النتائج 1 إلى 14 من 14
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي المرحوم العلامة محمد أمين زين الدين: الأخلاق عند الإمام الصادق عليه السلام

    الأخلاق عند الإمام الصادق (ع)

    العلامة محمد أمين زين الدين

    توطئة

    (1)

    للبيان حق الإيضاح والتصوير، وللفكر سلطة النقد والتحليل، وللحق فوق هذا وذاك حكومة عادلة تنير الهدى للبصير، وترغم العادي بالحجة، والكاتب مدين للحق في تفكيره، قبل أن يكون مديناً في تصويره.

    للكاتب ان يتفنن في حديثه ما يشاء له الذوق، وأن يتعمق في بحثه ما تسمح به قوة النظر، ولكن عليه قبل ذلك أن يتخذ من الحق دليلاً، ومن العلم الصحيح مرشداً، عند ما يريد ان يعرض على قرائه عظيما من عظماء الإنسانية، ومعجزة من معجزات القرون، ولاسيما إذا كان هذا العظيم من أمثال جعفر بن محمد الصادق، مثال العقل السامي، والإنسانية الكاملة.

    ستعترض الباحث في طريقه أسرار، وستقف أمامه شؤون وألغاز، يقف دون حلها وقفة الحائر ولعله يرجع عنها رجعة الخاسر، إلا أن يسترشد بهدى العلم الصحيح.

    أقف عند ملتقى الخطوط من عبقرية الإمام جعفر بن محمد فتتملكني دهشة لم أكن أعهدها لنفسي، ويكاد اليراع ان يكبوا من يدي، وتموت الكلمات على شفتي. لم يعودني عليه البيان من قبل، ولم يخني في مثله التفكير.

    تلك هي مزالق الفكر البشري المحدود إذا أراد ان يسمو إلى آفاق غير محدودة، وحيرة المصور حين يلتقي بأضواء غير متناهية.

    بماذا يحيط الفكر المحدود من هذه الآفاق ليخصه بالتحليل، وماذا يعين المصور من هذه الأضواء المتشابكة ليفرده بالتصوير، أي النواحي من الإمام جعفر بن محمد أقدمها للقراء, وأية خاصة منه أتناولها بالبحث، وكل ناحية منه حرية بالبحث وكل خاصة منه جديرة بالتحليل، كل نواحي جعفر بن محمد علم، وكل خواصه إِعجاز..

    وبعد أمر وأمر اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وليس عليّ أن يرتضي جميع القراء مني هذا الاختيار، مادمت حراً في الإرادة وكانوا أحراراً مثلي، ومادام علم الأخلاق من النفائس النادرة في ميراث الإمام، وكل إرادته واختياره.

    الأخلاق هو العلم الذي يبعث الكمال في النفس البشرية, وينمّي القوة والاستقلال في العقل البشري، وهو العلم الذي يساير الإنسانية في اتجاهاتها، ويوجهها عند حيرتها، ويأخذ بيد العقل عند اضطرابه، ويمده بالقوة عند ضعفه، وعلم الأخلاق هو الرسالة العامة التي يجب على كل حي مدرك ان يبلغها إلى كل حي مدرك، وهو الأمانة الكبيرة التي يجب على كل كائن عاقل ان يؤديها إلى كل كائن عاقل.

    لهذا ولأمثاله اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وان لم يكن أجلَّ مميزات الإمام ولا ابرز خواصه، على أن للإمام عناية خاصة بعلم الأخلاق تكفي الباحث حجة على هذا الاختيار، ومن أثر هذه العناية أن طابع علم الأخلاق يكاد يظهر على كل كلمة نقلت عن الإمام وعلى كل أثر نسب إليه.

    لم أقصد في بحثي هذا ان أتحدث عن الوجهة الخلقية في نفس الإمام الصادق (ع) فإن هذه الوجهة نفسية تهم الباحث عن عظمة الإمام في شخصيته، أما الذي يبحث عن عظمة الإمام في علمه فعليه أن يتحدث عن علم الأخلاق عنده، وان كانت الوجهة الثانية تكشف عن الأولى في الأكثر.

    (2)

    لم يعتمد الإمام جعفر بن محمد في أخلاقه على نظرية استفادها من فيلسوف، ولا قاعدة أخذها من حكيم، ولكنه استقاها من ينبوع الوحي واستفادها من هدي القرآن، نعم إنه لم ينتسب إلى مدارس الفلسفة في أثينا، ولم يخضع لبيوت الحكمة في الهند ولكن الفلسفة بعض ما تخرج فيه من جامعة القرآن، والحكمة بعض الفروع التي تلقاها في مدرسة أبيه محمد، وإن فتى نمت شبيبته في بيت محمد، وكملت نفسيته بإرشاد محمد، وامتزجت بروحه روحانية كتاب محمد جدير أن يكون غنياً عن فلسفة إِفلاطون وحكمة أرسطو والمثالية ومعتصرات العقول ونسائج الأفكار.

    ولعل أثر هذه التربية يظهر جلياًَ في أحاديث الإمام (ع) وأحاديث الأئمة من آبائه وأبنائه، فإن الباحث قد يجد الأثر الواحد مروياً عن أكثر من إِمام واحد وإِذا استقصى في بحثه وجد الحديث بلفظه ومعناه مروياً عن جدهم الأكبر(ص) فمنه يقتبسون، وإليه ينتهون، كالأشعة من النور، وكالثمرة من الشجرة.

    (3)

    الأخلاق إِحدى الجهات الإنسانية التي عني بها دين الإسلام، واهتم بها اهتماماً كبيراً، والذي يستقصي تعاليم الكتاب وإِرشادات السنة يعلم مقدار هذا الاهتمام، ومبلغ هذه العناية، وهذه الظاهرة من الدين الإسلامي إحدى مميزاته عن سائر الأديان، وإحدى مؤهلاته للخلود.

    وهي جارية على ما تفرضه جامعية الدين، وجفاء أخلاق المتدينين، يوم غرس بذرته، وإذا كان شذوذ الأخلاق ناتجا عن تطرف في الغريزة أو إِسفاف في العادة، او قصور في التربية، وإذا كانت أمراض الروح أشد فتكاً في معنويات الأمة، وأعظم أثراً في إِبعادها عن الخير والسعادة، فجدير بالدين الجامع، وجدير بالمصلح المهذب أن يتكفل إِتمام النقص في الأخلاق، ويتبين مواضع الخلل في النفس، ويعالج الخطر في الغريزة الموبوءة لِيُكَوِّن من الفرد عضواً صالحاً لمكانته من الأمة، ويجعل من الأمة مجتمعاً قابلاً للعلم في سبيل الخير.

    الإسلام دين فردي اجتماعي وهو في إجتماعية فردي أيضاًَ، ينظر الإسلام في سعادة الفرد كما ينظر في سعادة الأمة، ويسعى لتهذيب الشخص كما يسعى لتنظيم المجتمع، وإذا كان صلاح الأمة مشروطاً بصلاح أفرادها كان اهتمام الدين بسعادة الفرد من ناحيتين:

    تهمه سعادة الفرد لأنه ممن يجب إِيصاله إلى الكمال.

    وتهمه سعادة الفرد لأنها شرط في سعادة الأمة. وكلتا هاتين الغايتين يدعوا إليهما الدين الجامع. وإذن فلابد للإسلام أن يكون دين أخلاق، ولابد لقادة الدعوة فيه من بث روح الأخلاق، والإمام جعفر بن محمد أحد أولئك القادة. وبعض حملة ذلك المصباح.

    كلنا نعلم أن الفلسفة الخلقية جزء من التراث القديم، بحث عنها الإنسان حين بحث عن أحوال الوجود، وحين علم أن النفس البشرية من أهم أفراد هذا الوجود وأن أخلاق هذه النفس من أبرز نواحيها، ومن أظهر خواصها، وقد استنفد هذا البحث كثيراً من جهده، وطويلا من زمانه، حتى أتته النتائج منقادة كما يريد.

    ولكن الذي نلاحظه أن العرب في أيامها الأولى لم تكن تسمع عن هذه الفلسفة شيئاً، ولم تلمح منها إلا ظلالا خفيفة أدركتها بغرائزها... نطق بها حكماؤها ونظمها شعراؤها، وان الدين الإسلامي الذي نشأ بين هؤلاء العرب والذي صدع بتعاليمه محمد العربي الأمي قد تعرض لعلم الأخلاق فيما تعرض له من النواحي، فأسس له نظماً وقواعد تتمشى مع أدق الموازين في التطبيق، وأشدها إِحكاماً في القياس، وأكثرها انسجاماً مع الزمان المختلف والبيئات المختلفة.

    نعم تعرض الإسلام لعلم الأخلاق بأساليب وجد العربي الأمي فيها ما أدركه بالفطرة، وقرأ فيها الفيلسوف ما أثبته بالبرهان وأكبر الجميع هذا الشرع الجديد الذي يعضد البرهان بالفطرة ويركز الفطرة على البرهان، ويصلهما جميعاً بوحي السماء ليضمن لهما العصمة في الإنتاج والغزارة في المادة. ولعل الوقت يتسع لنا بعد هذا فنبحث الموضوع كما يقتضي العلم أن يبحث، ولعلنا نحاسب الاُستاذ أحمد أمين عن نظرته إلى الأخلاق في الإسلام، فإن علاقتها باللفظ أشد من علاقتها بالمعنى والاُستاذ حين يتسرع بإرسالها يشبه البسطاء الذين يكتفون في معرفة الشيء بظواهره الشكلية.

    (4)

    علم الأخلاق حق إنساني مشاع، لا يختص بطائفة من البشر دون طائفة,ولا يحتكره فريق دون فريق، وإذا كانت الخاصة هي التي أسست قواعده، وشرعت نظامه، فإن العامة تشابهها في الحاجة، وتشترك معها في الغاية ما دامت للجميع ملكات يجب تعاهدها بالإصلاح، وغرائز يلزم إخضاعها للتوازن، وما دامت لهؤلاء وهؤلاء أعمال يحكم عليها بالخير أو الشر. ولجميعهم حق في السعادة ونصيب من الخير الأعلى.

    ولست أذهب بعيداً حين أقول: حاجة العامة إلى علم الأخلاق أكثر فهو بهم اَلصق، لأن الأمراض الخلقية في العامة من الناس أكثر شيوعاً، وأعظم تفشياً وحاجة المريض إلى الطب أشد من حاجة الطبيب.

    علم الإمام الصادق بذلك، وعلم ان لهؤلاء العامة إفهاماً لا تقبل المصطلحات الغريبة، ولا تستسيغ العبارات البعيدة. فكان لزاماً عليه ان يوضحها لهم على حسب ما يدركون، وان يترجمها لهم بما يفهمون، فكان من أبرع من أوضح، أدق من ترجم، على ان أكثر ما يهتم به المثاليون من قادة الدين هي ناحية التطبيق من علم الأخلاق، لأنها أكثر دخلا في التوجيه الخلقي الذي يهتم به الدين. ولأن الوحي قد كفاهم مؤونة الاستقراء، وأراحهم من عناء البحث والتمحيص.

    (5)

    لعلماء الحديث من شيعة أهل البيت (ع) حرص شديد على تدوين ما لأئمتهم من أقوال وإرشّادات، فهم يجمعون منها كل شاردة وواردة ـ ما تعلق منها بالفقه الجعفري، وما تعلق منها بغيره ـ فكان من نتائج هذا الحرص ان دونت جوامع وجمعت دواوين، وكانت أخلاقيات الإمام الصادق (ع) بعض ما دون.

    تميزت الشيعة بذلك لا لأن نصائح الأئمة كانت خاصة بهم، بل لأنهم أكثر اهتماماً بآثار أئمتهم، وإذا استثنينا هذه الوجهة فلم تكن الشيعة إِلا بعض من تجب له النصيحة في رأي الإمام (ع) فإن حبه للخير والإصلاح يأبى له ان يمنع النصيحة عن أيَّ أحد ينتفع بها.

    لم يبخل الإمام بنصيحة على مسلم يوماً ما، وتعاليمه الخلقية لسفيان بن سعيد الثوري، وزملائه الآخرين من رؤساء المذاهب بينة واضحة على هذه الدعوى، وهو القائل: "خير الناس من أنتفع به الناس" والراوي عن أبيه النبي (ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم " وكل ما تتميز به الشيعة من ذلك أنهم لتعاليمه أسمع، ولأقواله أحفظ ، وان الإمام هو المسؤول عن تهذيبهم، لأنه عميد مذهبهم.

    خلف لنا علم ألا ثر ثروة كبيرة من أخلاقيات الأمام الصادق (ع) يجدها الباحث منتشرة في فصول كتب الحديث، ولاسيما الأخلاقية منها، ولكنه لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام، إذا استثنينا (مصباح الشريعة ) الكتاب الذي آثار بعض علماء الحديث عاصفة الريب في نسبته إلى الإمام الصادق، وكان لهم في أمره شكوك وشكوك.

    نعم ان علم الحديث لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام الصادق (ع) ولكنه حفظ أنا بين طيّاته درراً من أخلاقه، وجواهر من عرفانه، لو اعتنى الباحثون بجمعها لألفوا مجموعة رائعة في العلم

    أما كتاب (مصباح الشريعة ) فإن نسبته إلى الإمام جعفر بن محمد أخذت دوراً مهماً كانت فيه حديث أهل النقد من علماء الحديث، وقد انقسموا فيه إلى شطرين، وكل ما أتى به النافون تشكيك وتردد، ولا يهمنا ان نتعرض لا ثبات هذه النسبة أو نفيها، ولا ان نستعرض أدلة المثبتين وشكوك الناقدين، فإن لهذا النوع من البحث كتباً أخرى، على ان أحاديث الأخلاق والسنن لا تحتاج إلى عناية كبيرة في التوثيق، وقد اعتمد على كتاب (مصباح الشريعة) كثير من علماء الحديث، وصححه جماعة من الأ ثبات، وهذا كاف في صحة الاعتماد عليه.

    سماحاً أيها القارئ الكريم: لقد اطلنا بك الوقوف على المنعرجات، وتشعبت بنا الطرق عن الغاية، ولابد للكلام عن هذه النواحي ان يطول، فلنسر بعد هذا إلى غايتنا وكان الله معنا.

    محمد أمين زين الدين
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الأخلاق عند الإمام الصادق (ع)

    العلامة محمد أمين زين الدين



    الخلق

    "إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً"

    "فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق"

    الإمام الصادق (ع)

    الخلق

    كلمة الخُلُق تستعمل في اللغة بمعنى السجية، وبمعنى الطبع، والعادة، والدين، والمروءة. وقد ذكر اللغو يون لكل واحد من هذه المعاني شواهد من أقوال العرب وأمثالها.

    وبين هذه المعاني صلة قريبة تكاد تجمعها في إطار واحد. ولعل معنى الكلمة في اللغة واحد وهذه المعاني إفياؤه وظلاله، ولعل هذا المعنى الواحد في اللغة هو الذي يعرفه الخُلُقيون من هذه الكلمة أيضاً، وان كانت النصوص اللغوية قاصرة عن إثبات ذلك.

    والخلقيون يعرفون من معنى هذه الكلمة إنها ملكة من ملكات النفس، ويقولون ان أظهر خاصة تتميز بها هذه الملكة هي صدور الأفعال عن الإنسان من دون إِمعان فكر أو أعمال روية.

    ويقول بعض الخلقيين (الخلق صورة الإرادة)[1][1] ولعل هذه القائل يحاول ان يبدل البيان ببيان آخر أكثر منه وضوحاً، وأوفى شرحاً، إلا إنه لم يفلح في هذه المحاولة فاضطره الغموض إلى شرح طويل، أبعد فيه المعرف عن التعريف، وإذا كان يريد من لفظ الصورة: الملكة الكامنة في النفس، والمسخرة للإرادة حين العمل لم يكن بين التعريفين مخالفة.

    لكل إنسان في نفسه صفات كثيرة العدد، متباعدة الآثار؛ كالوفاء، والصدق، والسخاء، والشجاعة. وهذه الصفات مصدر لأكثر أعماله، والخلق من هذه الصفات النفسية هو ما تركز في النفس، وانطبعت به انطباعاً كاملاً.

    والعلماء الخلقيون يبحثون في الدرجة الأولى عن هذه الملكات النفسانية من حيث إنها تتصف بالاعتدال والانحراف وتقبل التحوير والتهذيب، أما الأعمال التي يصدرها الإنسان باختياره، والتي يحكم عليها العقلاء بالخير أو بالشر فيسميها الخلقيون سلوكا، ويبحثون فيها بحثاً ثانوياً، من حيث إنها مظهر خارجي للخلق الكامن، ولأن العمل من ناحية أخرى هو المفتاح لتهذيب، الصفة النفسية إذا كانت منحرفة، ولانحرافها إذا كانت مستقيمة.

    ولذلك فلا يمكننا ان نعتبر العمل الاختياري موضوعاً لعلم الأخلاق، وان أصر على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين[2][2] وأطال في شرحه وإيضاحه، لا يمكننا ذلك لأن هذا الرأي لا يتفق مع أصول العلم.

    موضوع هذا العلم هو (الخلق ) والخلق صفة نفسية وليست عملاً من الأعمال، وان كان العمل الاختياري مظهرها الخارجي، والأستاذ يقيم على هذا التأسيس أشياء أخرى قد نعرض لبعضها فيما يأتي.

    والخلق لا يمكن أن يكون وليد مصادفة، ونتيجة اتفاق، لأن الأخلاق ملكات، ولابد للملكات من أسس كما لابد للبناء من قاعدة، وأسس الخلق: الغريزة، والوراثة، والبيئة، والتربية، والعادة. والفلاسفة القدماء حين يقولون: "يولد الإنسان صحيفة بيضاء يرسم فيها المربي ما يشاء" يريدون بذلك أن نفس الطفل مرنة الغرائز، سريعة التأثر والانطباع باشارات المربي وإِرشاداته، لأن غرائز الطفل لا تزال بعد في جدتها، لم تسيره إلى وجهة خاصة، ولم تكسبه خلقاً معيناً، فهي قابلة للتوجيه، ومستعدة للتهذيب، وإذن فهم يريدون من بياض صحيفة الطفل خلو نفسه من الملكات الخلقية، لا عريها عن الغرائز والطبائع الموروثة، والمربي يكسبها أخلاقاً لا ينشىء فيها غرائز، وهم يقولون هذا في الرد على من يقول: الإنسان خيِّر بالطبع، ومن يقول: هو شرِّير بالجبلَّة.

    ولنترك الأستاذ أحمد أمين يفسر قولهم هذا بما يشاء ليخطئهم في الرأي، وليدل على خطأهم بأعمال الغريزة في الإنسان حين يولد، لقد فسر على ما اشتهى، ثم أشكل على ما فسر.

    أما قانون الوراثة الذي أشار إليه الأستاذ هنا، والذي بني عليه هدم هذه النظرية فلا يدل على أن الطفل يرث من أسلافه أخلاقاً، وكل ما يدل عليه أن الطفل يرث منهم مبادئ أخلاق، واستعداداً في غرائز، والفلسفة القديمة لا تنكر ذلك، والشرع والأدب العربي القديم يعترفان بذلك أيضاً. وتأثير هذه الأسس في تكوين الخلق الإنساني ليس على نهج واحد، فإن الغرائز تظهر أشكال ميول ورغبات، والوراثة تحوير في استعداد الغريزة، وأثر التربية أو البيئة توجيه النفس عند إرادة العمل، وأثر العادة تثبيت الصفة الحادثة إحالتها خلقا، وإذن فمبادئ الخلق تنحصر في صنفين:

    (1) اختياري يفتقر وجوده إلى إرادة الإنسان واختياره، ومن هذا القسم: العادة؛ وبعض مفردات التربية، والبيئة، كالمدرسة والأصدقاء.

    (2) اضطراري لا حكومة لإرادة الإنسان على وجوده وان كانت لها حكومة على تأثيره، ومن هذا القسم: الغريزة. والوراثة، والبعض الآخر من مفردات البيئة والتربية.

    والإمام الصادق (ع) يصرح بهذا التقسيم فيقول: (إن الخلق منحة يمنحها الله خلقه فمنه سجية، ومنه نية) ويفسر لفظ السجية بالجبلة في بقية الحديث فيقول: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره؛ وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً فهو أفضلهما)[3][3] ويقابل السجية بالنية وهي الإرادة.

    ومعنى الحديث ان الخلق الحسن منه ما تسوق إليه الجبلة، وتبعث إليه الفطرة، وهذا القسم لا يجد الإنسان صعوبة في تكوينه، ولا في الاستمرار عليه، ومنه ما يكون على خلاف ميول الإنسان ورغباته؛ وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى مجاهدة النفس في تكوينه، وإلى مصابرتها في الاستمرار عليه، فهو أفضل القسمين؛ وإرجحهما في الميزان.

    وإذا وجهنا نظرة فاحصة نحو هذه الأسس رأينا للعادة خاصة لا تتمتع أخواتها الأخرى بنظيرها، للعادة ان تستقل في تكوين أي خلق من أخلاق الإنسان، وليس للغريزة ولا للأسس الأخرى مثل النفوذ والاستقلال، لأن الخلق ملكة، والملكة لا تتكون للنفس إِلا بتكرار العمل[4][4]

    ونتيجة هذا ان جميع الأسس الأخرى محتاجة إلى انضمام العادة إليها في تكوين الخلق النفسي، وان للعادة سلطاناً على تغيير كل خلق يتصف به الإنسان، وان للعقل سيطرة على تهذيب الغرائز، لأن له سلطاناً على تحوير العادات.

    والإمام الصادق (ع) يقرر هذه النتيجة فيقول: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية)[5][5]

    تهذيب الغرائز النفسية جهاد، وفي الخروج على مؤثرات البيئة والوراثة عناء وصعوبة، ولكن جميع ذلك سهل على الإرادة القوية، ولا خير في الرجل إذا لم يكن قوي الإرادة.

    ويقول أيضاً: (ان الله ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق)[6][6] الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده إكراماً لهم وامتناناً عليهم، به ينجحون في الدنيا، وبأتباعه يفلحون في الآخرة، فيجب عليهم ان يجاهدوا الخلق السيئ من أنفسهم، لأن الإقامة على الأخلاق السيئة إساءة لا تلتئم مع قدسيَّة الإسلام، هكذا يقول الإمام الصادق في حديثه هذا، وإذن فهو يرى ان تهذيب الأخلاق ممكن وان كان جهاداً، وعلى هذا النهج وبمثل هذه النغمة يقول: (من أساء خلقه عذب نفسه)[7][7].

    سوء الخلق عذاب يختاره الإنسان لنفسه إذا أساء خلقه، وهو جحيم يجب على العاقل ان يتخلص منه، هو عذاب لأنه ضعة في النفس وخمود في العقل ،وهو عذاب لأنه نقص في الإنسانية، وشذوذ عن التوازن، وهو عذاب يختاره الإنسان لنفسه، لأنه هو الذي يسعى في تكوينه، والإمام بقوله هذا يحاول أن يجعل من إرادة الإنسان سلاحاً ماضياً لكفاح الرذائل ومحاربة النقائص.

    ومن الخلقيين من يرى ان الأخلاق انطباعات نفسية يستحيل عليها التحوير والتهذيب، فليس للعقل عليها آية حكومة, وليس للإرادة على تغييرها آية قدرة، وهذه نظرية مجحفة تهدم بناء السياسات وتلغى فائدة التشريع، وتبطل نظم الأخلاق وهذه النتائج وحدها كافية في إبطال هذا القول.

    أما قول الإمام الصادق في حديثه المتقدم: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره) فلا يعني به أن من الأخلاق ما يستحيل عليه التهذيب؛ وإنما يعني أن تكوين الخلق بسبب العادة فقط أكثر صعوبة على الإنسان مما إذا تساعدت على إنشائه الغريزة والعادة، فإن الإرادة إذا صادفت ميلاً غريزياً أسرعت إلى العمل، وبتكرار العمل تحصل العادة، ويتركز الخلق، وهما عند المكافحة والتهذيب على العكس من ذلك، لأن تغيير مجرى العادة أسهل بكثير من تعديل مجرى الغريزة.

    وطالما سماه الصادقون من أهل البيت (ع) جهاداً وما أحقه بهذه التسمية، لأن الثبات فيه يستدعي حزم المجاهد وللمناضل فيه أجر المجاهد، وقد قال أبوهم النبي (ص) لبعض سراياه عند رجوعها من الحرب، (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر[8][8].

    ثم فسر لهم الجهاد الأكبر الذي بقي عليهم بجهاد النفس على أخلاقها، وقال الإمام الصادق (ع): (واجعل نفسك عدواً تجاهده)[9][9]. وهو يريد بالنفس هنا ملكاتها الوضيعة. ومن أحق بالمجاهدة من هذا العدو المخادع، والخصم الألد، الذي يحمل سلاح العذر تحت ستار النصيحة، ويمزج السم القاتل بحلاوة الأمل هي عدو داخلي يحب اخضاعه بقوة العدل لحكومة العقل
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    السعادة والخير

    "السعادة سبب خير بتمسك به"

    "السعيد فيجره إلى النجاة"

    الإمام الصادق (ع)

    (2)

    السعادة والخير

    يستطيع الكائن الحي[10][1] أن يصدر من الأعمال ما يعاكس بها نظام الجذب العام، والجماد والنبات لا يقدران على ذلك، يستطيع الحيوان أن يتسلق الجبل مثلاً، وأن يتنقل حيث تقوده الرغبات وتسوقه المطامع. وماء البحر لا يستطيع ذلك من نفسه، ولا يفعله إلا حين يكون مقسوراً، وهذا يدلنا على أن للكائن الحي قوة نفسية تميزه بهذه الخاصة عن جميع ما يشاركه في الوجود، وهذه القوة النفسية هي الإرادة، وقديماً عرف المنطقيون الكائن الحي بأنه "المتحرك بالإرادة".

    وهذه القوة النفسية " الإرادة " واحدة في العدد، ونسبتها إلى جميع الأعمال التي يصدرها الحيوان نسبة متساوية، ولذلك فكان من المستحيل على الإرادة أن تتوجه إلى نقطة معينة من الأعمال إذا لم تعينها نفس ذلك الموجود الحي، ونتيجة جميع ما تقدم أن للحيوان إرادة تصدر عنها أعماله وتصرفاته، وأن لهذه الإرادة أغراضاً توجهها إلى ما تعمل والى ما تترك، وبهذا يشترك الإنسان مع جميع أفراد الحيوان.

    وينفرد الإنسان عنها بأن أغراضه مسبوقة بالتعقل والتدبر، فهو الذي يستطيع أن يعلل ويتفكر، ويقارن بين الأشياء وأضدادها، ويقيس المستقبل بالحاضر فيختار الجيد من الأمور، والمثلى من الغايات، أما الحيوان فيسوقه الوهم إلى أتباع الغريزة فيما تأمر وما تحذر، وليس له وراء الغريزة والوهم قائد ولا سائق.

    توجه الطبيعة غرائز الحيوان وميوله، فتتبعها إرادته تنفذ ما تأمر، وليس له اختيار كامل يمكنه أن يستقل به عن أحكام الطبيعة وميول الغريزة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع ذلك، فهو الذي يصدر أحكامه على الغريزة، ويغير أحكام الطبيعة، ويصنع العجائب بإرادته واختياره.

    وللإنسان نزعة نفسية ثابتة، وهي حب الجودة، فهو يتكلف الجيد من الأعمال ويتحرى الجيد من الغايات، وهو يحاول أن يكون سابقاً في أعماله، وأن يكون جميلاً في كل مظهر من مظاهره، ثم هو يحب المدح ويلتذ لسماعه، وهذا يدلنا على ان الغاية الأولى للإنسان هي الكمال المطلق، وان الجودة التي يتمناها لصفاته، ويتوجه إليها في جميع أعماله إنما هي مظهر من مظاهر هذا الكمال الذي تنتهي إليه جميع غاياته، وترتبط به جميع مقاصده، وإذا علمنا أن علم الأخلاق يبحث في صفات الإنسان، وأعماله وفي كيفية تهذيبها، وإرجاعها إلى التوازن فقد إتضح لنا أن غاية علم الأخلاق هي إيصال الإنسان إلى الكمال المطلق في أخلاقه وأعماله، وإذا كان هذا بنفسه تعريف السعادة على ما يقوله بعض الفلاسفة المقدمين كانت النتيجة ان غاية علم الأخلاق هي السعادة للإنسان.

    "سعادة كل كائن حصوله على كماله الذي قد تهيأ له" بهذا يحددون معنى السعادة ثم يقولون في تعليله: ان الوجود على الإطلاق خير، وإذا كان الخير مما يقبل التفاضل بين أفراده، كان كمال ذلك الوجود خير ذلك الخير، وإذن فالكمال المطلق الذي يتوجه إليه الإنسان في أعماله وصفاته هو"الخير الأعلى "، وهذا هو تعريف السعادة عند ارسطوا فالتعريفان يشيران إلى معنى واحد، على ان بين السعادة والخير فرقاً من وجهة أخرى.

    ويرى قوم من الفلاسفة: ان الغاية. الأولى للإنسان من جميع أعماله هي اللذة[11][12][2] وقد أخذت هذه النظرية دوراً مهماً بين الفلاسفة المحدثين، ومن أهم ما يؤخذ عليها من وجوه النقد.

    (1) ان الغاية هي النتيجة التي يهدف إليها العامل ويوصل إليها العمل، ولذلك فيجب ان تكون متأخرة عن العمل في الوجود، واللذة تصاحب العمل في أكثر الأحيان وتنتهي بانتهائه، فلا يمكن ان تعتبر غاية له.

    فمن يتقدم للدفاع عن وطنه، أو للجهاد عن دينه، يجد لعمله هذا لذة حين هو يدافع أو يجاهد، ولكن هذه اللذة ليست غايته، من جهاده أو دفاعه لأنها تقارنهما في الوجود، وغاية الشيء لا تقارنه، ثم هو قد يقتل، وقد يحول دون فوزه في الجهاد حائل فلا تستمر اللذة إلى ما بعد العمل فكيف تكون غاية له، وفي كثير من الأشياء تكون اللذة حين العمل أشد منها بعد انتهائه.

    (2) وان الإنسان قد يصدر أَعمالاً بدافع من غريزته قبل ان يعلم ان هذه الأعمال سارة

    أو مؤلمة، واللذة والألم شعوران لا يحصلان للنفس إلا بعد الاختيار والتجربة.

    فالطفل حين يرتضع ثدي أمه لأول مرة، وهو حين يبكى إذا تأخر عنه الرضاع لأول مرة إنما يعمل ذلك بدافع من غريزته إلى الرضاع أو إلى البكاء، لا لأنه يجد لذة في الرضاع أو يحس بألم في الحرمان، لأنه لم يختبر ذلك بعد.

    على ان الأنصاف يقتضينا ان نعتدل في الحكم على هذه النظرية بالصحة أو بالفساد، فهي ليست بمطلقها صحيحة لما قدمناه من الأدلة ولما لم نذكره منها حذراً من الإطالة، وهي ليست بمطلقها فاسدة، لأننا نجد الإنسان يصدر بعض أعماله مجرد اللذة ولا يتطلب منها غاية أخرى.

    وإذن فالفعل الذي يعمله الإنسان بإرادته واختياره يكون على قسمين:

    (1) أخلاقي: وهو الذي يكون مظهراً للخلق الصحيح والذي يكون صدوره بإشارة العقل وإرشاده، وهذا هو الذي يجب ان تكون غايته هي الكمال الإنساني المطلق، وإذا أعقبت هذا النوع من العمل لذة فهي شيء آخر يصحب الغاية؛ يتقدم عليها أو يقارنها في الوجود.

    (2) غير أخلاقي: وهو الذي لا يعد كذلك، وفي هذا الصنف من العمل الاختياري قد تكون الغاية هي اللذة، وقد تكون الغاية هي الكمال، وقد تكون شيئاً يتوهمه الفاعل كمالا.

    وسواء ثبت ان اللذة بمطلقها خير أم لم يثبت، فلا يسعنا التصديق بأن السعادة هي اللذة مادامت السعادة هي الخير الأعلى وكان أكثر اللذات مصحوباً بالألم.

    لبعض الفلاسفة ان يجعل الغاية من جميع الأعمال هي اللذة، ولهم ان يختلفوا في تعيين هذه اللذة وتوصيفها، وللأستاذ أحمد أمين ان يفسر معنى السعادة " باللذة والخلو من الألم " إذا أحب ان يختار هذا التفسير على ان يكون ذلك رأياً خاصاً له في معناها، ولكن ليس له ان يجعل ذلك تفسيراً للسعادة عند جميع الفلاسفة.

    نحن لا ننكر ان من الفلاسفة من يوافق الأستاذ على هذا التفسير، ولكننا ننكر عليه ان يجعله رأياً للجميع فيقول: "ويعنون بالسعادة اللذة والخلو من الألم".

    السعادة هي الخير الأعلى، بهذ1 تعرفها الخاصة، وهذا ما تفهمه العامة من معناها أيضاً، وإذا تجدد بين الفريقين اختلاف بعد ذلك فإنما هو في تعيين أفراد الخير الأعلى، فإن الخاصة تعرف من الخير الأعلى مثالية سامية، لا تدركها عقول العامة، وللعامة في تحديده رأي قصير لا تذعن له الخاصة.

    تدرك العامة من الخير الأعلى معنى بسيطاً تحدده لها أنظار بسيطة، فترى أن السعادة هي الثروة، والصحة، والرفاه، لأنها لا تعرف من الخير الأعلى غير هذا وما يشبهه، والخاصة لا ترى في ذلك ما يسمى كمالاً، ولا تعد الحصول عليه سعادة، إلا إذا كان السعادة معنى آخر[12][13][3].

    وكمال النفس عند هؤلاء ارتقاؤها إلى المراتب العقلية الرفيعة، واستيفاء حظها من الإنسانية الكاملة وبين هاتين الطائفتين طبقات متوسطة تعرف من الكمال ومن الخير الأعلى غير ما يعرفه هؤلاء جميعاً فتكون السعادة عندهم شيئاً آخر.

    أما الإمام الصادق (ع) فيقول: "دعامة الإنسان العقل ـ وبالعقل يكمل "[13][4] ويقول: " اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب "[14][5] ويقول: " أن الإيمان أفضل من الإسلام وان اليقين أفضل من الإيمان، وما من شيء أعز اليقين " [15][6] ويقول " إِن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط"[16][7].

    وهذا الرأي هو الذي يقرره المثاليون من الفلاسفة فهم يقولون: الكمال رقي النفس في مراتبها العقلية، والإمام يقول (الروح والراحة في اليقين ) واليقين أعلى مراتب الحكمة والإنسانية الكاملة التي يقولون بها هي الإيمان الكامل الذي جعله أفضل من الإسلام ومن مطلق الإيمان ولعلك تلمس من لفظ الروح في قوله؛ معنى اللذة في قولهم؛ لأنه يقابله بالهم والحزن وإذن فالكمال في الرأيين بمعنى واحد وحصول ذلك الكمال للإنسان هو الخير الأعلى أو السعادة. وقد يكون هذا معنى النجاة في قوله (السعادة سبب خير يتمسك به السعيد فيجره إلى النجاة) [17][8] وإذا أردت ما هو أكثر صراحة في ذلك فهو يقول (إذا منّ الله على العبد جمع له الرغبة في المعروف والقدرة والإذن فهنالك تمت السعادة والكرامة)[18][9].

    للإيمان في رأي الإمام الصادق طرفان: اعتقاد وعمل. ومرتبة اليقين هذه تأخذ بالاعتقاد إلى حد الكمال وتبسط على العمل فضيلة التوازن وبذلك يحصل الإيمان الكامل الذي هو أفضل من الإسلام ومن مطلق الإيمان، وتتم السعادة والكرامة.

    ويقول الإمام أيضاً (لا ينبغي لمن لم يكن عالماً أن يعد سعيداً )[19][10] وكيف ينال السعادة من حرم كمال العلم، وكيف تحصل الإنسانية الكاملة لمن يقوده الجهل.

    الخير

    علمنا ان كل تصرف يصدره الإنسان باختياره فهو مسبوق بالتفكير في نتائجه وبالموازنة بين الجهات المرجحة لفعله ولتركه. وإذن فهنا أشياء نشتاق إليها في نفوسنا ونتوسل إلى تحصيلها بأعمالنا ونعد الفعل الذي يوصلنا إليها راجحاً. وهنا أشياء أخرى ننفر منها بمقتضى طباعنا ونجتنب العمل الذي يؤدي بنا إليها ونعده مرجوحا. وقد أطلق الخلقيون على الأشياء الأولى كلمة الخير وعلى الأشياء الثانية كلمة الشر وهم يحكمون على العمل بأنه خير أو شر بملاحظة ما ينتجه من الجهات المذكورة، وإن اختلفوا في موازين الخير والشر والمقاييس التي تقاس بها الأشياء ليعلم أنها خير أو شر وقد يوجهنا البحث إلى هذه الناحية فيما يأتي:

    (الخير هو موضوع جميع الآمال ) هكذا يقول أرسطو في تعريف الخير[20][21][11]. ويقول فيلسوف آخر "الخير ما يتشوقه الجميع " ويقول ثالث "هو ما يقصده الجميع في أعمالهم " وبين هذه التعاريف فروق واضحة إلا أنها تجتمع على الجهة التي ذكرناها.

    ولفظ الخير عند الخلقيين القدماء يحكي معنيين متناسبين وللتفرقة بينهما يصفون أحد هما بالخير المطلق والثاني بالخير المضاف، والتعاريف المتقدمة تحدد الخير بمعناه الأول.

    والخير المضاف هو كل وسيلة توصلنا إلى الخير المطلق والفارق بينهما هو الفارق بين الوسيلة والغاية، أو بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى.

    قد توصلنا الغالية إلى غاية أخرى أسمى منها فتكون الغاية الأولى خيراً مضافاً لأنها أوصلتنا إلى الخير المطلق ولنا ان نعتبرها خيراً مطلقاً أيضاً لأنها غاية بعثنا إليها الشوق وتوسلنا إلى حصولها بالعمل.

    والإمام الصادق (ع) يذكر المعنى الأول من الخير فيقول: " جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا "[21][12]. ويقول " السعادة سبب خير يتمسك به السعيد فيجره إلى النجاة "[22][13].ويذكر المعنى الثاني فيقول " إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره " [23][14] ويقول: " افتتحوا نهاركم بخير، وأملوا على حفظتكم في أوله خيراً وفي آخره خيراً "[24][15] ويقول: " احسن من الصدق قائله وخير من الخير فاعله"[25][16
    ].
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الاعتدال والانحراف

    " ومن كان عاقلا كان له دين"

    "ومن كان له دين دخل الجنة "

    الإمام الصادق (ع)

    (4)

    الاعتدال والانحراف

    الغرائز قوى فطرية تسوق إرادة الحيوان إلى العمل، وتظهر في الإنسان على أشكال ميول ورغبات، ولذلك فالخلق النفسي مدين في وجودة للغريزة قبل أن يكون مديناً للعادة (لأن الغريزة هي الدافع الأول إلى إيجاد العمل. والعادة هي الدافع الثاني إلى تكراره ) والغريزة تبذر الخلق في النفس لتنمية العادة، والغريزة تعين الغاية التي تتوجه إليها الإرادة ثم. تتبعها العادة ويتكون الخلق.

    من الواضح أن الناس مختلفون في إتباع ميول الغريزة فإن بعضهم يتبعها بأعماله إلى حد الإفراط، وبعضهم يتجافى عنها إلى حد التفريط، فإذا تكرر العمل من هؤلاء وهؤلاء نشأت لهم عادات منحرفة وأكسبتهم العادات أخلاقاً غير مستقيمة.

    وفريق من الناس يعتدلون في إتباع هذه الميول فتنشأ لهم العادات المعتدلة، ويكتسبون منها الأخلاق السوية. ومن البين أيضاً أن هذه الغرائز لم تجعل في الإنسان ليتبعها في كل ما تأمر وتنهى، ولو كان الأمر كذلك لم يرتفع الإنسان عن درجة الحيوان، ولا ليزهد فيها كما يزهد في الشيء التافه؛ لأنها أودعت فيه لضرورات يقتضيها بقاؤه وبقاء نوعه، وإذن فالأعمال التي يتجاوز بها الناس حد الاستواء أعمال غير صالحة، والأخلاق التي يكتسبونها من تكرار هذه الأعمال أخلاق غير صحيحة، وإذن فأمراض الأخلاق انحرافات، وصحتها استقامة وتوازن، وبعد الخلق الفاسد عن الصحة بمقدار انحرافه عن التوازن العادل,

    ويرى القدماء من علماء الأخلاق أن للإنسان قوى أربعاً، يسمونها بالصورة الباطنة للإنسان على قياس الصورة الظاهرة وهذه القوى هي قوة العقل، وقوة العمل، وقوة الشهرة، وقوة الغضب. ويقولون إن هذه القوى هي أصول الأخلاق عليها تفرع، وإليها تنسب فبإعتدال كل واحدة من هذه القوى تحصل إحدى الفضائل الأربع التي يسمونها أمهات الفضائل أو الفضائل الرئيسية، ويقابل كل واحدة من هذه الفضائل رذيلتان تنشئان من انحراف القوة إلى طرف الإفراط أو إلى حد التفريط. ولا يحصل هذا الشذوذ إِلا إذا ضعفت سيطرة العقل على القوى وقصر نفوذه عن إرادة الحكم.

    يشذ بعض القوى حينذاك ويثور به الطمع ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى غايته إلا إذا استخدام قوة العمل؛ وهو بعد جاهل بأسباب النجاح؛ فهو محتاج إلى مرشد يمهد له الطريق ويرفع دون غايته الحواجز. وقوة العقل لا تمديداً لمساعدة ظالم ولا تعين مستأثراً على بلوغ أهدافه مهما بلغ بها الضعف؛ ومهما بلغت بذلك المستأثر القوة. إلا ان يعود العقل حمقاً، وينقلب العلم جهلاً.

    وإذن فليس لتلك القوة المتطرفة غير قوة الوهم التي تخلق الحيل وتستنبط الأعذار[26][27][17] فتستعين بها على إخضاع قوة العمل ويتم لها ما تريد.

    أما العقل فهو يرصد هذه الفوضى بعين الناقد النزيه. يحفزه رشده على الوثبة، ويقعد به ضعفه عن الاصطدام بقوة لا قبل له بها؛ ثم يلجئُهُ الموقف إلى السكوت؛ ولا بد للضعيف ان يخفت صوته أمام القوة فتشذ الأخلاق ثم تشذ وتسقط النفس في صفاتها ثم تسقط وتذهب في سقوطها إلى حد بعيد.

    ولضعف القوى أثر في جفاء الأخلاق؛ وسقوط الملكات لا يقل خطراً عن أثر الإفراط في القوة.

    يقف بالضعيف شعوره بالنقص، ويقعد به عن بلوغ حظه من الكمال. وليت الضعف يقف به عند هذا الحد، ولكن الإنصاف غير منتظر من عدو غادر، سيتناهى به إلى أبعد حد، ويستولي عليه الشعور بالنقص حتى تأنس به نفسه، وحتى تتوهم ان لها من الضعف قوة، ومن النقص كمالاً وتنطبع الحالة فيها ملكات.

    وقد يحصل التوازن العادل في القوى فيتولد منه الاعتدال في الأخلاق والعدالة في النفس، وإنما يتكون هذا التوازن إذا عمت سلطة العقل على الغرائز، وأذعنت لحكمه جامحات القوى، فيتسلم زمام التدبير، ويستقل بإرادة الحكم. وللعقل في تدبير هذه المملكة الصغيرة أنظمة قد يخطئها مدير مملكة واسعة. وليس للعقل وراء هذه القوى والغرائز جنود أخرى يخضع بها الجائر ويهدئ بها الثائر، ولكنه بحكمته يضرب بعض القوى ببعض ،فيضع الشهوة بالغضب ويكسر الغضب بالشهوة ويستعين على ذلك بنواميس الشرع وتقاليد العرف.

    تسكن الفوضى وينقاد الصعب ويتقوى الضعيف ويتماثل المريض بفضل الحكمة والإرشاد وبتدبير الحاكم المصلح ،ويعم التوازن العادل بين الحاكم وأفراد الرعية فلا طمع ولا استئثار.

    هذه هي الحكومة المثالية والعادلة، والعدالة الخلقية بأسمى معانيها والفضيلة الكبرى التي ترسم للإنسان طرق الفضائل الفرعية، وذلك هو الدين الذي يقول عنه الإمام الصادق (ع): " من كان عاقلا كان له دين دخل الجنة "[27][18] أجل من كان عاقلا كان له دين، وهل الدين غير التوازن في الأخلاق، والأعمال والعقائد؟ وهل العقل إلا رائد الخير ودليل السعادة؟

    ويقول في كلمة أخرى: (أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً)[28][19] وفي كلمة ثالثة: (العقل دليل المؤمن)[29][20] على ان الإمام الصادق (ع) يجري في تقسيم الأخلاق مجرى آخر. فيرى ان الفضيلة الكبرى هي العقل، وان جميع الفضائل الأخرى متفرعة منه يسقيها من ينبوعه ويمدها من حكمته، وان الرذيلة الأولى هي الجهل، وبقية الرذائل فروع منه ولذلك فهو يقول في حديث طويل: (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا)[30][21] ثم يعيد الأخلاق السامية في جنود العقل، والصفات الوضيعة في جنود الجهل.

    وهو يريد من العقل الكامل الذي لم تخف به كفة التوازن إلى حد التفريط، ولم تتعد به إلى حد الإفراط. وهو الذي يقول عنه في الحديث المتقدم: (من كان عاقلاً كان له دين)، وفي الحديث سيأتي: (وهو ما عبد به الرحمن وأكتسب به الجنان) [31][22] ويريد من الجهل ما يقابل هذا العقل المتوازن.

    وهذا المسلك شبيه بمسلك (سقراط) في تقسيم الأخلاق وهو أبعد منه عن النقد، وأكثر موافقة للبرهان.

    يقول سقراط: الفضيلة الأولى هي العلم، والرذيلة الأولى هي الجهل. ولذلك فقد كان رأيه هذا موضعاً للنقد: لأننا نجد ان بعض الناس يرتكب الأخطاء الخلقية وهو عالم بشناعة ما يرتكب فلم يسقه علمه إلى الفضيلة، ولم يردعه عن ارتكاب الرذيلة.

    أما الإمام فيقول: أن الفضيلة الكبرى هي العقل، ومن البين ان الإنسان إنما يرتكب الأخطاء الخلقية إذا ضعفت موازنته بين الغايات أو شذ به بعض الأخلاق عن التوازن. وهذا لا يكون إِلا حين ينحرف العقل عن الاستقامة أو يضعف عن الحكومة.

    وأما النقد الذي يوجهه (ارسطوا) لنظرية (سقراط) هذه حين يقول: (ان سقراط جهل أو تناسى ان نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده وتخيل ان كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل ومن ثم إذا علم العقل فضل العمل، ولكنه نسي ان أكثر أعماله محكومة بالعواطف والشهوات، إذ ذاك قد يقع في الخطأ مهما علم العقل).

    أقول أما هذا النقد فلا يتوجه إلى مسلك التقسيم الذي نقلناه عن الإمام الصادق (ع) لأنه لا يقول ان نفس الإنسان مركبة من العقل وحده ولكنه يقول: للعقل المستقيم سيطرة واسعة يخضع بها العواطف إذا ثارت، ويقود بها الشهوات إذا جمحت ويوازن بها بين القوى إذا تضاربت. ولذلك فالأخلاق المستقيمة مدينة في وجودها للعقل المستقيم. وهي جنود مدربة تناصره على إصلاح الملكات الأخرى.

    (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا)، هذا عنوان لحديث أخلاقي طويل، له روعته وله جماله، يمليه الإمام الصادق على أصحابه ليهتدوا. يعرض الإمام في حديثه هذا صفين مستطيلين من أخلاق يتقابلان كما تتقابل الجيوش المتحاربة. فهما متناقضان في المبادئ ومتزاحمان في المقاصد؛ وهما متماثلان في القوة؛ ومتكافئان في العدد؛ يقف كل واحد منهما لصاحبه بالمرصاد؛ فالصف بازاء الصف ،والفرد يقابل الفرد، والهدف يعارض الهدف.

    حرب سجال؛ ومعارك دامية؛ وللنفس من ذلك موقف الحائر الوجل المتطلع إلى غاية مجهولة بين عدوين عنيدين لا يخضعان لصلح ولا يرغبان في سلم. يريد كل واحد منهما الاستيلاء عليها والاستقلال في حكومتها.

    هي حرب أهلية متكافئة القوى؛ متماثلة العدد، ومصير النفس موقوف على ظهور الظاهر وظفر الظافر؛ تنتظم الأخلاق الفاضلة في الصف اليمين منهما وتقابلها رذائل الملكات إلى اليسار ويشاء البيان الغني للإمام (ع) ان يسمي أهل اليمين جنود العقل؛ وهو تشبيه رائع؛ ونكتة نادرة.

    الأخلاق الفاضلة جنود؛ لأنها تطارد الأخلاق الذميمة لتخلص النفس من سيطرتها ونفوذها؛ وهي جنود العقل لأنها تنضوي تحت لواء العدل الذي ترفعه حكمة العقل، وهي جنود العقل لأن العقل هو المنظم الأول لصفوفها والباعث الأول لروح التعاون بين أفرادها.

    يعد الإمام لنا في حديثه هذا خمسة وسبعين جندياً من أنصار العقل يقابلها مثلها من جنود الجهل ثم يقف.

    ولم ينته به التعداد لانتهاء جنود العقل بذلك؛ ولكنه يذكر الأفراد البارزة من قادة الجيش؛ وذوي الشارات الواضح من أمراء الجنود.

    وعلى هذا الغرار وبمثل هذه الاستعارة الجميلة يقول في صفة المؤمن في حديث آخر: (والعقل أمير جنده)[32][23] .
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الإنسانية الكاملة

    " دعامة الإنسان العقل ـ وبالعقل يكمل "

    "وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره "

    الإمام الصادق (ع)

    (5)

    الإنسانية الكاملة

    فضائل الملكات أوساط؛ ورذائلها أطراف وانحرافات. هكذا يقول (ارسطوا) وهكذا تقول مثالية الشرع المقدس والخلقيون من فلاسفة الإسلام.

    والفلاسفة من المحدثين يأخذون على هذه النظرية أمورا ويوجهون إليها نقوداً أهمها ما يلي:

    النقد الأول: ان معرفة الأوسط الحقيقية تحتاج إلى مقياس عام تقاس به الملكات والقوى وتعرف به نسبة الأوسط إلى الأطراف على ان يكون هذا المقياس مضبوطاً يستحيل عليه ان يتخلف وان ينتقض؛ ولا يوجد عندنا مثل هذا المقياس العام. وجوابه: ان المقياس العام الذي تعرف به النسبة هي الأنظمة العامة التي يقررها العقلاء فيما بينهم والتي تفرهم عليها الشريعة الإِلهية المعصومة؛ أما الذين لا يعترفون بالشريعة ولا يذعنون لقوانينها؛ فالمقاييس عندهم تختلف باختلاف التقاليد والعادات وهذا أحد الجهالات التي تشهد باحتياج الناس إلى الدين.

    النقد الثاني: ان من الأخلاق ما يسميه العقل فضيلة وبعد السلوك فيه سلوكاً متوازناً وهو ليس من الأوسط كالصدق فإن ضده هو الكذب وليس له طرف آخر؛ وكالعدل فإنه يقابل الظلم فقط والأشياء لا تكون أوساطاً إلا إذا كان لها طرفان تنسب إليهما.

    وجوابه: إننا نريد من الأوسط ما يقابل الإفراط في القوى أو التفريط فيها ولذلك فإن فروع القوة المعتدلة تعد من الفضائل وان كانت أطرافاً وفروع القوة المنحرفة تحسب من الرذائل وان كانت أوساطاً؛ وملكة الصدق فرع من العفة أو من الشجاعة وهما قوتان معتدلتان.

    أما العدل فقد نعني به ضبط قوة العمل ووضعها تحت أرشاد العقل، وقوة العدل هذه ليست ملكة خاصة إلا إنها تعم جميع الملكات النفسية المعتدلة والظلم الذي يقابلها هو إرخاء العنان لقوة العمل في كل ما تريد وهو يعم كل ملكة منحرفة. إذن فهو معنى عام شامل وليس ملكة معينة لتقاس إليها ملكات العدل.

    وقد نعني بالعدل الأنصاف وأعطاء الحقوق لألها كاملة غير منقوصة وهو بمعناه هذا فرع من فروع العفة أو الشجاعة ويقابله من جانب الإفراط؛ التعدي على حقوق الناس وفي جانب التفريط؛ إهمال الحقوق المحترمة للنفس. ويحاول الأستاذ محمد أحمد جاد المولى (*) ان يجعل الصدق وسطا بين الكذب والمبالغة وهو تكلف في الجواب لأن المبالغة نوع من الكذب.

    النقد الثالث: ان الفضائل الخلقية في الأكثر لا تكون أوساطاً لأن الوسط الحقيقي هو المنتصف والفضائل الخلقية منها ما يقرب من الإفراط فإن فضيلة الكرم قريبة من السرف وفضيلة الشجاعة قريبة من التهور, ومن الفضائل ما يقرب من التفريط كالحلم والتواضع فإنها قريبان من الجبن وإضاعة الحقوق.

    وجوابه: ان الوسط ليس نقطة معينة بنسب بعدها إلى الطرفين على السواء لنحكم عليه بأنه المنتصف، ولذلك فإنا نحكم على الفضائل بالشدة والضعف؛ والضعيف منها نعده فضيلة وان كان ضعيفاً لأنه معتدل؛ ونتيجة هذا ان الكرم إذا نسبنا أرقى مراتبه إلى الإسراف والتبذير ثم نسبتا أدنى مراتبه إلى البخل لم نجد أحد البعدين أكثر من الآخر ومثله الشجاعة إذا أضفناها إلى الجبن والتهور.

    النقد الرابع: إذا كان الميزان في عدّ الخلق فضيلة هو التوسط، وجب ان يكون التوسط في الفضيلة أسمى منزلة عند علماء الأخلاق من الترقي فيها، لأن التوسط فيها أقرب إلى الاعتدال الصحيح وأبعد من طرق الانحراف وهذه النتيجة لا يرتضيها علماء الأخلاق.

    وجوابه: ان الوسط مجموعة نقاط معينة ننسبها إلى الطرفين بنسبة واحدة ومعنى هذا ان جميع هذه النقاط توسط في القوة واعتدال فيها ويكون ارتفاع النفس في هذه المراتب رقياً في درجات الكمال.

    وقد تبسطنا في التحدث عن هذه النظرية لأنها قد أخذت دوراً مهما من الجرح والتعديل عند الخلقيين ولأنها هي النظرية السديدة التي يحكم بها العقل ويقرها الشرع.

    والإمام الصادق (ع) يذكرها فيقول: (وأعلم ان لكل شيء حداً. فإن جاوزه كان سرفاً، وان قصر عنه كان عجزاً)[33][1].

    الاعتدال في قوة الغضب شجاعة والتطرف فيها جبن أو تهور، والتوازن في قوة الشهوة عفة، والانحراف فيها شراهة أو خمود، ولكل من هذه الملكات فروع كثيرة.

    وليس الحكم بالانحراف والاستقامة مختصاً بالشهوة والغضب بل هو حكم عام لجميع القوى ونظام شامل لجميع الأشياء على ما يقوله الحديث المتقدم وإذا كان للإنسان جهة تميزه فلأنه الكائن الوحيد الذي يستطيع ان يرسم لنفسه طريق التوازن، وأن يصل بعمله إلى السعادة والخير الأعلى.

    والعقل نفسه أحد الخاضعين لهذا الحكم، فإنه أطوع من يذعن للحق, وأساس من ينقاد للنظام العادل.

    فقد تخف بالعقل كفة التوازن فيكون حمقاً، وقد يتجاوز الاستقامة فيكون خداعاً أو حكمة باطلة وكلا الطرفين شذوذ عقل ورذيلة خلقية وقد يتوازن ويكون حكمة ودليلاً على الخير والهدى.

    ويقول الإمام الصادق (ع) في صفة العقل المستقيم، هو (ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ) [34][2] ويقول أيضاً (العقل دليل الأمن) [35][3] أما الحكمة الباطلة فإنه يسميها بالشيطنة النكراء حين يسأله بعض أصحابه عن عقل معاوية فيقول (ع): (تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل [36][37][4] وان الحكمة الباطلة شيطنة نكراء، لأنها خداع يشبه الحكمة، وباطل يشبه الحق، وهي نكراء لأنها تعاند الفظيلة المحبوبة).

    ثم هو يقول في الرذيلة الثانية: (ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الأحمق لأنه سلبه أحب الأشياء إليه وهو العقل) [37][5].

    ويقول أيضاً: (لا يفلح من لا يعقل) [38][6].

    أما قوة العمل فهي الخاضع الأول لإرشاد العقل وباستقامتها يحصل التوازن العام لجميع الملكات لأنا قد علمنا أن إيجاد الأعمال من مختصات هذه القوة، وليس في استطاعة القوى الأخرى أن تصل إلى غايتها إذا لم تعنها قوة العمل.

    فإذا خضعت هذه القوة لحكم العقل واتبعت رشده وهداه كانت أرفع من أن يؤثر فيها خداع الوهم، أو تغمرها صولة الغضب، أو تأسرها لذاذة الشهوة لأن الذي يتبع العقل لا يحفل بالأوهام والأحلام.

    ستندحر أمامها قوة الغضب, وسلطان الشهوة ويستمر الاندحار عليهما في كل معركة، ويتصل الإنحزام في كل نضال وسيخضعان راغمين لحكومة العقل، ويذعنان لقوة العدل. فالتوازن في جميع ملكات النفس نتيجة للتوازن العادل في قوة العمل، والانحراف في تلك نتيجة التطرف في هذه وليس لقوة العمل ملكة خليفة خاصة تنفرد بها، إلا أن الأخلاق الفرعية لجميع القوى إنما تتكون بمعونتها, وإرادة الإنسان هي المحرك لهذه القوة فإن من الأعمال ما يصدره الإنسان مقسوراً عليه كالتنفس وضربات القلب، ومن الأعمال ما يصدره باختياره، وقد علمنا أن هذا الأخير هو العمل الذي نحكم عليه بالخير أو الشر، وهو السلوك الذي يعتبره الخلقي أثراً للصفات النفسانية، وهو العمل الذي تتكون العادة بتكراره ويتكون الخلق باعتياده.

    ولسنا بصدد بيان عناصر الإرادة في الإنسان، فإن لها بحثاً نفيساً خاصاً بها، ولا يهمنا أيضاً أن نتعرض للبحث في كون الإرادة حرة أو مسخرة فإن له موضعاً آخر. وقد اثبت فريق من الفلاسفه وعلماء الكلام لإرادة الإنسان الحرية الكاملة في العمل، ونفى حريتها جماعة آخرون منهم، والإمام الصادق (ع) ممن يعتدل في ذلك فيقول: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين امرين)[39][7] .

    أما هؤلاء الذين يقولون: ان الإنسان مجبور في كل ما يعمل وان إرادته مسخرة لما ينفذه القضاء فإنهم ينكرون محسوساً ويجحدون واضحا ويكفي لا بطال هذا الرأي أنه يلغي فائدة علم الأخلاق ويبطل بشريع القوانين للحد من الجرائم وفرض العقوبات على المجرمين.

    إرادة الإنسان هي المحرك الأول لقوة العمل, وبقوة هذه الإرادة تكافح الغرائز الشاذة وتصطدم الميول المتطرفة، وبقوة الإرادة تبتدئ الفضيلة، ويتم التوازن. وقد سمعنا قول الإمام صادق (ع): (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية) [40][8]

    الإرادة عزيمة في الإنسان يوجد بها ما يروم ويدفع بها ما يكره لها بسائر القوى الإنسانية أسوة فهي تتصف بالقوة والضعف، وقوى الإرادة. هو الإنسان العظيم الذي يأتي بالعجاب، ويفعل ما يشبه المعجزات، إِذا أحسن توجيه إرادته إلى أعمال الخير ومحاسن الصفات، أما إذا توجه بها إلى أعمال الشرِّفانه يجر على نفسه نقصاً آخر لا يقل خطراً عن ضعف الإرادة. والعلماء النفسانيون يذكرون لتقوية الإرادة شروطاً ويدرجونها في عدد من النصائح:

    1 ـ عين هدفك الأول قبل ان تبدأ بالعمل ثم لا تتردد بعد ذلك فإن التردد يضعف الإرادة.

    2 ـ: لا تضع وقتك في إيجاد أعمال قليلة النفع، أو ما تكون نتيجته ذهاب الوقت فقط فإن الوقت ـ كما يقولون ـ من ذهب.

    3 ـ ثق بأنك قادر على الوصول إلى ما تربد, فإن الثقة بالنفس تخفف عنك جهد العمل وتقطع لك نصف المسافة.

    4 ـ ثابر على العمل واتقنه وان كان شاقاً فإن الفوز نتيجة المثابرة والإتقان.

    5 ـ عاود العمل بنشاط أكثر إذا أخفقت في عملك. فإن الصعب يسهل، والفقدة تحل.

    6 ـ أجعل نصيباً من منها جك اليومى للعمل فإن النفس يجهدها العمل المتواصل.

    هكذا تنمو الإرادة وتسمو، والرجل العظيم وليد إرادته وأعماله. كمال قوة العقل هي الحكمة النظرية والعلمية بأرقى مراتبها سلوكها على النظام العقلي الرشيد، وقد يصل الإنسان في هاتين القوتين إلى حد كمالهما فيسميه الخلقيون بالإنسان الكامل ويصفون إنسانيته بالإنسانية الكاملة، والإمام الصادق (ع) في عداد من يصفه بهذا الوصف فهو يقول: "دعامة الإنسان العقل ـ وبالعقل يكمل "[41][9]

    ولنستمع إلى بقية هذا الحديث فإن الإمام يوضح فيه معنى الإنسانية الكاملة عنده فهو يقول: " فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً، حافظاً، ذاكراً، فطنا، فهما، فعلم بذلك كيف، ولم وحيث، وعرف من نصحه، ومن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه ومحصوله ومفصولة، واخلص الوحدانية والإقرار بالطاعة "، هذا هو حد الكمال في قوة العقل، وهذه هي الحكمة التي يقول الفلاسفة في معناها: " هي معرفة حقائق الموجودات " وأعلى مراتبها هو اليقين الذي يعرف فيه الإنسان مجراه وموصولة ومفصولة، والذي يكون أثره الإخلاص في الوحدانية والإقرار بالطاعة والذي قال فيه في كلمة سابقة (اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب )[42][10] .

    أما الكمال في قوة العمل فقد أتم الإمام به حديثه المتقدم فقال: (فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات وواردا على ما هوآت) .

    يقول الخلقيون القدماء للعقل جهتان جهة نظرية. وجهة عملية فإذا حصلت له الاستقامة واستقل بالحكومة على القوى أنتج من جهته الأولى حسن الفكر وجودة الذكر، وأثمر من ناحيته الثانية الفطنة وحسن الرأي، واجتماع هذه الثمرات ينتج له حسن الفهم وجودة الحفظ. وترى الإمام الصادق (ع) يتدرج مع هذا الإصلاح ويقرر هذه النتائج في حديثه المتقدم.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الضمير

    " ان للقلب أذنين، فإذا هم العبد بذنب قال له"

    " روح الإيمان لا تفعل، وقال له الشيطان أفعل "

    الإمام صادق(ع)

    (6)

    الضمير
    يتألف الإنسان من جزئين متباينين، بهما يتم تركيبه ومنهما تتكون قواه وعناصره، وعنهما تصدر أفعاله وأفكاره وبمجموعها يدرك قسطه من الحياة وينال حظه من الرقي والكمال وهذان الجزء ان هما النفس والجسد.

    جزء ان متباعدان ائتلفا فكانا مزيجاً عجيباً يحمل خواص الطبيعة وآثار ما وراء الطبيعة، وأصبحا بعد إئتلافهما شيئاً واحداً يدرك بادراك واحد.

    والذي يهمنا ان نجد الاتصال قد أفاد هذين الجزئين قدرة كاملة لا يتمتعان بنظيرها لو كانا منفردين.

    للنفس أهداف لا تصل إليها إذا لم تتصل بالجسد، وللجسد غايات لا يبلغها إِلا بمعونة النفس، ويقول علماء أخلاق: ان الأهداف التي يتوجه إليها في سلوكه ومعاملاته قد تكون من مختصات الجسد، ويمثلون لذلك باللذات الزائفة التي تحصل من الشهوات ألبهيمية، وقد تكون من مختصات النفس ويمثلون لها بالكمالات النفسية التي تحصل للإنسان من اكتساب العلوم واللذات العقلية التي تنشأ من اكتشاف الخفيات من الأشياء وقد تكون مما يشترك فيه كل واحد من النفس والجسد على السواء أو على التفاضل ولكل واحد من هذه الأقسام أمثلة يذكرونها في كتبهم، وقياس الألم في ذلك قياس اللذة.

    والإنسان إنسان بنفسه لا بجسده لأن جميع أفراد الحيوان تشاركه في هذه الناحية، ومحافظته على إنسانيته بمقدار محافظته على معنويات نفسه، وسموه في إنسانيته بمقدار حرصه على إنما مداركه واستثمار مواهبه.

    خلق الجسد ليكون آلة مسلوبة الإرادة بيد النفس، توجهه حيث تشاء وتصرفه كيف تريد، واستقامة الإنسان في شيمه وأخلاقه، ورقيه في درجات الإنسانية لا يحصل إلا بذلك فإن عدالة العقل الحاكم على النفس والمدبر لسلوكها تمتع النفس عن الاستئثار بحقوق الجسد أو إعطائه أكثر مما يستحق.

    أما إذا انعكس الأمر وأصبحت النفس آلة مسخرة للجسد يستعبدها لتحقيق ميوله ونيل أوطاره، فهنالك الشقاء الدائم والخسران العظيم لأن العقل أصبح معزول الحكومة مردود الرأي.

    والفلاسفة المتقدمون يقولون في صفة النفس حين يريدون تعريفها: " هي جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته " ويقولون: ان هذا الجوهر الملكوتى الواحد يظهر بمجالي متعدد متفاوتة، وبالنظر إلى كل واحد من هذه المجالي يطلقون عليه اسماً خاصاً فيسمونه عقلاً من حيث أنه يدرك الأمور الكلية المعقولة، ويسمونه روحاً لأن به حياة الجسد ونموه، ويسمونه قلباً لأنه يتقلب بما يخطر فيه من الخواطر. والإمام الصادق عليه السلام قد يجري مع هذا الإصلاح إلى حد قريب فيقول: "اجعل قلبك قرينا برا أو ولدا واصلا"[43][1] فيسمي النفس قلباً لما فيه من الخواطر ثم يجعله قرينا برا يجب اتباع نصحه في الخواطر الحسنة وولدا باراً يجب إرشاده. عند الخواطر السيئة. وقد يجري مع الإصطلاح إلى حد أبعد من ذلك فيقول: "من لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه"[44][2].

    أما هذه الخاطرات التي تحدث في النفس والتي باعتبارها سماها الخلقيون قلباً فهي أفكار تعترض النفس إذا توجهت إلى عمل من الأعمال تحثها على إيجاده أو تحذرها من فعله فإذا كانت هذه الخاطرة تدعو إلى الخير أو تحذر عن الشر سميت "إلهاماً" وان كانت على العكس من ذلك سميت "وسوسة".

    ومصدر هذه الإلهام قوة خفية في النفس يشعر بها الإنسان جليا عند مباشرة عمل يرضي به عاطفته أو عقله أو عمل يغضبهما، والمتأخرون من علماء الأخلاق يسمون هذه القوة " بالوجدان " و" الضمير" ويصفها بعض أرباب الفلسفة الحديثة " بصوت الله في الإنسان " ويسميها الإمام الصادق عليه السلام روح الإيمان بقوله: " ان القلب أذنين روح الإيمان يساره بالخير، والشيطان يساره بالشر، فأيهما ظهر على صاحبه غلبه "[45][3] وسأله بعض أصحابه عن روح الأيمان هذا فقال: " أما رأيت الإنسان يهم بالشيء فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه قال نعم، قال: هو ذاك "[46][4] .

    الضمير واعظ القلب كما سماه في حديثه السابق، وروح الإيمان كما يسميه في قوله هذا وهو إحدى الغرائز التي نشأت مع الإنسان منذ يومه الأول وتدرجت معه في عصوره، وتطورت معه في تطور أحواله وغرائزه.

    ويدلنا على هذا أنا نجد الضمير لا يختص بأمة دون أمة أخرى، فالضمير يوجد عند الأمم المتوحشة التي لم تخضع لقانون ولم تعترف بنظام كما يوجد بين الأمم الراقية التي تشرع القوانين وتعترف بالأنظمة، وبذرة الضمير توجد عند الصبي الناشئ وعند الطفل الدارج ولعل جرثومة الضمير توجد في قسم من الحيوانات العجماء على ما يقوله بعض علماء الحيوان.

    وللضمير قوتان متقابلتان يشعر الإنسان بوجود هما قبل العمل وبعده.

    قد يتوجه الإنسان إلى عمل يرضى به عاطفته مثلاً ولكنه يغضب عقله فيرى نفسه حينذاك بين قوتين متقابلتين تحثه إحداهما على العمل وتحذره الأخرى منه، وتنفاضل هاتان القوتان

    بمقدار ما في الإنسان من ميل إلى الخير أو إلى الشر، وبمقدار ماله من التمسك بالصفات الحسنة أو القبيحة، وقد تكون القوتان متكافئتين إذا تساوت ميوله.

    فإذا ابتدأ في إنجاز العمل استمرت القوة الموافقة على الحث والتشجيع، وخفت صوت القوة المعارضة ولكن سكوتها يكون إلى حين، وإذا أتم العمل شعر بتأنيب شديد من الناحية المكبوتة وخفت صوت الناحية المنتصرة.

    وأما إذا ترك ذلك العمل إرضاء لعقله وإجابة لوجدانه فأنه يشعر بتأنيب قليل من ناحية العاطفة المكبوتة وبارتياح عظيم من الناحية الثانية ولذلك فلا يمكننا ان نصدق ان الضمير هو العقل العملي كما يراه الفيلسوف الالماني كانت لان العقل العملي خاضع لحكومة العقل النظري، وظيفته ترتيب الأعمال على درجاتها، وإعطاء كل عمل منها مكانه الذي يليق به وإذن فالعقل العملي يدعوا إلى الخير فقط، فلا يسعنا ان نجعله تفسيراً للضمير.

    والنظرات المتقدمة توضح لنا ان (للضمير) شؤوننا وآثارا. فأثره قبل العمل حث أو تحذير، وبعد حصول العمل ارتياح أو تأنيب ومعنى هذا ان صوت هذه القوة لا يختص في حال حصول الرغبة أو في حالة انقماعها، ويقول بعضهم: الوجدان والوسواس صوت رغبات مقموعة[47][48][5] ، ولم يظهر لنا سر هذه الصفة التي يذكرها، على أنا تعترف بأن صوت الوجدان يكون أشد ظهوراً عند انقماع الرغبة التي يدعو إليها.

    وأنكر جماعة من الخلقيين كون الضمير غريزة من الغرائز، وقالوا هو قوة يكتسبها الإنسان اكتسابا، وللتجربة والاختبار والتقاليد والعادات أثر كبير في تكونه، ويدلون على مذهبهم هذا بوجوه أهمها ما يأتي:

    1ـ إن القوانين والأنظمة الوضعية هي الحافظة للضمير من التداعي والإنهيار، ودليل هذا أنا لو رفعنا سلطان القوانين الخلقية والإجتماعية والدينية عن آية أمة من الأمم لوجدنا اُن الحال فيها ينقلب رأساً على عقب وأن أُسس الضمائر الخلقية فيها تتداعى وتنهار، وهذا يدلنا على أن الضمير تابع لهذه الأنظمة يوجد بوجودها ويفنى بفنائها.

    وجوابه أن الضمير قوة بسيطة تتقوى بالتمرين، والمحافظة على الواجبات وأتباع الأنظمة، حتى تسيطر على جميع القوى: وتحكم على الغرائز، وتضعف بالمخالفة والإهمال حتى يخفت الصوت ويموت الضمير، ونعني بموت الضمير إنعدام أثر هذه القوة لا إنعدام وجودها فإن الضمير إذا تتابعت عليه الصدمات والمخالفات يخفت صوته، فلا يبعث إلى فعل خير, ولا يحذر من عمل شر، وهذا ما نسميه بموت الضمير أما جرثومة هذه القوة فلا تزال باقية في الإنسان مادام باقياً في الحياة، ويمكن أن تعود إلى حين العمل يوماً ما إذا ما تعاهدها صاحبها بالتمرين والتقوية مرة أخرى.

    2ـ نجد الناس مختلفين في ضمائرهم، فالشيء الواحد يكون حسناً عند أمة من الأمم وهو بنفسه يعد قبيحاً عند أمة أخرى. وهذا يدلنا على ان السبب هو الاختلاف في العادات والتقاليد والأزمنة وما أشبهها.

    وجوابه ان الضمير قوة تحث على الخير وتحذر عن الشر، أما تمييز الخير من الشر، والمقياس الذي يقاس به العمل ليعلم أنه خير أو شر فهو شيء آخر وراء الضمير، وليس الضمير معصوماً في حكمه فهو يحث الإنسان على ما يعتقد أنه خير ويحذره عما يعتقد أنه شر، ثم لا يحاسبه عن مصدر هذا الاعتقاد فقد يكون مصدره مادة سخيفة أو تقليداً باطلاً.

    وحكم الوجدان يتعدى أعمال الشخص نفسه إلى أعمال الغير فهو يكبر كل عمل يعتقد أنه خير، ويحتقر كل عمل يعتقد أنه شر، وان كان من أعمال الغير. وترحيب الضمير بذلك العمل أو تحذيره عنه يتفاوت بحسب ما يعتقد فيه من جهات الخير أو الشر، وبحسب شدة ذلك الاعتقاد وضعفه وبمقدار تمسك الشخص بالمثل الأعلى في أخلاقه، ولذلك نرى التفاوت العظيم بين الناس في ضمائرهم.

    وإذا كان الإنسان الكامل هو الذي يستمد رشده من العقل، وإذا كانت قوة الوجدان بمقدار محافظة الإنسان على عمل الخير في سلوكه ومعاملاته كانت نتيجة هذا ان الوجدان الكامل والضمير عند هذه الطبقة من الناس قوة واحدة وليس لها إلا صوت واحد فهو لا يعرف إلا الحق وهو لا يأمر إلا بالخير فإن الصوت الآخر من هذه الغريزة قد أماته كبت الميول وتحديد الشهوات.

    والوجدان هو المبدأ الأول للتوبة والتكفير عن الخطايا لأن الضمير إذا شعر بالخطيئة، وتبين عظم الذنب وجّه إلى النفس لوازع من التأنيب وقوارص من العتاب والتوبيخ، وقد يتأثر الإنسان من ذلك فيندم وهذا الندم هو التوبة في مرحلتها الأولى. وكم للضمير الفاضل من يد بيضاء على الإنسان في تهذيب نفسه، والأخذ بيده إلى سبيل النجاح وتسديده في ما يعمل وما يقول، ويعلق الخلقيون المتأخرون على الضمير أشياء كثيرة يترامى بها العد، ويطول فيها الكلام.

    والضمير محترم عند الإنسان فقد يرتكب الرجل أخطاء وجدانية ومصدرها قصور في التفكير، أو تسرع في الحكم إلا أنه لا يقبل من الناصح ان يتهم ضميره بالخيانة وقد لا يصغي إلى إرشاده بعد هذه التهمة، لأن الضمير محترم عند الإنسان ومن الحزم للمرشد في أمثال ذلك أن يدله على وجه الخير فقط من غير ان يعترض لكرامة الضمير
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الفضائل الفرعية

    " من ملك نفسه إذا رغب وإذا اشتهى "
    " وإذا غضب. حرم الله جسده على النار"
    الإمام الصادق(ع)

    (7)



    الفضائل الفرعية


    علمنا ان الخلق الكريم من كل قوة هو التوسط فيها، وان الإفراط في تلك القوة والتفريط فيها رذيلتان خلقيتان تعملان على هدم تلك الفضيلة، وعاملان نفسيان يحاولان سد تلك الباب الموصل إلى الخير والمشير إلى طريق السعادة، ولا يستطيع الإنسان ان يستمر في خلقه الكريم إلا بمحاربة هذين العدوين اللدودين وأشد هما تأثيراً عليه هو أقر بهما إلى نزعاته وأكثرهما موافقة لميوله، والإنسان في الكثير من أفراده ميّال في نزعاته إلى أحد الجانبين، وهو في الأكثر من هذا الكثير يميل إلى جانب الإفراط والزيادة.

    أما المعتدلون بغرائزهم، المتوازن في نزعاتهم، فهم قليل وأقل من القليل.

    ولعل هذا وأمثاله يكشف لنا حكمة مستورة في بعض الأحاديث الواردة عن الأئمة من أهل البيت(ع) في الحث على الفضائل التي تقرب بظاهرها التفريط، فهي تحث على الزهد والقناعة لتقابل الإفراط في بهيمية الشهوة، وتدعو إلى الحلم والرفق لتحد من وحشية الغضب، وكم لأمناء الشرع في هذا وأمثاله من كلمة جامعة.

    وقد عرفنا ان الاعتدال الخلقي يقوم بملكات أربع يعدها علماء الأخلاق أصولاً للأخلاق الفاضلة ورؤوساً للملكات الصحيحة الفرعية، فمن الجدير ان نشير إلى بعض خواص هذه الأصول، ونستعرض جانباً من فروعها لنلم بعض الإلمام بآراء الإمام الصادق(ع) في ذلك.



    الحكمة
    التوازن العادل في القوة الفكرية هو الحكمة، والرذيلة التي تقابل الحكمة من جانب التفريط هي الحمق والبلادة ويعنون بها تعطيل القوة الفكرية عن العمل، وكبت مالها من مواهب واستعداد، والخسيسة التي تضادها من جانب الإفراط هي المكر والدهاء ويريدون منه التجاوز بالفكر عن حدود البرهان الصحيح، واستخدام قوة العقل في ماوراء الحق فقد تثبت نتائج ينكرها الحس وقد تنفي أشياء تثبتها البداهة.

    ولست أرى ان لفظ المكر والدهاء يدلان على هذا المعنى لأنهما بمعنى الاحتيال والخداع، وهو شيء آخر وراء الحكمة الباطلة التي يقصدها هؤلاء المفسرون، أما الدهاء بمعنى جودة الرأي فهو يقرب من معنى الحكمة، وإذن فلنسم هذه النقيصة الخلقية(بالحكمة الباطلة) كما يسميها علماء الأخلاق.

    ونحن إذا فحصنا الفضيلة العقلية(الحكمة) وجدناها تتألف من عنصرين أساسيين لا غِنَّي لهما عن أحدهما:

    قوة فكرية في طريقها إلى التوازن

    وعلم يرشد هذه القوة إلى طريق الاعتدال.

    ليس التوازن في القوة الفكرية من الأشياء التي تمنحها المصادفة، ويكونها الاتفاق، وليس بالأمر السهل الذي تكفي في حصوله للإنسان خبرة قليلة وتجربة نادرة، لأنه توازن في كل ما يعتقد، وتوازن في كل ما يقول، وتوازن في كل ما يعمل، وأنى للقوة الفكرية بهذه الاستقامة التامة إذا هي لم تستعن بإرشاد العلم الصحيح، وأنّى للعقل بمفرده ان يبصر هداه في الطريق الشائك والمسلك الملتوي.

    كلنا نتمنى التوازن العادل في طبائعنا والاستقامة التامة في سلوكنا، وأي أفراد البشر لا يتمنى الكمال لنفسه ولكن الجهل يقف بنادون الحد، وميول النفس تبعدنا عن الغاية، والعقل هو القوة الوحيدة التي يشيع فيها جانب التفريط بين أفراد الإنسان، وذلك من تأثير الجهل، فالجهل أول شيء يحاربه علم الأخلاق، لأنه أول خطر يصطدم به الكمال الإنساني، وأول انحطاط تقع فيه النفس البشرية، وأول مجرّئ لها على ارتكاب الرذيلة، بل هو أول خطيئة وآخر جريمة.

    يرتكب الجاهل إخطاء خلقية تعود بالضرر على نفسه وقد يعود ضررها على أمة وشعبة أيضاً، وعذره في ذلك أنه جاهل، وإذا كان الفقيه لا يعد الجهل عذراً في مخالفة النظام الشرعي، فإن الخلقي أجدر ان لا يقبل ذلك العذر لأن الفقه اسلس قياداً والفقيه أكثر تسامحاً أما العالم الخلقي فإنه يطبق نظامه بعنف، ويقرر نتائجه بدقة، ولا يجد في المخالفة عذراً لمعتذر، ولا سيما إذا كان ذلك العذر أحد المحظورات الخلقية كالجهل.

    وإذن فمن الرشد أن يكون العلم أول شيء يفرضه علم الأخلاق، ومن الحكمة ان يقول النبي العربي(ص) (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وأن يقول وصيه الإمام الصادق(ع): (إِني لست أحب ان أرى الشاب منكم إِلا غادياً في حالين: أما عالماً أو متعلما، فإن لم يفعل فرًط، فإن فرَّط ضيّع،فإن ضيّع أثم، فإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً بالحق).

    الشباب دور القوة والعزيمة، وعهد الطموح والرغبة، وزمان الجد والعمل والشباب دور تكامل القوى، وتوثب النزعات، وبعد ذلك كله فالشباب هو الدور الأول الذي يتسلم فيه الإنسان قيادة نفسه، ويختص به تهذيب خلقه وتثقيف ملكاته، ولعل المربي قد أساء الصنع بتربيته فأنجد في الطريق وأتهمت الغاية، ولعل البيئة أعدت غرائزه لما لا يحمد فأضافت إلى النقص نقصا، وجمعت النار حطباً، وللنفس في ظل الشباب أماني وأحلام، وللشاب دافع من الشهوة ومحفز من الطموح وقائد من العزيمة، والقوة كما قيل مبدأ شرور أو مصدر خيرات.

    القوة أداة عاملة تثمر الخير وتنتج السعادة إذا دبرتها الحكمة، وقادتها المعرفة، وهي على الضد من ذلك إذا قادها الجهل، وحركتها العاطفة واستخدمتها الميول، أما العقل الذي عهد إليه باتباعه فهو لا يزال في عهد فتوة جديدة، وفي ابتداء سياسة مستحدثة، وهو في هذه الحكومة الفتية قليل الأنصار والجند، قليل التجربة والحنكة، وضعف الحاكم عامل قوي يتخذ منه الطائش مبرراً لعلمه، وينتهزه القوي فرصة لتحكماته، فكيف تكون نتيجة هذا الشاب المسكين، وما الذي ينتهي إليه أمره.

    سيقسط في أخلاقه ثم يسقط، وسيخسر أعز شيء عليه في الحياة من حيث لا يشعر بألم هذه الخسارة لأنه يجهل وبالأخرى لأنه لا يحس.

    والحل الوحيد لهذه المشكلة أن يجعل لعقل ذلك الشاب من العلم الصحيح مسعداً؛ ومن الحكمة الصالحة معيناً ليصبح قوياً بعد ضعف، وكثيراً بعد قلة، وعاملاً بعد خمود، على ان التجربة والوجدان ومقررات علم النفس تشهد بأن التعلم في السن الباكر أبلغ في التأثير وأعظم في الاستفادة.

    ويقول الإمام الصادق(ع) أيضاً: ( لا يفلح من لا يعقل ولا يعقل من لا يعلم وبين المرء والحكمة نعمة العالم والجاهل شقي بينهما)[48][6] وهذه الكلمة على قصرها تتضمن نتيجة البحث وصفوة القول في المورد، ويقول أيضاً: (لوددت ان أصحابنا ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) [49][7] أرأيت كيف يفرض العلم على أصحابه فرضاً، ثم يتمنى ان يستعمل القوة في تطبيق ذلك الفرض، ولكن العلم الذي يفرضه على أصحابه هو العلم الذي يأخذ بيد الإنسان إلى السعادة، ويرقى به إلى الكمال النفساني، ويقول في حديث آخر: ( كثرة النظر في الحكمة تلقح العقل)[50][8] .

    شجرة كريمة المنبت؛ طيبة الإنتاج، نمت جذورها وزكت تربتها, ولكنها لا تأتي بالثمر الطيب إذا لم تسعف باللقاح المناسب؛ تلك الشجرة هي العقل؛ وثمارها هي الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، أما لقاحها فهو كثرة النظر في الحكمة؛ هكذا يقول الإمام الصادق(ع) في هذا الحديث، وهكذا يكون العلم هو اليد الأولى في تأسيس الفضيلة الأولى والساعد القوي الذي يمهد قاعدة الخلق الكامل.

    ومن الجهل ما يسمونه بالجهل المركب وهو جهل يشبه العلم في الصورة وشؤمه على الإنسان أشد من الجهل البسيط، لأنه مؤلف من جهلين والجهل رذيلة كبرى إذا كان مفرداً فكيف إذا كان مكرراً والجاهل المركب عالم في اعتقاده وعمله صحيح في رأيه ولذلك فهو يرتكب الأخطاء ويعمل القبائح ولا يسمع نصح ناصح ولا يصده عذل عاذل.

    ليقل القائلون ما شاؤوا وليخطئوه في عمله إذا أرادوا، وماذا عليه من نصح الناصحين وعذل العاذلين إذا هو أرضى عقيدته، وأقنع ضميره، أنهم هم المخطئون فيما يقولون.

    بهذا يعلل الجاهل المركب أعماله وأخطاءه من حيث لا يعلم ان على عينيه منظاراً يلون له الحقائق وعدسة تقلب له الصورة ،من أين له بالمرشد الخبير الذي يعرفه ان هذا اللون الذي يراه هو للمنظار لا للحقيقة، وان الانقلاب إنما هو في العدسة لا في الصورة، لينكشف له الحق على صورته أوـ على الأقل ـ ليعلم أنه لا يعلم.

    ويحدثون عن أحد الخبثاء أنه أشترى حماراً متأنقاً لا يأكل غير النبات الطري وان يبلغ به الجهد وأمض به الجوع، فأعيى صاحبه منه ذلك لأنه لا يجد النبات الطري في كل وقت فاحتال على الحمار وألبسه منظاراً كبيراً أخضر ثم قدم له مقداراً من التبن المبلول، فشرع الحمار يأكل واخذ صاحبه يضحك.

    ليأكل الحمار من النبات الأخضر الطري في عقيدته وماذا عليه إذا رآه الآخرون تبناً أصفر مادام هولا يرى ذلك. أنهم واهمون وأنهم مخطئون.

    لا يلام الإنسان إذا ارتكب عملاً فاسداً وهو يعتقد بأنه عمل صالح إذا هو لم يقصر في البحث، ولكن هذا لا يكفي لتثقيف نفسه وتهذيب ملكاته، وإذن فالعلم الذي يكون مصدراً للأخلاق الفاضلة هو الذي يوافق الواقع المعلوم، هو اليقين واليقين فقط.

    نعم هو اليقين (الذي يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب) كما يقول الإمام الصادق(ع) وهو النور الذي قال فيه: (فإن كان تأييد عقله من النور كان عالماً وحافظاً) وهو الحكمة التي يقول فيها: (كثرة النظر في الحكمة تلقح العقل)[51][9] .

    ومن آثار هذا اليقين اطمئنان نفس الإنسان وخلوده إلى السكون، والرضا في كل ما يعطى وفي كل ما يمنع، فإن: (من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم بما لم يؤته الله)[52][10] .

    العدل

    قوة العمل مبدأ كل سلوك ومصدر كل خلق وقد تكرر في الفصول السابقة ان العدل هو مشايعة قوة العمل لقوة العقل وان العادل هو الذي يتبع إرشاد العقل في كل ما يقول وفي كل ما يعمل.

    وقد علمنا ان قوة العمل هذه لا تختص بها ملكة معينة من الأخلاق ولكنها تكون جميع الملكات التي تنسب إلى القوى الأخرى حتى سلوك العقل نفسه، وان التوازن في قوة العمل توازن في جميع الملكات والانحراف فيها انحراف في سائر الأخلاق، والإمام الصادق(ع) يقدر هذه النتيجة بعينها حين يسأل عن صفة العدل في الإنسان فيقول: (إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآثم وكفه عن المظالم)[53][11] .لا يكون الإنسان عادلاً حتى يخضع الشهوة لحكم العقل فيغض طرفه عن المحارم، ويلجم الغضب بلجام الحكمة فتترفع نفسه عن المظالم، وصفة العدل هذه هي التعفف بمعناه العام، وضبط النفس الذي يقول فيه: (من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب حرم الله جسده على النار)[54][12] وأكثر أخلاقيات الإمام الصادق(ع) تشير إلى هذا المعنى ولو من ناحية خفية.

    لكل واحدة من قوى النفس وغرائزها حقوق يجب أن توفى إليها كاملة غير منقوصة، ولكل منها ميول شاذة يجب أن يضرب من دونها ألف حجاب، وضبط النفس هو تعادل هذه القوى في السلوك وتساويها في الحقوق فتأخذ كل قوة ما يجب لها وتمنع عما يحظر عليها.

    وأكثر الملكات المعتدلة ـ إِن لم نقل جميعاً ـ إِنما تكون بتعاون جميع القوى النفسانية. فالتوازن في قوة الشهوة مثلاً يفتقر إلى قوة العمل في تكونه، ويحتاج إِلى قوة الفكر في تحديده وتمييز غايته، وإلى الشجاعة في الثبات عليه وتحمل الآلام في سبيل الحصول عليه، العفة كبنت الميول المتطرفة من قوة الشهوة، وقمع الرغبات الشاذة منها إلا أنها لا تحصل للشخص إ ذا لم يكن له من الشجاعة ما يتحمل به ألم ذلك الكبت، ومن الثبات وقوة الإرادة ما يستمر به على تلك الاستقامة، فضبط النفس في الأكثر مزيج من قوى متعادلة في الحقوق، متفاضلة في التأثير، وبعض هذه القوى إيجابي وبعضها سلبي وإنما قلنا في الأكثر لأن بعض الملكات العقلية لا يحتاج إلى قوة الشهوة مثلاً.

    بقي علينا أن نعرف معنى هذا الاختصاص الذي يذكره علماء الأخلاق، ويصرون عليه كثيراً، فإن الاستقامة في الخلق إذا كانت لا تحصل إلا بمساعدة أكثر من قوة واحدة فلماذا يختص بعض الفروع ببعض القوى؟ ولماذا تعد العفة من ملكات قوة الشهوة فقط؟ ويكون الحلم من فروع قوة الغضب خاصة؟

    والسر في ذلك أن الملكة الخلقية هي تلك القوة التي تنسب إليها بعد أن يدخل عليها التهذيب، فالعفة شهوة مهذبة, والشجاعة غضب متوازن، والحكمة فكر مستقيم.

    ومن هذا التعاون النفساني المتقدم يظهر لنا معنى قول الإمام الصادق(ع) في بعض وصاياه لأصحابه: (عليكم بالورع وصدق الحديث وأداء الأمانة وعفة البطن والفرج تكونوا معنا في الرفيق الأعلى)[55][13]. ملكات خمس يوصي الإمام أصحابه بالمحافظة عليها ليكونوا معه في الرفيق الاعلى من الجنة، وإذا نظرنا إلى هذه الملكات رأيناها تنتهي إلى قوة واحدة، أو إلى قوتين لا غير، فإن الورع ينتهي إلى الشجاعة إذا كان ورعاً عن نزغات الغضب، وإلى العفة إذا كان ورعاً عن ميول الشهوة، وصدق الحديث أيضاً قد ينتهي إلى هذه وقد ينتهي إلى تلك؛ أما الملكات الثلاث الباقية فهي من فروع العفة لا غير، ولكن الإمام يضمن لأصحابه أن يكونوا معه في الرفيق الأعلى إذا اعتدلوا في هذه الملكات الخمس.

    هو توازن في قوة الشهوة ولكنه يلازم اعتدالاً في قوة الغضب، واستقامة في قوة الفكر، يستحيل على المتهور ان يكون ورعاً، وعلى الجبان ان يلتزم صدق الحديث. أما العقل ـ وهو المرشد إلى ذلك التوازن ـ فلا بد وان يكون معتدلاً أيضاً. على ان الورع الذي يبتدئ به هذه الكلمة قريب المعنى من التعفف وضبط النفس والأخلاق التي يعددها ملكات عامة تظهر آثارها في جميع الأعمال والأقوال فإذا استقامت هي كان الإنسان مستقيماً في أقواله وأعماله، ومن أولى من الإنسان المستقيم بالرفيق الأعلى.

    العدل وضع جميع القوى تحت نفوذ العقل فيعطي كل واحدة من هذه القوى حقوقها كاملة فإذا عمل الإنسان ذلك مع الناس الآخرين سميت هذه الصفة منه إنصافاً وعدلاً بمعناه الخاص.

    وهذا العدل هو أساس الملك العادل ومحور المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي، وهو قد ينتهي إلى العفة وقد يكون من الشجاعة ويقابله من جانب الإفراط الجور على الغير والتعدي على حقوقه، ومن جانب التفريط إهمال الحقوق المحترمة للنفس وكلاهما جرثومة لكثير من الأخلاق الفاسدة.

    والعدل يكون صفة للفرد ويكون صفة للمجتمع.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    العدل الفردي

    للعدل الذي يوصف به الفرد مرتبتان تظهر أحدا هما في سلوك الشخص مع الناس الآخرين ومعاملاته معهم، فإذا أخذ الإنسان حقه كاملاًً وأعطى الغير حقه موفوراً سمي عند الخلقيين عادلاً ومنصفاً، وفي هذه الصفة يقول الإمام الصادق(ع): (سيد الإعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضي بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[56][1] .

    ومن الناس من يتشاءم إلى حد بعيد من التشاؤم فيعد العدل في الإنسان مستحيلاً أو هو شيء يشبه المستحيل، فالإنسان وحش متمدين.

    والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة، فلعلة لا يظلم

    ويذهب بعض هؤلاء المتشائمين إلى أكثر من هذا، فيقولون: (الظلم سر كامن في الطبيعة، فالنبات يعدو قويه على ضعيفه والحيوان يفتك كبيرة بصغيره والإنسان يستبد حاكمه بمحكومة) وهذه الفكرة وليدة عن القول بأن الإنسان شرير بالطبع والفلاسفة منقسمون حول هذا الرأي، والشرع يؤيد المذهب المعتدل في ذلك، ويجد الباحث المتتع شواهد كثيرة على ذلك من أقوال الإمام الصادق(ع).

    لا ينكر المتشرعون شيوع الظلم بين أفراد الإنسان، ولكنهم يقولون: مصدر ذلك هو إهمال الغرائز النفسانية حتى تستبد بالحكم، وإعطاء النفس قيادها لتسير مع الأهواء بلا رقيب ولا حسيب، أما نفس الإنسان وغرائزه فهي مهيأة للمسير في طرق الخير وطرق الشر حسب ما يرتضيه له سلوكه وترسمه له أرادته واختياره، ولو تعاهد الإنسان غرائزه بالتهذيب والإصلاح لسارت نفسه على الهدى، وحقيقت له العدل بجميع معانيه، ولعل الحكيم العربي لا يريد أكثر من ذلك في بيته المتقدم.

    والمرتبة الثانية من العدل الفردي تظهر في الفصل بين المتخاصمين بإعطاء الحق لصاحب الحق من غير حيف ولا تحيز, وعدالة القاضي هذه عند الإمام الصادق(ع) مظهر من مظاهر العدل النفساني لأنه يقول: " من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره "[57][2] وهذا أفضل ما يوصف به الحاكم العادل والقاضي المصلح، وهل يتصور التحيز في الحاكم إذا أنصف الناس من نفسه، وهل ينسب إليه الحيف إذا كان أحب الناس إليه وأبغضهم عليه أمام عدله بمنزلة واحدة؟ وإذا علمنا ان العدل في المعاملة يلازم العدل الخلقي العام وجدنا أن العدل في رأي الإمام(ع) سلسلة واحدة يتصل بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً لا تفكك بين أجزائه.

    أقول: ان العدل في رأي الإمام سلسلة واحدة، لأنه يشترط في الحاكم ان ينصف من نفسه قبل أن ينتصف أمن غيره، ثم يقول ان الإنصاف من النفس أشد الأعمال أو هو من أشدها، ويحدثنا عن أبيه النبي(ص): " من واسي الفقير وأنصف الناس من نفسه فذلك هو المؤمن حقاً "[58][3] وقد عرفنا فيما تقدم أن المؤمن حقاً هو الإنسان الكامل الذي توازنت ملكاته واعتدلت أخلاقه، على أن اشتراط العدالة الشرعية في القاضي من المقررات الواضحة في المذهب الجعفري.

    ثم هو يوضح ذلك إيضاحاً لا يقبل التشكيك حين يقول: " اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين "[59][4] الحكومة حق خاص للولي العام، العالم بالقضاء والعادل الأول في المسلمين، فلا تجوز لغير العالم بالقضاء، ولا لغير العادل من المسلمين، هكذا يقول الإمام الصادق(ع) في صفة الحاكم، وهكذا يجب ان يكون.

    الحاكم هو المثل للعدل الديني أو المدني في الحقوق والدماء، ومن الممتنع أن يمثل العدل جائر، والحاكم أمين الأمة على مقدراتها وأمين السلطة على رعاياها، ومن القبيح أن يؤتمن خائن، وإذا عجز الإنسان أن ينتصف لنفسه من نفسه، فهو عن إنصاف من غيره أعجز، وإذا كانت نفسه أول رافض لحكمه فإن غيره أولى برفضه وأحق برده، ولأمر ما حذرت الشريعة الإسلامية ان يصدر القاضي حكمه وهو غاضب.

    ويقول الإمام الصادق(ع) " لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال وان كان عليه أمسك "[60][5] أجل ان لسان القاضي من وراء قلبه، والله من وراء قلبه ولسانه، وكم يهدم القاضي من صرح، وكم يقوض من دعامة بكلمة يقولها غافلاً أو يصدرها غاضباً، وفي هذا الحديث تحذير شديد من التسرع والاستعجال، فإن الحكم الجائر يكون على الحاكم قبل ان يكون على المحكوم. والحكم العادل يكمون له قبل ان يكون للمنتصر.

    أما الرشوة على الحكم ...، أما بيع الضمير... والدين...، والقانون، واحترام النفس... ومقدرات الأمة... واعتماد السلطة، أما سحق جميع المقدسات بالقدم بازاء ثمن حقير يسمى بالرشوة فهو الدناءة في الهمة، والحقارة في النفس، والحياة للمجتمع، وهو السحت المحرم في كل نظام وعلى لسان كل مشرع، وهو الكفر بالله العظيم في قول الإمام الصادق(ع)[61][6] .

    وللعدل عدو جائر قد يلبس ثوب الصديق، وهو التحيز والممالاة، فقد يجور المحاكم من حيث أنه يظن العدل، ويظلم من حيث أنه يعتقد الرحمة، وللحب القلبي والمظاهر الخارجية في ذلك أعظم الأثر.

    من السهل على النفس إذا أجبت ان ترتكب ثم تعتذر، وان تفعل ثم تتعلل، لترضي الوجدان المكبوت، وتسلي العدل المرغم، وقد يخادع الضمير بتلك المعاذير فيقبل، ولكن العدل يسجلها صحيفة سوداء في ديوان الخائنين، والحاكم مسؤول عنها أمام الله، وأمام القانون الأدبي.

    ومن هذه الناحية نجد فرقاً كبيراً بين عدل القضاء وعدل المعاملة، فإن الحب والميل القلبي قد ينافيان عدل القضاء لأنهما يثمران التحيز والمحاباة. أما العدل في المعاملة فإنه يزكو على الحب, ويتكامل على الود لأن المحب لا يجور على حبيبه، والصديق لا يظلم صديقه، وكثيراً ما بعث الحب على إيثار، ولعل هذا هو السر الأول في الحث على الحب الذي بالغت فيه الشريعة الإسلامية، وندب إليه أمناء الوحي، والذي يقول فيه الإمام الصادق(ع): " هل الإيمان إلا الحب"[62][7] ، ويقول: " ان المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشد هما حباًَ لصاحبه"[63][8] وللحب والصداقة بحث سيأتي.

    العدل الاجتماعي
    يولد الإنسان وينمو، ويترعرع ويشب، ويتقلب في أدواره، ويتنقل في أطواره، وهو في جميع هذه الأحوال جزء من المجتمع الذي أحاط به، والإنسان مدين للمجتمع في أكثر صفاته وشيمه، فهو الذي حدب عليه وليداً،و غذاه طفلاً وتعاهده بالتوجيه يافعاً، وهو الذي لقنه اللغة في طفولته ومهد له طريق التعلم في صباه، وهيئة أسباب المعيشة في شبابه، وهو الذي علمه كيف يفكر وكيف يعمل، وكيف يأخذ، وكيف يعطي.

    أكثر خصال الإنسان عادات يكتسيها من بيئته، وأكثر غاياته ميول يرثها عن أسلافه، وأكثر علومه نتائج يقتبسها من مرشديه، والاجتماع هو الصلة المتينة التي تجعل المجتمع كالجسم الواحد الحي، وتجعل الأفراد كالأعضاء لذلك الجسم، يقوم كل عضو منها بما يخصه من الأعمال التي تصلح المجتمع، ولذلك فالأفراد مشتركون في الغاية ومتماثلون في الحقوق والواجبات، ورقي الفرد في شخصيته الاجتماعية بمقدار ما ينتج لهذا المجتمع من خير، وما يؤدي إليه من ثمرة طيبة، وسقوطه فيها بمقدار ما يأتيه من شر وعمل فاسد، وقد يتمادى عمل السوء ببعض الأفراد فيكون كالأعضاء الموبوءة التي يجب فصلها عني الجسم وقاية له من شرها.

    المجتمع جسم حي مدرك، له حياته الخاصة، ولحياته نظامها الخاص، وهو يتصف بالتوازن والانحراف في سلوكه كما يتصف الفرد الواحد من الناس، والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يكفل للمجتمع ولإفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات من غير تعد ولا تقصير، فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل، وطبقه على سلوكه وسلوك أفراده سمي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.

    العدل الاجتماعي ان تسير الأمة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق، وان تسعي ما أمكنها السعي إلى السعادة العامة والكمال المطلوب، وان تعد للإفراد طرق الوصول إلى الخير، فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها وتؤسس المعاهد الصالحة لأعداد الرجال وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة، وان تتمسك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس، على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل، ويقرها الشرع.

    وتعاون أفراد الأمة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل وأبلغ مؤثر فيه، ويقول المتأخرون من الخلقيين إن المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأمة وتتحكم في مقدراتها. أما أفراد الأمة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.

    وهذا الرأي بين النقص لأن العدل الاجتماعي هو التوازن التام في سلوك المجتمع وسلوك أفراده، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير واكتساب الصفات الخلقية المثلى، ونيل السعادة العامة، وهذا كله من مختصات المجتمع نفسه ومختصات أفراده، أما ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة فهم أحد مقدمات العدل الاجتماعي.

    والإمام الصادق(ع) يرى ان الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذا المجتمع المثالي هو إصلاح الأفراد وأعدادهم لأن يكونوا أعضاء صالحين، وتزويد كل فرد منهم بما يجب عليه للأسرة وللمجتمع، فإذا صلح الفرد وتهذبت الأسرة صلحت الأمة، وتوجهت إلى سبيل الخير والسعادة، وإذا أحتاج المجتمع بعد ذلك إلى شيء كان العدل الثابت للإفراد دافعاً لهم إلى التعاون والتضامن، وهذا هو المنهج الذي سلكه القرآن لإصلاح البشر وتهذيهم.

    يقول الإمام(ع): (يحق للمسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمساواة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم)[64][9] ويقول: (ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير متعتع)[65][10] .

    وقد سمعنا الكثير من إرشاداته للفرد، وسيأتي ما هو أكثر، وقد قال في ذلك أيضاً: (ان استطعت ان تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل)[66][11] والبلد العليا هي التي تبتدئ بالمعروف وتسدي الإحسان، وتؤدي حقوق الغير إليه كاملة، وقد سمعنا قوله: (سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[67][12] .

    ويقول في تهذيب الأسرة: (إذا لم تجتمع القرابة على ثلاثة أشياء تعرضوا لدخول الوهن عليهم وشماتة الأعداء بهم وهي ترك الحسد فيما بينهم لئلا يتحزبوا فيتشتت أمرهم، والتواصل ليكون ذلك حادياً لهم على الألفة، والتعاون لتشملهم العزة)[68][13] وهو يتدرج في حديثة عن تآلف الأسرة تدرجاً طبيعياً، فأول مراحله هو نبذ التحزب والتفرق، وأهم أسباب التحزب هو الحسد، ولاسيما إذا كان الأقوياء فيجب نبذه لأنه يشتت الأمر ويفل الحد، والمرحلة الثانية هي التواصل والبر لأن التواصل يسبب الألفة والمحبة، وهذه هي المرحلة الثالثة وهي الأخيرة وواجب الأسرة فيها هو التعاون بين الأفراد في كل مهمة ليعيشوا أعزاء في جماعتهم وأفرادهم.

    أما الحكومة وممثلها التام في عصر الإمام الصادق(ع) هو السلطان فإن الإمام يفرض عليه في إدارته: (حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لا عمالهم)[69][14] ويلزمه لرعيته: (بمكافأة المحسن ليزداد رغبة في الإحسان، وتغمد ذنب المسيء ليتوب ويرجع عن غيه وتألفهم جميعاً بالإحسان والإنصاف)[70][15] وللإمام فيما يشبه هذا كلمات كثيرة تحدد واجبات السلطان، ووظائف الأمراء وفروض الرعية.

    وكل ما نستطيع ان نقوله عن هذه الكلمات وأمثالها إنها نصائح من الإمام(ع) يرشد بها خلفاء عصره ومن يشابههم في الحكم، ولا يسعنا ان نعتبرها رأياً للإمام في الحكومة المثالية التي ينشدها للمجتمع المثالي.

    أما الحكومة المثالية في رأي الإمام فهي فكرة كبيرة ضعف قلب الزمان عن تحقيقها، وصغر الزمان عن احتمالها فطواها في مهدها يوم لف النبي (ص) في أكفانه، وبقيت أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وفي قلوب زعماء الإنسانية من آبائه وأبنائه، هي حكومة أسسها الله يوم أسس الدين، وشرع نظامها يوم أنزل القرآن، وسمى خلفاءها يوم بعث محمداً بالرسالة، وهي حكومة غرس النبي بذرتها يوم غرس التوحيد، وتعاهدها يوم تعاهد الأمة بالوصايا، ولست أقول إنه أثم العهد للخليفة الأول يوم الغدير، فهذا شيء قد لا يسيغه بعض القراء فقد تجاهله التأريخ من قبل هذا، وتجاهلته الأمة من قبل التأريخ، فقلبت النظام يوم انقلابها، وأسقطت من القائمة أسماء لتثبت مكانها أسماء.

    نحن لا نتنكر للتأريخ حين يثبت ما كان وحين ينفي ما لم يمكن، ولكننا ننكر عليه حين يمده المؤرخ من وراء العقيدة وحين يمده من وراء السياسة، وكم لعبت السياسة في التأريخ أدواراً في عصوره الأولى، وتبعتها العقيدة على الأثر تمحو ما تمحو وتثبت ما تثبت، ولو قدر البقاء للدعاية الأموية الأولى بعد يوم الحسين(ع) ويوم الحرة لعفيِّ أثرهما في التأريخ.

    لتبق هذه الحكومة المثالية أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وليسدل ستار الكتمان على عهد النبي الأخير، ولتتحول الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً بعد عهد الخلفاء الراشدين فإن هذا لا يقلل من سعي الإمام في تهذيب الأمة، ولا يضعف من دعوته إلى إنشاء المجتمع العادل.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    العفة

    يقول القدماء من علماء الأخلاق: الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان في حياته، والغضب هو القوة الثانية، ويسمون الأولى قوة الجذب، والثانية قوة الدفع، وهم يؤسسون على هذا الترتب الوجودي بين القوتين نتيجة علمية لها أثرها في تهذيب الملكات وإصلاحها. يقولون ان الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان، فيجب ان تكون هي أول قوة يباشر الإنسان في تهذيبها، ويقررون ان إصلاح الملكات على هذا الترتيب أسرع في الأثر وأسهل في الإنتاج.

    ونحن نجد الإمام الصادق(ع) في بعض أخلاقياته يقدم ملكات قوة الشهوة على ملكات الغضب عند التعداد فقد سمعناه يصف لنا العدل فيقول: " إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المأثم وكفه عن المظالم " ويقول: " المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته وصحت سريرته، وأنفق الفضل من ماله، وامسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه"[71][16] وسمعناه يقول ما يشبه هذا في كلمات أخرى، فهل يصح لنا ان نعد هذا تقريراً من الإمام لهذه النتيجة؟

    ليس من الحق ذلك لأن التقديم في التعداد غير وجوب التقديم في التهذيب. على ان الإمام (ع) قد يقدم فروع الغضب في بعض أخلاقياته الأخرى.

    الرذائل الخلقية جرائم فتاكة يجب دفعها عن النفس مهما أمكن الدفع وسموم قاتلة يلزم الحذر منها ما أمكن الحذر وجميع النقائص الخلقية في هذا الحكم على السواء، ولا فرق بين القوى منها والضعيف، والأول والآخر، والحكمة في تقديم بعضها على البعض مختلفة جداً.

    من الناس من يكون قوي الإرادة حازم النفس، ومن الخير لهذا الصنف من الناس ان يبتدئ بإصلاح ملكاته القوية لأن تأخيرها مظنة للفساد الخلقي العام. هذا إذا لم يتمكن من إصلاح جميع ملكاته دفعة واحدة.

    ومن الناس من يكون ضعيف الإرادة واهن النفس ومن الصواب له ان يبتدئ بإصلاح الضعيف من صفاته ليثمرِّن به على جهاد القوي. وهذا الرأي وان لم نجد فيه قولاً صريحاً للإمام الصادق(ع) إلا ان النظرة الفاحصة في أقوله تؤكد لنا ان هذا خلاصة مذهبه في تهذيب الأخلاق.

    قد تستبد الشهوة وتشذ وتتمرد على حكم العقل، وتسيطر على قوة العمل فتسمي هذه الشهوة المتمردة شراهة، ويكون تمردها هذا انحرافاً في الخلق، ويتكون من إهمال الغريزة وإعطائها الحرية الكاملة فتصنع ما تريد، وللسعي وراء الملذات التافهة والشهوات الرذيلة أثر بالغ في تنمية هذا الشذوذ وتربيته، فإن حرية الشهوات تجعل الحر عبداً مملوكاً " ومثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاًَ حتى يقتله"[72][17] والمراد من الدنيا في هذا الحديث هي شهواتها وملذاتها.

    ومن البهائم قسم يشبه الإنسان في الصورة، ويلحق به في التعداد، وهو يناقضه في العمل ويباينه في السلوك، يرتكب مالاً ترتكبه البهيمة، ويعمل ما يخجل الإنسانية، ويعلل إعماله بأن الإنسان خلق ليكون حراً فليحطم كل قيد وليكسر كل غل، وليثر في وجه كل عادة ودين. الدين يقف في وجه الحريات فلينبذ، والعادات نجدد سلوك الإنسان فلتسقط، وأخيراً هي عادات غريبة يجب على المتمدين ان يسايرها وفقا للتطور ونبذاً للقديم.

    مساكين هؤلاء قد سرى الاستعمار الغربي حتى إلى نزعاتهم، وأثر المستعمرون حتى في مجاري تفكيرهم، والمستعمرون دهاة مكرة يعرفون كيف يغزون عقول الضعفاء من طريق الشهوة ومظاهر الحرية ليأخذوا من قلوبهم كما أخذوا من رقابهم وأموالهم، وأنى لهؤلاء المساكين بأن ينقلوا عادات الغرب إلى الشرق، وأنى لهم أن يسايروا المتمدين في كل ما يعمل، وإذا كان في الغرب ساقطون يعملون مثل هذه الأعمال، فأن فيه عقلاء يترفعون عن الدنايا ويتنزهون عن الخسائس.

    خلق الإنسان ليكون حراً في الفكر حراًَ في الحقوق، لا ليعبد الشهوات باسم الحرية، ويقلد البهيمة باسم نزع التقليد، ولا أقول أكثر من هذا لأنه لا يدخل في منطقة الباحث الخلقي.

    وهنا لون من إفراط الشهوة، ولكنه لون أحمق ـ إذا صح ان نصف الألوان بالحماقة ـ أقول هو لون أحمق لأنه مشوه الغاية، مضطرب النتيجة، ولكنه رغم جميع ذلك شائع جداً، ولا سيما في الطبقة المترفة التي تدعي الرفعة، وتتولى رعاية الأمور، وهذا اللون هو تعاطي المسكرات.

    أرأيت الإنسان بشحمه ولحمه يدخل الحانة ليهب عقله بلا ثمن، ويشتري الجنون منها بالمال؟ أرأيت من يساوم على مقدساته ومقدراته بهلة من الكأس ورشفة من العقار؟ أرأيت الإنسان يتمعك كما يتمعك الحمار، وينبح كما ينبح الكلب، ويعربد كما يعربد المجنون، ثم يدعي بعد ساعة أنه من رؤوس العقلاء ومن قادة المفكرين، وقد يتصدى لمهمات الأشياء ويتسلم مقاليد الأمور؟

    هو في نشوة من سكره، ولذة من خياله، وماذا عليه إذا سلم ثمنها مضاعفاً من عقله، وماله وبدنه وراحته ودينه، فإنه يبيح جميع ذلك لنفسه، وماذا عليه إذا تمتم في كلماته، وتخاذل في حركاته، فإنها بعض نواحي اللذة، وأحد مظاهر الحرية التي ينشدها المتدينون من أمثاله، وليكن منزله جحيماً مستعراً للأسرة، فإن الحانة جنة له وارفة الضلال، وبعد فإنه يريد أن يتخلص من أرتاب الحياة فليتخلص من كل شيء يتصل بها.

    ساعة شهية يستقبل فيها أحلامه وأوهامه ثم يفرغ ما في بطنه من خمر وما عقله من سكر، ثم يزاول أتعاب الحياة من جديد، وللعقلاء عليه أن ينظف ثيابه إذا علق بها شيء من أوساخ الطريق فماذا يريدون منه بعد ذلك. يتعلل المجانين بنظائر هذه العلل، وهل تكون علة الخيال إلا خيالاً، وهل يعتذر عن الجنون بغير الجنون؟

    ومن هؤلاء من يترفع عن الحانات، ولكنه يتخذ من داره ماخوراً خاصاً لنفسه ولندمائه، فيشرب ويشربون بمنظر من فتاه وبمسمع من فتاته، ولعل فتاه هو الساقي ولعل فتاته هي المغنية، إنه فن... وإنه تسلية نفس... يا للسوء والجفاء... ويا للدناءة الخلقية، وإذا رضى الإنسان لنفسه بالنقيصة فكيف لا يقبل لعرضه بالدنية، وهل تبقي الخمرة فيه بقية من شعور ليميز بين الحسن والقبيح، والصحيح والفاسد...؟

    عد على الفقراء من أمتك ببعض هذا الإسراف، وخصص شيئاً منه لمشاريع الخير، واحتفظ بالباقي ليومك العسير، وأفعل ما يفعله الرجل العظيم في نفسه القوي في إرادته، فستنال الذكر الجميل في الدنيا إذا كنت ممن لا يثق بالجزاء في الآخرة، كم رأيت من ثروة كبيرة دمرتها الخمرة، وجاه عريض لعبت فيه الكأس، وإذا كنت لم تشاهد شيئاً من هذا فإنك قد سمعت منه الشيء الكثير.

    ومن هذه الألوان الحمقاء التي تغلب الغاية، وتعكس النتيجة تظاهر الشباب بمظاهر الأنوثة، وتصنع الفتى كما تتصنع الفتاة. هذا هو الداء الفاتك وهذا هو السم القاتل، ولو كان مختصاً بالشباب الفارغ الذي تعده الأمة كلاً ثقيلاً عليها لهان الأمر وسهل الخطب، لأن هذا النوع من الناس عار على المجتمع، ولكن ... ولكن الداء استعضل، والنقص استفحل حتى عمّ الشباب المثقف الذي تعده البلاد ليومها الآتي، وتدخره الأمة لسعادتها المرجوة.

    أقول ان الداء استفحل لأنه يهدد مستقبل النهضة، ويزعزع كيان الأمة، وهل تنهض الأمة بالمساحيق والمعاجين؟ وهل ينهض بالأمة شباب قتل الترف ما فيه من طموح وأمات السرف ما فيه من جد، وأخمد التأنث ما في دمه من جذوة؟

    إيه أيها الشاب الناهض. إيه يا عدة اليوم القريب، وغرة وطرة، وخد وقد، وسحر وفتون، كل هذه الأشياء خلقت لغيرك أيها الناشئ العزيز، وإذا كانت الطبيعة قد منحتك شيئاً منها فهي تؤهلك لمقام أسمى، ومحل أرفع، لا لتجعلك متعة وفتنة.

    خلقت لتكون محل إعجاب وثقة، لا لتكون مثار عاطفة وحب، ولتكون موضع غزل وتشبيب ... وأخيراً فقد خلقت لتكون رجلاً.

    هل تعلم كم في العيون التي ترنو إليك من نظرة خائنة، وكم في الابتسامات التي تستقبلك من ابتسامة مربية، وكم في الناس الذين يحومون حولك من قلب عابث. وأخيراً فهل تعلم أنك أنت الذي تجني بذلك على حاضرك الزاهي ومستقبلك الباسم. والشباب زهرة العمر ومستهل الحياة فهو أثمن من أن يقتل بتصفيف الطرة وصقل الغرة، وماذا يجنيه الشاب من تزجيج الحاجب وحلق الشارب غير إضاعة الوقت وتهديد المستقبل، فإلى السعي يا رجل الغد القريب، ويا أمل الأمة المنشود. إلى السعي فإن الرجل بثقافته وأعماله والرجل بسيرته وسريرته والرجل بجهاده في ميادين الحياة.

    ولو أردنا ان نستعرض جميع الفروع التي تتصل بإفراط الشهوة لاحتجنا إلى مجلد ضخم، والإمام الصادق (ع) يذكر أكثر هذه الفروع في كلماته.

    يشتد إفراط الشهوة فيتولد منه الحرص، ويقوى الحرص فيكون تهالكا في حب المال والجاه، وينتج منه التكبر، والرياء والتحاسد و. و. و...، والإمام الصادق (ع) يعرض جميع هذه الأدواء عرضاً إجمالياً حين يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة )[73][18] أما الطمع الذي يثمر أكثر هذه النتائج فهو الذي يخرج الإنسان من الإيمان في رأي الإمام الصادق (ع)[74][19] وهي المذلة التي يقبح بالمؤمن ان تكون فيه[75][76][20] .

    ويقول (ع) ( من كثر اشتباكه الدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها)[76][21] الشهوات مصادر الآلام، وهي أسباب تؤدي إلى التعب وفقد الراحة، فالشهوة سبب للألم قبل حصولها لأن تحصيل الرغبات يستدعي من الإنسان طويلاً من السعي وكثيراً من الجهد، وهي سبب للألم بعد وجودها لأن حصول الرغبة يثير الحرص في الإنسان على طلب نظائرها فيسلبه الراحة ويفقده الطمأنينة، والشهوة سبب للألم بعد فراقها لأن فراق المألوف يبعث الأذى ويسبب الألم، وكلما كانت الرغبة أكثر ملائمة للإنسان كان فراقها أشد ألماً في قلبه، وأكثر مضاضة في نفسه، وقد تعرض الإمام الصادق (ع) لهذه الناحية في حديثه المتقدم، أما الناحية الأخرى فإنه يقول فيها: (من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يفنى، وأمل لا يدرك، ورجاء لا ينال)[77][22] .

    وإذا توازنت قوة الشهوة في ميولها، وخضعت للعقل فيما يحكم، وأتبعت إرشاده في كل ما يشير كانت عفة وحرية، والإمام الصادق (ع) يسميها عفة حين يقول: (أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج)[78][23] ويسميها حرية حين يصف صاحب الدين فيقول: ( ورفض الشهوات فصار حراً )[79][24] ثم هو يحدد بها معنى الزهد بقوله: (أزهد الناس من ترك الحرام )[80][25] ، وحين يسأله بعض أصحابه عن الزهد فيقول له: (ويحك حرامها فتنكبه) وهذه هي الدرجة الأولى من الزهد التي يشترك فيها عامة الناس، وللزهد درجات أخرى متفاوتة يختص بها قوم من المخلصين، أما الرهبانية وإرهاق النفس بالتعذيب المتواصل وحرمانها من الحقوق المحترمة فهي أمور ليست من الزهد. بل وليست من الدين في قليل ولا كثير.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    القناعة والاقتصاد
    يحد الإنسان من شهواته ورغباته فيضمن لنفسه الراحة من العناء، ويوفر عليها كثيراً من الزمن، ويقتصد في المعيشة ويعتدل في حب المال، ويسمى الاعتدال في حب المال قناعة، ويسمى الاقتصاد في المعيشة رفقاًَ، ويقول فيه الإمام الصادق (ع): (الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال)[81][1] ويقول أيضاً: (ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير)[82][2] ويقول: (ضمنت لمن أقتصد أن لا يفتقر)[83][3] وليس بين البخل وبين الاقتصاد صلة، ولكن من البخلاء من يعلل عن إمساكه بأنه نوع من الاقتصاد الذي يأمر به العقل، وهي علة يتعلق بها المذنب وعذر يسوقه إليه شعوره بالجريمة، الاقتصاد تنظيم معيشة الإنسان على ما يفرضه العقل الصحيح، وتتحمله المقدرة المالية فيعطى في موضع الإعطاء ويمسك في موضع الإمساك بلا سرفٍ ولا تقتير، والبخل هو المنع في موضع وجوب الإعطاء.

    الاقتصاد هو التوازن العادل وطرفاه هما الإسراف والتقتير، أما الكرم والإيثار فهما لا ينافيان الاقتصاد إذا اقتضتهما الحكمة، وتحملتهما المقدرة، المقتصد سخي لأنه (يؤدي واجب الشريعة، وواجب المروءة، وواجب العادة ) والبخيل هو (الذي يمنع واحداً من هذه الواجبات ).

    والقناعة صفة تقارب الاقتصاد في الأثر، وتقابله في المعنى، والفرق بينهما هو الفرق بين الخلق والسلوك، القناعة ملكة في الإنسان تكسبه الرضا بالقليل، والاكتفاء بما يسد الحاجة، والاقتصاد تنظيم المعيشة على ما تفرضه الحكمة وتدعو إليه الضرورة وأثر كل منهما اطمئنان النفس بما يحصل لها من القوت، والاقتصاد محتاج إلى مناعة قناعة في وجوده، والقناعة محتاجة إلى الاقتصاد في ظهورها في العمل، فيكون بين الوصفين تضامن في العمل واتحاد في الأثر.

    خلق الإنسان وخلقت معه الحاجة والوسائل التي يسد بها تلك الحاجة، لابد للإنسان من القوت لأنه يريد ان يعيش ولابد له من الملبس لأنه يريد ان يجتمع، ولابد له من المسكن لأنه يريد ان يستقل، إذن فالإنسان محتاج إلى هذه الضرورات وإلى أمثالها من وسائل الحياة، وهو محتاج إلى مال يبلغه تلك الغايات، وإلى مكسب يوصله إلى المال، وكيف يحصل على الكسب بغير الاجتماع.

    حلقات من الحاجة يتصل بعضها ببعض، ولا ينفك بعضها عن بعض، والمال بعض الحلقات المتصلة، ولا ينكر أحد أهميته في الحياة، ولكن الشيء الذي يستنكره العقل أن يجعل المال هو الغاية الأولى والأخيرة تحطم في سبيله كل غاية، وتستخدم في تحصيله كل وسيلة، وينبذ كل تشريع ونظام.

    النفس ميالة إلى الشهوات، والمال يسهل لها طريق الحصول على هذه الغاية، هذا هو مبدأ الشر وهذه هي جرثومة الداء، هذا هو الذي يفسر لنا المبالغة التي نجدها في ذم المال والتحذير منه فإن التخلص من الأدواء التي يسببها جمع المال عسير جداً.

    (ان الشيطان يدبر أبن آدم في كل شيء، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته )[84][4] هذه كلمة يقولها الإمام الصادق (ع) في التحذير من المال وبالأحرى في التحذير من النقائص التي يسببها جمع المال، والشيطان يجثم لأبن آدم عند المال إذا أعياه في كل شيء، إذن فالمال أعظم شباك الشيطان وأكبر مصائده، والإنسان مفتقر إلى المال لأن الحاجة تدعوه إلى طلبه، وإذن فلا بد أن يلتقي الخصمان على مجزرة المال، ولابد أن يغلب المتيقظ منهما الغافل، ويظفر الجاد بالهازل، فإن المال باب الشهوات ومفتاح المطامع، والإنسان رهين أطماعه وعبد شهواته، وهكذا يستعبد الحر ويبلغ الشيطان أمنيته من عدوه فيأخذ برقبته رضي الإنسان بهذه النتيجة أم أباها.

    وللشريعة الإسلامية نظرة معتدلة إلى المال، فهو خادم أمين يبلغ به الإنسان حاجته، وللخادم الأمين منزلته وله مقامه، على ان يبقى السيد سيداً، ويظل العبد عبداً، والمال وسيلة محبوبة توصل الإنسان إلى الخير، وتحصل له السعادة ووسيلة الخير خير، وسبب السعادة سعادة، على ان تبقى الوسيلة وسيلة والغاية غاية، وأما تحصيل المال بالسرقة والخيانة، والظلم في المعاملة والتعدي على الحقوق، و.. فهو أشد المحظورات عند الشرع والعقل، ومن أعظم المنكرات في العلم الأخلاق، لأنه يميت الغاية قبل الحصول على الوسيلة، وينقض الأساس قبل ان يتم البناء، ولست بحاجة إلى ذكر الشواهد على ذلك من كلمات الإمام الصادق (ع) لأن تحريم هذه الأشياء من ضروريات الدين الإسلامي.

    ولست أذكر الربا والمرابين إلا بخير، فإن الربا اختلاس يبيحه النظام المدني، والمرابين سراق يحترمهم القانون، وماذا على المسلم إذا أكل الربا هنيئاً مادام القانون يثبت له هذا التجاوز، وما دامت المعاملات الربوية شائعة بين الناس, فليغتصب أموال الناس باسم النظام، وليموه على جريمة بإسم التأويل، وليكن بعد هذا محارباً لله ولرسوله في رأي القرآن، وليكن الربا أشد حرمة من الزنا في رأي الإمام الصادق (ع)، فإنه يتأول قبل ان يرتكب، وليس عليه بعد التأويل شيء.. وبعد فإن تحريم الربا فكرة يحب على المسلم ان يعترف بها في مقام الاعتقاد، وليس عليه ان يطبقها في مقام العمل.

    والفقير قد يكون آمناً من أكثر هذه الجرائم التي تتعلق بالمال، ولكنه قد يتعرض لما هو أشد منها جرماًَ وأكبر أثماً.

    قد يحمله الاعواز على ان يسرق، وقد يدعوه الفقر إلى ان يخون، أو يستدين ثم ينكر، وقد... وقد.، والفقير إلى جانب اليأس أقرب منه إلى طرف الرجاء، وإلى الجزع أكثر ميلاً منه إلى الصبر، وأكثر ما يقترفه من الذنوب نتيجة ذلك اليأس والثمرة ذلك الجزع، وأحاديث الأئمة من أهل البيت (ع) قد تنوعت للفقير بأنواع البشائر لتحيي فيه ميت الرجاء، وتبعث في قلبه روح الأمل، ثم أمرته بالكسب ورغبته في الاقتصاد، وللأمام الصادق (ع) كلمات تتصل بهذا البحث يجب ان تتخذ قواعد عامة في باب الاقتصاد، ومن هذه الكلمات قوله:

    " لا تكسل في معيشتك فتكون كلا على غيرك"[85][5]

    " ضمنت لمن أقتصد ان لا يفتقر"[86][6]

    " أنظر من هو دونك في المقدرة، ولا تنظر إلى من هو فوقك "[87][7]

    " السرف أمر يبغضه الله حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء "[88][8].

    " من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس "[89][9] .

    " تَعَوَّذوا بالله من غلبة الدين وغلبة الرجال "[90][10] .

    الشجاعة

    أبرز صفات الرجولة، واعز ملكاتها، وأكثرها أثراً في تهذيب الأخلاق، وتنظيم الأعمال، لأن تهذيب الملكات جهاد، والمحافظة على الملكات المهذبة جهاد آخر، والمجاهد مخذول إذا لم تناصره الشجاعة ولم يرافقه الصبر، وبالثبات تنجح المساعي وتبلغ المقاصد، وتتم الإعمال، والشجاعة بنفسها إحدى الملكات التي لا تحصل إلا بالمجاهدة، لأنها توازن في قوة الغضب، وكيف يتوازن الغضب من غير كفاح، وكيف ترد عاديته بغير جهاد، وإذن فلا بد للإنسان من قوة أخرى تضرب الغضب بالغضب وتمزج اللين بالقوة لتركب من المجموع مزيجاً معتدلاً يسمى بالشجاعة، وتلك القوة هي الحكمة، وجنديها المكافح هو قوة الإرادة.

    (الغضب ممحقة لقلب الحكيم) بهذه الكلمة القصيرة يصف الإمام الصادق (ع) آثار الغضب ثم يقول بعدها: (من لم يملك غضبه لم يملك عقله)[91][11] الحكمة دليل الخير ورائد الإصلاح، وقلب الحكيم مصدر هذه الدلالة ومشرق ذلك النور ولكن ماذا يجدي هذا الدليل إذا هاج الغضب، وماذا ينفع هذا إِذا احتدم الغيظ.

    قد يسترشد الأعمى فيرشد، وقد يستدل الحائر فيهتدي والغاضب لا يقبل الإرشاد ولا يسمع النصح، لأن الغضب جنون والمجنون لا يسمع نصح الناصحين، دليل هذه الدعوى ظاهر في عيني الغاضب، وعلى تجاعيد وجهه، واحتباس أنفاسه، وتزاحم الكلمات على شفتيه، ثم هو قد يعتذر بعد ذلك عن أعماله بأنه غاضب، إذن فهو يعترف على نفسه بالجنون (ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله).

    وتهذيب الغضب يكون قبل حصوله، وطريقه هو التفكير في أسباب الغضب والتأمل في عواقبه وما يجره على النفس وعلى الغير من أضرار وأخطار. وليس من الصلاح ان يتعرض المرشد للإنسان في ساعة غضبه، لأنه قد يضيف بإرشاده إلى الغضب غضباً ويجمع إلى النار حطباً، ولكن من الخير ان يتمهله في النتيجة، وان يصرفه عن الفكرة صرفاً تدريجياً، لأن الغضب ثورة في دم القلب هم كما يقولون وبالتماصل وصرف الفكر تسكن هذه الثورة ويخلد الإنسان إلى السكون، ويقول بعض علماء النفس (إذا غضبت فعد العشرة) وهو يشير إلى هذا المعنى لأن تعداد العشرة يستدعي فرصة ولو قصيرة ويسبب تغيراً في وجهة النظر لو قليلاً.

    (الغضب مفتاح كل شر)[92][12] يزول الغضب عن الإنسان ببطء أو بسرعة، ويبقى في النفس ما تبقى النار في الهشيم، وإذا خلقت النار أثراً واحداً أو أثرين، فإن الغضب يبقي آثاراً كثيراً لا يضبطها حساب، فالحقد، وحب الانتقام والقسوة وسوء الخلق، والبغي، والعجب، والكبر، و...و... كل هذه من ثمرات التهور والإفراط في قوة الغضب.

    ويقابله من جانب التفريط الجبن، وإذا كان التهور خروجاً عن حدود الإنسانية إلى حد الجنون، فإن الجبن ضعة في صفات الرجولة إلى حد السقوط.

    يعيش الجبان في جو من الاضطراب ،ويخلق لنفسه مشاكل من الذعر. لأنه يفقد أعز شيئين يحتاج إليهما الإنسان، وهما: الثقة بالنفس، وقوة الإرادة، وعدوه الأول والأخير: الخوف والشعور بالنقص، ولو فكر قليلاً لعلم ان جميع ذلك من نسيج الوهم، وان الاحتياط الذي يتخذه لنفسه هو أشد ظلمة من الواقع الذي يحذر منه، لأن عاقبة هذا الخوف معلومة الخطر أما الواقع الذي يفر منه فهو خطر محتمل، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً من الجبناء قتلهم الخوف من حيث أنهم يجتنبون مواضع الخوف.

    وللجبن أثر سيئ على الصفات والأعمال، فهو يطبع الأخلاق بطابع الذعر، ويسم الإعمال بسمة التردد، وقد يكون من المستحيل على الجبان ان يتم عملاً واحداً صحيحاً حتى في هذه الأعمال التي يتحصن بها من الخوف من غير وجود سبب يوجب الخوف، والعجز عن احتمال ما يجب تحمله من الأمور، وضعة النفس وقصور الهمة، وفقدان الغيرة.

    أما الشجاعة فهي أول فضيلة للقوة الغضبية، ولها مظهران: ثبات في مقام الدفاع. وإقدام في محل الجهاد.

    والشجاعة لا تتميز بلون واحد، ولا تختص بسمة خاصة، فالغضب للحق شجاعة لأنه مما يأمر به العقل، والحلم عن الجهل الجاهل شجاعة لأنه مما يدعو إليه الرشد والثورة على الباطل شجاعة لأنها مما تقتضيها الحكمة، يتقدم الشجاع في موضع التقدم على الباطل شجاعة لإنها مما تقتضيها الحكمة، يتقدم الشجاع في موضع التقدم، ويتأخر في محل التأخر، وهو في كلتا الحالتين شجاع لأنه ثابت القلب أمام المخاطر، شجاع لأنه يدبر حركاته بالحكمة. ويقسمها المتأخرون من الخلقيين إلى شجاعة بدنية، وشجاعة أدبية.

    الشجاعة البدنية:

    (جبلت الشجاعة على ثلاث طبائع، لكل واحدة منهن فضيلة ليست للأخرى: السخاء بالنفس، والأنفة من الذل، وطلب الذكر، فإذا تكاملت في الشجاع كان البطل الذي لا يقام لسبيله والموسوم بالإقدام في عصره، وإذا تفاضلت فيه بعضها على بعض كانت شجاعة في ذلك الذي تفاضلت فيه أكثر وأشد أقداماً)[93][13] .

    عناصر الشجاعة ثلاثة على ما يقرره الإمام الصادق (ع) في هذا الحديث، يجب توفرها في الشخص ليسمى شجاعاً بالاستحقاق، والذي يفقد واحداً منها لا يستحق هذه الصفة لأنه يفقد ركناً من أركان الشجاعة.

    (1) السخاء بالنفس، وهذا هو العنصر الأول في الأهمية أيضاً، وإذا عرفنا ان السخاء بالشيء هو بذله عن طيب نفس علمنا الذي يتكلف بذل نفسه لبعض الدواعي لا يستحق ان يسمى شجاعاً، وان اجتمعت فيه العناصر الأخرى للشجاعة ولكن قد يتكرر هذا التكلف من الإنسان حتى يصبح معتاداً عليه، ويعود سخياً ويستحق صفة الشجاعة إذا استكمل بقية عناصرها.

    (2) و (3) الأباء والشمم، وهما خلقان نفسيان متلازمان في الأكثر، وأثر الأباء احتفاظ الإنسان بكرامة نفسه وترفعه عن الدنيء من الأمور، وأثر الشمم، طلب الرفعة والتوجه إلى المراتب الجليلة، وهما قريبان في المعنى من عزة النفس، وعلو الهمة، وسنذكرهما فيما يأتي. وهذه العناصر الثلاثة المتقدمة قد تجتمع في الشخص بأرقي مراتبها فيصفه الإمام (ع) بالشجاع الكامل وبالبطل الذي لا يقام لسبيله. وقد يضعف فيه بعض العناصر فيفقد من الشجاعة الكاملة بمقدار ذلك النقص.

    أما الشرط الأول للشجاعة وهو إخضاع قوة الغضب لقوة العقل فيقول فيه: ثلاثة تعقب مكروها. حملة البطل في الحرب في غير فرصة، وان رزق الظفر[94][14] .النفس أثمن شيء يجده الإنسان، ونفس البطل أعز ذخيرة يحتفظ بها ليومها الأكبر، فيجب عليه ان لا يخاطر بهذه النفس إلا إذا أحرز الفرصة ووثق بالفوز، وإلاّ فإنه يبيع نفسه من غير ثمن، والعقل يعد مجازفاً وإن رزق النصر، لأن نصره هذا وليد المصادفة، والمصادفات لا تدخل تحت مقياس.

    والشجاعة لا تختص بالجندي يقدم نفسه فداء للدين، أو يبذل دمه لنصرة الوطن فإن للشجاعة البدنية أنواعاً كثيرة, لأن شدائد الحياة لا تدخل تحت حساب، وملاقاة هذه الأهوال شجاعة متى كان الإقدام فيها بإشارة العقل وإرشاده فالشجاعة تكون في الجندي وفي القائد، والطبيب ورجال الإنقاذ على سواء إذا اجتمعت في هؤلاء عناصر الشجاعة التي ذكرها الإمام في حديثه السابق.

    الشجاعة الأدبية

    قد يصوب الإنسان رأياً من الآراء أو يعتنق مبدءاً من المبادئ، فيعتقد أنه الحق، ثم يجهر بهذه العقيدة وان كلفة الجهر بها غالياً، وأدى ثمنها مضاعفاً فيسمى جهره هذا شجاعة أدبية عند الأدباء المعاصرين.

    والشجاعة الأدبية خطة كبيرة يقوم عليها أساس نشر الحق وإعلان المبادئ السامية، وهي خطة المصلحين العظماء الذين اضطهدوا في إسعاد البشر وما توا لإحيائهم، والذين تنكرت لهم البشرية أحياءًٍٍ ثم خلدت لهم الذكر أمواتاً، ومن هؤلاء جنود مجهولون خدموا الناس فأنكرهم الناس وجهلهم التاريخ، ولكن أعمالهم مدونة في سجل هو أرفع من التأريخ، وإذا شكر الحق أعمالهم، ورفع لهم منازلهم فماذا يصنعون بتقدير الناس.

    والشريعة الإسلامية تجعل هذا المبدأ من أهم فروضها، وأكبر واجباتها وتسميه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)،ويقول الإمام الصادق(ع) في بيان وجوبه: (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)[95][15] ويقول في الحث عليه: (مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلاً ولم يباعداً رزقاً)[96][16] .

    مرت على الإمام الصادق (ع) أيام مختلفة تبدلت فيها سياسات وتقبلت فيها أمور، وقد شاهد الإمام (ع) فيها أنواعاً من الحكم، وكانت الأيام تبتسم له مرة وتعبس مرة أخرى، وكان الحكم يقسو تارة، ويلين تارة، والإمام بين هذه الأحوال ينتهز الفرصة لنفسه ولأصحابه في نشر الدعوة إلى المذهب، فيأمرهم بالإعلان حين تبسم لهم الأيام، ويحذر هم عنه حين تعبس، وهذا الحذر والتكلم أثران من آثار التقية التي عرفت في المذهب الجعفري، والتي شرعها الله في كتابه.

    وأسرف بعض المذاهب التي تنتسب إلى الشيعة في التكتم بعقائده وأحكامه حتى بعد ارتفاع الشدة وانتهاء أيام الجور، وتمسك المذهب الإسماعيلي بذلك مشهور في التاريخ، ولإيضاح معنى التقية وبيان أسرارها وأحكامها كتب أخرى وباحثون آخرون، والذي نقوله هنا: ان الأمر بالمعروف في رأي الإمام الصادق يكون واجباً ومن أهم الواجبات حين يكون موجباً لتأييد الحق وتعزيز دعوته، وهو حرام إذا عرض بالدماء الزكية، وخاطر بالنفوس المحترمة، وهو من أشد المحرمات حين يكون سبباً لإهانة الحق وإذلاله، ولذلك فهو يقول: (المذيع علينا كالشاهر سيفه علينا، رحم الله عبداً سمع بمكنون علمنا فدفنه تحت قدمه)[97][17] ويقول أيضاً: (من روى علينا حديثاً فهو ممن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ )[98][18] هكذا يأمر أصحابه بالكتمان في أيام الشدة:
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    عزة النفس، وعلو الهمة

    معرفة الإنسان بقيمته تستدعي طويلاً من التأمل، كثيراً من التيقظ والانتباه، فقد يسرف به حب الذات فيعطي نفسه أكثر مما تستحق من القيمة، وقد يسف به الصغار فيظلمها أقبح الظلم، وعزة النفس تتطلب من الإنسان شيئين:

    1ـ ان يحدد قيمة نفسه تحديداً صحيحاً

    2ـ ان يحدد منازل من يتصل بهم من الأصدقاء، وقيمة ما يباشره من الأعمال، فيضع نفسه في موضعها الذي يليق بها بمن يناسبه من الأصدقاء ويباشر ما يليق بشأنه من الأعمال، والتعدي عن ذلك إذلال للنفس وتعريض بكرامتها إلى الانتقاص، وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع): (ان الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه ان يكون ذليلاً )[99][19] ويقول: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " وسأله الراوي عن معنى إذلاله لنفسه فقال: " يدخل فيما يعتذر منه "[100][20] .

    أما علو الهمة فهو استشراف الإنسان إلى المعالي، ونزوعه إلى الرفعة والسمو.

    خلق الإنسان مجبولا على حب السعادة، والحصول على الكمال، ولكن الوصول إلى هذه الغاية دونه عقبات ومصائب، ولذلك فالذين يجتهدون في طلب الكمال قليلون، والذين يصلون إلى الغاية أقل هذا القليل، وعلو الهمة وحده هو الذي يسهل هذه العقبات، ويذلل هذه المصاعب.

    أما قاصر الهمة فقد يقعد به العجز عن السعي وقد يرجع إلى الوراء من منتصف الطريق وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع) " ثلاثة يحجزن المرء عن طلب المعالي: قصر الهمة، وقلة الحيلة، وضعف الرأي "[101][21] .

    كثيرون أولئك الذين يفهمون من عزة النفس معنى الكبرياء، ومن علو الهمة معنى العظمة الزائفة، وهي نظرة خاطئة ترسل من غير تدبر، عزة النفس ترفعها عن الدنايا والنقائص، وعلو الهمة هو طموح الإنسان إلى شريف الأعمال والأخلاق، وهما أساسان لرقي الفرد ورقي الأمة.

    يقدم الإنسان غيره عند تساوي الحقوق فيسمى مؤثراً، ويتسامح في بعض شؤونه فيكون متواضعاً، ويتغاضى عن جهل الجاهل فيسمى حليماً وهو عزيز النفس عالي الهمة في جميع ذلك، من عزة النفس ان يؤثر في موضع الإيثار، ومن علو الهمة ان يحلم في موضع الحلم، وعلو الهمة أداة ينال بها الإنسان ما لا يناله بالثروة، ويدرك بها ما لا يدرك بالمناصب، المنصب عادية والثروة زائلة، وعلو الهمة ثروة نفسية باقية ما بقى الإنسان، وتظل أنظر إلى من هو فوقك في الكمال، وثق بنفسك قبل المسير، وإذا سرت فضع قدمك يتثبت وانقله بجزم فستجد اللذة عند أول قدم تضعها، وستفوز بعد قليل بالغاية، ستعترضك في الطريق أشباح وأوهام يسميها العامة من الناس مصاعب فلا تعرها التفاتا، ولا تلق لها بالا، فإن السلم لا بد له من المدارج. تقدم ولو خطوة فإنها تمهد سبيل الخطوة الثانية ولا تقف في مسيرك إلا حين يأمرك العقل بالأناة فإن الوقوف تضييع للفرصة وتبذير في الزمن، ولتكن العقبات بعد ذلك ما كانت، فإن العقبات لا تصد الحر عن قصيده، ولا تضعف من إرادته " ومن انتظر بمعالجة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته لأن من شأن الأيام السلب وسبيل الزمن الفوت "[102][22] .




    الأناة والحلم:

    كل عمل يباشره الإنسان بإرادته واختياره لابد له من غاية ولا بد له من طريق يوصله إلى تلك الغاية، والإنسان الكامل هو الذي يفكر في الغاية قبل الشروع في العمل فلعل هذه الغاية غير شريفة في نظر العقل وان وافقت هوى في القلب، ولعلها لا تناسب علو الهمة وان كانت شريفة في نفسها فإن بعض الغايات يعد شريفاً ولكنه يحدد من قيمة الرجل العظيم، ولعل الاستيلاء على تلك الغاية يزاحم حقوق آخرين من أفراد الإنسان فيكون في عمله هذا ظالماً أو مستأثراًً أو العظيم أعلى همة من أن يظلم أو يستأثر.

    ثم ينظر إلى الطريق فعلّها أبعد سبيل إلى الغاية فتضيع عليه طويلاً من الزمن، وليس عليه أن تكون أسهل الوسائل فإن صعوبة الجهاد تضاعف لذة الانتصار.

    تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

    على الإنسان أن يتفكر في أسباب النجاح قبل الشروع في العمل، وعليه ان يتثبت في تطبيقها حين العمل، وجميع هذا يستدعي أناة في الطلب وتروياً في الفكر لئلاً يخفق في السعي ويبعد عن المقصود، وفي ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: (قف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل ان تقع فيه فتندم)[103][1] . ويقول أيضاً: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق فلا تزيده سرعة السير إلا بعداً )[104][2] .

    ويقول بعض الحكماء: (الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علو الهمة ).

    الأناة هي التثبيت في إنجاز العمل حذراً من الإخفاق، والحلم هو التثبت في إمضاء القدرة عند الغضب ترفعاً عن الظلم أو رغبة في التكرم والصفح، فالأناة والحلم توأمان متشابهان كما يقول هذا الحكيم، وأما ان نتيجتهما علو الهمة فهو حكم ليس بإمكاننا أن نصدقه في جميع الناس.

    من الناس من يكتسب علو الهمة بالحلم والأناة، ومن الناس من يكتسب الحلم والأناة بعلو الهمة، والحكم الذي لا يقبل الشك ان الحلم والأناة يصحبان علو الهمة صحبة دائمة.

    ويقول (ع): (من لم تكن فيه ثلاث خصال لم ينفعه الإيمان: حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم. وخلق يداري به الناس)[105][3] .

    الحلم مناعة في النفس يتحصن بها الإنسان عند هجوم الغضب وحب الانتقام، والحلم عدة الإنسان في أشد مزالقه وأخطر حالاته.

    يجهل الجاهل فيحلم عنه العاقل فيكون حلمه هذا تحديداً لكبرياء النفس، وإشادة بعظمتها في الصفات وترفعاً عن مقابلة الدنيِّ من الخصال ودرساً عالياً لخصمه في الأخلاق، وتحديداً لجهل ذلك الخصم عن الزيادة، وفي التأريخ والأمثال أناس خلدهم الحلم ليكونوا مثالاً عالياً للناس.

    والعرب القدماء يسودون الحليم ويذكرون في سبب ذلك: ان الحليم سيد على نفسه ومن ساد على نفسه كان جديراً بالسيادة على غيره. ويقول الإمام الصادق (ع): " لا يعد العاقل عاقلاً حتى يستكمل ثلاثاً: إعطاء الحق من نفسه على حال الرضا والغضب، وأن يرضى للناس ما يرضى لنفسه، واستعمال الحلم عند العثرة "[106][4] . ويقول: " كفى بالحلم ناصراً، وإذا لم تكن حليماً فتحلِّم ))[107][5] والتحلم هو التشبه بالحلماء في التغاضي عن الهفوات، والترفع عن المقابلة والتكلف لتهدئة الغضب، ويسمى في لسان الشريعة " كظم الغيظ"، وأثر التحلم رد عادية الغضب بعد الثورة، وأثر الحلم منع النفس عن الغضب، وصدها عن الانتقام إذا غضبت، فالتحلم أقل شأناً من الحلم، ولكن الاستمرار عليه يكسب الإنسان صفة الحلم.

    الكبرياء والتواضع:

    يتقابل الهران المتنافسان، فينتفش كل واحد منهما وينتفخ ويتطاول ويرتفع ليثبت لخصمه أنه أعظم قدرة وأشد صولة فإذا وقعت المصادمة خفيت المظاهر الكاذبة وظهرت الحقائق وشغل الخصمان بالواقع عن الخيال، وكانت الغلبة للقوة، فجرثومة التكبر ثابتة في غريزة الحيوان والإنسان، وإذا كان بينهما فرق من جهة فهو ان الحيوان يتخذ الكبر سلاحاً عند لقاء العدو والإنسان العاقل ينتفش وينتفخ لغير سبب يوجب ذلك، فالحيوان أعرف من أخيه بمواضع التكبر.

    " ما من أحدٍ يتيه إلا من ذلَّةٍ يجدها في نفسه "[108][6] لماذا يتكبر الإنسان إذا كان كبيراً في نفسه، ولماذا يتعاظم إذا كان عظيماً في صفاته، أنه ـ من دون ريب ـ يجد في نفسه نقصاً محسوساً وضعة بيّنة، وهو يريد ان يتم ذلك النقص ويسد ذلك الفراغ بهذه العظمة المكذوبة، ولكنه بعمله هذا يضيف إلى نقصه الأول نقصاً أكبر منه، ويضم إلى ضعته الأولى ضعة أشد منه وإذا كان حب الذات يحجب عينيه عن ان تبصر شيئاً من ذلك فإن للناس الآخرين عيوناً غير محجوبة. ولعل في المساكين الذين يترفع عن القرب منهم ويأنف من النظر إلى أسمالهم من هو أشرف منه نفساً وأزكى عملاً وأطيب ذكراً.

    ويتحدث الإمام الصادق عن المتكبر أيضاً فيقول: " لا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس "[109][7] يعيش المتكبر ثقيل الظل على الناس جميعاً حتى على المتكبرين من نظرائه وإذا شك في ذلك فلينظر مقت الناس للمتكبرين الآخرين، وليتأمل في نفسه فإنه يجدها في عداد الماقتين لهم أيضاً، وليجعل ذلك مقياساً له ان كان ممن يعقل أو ممن يحب أن يكون عاقلاً، وإلا فليفقد العزة من حيث أنه يريد العزة، ومن نازع الله في ردائه فهو جدير بهذه العاقبة.

    ليثق ان الناس لا يهمهم من أمره قليل ولا كثير، أما هؤلاء المتملقون الذين يظهرون له الانقياد والخضوع فهم دهاة مكرة، يقتنصون من ماله بهذا الخضوع ثم يسخرون من عقله ومن كبريائه، ولو تعاهد المسكين نفسه بغير طريق التكبر لبلغ العظمة النفسية الصحيحة ببعض هذا العناء.

    الكبر مبدأ سلسلة من الجرائم، وفاتحة سجل من الآثام، وأية جريمة خلقية أو قانونية يتوقف المتكبر عن اقترافها إذا هي وافقت أمنيته، وأية فضيلة يسعى إلى اكتسابها إذا كانت تصادم رغبته أو تزاحم سلوكه، وبذرة الكبر ليست محدودة النتائج، ولا مأمونة العاقبة، فقد تثمر أشد أنواع الكبر وتوصل إلى أبعد مراحله إذا صادفت نفساً مرنة وجهلاً محفزاً.

    يتكبر الإنسان على أخيه الإنسان لأنه فقير فيجره ذلك إلى التكبر على الله وقد يجره إلى الجحود والكفر وهي المرحلة الأخيرة من الكبر، ويقول فيها الإمام الصادق (ع) " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر"[110][8] والكبر هو الخلق النفساني الذي يتصف به المتكبر، والتكبر هو الأعمال التي تنشأ عن هذه الصفة النفسانية، وكما ان الكبر سبب لسقوط الفرد في الأخلاق فإنه سبب لانحطاط الأمة في الحضارة، لأن المتكبر يجد نفسه فوق كل أحد، ويرى ان مصلحته الخاصة مقدمة على كل شيء، وهو يحقد على الغير إذا أنكر عليه ذلك. فإذا شاع التكبر في الأمة نشأت الضغائن بين الأفراد، ودبَ الخلاف بين الجنود، وبعدت الشقة بين القادة، وأصبحت الأمة أمما متعددة بتعدد المتكبرين من أبنائها، وتفرقت كلمتها إلى غير اجتماع.

    يغالط المتكبر إذا ادعى انه يحترم القانون، لأنه يعتقد ان ارادته أسمى من جميع مواده وفصوله، ولعه يحترم النظام حين يكون وسيلة لحفظ حقوقه الخاصة، ولعله يرى ان واجب النظام ذلك لا غير.

    والفضيلة التي تقابل الكبر هي التواضع، وهي ان يحترم للناس حقوقهم ويعرف لهم منازلهم ومراتبهم، وأن يحتفظ لنفسه بمنزلتها الخاصة، فلا يجحد فضيلة لفاضل، ولا يحتقر شرفاً لشريف ولا يدعي لنفسه صفة كاذبة، فإن في الحقيقة غنى عن الخيال،وليس عليه وراء هذا ان يتنازل عن شيء من حقوقه لأحد من الناس.

    من التواضع الممدوح ان يتسامح الإنسان في بعض الحقوق التي لا يضر فواتها بشرفه، ولكنه ليس يواجب. أما الحقوق الواجبة للنفس والتي يكون فوتها قادحاً في الشرف ونقصاً في المروءة فإن التنازل عنها ذلة يجب على الإنسان ان يتنزه عنها، وهي الرذيلة الثانية التي تقابل التواضع من جانب التفريط.

    (من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وان تسلم على من تلقى، وأن تترك المراء وان كنت محقاً، ولا تحب أن تحمد بالتقوى)[111][9] وهذا الحديث يعرض أمامنا نوعين من التواضع:

    1ـ التواضع في السلوك والأعمال وهو علاج التكبر.

    2ـ التواضع في النفس وهو يقابل صفة الكبر فيها، وعلامة هذا التواضع أن لا يحب أن يحمد بالتقوى. قد يستعظم الإنسان نفسه،، أو يستعظم صفة من صفاتها، فيسمى معجباً، ويتطور العجب فيقيس المعجب نفسه بغيره، ويحكم لنفسه بالتفضيل ويطمئن إلى هذا الحكم فيكون كبراً، فالكبر تطور في العجب، وقد ينشأ الكبر أو التكبر من أسباب نفسية أخرى، ولكن العجب أهم مصادره وأعظم ينابيعه، والعلاج الصحيح لهذا الداء أن تستأصل البذرة، وأن تقتل الجرثومة وعلامة ذلك: (أن لا تحب أن تحمد بالتقوى).

    الصدق, والكذب

    وصفان يقعان على القول، ويضافان إلى القائل، وقد يتعديان إلى غير القول من الأعمال والصفات، والباحث الخلقي يريد منهما الخلقين النفسانيين الذين يصدر عنهما ذلك السلوك.

    الصدق والكذب صفتان للقائل أو للقول، ولكن الاعتياد عليهما يغرس في النفس ملكة الصدق أو الكذب، وهي التي يقصدها الخلقي في بحثه.

    وإذا اختلف علماء العربية في تعريف الصدق والكذب فلا ينبغي وقوع مثل هذا الاختلاف بين علماء الخلاق لأن غاية العالم الخلقي أن يصل الإنسان إلى الكمال، والكمال في القول أن يطابق الحقيقة والاعتقاد معاً، ولأن الاعتدال الذي يبحث عنه علم الأخلاق هو خضوع الإنسان في سلوكه للحكمة، والحكمة هي: (معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه) فالصدق الذي يبحث عنه الخلقي، والذي يعده من رؤوس الفضائل لا بد له من مطابقة الواقع، ولابد له من مطابقة الاعتقاد.

    قد يعتقد الإنسان بشيء وهو مخطئ في ذلك الاعتقاد، فإذا أخبر بما يوافق عقيدته هذه كان قوله صادقاً عند بعض علماء العربية،وقد يكون معذوراً عند الفقيه، لأنه لم يعتمد المخالفة والكذب، ولكنه ليس من الصدق الذي يعد في علم الأخلاق فضيلة.

    وليس الصدق من فروع قوة معينة، فقد يضاف إلى الشجاعة، وقد يكون من العفة، وقد ينتسب إلى الحكمة، وقد يشترك في إنتاجه أكثر من قوة واحدة، والكذب نظيره في ذلك.

    الصدق فضيلة، ومن الوهن بالكاتب أن يدل على كون الصدق فضيلة، وإذا كان فضل الصدق مفتقراً إلى الإثبات فأي شيء بعده يستغني عن الدليل، الصدق فضيلة وكفى، حكم لم يختلف في صحته عقل، ولم يخالف فيه نظام، أما الشرائع السماوية فإن وجوب الصدق هو الحكم الأول من أحكام كل شريعة: (إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر)[112][10] .

    والصدق أهم القواعد التي يقوم عليها بناء المجتمعات، وتنتظم بها وحدات الأمم، وأي بناء يبقى للمجتمع، وأية وحدة تبقى للأمة إذا انهارت دعامة الصدق بين الأفراد، وفقدت الثقة من كل قائل، وكيف يعامل التاجر في تجارته، والطبيب في عيادته بغير الصدق, وكيف يوثق بعلم العالم وعدل الحاكم, وإنصاف الراعي ووفاء الرعية، وكيف يتم كل شيء بغير الصدق.

    وعلى هذا الأساس يمكننا ان نجعل الالتزام بالصدق دليلاً على رقي الأمة, وان مقدار رقيها بمقدار التزام أفرادها بالصدق في أعمالهم وأقوالهم وانحطاطها بمقدار ما يفشو بينهم من الكذب، يستحيل على الأمة أن تتقدم في حضارتها ومعارفها إذا كانت متأخرة في الأخلاق، وأشد الأخلاق تأثيراً في ذلك هي الأخلاق العامة التي تؤلف بين الإفراد وتربط بين الجماعات، والصدق من أهم هذه الأخلاق.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    وللصدق أقسام عديدة، وكل واحد من هذه الأقسام فضيلة ويقابله الكذب في جميع ذلك.

    1ـ الصدق في القول:

    اللسان ترجمان النفس، وخطيب الجوارح وأمين الإنسان على تبليغ آرائه وأفكاره، واللسان هو السفير بين الفرد وبين الأمة، وهو الصلة التي تربط بين المجتمعات، وتصل بين الأمم، واللسان دليل شرف الإنسان ورائد عقله ومروءته، ومن الجدير بهذه الجارحة العظيمة ان تعرف مالها من الكرامة فتؤدي أمانتها بإخلاص ولا يحصل لها الإخلاص في الأداء إلا بالصدق.

    يقول الإمام (ع) " من صدق لسانه زكى عمله "[113][11] ويقول: " لا مروءة لكذوب "[114][12] الكذب ملق في اللسان يستبيحه الجاهل لقضاء حاجة وبلوغ مقصد, والكذب تلون في الحديث تسببه ضعة في النفس، وضعف في الإرادة، فلا يمكنه ان يلتزم بالحق فيما يقول، لا مروءة لكذوب، وأي مروءة للإنسان إذا أساء إلى شرف نفسه، وأي ثقة للغير به إذا خان أمانة نفسه، وحسب الكاذب جهلاً أن تكون حاجته أعز عليه من شرفه، وحسبه ضعة أن يتعرض للعنة الله ولعنة القانون الأدبي.

    أما الذي يكذب هازلا فقد يكون أشد جهلاً وأكبر جريمة لأنه يهزأ بحرمات الله وحرمات الأخلاق، والكاذب الجاد قد يتخّفى بجريمته فلا يطلع عليها السامع ولا تسلب ثقته من النفوس، أما الهازل فهو مهتوك الحرمة لأنه متجاهر بالإثم و" المؤمن لا يخلق على الكذب ولا على الخيانة "[115][13] وسأله رجل ان يعلمه ما ينال به خير الدنيا والآخرة ولا يطيل عليه فقال له: " لا تكذب "[116][14]

    2ـ الصدق في العزيمة

    ويقابله التردد:

    ويسمى هذا النوع من الصدق قوة الإرادة، وقد سبق البحث عنها في فضيلة العدل، وسمعنا قول الأمام الصادق (ع) في ذلك.

    3ـ الإخلاص: وهو الصدق في وجه العمل ويقابله الرياء.

    لكل عمل من الأعمال غاية يقصدها الناس العقلاء حين يصدرون ذلك العمل فالذي يشرب الماء مثلاً يقصد بعمله رفع أذى العطش، والذي يكتسب يهدف إلى تحصيل المال، والذي يتعبد لربه يقصد التقرب منه، والزلفى لديه، والمخلص في عمله هو الذي يطلب بالعمل غايته الصحيحة التي يطلبها العقلاء، ويمكن ان يكون لبعض الأعمال غايات متعددة فيكون الإتيان بالعمل لإحدى هذه الجهات إخلاصاً إذا كانت كل واحدة من الجهات تعد غاية صحيحة، والمرائي هو الذي يغير وجه العبادة فيجعلها ذريعة لتحصيل الجاه ويطلب بها المنزلة عند الناس فهو يعبد الناس بعبادة الله، ويجعل الدين سلماً لا هوائه وأغراضه، وقد قال الإمام الصادق (ع) في تفسيره قوله تعالى. ليبلوكم أيكم أحسن عملاً: " ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله، والنية الصادقة والخشية، ثم قال الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد إلا الله، والنية أفضل من العمل "[117][15] النية الصادقة هي الغاية الصحيحة التي يقصدها الإنسان عند العمل، وهي التي حكم الإمام بتفضيلها على العمل في آخر الحديث، والعمل الخالص في رأي الإمام (ع) هو ما كان الله غايته الأولى والأخيرة، وعلامة هذا الإخلاص ان لا يريد ان يحمد على عمله من أحد سوى الله.

    والإخلاص لا يقبل المزاحمة في الغاية حتى بعد إتمام العمل، فإذا أحال الإنسان وجه النية فقد أحال وجه العبادة وغير صفة الإخلاص، ولذلك كان الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، ويقول (ع): " كل رياء شرك، أنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله "[118][16] ويقول: " الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس، يشتهي ان يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه " ثم قال: " ما من عبد أسر خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له خيراً، وما من عبد يسر شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له شراً "[119][17] .

    المرائي مشرك لأنه يعبد أكثر من معبود واحد، والمرائي منافق لأنه يظهر مالاً يبطن ويلبس السيئة ثوب الحسنة، والمرائي ممقوت عند الله لأنه يجعل الله ذريعة لجرم ووسيلة لأثم، وهو ممقوت عند الناس لأنه يخادعهم بما لا يعلمون. ولابد وأن يكشف الحجاب يوماً ويبرز المستور.

    ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا التحفت به فإنك عاري والمرائي كاذب حتى عند نفسه وان غالطها بالعلل، ومنّاها بالأمل: " ما يصنع أحد كم ان يظهر حسناً ويسر سيئاً أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنه ليس كذلك "[120][18] .

    4ـ الصدق في العمل:

    ويريدون به ان يكون ظاهر الإنسان موافقاً لباطنه، فلا يقول ما لا يعمل، ولا يعمل ما لا يعتقد، ولا يعتقد غير الحق فيكون للحق سره وجهره، وللفضيلة قوله وعمله، وهذا المعنى أرفع شأناً من الإخلاص المتقدم، وفيه يقول الإمام " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدقته الأعمال "[121][19] .وهذا النوع من الإخلاص يشمل الصراحة ويقابل النفاق في القول والعمل. والنفاق يكون على أقسام:

    (1) النفاق في العقيدة: فالمنافق في عقيدته هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

    (2) النفاق في العمل، وقد روى الإمام الصادق (ع) عن جده النبي (ص) قوله: في ذلك: " ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق "[122][20] .

    (3) النفاق في الصداقة والمعاشرة. وقد قال الإمام الصادق (ع) فيه: " ولا خير في صحبة من لم يَرَ لك مثل الذي يرى لنفسه "[123][21] .

    5ـ الوفاء

    ليس أيسر على الإنسان من أن يتخذ الصديق أو يعد الوعد، وليس أعسر عليه من أن يفي بهذه الصداقة أو ينجز ذلك الوعد مهما تقلبت الأحوال أو تغيرت الحوادث.

    كلنا نرغب ان يكثر أصدقاؤنا وأصحابنا، والابتسامة باب الحب والكلمة الطيبة مفتاح القلب ولكن القيام بشؤون الصداقة غير الرغبة فيها.

    وكلنا نود ان نعد غيرنا بالجميل ففي الوعد لذة وفي الشعور باحتياج الغير إلى الإنسان متعة.ولكن إنجاز هذه العدة غير النطق بها.

    وفاء الإنسان برهان ثباته على المبدأ. ودليل ثقته بنفسه؛ لأن ضعيف الإرادة ووضيع النفس لا يمكنه ان يفي بشيء والإمام الصادق (ع) يقول في وفاء الصديق: ((إذا أردن أن تعرف صحة ما عند أخيك فأغضبه فإن ثبت لك على المودة فهو أخوك وإلا فلا "[124][22] ويقول: في الوفاء بالوعد: ((لا تعدن أخاك وعداً ليس في يدك وفاءه))[125][23] ويقول: " عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض "[126][24] يعد الإنسان عدة فيرهن شرفه بهذا الوعد ويحس مروءته بهذا الميثاق، فإذا أخلف بوعده فقد عرض شرفه للثلم ومروءته للانتقاص، وقد ينتحل الأعذار الكاذبة ليسد بها هذا النقص فيضم إلى الجريمة جريمة. والوفاء باب عظيم من الأخلاق يكفل للإنسان النجاح في أعماله والفوز في معاملاته ويكسبه الثقة في النفوس والثقة بالنفس، ومن أجتمع له هذان الوصفان فقد جمع الدنيا إلى الآخرة.

    6ـ الصدق في مقامات الدين:

    لأهل الدين في طريقهم إلى الله مراحل يجتازونها بالمجاهدة ويفوزون بعدها بالقرب والزلفى السالكون في هذه المراحل قليلون والواصلون إلى الغاية بعض هذا القليل، والسالك يصل إلى غايته حين يعين السبيل ويجتهد في المسير. ولكن قد يخطئ الساعي في السعي وقد يضل السالك عن الطريق فيبعد عن الغاية من حيث أنه يتوهم القرب. ويضل من حيث أنه إنه يعتقد الهدى وقد قال الإمام الصادق (ع): " العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق فلا تزيده سرعة السير إلا بعداً "[127][25] .وللطريق الذي يوصل إلى هذه الغاية علامات وللسعي فيه حدود والإنسان الصادق هو الذي عرف السبيل بعلاماته ثم أجتهد في السعي بحدوده. وغيره حاطب ليل وخابط عشواء.

    وللإمام الصادق (ع) في هذا الصدق كلمات كثيرة فهو يقول في مرحلة الخوف والرجاء: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً. ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"[128][26] .ويقول في مرحلة الحب: " الحب أفضل من الخوف "[129][27] ويقول: " من حب الرجل دينه حبه أخوانه"[130][28]ويقول في مرحلة اليقين: "ان العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين "[131][29] وأقوال الإمام الصادق (ع) في هذا الموضوع كثيرة نكل البحث عنها لمن يكتب في عرفان الإمام الصادق (ع).

    الحب والصداقة

    نرى الشيء الجميل أو الشيء الجيد فنجد في أنفسنا صدى انفعالياً لذلك الجمال أو لتلك الجودة، وهذا الشعور النفسي الذي نجده هو الاستحسان، وقد نحس في أنفسنا بعد هذا الشعور انجذاباً رفيقاً أو عنيفاً إلى ذلك الشي. وهذا الانجذاب هو المحبة، فالاستحسان انفعال النفس عند شعورها بالجمال للنفس إذا شعرت به. والمحبة هي رد ذلك الانفعال والاستحسان دعوة الجمال للنفس إذا شعرت به. والمحبة استجابة النفس لتلك الدعوة.

    والمحبة في أولى درجاتها ميل إلى الشيء المرغوب، إذا كانت الرغبة فيه لا تكلفتنا ان نتحمل المشاق في تحصيله، فإذا اشتدت الرغبة إليه، وكلفتنا أن نتحمل بعض المشاق سميت "وداً " وإذا بلغت أكثر من ذلك الحد سميت "حباً " وهو أسمى درجات هذا الإحساس. والعرفانيون يتجاوزون في المحبة هذا الحد فيجعلون لها درجات أخرى متفاضلة، ولكل واحدة من هذه الدرجات مراتب متعددة.

    يقول الفيلسوف: الحب ميل طبيعي إلى المحبوب الملائم، ويقول الاجتماعي: الحب صلة نفسانية متبادلة بين أليفين ورابطة متعادلة بين قلبين، ويقول العارف: الحب قوة خفية تصير المعشوق جزءاً من العاشق. وقد تحيلهما شيئاً واحداً لا يقبل التجزئة. ويقول الأديب: الحب إشراقة الروح على الروح ومصافحة القلب مع القلب.

    أما الإمام الصادق (ع) فإنه يسميه الإيمان حين يقول: " وهل الإيمان إلا الحب "[132][30] .وقد علمنا ان الإيمان الصحيح عند الإمام (ع) هو معنى الإنسانية الكاملة. والحديث على وجازته يدلنا على منزلة عظيمة للحب في رأي الإمام الصادق (ع) ولكن علينا ان نعرف هذا الحب القدسي الذي يفسر الإمام به الإيمان.

    من الأحكام التي لا تقبل التشكيك ان دوام كل عمل أو صفة يكون بمقدار ما لغاية ذلك الشيء من الدوام. والاهتمام به بمقدار ما لغايته من الأهمية. فالذي يطلب رجلاً لحاجة ينتهي طلبه إذا حصل منه على تلك الحاجة. والذي يقرأ كتابا ليفهم معناه تنتهي قراءته إذا حصل منه على الغاية, والحب أحد هذه الأشياء التي تطلب لغاياتها، وتدوم بدوامها، وتكون شريفة أو وضيعة بشرف الغاية أو ضعتها. فالذي يحب أحداً لماله ينفد حبه إذا نفد المال، والذي يحب شخصاً لغاية غير شريفة ينتهي حبه إذا حرم منها وقد ينقلب الحب بغضاً.

    والإسلام دين المحبة الصادقة، والاخوة الدائمة. لا يعجبه هذا اللون المشوه من الحب، وبالأحرى هذا التدنيس لطهارة الحب. حب الشهوة الوضعية والغايات السافلة.

    الحب شريف لأنه علاقة بين أرواح فيجب ان يكون شريف الخاتمة، والشريعة الإسلامية مثالية في جميع أحكامها فيجب ان تكون مثالية في حبها. على ان هذا اللون محدود الغاية فلا يلتئم مع الألفة الدائمة التي يدعو إليها دين الإسلام.

    الحب هو الصلة الأولى بين العبد وبين ربه، وهو العلاقة المتينة بين الإنسان وبين دينه. فيلزم أن تكون الصلة بين المسلمين ظلاً لذلك الحب وقبساً من ذلك النور فإن " من حب الرجل دينه حبه أخاه "[133][31]. كما يقول الإمام الصادق عليه السلام و" من حب الشيء حبّ جميع آثاره" كما تقول الفلاسفة. وليس الحب شيئاً يكال جزافاً بالمكاييل، ولا ينشأ مصادفة من غير سبب، يحب الإنسان ربه لأنه المنعم الذي أوجده بعد العدم. ثم كمله بعد النقص وهداه من الضلالة. ولأنه الكامل المطلق الذي يجب ان يحب لأنه كامل. ويحب الإنسان دينه لأنه الطريق الذي يصل به إلى السعادة والوسيلة التي تضمن له الفوز بالخير الأعلى. ويحب الإنسان أباه لأنه سبب وجوده وهو الكافل لتربيته. ويحب المسلم أخاه المسلم أخاه لأنه عديله في الدين وشريكه في الكمال، ويحب الإنسان أخاه الإنسان لأنه مثيله في الحقوق، ونظيره في استحقاق السعادة، هكذا ينظر الدين الإسلامي إلى الحب، وهكذا يجب أن يكون، " وهل الإيمان إلا الحب " والعلاقة بين المتحابين إذا أقيمت على هذا الأساس تحطمت دونها كل غاية وسهلت في سبيلها كل وسيلة، وكانت متعادلة بينهما فيحس أحدهما لصاحبه بما يحس به الآخر لأنه صلة بين نفسين وبالأحرى بين عقلين. أما حب الشهوة فلا تكون له هذه الخاصة لأنه صلة بين غريزة وجسد والجسد لا يحس بما يحس به القلب.

    على أن حب الصديق لكماله يكون أكبر لذة وأكثر اتصالاً وبقاءً، لأنها لذة عقلية. والقوه العقلية أكبر لذة أكبر لذة لأنها أقوى إدراكا وأسمى غاية. ويدلنا على هذا أنا نجد القلوب مجتمعة على حب الكمال أينما وجد وعلى تعظيم الكامل أينما حل وان فصلت بيننا وبينه عشرات القرون، فالذي يحب " عنترة " لشجاعته أو يحب " حاتما " لجوده لم يحبهما لغرض يرجع إلى قوة الغضب أو إلى قوة الشهوة، ولكنه يحبهما لأنهما متصفان بصفتين من صفات الكمال، وهو يلتذ بهذا الحب كلما خطرت هذه الناحية في قلبه.

    والصداقة مادة من مواد الأخلاق، والصديق صورة ترسم للإنسان مستقبلة وتحدد له سعادته وكماله، وقد قال الشاعر العربي:

    عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه أفكل قرين بالمقارن يقتدي

    ينشأ الإنسان وتنشأ معه غريزة التأسي وحب المحاكاة، وهو يعلل بها كثيراً من أفعاله، ويبنى عليها كثيراً من عاداته. يرتكب الإنسان الجريمة لأن نظيره قد أرتكب مثلها أو أشد منها. ويعمل الإحسان لأن أمثاله يعملون ذلك. حتى الطفل فإنه يصدر كثيراً من إعماله لمجرد الاقتداء وحب المحاكاة وكم لهذه الغريزة من مظهر، وكم لها من نتيجة حسنة أو قبيحة، وبديهي أن هذه الغريزة إذا قارنت الحب والصداقة كانت أشد تأثيراً في الإنسان.

    وقد أثبت التجربة ان المجاورة والاتصال يؤثران حتى في الجمادات.

    كالريح آخذة مما تمر به نتناً من النتن أو طيباً من الطبيب

    فمن الجدير بالإنسان ان يختار موضعاً لصداقته، لأنه يختار مادة لأخلاقه ويضع رسماً لمستقبلة وحدّاً لسعادته. من حقوق الحب على الإنسان ان يختار له موضعاً، ومن حقوق النفس ان يختار لها مهذباً. وقد قال الإمام الصادق (ع): "من لم يجتنب مصادقة الأحمق أو شك أن يتخلق بأخلاقه "[134][32] .وقال: " لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره "[135][33] وللإمام الصادق (ع) كلمات تتضمن قواعد مهمة في الصداقة نذكرها من غير تعليق:

    " لا خير في صحبة من لم ير لك مثل الذي يرى لنفسه" ، "إياك ومخالطة السفلة فإن السفلة لا تؤدي إلى خير"، " أحب الأخوان على قدر التقوى"، " لا تعتد أحد حتى تغضبه ثلاث مرات "، " عليك بإخوان الصدق فإنهم عدة عند الرخاء، وجنة عند البلاء"، " صحبة عشرين سنة قرابة "، " ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تطلبن بكلمة خرجت من أخيك محملاً "، " الصفح الجميل ان لا تعاتب على الذنب، والصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى "، " لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك وأبق منها، فان ذهاب الحشمة ذهاب الحياء وبقاء الحشمة بقاء المودة "، " أحب أخواني إلى من أهدى إلى عيوبي "[136][34]، " إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك فإنه أثبت للمودة بينكما "[137][35] " أنظر قلبك فإذا أنكر صاحبك فإن أحد كما قد أحدث"[138][36] .
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    ميزان الخلق الصحيح

    "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " الإمام الصادق (ع)

    (8)

    ميزان الخلق الصحيح

    غاية علم الأخلاق أن يوصل الإنسان إلى الكمال الأعلى الذي يطلبه بأعماله وصفاته، ولهذا فإن بعض الخلقيين يسرف فيقول: " علم الأخلاق أشرف العلوم جميعاً لأنه يوصل إلى أشرف مخلوق إلى أشرف غاية ".

    والحكم الذي لا يقبل الشك فيه أن علم الأخلاق من أشرف العلوم ومن أرقاها.

    علم الأخلاق رائد الإنسان إلى سعادة ودليله على الخير الأعلى، وهو مرشد النفوس إلى الفاضل من الصفات والفاضل من الأعمال. ومن الجور الذميم ان تترقب منه أكثر من هذا. لعلم الأخلاق أسوة بأخواته من العلوم التي تطلب لغاياتها. عليه ان يمهد السبيل إلى الغاية ويوضح الطريق إلى المقصد. وعلى العالم الخلقي ان يكون طبيباً ماهراً يعين الداء بدقة ويصف الدواء بمهارة وليس عليه بعد هذا ان يضل الضال أو يصل الواصل. فإن لحصول النتيجة شروطاً أخرى وراء معرفة المقدمات، قد يخطئ الإنسان الهدف الذي يريده لأنه أساء التطبيق، أو لم يحسن استعمال العلاج، والمحاسب عن هذا التقصير هو الإنسان نفسه، لا علم الأخلاق، وقد أوضح الإمام هذه الناحية بقوله: " ان نفسك رهينة بعملك"[139][1]، وقوله: " قد جعلت طبيب نفسك، وبيّن لك الداء وعرفت آية الصحة ودللت على الدواء فأنظر كيف قيامك على نفسك "[140][2] علم الأخلاق هو الوسيلة التي تكشف للإنسان الداء، وهو الذريعة التي يعرف بها آية الصحة، والمرشد الذي يدله على الدواء، ثم يوكل استعماله إليه فلينظر كيف قيامه على نفسه. أما قول الإمام في هذا الحديث: " جعلت طبيب نفسك "فأنه يجري على استعارة جميلة وكثيراً ما كررها الخلقيون في كلماتهم. وبين الطب وعلم الأخلاق نواحٍ كثيرة من وجوه الشبه.

    للإنسان صورة ظاهرة يفحصها الطبيب من حيث الصحة والمرض، وله صورة باطنة يبحث عنها الخلقي من حيث التوازن والانحراف، ولكل من هاتين الصورتين طوارئ تخرجها عن الاستواء. والتوازن في صفات الجسم الذي يطلبه الطبيب لأنه صحة؛ له نظير في النفس يطلبه الخلقي لأنه كمال. والانحراف الذي يدافعه الطبيب عن البدن لأنه مرض جسمي. يحارب الخلقي مثله في النفس لأنه مرض روحي، وإذا كان حصول الكمال النفسي سعادة للإنسان كما يقول الخلقيون، فإن حصول الصحة سعادة للبدن كما يقول الأطباء، وكثيراً ما سرت أمراض البدن إلى النفس وتعدت أمراض النفس إلى البدن والمتأخرون من الخلقيين والنفسيين يقولون: " العقل الصحيح في الجسم الصحيح ".

    الإنسان هو طبيب نفسه وهو المسؤول عن تزكيتها وتهذيب أخلاقها ولكن على علم الأخلاق ان يدله على آية (الصحة ) وأن ينصب له ميزاناً عادلاً يميز به بين صحيح الملكات وفاسدها، وخير الأعمال وشرها؛

    ليألف الحسن منها ويجتنب القبيح، وقد علمنا في الفصول السابقة ما يتكفل لنا بذلك، فقد عرفنا أن فضائل الملكات أوساط ورذائلها انحرافات وأطراف، وعرفنا أن المقياس الذي تعلم به هذه الأوساط هو الشريعة الإلهية المعصومة، وبهذا الميزان نستطيع أن نعرف الخلق الصحيح فنتوجه إليه في سلوكنا، وأن نحكم على العمل بأنه خير وأنه صواب إذا وافق الخلق الكريم.

    ولكننا قد نخطئ الهدف المقصود وان كما قد علمنا جميع ذلك، وطبقناه على أعمالنا وعاداتنا.

    قد نعين الأوساط التي حكمنا بأنها فضائل، ونميز الأعمال التي تختص بها هذه الأوساط ثم يسعى إلى تحقيقها حتى يصبح الخلق صفة من صفاتنا، ونحن مع هذا الجهد كله لم نتصف بالفضيلة لأننا قد أضعنا الغاية التي من أجلها حببت هذه الفضيلة. ليست الأوساط بمطلقها فضائل، فقد تطلب هذه الأوساط لغير غاياتها، والخلق الصحيح ما طلبت به الغاية الصحيحة. والقاعدة التي يذكرها الخلقيون لذلك: أن يتصف الإنسان بالفضيلة لأنها فضيلة. ويجتنب القبيح لأنه قبيح. أما الإمام الصادق (ع) فيقول في ذلك: " من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن "[141][3] الحسنة هي العمل الخير إذا قصد به الوجه الصحيح، والسيئة عمل الشر، وعمل الخير أيضاً حين يقصد به غاية غير صحيحة. فإذا سر الإنسان بحسنته وأستاء من سيئته كان هذا دليلاً على تركز الخلق الصحيح في نفسه لأن السرور هو التذاذ الإنسان حين يرضي رغبة من رغباته. والمساءة هي التألم الذي يحصل عند انقماع الرغبة.

    وهذا الذي يذكره الخلقيون هنا لا ينافي ما تقدم في تحديد معنى الفضيلة وإنما هو شرح وإيضاح.

    الفضيلة أن تعتدل الملكة النفسية فلا تشذ ولا تنحرف. وإذا مالت بها الأهواء واستخدمتها الغايات فقد شذت وانحرفت. والفضيلة أن تسير النفس في عملها وفي صفاتها على هدى العقل وإرشاده، فإذا قصدت بالعمل أو بالصفة غاية وضعية فقد بعدت عن حكمة العقل وتعامت عن إرشاده. والفضيلة أن يتوسط الإنسان في ملكاته، وأن يتسامى في غاياته، أما هذا الذي تحدثنا عنه فهو باطل يشبه الحق، وظلال يشبه الهدى، وسيئة تلبس ثوب الحسنة.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    أصول العلاج عند الخلقيين

    " أقصر نفسك عما يضرها قبل أن "

    " تفارقك، واسع في فكاكها كما تسعى "

    " في طلب معيشتك فإن نفسك رهينة "

    " بعملك "

    الإمام الصادق (ع)

    (9)



    أصول العلاج عند الخلقيين

    تحدثنا عن العلاقة المتينة بين علم الطب وعلم الأخلاق، وعلمنا كيف يكون الاتصال وثيقاً بين العلمين، وكيف يشبه الطبيب بالخلقي والخلقي بالطبيب، وليس الأمر بين العلمين مقصوراً على المشابهة فقط، فإن بين العلمين اتصالاً هو أكثر من المشابهة، ورابطة هي أشد من التماثل، على أن بين العلمين فروقاً واضحة هي الفروق التي تكون بين علم وعلم آخر، ومن هذه الفروق التي فلاحظها بين العلمين أن الأدواء التي يدافعها الطبيب عن الجسد، والتي يمانعها الخلقي عن النفس كل منها انحراف وشذوذ وتخلف عن كمال محبوب، ولكنا نجد ان الأدواء التي تحدث في الجسد تكون مبغوضة للإنسان، ولا يمكن أن تكون مرغوبة له إلا في احوال اسثنائية لا يصح القياس عليها، ونجد أدواء النفس على العكس من ذلك مرضية للنفس ومحبوبة لها عند أكثر الناس. والسر في هذا الحب العجيب ان هذه الأدواء تكفل للنفس بعض مشتهياتها وتحقق لها بعض ميولها ورغباتها، والنفس تألفها لهذه اللذات الزائفة، وإن كانت أدواء فاتكة وسموماً قاتلة، وقد يبلغ الأمر ببعض النفوس الوضعية أن تنفر من الخلق الكريم لأنه يمنعها عن تحصيل هذه اللذات.

    أدواء الجسد في الأكثر تصحب آلاما محسوسة والإنسان يمقتها لأنه يحس بآلامها. أما أدواء النفس فلا تكون كذلك لأنها تسبب آلاما معنوية وانحطاطاً كمالياً، وقصير النظر لا يعبأ بهذا النقص، ولا يعتني بهذا الألم، لأنه يجهل ما يسميه الخاصة كمالاًً أو رقياً معنوياً.

    (1) وإذن فأول علاج يصفه علم الأخلاق لهذه الأدواء هو العلم لأنه يرفع النفس من هذه الضعة، وينقذها من هذا الانحطاط، وهو الحاسة الدقيقة التي يدرك بها الإنسان لذة الكمال وألم الشقاء ، وقد سمعنا أحاديث الإمام الصادق (ع) في العلم.

    (2) للباحث الخلقي غايتان متساويتان في الأهمية: (1) تهذيب الملكات السالفة وأحالتها إلى أخلاق صحيحة. (2) احتفاظ الإنسان بأخلاقه الصحيحة بعد التهذيب. فالاعتدال الخلقي جهاد في جميع أدواره، وهو جهاد لأنه خروج على غريرة وتمرد على قوة، وهو جهاد لأنه إرغام أراده وقسر عادة، وهو جهاد لأنه حمل للنفس على ما تكره، وصرف لها عما تحب، وهو جهاد لأن الفضائل أوساط، ومعرفة هذه الأوساط تستدعي حزماً والإقامة عليها تستدعي عناءً، وهو قبل هذا كله جهاد لأنه بحث عن عيوب النفس المحبوبة، والحب كما في المثل المشهور: يعمي ويصم. وإذا كانت للنفس رغبات وأهواء تزاحم الخلق الصحيح في ابتداء تكوينه، فإن لها نظائر من هذه الرغبات تزاحم الخلق الصحيح في أوقاته الأخرى والنفس من أجل هذه الرغبات المتزاحمة في جهاد متوا صل.

    ومعنى هذا ان العلاج الخلقي في جميع أدواره يعتمد على الصبر والثبات، فبالصبر تغرس الفضيلة في النفس، والصبر هو الذي يتعاهدها لتنمو وينميها والصبر هو العدة التي يتدرع الإنسان بها أمام الأخطار، وهو الخلق الأول الذي يجب تهذيبه ليكون عوناً على تهذيب غيره، وهذا هو معنى قول الإمام الصادق (ع): " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان "[142][4] وهو معنى قوله أيضاً " رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أو كره "[143][5] .

    الصبر وقوف النفس أمام الشدائد، وثباتها عند هجوم النوازل فهو فرع من فروع الشجاعة، والشدائد التي تثبت لها النفس قد تكون من الأمور الخارجة عن النفس كصروف الدهر وآلام الحياة، وقد تكون من الأمور المتعلقة بالنفس كالآلام التي تحصل من مكافحة طغيان الشهوة وجموع الغضب، والثبات عند جميع هذه الآلام شجاعة.

    الصبر على جهاد قوة الشهوة شجاعة لا عفة، ولكن ثمرة هذا الجهاد هي العفة، والصبر على كفاح قوة الغضب شجاعة وثمرة هذا الكفاح شجاعة أخرى.

    في العلاج الخلقي مصائب، وهو جهاد مستمر، ولكن هذه المصائب لا تحد من قدرة الإنسان شيئاً فالشخص حين يصدر العمل قادر على تركه، وهو حين تركه مختار في فعله.

    في وسع الإنسان ان يفكر في غايات أعماله فيحترز عن العمل القبيح، وأخيراً عن الخلق الذميم. في وسعه ان يفكر في غاية العمل قبل اصداره، ثم هو في سعة من الفعل أو الترك، لأن له إرادة واختياراً. وإذا استطاع ان يخالف الملكة في المرة الأولى كانت مخالفتها في المرة الثانية عليه أسهل، وهي في المرة الثالثة أخف مؤونة وأكثر سهولة. وهكذا تأخذ الشدة بالضعف وتعود الملكة الثابتة حالة زائلة، ويصبح الخلق السيئ أثراً بعد عين.

    وليحذر ان تغلبه العادة الأولى قبل ان يكمل التمرين على مخالفتها، فإنها إذا غلبته مرة أفسدت عليه كثيراً من عمله وأحتاج إلى كفاح جديد، والإمام الصادق (ع) يشير إلى هذا الطريق من المجاهدة بقوله " قف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل ان تقع فيه فتندم "[144][6] وقوله: " إياك ومرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر وعراً "[145][7] .

    (3) في وسع الإنسان الحازم ان يقف من نفسه موقف المحاسب الشحيح، فيستعرض صفاتها بالنقد والتمحيص، وسيوقفه الفحص على مواضع الخلل من ملكاته، ومن السهل عليه بعد هذا ان يوجد في نفسه شوقاً إلى الفضيلة التي تباين ذلك الخلق السيئ الذي عرفه من نفسه، فإذا أوجد في نفسه هذا الشوق فقد تم له كل شيء

    أما معرفة عيوب النفس فسنذكر لها طرقاً عديدة بعد هذا، وأما الشوق إلى الفضيلة فسبيله الفكر.

    ليحدث الإنسان نفسه بمحاسن تلك الفضيلة، وما تعقبه من آثار طيبة، وعاقبة حميدة وما يناله أصحابها من مكانة سامية وشأن كبير، ليحدث نفسه بذلك، وليثق ان الشوق يحصل له قطعاً، لأن النفس تحب الكمال وتطمح إلى الارتقاء، ومن الخير له ان يطيل التفكير بذلك، لتثبت الرغبة ويتأكد الميل.

    وإذا تم للإنسان النجاح في هاتين المرحلتين فليجتهد بعد هذا في الأعمال التي توافق الفضيلة التي أشتاق إليها، وكلما تكرر العمل ثبتت العادة الجديدة، وانهار بناء الخلق القديم.

    وقد قال الإمام الصادق (ع) في المرحلة الأولى من هذا العلاج: " أنفع الأشياء للمرء سبقه إلى عيب نفسه "[146][8] وقال في المرحلة الثانية منه: " التفكير يدعو إلى البر والعمل به [147][9] وقال في باب الزهد: " وإنما أردوا بالزهد الدنيا لتفرع قلوبهم للآخرة "[148][10] والأئمة من أهل البيت (ع) كثيراً ما يعتمدون هذا الطريق في تهذيب الأخلاق، وقد قدمنا للقارئ نموذجا صغيراً من كلمات الإمام الصادق في ذلك.

    (4) ذكر علماء الأخلاق لمعرفة الإنسان عيوب نفسه طرقاً متعددة نشير إلى بعضها فيما يأتي: ـ

    (أ‌) الخلفاء والأصحاب:

    يحاول الإنسان أي يرى صورته الظاهرية فيمتنع عليه أن يراها بغير المرآة، ويحاول ان يطلع على عيوب نفسه فيتعذر عليه ذلك بغير الصديق، صديقك غيرك فلا يصعب عليه ان يطلع على نقائصك، وقد جعله الحب الصحيح كالجزء منك فهو لا يخفي عليك شيئاً تكرهه من نفسك، " ولا خير في صحبة من لم يَرَ لك مثل الذي يرى لنفسه "[149][11] ولذلك شرطوا أن يكون الصديق من أهل الأمانة والدين، وقد سمعنا قول الإمام الصادق (ع) " أحب أخواني إلى من أهدى إليَّ عيوبي "[150][12] وهو يقول أيضاً: " من رأى أخاه على أمر يكرهه فلم يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه "[151][13] .

    (ب‌) اجتنب ما تعده قبيحاً من غيرك: تنظر إلى الناس الآخرين فترى عيوباً كثيرة تظهر في أعمالهم وأقوالهم، فإذا أردت إصلاح نفسك فأجتهد أن لا تعمل نظير تلك الأعمال ولا تفكر في وجود تلك النقائص فيك، فإن النفس تنكره إذا كان خفياً، وتعتذر عن ارتكابه إذا كان ظاهراً، فتضيع من منك الفرصة، وتذهب عليك الوقت.

    (ج) استفد من لسان عدوك ما خفي على عين صديقك.

    قد يستر الحب بعض نقائصك على الصديق، وقد يتجاهل بعض عيوبك حذراً من اساءتك، ولكن العدو لا تخفي عليه نقائصك لأنه يراعيك بعين ساهرة، وهو لا يختشي من ان يسيء إليك، فاجتنب عما ينسب إليك من الصفات. والأفعال ولا يضرك ان يكون كاذباً إذا برأت نفسك من العيوب.

    (د) إذا أتهمت نفسك بخلق ذميم وأردت موقع هذه التهمة من الصحة فحاول ان توجد عملاً يخالف ذلك الخلق، فإذا صعب عليك العمل فأعلم ان ذلك الخلق من صفاتك.

    (هـ) تستطيع النفس ان تخفي نقائصها على الإنسان، ولكنها لا تستطيع ان تخفي عليه ميولها وأهواءها، وهذا الهوى أثر لازم للخلق السيئ فإذا خفيت عليك نقائصك فاجتنب أقرب الأمرين إلى هواك، ويريدون من الأمرين الفعل والترك.

    5 ـ الخوف والرجاء

    الخوف انفعال نفساني يحصل للإنسان أو للحيوان حين يتوقع صدور أمر يكرهه أو فوات شيء يحبه، وهو إحدى الغرائز التي تولد معه وتنشأ وتصحبه في جميع أحواله، وكم جلبت له هذه الغريزة من خيرات، وكم جنت عليه من شرور. والرجاء هو انتظار النفس حصول أمر ترغب فيه، وموضع الخوف والرجاء في الأكثر هو الشيء إذا كان مشكوك الوقوع. وللإنسان بين هاتين الملكتين شؤون وأطوار، فقد يشتد به الخوف حتى يكون يأساً، وقد يفرط به الرجاء حتى يكسبه تسامحاً وإهمالاً وقد يعتدلان فيكونان مزيجاً خلقياً يبعث إلى العدل ويرشد إلى الخير، وقد قال الإمام الصادق (ع) في ذلك: " أرج الله رجاءً لا يجرِّئك على معاصيه، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته "[152][14] وقال: " لا يكون المؤمن مؤمناً مؤمنا حتى يكون خوفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو "[153][15] ..

    الخوف والرجاء صفتان نفسانيتان ولكنهما لا يثمران الخير حتى يكون لهما مظهر في السلوك وتأثير في العمل هذا.

    الخوف العملي إذا اشتد يسمى عند العلماء الخلقيين ورعاً. وإذا اشتد الورع يسمى تقوى: " وان قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى "[154][16] .
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني