النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    المرأة والعلوم الدينية/ الشيخ حسن الصفار

    [align=center]المرأة وأهلية المعرفة الدينية(1)[/align]


    [align=center]المرأة والاجتهاد[/align]

    هل يمكن للمرأة أن تكون صاحبة رأي في مجال الفكر والتشريع الإسلامي؟ وهل يحق لها المشاركة في حركة الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي؟

    أم أن أنوثتها تقصر بها عن بلوغ هذا المقام، وتبقيها ضمن حدود الاتباع والتقليد للرجل؟

    من المعلوم أن مفاهيم الدين وأحكامه تؤخذ من الكتاب والسنة، وهما خطاب مفتوح لكلِّ ذي عقل، وموجه لكل إنسان، ووعيهما والتدبر فيهما مطلوب من كلِّ مكلف، ذكراً كان أو أنثى، فحينما يقول تعالى: {هذا بيان للناس} (آل عمران/138) ويقول تعالى: {أفلا يتدبَّرون القرآن} (النساء/82)، ويقول تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذِّكر فهل من مدَّكر} (القمر/17)، وحينما يقول النبي (ص): «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها». فهذه الخطابات والأوامر لا تختص بالرجال دون النساء. فكما يتفهّم الرجل آيات الكتاب العزيز، وأحاديث الرسول الكريم، ويعرف منها واجبه وتكليفه، فكذلك الحال بالنسبة للمرأة، وهذا ما كان معمولاً به في عصر النبوّة والإمامة.

    وإذا كانت المسافة الزمنية التي تفصلنا عن عصر التشريع، قد جعلت عملية فهم النص الشرعي، ومعرفة الوظيفة من خلاله، تحتاج إلى درجة من الخبرة في بعض العلوم كأرضية ومقدمات لتحصيل القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره المقررة، كاللغة العربية، وتفسير القرآن، وعلم الدراية، وعلم الأصول. فإن التوفّر على هذه الخبرة العلمية، إنما يستلزم حركة وقدرة ذهنية تمتلكها المرأة، كما يمتلكها الرجل. وبالتالي، فبإمكان المرأة أن تصل إلى مستوى الفقاهة والاجتهاد، فتتعامل مع النص الشرعي مباشرة، وتستنبط المفاهيم والأحكام، وحينئذ ليست المسألة أنه يصحُّ لها العمل بما يؤدي إليه رأيها واجتهادها، بل إنه يجب عليها ذلك. لأن المجتهد _ رجلاً كان أو امرأةً _ إذا استنبط الحكم بالفعل، فلا يجوز له أن يترك ما اتّضح له أنه حكم الشرع ويعمل برأي آخر. فالمرأة يمكن أن تكون فقيهة مجتهدة، وأن تعمل برأيها وحسب اجتهادها.

    ناقش الفقهاء مسألة أهلية المرأة في التصدي للمرجعية والتقليد، بحيث يعتمد الآخرون على فتاواها، وتصبح مرجعية دينية تؤخذ منها الأحكام الشرعية.

    والرأي السائد لدى الفقهاء، والذي يذكرونه في رسائلهم العلمية، هو عدم جواز تقليد المرأة، وإن اجتمعت فيها كلَّ الشروط والمواصفات، على أساس أن الذكورة شرط في المرجعية.

    لكنَّ الملفت للنظر، أن أغلب أولئك الفقهاء، حينما يناقشون المسألة علمياً وعلى صعيد الاستدلال والبحث، يعترفون بعدم وجود دليل مقنع للمنع من تقليد المرأة، ولسلبها أهلية المرجعية والإفتاء. يقول السيد الحكيم في المستمسك: (وأما اعتبار الرجولة في شرائط المجتهد المقلد، فهو أيضاً كسابقه عند العقلاء، غير ظاهر عند العقلاء، وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف إطلاقات الأدلة إلى الرجل، واختصاص بعضها به. ولكن لو سلم، فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى والخنثى). وقد بحث هذه المسألة الفقيه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وناقش أدلة المانعين، وخلص إلى: (أنه لا دليل على اشتراط الذكورة في مرجع التقليد، كما أن جميع ما ذكر لا يصلح للردع عن بناء العقلاء وسيرتهم على عدم الفرق، في رجوع الجاهل إلى العالم، بين كون العالم رجلاً أو امرأة، فيصحُّ تقليد المرأة المجتهدة الفقيهة إذا كانت واجدةً لبقية الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد. وعلى هذا اتفق الفقهاء وعلماء الحديث في باب الرواية. والعمدة في المسألة بناء العقلاء، هذا مضافاً إلى أن أدلة حجية الرواية هي أدلة حجية الفتوى ومشروعية التقليد، ولا يمكن تجزئة دلالة الأدلة إلا بدليل مقيد أو مخصّص، وقد تبيَّن عدم وجود دليل من هذا القبيل. قال المحقق الأصفهاني: فأما الذكورة فلا دليل عليها بالخصوص، وما ورد في باب القضاء من عدم تصدي المرأة له، وكذلك في الإمامة للرجال، فالحكمة فيهما ظاهرة. وهل حال الفتوى إلا كحال الرواية، ولذا يستدلُّ بأدلة حجية الخبر على حجية الفتوى، من دون اختصاص لحجية الرواية بالرجال. مع أنه لا ينبغي الريب في جواز العمل لها برأيها أيضاً).

    أما عند فقهاء السنّة، فيبدو أنهم متفقون على أن الذكورة ليست من شروط الإفتاء والمفتي، وبالتالي فهم يقبلون مرجعية المرأة في الأحكام الشرعية. جاء في الموسوعة الفقهية: (لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقاً. فتصحُّ فتيا العبد والمرأة والأخرس).

    [align=center]المرأة والاصطفاء الإلهي[/align]

    تحدث القرآن الكريم في موارد عديدة عن مفهوم الاصطفاء، وأن الله تعالى قد اصطفى أفراداً من خلقه وعباده، كقوله تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران/33). وقوله تعالى: {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} (النمل/59)، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة/130)، وعن نبيه موسى عليه السلام: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف/144) وآيات أخرى عديدة.

    والاصطفاء في اللغة العربية من مادة الصفو والصفاء. جاء في لسان العرب: صَفوَة كل شيء خالصه. والصِفوة _ بالكسر_: خيار الشيء وخلاصته وما صفا منه. والصَفِيُّ من الغنيمة: ما اختاره الرئيس من المغنم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره. واستصفيت الشيء إذا استخلصته. والاصطفاء الاختيار، افتعال من الصفوة. ومنه: النبي (ص): صَفْوَة الله من خلقه ومصطفاه.

    ويتبين من معنى الاصطفاء لغةً، ومن سياق ورود هذا المفهوم قرآنياً، أن اصطفاء الله تعالى لأحد يعني شيئين:

    1 - صفاء وخلوص ذلك المصطفى من الشوائب والثغرات، بأن يكون في قمة النـزاهة والكمال ذهنياً وسلوكياً.

    2 - اختياره وتمييزه عن الآخرين وتقديمه لهم كرمز وقدوة، ليكون نموذجاً يقتفى ويهتدى به في طريق الخير والصلاح.

    ولإرادة هذين المعنيين، كرّر الله تعالى ذكر الاصطفاء في خطابه للسيدة مريم ابنة عمران عليها السلام بقوله تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} (آل عمران/42). يقول ابن عاشور: وتكرر فعل اصطفاك لأن الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منـزّهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير، فذلك لم يُعدَّ الأول إلى متعلق، وعُدّي الثاني.

    هذا الاصطفاء الإلهي الذي يعني وجود أفراد من البشر يجسّدون المبادئ والقيم في حياتهم، ويبلغون مستوى الطهارة والكمال، ويكونون قدوات وهداة لبني الإنسان على امتداد التاريخ، لم يجعله الله تعالى رتبةً خاصة بالرجال دون النساء، بل اصطفى عيّنات من النساء كما اصطفى من الرجال، ما يدل على قابلية المرأة وأهليتها لأعلى درجات الكمال، وأن تكون في موقع الريادة والاقتداء، وفي مستوى التفوق والامتياز على سائر بني البشر نساءً ورجالاً. يقول تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران/33). وآل إبراهيم وآل عمران فيهم الرجال والنساء. ومن النساء اللاتي نعرفهن: سارة وهاجر زوجتا إبراهيم (ع). ومن آل عمران مريم وأمها. كما نص القرآن الكريم على اصطفاء مريم (ع).

    وحينما نـزل الوحي بآية التطهير لأهل بيت رسول الله (ص)، وهي قوله تعالى: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} (الأحزاب/33)، فإنها شملت فاطمة الزهراء إلى جانب علي والحسنين (ع). يقول الشيخ ابن تيمية حول هذه الآية الكريمة: (وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة: أن هذه الآية لما نـزلت، أدار النبي (ص) كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين (ع). فقال: «أللهمَّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، وسنـته تفسر كتاب الله وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. فلما قال: «هؤلاء أهل بيتي»، مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواج، علمنا أن أزواجه وإن كنّ من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر).

    وبكل وضوح، يقدم القرآن الكريم المرأة المصطفاة كمثل ونموذج لجميع المؤمنين ذكوراً وإناثاً على مرِّ العصور، يقول تعالى: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين* ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين} (التحريم/11_12).

    [align=center]نبوَّة المرأة[/align]

    الرؤية الإسلامية المتميزة للمرأة، والتي تقوّم المرأة من خلال إنسانيتها وقدراتها وإنجازاتها، ولا تعتبر أنوثتها معوّقاً، ولا نقطة ضعف تقعد بها عن بلوغ أي مستوى من التقدم والكمال.. هذه الرؤية دفعت بعض العلماء للنقاش حول موضوع نبوّة المرأة، وأنه لا مانع من أن يمنح الله تعالى رتبة النبوّة لبعض النساء، فمن الناحية العقلية، حين يبحث علماء الكلام الصفات التي يجب أن تتوفر في النبي، فإنهم لا يعتبرون الذكورة شرطاً، حيث لا يمتنع عقلاً أن تكون المرأة نبية، وإذا كانت هناك آيات في القرآن تفيد أنه من الناحية الفعلية كان الرسل رجالاً، كقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم} (يوسف/109). فإن العديد من العلماء والمفسرين قد أشاروا إلى أن المقصود بالرجولة هنا هو البشرية، في مقابل توقع البعض أن يكون الأنبياء فوق مستوى البشر، كأن يكونوا ملائكة، يقول تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة} (المؤمنون/24). قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم}: (والرجال: اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، أي إنسان أو شخص، ليس المراد الاحتراز عن المرأة).

    ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم من استخدام كلمة (رجل) بمعنى إنسان، كقوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} (الأحزاب/4)، وقوله تعالى: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله} (النور/37)، وقوله تعالى: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحبُّ المطّهِّرين} (التوبة/108) وغيرها، فإن المقصود هنا بالرجل والرجال ليس الذكور في مقابل الإناث كما هو واضح.

    وأيضاً، فإن هناك من يفرّق بين الرسول والنبي، على أساس أنَّ كلَّ رسول مطلوب منه التبليغ والدعوة، بينما لا يلازم النبوَّة ذلك، وبناءً عليه، فإن الآيات إنما تنفي عن النساء الرسالة، ولكنها لا تنفي النبوَّة، كما يذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة. يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري، عند شرحه لحديث رقم 3411 عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران...» قال ما يلي: (استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان، لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء والأولياء والصدّيقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم ألا يكون في النساء ولية ولا صدّيقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة، كأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة... وقد نقل عن الأشعري أن من النساء من نبىء وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك ومن عند الله عزّ وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهم في القرآن. وقال ابن حزم: وحجة المانعين قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً}، وهذا لا حجة فيه، فإن أحداً لم يدع فيهن الرسالة، وإنما الكلام في النبوة فقط). ونقل الألوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني أنه: (ذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحَّح ذلك ابن السيد).

    [align=center]فاطمة الزهراء (عليها السلام)[/align]

    النصوص الواردة حول مقام فاطمة الزهراء عليها السلام، تدل على أنها في موقع الريادة والحجة الشرعية على الناس رجالاً ونساءً، إذ إن القرآن الكريم يحكم بطهارتها وانتفاء أي رجس عنها ضمن أهل البيت، بقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. كما أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقها: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني»، والذي رواه البخاري عن الميسور بن مخرمة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله عز وجلَّ ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»، والذي رواه الطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك، والذهبي في الميزان وغيرهم، وأحاديث عديدة أخرى، تقدِّم السيدة الزهراء كرمز وقدوة للأمة الإسلامية جمعاء، وبالطبع، فإن معنى ارتباط رضى الله برضاها، وغضب الله بغضبها، يدلُّ على عصمتها ونزاهتها وكمالها، وأن سلوكها وممارساتها، بل وحتى مشاعرها وعواطفها، منسجمة مع القيم الإلهية، لا تحيد عنها قيد شعرة، وإلا فكيف يرتبط رضى الله تعالى وغضبه بمن يصحُّ عليه الرضى والغضب النابع من الهوى والانفعال؟

    وبناءً على ذلك، فإنَّ ما يصدر عن السيدة الزهراء من قول أو فعل أو موقف، فإنه يكون كاشفاً عن الأمر والتشريع الإلهي. فهي حجة شرعية على جميع الناس، وهي _ عليها الصلاة والسلام _ حجة على كل أولادها الأئمة الطاهرين عليهم السلام، ولذا قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «وهي حجة علينا»، وقال الإمام الحجة عليه السلام: «وفي ابنة رسول الله لي أسوة حسنة». وقد قال الإمام الحسين عليه السلام: «أمي خير مني». هكذا يقدم الإسلام المرأة في مقام ريادي، وموقع قيادي، ليؤكد قابليتها واستعدادها للكمال والتفوق، تماماً كما هو الحال بالنسبة للرجل.

    [align=center]المرأة والمعرفة الدينية[/align]

    هل المؤسسة الدينية العلمية مؤسسة ذكورية لا مكان فيها للمرأة؟

    وهل أن حركة الاجتهاد والفقاهة محصورة في الرجال محظورة على النساء؟

    ولماذا لا نجد للمرأة المسلمة المعاصرة دوراً في الحوزات العلمية والمؤسسات الدينية وساحة النشاط الفكري الإسلامي؟

    تفرض هذه الأسئلة نفسها من عدة منطلقات:

    أوَّلاً: إن المرأة مخاطبة بالدين كالرجل تماماً، فالدين يخاطب الإنسان بقسميه الذكر والأنثى على حدٍّ سواء، وهو ليس للذكر أولاً وللأنثى ثانياً، ولا أن المرأة مخاطبة عبر الرجل وبالتبع له، بل هي مكلَّفة مباشرة من قبل الله تعالى ومحاسبة أمامه يوم القيامة كما هو الرجل. وحينما يأتي في القرآن نداء للناس، أو لبني آدم، أو للعباد، أو للإنسان، فإنه موجَّه بالطبع للذكور والإناث، كقوله تعالى: {يا أيّها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم} (الحج/1). وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} (يس/60)، وقوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر/53)، وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه} (الانشقاق/6).

    إن هذه الآيات وأمثالها نداءات من قبل الله تعالى للرجل والمرأة، وكذلك فالتكاليف والأحكام الشرعية موجهة لهما معاً. وباعتبارها مخاطبةً ومكلفةً، فهي معنية بتلقي الخطاب وفهمه، وبمعرفة التكليف وتبيّنه. ومن الطريف هنا أن ننقل الحديث المرويّ عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله، عنها أنها سمعت النبي صلى عليه وآله وسلم يقول على المنبر: «يا أيها الناس! وكانت الجارية تمشطها، فقالت للجارية: استأخري عني _ أي أمهليني حتى أسمع _ فقالت الجارية: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فأجابتها أم سلمة: إني من الناس».

    ثانياً: مشاركة المرأة في الحركة العلمية، والنشاط الفكري والشرعي الإسلامي، يعني مضاعفة الجهود التي تبذل في هذا الميدان، فالمرأة نصف المجتمع، وتمتلك الطاقة والكفاءة، فإذا ما وجّهت قدراتها وإمكانياتها الذهنية والفكرية. في خدمة البحث العلمي الديني، أضافت إليه رصيداً كبيراً، وإثراءً عظيماً. بينما انكفاؤها عن هذا الميدان يعني خسارةً ونقصاً. وقد تكون عدم مشاركة المرأة في ميدان العلوم الدينية خسارة نوعية في بعض الأحيان، لأن مشاركتها لا تضيف رصيداً كمياً في الجهود العلمية المبذولة فقط، بل قد تقوم المرأة بدور مميَّز، وخاصةً في تنقيح الأحكام والموضوعات المرتبطة بشؤون المرأة، والقضايا المختصة بها، فالفقيه في ممارسته لاستنباط الحكم الشرعي، ليس جهاز حاسوب آلي، ينجز مهامه بعيداً عن أي تأثير، بل هو بشر تنعكس الأجواء المحيطة به، والمشاعر والتصورات التي يحملها على رأيه ورؤيته، بشكل أو بآخر، وخاصةً في مجال تنقيح الموضوعات الخارجية. فإذا امتلكت المرأة قدرة الاجتهاد والاستنباط، وتصدت لبحث القضايا والأحكام المرتبطة بها، ضمن الضوابط المقررة، فقد يكون تشخيصها أعمق وأدق في تلك الموضوعات.

    ثالثاً: في هذا العصر، وحيث أصبح موضوع المرأة معركة صراع بين الحضارات والتوجهات، ووظفت الحضارة المادية وسائل الإعلام والمعلومات المتطورة، للتبشير برؤيتها وثقافتها، ولترويج أنماط السلوك الاجتماعية المنبثقة عنها، فإن من الضروري جداً أن تتسلَّح المرأة المسلمة برؤية الإسلام، وأن تتحصَّن بمفاهيمه ومناهجه، حتى لا تقع فريسةً لتأثيرات الأفكار والبرامج الوافدة، خاصة وأنها تستهدف المرأة بدرجة أساسية، وأيضاً لتكون المرأة المسلمة هي خطُّ الدفاع عن تعاليم الإسلام، والمبشّرة بمفاهيمه وقيمه الأخلاقية الاجتماعية، على مستوى العالم.

    إن مؤتمرات كبرى عالمية تعقد حول موضوع المرأة، كمؤتمر (نيروبي) عام 1975م، ومؤتمر (بكين) عام 1995م، ضمن سياق إبراز النموذج الغربي للمرأة، وتعميمه لكل المجتمعات البشرية، وهناك سيلٌ لا ينقطع من البرامج الإعلامية والثقافية، عبر الأفلام والمجلات، والمؤسسات الاجتماعية الضخمة، التي تدفع بهذا الاتجاه، فإذا ما كانت المرأة محدودة المعرفة والوعي الديني، أو لم تكن مفاهيم الإسلام واضحة وراسخة في ذهنها وفكرها، فإنها لن تصمد أمام هذه الثقافة الغربية الزاحفة. إن تفقه المرأة في الدين، وإلمامها بمعارفه، وتعمقها في فهم أحكامه ومناهجه، هو الذي يؤهلها للقيام بدور الدعوة إلى الإسلام، والتبشير بنموذجه للمرأة على الصعيد العالمي.

    [align=center]المرأة والتنافس العلمي[/align]

    بالعلم تميّز الإنسان على غيره من المخلوقات، ونال الجدارة من الله سبحانه بأن يكون خليفته في الأرض: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة} (البقرة/30)، ولما تساءلت الملائكة عن مدى صلاحية الإنسان للقيام بهذا الدور، وهو ينطوي على غرائز وشهوات قد تقوده إلى الإفساد في الأرض، أجابهم الخالق القدير بإظهار ما منحه تعالى للإنسان من قدرة على التعلّم، وكفاءة في كسب المعرفة، يقول تعالى: {وعلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم* قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض} (البقرة/31-33). وهكذا أصبح العلم ميزة للإنسان، وصفة نال بها الجدارة للخلافة في الأرض، وكلما زاد علمه زاد تميّزه، واتسعت قدراته لتسخير قوى الطبيعة، واستثمار طاقات الكون والحياة.

    وكما تميّز الإنسان على غيره بالعلم، فإن أفراد الإنسان يتمايزون فيما بينهم ويتفاضلون بالعلم أيضاً: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة/11) {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر/9). وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أكثر الناس قيمةً أكثرهم علماً، وأقل الناس قيمة أقلّهم علماً». فباب العلم مفتوح للراغبين فيه، وساحته ميدان سباق للمتنافسين على مقاماته. وكل إنسان مؤهل للولوج إلى هذا الميدان، بما منحه الله تعالى من نعمة إدراك وتعقل، دونما فرق بين شقيه الذكر والأنثى. فالمرأة كالرجل، توازيه في إنسانيته، وتشاركه في القيام بدور الخلافة، وتحمّل مسؤولية عمارة الأرض، وقد منحها الله تعالى كالرجل نعمة العقل، وقدرة الإدراك والمعرفة، ولا تختلف عنه في كونها تملك استعداداً وقابلية تامة لإدراك الحقائق والمفاهيم، وتملك القدرة على العلم والتعلم، والسير في هذا الطريق إلى أقصى غاياته.

    بل إن دماغ النساء يحتوي على خلايا الدماغ المسماة العصبونات، بنسبة تزيد بحوالي 10% عن دماغ الرجال، بالرغم من أن الرجال بصفة عامة أكبر حجماً من النساء، وأدمغتهم كذلك أكبر حجماً. والتفاوت في حجم الدماغ لا يؤثر في مستوى فعاليته، وإلا فدماغ الفيل يزن حوالي 6 كيلوغرامات، بينما دماغ الإنسان لا يزن أكثر من 1300 غرام. وقد نشرت الدكتورة (كيمورا) الباحثة في الأسس العصبية والهرمونية للوظائف الفكرية _ الذهنية _ لدى الإنسان، وهي أستاذة في علم النفس في جامعة غربي أونتاريو، نشرت بحثاً علمياً حول الفوارق في الدماغ بين الجنسين، أكدت فيه وجود تفاوت متبادل في بعض الجوانب والمهارات، حيث يقابل تفوق كل طرف في جانب، تفوق الطرف الآخر في جانب آخر، وخلصت إلى «أن الفوارق الجوهرية بين الجنسين، تكمن في الطُرُز المختلفة للمهارات الفكرية التي يتمتع بها كل منهما، أكثر مما هو راجع إلى المستوى العام للذكاء (حاصل الذكاء)، فمن المعروف أن هناك تفاوتاً بين الناس في قدراتهم الذهنية: فمنهم من يبرع في الجوانب اللغوية، ومنهم من يجيد الأعمال اليدوية، وهكذا يمكن لشخصين أن يتمتعا بمستوى واحد من الذكاء، مع اختلاف في نمط المهارات التي يجيدها كل منهما».

    [align=center]العلم فريضة على المرأة[/align]

    من هنا، فإن دعوة الإسلام الإنسان إلى طلب العلم، وحثّه البليغ على كسبه، موجهة إلى المرأة، كما هي موجهة إلى الرجل، وليس هناك نص واحد من آيات القرآن الكريم، أو أحاديث السنة الشريفة في هذا السياق مقتصرة على الرجل وحده. ولزيادة التأكيد على هذه الحقيقة، فإن الحديث الشريف المرويّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصحبه وسلم، والذي يعتبر طلب العلم فريضة واجبة وليس أمراً ثانوياً كمالياً، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم _ هذا الحديث ورد في إحدى صيغه إضافة _ ومسلمة». مع أن «كل مسلم» موضوعه الشخص، فيشمل الذكر والأنثى، على حد تعبير أبي الحسن الحنفي السّندي في شرحه لسنن ابن ماجة القزويني، إلا أن ورود لفظة «ومسلمة» هو لمزيد التأكيد على شمول الأمر للرجال والنساء. وقد وردت هذه الإضافة «ومسلمة» في الحديث، ضمن مصدرين حديثين، هما (غوالي اللآلي العزيزية) لأبي جمهور الأحسائي، و(مصباح الشريعة) المنسوب للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، كما نقل عنهما الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار)، أما المصادر الأساسية الأخرى، كسنن ابن ماجة والأصول من الكافي للشيخ الكليني، فلم ترد فيها هذه الإضافة.

    بقي أن نشير إلى أن العلم الذي يكون طلبه مفروضاً شرعاً، هو ما تتوقف عليه حياة الإنسان الدنيوية ومصيره الأخروي.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]المرأة والعلوم الدينية(2)[/align]



    كانت المرأة سبّاقة إلى التعرف على الرسالة، وإلى الاطّلاع على الآيات القرآنية الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد أول من أطلع على خبر البعثة النبوية، فحينما نزل الوحي للمرة الأولى في غار حراء، وعاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدها إلى بيته، حدّث زوجته خديجة بما رأى وسمع، فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

    وكما كان علي بن أبي طالب أول ذكر آمن برسول الله وصلى معه، فإن خديجة بنت خويلد أول امرأة آمنت به، وصدقت بما جاءه من الله تعالى، فكان علي وخديجة هما السابقان إلى الإسلام، ثم توالى بعدهما إسلام بقية الأصحاب، كأبي بكر وزيد بن حارثة.

    واهتمت المرأة المسلمة بكسب المعارف الإسلامية، عبر تواجدها في المسجد، واستماعها للخطب النبوية الشريفة، وحضورها في مختلف المناسبات العسكرية والسياسية والاجتماعية، ومشاركتها في معظم الأحداث والقضايا التي واكبت بناء المجتمع الإسلامي الأول، ومسيرة الأمة.

    وكمصداق لرغبة المرأة المسلمة في تحصيل علوم الشريعة، فقد تقدمت مجموعة من النساء تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً خاصاً بهنّ، كما ورد عن أبي سعيد الخدري أنه: «قالت النساء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهنَّ فيه فوعظهن وأمرهن».

    وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يهتمُّ بإيصال حديثه وتوجيهه للنساء، حتى إنه ربما كرَّر خطبته للنساء بعد أن يخطب الرجال، إذا ظن أنهن لم يسمعن صوته، كما حدّث ابن جُرَيج قال: «أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفطر فصلَّى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكّرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقي فيه النساء الصدقة. قلت لعطاء: أترى حقاً على الإمام ذلك ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم، وما لهم لا يفعلونه». فتربت المرأة المسلمة على الاهتمام بدينها، والحرص على معرفته، والتفقّه فيه، وما كانت تتردّد في الذهاب إلى الرسول (وسؤاله عما تحتاجه من الأحكام الشرعية، حتى في المسائل الخاصة بها، والمرتبطة بالقضايا الجنسية، حتى قالت أم المؤمنين عائشة: نعم النساء نساء الأنصار! لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقّهن في الدين).

    [align=center]مصدر للسنّة النبويّة[/align]

    وبذلك أصبحت المرأة مصدراً للأحاديث النبوية الشريفة، ومرجعاً لنشر رواياتها ونصوصها، تماماً كالرجال من الصحابة الراوين لأحاديث السنة الشريفة، وكتب الحديث مليئة بالأحاديث الواردة عن طريق زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وسائر الصحابيات الراويات. فهي كالرجل طريق لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومصدر لمعرفة أحكام التشريع، لذا أجمع علماء المسلمين على الأخذ بروايات النساء، حينما تتوفر في تلك الروايات شروط القبول والصحة. يقول الشيخ المامقاني: (تقبل رواية الأنثى والخنثى إذا جمعت الشروط المذكورة (الإيمان، البلوغ، العقل، العدالة، الضبط)، حرة كانت أو مملوكة. كما صرح بذلك كله الفاضلان وغيرهما، بل نفى العلامة في النهاية الخلاف فيه، وادّعى في البداية: إطباق السلف والخلف على الرواية عن المرأة. وقال الشوكاني: (لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه ردَّ خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سنّة تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة، وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنّة). وقد أثبت الإمام الخوئي في موسوعته (معجم رجال الحديث) (باب النساء) أسماء 134 راوية روين الأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة من آله.

    وقد صدر مؤخراً كتاب بعنوان (عناية النساء بالحديث النبوي) لمؤلفه مشهور بن حسن آل سلمان، ترجم فيه لنحو 354 امرأة كان لهنَّ دور في هذا الإطار. ففي حدود القرن الأول الهجري، وجد عدد كبير من الراويات للأحاديث النبوية، لا سيما في طبقة الصحابيات. فقد بلغ عدد من لهن رواية من الصحابيات في الكتب الستة لأهل السنة 132 امرأة. ويقول أحد الباحثين: وكان للنساء الراويات _ في القرون السابقة _ منقبة ومفخرة انفردن بها عن الرواة، هي أنه لم يكن منهنَّ امرأة اتهمت بالكذب، أو الوضع، أو ترك حديثها. بينما وصف المئات من الرجال بهذه الأوصاف. قال الذهبي في أواخر كتابه ميزان الاعتدال: (وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها). وعقد ابن عرّاق الكناني فصلاً سرد فيه أسماء الوضّاعين والكذّابين، فبلغوا المئات، لم توجد فيهم امرأة واحدة. فحسب النساء بذلك فخراً).

    وقد بلغ عدد المحدّثات اللاتي اهتممن برواية الحديث النبوي، وعرفن بذلك، في القرن الثامن الهجري فقط، 232 امرأة. هذا ما نقلته كتب التراجم، ولعلَّهن أكثر من هذا العدد.

    هذا ولم يقف مستوى المرأة في العلوم الدينية عند مستوى حفظ الحديث ونقل الرواية، بل نافست الرجل في الوصول إلى مستوى الفقاهة والاجتهاد، وإبداء الرأي والنظر باستنباط الحكم الشرعي من مصادره المقرَّرة.

    [align=center]المرأة حين تفوق الرجال[/align]

    لا تزال بعض الأوساط تنظر إلى المرأة وكأنها أقلّ قيمةً من الرجل، وأنها دونه رتبةً وفضلاً، لذلك يجب أن يكون الرجل دائماً في المقدمة والأمام، وصاحب الرأي والأمر، وأن تبقى المرأة تابعةً خاضعة، لمجرد أنها خلقت أنثى، وكان الرجل ذكراً.

    ومن قديم الزمان، كانت هناك تصورات وآراء خاطئة، تميّز بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية، بل وتشكك في إنسانيتها، وفي هدفية وجودها، إن كان لذاتها أو من أجل الرجل.

    لكن انبثاق نور الإسلام شكَّل منعطفاً، ونقلةً تاريخية، في مسألة النظر إلى المرأة، وتحديد موقعيتها ومكانتها في المجتمع الإنساني. أكد الإسلام على وحدة النوع الإنساني، وتساوي شقيه الذكور والإناث في القيمة الإنسانية، وفي مصدر الخلقة وأصل التكوين. يقول تعالى: {يا أيّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها} (النساء/1)، ويقول تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} (النحل/72). والخطاب للإنسان ذكراً وأنثى، بأن الله تعالى قد خلق له من نفس جنسه ونوعه زوجاً تتكامل به حياته. فالرجل زوج المرأة ومن ذات جنسها، والمرأة زوج الرجل ومن نفس نوعه، وخالقهما واحد هو الله تعالى، وقد أنشأهما من مصدر واحد وعبر نظام وطريقة واحدة. يقول تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى* ألم يكن نطفةً من منيّ يمنى* ثمّ كان علقةً فخلق فسوّى* فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (المدثر/36-39). والمرأة كالرجل، أوجدها الله تعالى لذاتها، ومن أجل أن تحقّق العبودية والخضوع لله تعالى في حياتها، تماماً كما هو هدف وجود الرجل. يقول تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون} (الذاريات/56). وورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إنما النساء شقائق الرجال».

    [align=center]التمايز والتفاضل[/align]

    وبناءً على أصل المساواة والمشاركة في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة، لا تكون الذكورة ميزةً للتفوّق والتميّز، فالرجل باعتباره رجلاً، ليس أفضل من المرأة لكونها امرأة. ذلك أن الإسلام أقرّ معايير وقيماً للتفاضل والتمايز بين أبناء البشر، ذكوراً وإناثاً، فمن كان منهم أقرب إلى تلك المعايير، وأكثر التزاماً بتلك القيم، فهو الأفضل. رجلاً كان أو امرأةً.

    ومعايير التفاضل والتمايز في الإسلام ثلاثة:

    1 - التقوى: وهي تعني الالتزام بمنهج الله تعالى وأمره، فالأوفر حظاً منها، هو الأقرب إلى الله، والأعلى شأناً عنده، من أي عرق كان، وإلى أي قبيلة انتسب، ذكراً كان أو أنثى، يقول تعالى: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير} (الحجرات/13). وورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى}.

    2 - العلم: والذي هو ميزة الإنسان عمَّن سواه من المخلوقات، وبه يعرف ربه، ويدرك ذاته، ويفهم ما حوله، وكل من كان أكثر نصيباً من العلم، أصبح أكثر أهليةً وجدارةً. يقول تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة/11)، ويقول تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر/9). وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم أنه قال: «أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقل الناس قيمةً أقلّهم علماً». وورد عن الإمام (عليه السلام) قوله: «قيمة كل امرىء ما يحسنه».

    3 - العمل: فحركة الإنسان في الاتجاه الصحيح، وإنجازه وفاعليته في طريق الخير، هو الذي يحدِّد موقعيته في الدنيا، ومكانته في الآخرة، يقول تعالى: {ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون}(الأنعام/132). ويقول تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (الملك/2).

    وواضح للمتأمّل، أن هذه المعايير التي أقرها الإسلام للتمايز والتفاضل، تعبّر عن قيم حقيقية وواقعية، فالتقوى والعلم والعمل، كل واحدة منها تفرز نتائج ومعطيات مؤثّرة لصالح حياة الفرد والمجتمع، بينما قد تسود في بعض المجتمعات معايير ومقاييس لا واقعية لها، أو تدفع باتجاه مؤثرات سلبية، كالتفاضل على أساس العرق أو اللّغة أو اللّون، أو مسابقات اختيار ملكات الجمال، أو لمجرد تسجيل رقم قياسي في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، كتربية أطول شارب، وصنع أكبر فطيرة أو كعكة، وإنجاز أطول قبلة.

    من ناحية أخرى، فإن مقاييس التفاضل في الإسلام كلها اختيارية كسبية، يمكن لأي إنسان أن يحصل منها بمقدار سعيه وجهده، وهي ليست كاللون أو العرق أو الشكل، الذي لا دخل للإنسان فيه، وليس هو الذي يختاره، ولو كانت الذكورة من معايير التفاضل عند الله تعالى، لكان ذلك خلاف العدل والإنصاف، لأن الإنسان لا يختار ذكورته أو أنوثته، وإنما هي قدر إلهي، فكيف يكون مقياساً لتحصيل الفضل أو الحرمان منه؟

    [align=center]فرص التقدم أمام المرأة[/align]

    وانطلاقاً من هذه المعايير والقيم الإسلامية، فإن الحياة ساحة مفتوحة للسباق والتنافس على الخير، والطريق مشرّع أمام الجميع، وبإمكان المرأة كالرجل، أن تشمّر عن ساعد جدها، وتستنهض قدراتها وإمكانياتها، لتحرز أكبر قدر من التفوّق، وتحقّق أعلى درجة من التقدم، في آفاق العلم والعمل، والالتزام بتقوى الله تعالى. وليست هناك مساحة في أشواط السباق خاصة بالرجال، محظورة على النساء، لذلك تحدث القرآن الكريم في آيات عديدة عن إتاحة فرص التقدم أمام المرأة كالرجل في مختلف المجالات.

    يقول تعالى: {فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب} (آل عمران/195). فكلُّ جهد تبذله المرأة، وكل عطاء تقدمه، يكون موضع الاحترام والتقدير، وعلى أساسه تتحدَّد موقعيتها ومكانتها. ويقول تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيبةً ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل/97). فالعمل الصالح المنبثق من الإيمان والتقوى، هو الذي يمنح درجة التقدّم للإنسان في الدنيا والآخرة، ولا تؤثر الذكورة والأنوثة في تقويم مستوى العمل.

    ولتأكيد هذه الحقيقة، تستعرض الآية الكريمة رقم 35 من سورة الأحزاب، العديد من مجالات الخير، وآفاق التقدم والسموّ، مع ذكر المرأة المتّصفة بذلك جنباً إلى جنب الرجل، لإثبات حضورها وأهليتها لاقتحام كلِّ الميادين، وإنجاز مختلف المهام، وأنها لا تقصر عن الرجل في استعداداتها وقابلياتها. يقول تعالى: {إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدِّقين والمتصدّقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الأحزاب/35).

    [align=center]الأنوثة لا تمنع التفوّق[/align]

    التسابق في ميدان القيم الفاضلة يعتمد على أمرين: الإرادة وقابلية المعرفة، فبالإرادة تتوفر ملكة التقوى، وتتحقق الإنجازات والمكتسبات، وبالعقل يُنال العلم والمعرفة. والإرادة والعقل منحتان إلهيتان للإنسان، لا تختص بالرجال دون النساء، ولا تتفاوت درجتهما بين الصنفين، وإنما يتفاوت أفراد البشر ذكوراً وإناثاً في مدى استفادتهم واستثمارهم لهاتين النعمتين العظيمتين. وعلى هذا الأساس، تتحدد رتبة كلِّ فرد ودرجة تقدمه وتفوّقه.

    وبإمكان المرأة أن تقطع شوطاً أبعد، وتنال درجةً أكبر من الرجل، إذا ما تفوَّقت عليه في السعي نحو العلم، وبذل الجهد في العمل، وفي الالتزام بتقوى الله تعالى. فأنوثتها لا تمنعها من التفوّق، ولا تعوق حركة تقدمها، ولا تفرض عليها أن تكون في رتبة تالية، أو في موقع التبعية والانقياد.

    وقد يستشهد البعض بنصوص دينية، مفادها أفضلية الرجل ذاتاً على المرأة، وأنها دونه رتبةً، كقوله تعالى: {الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} (النساء/34). والآية الكريمة إنما تتحدث عن العلاقة الزوجية، وأن الرجل قوّام بحقوق زوجته عليه، ومسؤول عن رعايتها وحمايتها والإنفاق عليها، وأن له عليها حق الطاعة في حياتهما الزوجية، وفق الضوابط الشرعية، ولا يستفاد من الآية أن كل رجل قوّام على كل النساء، ولم يقل أحد من الفقهاء والعلماء بسلطة أي رجل على أي امرأة خارج إطار العلاقة الزوجية، إلا في ما يرتبط بولاية الأب على أبنائه وبناته ضمن تفصيل في مسائله وأحكامه.

    وحتى في الحياة الزوجية، فقوامة الرجل على المرأة ضمن حدود علاقتهما، ولا شأن له بآرائها وأفكارها، ولا بتصرفاتها المالية، أو مواقفها الاجتماعية وما شابه. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله: (والظاهر من الآية الكريمة، أن المراد فيها قوامية الرجال على النساء في الأسرة فقط، وباعتبار علاقة الزوجية فقط، بحيث لا منافاة بين كون الزوج قيّماً على المرأة باعتباره زوجاً، وتكون قيّمة عليه باعتبار آخر، ككونها رئيسة لجمعية خيرية أو سياسية أو نقابية هو عضو فيها. اللهم إلا أن يُنفى أهليتها لتولي أي مسؤولية على جماعة فيها رجل، فلا تصلح لرئاسة جمعية، بل ينبغي على هذا ألاّ يصح منها أن تستأجر رجلاً أو رجالاً للقيام بعمل يقتضي أن تأمرهم وتنهاهم بشأنه، وهذا ما لا يمكن الالتزام به قطعاً ولا نظن أن فقيهاً يلتزم به).

    كذلك، فإن الروايات التي تتحدث عن نقص عقل المرأة قياساً إلى الرجل، فإن هناك نقاشاً في سندها، وإن بعضها جاءت مرسلة أو بسند ضعيف، وحتى لو كان سندها صحيحاً فلا يمكن قبولها بظاهرها، لمنافاتها ومخالفتها لسائر النصوص والمبادئ، ولإمكانية تأويلها وفهمها بطريقة أخرى، لا تستوجب الحطّ من قدر المرأة ومكانتها.

    [align=center]نماذج رائدة في التفوق[/align]

    تقدم المرأة في ميدان العلم والفضيلة، وتفوقها على الرجال في ساحة المجد والعظمة، ليس أمراً نظرياً يبحث ضمن دائرة الإمكان والاحتمال، وإنما هو أمر حاصل ومتكرر على مستوى الواقع التاريخي في أكثر من مجتمع، وعلى أكثر من صعيد.

    حيث يسجِّل لنا تاريخ البشرية بإكبار وإعظام، مواقف رائعة لشخصيات نسائية، برزت في مجتمعاتها، وتفوَّقت بمواصفاتها النبيلة، والتزامها الإيماني، وعطائها العلمي والعملي، على معاصريها من الرجال.

    1 - امرأة فرعون:

    كان فرعون طاغيةً مستبداً، بل هو رمز وعنوان للطغيان والاستبداد، ادّعى الألوهية {فقال أنا ربُّكم الأعلى} (النازعات/24). وخضع له آلاف أو ملايين الرجال والنساء، رهبةً من بطشه، أو رغبةً في عطائه، لكن امرأة واحدة تحدّت ذلك الطغيان، وتمردت على ذلك الجبروت، إنها زوجته آسيا بنت مزاحم، والتي كانت تعيش تحت هيمنته، لكنها استجابت لدعوة الحق، وآمنت بالله تعالى رباً، وصدَّقت بموسى نبياً، وقاومت كل ضغوط فرعون وإغراءاته، تخلَّت عن موقعها كملكةٍ لمصر، وعن كلِّ مظاهر السلطة والترف والرخاء، بل تحمَّلت التعذيب والتنكيل، التزاماً منها بالهدى، وصموداً على الحق، حتى فارقت الحياة شهيدة محتسبة. إنها امرأة، ولكنها أفضل من كل الرجال الخاضعين والخانعين للظلم والاستبداد الفرعوني.. لذلك يقدمها الله تعالى نموذجاً للأجيال المؤمنة رجالاً ونساءً على مرِّ العصور، يقول تعالى: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم/11).

    2 - بلقيس ملكة سبأ

    ويقدِّم القرآن الكريم ملكة سبأ (بلقيس) نموذجاً للموقف الحكيم، والتصرف الواعي، في إدارة السلطة والحكم، فحينما تلقَّت كتاب نبي الله سليمان (عليه السلام) يدعوها- وقومها إلى الله، لم تتساهل في الأمر، ولم تستبدّ في اتخاذ القرار، بل استدعت أعيان الشعب، ورجالات الدولة، لتستشيرهم في الموقف المناسب {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتابٌ كريمٌ* إنه من سليمان وإنّه باسم الله الرحمن الرحيم* ألاّ تعلو عليّ وأتوني مسلمين* قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدوني} (النمل/ 29-32). وحينما أظهر أكثر رجالات حكمها ميلهم إلى إظهار القوة والرفض تجاه دعوة نبي الله سليمان، على أساس امتلاك القدرة العسكرية الكافية، {قالوا نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديدٍ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} (النمل/33). أبدت بلقيس موقفاً أكثر حكمة وتعقّلاً، بضرورة التعرف أولاً على حقيقة دعوة سليمان، هل أنها مجرد غطاء لأطماع توسعية، ومطامح مادية، أم أن لها مغزى آخر؟ ثم وعلى أساس تشخيص الواقع يتم اتخاذ القرار المناسب، فاقترحت إرسال هدايا ضخمة إلى سليمان لمعرفة ردود فعله {قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون* وإنّي مرسلةٌ إليهم بهدية فناظرةٌ بم يرجع المرسلون} (النمل/34-35). وكانت النتيجة أن اكتشفت صدق الدعوة الإلهية، فقادت بلادها وقومها إلى حظيرة الإيمان والحق: {قالت ربّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين} (النمل/44).

    ولا بأس أن نشير هنا إلى أن القرآن لم يورد في سياق قصة ملكة سبأ أيَّ اعتراض أو تنديد، بتبوّئها لموقع الحكم والسلطة، وما ذمّ قومها لخضوعهم لحكم امرأة. كما أن نتيجة موقفها هو فلاح وصلاح قومها بدخولهم في دين الله، ما يوجب النقاش في معنى الحديث المرويّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لمّا بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وقد ورد هذا الحديث في بعض المصادر الشيعية، ككتاب الخلاف للشيخ الطوسي وتحف العقول للحرّاني، ولكن برواية مرسلة، وبالتالي لا يمكن اعتماده عندهم. أما عند أهل السنّة، فقد أورده البخاري في صحيحه النسائي والترمذي، وقال عنه الترمذي: (هذا حديث صحيح) كما رواه ابن حنبل في مسنده. لكن يمكن المناقشة في معنى الحديث ومدلوله، بأنه يقصد الإخبار عن مستقبل الانهيار لمملكة الفرس، كما حصل ذلك بالفعل على أيدي المسلمين. ولا يفيد حكماً مطلقاً ونهياً وشرعياً.

    وللشيخ محمد الغزالي تعليق جميل حول الموضوع نقتطف منه ما يلي: «وقد تأملت في الحديث المرويّ في الموضوع «خاب قوم ولّوا أمرهم امرأة»، مع أنه صحيح سنداً ومتناً، ولكن ما معناه؟ عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي، كانت تحكمها ملكية مستبدة مشؤومة، الدين وثني، والأسرة المالكة لا تعرف شورى، وكان في الإمكان وقد انهزمت الجيوش الفارسية، وأخذت مساحة الدولة تتقلص، أن يتولى الأمر قائد عسكري يوقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميزاناً لفتاة لا تدري شيئاً، فكان ذلك إيذاناً بأن الدولة كلها إلى ذهاب، في التعليق على هذا كله، قال النبي الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفاً للأوضاع كلها.

    إن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) قرأ على الناس في مكة سورة النمل، وقصَّ عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ، التي قادت قومها إلى الإيمان والفلاح بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي.

    إن إنجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة (فكتوريا)، وهي الآن بقيادة ملكة، ورئيسة وزراء (تاتشر)، وتعد في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي، فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟

    3 - محدّثات وفقيهات يعلّمن الرجال

    بالجدِّ والاجتهاد والعلم والمعرفة، فرضت المرأة المسلمة شخصيتها في عصور التاريخ، وكان المجتمع الإسلامي يعترف للمرأة الكفوءة بكفاءتها، وما كان الرجال يتوقفون أو يترددون في الرجوع إلى ذات الكفاءة والعلم، بل كانوا يحترمون المرأة العالمة، ويأخذون عنها الحديث والفقه والأدب، وتحتفظ لنا كتب التاريخ والتراجم بسير العديد من العالمات العارفات اللاّتي كنَّ يمثِّلن دوراً مرجعياً في مجتمعاتهن، وكن يعلِّمن الرجال، ويفضن عليهم من علومهن ومعارفهن.

    فقد جاء في ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) صاحبة المقام المشهور الذي يزار في القاهرة، والمولودة بمكة سنة 145 هـ ونشأت بالمدينة المنورة، ثم دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق حتى توفيت هناك سنة 208هـ. يقول الأستاذ عبد اللطيف فايد: كانت دارها مزار كبار العلماء في عصرها، يجلسون إليها، ويستمعون منها، ويناقشون مسائل العلم معها.. ومن العلماء الذين لم ينقطعوا عن زيارتها للتزوّد من علمها، إسماعيل بن يحيى المزني، وهو فقيه عالي المعرفة بالدين كثير التلاميذ. ومن العلماء الذين داوموا على التعلم في مجلسها ثوبان بن إبراهيم، المعروف بذي النون المصري، وعثمان بن سعيد المصري، وعبد الله بن عبد الحكم الذي انتهى إليه مجلس الإمام مالك، وكذلك عبد السلام بن سعيد الفقيه المالكي الذي غلب عليه اسم سحنون. ومنهم يوسف بن يحيى البويطي الذي أسند إليه الإمام الشافعي رئاسة حلقته في التدريس.

    ويعتبر الإمام الشافعي أكثر العلماء جلوساً إليها وأخذاً عنها، في الوقت الذي بلغ فيه من الإمامة في الفقه مكاناً عظيماً، فقد كان يعتبر مجلسه في دارها مجلس تعلم عنها، ومجلسه في مسجد الفسطاط مجلس تعليم الناس. وللإمام أحمد بن حنبل نصيب في الأخذ عن نفيسة رضي الله عنها. وبهذا تكون نفيسة ذات أثر علمي في فقه عالمين كبيرين من أئمة المسلمين، وهما الشافعي وأحمد بن حنبل.

    وجاء في ترجمة فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندية، بنت صاحب تحفة الفقهاء، وزوجة علاء الدين الكاساني صاحب بدائع الصنائع، أنها تفقّهت بأبيها، وأن الفتوى كانت تخرج من البيت وعليها خطها وخط أبيها، ولما تزوّجت بالكاساني صارت الفتوى تخرج من بيتها، وعليها خطها، وخط أبيها، وخط زوجها، وأن زوجها ربما كان يهم في الفتوى فتردّه إلى الصواب، وتعرّفه الخطأ، فيرجع إلى قولها.

    ومن أشهر محدّثات المائة الثانية حفصة بنت سيرين، أخت محمد بن سيرين، كانت من السيدات التابعيات، اشتهرت بالعبادة والفقه والحديث وقراءة القرآن. كان أخوها إذا أشكل عليه شيء من القرآن قال: (اذهبوا فاسألوا حفصة كيف تقرأ). روت عن جماعة من الصحابة وكبار التابعين، وروى عنها أخوها محمد، وقتادة، وعاصم الأحول وغيرهم. أثنى عليها إياس بن معاوية فقال: (ما أدركت أحداً أفضّله على حفصة).

    ومن المحدّثات البارزات في القرن الخامس، كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، قدمت مكة المكرمة وجاورت بها، وكانت عالمة صالحة، قرأ عليها الأئمة كالسمعاني، والخطيب البغدادي، وسمع منها خلق كثير. توفيت بمكة سنة 463 هـ.

    وجاء في ترجمة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد المنحّا (624هـ _ 716هـ) وأنها كانت تُسمع الناس الحديث بدمشق، ثم استقدمت إلى مصر وأخذ عنها جمع من محدثي مصر، وصارت الرحلة إليها من سائر الأقطار للسماع عليها، وبلغ عدد الذين أخذوا عنها وتتلمذوا على يدها أكثر من تسعين عالماً ومحدثاً.

    وفي عصرنا الحاضر، فإن امرأة قد ضربت الرقم القياسي في عدد الروايات المنشورة، وهي الكاتبة الجنوب إفريقية (كاثلين ليندساي 1903م _ 1973م) والتي نشرت 904 روايات خلال حياتها التي لم تتجاوز السبعين عاماً. كما تعتبر الآن الراوية الكاتبة (باربرا كارتلاند) سيدة القصة العاطفية في العالم، حيث تجاوز قراؤها 700 مليون شخص، وهي تكتب يومياً سبعة آلاف كلمة، أي فصلاً كاملاً وأكثر أحياناً. عمرها 97 سنة، تصدر قصة جديدة كل أسبوعين، ووصل مجموع قصصها 687 قصة، أدرج اسمها في كتاب (غينيس) كأكثر كتّاب القصة غزارة في الإنتاج. ترجمت قصصها إلى أربعين لغة من بينها العربية واليابانية والروسية والأردو.

    هكذا كانت المرأة سبّاقة في ميادين المعرفة والفضل، وهكذا تثبت المرأة عملياً إمكانية تقدمها وتفوقها على الرجال.


    [align=center]:e_blume02 :e_blume02 :e_blume02 :e_blume02[/align]

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني