فيها. إن الراتب الذي يتقاضاه الأمير ما هو إلا بداية ثروته.

    إن المواطنين السعوديين العاديين يعملون بأسلوب مشابه. فعندما كان المؤلف مقيما في السعودية عام 1978 ذهب إلى بنك لفتح حساب. قال له مدير البنك (1) إنه كان على وشك السفر في إجازة على حساب زبون حصل منهُ على قرض كبير و(2) إنه لن يداوم في البنك كثيرا بعد انتهاء إجازته وذلك لرعاية مصالحه الخاصة. إن وجود موظفي دولة يعملون كسائقي تاكسي وجنود يربون قطعان الأغنام، والعمولات التي أصبحت جزءا من الأعمال لدرجة أن القانون يحدد نسبتها كلها أمثلة تدل على أن القواعد الأخلاقية للأعمال في بلاد العرب ليست هي القواعد المعمول بها في الغرب. كانت آثار الركود الاقتصادي العالمي لا تزال شديدة. فقد استمر عدد الحجاج في الهبوط وتعاظمت ديون عبد العزيز لدرجة أنه اضطر إلى إبلاغ شيوخ القبائل بأنه سيستقبلهم في مناسبات معينة في المستقبل وأن لا يقوموا بزيارته في أي وقت آخر ـ وكان ذلك انحرافا محزنا وخطيرا عن سياسته القائمة على الحكم عن طريق الهبات. واكتشف فيلبي، الذي عهد إليه التحقيق في سبب نفاذ الوقود من السيارات الملكية، أن السواقين كانوا يسرقون كميات صغيرة من البنزين من أجل البقاء على قيد الحياة: فقد كانت رواتبهم: شأنها شأن رواتب جميع موظفي الدولة، مستحقة منذ خمسة أو ستة أشهر.

    بذل عبد الله سليمان كل ما في وسعه لتوفير المال. وكان همه بصفته وزيرا للمالية أن يحصّل الضرائب بسرعة وينفقها ببطء ـ وهذه قاعدة ليست سيئة على الإطلاق. فأرسل محمد الطويل، محصل الجمارك الحجازية القديم، إلى المنطقة الشرقية لتطبيق أساليب التحصيل الشريفية، ثم أنشأ نقطة جمارك صغيرة في قرية الجبيل وأمر أن تمر عبرها كل تجارة نجد من الآن فصاعدا بعد أن كانت هذه تمر عبر الكويت في السابق. وفرضت الضرائب على القبائل. وراح عبد الله سليمان يطرق أبواب تجار نجد والحجاز بلا حياء سعيا وراء ((قروض)) لسيده كان المعنيون يدركون أنها لن تسدد أبداً. بيد أن الحاجة كانت إلى مال من الخارج وإذا لم يجلبه الحجاج وتعذر كسبه من التجارة العالمية بسبب الركود الاقتصادي العالمي فيجب السعي وراء الحصول على قرض. وهكذا اتجه عبد العزيز إلى الاتحاد السوفيتي عام 1932 طلبا للمساعدة.
    [align=center][/align]

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    لقد كان الروس أول من اعترف بعبد العزيز ملكا على الحجاز عام 1926. كما كانوا هم أول من اعتمدوا دبلوماسيا بدرجة وزير مفوض في جدة. هو كريم حكيموف، الذي كان عامل مناجم سابق، والذي باشر واجباته بهمة ونشاط، مرتدياً الزي العربي في جميع الأوقات. لقد فشلت أول محاولة لإنشاء علاقات تجارية سعودية ـ سوفياتية عندما تم تفريغ شحنة من البضائع الروسية في جدة عام 1927 بأسعار رخيصة أغضبت التجار المحليين. وحاول السوفيات مرة ثانية عام 1932 عندما كان الأمير فيصل بن عبد العزيز، الذي أصبح وزيراً للخارجية ونائب الملك في الحجاز [حيث كان يقيم ليتيسّر له التعامل مع الدبلوماسيين الأجانب] يستعد للقيام بجولة في أوروبا في ذلك الصيف سعيا إلى الحصول على المال إذ قاموا بدعوته لزيارة موسكو.

    كان فيصل يتعلم الأساليب الدبلوماسية. فعندما سئل في لندن عن الزكام الذي كان يعاني منه أجاب بأنه بكل تأكيد زكام فرنسي أصابه قبل وصوله… وكان حديثه ساحرا أينما حط. إلا أنه لم يحصل على الكثير من المال. وتمكن في وارسو من طلب عدد من البنادق البولندية التي وصلت فعلا إلى جدة ـ ولكن ـ بقدر ما هو معلوم ـ لم يسدد ثمنها أبداً. ثم ركب الأمير القطار من وارسو إلى موسكو حيث منح الاستقبال الذي يمنح عادة إلى ((ضيوف الدولة من الدرجة الثانية من حيث الأهمية)). فعزفت فرق الموسيقى نشيد الإنترناسيونال ولحناً عربياً. وزينت محطة موسكو بالرايات. واجتمع الأمير فيصل أثناء الزيارة بالرفاق كلينين ومولوتوف، ثم زار ليننغراد وبلاد القوقاس ليعبر عن صداقة حماة الديار المقدسة للسكان المسلمين. قال في برقيته وهو يغادر باكو على متن الباخرة برافدا متجهاً نحو الساحل الفارسي لبحر قزوين ((لقد فتنّا بجمال جمهوريات ما وراء القوقاس ولقد أُعجبنا خصوصاً بحفارات البترول وطريقة استخراجه)).

    قرر الدبلوماسيون البريطانيون، الذين كانوا يتابعون سير الزيارة بقلق، أن البلاشفة كانوا يسعون بكل وضوح لشراء مركز لهم في العالم الإسلامي. فتم توريد بترول روسي بقيمة 30.000 جنيه إلى جدة، وبدأ الحديث في الدوائر الدبلوماسية عن قرض سوفيتي بمقدار مليون جنيه. لكن السعر الذي طلبه الروس ثمناً لقرضهم كان عقد إتفاقية تجارة وصداقة طويلة الأجل، بينما لم يكن عبد العزيز مستعداً لربط نفسه لمدة تزيد على ثلاث سنوات. وهكذا تلاشت المغازلة السعودية ـ السوفيتية. وفي عام 1938 صدرت الأوامر للسفير السوفيتي بإغلاق سفارته والعودة إلى بلاده حيث اختفى في حملات التطهير التي قام بها ستالين، كما حدث لجميع موظفي السفارة باستثناء الطبيب الذي إنسلّ لحسن إدراكه من كوة الباخرة الروسية قبل مغادرتها جدة. هذا ولم تستأنف العلاقات السعودية ـ السوفيتية منذ ذلك الحين. ويعتبر الاتحاد السوفيتي اليوم أحد الشياطين التي تحب بيانات السياسة الخارجية السعودية ان ترجمه: إن السوفيت ملحدون، إنهم يتهجمون على الاقتصاد الحر. وبلور الأمير فيصل، عندما أصبح ملكا، اعتقادا راسخا بأن الشيوعية عملت في الخفاء في تحالف مع الصهيونية وإسرائيل على تحطيم التضامن العربي والإسلامي. وهكذا لا توجد سفارة سوفيتية في السعودية اليوم ولا يوجد أي اتصال رسمي بين البلدين. ولكن باستطاعة السوفيت المطالبة برد جميل فريد من نوعه لأن البترول الذي تم توريده إلى جدة في مطلع الثلاثينات لم يسدد ثمنه أبداً. وباستطاعة الاتحاد السوفيتي أن يتباهى بكونه البلد الأجنبي الوحيد الذي أعطى البترول إلى السعودية.

    * * *

    لقد كان مردود جولة الأمير فيصل في الدول الشيوعية قليلاً. ولكنه عاد ومعه زوجة جديدة: عفت الثنيان، المرأة الذكية والقديرة التي كان لها أثر كبير في تقدم المرأة السعودية. وكان الأمير فيصل قد تعرف عليها في اسطنبول في صيف عام 1932. وبما أن فيصل تعرف عليها في اسطنبول فغالبا ما كان يشار إليها على أنها ((الزوجة التركية)) ولكنها كانت في الواقع سعودية. إن آل ثنيان، مثل آل جلوي، هم فرع من آل سعود قام العثمانيون بنقلهم إلى تركيا. لقد كانت قريبة أحمد الثنيان الذي رافق فيصل في رحلته إلى لندن عام 1919. لكن والدها توفي قبل وصول فيصل إلى إسطنبول مخلفا نزاعا حول بعض الأراضي التي كان قد طالب بها في الطائف. وهكذا جاءت عفت ووالدتها لطلب مساعدة الأمير فيصل في هذا النزاع… وأدى هذا اللقاء إلى زواج فيصل من عفت.

    لقد لعبت عفت في وقت لاحق دورا هاما في تطوير تعليم البنات في المملكة. إلا أن هذا كان أمرا لا يعقل في الثلاثينات. فقد عارض العلماء في ذلك الحين إجراء أي تغيير في البرامج الدراسية: فعارضوا إدخال مواضيع الرسم واللغات الأجنبية الجغرافيا. وحاول حافظ وهبه أن يقنع علماء الدين بفوائد الرسم في إعداد الخرائط واللغات الأجنبية والجغرافية. وتوصل عبد العزيز إلى حل وسط: السماح بتدريس القليل من اللغة الإنجليزية وجغرافية العالم الإسلامي ومنع تدريس الرسم. وعندما شكا العلماء من الاحتفالات السنوية في ذكرى ضم الحجاز أصدر أمرا بمنعها. ولكن عندما أراد عبد العزيز فعلا أن يفوز في نقاش كان يفوز به.

    قصة عبد العزيز واللاسلكي

    وجد الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، من سلالة المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أصبح فيما بعد كبير قضاة الحجاز، صعوبة في قبول محطات الراديو التي كان عبد العزيز يبنيها في أنحاء مملكته. لقد كان مقتنعا بأنها من فعل الشيطان وكان يشكو منها دائما إلى عبد العزيز فسأله الملك ذات يوم ((كيف تتصور أن الشيطان يجعل هذه الآلات تعمل؟)) فأجاب الشيخ ((إني والله لا أعلم ولكن الشيطان بالتأكيد يزور محطاتك في أوقات معينة كل يوم لكي يقوم الرجال بتقديم الأضاحي له)). فقام عبد العزيز من مجلسه فورا ـ وكان في مكة المكرمة في ذلك الحين ـ وقاد الشيخ من يده إلى محطة اللاسلكي بجانب قصره. وقال الملك: ((أنظر، لا يوجد أي أثر للأضاحي!)) وفعلا لم يكن هناك أي أثر لدم أو صوف. إلا أن الشيخ عبد الله أعتقد بأن الملك قد خدعه. فأخذ يزور المحطة بدون سابق إنذار وهو يأمل بأن يفاجئ العاملين وهم يقدمون الأضاحي. وأخيرا حاول إغراء أحدهم بالمال طالبا منه أن يخبره بمواعيد زيارة الشيطان. لقد كان مقتنعا بأن الشيطان ينقل الرسائل عبر الهواء بنفسه. وتضايق العاملون في المحطة من زيارات الشيخ واستجوابه لهم لدرجة أنهم اشتكوا منه للملك. فدعاه الملك وسأله: ((لأي بعد تتصور أن الشيطان سيكون مستعدا لنقل كلمة الله؟)). فنظر الشيخ إليه بارتباك. وسأله الملك: ((هل سيكون الشيطان مستعدا لنقل كلمة الله من هنا إلى الرياض أو من الرياض إلى هنا؟)).

    ورد الشيخ غاضباً: ((أنت حقا تمزح معي يا عبد العزيز لأنك تعرف وأنا أعرف أن الشيطان لن يقوم أبدا بنقل كلمة الله ولو لشبر واحد، ناهيك عن نقلها من مكة المكرمة إلى الرياض أو من الرياض إلى مكة المكرمة!)). فرد عليه الملك برزانة ((أنا لا أمزح يا طويل العمر)) ثم قاد الشيخ مرة ثانية إلى محطة الراديو وقال شارحا ((لقد طلبت من إمام الجامع الكبير في الرياض أن يذهب إلى محطة الراديو في قصري في الرياض، وأريدك أن تصغي)). وهكذا أصغى الشيخ وفي غضون دقائق معدودة سمع الفاتحة تأتي من جهاز الاستقبال. فقال الشيخ بدهشة لصديقه في الرياض ((أهذا أنت؟)). فأجابه الإمام بالإيجاب. ثم قام الشيخ عبد الله بترتيل بعض الآيات القرآنية، وقال له الإمام الذي كان على بعد 800 ميل في قلب نجد أنه سمع كلام الله يأتي مباشرة من مكة المكرمة. وهكذا اقتنع الشيخ عبد الله أخيرا. ومنذ ذلك اليوم اعتبر الراديو المبارك من معجزات الله ـ وهكذا اعتبره جميع العلماء.

    إن هذه الحكاية متعددة الغايات، إذ أنها تستخدم، مع بضع التغيير، لشرح كيف تمكن عبد العزيز من إقناع العلماء بقبول التلفون والبث الإذاعي أيضا. إن عبد العزيز بتنازله عن الاشياء الصغيرة حصل على الأشياء الكبيرة التي مكنته من إعطاء مملكته المتباينة شيئا من التماسك الحقيقي: فقد مكنته شبكة اللاسلكي عام 1932 من إخماد تمرد ابن رفادة بسرعة في شمال الحجاز الذي حرض عليه عبد الله بن الحسين، أمير شرق الأردن، وإخماد ثورة مماثلة في عسير. ومع تنازل العلماء عن الأشياء ذات الشأن تسللت بعض الأمور التافهة. فذكر الكولونيل ديكسون في عام 1935 أنه كان بالإمكان مشاهدة خدم الملك يدخنون جهرا في فناءات القصر الملكي في الرياض. وسمح باستيراد الدخان في الحجاز بعد أن حُرّم في البداية وحرص عبد الله السليمان على فرض ضريبة عليه، وسمح حتى للمشروبات الروحية بدخول جدة لفائدة الجالية الأجنبية. لقد أصبحت الحياة بالنسبة لعشرات الأجانب في السعودية تطاق بالفعل مع تقدم الثلاثينات. فسمح لهم باستعمال الجرامافونات بشرط أن لا يكون الصوت عالياً. وأصبح بإمكانهم قيادة سياراتهم خارج أسوار جدة لمسافات قريبة. وسمح حتى للنساء الأجنبيات بقيادة السيارات بأنفسهن وهو أمر تتمتع به خليفاتهن اليوم. فعندما زارت دايان، إبنه فيلبي، والدها في الثلاثينات أخذت بعض نساء آل سعود في سيارة قادتها بنفسها للتنزه في الصحراء.

    * * *

    في هذه الأثناء شرع جيولوجيو ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا في العمل في الطرف الآخر من الجزيرة. وقامت سوكال بإنشاء شركة جديدة لاستغلال امتيازها أطلق عليها اسم ((كاليفورنيا أريبيان ستاندارد أويل كومباني)) أو كاسوك باختصار. وفي شتاء عام 1932 جعل منقبو سوكال/ كاسوك الجبيل مقرا لهم.

    وركز هؤلاء إهتمامهم في البداية على فحص قبة الدمام، وفي غضون 18 شهرا قاموا بنصب أول جهاز للحفر. وانتج البئر رقم 1 مائة برميل في اليوم ـ قد يكون هذا معدلا جيدا لبئر في بنسلفينيا ولكن ليس في منطقة نائية مثل الجزيرة العربية. وهكذا استمر الحفر. وانتج البئر الثاني 3840 برميل من البترول ثم بدأ ينتج الماء فقط. أمار الآبار رقم 3 و4 و5 و6 فأنتجت كميات أقل وكان اثنان منها جافين تماماً.

    وما أن بدأ حفر البئر رقم 7 حتى كان عام 1936 يوشك على الانتهاء، وكانت المعنويات تضعف. إن اكتشاف النفط في البحرين ونتائج البئرين 1 و2 الطائشة أشارت إلى وجود النفط ولكن أين؟ بدأ الأمريكيون ينتشرون في الصحراء حول الدمام، وسُمح لهم باستخدام طائرة صغيرة. فكان المسّاحون يرشدون الطيار بحفر أسهم كبيرة في الأرض ويرشونها بالكاز ثم يشعلون النار بها، تاركين علامات سوداء في الرمال. وكانوا يسافرون في شاحنات مزودة بعجلات خاصة، وأينما ذهبوا كان يرافقهم، بناءً على تعليمات عبد العزيز، حرّاس ومرشدون سعوديون.

    كان محمد بن خرسان أحد هؤلاء المرشدين. فقد طلب منه أمير الجبيل العناية بكبير جيولوجيي كاسوك، توم برجر، وتعطي رواية محمد لرحلة استكشافية باتجاه الرياض فكرة عن الارتباك الودي الذي شعر به السعوديون ـ وملكهم ـ عندما احتكوا صدفة بالتكنولوجيا التي غيّرت فيما بعد مجرى حياتهم. ((دعاني الأمير وقال: ((هؤلاء الرجال يريدون القيام بأعمال التنقيب في المملكة، إنهم يعزون علينا. . . نريدك أن تخدمهم جيدا وأن تقول لهم الحقيقة)). فقلت أبشر الساعة المباركة. مالك إلا الذي يرضيك…)) قمنا باستكشاف المغاير في كل مكان. وكانت هناك مغارة بغيضة طويلة وعميقة للغاية لدرجة أننا لم نستطع العثور على نهاية لها. نزلنا حتى القاع، توم برجر وأنا، ومعنا مصباح ضغط. ثم زحفنا وحبوْنا لمدة أربع ساعات دون أن نصل نهايتها البعيدة. وكان يلتقط الصخور والصدف، أصداف بحرية تشبه أصداف المحار. وقمنا بنفس الشيء في العديد من المغاير…))

    لقد كان الجيولوجيون يبحثون عن الأحافير [بقايا حيوانات ونباتات متحجرة] التي ستمكنهم من تحديد عمر تشكيلات الصخور التي كانوا يقومون بدراستها. ويتذكر توم برجر، الذي عمل في حقول البترول السعودية أكثر من ثلاثين سنة، تلك الأيام التي قضاها مع محمد بن خرسان في استكشاف المغاير إلا أنه يعتقد بأن ذاكرة مرشده قد دمجت عددا من الأحداث اللاحقة لتعطي وصفا لما حدث بعد ذلك. ((ثم جاء الملك، جلالة الملك عبد العزيز، جاء من الرياض وأقام مخيمه إلى الغرب منا. وذهبنا لزيارته، فوجدناه جالسا هناك… أحضرت القهوة وأمر الملك بتقديمها… وعندما انتهينا قال توم برجر: نريد أن نعمل لك قهوة ـ مستعملاً الكلمة الإنجليزية للقهوة. فأجابه الملك: وش تقول؟ فقلت: نعم يا جلالة الملك، طوّل الله عمرك. رئيسي هذا، توم برجر، يريد أن يدعوك لشرب القهوة في الوقت الذي يناسبك، أي ساعة تناسبك. قال الملك لي، الساعة المباركة. بس ترى عشاكم الليلة عندي، أنتم وكل ربعكم. وعُقبه يوم الإثنين الصبح نكون عندكم، إن شاء الله. وقال لي الملك: إن رفيقك هذا لن يبقى هنا أكثر من سنتين قبل أن يصبح الرئيس الحقيقي، لأنه رجل من الطراز الأول. إنه لمن الواضح أنه واحد من أولئك الرجال الذين يتعهدون بتنفيذ الأشياء كما يجب…))

    إن وجود هذه الفقرة في الرواية قد يكون له صلة بواقع أن توم برجر كان قد أصبح رئيسا للشركة المحلية في الوقت الذي قام فيه محمد بن خرسان بكتابة مذكراته. وعندما حل المساء قدمت لنا صينيتان كبيرتان وعلى كل منها أربعة خراف. وقال الملك لتوم برجر: ((نريدك أن تحفر هنا بئر ماء عذب إذا استطعت العثور عليه.)) فأجابه توم برجر: إنها لساعة مباركة، سأقوم بترتيب كل ما تشاء.))

    عدنا بعد العشاء إلى رفاقنا ومعسكرنا. ثم ذهبت وتوم برجر لصيد الحباري والقطا. ثم رجعنا بها وجهزنا فطورا للملك. وجاء الملك كما وعد… وتحدث توم برجر بواسطة مترجم عن أشياء كثيرة لا أتذكرها. ثم سألني الملك: ((وش يدوَّرون في ذا؟ ووش المحلات اللي يهتمون فيها أكثر من غيرها؟ قلت: ((والله يا طويل العمر الشيء الذي يأخذونه غالباً، والشيء الذي كثيرا ما يبحثون عنه هو أي شيء يحمل علامة البحر… أنا والله لا أعرف على الإطلاق هذا ما ينشدونه ولا يوجد عندي علم ببعض ما يقومون به.)) ولم يكن الأمريكيون قد أخبروا عبد العزيز عن كمية البترول الصئيلة التي عثروا عليها في قبة الدمام. لذا لم تكن مفاجأة للملك أن بحثهم عن أصداف البحر في مغاير الصحراء لم يأت بشيء. إن ما كان يعنيه، كما دلت محادثته مع توم برجر، هو إمكانية وجود الماء العذب تحت الرمال، وجعل مهندسو كاسوك يحفرون له عدة آبار للماء. لقد وجد عبد العزيز صعوبة في تصديق وجود البترول، وبدأ أن الأمريكيين كانوا عاجزين عن إثبات أن الملك كان مخطئا.

    * * *

    كانت آخر حروب عبد العزيز الخارجية هجومه على اليمن في ربيع عام 1934، عندما توجه جيشان سعوديان كبيران مكونان من قدماء الإخوان ومن الحضر بقيادة الأميران سعود وفيصل بن عبد العزيز جنوبا في حركة كماشة للاستيلاء على هذه المملكة المعزولة وقليلة السكان الممتدة من عسير حتى حدود محمية عدن البريطانية. لقد قُدمت مبررات مختلفة للغزو السعودي لليمن في ذلك الحين ـ خلافات حول المدن الحدودية؛ المتاعب التي كان اليمنيون يسببونها في عسير؛ عداوة شخصية متأصلة بين قادة البلدين ـ لكن خلاصتها كانت جغرافية المسألة. فقد بقيت اليمن ذلك الجزء الوحيد من بلاد العرب الذي كان باستطاعة آل سعود أن يتوسعوا فيه دون إثارة نزاع مع بريطانيا: فلم يكن لحاكم اليمن، الإمام يحيى، أي حلفاء محليين أو أجانب أقوياء، ولكانت الإمبراطورية السعودية ستصبح متناسقة أكثر لو أنها شملت الجزء الجنوبي ـ الغربي من الجزيرة.

    بيد أن جنود الإمام يحيى لقنوا آل سعود درسا في الجغرافيا. لقد تقدم جيش الأمير فيصل بلا صعوبة عبر سهل تهامة على ساحل البحر الأحمر. أما الهجوم السعودي الرئيسي بقيادة شقيق فيصل الأكبر، سعود، فقد عجز عن التقدم في الجبال بصورة يائسة، بعيدا عن صنعاء: إن حملة البنادق اليمنيين قادرون على جعل سفوح جبالهم وممراتهم حصينة بحيث يتعذر على الغزاة اجتيازها، وخاصة القوات السعودية التي اعتادت على القتال في سهول الصحراء. وبما أن كبرياء أكبر أبنائه باتت في كفة الميزان ولأن ابنه الثالث، محمد، لم يكن دبلوماسيا أرسل عبد العزيز إبنه الرابع خالد للتفاوض على شروط السلام مع ممثلي الإمام يحيى في الطائف في شهر مايو [آيار] 1934. وليس لأول ولا لآخر مرة في الشرق الأوسط، سوى البلدان خلافهما وتعهدا بالالتزام بسلام دائم وأخوة عربية إسلامية أبدية. إن البلدان الغربية تنهي حروبها بهدنات باردة وحاقدة، لكن العرب، مثل الزوجين اللذين يتخاصمان دائماً، فيسوون خلافاتهم بنوبات من العاطفة تهدف إلى محو ذكرى خلافهم.

    يقول البند 17 من المعاهدة السعودية ـ اليمنية لعام 1934 ((ن الطرفين، اللذين تربطهما أواصر الأخوة الإسلامية والأصل العربي، يعلنان أن أمتيهما هما أمة واحدة، وأنهما لا يريدان الأذى لأحد وأنهما سيسعيان للرقي بمصالح الأمة بهدوء)) ـ الأمر الذي لا يعني ما يبدو أنه يعنيه لأول وهلة. إن اليمن والسعودية لم تعلنا بهذا قيام وحدة بينهما في عام 1934 ـ إن العربي قادر على كره أخيه العربي وفي الوقت نفسه الشعور بأنه جزء منه، ويجعله شعوره بالندم يلجأ إلى لغة المبالغة عندما يدرك أن غضبه قد تغلب على حبه.

    كان عبد العزيز يطوف بالكعبة صباح يوم 15 مايو آيار 1935، مصحوبا بابنه سعود وحوله آلاف الحجاج، عندما داهمه ثلاثة رجال بخناجرهم وكادوا يقتلونه لولا أن سعود جعل نفسه أمام أبيه ليحميه من الطعنات. وجُرح سعود في كتفه، أما عبد العزيز نفسه فقد جرح في ساقه من قطعة رخام طيرها رصاص حراسه الذين قتلوا المهاجمين. وبيّن التحقيق أن الثلاثة كانوا جنودا في الجيش اليمني الذي حارب السعوديين في السنة السابقة.

    لقد كان سعود بطل الساعة وشاعت قصة شجاعته في جميع أنحاء الجزيرة مع بعض المبالغة. وما أن وصلت القصة صفحات جريدة ((ديلي تلغراف)) اللندنية في شهر يونيو (حزيران) حتى تحولت وثبته التلقائية لحماية والده إلى معركة خاضها وحده ضد القتلة الثلاثة. إلا أن سعود، الكبير والليّن والكريم، لم يكن أبداً في صباه ذلك المحارب الذي تحدث عنه المنافقون. لقد كان طويلا مثل والده ولكنه كان أقصر منه، وكان أخّاذاً ولكنه ليس بنفس درجة والده، وكان مهيبا إلا أنه لم يحظَ أبدا بنفس الولاء الذي كان يتمتع به والده ـ ومع مرور السنين بدأ عبد العزيز يدرك ذلك وقام بتعديل خطط وراثته. فتقرر في منتصف الثلاثينات أن لا يحكم سعود لوحده بل بمشاركة شقيقه فيصل بصفة ولي للعهد. وكان فيصل قد أثبت كفاءَته في منصب نائب الملك في الحجاز. أما سعود الذي شغل نفس المنصب في نجد فقد أثبت أنه أقل ديناميكية من فيصل. كما تقرر أيضا أن تنتقل الوراثة بعد سعود من أخ إلى أخيه بدلا من أب لابنه لتفادي أي نزاع عائلي محتمل. لقد أصبحت المنافسة بين الأخوة مشكلة مع تقدمهم في السن. وكان محمد الإبن الثالث لعبد العزيز، أكثر هم إثارة للمتاعب. وقد اشتهر وقتذاك باسم ((أبو شرين)). وكان صعب المزاج وحاد اللسان. ومع أن القبائل كانت تحبه وتخشاه فقد كان ذلك بسبب تحديه الذي لا يعرف الرحمة لأعدائه: إن حَصده للإخوان المتمردين عام 1929 كان بلا رحمة.

    كان محمد يتشاجر مع إخوانه ولا سيما سعود. وهكذا قرر عبد العزيز، عندما دعي عام 1936 لحضور حفل تتويج الملك جورج السادس الذي تقررت إقامته في لندن في صيف عام 1937، أن يرسل محمدا وسعودا معا لتمثيله في هذا الحفل كي يتعلما التفاهم ولتوسيع مداركهما. لقد حققت هذه الرحلة إلى لندن عام 1937 الهدف الثاني بكل تأكيد ولكن ليس على النحو الذي توقعه والدهما. فبينما أنجز الأميران مهمتهما الرسمية بكل وقار، إلا أنهما قاما سرا بمعاينة مباهج الحياة الليلية في لندن.
    [align=center][/align]

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    سافر القليل من الأجانب إلى قلب جزيرة العرب في الثلاثينات الأخيرة. ورسم هؤلاء صورة لعالم كان لا يزال محنطا ضد القرن العشرين بعقيدة دينية وتحفظ اجتماعي كمنت قوته في عزلة الرياض المادية المحضة. لقد كانت هناك بعض اللمسات العصرية، مثل الشاحنة التي كانت تنقل البريد الأجنبي من الكويت كل ثلاثة أو أربعة أسابيع وتفرغه في كومة بجانب الجامع المركزي، حيث كان الأهالي ينقضون عليها بحثا عن رسائل موجهة إليهم. وإذا عثر أحدهم على رسالة أو طرد موجّه إلى صديق أو جار كان يتأبطه ويسلمه بنفسه وهو في طريقه إلى بيته. ويتذكر الدكتور رشاد فرعون، الذي جاء إلى الرياض من سوريا عام 1936 ((أن كل شيء كان يوزع خلال نصف ساعة)). وكان الدكتور رشاد يملك الثلاجة الوحيدة في المدينة وكزميل لطبيب الملك الخاص، الدكتور مدحت شيخ الأرض، كان مسؤولا عن تشغيل جهاز الأشعة السينية في القصر وكان بحاجة إلى الثلاجة لخزن المواد الكيماوية اللازمة لتحميض ألواح الأشعة السينية. وعندما كان البدو يأتون لتهنئة الملك بالعيد واستلام إعاناتهم، كانت مراجعة الأطباء الملكيين هي أيضا جزءا من كرم الضيافة. فكان الدكتور رشاد يعمل جاهدا من صلاة الفجر ـ علما بأن أهالي الرياض، نحو 30.000 نسمة، كانوا إجمالا يتمتعون بصحة جيدة: فلم يكن للبعوض وجود في ذلك الحين، ولا لأي من الحشرات والأمراض المعدية التي أحضرتها الطائرات فيما بعد. فكان المرضى أما يلغون سفرهم إلى الرياض أو تتحسن صحتهم أو يموتون في الطريق. إن الرحلة بالسيارة من جدة إلى الرياض كانت تستغرق أسبوعا، وأقل من ذلك بقليل من ساحل الخليج ولم تكن هناك طرق أو إشارات أو فنادق على طول الطريق. فكان على المسافرين أن يجدوا طريقهم بأنفسهم عبر الصحراء وأن يحملوا الطعام والماء وأن يبيتوا في الصحراء كل ليلة.

    لقد قام السير أندرو ريان بهذه الرحلة الطويلة والشاقة في نهاية عام 1935، حاملا معه قبعة مزينة بالريش وعباءة مزركشة والشارات الأخرى التي يلبسها ويحملها من يحصل على وسام الشرف الإنجليزي المعروف باسم كيه. سي. بي. الذي قررت الحكومة البريطانية أن تمنحه لعبد العزيز. وقد خلّف عبد العزيز انطباعا حسنا على ريان ومرافقه، كابتن جيرالد دي غوري، المعتمد البريطاني الجديد في الكويت.

    لقد كان دي غوري، على نقيض ريان، خبيرا في اللغة العربية وكان روما نطيقيا. وألف كتابا مشهودا عن رحتله أسماه ((أريبيا فينكس))، وعلى غرار تشارلزر كرين في بيت عائلة نصيف، إفتُنن بصوت مقرئي القرآن الذين اعتادوا الجلوس في ممرات وشرفات قصر عبد العزيز في المساء. ((إنهم يجلسون في ظل المداخل المقنطرة، على مسافة قريبة من مكان جلوس الملك حتى تصله أصواتهم ناعمة كنغمات أرغن بعيد)). وبعد العشاء ((أخرج الملك من جيبه الداخلي زجاجة عطر صغيرة وأزاح سدادتها الزجاجية الطويلة ورش العطر على راحات أيدينا. ثم جاء محرقو البخور لبعث الدخان من المبخرات… وراحوا يسيرون إلى الأمام وإلى الوراء، عائدين إلى كل منا ثلاث مرات، ثم جاء أولاد ورشوا علينا ماء الورد من قارورات قضية طويلة)). لقد أفصح عبد العزيز عن هذا الاعتداد بالنفس ذاته للسير ريدر بولارد عندما زاره في الرياض في السنة التالية. ويبدو أن الملك لم يقدّر مدى مَيل الدبلوماسيين البريطانيين لنشر مذكراتهم. لقد خلف بولارد ريان في منصب الوزير المفوض وأتاح له هذا مشاهدة بلاد العرب لأول مرة منذ الفترة التي كان قد قضاها كنائب قنصل لدى حكومة الحجاز الهاشمية في مطلع العشرينات. وقد أدهشه أكثر ما أدهشه النظام الذي أصبح الآن يعم البلاد في حين أنه لم يكن من المأمون في عهد الشريف الابتعاد عن أسوار مدينة جدة. لقد أعجب بولارد بما فعله عبد العزيز من أجل بلاد العرب. وأعجب أيضا بنظام الكتبة والمترجمين الذين كانوا يدونون كل يوم نشرات أخبار محطات الإذاعة الأوروبية ويقرأونها على الملك بعد صلاة العشاء. وقال بولارد ((إن الملك كان مطلعا على الشؤون الدولية أكثر من العديد من الأوروبيين المثقفين)). إلا أن بولارد لم يعجب بقصر المربع الجديد الذي كان عبد العزيز يبنيه خارج أسوار المدينة، ملاحظاً أن الملك كان أنجح كرجل دولة منه كمهندس معماري.

    إنزعج بولارد من علامات الترف بين الأمراء الصغار ولكنه شعر بأن أحدا لا يستطيع أن يتهم عبد العزيز بالتبذير: ((كان أحد ملامح عشاء الملك كأسا بنفسجي اللون مطليا بالميناء، يحمله خادم مسلح جاهزاً ليشرب منه الملك حليب النوق)). تضمنت مهمة بولارد الإعداد لرحلة لم يسبق لها مثيل: رحلة استكشافية عبر الجزيرة اعتزمت الأميرة أليس، حفيدة الملكة فكتوريا وابنة عم الملك جورج السادس الذي كان قد توّج منذ عهد قريب، القيام بها في ربيع عام 1938. وستكون هذه أول مرة يزور فيها فرد من عائلة مالكة أوروبية بلاد العرب، والمرة الأولى التي يستقبل فيها عبد العزيز إمرأة جهاراً.

    لقد سُحرت الأميرة أليس، مثل جميع الزوار الأوروبيين، بقصر البادية للضيافة في وادي حنيفة خارج الرياض والمظلل بالنخيل. ((إنه حقا لرومانطيقي وفي غاية البساطة ومطلي باللون الأبيض)). بيد أنها لم تعجب بالأثاث المصري الصنع الذي كان عبد العزيز قد عاد به من رحلاته. وأنهت الأميرة رحلتها في شرقي الجزيرة على ساحل الخليج حيث كان فن عمارة جديد يتخذ شكلاً ـ الفيلات الصغيرة المضاءة بالكهرباء والطرق المعبدة والحدائق الجنينية التي كانت شركة البترول الأمريكية تقوم ببنائها في الظهران.

    كتبت الأميرة في رسالة إلى عائلتها ((لقد كنا نحن البريطانيون حقا أغبياء فقد عُرض علينا إمتياز حقل النفط هذا الغني بصورة استثنائية ورفضناه على أساس أن لا خير فيه. وجاء الأمريكيون واستعملوا نفس المثقاب وعثروا على البترول ـ ولا نستطيع حتى أن نحصل على حصة منه.))

    كانت الأميرة مشوشة في تفاصيلها، إلا أنها أدركت النقطة الرئيسية. كان ذلك يوم 20 مارس [آذار] 1938، وكان منقبوا كاسوك قد عثروا أخيرا قبل أيام فقط على النفط الذي أمضوا 5 سنوات تقريبا في البحث عنه. لقد حفروا 7 آبار في قبة الدمام دون العثور على شيء ذي شأن. إلا أنه تم اتخاذ قرار بتعميق البئر رقم 7. وفي النهاية وعلى عمق ميل تقريبا عن سطح الأرض عثروا على النفط الذي استمر في التدفق على النحو التالي: 16 مارس، 2130 برميلاً. 17 مارس، 2209 برميلاً. 18 مارس، 2128 برميلاً. 19 مارس، 2117 برميلا. 20 مارس، 2149 برميلاً. 21 مارس، 3372 برميلاً. لقد وصلت حفيدة الملكة فكتوريا إلى الظهران في نفس اللحظة التي كان العاملون يحتفلون فيها بالعثور على النفط، الذي بشر بتغيير كل شيء تقريبا كانت قد شاهدته وهي في طريقها عبر بلاد العرب.

    29ـ الحرب العالمية الثانية

    ذهب عبد العزيز في أول مايو [آيار] عام 1939 لمشاهدة آبار بتروله. فشاهد جلالته أول جهاز للحفر وأول خط للأنابيب وأول ناقلة للبترول ـ دي. جي. سكوفيلد وحمولتها 8000 طن، التي قامت بنقل البترول السعودي الخام من ميناء تحميل صغير أنشأته شركة البترول في رأس تنورة، ثم عام مبتهجاً إلى الرياض. لقد كان في موكب من السيارات، برفقة إخوانه وأولاده الكبار، وبينما كانت السيارات تشق طريقها في الصحراء التي اكسبتها أمطار الربيع مسحة من الخضرة، أخذ آل سعود يرددون أهازيج النصر التي اعتاد البدو أن يرددوها، وهم عائدون من غزوة ناجحة.

    لقد عاد عبد العزيز بالغنيمة التي ما بعدها غنيمة: فقد دفعت له كاسوك أكثر من 200.000 جنيه ذهبي بمناسبة اكتشافها للبترول. وفي الأشهر التي تلت البئر رقم 7، اكتشف منقبوها دلائل قوية على أن ما تم اكتشافه ما هو إلا بداية صغيرة. وبات واضحا أن المنطقة الشرقية تغطي واحدا من أكبر حقول البترول في الشرق الأوسط وأن العائدات التي يمكن لآل سعود أن يتوقعها في المستقبل ستكون هائلة. بيد أن هتلر قام بغزو بولندا في أول سبتمبر [أيلول] 1939، وأدى نشوب الحرب العالمية الثانية إلى توقف مفاجئ في إنتاج البترول في الجزيرة. لقد عطلت الحرب أسواق البترول العالمية، ولم يكن في الإمكان الاستغناء عن الناقلات لتقوم برحلة طويلة وحافلة بالأخطار إلى الخليج العربي. فتقلص إنتاج البئر رقم 7 والآبار الأخرى التي تم حفرها حتى بلغ بضعة آلاف من البراميل في اليوم، وعاد معظم رجال النفط إلى أوطانهم، وعاش عبد العزيز وجزيرته في السنوات الست التالية في طي النسيان.

    امتدح ونستون تشرتشل والحرب العالمية الثانية توشك على الانتهاء ولاء عبد العزيز الصادق والراسخ لبريطانيا وحلفائها إبان سنوات الحرب ضد هتلر ولكن يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني كان سخيا أكثر من اللازم في مديحه أو أن معلوماته لم تكن كاملة، لأن جلالته لم يتصرف في مطلع الحرب بولاء جلي للبريطانيين، أقدم أصدقائه من بين الأجانب. كانت السعودية قد أقامت في يناير [كانون ثاني] عام 1939 علاقات دبلوماسية مع ألمانيا النازية، وفي شهر فبراير [شباط] أرسل عبد العزيز مبعوثا إلى بلدة بير ختسجارتن يؤكد فيها لهتلر ((أن هدفنا الرئيسي هو أن نرى علاقات الصداقة الحميمة مع الإمبراطورية الألمانية تتطور إلى أبعد الحدود.))

    لقد كان من شأن الوثائق الألمانية التي تم الاستيلاء عليها في أعقاب هزيمة هتلر أن تكشف النقاب عن مغازلة عبد العزيز النشطة لألمانيا في الأشهر القليلة التي سبقت اندلاع الحرب. فقال جلالته للدكتور فريتس غروبا، رئيس العمليات الألمانية في الشرق الأوسط، أثناء مقابلات خاصة طويلة في يناير وفبراير إنه ((يكره الإنجليز)) من صميم قلبه. وأشار غروبا في تقاريره التي رفعها إلى برلين إلى الشعور المعادي لبريطانيا الذي كان سائدا في حاشية الملك: كان هناك بالطبع فيلبي الذي تنبأ بالانهيار وشيك الوقوع لوطنه، بينما كان يوسف ياسين، سكرتير جلالته الخاص. والدكتور مدحت شيخ الأرض، الطبيب الخاص، مؤيدين لألمانيا لدرجة أنه عندما نشبت الحرب كان الحماس والفرحة يغمرانهما عندما يسمعان أنباء الانتصارات الألمانية وهي تنبعث من المذياع في مجلس الملك. وكان العاهل السعودي قد عقد صفقة سلاح مع موسليني وفي شهر يوليو تموز عام 1939 عقد صفقة مع هتلر لشراء 4000 بندقية ألمانية مع الذخيرة وبناء مصنع للسلاح بالقرب من الرياض. كما صادق على معاهدة صداقة وتجارة مع اليابان، العضو الشرقي في المحور، التي أدركت أهمية اكتشاف كاسوك للبترول قبل أية دولة أجنبية أخرى وسعت للحصول على امتياز خاص بها للتنقيب عن البترول السعودي. إلا أن عبد العزيز كان حريصا طوال هذه المغازلات على الحفاظ على علاقات طيبة للغاية مع ممثلي بريطانيا في جدة، مؤكداً لهم ولاءه لبريطانيا. ولم يدرك البريطانيون مدى حرارة معاملات عبد العزيز مع الألمان. كما أن الدبلوماسيين الأمريكيين الذين بدأوا يزورون المملكة في سنوات الحرب لم يكونوا على علم بأي مشاعر قوية موالية للمحور. وكما قال في وقت لاحق مؤرخ قام بمقارنة الوثائق النازية بالوثائق البريطانية والأمريكية لنفس الفترة ((إنه لمن الواضح أن عبد العزيز بن سعود كان قادرا على أن يكون كل الأشياء لجميع الرجال.))

    ومع تقدم سير الحرب قام عبد العزيز ببعض اللفتات المتواضعة والحكيمة تجاه الجانب المنتصر، بني عليها تشرتشل مديحه المبالغ به عام 1945. فلم يستلم الأسلحة الألمانية لعدم توفر المال اللازم ورفض بلطف الاهتمام الياباني ببتروله بعد أن تمكن من الحصول على مال أكثر من كاسوك. وعندما سمع بأن فيلبي كان عازما على القيام بجولة انهزامية في أمريكا لإلقاء محاضرات مناوئة للحرب، نبّه البريطانيين إلى ذلك فاحتجزوه في بومبي في أغسطس [آب] عام 1940. كما رفض العاهل السعودي إبداء أي تأييد علني لثورة رشيد علي الكيلاني في العراق في أبريل نيسان عام 1941. بيد أن عبد العزيز سمح له فيما بعد باللجوء إلى الرياض، ورفض جميع محاولات البريطانيين لتسليمه لهم. لقد أبقى عبد العزيز بمهارة خياراته مفتوحة ما بين 1939 ـ 1945، تماما كما فعل في علاقاته مع الأتراك والبريطانيين في السنوات الأولى من القرن. وإنه ليس من الصعوبة بمكان مشاهدة هتلر نفسه، لو أنه كسب الحرب، يتحدث عن عبد العزيز بنفس عبارات الإطراء التي استعملها فيما بعد تشرتشل. وكان بإمكان الاتصالات الدبلوماسية السعودية ـ الألمانية لعام 1939 أن تصبح بسهولة قاعدة لصداقة متينة بين عبد العزيز والشعوب الألمانية، خاصة وأن إحدى غايات صفقة السلاح السعودية ـ الألمانية كانت زيادة تدفق السلاح الذي كان عبد العزيز يرسله سرا إلى المناضلين الفلسطينيين. وكان الفدائيون الفلسطينيون قد بدأوا منذ عام 1936 بمقاومة الاحتلال البريطاني لبلادهم وعندما طلبوا من عبد العزيز أن يساعدهم استجاب جلالته لطلبهم. واحتج جلالته على تقرير بيل الذي أوصى عام 1937 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود وقال لهارولد ديكسون: ((هل سيطيب لشعب اسكتلندا لو أن الإنجليز قاموا فجأة بمنح وطنهم لليهود؟… إننا عاجزون عن فهم رغبة حكومتكم، التي تمثل اليوم أكبر قوة مسيحية في العالم، في مساعدة ومكافأة هؤلاء اليهود أنفسهم الذين أساؤا معاملة نبيكم عيسى… إنهم جنس ملعون ومتكبر، قام منذ أن خلق العالم باضطهاد ونبذ أنبيائه وعض دائما يد كل من ساعده.))

    لقد أحزن تعاون بريطانيا مع الصهاينة العاهل السعودي جدا لاعتقاده بأنهم كانوا يسعون إلى إقامة دولة يسيطر عليها اليهود تمتد حتى المدينة المنورة والخليج العربي. ووجد ريدر بولارد. الذي كان قد دعي إلى مناسبة كان من المفروض أن تكون مناسبة سعيدة، ألا وهي الاستماع إلى أول بث باللغة العربية لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1938، إن الجو اكفهر فجأة عندما أذاع الراديو نبأ إعدام السلطات البريطانية لعربي في فلسطين كان قد ألقي القبض عليه وفي حوزته السلاح وانفض الحفل بهدوء. وفي اليوم التالي وبّخ عبد العزيز والدمع في عينيه الوزير البريطاني المفوض قائلاً ((لولا السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية لكان ذلك العربي حيا اليوم)).

    لقد كان ريدر بولارد وجورج رندل، رئيس الدائرة الشرقية في وزارة الخارجية البريطانية معظم الثلاثينات، دائما مقتنعين بأن المساعدة التي قدمتها بريطانيا للصهيونية منذ عام 1917 فصاعدا كانت سبب ابتعاد عبد العزيز التدريجي عن بريطانيا. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الصداقة الخاصة التي تربطه بلندن والتي كانت تعتبر حجر الزاوية لسياسته الخارجية لسنين طويلة قد انتهت فعلاً.

    * * *

    طلبت وزارة الخارجية الأمريكية في صيف عام 1941 من الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت أن يقدم مساعدة للسعودية في إطار نظام ((الإعارة والتأجير))، شعورا منها بأن مثل هذه المساعدة ستساعد على ضمان امتياز البترول السعودي لأمريكا حتى نهاية الحرب، إلا أنه كان هناك العديد من طلبات المساعدة أمام الرئيس روزفلت في تلك الأيام الداكنة لعام 1941. وبتاريخ 18 يوليو [تموز] خط الرئيس روزفلت الملاحظة التالية لمدير القروض الفدرالي جسي جونز:

    جيس ـ

    قل للبريطانيين إني آمل بأن يعتنوا بملك السعودية. إن هذا البلد بعيد عنا بعض الشيء! ف. د. ر.

    إن العلاقة الخاصة التي تربط السعودية بالولايات المتحدة والتي أصبحت في الثمانينات واحدة من أبرز حقائق العلاقات الدولية، ولو أنها اتسمت أحيانا بعدم الرضى للطرفين، تطورت على مدى سنين طويلة. إن الولايات المتحدة لم تعترف بالدولة السعودية إلا في شهر مايو أيار عام 1931 ـ أي بعد مضي 5 سنوات على اعتراف بريطانيا والاتحاد السوفيتي بها، وطوال الثلاثينات قاومت وزارة الخارجية الأمريكية الاقتراحات الداعية لإرسال أي ممثل دبلوماسي أمريكي إلى المملكة. إن اهتمام اليابان العابر بالبترول السعودي في شهر يونيو [حزيران] عام 1939 لفت أنظار واشنطن إلى التعهد المالي الأمريكي الكبير والمتمثل في امتياز كاسوك في الظهران. فصدرت التعليمات إلى الوزير الأمريكي المقيم في القاهرة بأن يشمل شبه جزيرة العرب في مجال اختصاصه. إلا أن عدم الاكتراث الذي أبداه الرئيس روزفلت في يوليو [تموز] عام 1940 بقي نموذجا لموقف أمريكا الرسمي من العالم العربي. وكان قسم شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية يتكوّن من مدير ونائب مدير وسبعة موظفين وأربعة من الكتبة ـ أي ما مجموعه 13 موظفاً، كان ثلاثة منهم يتكلمون اللغة العربية. وتعيّن على هذا القسم بموارده الضئيلة أن يغطي منطقة شاسعة تمتد من المحيط الأطلسي حتى الحدود الهندية. ويتذكرج. ريفز تشايلدز، الذي أصبح فيما بعد سفيرا للولايات المتحدة في جدة، أنه كان مسؤولا في وقت ما عن فلسطين وشرق الأردن ومصر والسعودية واليمن وأثيوبيا وليبيا وتونس في آن واحد دون أن يكون له مساعد أو حتى سكرتير.

    كانت أمريكا تعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ بريطانية، ولم تبدأ واشنطن التفكير بجدية في واقع أن شركة أمريكية باتت تسيطر على واحد من أكبر حقول البترول في العالم إلا بعد مضي 5 سنوات على اكتشاف كاسوك للبترول عام 1938.

    لقد كانت إحدى أزمات الطاقة التي يعاني منها العالم المتطور باستمرار هي الدافع الذي أدى إلى تحويل موقف عدم الاكتراث الأمريكي تجاه العرب إلى اهتمام بالغ في غضون أشهر قليلة. ولقد سُمي الذعر الذي اجتاح الولايات المتحدة في عام 1943 بـ ((النقص الاستراتيجي))، وكان سببه إدراك أمريكا، التي كانت بمثابة خزان البترول للمجهود الحربي لحلفائها أنها كانت تضخ 63% من الاستهلاك العالمي يوميا ـ ما يعادل 3.8 مليون برميل في اليوم. وبيّنت حسابات الخبراء أن الاحتياطي الوطني كان ينخفض بمعدل 3% في السنة.

    وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد تنبأت بتبصر عام 1941 بأن بحث أمريكا عن البترول سيجبرها على إتباع سياسة مغامرة أو حتى إمبريالية على غرار بريطانيا في فترة ما بعد الحرب. إلا أن السياسيين حالوا دون التخطيط السري من قبل الدبلوماسيين. فقال السناتور الجمهوري أوين برويستر ((إن أمريكا ستتوسل من أجل الحصول على البترول في المحافل الدولية قبل أن يأتي جيل آخر على الساحة)). وبمثل هذه اللغة أصبحت إمدادات أمريكا البترولية ((مسألة الساعة)).

    وجاء وزير الداخلية الأمريكي هارولد إيكس، الذي عيّن منسّقا لشؤون البترول في مجلس الدفاع في شهر مايو [آيار] عام 1941، بحل لهذه الأزمة تمثل في استهلاك البترول الأجنبي بدلا من الأمريكي. فقد كان لفنزويلا احتياطي كبير للبترول يمكن نقله بسهولة وكانت لشركات البترول الأمريكية امتيازات للتنقيب عن البترول في الشرق الأوسط، حيث كانت قبة الدمام تبشر بالخير. وهكذا قالت مذكرة أمريكية في شهر ديسمبر [كانون أول] عام 1942 ((إن إيماننا لعميق بأنه يجب النظر في [مسألة] تنمية الموارد البترولية السعودية في ضوء الصالح الوطني العام)).

    لقد كانت هذه كلمات تاريخية حقا. إن ضغوط الحرب والحاجة لإزالة الضغوط السياسية المتولدة عن الذعر الذي سببه ((النقص الاستراتيجي)) أدت إلى ربط انشغالات أمريكا الوطنية لأول مرة بسواحل الخليج العربي على بعد 10.000 ميل: ففي غضون 19 شهرا فقط تحولت السعودية من ((بلد بعيد)) إلى بلد ((حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة)) على حد تعبير الرئيس روزفلت، الذي قلب قراره السابق وأصدر أمرا بتاريخ 18 فبراير [شباط] عام 1942 أهّل السعودية للمعونة الأمريكية في إطار نظام ((الإعارة والتأجير)). وكان العاهل السعودي قد تسلم في السنوات الثلاث والنصف منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية من بريطانيا حوالي 3 ملايين جنيه سنويا على شكل بضائع وعملة فضية، علاوة على المبالغ التي دفعتها كاسوك عام 1941 (750.000 جنيه) وعام 1942 (750.000 جنيه) على حساب العائدات المتوقعة من مبيعات البترول في فترة ما بعد الحرب. ولكن في السنتين اللتين تلتا إصدار الرئيس روزفلت لقراره تدفق مبلغ 33 مليون دولار (حوالي 8 ملايين جنيه) من الولايات المتحدة إلى المملكة على شكل سلع ونقد وذهب، علاوة على العوائد النفطية. لقد كان الأمريكيون متلهفين للتعويض عما ضاع من الوقت! إن عبد العزيز لم يكن في يوم من الأيام كارها لاستلام المال. وقد كانت السنوات الأولى من الحرب صعبة بالنسبة إليه من عدة نواح، فقد انخفض عدد الحجاج دون مستوى الثلاثينات الأولى ووصل إلى 23.000 حاج فقط عام 1940. بينما زاد في الوقت ذاته المحل والمجاعة في نجد من عبء القبائل عليه. إلا أن مبلغ الثلاث أو الأربعة ملايين جنيه التي كانت بريطنيا وكاسوك تدفعانه في السنة في الاربعينات الأولى كان دخلا لا بأس به بالنسبة لبلد كان دخله في الأمس دون المليوني جنيه. لقد أبلت السعودية بلاءً حسنا من حيادها بالمقارنة مع البلدان التي شاركت في الحرب والتي كانت تعاني من نظام التقنين ومن النقص.

    ولا يمكن القول بأن آل سعود أنفسهم قد قاموا بشد أحزمتهم. فبالرغم من أن عبد العزيز كان يدعي الفقر، فقد شرع في بناء قصر كبير من الأسمنت سابق الإجهاد في حدائق الخرج بالقرب من الرياض. وكان سخياً جدا مع العدد المتزايد من أبنائه الذين بدأوا يبلغون سن الرشد. فقام بتزويج عدد منهم عام 1943 وزودهم بالمال لبناء صف من القصور على طريق الرياض ـ الدرعية. وكانت السيارات الفاخرة تشاهد وهي تدخل وتخرج من بوابات القصور. وعندما كان الأمير فيصل وأخوه خالد يقومان بزيارة للولايات المتحدة في خريف عام 1943 للاحتفال بالصداقة الجديدة بين السعودية والولايات المتحدة طلبا إرسال 14 سيارة أخرى إلى السعودية. وقد أصابتهما الدهشة عندما قيل لهما أن بوسعهما الحصول على سيارتين فقط نظرا للقيود التي كانت مفروضة بسبب الحرب فأبديا غضبا جلياً.

    بدأ المسؤولون البريطانيون في لندن يتذمرون من التبذير السعودي. فقيل إن السعوديين لا يحاولون أن يمدوا أرجلهم على قد أغطيتهم. وثمة مشكلة كانت النسبة العالية من المساعدات البريطانية التي كانت تذهب إلى جيوب الموظفين الفاسدين. وكان عبد العزيز يعترف بكآبة بهذه الحقيقة أحياناً.

    وعلى الرغم من ذلك كان مثل هذا الاعتراف بمثابة مقدمة لطلب المزيد من المساعدة. وكان أساس المشكلة هو أن نظام مسك الدفاتر البدائي الذي كان عبد الله السليمان يتبعه لم يكن مواتيا للتصرف الحسن بدخل بلغ عشرات الملايين من الدولارات. لقد كان القانون الأول بالنسبة لعبد الله السليمان هو أن يحصل الملك على كل ما يشاء. إن عبد العزيز لم يكن أبدا طماعاً. إلا أن أذواق عائلته المتزايدة كانت أقل تقيّداً. وكان عبد العزيز وقد أصبح الآن في الستينات من عمره يحب تدليل أولاده وأحفاده. ولم يكن كرمه الطبيعي قادرا على مقاومة شهوات آل سعود، الذين أصبح عددهم الآن يدنو من الألف. علاوة على ذلك، واصل الملك تقديم الإعانات للقبائل وتوفير الطعام للآلاف من المواطنين الذين كانوا يتوافدون على قصره في الرياض يومياً.
    [align=center][/align]

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    قال تقرير أمريكي كئيب النبرة عام 1944 إنه يمكن وصف الحسابات والمراقبة المالية السعودية على أنها ((مشوشة)) وأن النظام الضريبي ((غير صالح)) وأن مسك الدفاتر كان ((متخلفاً جدا وغير فعال))، وأن ذلك لا يبشر بالخير عندما سيبدأ البترول في در عائدات كبيرة حقا.

    وكان الوزير البريطاني المفوض في جدة، ستانلي جوردان، يعتقد بأنه يجب أن يصحح هذا الوضع قبل فوات الأوان. وكان ستانلي الأسترالي الأصل وصاحب الشخصية المرحة قد شغل منصب نائب القنصل البريطاني في جدة في الأيام الأخيرة للحكم الهاشمي في الحجاز. ثم عاد إلى جدة في أغسطس [آب] 1943. واعتقد أن خبرته في شؤون المنطقة تؤهله لأن يبدي رأيه بصراحة.

    قال جوردان إنه يجب أن يعفى عبد الله السليمان من منصبه لأن الوظيفة باتت أكبر منه. وأدلى جوردان بهذا الانتقاد أمام عبد العزيز وعرض عليه خدمات مستشار حكومي هندي سيكون قادرا، لكونه مسلما، على العمل في مكة المكرمة على إصلاح وزارة المالية من الداخل. وأظهر عبد العزيز اهتماما بالفكرة في مطلع عام 1944، وكخطوة أولى نحو الإصلاح أمر بفصل أحد أعوان عبد الله السليمان، المدعو نجيب سلحاً الذي بدأ يشتهر باستعداده لقول الرشوة.

    إنه لمن غير المحتمل أن يكون عبد العزيز قد أمر بفصل نجيب سلحا بناء على انتقاد ستانلي جوردان له فقط. لقد كان أعوان الملك يسبحون في دوامة من المكائد وربما استغل أحدهم انتقاد جوردان له لإبقاء رأس نجيب سلحا تحت سطح الماء لبرهة من الزمن.

    ولكن الشائعة كانت أن عمل الملك كان نزولا عند رغبة الدبلوماسي البريطاني. وعندما وصلت هذه الشائعة إلى القائم بالأعمال الأمريكي في جدة، جيمس موس، استشاط غضبا، ذلك أنها أكدت في نظره أسوأ الظنون التي كانت تساور واشنطن بالنسبة لحلفائها البريطانيين في الجزيرة: إن بريطانيا كانت تسرق السمعة الحسنة من وراء تقديم المساعدة للسعودية التي ما كانت ممكنة لولا المساعدات السخية التي كانت الولايات المتحدة تقدمها لبريطانيا، وأن البريطانيين يخططون لاستغلال النية الطيبة التي أوجدتها هذه المساعدة للمطالبة بحصة في الاحتياطي البترولي السعودي، على حد قول الرئيس روزفلت.

    كان جيمس موس دبلوماسيا من الدرجة الثانية، يتكلم قليلا من العربية. وكان قد قام بأفتتاح أول بعثة دبلوماسية في جدة في شهر مايو [آيار] عام 1942. وعندما قررت وزارة الخارجية الأمريكية أن ترفع من مستوى البعثة الدبلوماسية، تخطت موس لصالح مساعده، الكولونيل وليام إدي، الذي تم تعيينه في منصب وزير مفوض.

    ولكن موس كان مترجما مخلصا لسياسة وزارة الخارجية الأمريكية. وكانت واشنطن عاقدة العزم على أن لا تقوم بريطانيا باستغلال المساعدات الحربية الأمريكية لإعادة تأسيس إمبراطوريتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان الرئيس روزفلت يعتبر الاستعمار البريطاني على أنه شيء بال ومصدر لعدم الاستقرار على المدى البعيد. وشاركته دائرة شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية بحماس هذا الشعور إذ أنها بدأت تعتبر السعودية مجالا حيويا للمصالح الأمريكية. لذا أثارت حملة ستانلي جوردان من أجل الإصلاح المالي في السعودية أسوأ مخاوف واشنطن خاصة وأن جوردان كان ينتقد علنا مساعدة أمريكا السخية التي قال عنها إنها تفسد شهية عبد العزيز لموازنة الدفاتر.

    لقد أصبح جيمس موس ودائرة الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية على قناعة بأن ستانلي جوردان كان يعمل بهمة على إضعاف مكانة الولايات المتحدة في السعودية. وقامت وزارة الخارجية الأمريكية في صيف عام 1944 بالاحتجاج رسميا للحكومة البريطانية على تصرفات جوردان في جدة.

    غير أن وزارة الخارجية البريطانية لم تدع هذا الاحتجاج يزعجها. وقالت مذكرة لها في شهر أغسطس [آب] عام 1944 ((إن التهور الأمريكي وعدم الخبرة في التعامل مع العرب قد يجعلانهم يتصرفون بحماقة.. ولكن يجب أن نسعى لإقناعهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، وأن نتحلى بالصبر حيال أخطائهم)).

    إن البريطانيين على الأقل كانوا يدركون إمكانية أن تكون السعودية تغذي المنافسة بين جوردان وموس لكي تحصل على مساعدات أكبر [التي أكدتها فيها بعد الوثائق البريطانية والأمريكية لعام 1944]. وكان جوردان نفسه يحبذ أن لا تشارك بريطانيا في هذا المزاد. فكتب يقول في شهر سبتمبر [أيلول] عام 1944 ((إن الأمريكيين يرغبون في إغراق ملايين الدولارات في رمال السعودية ((لأنهم سيجنون البلايين من تلك الرمال نفسها في صورة بترول. ولكني لا أرى أي سبب لأن نجرّ إلى هذه الدوامة)).

    انزعج المسؤولون البريطانيون من ((جنون التبذير)) الأمريكي هذا والمهم مشاهدة الدولار يشتري النفوذ في منطقة اعتبرتها بريطانيا منطقة نفوذ لها منذ قرن من الزمن. ولكن الرئيس روزفلت بات يؤمن في نهاية عام 1944 بأن السعودية هي البلد المثالي لبلورة رؤيته لعالم ما بعد الحرب: وهو توفير الإعانات الأمريكية السخية للشعوب الفقيرة التي ستزيد من قوتها الشرائية لصالحها ـ ولصالح أمريكا أيضا التي ستقوم بتزويدها بما تحتاج من السلع. لقد كان روزفلت عاقدا العزم على أن لا يدع لندن تقف في وجهه. وهكذا أعد الأمريكيون برنامجا ضخما لمساعدة المملكة في فترة ما بعد الحرب قدرت تكاليفه بسبعة وخمسين مليون دولار، لم يكن باستطاعة بريطانيا أن تضاهيه. وأعد الرئيس روزفلت خطة سرية للاجتماع بعبد العزيز شخصيا بعد مؤتمر يالطا في شهر فبراير [شباط] عام 1945. وعهد روزفلت إلى الكولونيل وليام إدي، الوزير الأمريكي المفوض في جدة، إجراء الترتيبات السرية لهذا اللقاء مع عبد العزيز.

    صُعق رئيس الوزراء البريطاني عند سماعه الخبر وأمر في الحال دبلوماسييه بأن يرتبوا له لقاءً مع الملك عبد العزيز. إلا أنه تعيّن عليه قبول موعد بعد موعد لقاء الرئيس روزفلت لأن علاقة الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية كانت قد أصبحت علاقة خاصة بحلول شهر فبراير [شباط] عام 1945.

    * * *

    ولعل الوزير المفوض الهولندي في جدة، دان فان ديرميولن. كان أول شخص أجنبي يكتشف ترتيبات عبد العزيز السرية للقاء الرئيس روزفلت. وكان فان ديرميولن قد دعي للقاء الملك في الرياض وغادر جدة في وقت مبكر من شهر ديسمبر [كانون أول] عام 1944. لقد كان الجو ماطرا وقد غرزت سيارة الهولندي في الوحل. وبعد انقضاء 9 أيام على رحلته كان لا يزال على بعد 80 ميلا عن الرياض. فالتجأ إلى إنقاض حصن في واحة مارات. وبينما كان يعاني من البرد والوحدة ويشعر بالحزن، شاهد لدهشته قافلة طويلة من الشاحنات المثقلة بالأحمال آتية من اتجاه الرياض تتكون من 200 شاحنة أو أكثر وبالأحرى جميع الشاحنات في المملكة تقريباً. إن هذا يمكن أن يعني شيئا واحدا فقط: أن الملك قد شد الرحال. وبالفعل ظهرت في المساء شاحنات الحرس الملكي الحمراء المزودة بالرشاشات. ونُصبت الخيام وظهرت هوائيات وحدتي اللاسلكي. وأُشعلت النيران وتعالت أصوات الخراف والماعز. وأخيراً وصلت مجموعة من السيارات ذات زجاج أسود وستائر سوداء كانت تقل زوجات وأبناء بنات الملك وبعض الخدم، تم إيوائهن في مخيم معزول عن مخيم الرجال خلف تل.

    وفي صباح اليوم التالي حضر فان ديرميولن مجلس الملك حيث دعاه الملك إلى الجلوس بجانبه، الأمر الذي أثار استياء الشيوخ والبدو المحليين الذين جاءوا للسلام على جلالته. وقد شعر الدبلوماسي الهولندي بالحرج عندما سمع الملك يتهجم على اليهود. فمن المعروف أن هولندا هي أكثر الدول عطفا على اليهود. ومما زاد في إحراجه أن جلالته سأله عن رأيه في هذا الشعب الملعون. فتمتم بعض الكلمات ثم خرج من المجلس وأخذ يسير في اتجاه تل قريب في محاولة لجمع أفكاره. وإذا به يسمع صرخات غاضبة ـ لأنه كان يوشك الإطلال على مخيم الحريم!

    وسرعان ما دهشت جدة عندما وصلها الموكب الملكي، ولم يربط أحد هذا الوصول بظهور المملكة الأمريكية ميرفي بعد وقت قصير. وكانت هذه أول زيارة تقوم بها سفينة حربية أمريكية لجدة.

    كان من المقرر أن يغادر الملك جدة بتاريخ 12 فبراير شباط عام 1945. وكان المكان الذي حُدد للقاء الملك بالرئيس الأمريكي ـ البحيرة المرة في قناة السويس ـ لا يزال في مدى قاذفات القنابل الألمانية. وبناء على طلب الأمريكيين أحاط عبد العزيز مغادرته بسرية تامة. فأمر حاشيته بالاستعداد للسفر إلى مكة المكرمة في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم 12 فبراير [شباط] وعندما أصبح الجميع في سياراتهم أمر السواقين بالتوجه إلى الميناء بدلا من مكة المكرمة. واستقل هناك قوارب كانت في انتظاره إلى المدمرة ميرفي التي غادرت جدة في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر، مخلفاً وراءه إشاعات مسعورة مفادها أن الملك قد تنازل عن العرش وأنه قد اختطف! وكانت نساء آل سعود آخر من يعلمن بالحقيقة عندما ذهبن باكيات إلى الأمير فيصل، الذي كان والده قد عهد إليه ولشقيقه سعود في نجد برعاية شؤون البلاد في غيابه عنها.

    ولم تكن الرحلة بلا مشاكل، فقد أحضر عبد الله سليمان معه 100 خروف إلى المدمرة لأن جلالته كان قد افترض أن البحارة الأمريكيين سيكونون ضيوفا عليه أثناء الرحلة التي ستستغرق يومين. إلا أن قائد المدمرة رفض السماح له بتحميلها على المدمرة وشرح له قوانين البحرية الأمريكية بخصوص نقل الحيوانات الحية. هنا تدخل الكولونيل أدي، الوزير المفوض الأمريكي في جدة الذي كان يجيد اللغة العربية واقنع جلالته بأن جميع طاقم المدمرة سيعاقبون لو أنهم أكلوا خرافه ولم يراعوا قوانين التغذية الرسمية. إلا أن جلالته ارتاع من فكرة أكل اللحوم المحفوظة في ثلاجات، إذ أن أكل الفطيسة محرم على المسلم. وأخيرا تم التوصل إلى حل وسط إذ سمح للسعوديين على مضض بأن يأخذوا معهم 7 من الخراف. وما أن أبحرت المدمرة حتى قام الخدم بذبح أحدها وراحوا يسلخونه على ظهر المدمرة!

    ولقد قدمت الأيام القليلة التالية أمثلة على المفاجآت وسوء التفاهم الذي كان ينتظر الأمريكيين والسعوديين في السنوات العديدة لتعاونهم الذي كانوا يوشكون على الشروع به. فعندما أمرت واشنطن الكولونيل أدى بأن يحدد عدد أفراد الوفد السعودي باثني عشر رجلاً، قال لمرؤوسيه بأنه يجب عليهم أن يتوقعوا ضِعف هذا العدد، وقد بدا عليه الارتياح عندما بلغ عدد أفراده في النهاية 41 شخصا فقط!

    ولم تكن هناك حجرات لمعظمهم، إلا أن هذا لم يقلق الطباخين والحراس والخدم الذين وجدوا لأنفسهم ملاجئ على ظهر المدمرة وأشعلوا النار لعمل القهوة بالقرب من المدافع والذخيرة الحية وناموا جميعا على ظهر المدمرة ـ حيث انضم إليهم عبد العزيز الذي رفض الإقامة في حجرة القائد التي أعدت خصيصا لاستعماله الخاص. كان العاهل السعودي يفضل النوم على ظهر المدمرة حيث كان يجلس طوال النهار. وكان ملاح المدمرة يحدد لجلالته القبلة خمس مرات في اليوم. فيطلب جلالته من ماجد بن خثيلة، منجمه الخاص، بأن يتأكد من صحة ذلك. ثم كان الجميع يولون أوجههم نحو مكة المكرمة ويصلّون.

    أبدى عبد العزيز إهتماما بالغا بالمدمرة واستعرض جميع أسلحتها. وكان سروره عظيما عندما شاهد عرضا لإطلاق نيران المدفعية المضادة للطائرات ولإطلاق قذائف العمق على أهداف تم جرها خلف المدمرة. وفي الليل أحضر جهاز عرض للأفلام إلى ظهر الباخرة للترفيه عن الملك وحاشيته. فشاهدوا فلما وثائقيا مثيرا عن حاملة طائرات أمريكية في المحيط الهادئ. وعلم الأمير محمد أنه ستعرض أفلام أخرى في وقت لاحق أمام البحارة في قسمهم الخاص. فدعى الكولونيل أدى جانبا وأعرب له عن رغبته في حضور هذه العروض. فانسل هو وأخوه الأصغر منصور، الابن الثامن والذكي لعبد العزيز، الذي كان قد عيّن لتوّه أول وزير دفاع سعودي، إلى غرفة جلوس البحارة وجلسا في الصف الأمامي لمشاهدة فلم غرامي. وبعد أن انتهى عرض الفلم الأول تم تنظيم عرض ثان شاهده حوالي نصف الحاشية السعودية ولحسن الحظ لم يعلم الملك بهذه المغامرة إذ أنه أبدى تحفظا بعد مشاهدته للفلم التسجيلي حين قال نعم لقد كان الفلم ممتازا ولكني ((أشك في صلاحية السينما لشعبي.. فستفتح شهيته للتسلية التي قد تلهيه عن أداء واجباته)). وعندما التقى الشرق بالغرب في البحيرة المرة الكبرى إصطدمت الثقافات على مستوى أكثر أهمية. فقد كان الرئيس روزفلت، الذي رحّب بابن سعود على ظهر المدمرة الأمريكية كوينْسي، يريد من جلالته أن يساعده في إيجاد حل لقضية فلسطين. وكان روزفلت يعتقد بأن بريطانيا قد أساءت معالجة المشكلة كما أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة جعل من مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين قضية سياسية كبرى.

    قال روزفلت لعبد العزيز لقد عانى يهود أوروبا الوسطى الأمرين على يد هتلر من طرد وتعذيب وقتل جماعي، وإنه يشعر بمسؤولية شخصية نحو هؤلاء البؤساء وإنه التزم فعلاً بالبحث عن حل لمشاكلهم. فهل توجد عند عاهل السعودية أي اقتراحات بهذا الشأن؟

    نعم قال جلالته ((أعطهم أحسن أراضي وبيوت الألمان الذين قاموا باضطهادهم!)) ولم يكن هذا اطلاقا ما كان يجول في خاطر الرئيس روزفلت. فقال شارحا إن اليهود الذين نجوا من الهلاك باتوا يخشون البقاء في ألمانيا خوفا من تكرار ما حدث، كما أنه توجد لديهم ((رغبة عاطفية)) في الاستيطان في فلسطين.

    تجاهل عبد العزيز النقطة الأخيرة وقال إن بريطانيا وأمريكا تخططان لإلحاق هزيمة ساحقة بألمانيا. لذا فإنه لا يرى سببا لمخاوف اليهود! لقد أربك موقف عبد العزيز الحازم روزفلت الذي كان يعتقد بأنه سيتمكن خلال بضع ساعات من المحادثات الخاصة، علاوة على المساعدة السخية، من كسب تأييد عبد العزيز لمساعيه. فحاول معالجة المسألة من زاوية أخرى وقال إنه يثق في الكرم العربي الذي يعتبر أقرب إلى الأسطورة. إلا أن عبد العزيز لم يَرَ سببا لأن يبدي عرب فلسطين مثل هذا الكرم نحو اليهود.

    وقال ((دع المعتدي والطاغية يدفع الثمن… هكذا نحارب نحن العرب)). إن الذين ذبحوا اليهود هم الألمان، لا عرب فلسطين. ولم يفهم عبد العزيز حرص روزفلت على إنقاذ ألمانيا من نتائج جرائمها ـ إن البدو يعاملون أصدقاءهم لا أعداءهم باللطف. وبقي عنده اقتراح أخير. لماذا لا يوزع اليهود على بلدان الحلفاء. أما فلسطين فقد وصلها ما فيه الكفاية من اللاجئين اليهود؟

    ثم انتقل روزفلت إلى مواضيع أخرى عامة. وعندما أعد محضر المحادثة بين الزعيمين التي دامت خمس ساعات تبيّن أن الرئيس قد اقتنع إلى حد ما بوجهة نظر عبد العزيز التي عرضها بحزم. فقد وعد روزفلت عبد العزيز بأنه ((لن يفعل شيئا من شأنه أن يساعد اليهود ضد العرب ولن يقوم بأية حركة معادية للشعب العربي)) وشجّع الخطة التي كان ابن سعود يفكر فيها، ألا وهي إرسال بعثة إلى الغرب لشرح وجهة النظر العربية بالنسبة لفلسطين.

    ((قال الرئيس إنه اعتبر الفكرة فكرة جيدة لاعتقاده بأنه تم التغرير بالعديد من الناس في أمريكا وأوروبا))، وصرح بعد عودته في خطاب القاه أمام مجلس الشيوخ قائلاً ((لقد تعلمت من ابن سعود، عاهل السعودية، عن مشكلة المسلمين بكاملها وعن مشكلة اليهود في خمس دقائق أكثر مما كنت سأتعلمه من خلال تبادل دزينة من الرسائل)).

    ودّع عبد العزيز الرئيس الأمريكي وهو مسرور. لقد كان روزفلت أول رئيس دولة مسيحي يلتقي به طيلة سنوات حياته التسع والستين، والآن، وفي غضون ثلاثة أيام كان من المقرر أن يزوره ونستون تشرتشل في فندق الأوبيرج المطل على بحيرة قارون الواقعة إلى الجنوب الغربي من القاهرة. لقد كان أول سؤال وجهه عبد العزيز إلى روزفلت بعد أن حيّاه على ظهر المدمرة كوينْسي هو هل يمانع الرئيس في لقائه المقبل برئيس الوزراء البريطاني. وكان روزفلت الذي سبق حليفه إلى الاجتماع بعبد العزيز هو الشهامة نفسها إذ قال: ((ولم لا؟ إني استمتع دائما بلقاء السيد تشرتشل وإني لعلى يقين بأنك أيضا ستحبه)).

    إلا أن عبد العزيز لم يحب ونستون تشرتشل كثيرا كما ثبت في النهاية ـ أو على الأقل فإنه لم يشعر نحوه بالدفء الذي شعر به نحو الرئيس الأمريكي ـ ويرجع ذلك إلى حد ما لأن الرئيس الأمريكي حاول جاهدا أن لا يمس الحساسيات الوهابية للملك. فعندما كان الرجلان يهبطان في مصعدين منفردين في المدمرة كوينسي وهما في طريقهما لتناول طعام الغذاء، ضغط روزفلت على زر الطوارئ الأحمر، الذي أوقف المصعد وأبقاه معلقا في الهواء ودخن في هذه الأثناء سيجارتين بسرعة قبل أن يواصل رحلته ويلتحق بعبد العزيز ولم يكن للمشروبات الروحية وجود على مائدة الطعام.

    أما ونستون تشرتشل فقد ألقى كلمة قصيرة قال فيها إنه يدرك بأن ((دين جلالته يحرّم عليه التدخين وتعاطي المسكرات ولكن يجب أن أشير إلى أن قانون حياتي يقضي بالتدخين بشرب المسكرات أيضا… قبل وبعد، وحتى أثناء جميع الوجبات وما بينها من فترات إذا اقتضى الأمر…)) ثم راح رئيس الوزراء يحتسي الويسكي وينفخ دخان سيجاره معظم الوقت أثناء محادثاته مع العاهل السعودي التي دامت ثلاث ساعات ـ كما جاء في مذكراته.

    إستاء عبد العزيز من هذا التصرف. وربما لم يكن عبد العزيز ليكترث بتدخين تشرتشل وشربه للويسكي لو أن رئيس الوزراء البريطاني أبدى نفس تفهم الرئيس الأمريكي لآراء الملك حول قضية فلسطين. ولكن تشرتشل كان أكثر خيرة في شؤون الشرق الأوسط السياسية من روزفلت ـ وفي الواقع أسهمت نشاطاته في مؤتمر القاهرة لعام 1921 في تعقيد أعماله. فلم يقطع وعودا جريئة كتلك التي قطعها روزفلت للعاهل السعودي. إن وعد استشارة العرب الذي قطعه الرئيس للملك سرعان ما سبب بعض الإحراج للحكومة الأمريكية ولقد اتبع تشرتشل أسلوباً آخر في محادثاته مع عبد العزيز.

    ((فتح تشرتشل الموضوع بكثير من الثقة بالنفس، ملوحا بالعصا الغليظة)). هذا ما قاله عبد العزيز فيما بعد للكولونيل أدى الوزير الأمريكي المفوض في جدة عن محادثاته مع رئيس الوزراء البريطاني. وأضاف يقول بأن تشرتشل قال ((إن بريطانيا قد ساعدتني طيلة عشرين عاما ومكنت من توطيد حكمي… وبما إن بريطانيا وقفت بجانبي في الأيام العصيبة، فإنه يحق لها أن تطلب المساعدة مني بشأن مشكلة فلسطين حيث يمكن لزعيم عربي قوي أن يكبح العناصر العربية المتعصبة وأن يصر على الاعتدال في المحافل العربية وأن ينجز حلا وسطا واقعيا مع الصهيونية))

    اغتاظ عبد العزيز من أسلوب ((العصا الغليظة)) هذا. وقال فيما بعد للكولونيل أدي، الوزير الأمريكي المفوض في جدة، إنه رد ردا حادا على هذه الفكرة ((غير المعقولة)). وربما بالغ الملك إلى حد ما في وصفه لما حدث للكولونيل أدى، إلا أن لورنس جرافتي ـ سميث، الذي حضر المحادثات السعودية ـ البريطانية على شرفة فندق الأوبيرج يتذكر المأزق الذي وصلته المحادثات بشأن مشكلة فلسطين والتوتر الذي ساد جو المحادثات.

    قال تشرتشل متذمراً فيما بعد ((كنا نتوقع أن يكونوا من الشاكرين بعد كل ما قمنا به من أجل فيصل وعبد الله)). لقد فضّل جرافتي ـ سميث الخَجول أن لا يصحح خطأ رئيس الوزراء الذي خلط بين الهاشميين وآل سعود. غير أن تشرتشل شعر في المساء ببعض الندم عندما ارتدى لأول مرة الأردية الرائعة والسيف المرصع بالجواهر والخنجر والخواتم المرصعة بالذهب التي أهداها له عبد العزيز ـ والتي قدّر رئيس الوزراء ثمنها بثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه.

    لقد كانت هدية تشرتشل لعبد العزيز عبارة عن علبة عطر ثمنها 100 جنيه فقط. وقد شعر بالارتباك عندما سمع بأن الرئيس روزفلت أهدى العاهل السعودي كرسي المقعدين الخاص به وطائرة دي. سي. 3. فقال تشرتشل لعبد العزيز إن علبة العطر ما هي إلا هدية رمزية وأنه ينوي إهداء الملك أول سيارة رولز رويس يتم إنتاجها في داربي بعد الحرب واستطرد قائلا ((إنها أحسن سيارة في العالم، وهي مجهزة بجميع وسائل الراحة لأوقات السلم وبجميع وسائل الوقاية من الأعمال المعادية)).

    عاد عبد العزيز إلى الوطن على ظهر باخرة سياحية بريطانية ـ وتذمر فيما بعد من أنه لم تجر عروض لإطلاق نار المدافع ولم تكن هناك خيام على ظهر السفينة ولا اختلاط مع البحارة ـ حيث لقي ترحيبا حارا من قبل سكان جدة. أما العلماء فقد كانوا غاضبين لأنه لم يستشرهم قبل مغادرته للوطن، كما أنهم كانوا مرتابين من محادثاته السرية مع زعماء الكفار. إلا أن نبأ نجاح الملك في الحصول على تعهدات من الرئيس روزفلت بخصوص التشاور والحماية إعتبر نجاحاً كبيرا. وفي 5 أبريل [نيسان] 1945 جدد الرئيس روزفلت رسميا وعوده لعبد العزيز في رسالة أكد فيها أن تلك الوعود ليست شخصية ولكنها صادرة بترو ((بصفتي رئيسا للسلطة التنفيذية في هذه الحكومة)).

    وبعد مرور أسبوع على هذه الرسالة توفي فرانكلين ديلانو روزفلت، وقرر رئيس السلطة التنفيذية الجديد في الولايات المتحدة تجاهل العهود التي قطعها سلفه إن استياء عبد العزيز مما حدث كان أقل من استياء دبلوماسيي وزارة الخارجية الأمريكية الذين تعيّن عليهم أن يشرحوا له قرار الرئيس الجديد ترومان بدعم المطامع الصهيونية في فلسطين، ذلك الدعم الذي توج بالاعتراف بدولة إسرائيل ودعمها. لقد كان عبد العزيز يدرك بصفته حاكما مطلقا أنه قد يقوم خلف الرئيس الأمريكي السابق بتحويل ولائه لصالح أية جهة من شأنها أن تعزز خلافته لرئاسة الجمهورية، ومع ذلك، لو علم العاهل السعودي بالطريقة اللامبالية التي تخلى بها الرئيس هاري ترومان عن العهود التي قطعها الرئيس روزفلت للعرب في البحيرة المرة لأصابته الدهشة. فبعد مضي أقل من ستة أشهر على وفاة روزفلت، استدعى الرئيس ترومان رؤساء البعثات الدبلوماسية الأمريكية في السعودية والبلدان الرئيسية المعنية بمشكلة فلسطين إلى واشنطن لسماع تقريرهم حول المخاوف والغضب الذي أثاره التأييد الذي يبديه الرئيس الجديد للمطامع الصهيونية.

    وعند الانتهاء من تقديم تقاريرهم، قدم الرئيس ترومان بعض الأسئلة وأصغى إلى أسئلة أخرى. ولكن يبدو أن شيئا مما سمعه قد جعله يغيّر رأيه، إذ قال ملخصا موقفه بصراحة تامة ((إنني لآسف أيها السادة، ولكني مسؤول أمام مئات الألوف من المتلهفين لنجاح الصهيونية؛ ولا يوجد مئات الألوف من العرب بين أنصاري)).





    --------------------------------------------------------------------------------

    * The King – Crane Commission.
    [align=center][/align]

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    الجزء الخامس

    قوة البترول

    42ـ الأسبوعان اللذان غيّرا العالم

    نحن لا نردد عبارات فارغة. إننا نفعل ما نقول. وإن نظروا إليكم باستخفاف أو ازدراء، أجيبوهم بأن الله يكرم نبيه ومواطني هذه البلاد. إنكم أبناء الأبطال القدامى، وأحفاد أولئك الذين قاتلوا إلى الجانب النبي. كونوا شهدا لأولئك الذين ينشدون صداقتكم، وسما زعافا لمن هم أعداؤكم.

    الملك فيصل بن عبد العزيز، 1973



    في الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السبت، 6 أكتوبر 1973، بدأ 4000 مدفع، وقاذفة صواريخ ومدافع هاون مصرية قصف المواقع الإسرائيلية المقابلة عبر قناة السويس. وفي الثانية وعشرين دقيقة نزل 8 آلاف جندي مصري في قوارب مطاطية إلى الماء وعبروا القناة عند خمس نقاط تحت غطاء طائرات الميج المقاتلة التي كانت تدوي على ارتفاع منخفض، وبحلول الساعة الثالثة كانت المواقع الأولى المحاطة بأكياس الرمل في خط بارليف الإسرائيلي قد احتُلت.

    كانت إسرائيل قد أعدت سلاحا سريا لصد المهاجمين عبر قناة السويس. إذ كان النابالم سينطلق ملتهبا على سطح الماء من أنابيب مخفية. ولكن رجال الكوماندوز المصريين كانوا قد سدوا الأنابيب بأسمنت سريع الجفاف ليلة 5 أكتوبر ـ والآن، بينما تقدم رجال قوات الساعقة المصرية عبر سيناء، بدأت 700 دبابة سورية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل تحركها في تشكيلات شبيهة بما يحدث في ميادين الاستعراض عبر الأسلاك الشائكة لقطاع وقف إطلاق النار عبر مرتفعات الجولان. كان ذلك في يوم عيد الغفران اليهودي، وكانت الجيوش العربية تنتقم لمذلة حرب الأيام الستة.

    كان الشيخ أحمد زكي يماني في طريقه إلى فيينا عندما سمع بالنبأ، وفجأة اتضحت الأمور. كان قد تعيّن عليه أن يسافر إلى مؤتمر في سان فرانسسكو في الشهر السابق، وهو ارتباط قبل به قبل ذلك بأشهر كثيرة، ولكنه عندما ذهب إلى الملك فيصل ليستأذنه بالسفر، كان الملك غير راغب في ذلك على نحو غريب. ولم يوافق الملك إلا عندما شرح يماني أن الترتيب قد تم منذ مدة طويلة على أن في وسعه أن يسافر. قال الملك ((عد بسرعة)).

    وعندما عاد يماني اضطر أن يسال الملك عما إذا كان يستطيع أن يسافر مرة أخرى لأن الأعضاء الخليجيين في أوبيك اختاروه ليتفاوض على جولة زيادات أسعار جديدة مع شركات النفط في فيينا ابتداء من يوم الاثنين، 8 أكتوبر، لمدة أسبوع. هذه المرة كان الملك فيصل غير مسرور حقا. أراد أن يكون وزير نفطه إلى جانبه، كما قال، ولم يوافق الملك على ذهابه إلا بعد أن شرح يماني كم كان الاجتماع حاسم الأهمية وكيف أن تكهنات ستثور بسبب غيابه. وسأل يماني ((هل سيحدث شيء ما ذو أهمية خاصة؟)). لم يجب الملك.

    بعد ظهر السبت، 6 أكتوبر 1973، فهم الشيخ يماني فجأة سبب ذلك القلق الغريب الذي بدا على الملك فيصل. لقد قرر فيصل بن عبد العزيز أنه مستعد لاستخدام سلاح النفط بعد وقت قصير من طرد السادات مستشاريه الروس في يوليو 1972. فبعد إخفاق أميركا في الاستجابة لذلك، وخلال حشد المعونات لإسرائيل في الخريف، وهو ما أصبح أحد طقوس حملات انتخابات الرئاسة الأميركية، أسر السادات لفيصل بأنه الآن يرى الحرب السبيل الوحيد لكسر الجمود المتصل بإسرائيل، فوافق العاهل السعودي.

    تم الاتصال بشيوخ خليجيين آخرين، وبحلول أوائل 1973 كان فيصل قد جمع ما بين 300 و500 مليون دولار لمشتريات الأسلحة المصرية، وما بين 400 و500 مليون دولار لدعم ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى معونة الـ 250 مليون دولار سنويا التي اتفق عليها في الخرطوم. واستطاع السادات أن يدفع ثمن الأسلحة السوفيتية بالعملة الصعبة، ووعد فيصل بأنه سيكون على استعداد عندما تبدأ المعركة لمنع إمدادات النفط عن أية جهة تساعد إسرائيل.

    ولكن الملك فيصل كان رجلا حذرا، وكذلك متفائلا. فحتى بينما كان يساعد أنور السادات ماليا، كان يأمل في أن تزيل مبادرة ما من جانب أميركا الحاجة إلى أعمال قتالية مكشوفة، وقد أعطى في أوائل أبريل [نيسان] تعليمات لأحمد زكي يماني. قال الملك على وزير البترول أن يذهب إلى واشنطن ويوصل رسالة لكبار المسؤولين هناك. خلال مناقشة صفقة المشاركة التي اتفق عليها مع آرامكو في أوائل عام 1972 تحدثت المملكة العربية السعودية، عن توسيع طاقة إنتاجها إلى مجموع هائل يبلغ 20 مليون برميل يومياً بحلول أوائل الثمانينات. ولكن كان من شأن مستوى الإنتاج ذاك أن يولد من العائدات أكثر بكثير مما يمكن للمملكة أن تستوعبه ـ وكان فيصل يواجه صعوبة في عام 1973 في إنفاق الدخل الناجم من إنتاج 8 ملايين برميل يوميا ـ وقد اعتقد أنه يسدي للعالم المتطور صنعا جميلا. وما لم تتخذ أميركا خطوات لتأمين العدالة للعرب الفلسطينيين واستعادة الأماكن المقدسة للمسلمين في القدس، فإن زيادة الإنتاج ستتوقف. فالعدالة مسألة ذات اتجاهين.

    في أبريل [نيسان] 1973 ذهب يماني لإيصال الرسالة إلى وليام روجرز، وزير خارجية نكسون، وجورج شلز، وزير الخزانة الأميركية، والدكتور هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس.

    بدا كيسنجر منزعجا جدا من رسالة يماني. وقال ((يجب ألا يذهب هذا الأمر إلى أبعد من ذلك. أرجوا أن لا تكون قد ذكرت هذا لأي شخص آخر)). كان مستشار الأمن منزعجا لسماعه أنه ثالث من تسلم رسالة الملك فيصل، وكرر اليماني إقتناعه بأن محتوياتها يجب أن تظل مكتومة.

    في ما بعد احتار وزير البترول في سبب حرص الدكتور كيسنجر على إبقاء التهديد بسلاح النفط العربي سرا. وتحدث مستشار الأمن عن السمعة العربية وعن أهمية عدم ظهور العرب كمهددين أو متطرفين في نظر الأميركيين.

    ولكن يماني الذي يشعر، شأنه شأن عرب كثيرين، أن كون الدكتور هنري كيسنجر يهوديا يؤثر على حياده في مسائل الشرق الأوسط، لم يقبل مشورة مستشار الأمن على علاتها. فالدكتور كيسنجر، في رأي وزير البترول، لا يمكن أن يأبه بموقف العرب من أجل العرب: كان مستشار الأمن مهتما بمنع الجمهور الأميركي من التأمل مليا في التمن الذي قد يتعين عليهم دفعه مقابل دعم الحملات العسكرية الإسرائيلية ـ وهكذا قرر يماني التصريح بتحذيره للصحافة.

    قال وزير البترول لصحيفة واشنطن بوست ((سنبذل قصارى جهدنا لمساعدتكم، وننتظر منكم أن تبادلونا ذلك. ويجب أن تكون أمريكا أكثر توازنا في تعاملها مع إسرائيل والعرب)).

    أشارت صحيفة واشنطن بوست إلى أن تلك كانت ((أول مرة تربط فيها المملكة العربية السعودية، القوة العظمى في عالم النفط، تدفق نفطها إلى الولايات المتحدة ربطا علنيا بسياسة واشنطن نحو الشرق الأوسط)). ولكن الصحيفة رفضت التعبير عن خوفها. وقال كاتب التعليق الافتتاحي في الواشنطن بوست في اليوم التالي ((إن أخذ تهديدات كتهديدات المملكة العربية السعودية على محمل الجد هو استسلام للهستيريا))، ووافقت إدارة نكسون على ذلك.

    كان أحد التعليقات العديدة على صعيد خاص أن ((يماني أصبح مغرورا))، مما يوحي بأن وزير البترول البالغ الأربعين من عمره قد حاد عن تعليمات سيّده الحذر الذي هو، كما يعلم الجميع، زعيم عربي يمكن الاعتماد عليه في أن لا يثير متاعب.

    مال رجال النفط إلى الإحساس بالشعور ذاته، وعندما قام رئيس آرامكو فرانك جنجرز، وهو مهندس بطيء الحديث عمل في المملكة العربية السعودية منذ تخرجه من جامعة واشنطن، بزيارة مجاملة روتينية للملك يوم 3 مايو [آيار] 1973 وجد الملك فيصل متحمسا لموضوع حديثه المعتاد. قال فيصل إن الصهاينة والشيوعيين يعملون من أجل ((إخراج المصالح الأمريكية من المنطقة))، وإن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تشعر بأن مصالحها آمنة نسبيا إلا في المملكة العربية السعودية.

    ولكن فيصل طور عندئذ حجته بلهجة لم يسمعها جنجرز من قبل. إذ قال فيصل إنه ((بات من الصعب أكثر فأكثر إيقاف مد الرأي العام)). فهناك متطرفون مثل القذافي، وهناك المرارة التي يشعر بها الفلسطينيون. وأقل ما يمكن للحكومة الأميركية أن تفعله لمساعدتهم هو إصدار ((تنصل بسيط ما من السياسات والأعمال الإسرائيلية)).

    انزعج فيصل من عدم الاكتراث الذي تجاهلت به واشنطن رسالته الطيبة النية عن طريق يماني، والتي أملاها على وزير بتروله كلمة كلمة. ودعيت صحيفة كرستيان سينس مونيتور وصحيفة واشنطن بوست إلى الطائف في يوليو 1973 حتى يستطيع الملك أن يوضح أن التحذير قد جاء منه شخصيا، وأعطى لأول مرة في حياته مقابلة للتلفزيون الأميركي. ولم يعط فيصل مقابلة تلفزيونية لأي أحد منذ 1967.

    قال ((إن تأييد أميركا التام للصهيونية ضد العرب يجعل من الصعب للغاية علينا أن نستمر في تزويد الولايات المتحدة الأميركية باحتياجاتها البترولية وحتى أن نحتفظ بعلاقات ودية مع أميركا)).

    قال ابن فيصل، محمد ((إنه يعني ما يقول))، وكان محمد مترجم والده في المقابلات، وطأطأ الصحفيون برؤوسهم بأدب. ولكن إجماع وسائل الإعلام كان أن الملك يخادع، وداخل وزارة الخارجية وافق جوزيف سيسكو، المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط، على ذلك. فقد أبلغه مخبرو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالضغوط التي كان أنور السادات يمارسها على العاهل السعودي كي يساند الحملة المصرية لاسترداد شبه جزيرة سيناء، ولكن محللي وزارة الخارجية الأميركية شعروا بأن القصد من تهديدات فيصل كان إرضاء مصر وبأنها لن توضع أبدا موضع التنفيذ.

    قال وزير خارجية إسرائيل، أبا إبيان، عندما سُئل في مايو [آيار] 1973 عن احتمال فرض حظر نفطي عربي ((ليست هناك أدنى إمكانية! فالدول العربية ليس لها خيار سوى بيع نفطها لأنه ليست لها أية موارد أخرى بالمرة)).

    كانت الاستخبارات الإسرائيلية على علم بأن فيصل والسادات يصعدان كثافة إتصالاتهما، ولكنها أخطأت تفسير محتوى نشاطاتهما. إذ لم تدرك أن السادات، بينما كان أقل عدوانية من عبد الناصر من الناحية اللفظية، كان يشعر بذات المرارة بسبب مذلة حرب الأيام الستة، كما لم تدرك أن فيصل قد ألزم نفسه بدعم ضربة مصرية مضادة في ذلك الخريف. واعتقد العاهل السعودي بأن أساس نجاحات إسرائيل العسكرية السابقة كان الأسلحة الأجنبية وقدر أن حظرا نفطيا يمكن أن يقطع تلك النجدة.

    قال فيصل للسادات ((ولكن تأكد عندما تقاتل من أن تستمر في القتال)).

    قال الملك فيصل تلك الملاحظة بحضور الدكتور رشاد فرعون ومستشارين آخرين عندما اجتمع بالسادات في الأشهر الأولى من عام 1973 لإجراء مناقشات عامة عن الحرب والنفط. وبعد ستة أشهر، وخلال زيارة إلى القاهرة في الصيف، دخل الملك في جلسة سرية مع الرئيس المصري وتحدث الرجلان وحدهما لمدة تقرب من ساعة.

    قال رشاد فرعون للملك في ما بعد ((لقد قررت شيئا ما. أستطيع أن أرى ذلك. لقد قررت شيئا كبيرا!)). لم يقل الملك فيصل أي شيء. بل وحتى لم يبتسم.

    بحلول صيف 1973، كان احتمال وقوع متاعب بين مصر وإسرائيل قد أصبح أمرا لا يمكن اعتباره سرا. إذ كانت إسرائيل قد عبأت قواتها مرتين مقتنعة بأن مصر توشك على عبور قناة السويس ، وفي مايو [آيار] أبلغ كمال أدهم فرانك جنجرز بأنه سيتعين على أنور السادات، في رأيه، ((أن يشرع عما قريب في أعمال قتالية من نوع ما)). وقال كمال أدهم إنه (أي السادات) إذا فعل ذلك. فإن المملكة العربية السعودية لا تستطيع أن تبقى بعيدة عن المعركة، وأن ذلك يمكن أن يكون أمرا قاتلا للمصالح الأميركية. لم يساور جنجرز أي شك في أن صهر الملك كان يوصل إليه رسالة من فيصل نفسه.

    قال جنجرز في ما بعد متذكرا ((لقد عرفت أنه عنى الحرب. فقد كان الملك يحب إعطاء إشارات، خفية أولا ثم صريحة. وكانت تلك إشارة مختلفة جدا عن تحذيراته السابقة)).

    إذا استعرض المرء تلك الفترة، وجد أن عدد الإشارات التي أعطاها فيصل فائقا للعادة. ففي أواخر مايو 1973، كان المدراء الأربعة للشركات الأم لآرامكو في الشرق الأوسط مجتمعين في جنيف كجزء من مفاوضاتهم مع يماني لتنفيذ اتفاق المشاركة، عندما اقترح الوزير بطريقة عفوية إمكانية قيامهم بزيارة مجاملة للملك. وأسر لهم يماني بأن فيصل قد عاد لتوه من القاهرة حيث ((أتعبه السادات)). وقال إن الرئيس المصري يضغط لتأمين المزيد من المؤيدين الذين يمكن الاعتماد عليهم في نزاعه مع إسرائيل.

    قال فيصل لرجال النفط ((إن الوقت ينفذ)). وقال إنه غير مستعد للسماح بأن تصبح المملكة العربية السعودية معزولة بينما يزداد الغضب العربي على أميركا، وتحدث بعبارات حادة مفاجئة أدت بممثلي آرامكو إلى الاعتقاد بأن أساس امتيازاتهم النفطية برمته يمكن أن يتعرض للخطر. وقد حذرهم بقوله ((يمكن أن تخسروا كل شيء)).

    ذهب الرجال الأربعة، من شدة خوفهم، إلى واشنطن في غضون أيام ليحاولوا تنبيه المسؤولين في الحكومة إلى الخطر كما شاهدوه. ولكن جوزيف سيسكو في وزارة الخارجية كان قد سمع الحكاية كلها من قبل. ورفض هنري كيسنجر حتى تحديد موعد لهم. وأخيرا، في البنتاجون، طلب وزير الدفاع بالوكالة بل كلمنتس، وكان هو ذاته رجل نفط في يوم من الأيام وكانت له شركة حفر، من الأربعة أن لا يخافوا إلى ذلك الحد: فالعرب لن يتحدوا أبدا.

    كان هنري كيسنجر قد وضع تقديرات الاحتمالات السياسية في المستقبل في ذلك الوقت مع موظفيه، ووجدوا أن من الصعب في عالم كان النفط لا يزال فيه رخيصا أن يأخذوا إمكانية حدوث أزمة طاقة على محمل الجد. فحالات الحظر النفطي العربي السابقة لم تنجح، وحديث المصريين عن الحرب بدا هزليا، والجميع يعلمون أن العرب سيهزمون هزيمة نكراء، بينما تفتقر تحذيرات فيصل ويماني إلى القوة والمصداقية اللتين تبينتا في ما بعد. ففي صيف 1973 لم يكن أي من العاهل السعودي أو وزير بتروله يتمتع بالمكانة التي سرعان ما تمتعا بها بعدئذ.

    ((عدم التصديق)) كانت العبارة الوحيدة التي استطاع رجال النفط استخدامها عندما أبرقوا للظهران ردود فعل واشنطن تجاه تحذيراتهم. ((يعتقد البعض بأن جلالته يحذر من الذئب بينما لا يوجد ذئب إلا في خياله)).

    * * *

    عشرة جسور عبر قناة السويس و80 ألف جندي مصري كانوا في خنادق في سيناء بحلول منتصف ليلة السبت، 6 أكتوبر 1973، أوحوا بما يخالف ذلك. كان المصريون قد استخدموا مضخات ماء عالية الضغط لهدم الحواجز الرملية التي أقامها الإسرائيليون. وزمجرت 222 طائرة ميج فوق سيناء في سلسلة ضربات حققت 90 في المائة من أهدافها من دون خسارة إلا خمسة منها، وفي الساعات الباكرة من صباح الأحد، 7 أكتوبر، أمرت القيادة الإسرائيلية في سيناء جنودها على خط بارليف بأن يدمروا أسلحتهم، ويستسلموا أو يتقهقروا. وفي الساعة الثامنة وعشر دقائق من صباح ذلك اليوم أعلنت القيادة التكتيكية الإسرائيلية أنها مطوقة. وقال السادات متباهيا بعد ذلك ((كانت إسرائيل تتباهى بحرب الأيام الستة. والآن نستطيع أن نتباهى بحرب الساعات الست)).

    في تلك الأثناء كان الشيخ يماني يقود فريقه المفاوض للحديث عن الأسعار في المبنى رقم 10 في شارع الدكتور كارل لوجر في فيينا، حيث يوجد مقر منظمة أوبيك غير الجذاب. وكان وزير البترول السعودي يمثل البلدان الخليجية الأعضاء في أوبيك* وكان المندوبون العرب يمررون مقالات صحفية بعضهم لبعض بلهفة ويتبادلون الأنباء الإذاعية عن التطورات في سيناء وعلى مرتفعات الجولان. ويقول يماني اليوم ((في اللحظة التي سمعت فيها عن الحرب، بدأت أقلب في ذهني الإجراءات التي ينبغي أن نتخذها: تخفيضات في الإنتاج، وحظر للنفط عن بلدان معينة. وكان هذا أمرا منفصلا تماما عن مسألة السعر)).

    ولكن حجم زيادة السعر التي كانت أوبيك تطالب بها في فيينا في أكتوبر 1973 كان كبيراً. وافتتح يماني المحادثات يوم الإثنين 8 أكتوبر، بالمطالبة بزيادات في مستويات الضريبة الحكومية من شأنها تقريبا أن تضاعف السعر من 3 دولارات إلى أكثر من 5 دولارات على كل برميل. ورد جورج بيرس من شركة إكسون، والذي ترأس فريق الشركات مع أندريه بينارد من شركة شل بعرض زيادة مقدارها 70 سنتا على كل برميل.

    طوال الستينات بقي سعر النفط ما دون دولارين للبرميل. ولكن، مع انخفاض التخمة نحو نهاية العقد، كشف تشدد الزعيم الليبي معمر القذافي عن أنه بحلول عام 1970 كان الفائض يتحول في الواقع إلى نقص. وقد نجح القذافي في عمليات التأميم حيث فشل مُصدق قبل ذلك بعشرين سنة لأنه استطاع أن يجعل الشركات تقف بعضها ضد بعض. وكان العالم في حاجة ماسة للنفط الليبي في السبعينات ـ بل لأي نفط ـ وفي عام 1971، في مؤتمر أوبيك في ظهران انتزعت المنظمة من الشركات أول زيادة عامة في السعر منذ عشر سنوات ـ وكانت في الواقع أول زيادة مباشرة حققتها أوبيك في تاريخها.

    كان اجتماع فيينا في أكتوبر 1973 محاولة أوبيك لرفع السعر إلى مستوى أعلى. إذ حدثت تخفيضات هائلة في قيمة الدولار رافقتها زيادة في التضخم. وكان الطلب العالمي على النفط آخذا في الازدياد. وكانت الشركات الصغيرة المستقلة سعيدة بأن تدفع 5 دولارات مقابل كل برميل نفط كانت الحكومات المنتجة تحصل عليه عن طريق اتفاقات المشاركة، وهكذا فإن يماني لم يعتقد بأن طلبه غير معقول. ويحتمل أن عرض الشركة أقل من 4 دولارات قد مثل تكيفا منصفا مع البطالة وانخفاض قيمة الدولار. ولكن العرض لم يعكس حقيقة أن التخمة النفطية الكبيرة قد انتهت الآن.

    في يوم الاثنين، 8 أكتوبر ذاته، مع مضي أقل من ثمان وأربعين ساعة على بدء الحرب واستمرار مصر في تحقيق تقدم في سيناء ضد الإسرائيليين الذين لم يكونوا مستعدين، استقبل الملك فيصل في الرياض مبعوثين خاصين أرسلهما الرئيس السادات لتنسيق المعونة العربية غير الحربية.

    قال الملك فيصل للدكتور مصطفى خليل، خبير النفط المصري الذي كان يرافقه مساعد السادات، سيد مرعى ((لقد جعلتمونا كلنا فخورين. في الماضي لم نستطع أن نرفع رؤوسنا. أما الآن فنستطيع)).

    وعد فيصل المصريين بـ 200 مليون دولار لشراء مزيد من الأسلحة فورا. وقال ((إن ما نقدمه ليس صدقة، فالمال الذي نقدمه أقل بكثير مما تقدمونه من دمائكم)). وكرر فيصل وعده باستخدام النفط نيابة عن مصر.

    في اليوم التالي في فيينا رفضت شركات النفط أن تتزحزح عن عرضها الذي كان أقل من 4 دولارات لكل برميل، وتمسّك يماني بحزم مساو بما يزيد على 5 دولارات. وأبلغه بيرسي وبينارد بأنهما يحتاجان إلى أخذ مزيد من التعليمات من مقريهما الرئيسيين.

    ولكن، مع قيام إسرائيل بإعداد نفسها لشن هجوم مضاد لاسترداد خسائرها، ازدادت صعوبة إبقاء الشؤون السياسية وشؤون التسعير منفصلة بعضها عن بعض، ويوم الأربعاء، 10 أكتوبر، أعلن الأعضاء العرب في أوبيك أنهم سيناقشون الحرب وسياسة النفط في اجتماع سيعقد في الكويت في أوائل الأسبوع التالي. وكان هذا الحد الأقصى الذي يجب أن تتوصل الشركات إلى قرار بحلوله، ويوم الجمعة، 12 أكتوبر، اضطر بيرسي من شركة إكسون إلى إبلاغ يماني بأنهم لا يستطيعون الموافقة: فالنفط بسعر 5 دولارات لكل برميل يفوق بكثير أي تفاهم قائم.

    التفسير الذي يعطيه يماني اليوم لتمنع الشركات على الموافقة على طلب أوبيك في أكتوبر 1973 هو أنها ((أرادت لجهة أخرى أن تتحمل اللوم. فقد كانت مسرورة بالأسعار الأعلى لأن معنى ذلك بالنسبة إليها كان أرباحا أعلى، ولكنها لم ترد أن تكون الطرف الذي يقوم نعم)).

    في عام 1981 لا يتوانى أحمد زكي يماني أبدا عن الإشارة إلى الأرباح الجيدة جدا التي حققتها شركات النفط الغربية من انفجار الأسعار الذي تلا أحداث 1973. فكنتيجة مباشرة للنفط الأغلى سعرا حلت إكسون محل جنرال موتورز في عام 1974 كأكبر شركة في العالم من حيث العوائد الإجمالية للمبيعات. ولكنّ تردد رجال النفط في الأيام الأولى من أزمة أكتوبر 1973 كان أمرا يمكن فهمه. ففي رأيهم كان احتمال دفع 5 دولارات ثمنا لكل برميل نفط كان سعر أقل من دولارين لأكثر من عشر سنوات أمرا لا يمكن الموافقة عليه بطأطأة الرأس. والأمر الذي لم يدركه أحد إدراكا تاما مع بلوغ المفاوضات ذورتها في فيينا هو أن مسألة إبرام الشركات أو عدم إبرامها لسعر أوبيك كانت على وشك أن تصبح عديمة الأهمية.

    وكان جورج بيرسي على اتصال مع مقر إكسون في نيويورك. وكان يحمل تخويلا بالموافقة على زيادة تصل إلى دولار لكل برميل، إذا كان من شأن ذلك أن يؤمن إتفاقا، ولكن تعين عليه أن يبلغ رؤساءه بأنه يعتقد بأنه سيكون محظوظا بقبول سعر يزيد عن ذلك بدولارين ـ وقد أبلغته إكسون بأن زيادة بهذا الحجم تجعل استشارة الحكومة أمرا ((إلزاميا)). وكانت تلك الاستشارة ستستغرق أسبوعين. ولذلك ذهب بيرسي وبينارد حوالي منتصف ليلة الجمعة، 12 أكتوبر، لإبلاغ يماني بالنبأ في جناحه في الطابق العلوي من فندق إنتركونتينتال في فيينا.

    شرح بيرسي كيف أنه يتعين على الشركات أن تتحدث إلى حكوماتها قبل الموافقة على زيادة في السعر سيكون لها مثل ذلك الأثر على مختلف تكاليف المعيشة، وأصغى يماني في صمت. عندما كف رجل النفط عن الحديث، لم يقل الوزير أي شيء. ظل جالسا في صمت بدا أنه امتد لدقائق، ثم طلب لبيرسي كأسا من الكوكا كولا، وتناول سكينا ببطء ليقطع شريحة ليمون ويعصرها في الكأس.

    كان يماني قد تحدث مع الرياض هاتفيا للتوصل إلى تفاصيل حظر جزئي من شأنه أن يردع عن مساعدة إسرائيل وأراد أن يفرغ من مسألة السعر قبل العودة إلى بلاده.ولم يشعر بسرور عندما سمع الشركة وهي تطلب تأجيلاً، وكان يعلم أن زملاءه الأكثر راديكالية سيكونون أقل سعادة منه. وحذر قائلا ((لن يعجبهم هذا))، والتقط سماعة الهاتف ليحاول الإتصال بالوفود الأخرى في الفندق، وتمكن في نهاية الأمر من الاتصال بالكويتيين. قال ((إنهم غاضبون منكم))، وسرعان ما وصل أحد أعضاء الوفد الكويتي بعدئذ وهو في ملابس نومه. وبدأ يماني يقرأ جدول الرحالات الجوية وفض الاجتماع.

    عندما تحدث بيرسي إلى وزير البترول في اليوم التالي سأله عما سيحدث بعدئذ. وجاءه الجواب: ((تستطيع أن تسمع ذلك عبر الإذاعة)). كانت تلك آخر مرة اجتمعت فيها أوبيك بشركات النفط معا لإجراء مفاوضات مشتركة بخصوص الأسعار.
    [align=center][/align]

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    عندما عاد يماني إلى الرياض ناقش إمكانية إجراء تخفيضات في الإنتاج مع فيصل. وكانت إسرائيل قد بدأت، بعد أسبوع من القتال، في دحر السوريين إلى الوراء نحو دمشق. ولكن بدا أن مصر كانت لا تزال تحقق تقدما معقولا في سيناء، ومع أنه كان هناك دليل على أن إمدادات أميركية كانت تنقل بطريق الجو مباشرة إلى الجبهة الإسرائيلية في سيناء، فقد كان فيصل يأمل في أن تقف الولايات المتحدة دون القيام بتدخل كبير.

    ويقول يماني الآن متذكرا ما حدث ((كان الملك لا يزال يريد إعطاء أميركا فرصة للبقاء خارج نطاق القتال. وهكذا اتفقنا على تخفيض الإنتاج بنسبة 5 في المائة فقط شهريا. واتفقنا على أن حظرا كاملا هو أمر لن ننفذه إلا إذا شعرنا بأن الأمور قد بلغت وضعا ميؤوسا منه تماما)).

    * * *

    يوم الثلاثاء، 16 أكتوبر 1973، عاد مندوبوا أوبيك الذي ذهبوا إلى فيينا فاجتمعوا مرة أخرى في فندق شيراتون في الكويت ليعلنوا أنهم سيطبقون من جانب واحد زيادة السعر التي رفضتها الشركات في الأسبوع السابق: سيرتفع سعر النفط من 3.01 إلى 5.12 دولار للبرميل فورا ـ ووسط حرارة الحرب، ومن دون أن يدرك أحد الأمر إدراكا تاما في ذلك الحين، كان مفهوم أن أسعار النفط هي مسألة يتفاوض عليها المنتجون والمستهلكون عن طريق شركات النفط قد تلاشى في التاريخ. فمن الآن فصاعدا سيحدد المنتجون وسيعلنون أسعار النفط وفقا لما يناسبهم، وفي وسع العالم أن يقبل ذلك راضيا أو مكرها.

    قال أحد المندوبين بالإنجليزية ((لقد وضعناكم ـ كيف تقولونها؟ ـ على برميل))*.

    ثم عاد الوفد الإيراني إلى بلاده بالنظر إلى أن الشاه أراد أن يحافظ على تمييز واضح بين الزيادة العامة في السعر، والتي كان شريكا فيها، وبين أي تخفيضات إنتاج أو حالات حظر مما كان مسائل عربية محضة ـ وقد كان الشاه مزودا رئيسيا لإسرائيل بالنفط. ثم بدأ المندوبون عملهم.

    شعر الراديكاليون بأن ساعتهم قد حانت. فدعا وزير النفط العراقي، سعدون حمادي، إلى ((تأميم تام)) لجميع مصالح النفط الأميركية في الشرق الأوسط، وإلى سحب جميع الأموال العربية المستثمرة في الولايات المتحدة، قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن فورا. وأراد ممثل ليبيا، عز الدين المبروك، مصادرة كل شركات النفط الأجنبية الملكية، وليس الشركات الأميركية وحدها. وقفز أعضاء خليّة منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت، عند سماعهم بالمناقشات وإثر غضبهم لعدم دعوتهم إليها، في سيارة تاكسي وتوجهوا إلى فندق شيراتون ليتأكدوا من أن مطالبهم ستؤخذ بعين الاعتبار.

    كانت أنباء الحرب غير مشجعة. فقد سدد الإسرائيليون ضربة مضادة في سيناء في اليوم السابق وعبروا البحيرة المرة. وفي الشمال كان السوريون يفقدون كل الأراضي التي كسبوها على مرتفعات الجولان، وكانت الضربات الجوية الإسرائيلية تزداد قوة وكثافة. وكانت تلك لحظة صعب على يماني أن يزعم فيها أن تخفيض الإنتاج الذي اتفق عليه مع الملك فيصل بنسبة 5 في المائة شهريا يمكن أن يكون له بالفعل تأثيرا في الأحداث. ولكن العاهل السعودي كان لا يزال متمسكا باستراتيجيته.

    يقول يماني اليوم متذكرا ((ناقشنا فلسفة الحظر قبل أن أغادر الرياض. هل أردنا أن نعاقب أم أردنا أن نمارس ضغطاً؟ لم نكن مهتمين بلفتات فارغة)). كان التهديد بتخفيضات إنتاج طفيفة نسبياً ولكنها تصاعدية أفضل طريقة، في نظر فيصل لردع أميركا عن تدخل ضخم إلى جانب إسرائيل ـ وكانت أيضا طريقة من شأنها أن تمكن المملكة العربية السعودية من الاستمرار في عقوباتها عبر مدة طويلة من دون أن تشل نفسها ماليا. إذ كان فشل الحظر عام 1967 والحظر عام 1956 من قبله لا يزال ماثلا بصورة واضحة في ذهنه. وفي تلك الساعات الأولى السريعة التي تلت زيادة السعر، لم يستوعب أحد بصورة تامة كم أصبح من الأسهل بكثير فجأة الاستمرار في تطبيق حظر، إذ أن زيادة الـ 70 في المائة في الأسعار جعلت من الممكن تخفيض الإنتاج إلى النصف تقريبا من دون فقدان أي دخل.

    أعطت الجزائر يماني تأييدا حاسما خلال الجدل بين المندوبين. وتم تأييد جدول التخفيضات الذي اقترحه الملك فيصل، وفي التاسعة والنصف من مساء ذلك اليوم أعطى الصحفيون الذين كانت ردهة فندق شيراتون غاصة بهم صفحتي ورق مسطر عليهما كتابة عربية خطت بصورة عاجلة، وكانت عبارات عديدة قد شطبت بخط خفيف وادخلت مكانها عبارات أخرى وبمرور البيان عبر آلة النسخ في الفندق وجد حتى أولئك الصحفيون القادرون على قراءة اللغة العربية صعوبة في فهم ما أراد وزراء النفط قوله. ذلك أن الوثيقة أبرزت حرفيا الخلافات التي أحاطت بصياغتها.

    ظهرت جملة تصر على ((الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني)) في أحد الهوامش وأشير إليها بسهم ـ ويفترض أن تلك كانت إضافة في اللحظة الأخيرة بناء على إلحاح أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية الذين جاؤوا في سيارة تاكسي ـ بينما لم يكن أحمد زكي يماني، الذي كتب البيان في الواقع، حاضرا لتقديم شرح، وذلك بالنظر إلى أنه توجه إلى الرياض بطائرته النفاثة الخاصة حتى قبل توزيع البيان.

    سيتم تخفيض إنتاج النفط العربي فورا بنسبة 10 في المائة، مع تخفيضات أخرى مقدار كل منها 5 في المائة في كل شهر يستمر فيه الصراع من دون تسوية مرضية للعرب. ولكن دولة صديقة قدمت أو ستقدم مساعدة مادية فعالة للعرب)) لن تقطع عنها الامدادات وينطبق هذا على ((أية دولة تتخذ إجراءات نشيطة وفعالة ضد إسرائيل)). كان ذلك ابتزازا فجا، أو صراعا روتينيا على السيطرة، أو عدالة تأخر أوانها، اعتمادا على وجهة نظرك. وقد اختتم البيان بلهجة توفيقية: ((يؤكد الوزراء العرب رغبة الأمة العربية المخلصة في التعاون مع الشعوب الأخرى واستعدادنا لتزويد العالم باحتياجاته النفطية بالرغم من التضحيات من جانبنا شريطة أن يتعاطف العالم معنا ويندد بالعدوان)).

    كان وزير النفط العراقي، سعدون حمادي، قد غادر فندق شيراتون قبل الاتفاق على نداء التعاطف الختامي هذا. وكان قد خرج من الاجتماع ساخطاً على أن السعوديين كانوا لا يزالون يراعون مشاعر الأميركيين في ذروة حرب عربية. ولكن يماني كان تحت أشد الأوامر من الملك فيصل. وكان العاهل السعودي المتقدم في العمر لا يزال يأمل في أن يستطيع إبقاء أمريكا خارج الصراع. وكان الملك قد أرسل وزير دولته، عمر السقاف، وإلى واشنطن مع رسالة شخصية إلى ريتشارد نكسون، إذ علم فيصل أن روسيا كانت قد بدأت في شحن إمدادات بطريق الجو. خصوصا صواريخ سام ـ 6 المضادة للطائرات، إلى كل من سوريا ومصر في يوم السبت السابق. وكان لا مفر من أن تصر أميركا على المحافظة على ميزان إمدادات متساو، وقد أعلن ريتشارد نكسون فجأة: ((إننا لن نسمح بهزيمة إسرائيل)).

    كان رجال النفط قد قالوا كلمتهم. وفي 12 أكتوبر [تشرين الأول]، اليوم السابق لبدء الروس في نجدة سوريا ومصر بالامدادات، وقع رؤساء مجالس إدارة الشركات الأربع المالكة لآرامكو على مذكرة موجهة إلى الرئيس الأميركي أشاروا فيها إلى أن زيادة العون العسكري من الولايات المتحدة لإسرائيل ((سيكون له تأثير خطير وسلبي على علاقاتنا مع البلدان العربية المعتدلة)).

    مع زيارة السقاف الشخصية مثّلت هذه الرسالة من رؤساء مجالس إدارة أكبر أربع شركات أميركية محاولة إقناع على مستوى عال. ولكن رئيس موظفي نكسون، الكساندر هيج، لم يرد على رسالة رجال النفط لثلاثة أيام بعد تسليمها على يد مراسل خاص، بينما أبقي عمر السقاف أيضا منتظرا لأن أمورا أخرى كانت تشغل بال الرئيس الأميركي: ففي 10 أكتوبر 1973 أقر نائبه في الرئاسة، سبيرو أجنيو، بأنه مذنب بتهم تهرب من دفع الضرائب واستقال؛ ويوم 12 أكتوبر أمرت محكمة الاستئناف الرئيس بتسليم أشرطة التسجيل المتصلة بووترجيت؛ وفي ذلك اليوم ذاته رشح نكسون جيرالد فورد نائبا جديدا له في الرئاسة، ويوم 20 أكتوبر استقال المدعي العام إليوت رتشاردسون ونائب المدعي العام وليام ب. ركلشاوس بدلا من إطاعة أمر نكسون بإقالة المدعي العام الخاص في قضية ووترجيت آرتشيبولد كوكس ـ الذي كان قد طرد عندئذ على أي حال ـ ويوم 23 أكتوبر وافق الرئيس على تسليم أشرطته للقاضي سيريكا.

    كتب نكسون في ما بعد ((إن هذه الحرب ما كان يمكن أن تأتي في مرحلة داخلية أكثر تعقيدا)). وقد ترك الرئيس الأميركي، الذي أغرق نفسه أكثر في خندق مستقبله الشخصي السياسي، هنري كيسنجر ليتولى إدارة التفاصيل اليومية لأزمة الشرق الأوسط.

    كانت المشكلة هي أن هنري كيسنجر كان قد انتقل قبل شهر فقط من مجلس الأمن القومي إلى منصب وزير الخارجية، وكما قال مرات عديدة على مدى الأسابيع القليلة التالية، لم يعطه أنور السادات وقتا حتى ليفتح ملف الشرق الأوسط. وهكذا فسر كيسنجر الصراع العربي ـ الإسرائيلي في تلك الأيام الباكرة المتلاحقة الأحداث بصورة رئيسية عبر المنظور الذي طوره في مجالات أخرى ـ التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ـ وعندما بدأ وزير الخارجية في استلام تقارير عن نقل إمدادات روسية للبلدين العربيين المشتركين في القتال، ترك ذلك انطباعا عميقا عليه.

    حتى تلك النقطة كان كيسنجر يفكر، بقدر من الحذق، في أن نجاحات المصريين في سيناء قد تتيح فرصة لفتح مفاوضات من أجل تسوية جديدة ما في الشرق الأوسط. وكان قد أعاق عمدا جهود نجدة إسرائيل، متذرعا بالتأخيرات البيروقراطية داخل البنتاجون. وكان همه هو حماية عبور السادات إلى سيناء. وقد أراد كيسنجر للأعمال القتالية أن تنتهي بكون الإسرائيليين أقل غرورا وكون العرب أقل شعورا بالمذلة مما كان عليه الحال في أعقاب حرب الأيام الستة، وقد شك في احتياج الإسرائيليين إلى كل الإمدادات التي كانوا يطلبونها. وبعد أن وعد وزير الخارجية جولدا مائير بإمدادات لتعويض تام بمجرد أن تنتهي الحرب، قيّد تدفق الذخيرة والصواريخ إلى تل أبيب.

    لكن أنباء نقل الإمدادات السوفياتية بطريق الجو غيرت هذا كله. واتضح منذ ذلك أن عددا كبيرا من طائرات النقل الروسية التي شاهدتها شاشات الرادارات الغربية وهي تحلق فوق المجال الجوي لقبرص نحو سوريا ومصر كانت أكثر من نصف فارغة. ولا تظهر سجلات الحركة الجوية في قبرص أكثر من ستين رحلة في ليلة الذروة، وهي يوم الجمعة 12 أكتوبر، بالمقارنة برقم ((المائة طائرة يوميا))، ذلك الرقم السحري الذي أثار الرأي الشعبي الأميركي في ذلك الحين ـ والذي أوحى لعمدة شيكاجو ريتشارد دالي أن يقول ((أمضوا إلى الأمام، يا بني إسرائيل، وتأكدوا من إزالة كل عربي عن تراب إسرائيل!)). وحتى لو كانت الطائرات الروسية مليئة، فقد جاءت على أي حال متأخرة ولم يكن من شأنها أن تؤدي إلى شيء أكثر من القضاء على الفوضى التي دبت في صفوف العرب في وجه الهجوم الإسرائيلي المضاد. فبحلول يوم الثلاثاء، 19 أكتوبر، كانت القوات الإسرائيلية قد رسخت أقدامها بصورة جيدة في قطاع على جانب القاهرة من قناة السويس، بينما كانت في الشمال تقترب من ضواحي دمشق.

    ولكن هنري كيسنجر لم يعد يفكر بعد 13 أكتوبر ضمن نطاق الحقائق الموجودة في الميدان. فقد رأى نفسه محشورا مرة أخرى في صراع الإرادات الذي خاضه في أركان أخرى من الكرة الأرضية. وكان يقول إنه لا يحب السماح للروس بأن يعتقدوا بأن في وسعهم أن يفعلوا ما يريدون، ويوم 5 أكتوبر 1973 أعطيت طائرات سلاح الجو الأميركي التي كان يجري تحميلها منذ بضعة أيام، أوامر بالإقلاع نحو تل أبيب.

    بعد يومين من ذلك حدد موعد لعمر السقاف في نهاية الأمر في البيت الأبيض. كان السعودي غاضبا من ملاحظة وجهت إليه خلال مؤتمر صحفي في اليوم السابق.

    قال أحد الصحفيين إن السعوديين يستطيعون أن يشربوا نفطهم.

    ورد السقاف بمرارة ((حسنا، سنفعل ذلك)).

    لم يكن السقاف، شأنه شأن وزراء الخارجية العرب الثلاثة الذين رافقوه، من الجزائر والكويت والمغرب، مسرورا بأنه أبقي منتظرا بينما تجادل نكسون مع جماعته بشأن حادث سطو.

    كان كيسنجر في ذروة مزاجه التوفيقي: ((سنكون ((الرئيس وأنا)) أكثر نشاطا بمجرد أن تنتهي الحرب. سنقوم بجهد دبلوماسي كبير… إن أي وقف إطلاق نار يتم الآن يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كفاءة وبسالة الأسلحة العربية… إننا ندرك الحقائق الجديدة في الشرق الأوسط)). وأضاف نكسون، عندما انتقل وزراء الخارجية إلى المكتب البيضاوي: ((لن تقيدنا الأمور السياسية الداخلية. وسنصوغ سياستنا الخارجية على أساس مصالحنا القومية)).

    كون السقاف انطباعا إيجابيا. وأبلغ الصحفيين المنتظرين بعدئذ بأن الرئيس نكسون قد وعد بتسوية ((سلمية، وعادلة ومشرفة)). كان الرئيس قد نجح في إحلال السلام في فيتنام والآن سيجلب السلام إلى الشرق الأوسط أيضا. ورفع السقاف تقريرا إيجابيا إلى الملك فيصل،وبدت السياسة السعودية القائمة على التحذير المنضبط وكأنها قد نجحت. ولكن السقاف وفيصل لم يفطنا إلى تأثير الإمدادات الجوية الروسية المستمرة على بواعث قلق هنري كيسنجر وريتشارد نكسون المتصلة بالحرب الباردة ـ بينما أخذ الأميركيون، من جانبهم، يشكون في أن العاهل السعودي المتقدم في السن سيطبق أبدا عقوبته النهائية كما هدد تطبيقا فعليا. ويوم الخميس، 18 أكتوبر، أي اليوم التالي لاستقبال ريتشارد نكسون المبعوث الشخصي للملك فيصل بتلك المجاملات والوعود باتخاذ إجراءات متعاطفة، تقدم رسميا إلى الكونجرس بطلب معونة عسكرية طارئة لدولة إسرائيل لم تقل قيمتها عن 2.2 بليون دولار.

    وعندما ثارت العاصفة، زعم الناطقون باسم وزارة الخارجية الأميركية أنه ما كان يجب أن يندهش أحد. وقالوا إن الرئيس لم يطلب إلا مجرد موافقة شكلية من الكونجرس على عملية الإمدادات الجوية لإسرائيل التي يعرف الجميع أنها جارية منذ يوم الاثنين السابق لموازنة نجدات روسيا للعرب. ولكن مبلغ 2.2 مليون دولار كان مبلغا ماليا ضخما فائقا للعادة. وكان أكثر من تعديل لميزان القوى. وشكل رجحانا هائلا لصالح إسرائيل، إذ كان الإسرائيليون أنفسهم قد قدموا طلبات نظر فيها البنتاجون ولم يزد ثمنها على 850 مليون دولار ـ وكان ذلك مقدار النجدات الأميركية الذي اتفق عليه.

    ولكن الرئيس نكسون نظر بعدئذ إلى الإمدادات الجوية الروسية، فلم يبد مبلغ الـ 850 مليون دولار كبيرا جدا في نظره. وقال الرئيس: ((إذا كنا سنقدم المعونة، فلنجعلها كبيرة)).

    كان من شأن نجدة ضخمة فعلا أن تثير إعجاب الإسرائيليين وتؤثر عليهم، وأن تستميل الرأي الموالي لليهود في الوقت الذي كان فيه الرئيس المحاصر بفضيحة ووترجيت في حاجة ماسة إلى التأييد، وأن تشكل ضربة قوية للروس. قال نكسون مفتخرا لجولدا مائير بعد أسبوعين من ذلك: ((لا أؤمن أبدا بتمثيليات صغيرة عندما تكون قضايا كبيرة معرضة للخطر)). وقال إن العرب سيغضبون مهما يكن العون الذي يرسله.

    كانت غريزة المبالغة ذاتها هي التي أدت بالرئيس الأمريكي، يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، إلى وضع جميع قوات الولايات المتحدة في حالة استنفار نووي. وكان الأمر من حيث المظهر وحده، كما علق أحد مساعدي كيسنجر ((معبرا عن طبيعة نكسون)). وقد تبجح الرئيس المخلوع في مذكراته بعدئذ بأن الـ 550 رحلة التي قامت بها الطائرات الأميركية إلى تل أبيب في فترة أكتوبر ـ نوفمبر 1973 مثلت ((عملية أكبر من جسر برلين الجوي في فترة 1948 ـ 1949 مع أنه يقول في فقرته التالية ((والواقع، أن الإسرائيليين كانوا قد بدأوا في قلب اتجاه المعركة وحدهم)).

    هنري كيسنجر، على الأقل، ساورته شكوك. إذ قال في غضون أسابيع من القرار الذي شارك فيه نكسون ((لقد ارتكبت خطأ)). وهو يقول اليوم ((إذا ما نظرنا إلى الوراء، وجدنا أن ذلك لم يكن أفضل قرار مدروس توصلنا إليه)).

    لقد كان قرارا كلف أميركا والعالم المستهلك للنفط برمته ثمنا باهظا. كان يمكن للرئيس ووزير الخارجية أن يدركا أن عمر السقاف، وهو يحمل رسالة فيصل الشخصية إلى نكسون، كان في نظر العاهل السعودي إمتدادا لنفسه، وأن فيصل الذي كان يكافح ضد تطرف زملائه المنتجين للنفط، اعتبر نفسه مدافعا عن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية. ولو كان نكسون أو كيسنجر قد عبرا عن قلقهم من النجدات الروسية عن طريق السقاف، لكان هذا قد خفف الصدمة ولكنهما لم يعطيا أي تحذير. فغادر السقاف البيت الأبيض حاملا انطباعا بأن الأميركيين يحترمون وجهة النظر السعودية، واعتبر فيصل نبأ إجراءات إنقاذ إسرائيل إهانة شخصية مباشرة. فإما أن نكسون لم يأبه بأخذ مشاعر حلفائه السعوديين بعين الاعتبار، أو أنه لم يأبه بمشاعرهم ـ وفجأة أصبح أفضل صديق لأميركا في العالم العربي أكثر أعدائها ضراوة.

    الجمعة هو يوم عطلة في الرياض، ولكن الملك فيصل كان في مكتبه في يوم الجمعة، 19 أكتوبر 1973، عندما تسلم برقية ريتشارد نكسون التي بين فيها، بعد تنفيذ القرار، الأسباب التي دعته إلى إرسال نجدة ضخمة لإسرائيل. وكان مع الملك فيصل عمه عبد الله بن عبد الرحمن. وكان معه أيضا رشاد فرعون.

    واستدعى أحمد زكي يماني هاتفيا فوصل وزير البترول إلى قصر الرئاسة بعيد الثامنة مساء.

    قال يماني ((نشرة الأخبار التلفزيونية تذاع في التاسعة. إذا اتخذت قرارا الآن، ففي وسعك تأمين إذاعته فوراً)).

    قال الملك ((أكتب ما يلي))، وبعد أقل من ساعة أبلغ العالم بالنبأ. لقد أعلنت المملكة الجهاد بأمر صريح من الملك فيصل وتم، كجزء من ذلك الجهاد، إصدار أمر بإيقاف جميع شحنات النفط إلى الولايات المتحدة فورا. كان غضب رجل كهل واحد على وشك أن يولد نتائج لم يحلم بها أحد.
    [align=center][/align]

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني