دور الإمام الصدر في التطوير الفقهي وتحديد المشكلة الاقتصادية


آية الله الشيخ عبد الهادي الفضلي



في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجريين حيث أخذ الفكر الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يتحول على أيدي المفكرين المسلمين من أئمة أهل البيت (ع) وأعلام الصحابة (ض)، ورجالات التابعين إلى علوم مقننة، لها أصولها وقواعدها وتفريعاتها المتعددة والمختلفة.

كان في طليعة هذه العلوم علم الفقه، ذلك العلم الذي تناول بالدرس الأحكام الشرعية الفرعية التي تقوم بوظيفة تنظيم علاقات الإنسان مع خالقه تعالى، ومع الإنسان الآخر، وجميع ما يتفاعل معه مما هو موجود في هذا الكون الرحيب.

فتوجه العلماء المسلمون يدرسونه ويدرّسونه ويؤلفون فيه الرسائل والكتب المفردة ومن ثم الموسوعات صغيرة وكبيرة.

وبدأ التدوين العلمي للفقه الإسلامي عند أهل السنة في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجريين متأثراً بعاملين، هما:

1ـ انقراض آخر جيل من أجيال علماء الصحابة، فقد توفي آخر عالم من علماء الصحابة وهو جابر بن عبد الله الأنصاري سنة 78 هـ، وقد كانت له في أواخر أيامه حلقة تدريس في المسجد النبوي الشريف.

روى له البخاري ومسلم وغيرهما وبلغت مروياته عن النبي (ص) 1540 حديثا.

وله مسند وهو مما رواه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، وتوجد مخطوطته في خزانة الرباط برقم 221 كتاني.

2ـ نشاط الحركة الفكرية بعد تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة 99 هـ.

وكان العامل الأول، وهو انقراض أجيال علماء الصحابة، الحافز القوي للخليفة عمر بن عبد العزيز أن ينشّط الحركة العلمية ويتوسع بها.

وهنا جاء دور العلماء المسلمين من تلامذة التابعين وتابعي التابعين في الإكثار من حلقات الدرس الفقهي في المساجد الكبرى في العالم الإسلامي: المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وجامعي البصرة والكوفة.

وكذلك في التأليف، ومنه التأليف الفقهي، وقد مر بمرحلتين عند علماء أهل السنة. هما:

1ـ مرحلة التأليف في الفقه الاستدلالي.

وشملت النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وتمثل التأليف فيها بالكتب التالية:

كتاب المبسوط لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الحنفي المتوفى سنة 182 هـ.

كتاب المدوّنة في فقه الإمام مالك بن انس لأبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المالكي المتوفى سنة 1919 هـ برواية الفقيه المالكي سحنون بن سعيد التنوخي.

كتاب الأم للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ.

2ـ مرحلة تأليف المختصرات الفقهية، وهي متون علمية تضم فتاوى الفقهاء مجردة من الدليل.

وغطت هذه المرحلة القرنين الثالث والرابع الهجريين والنصف الأول من القرن الخامس، وتمثل تأليفها بالكتب التالية:

§ المختصر في فروع الشافعية، لأبي حفص حرملة بن يحيى المتوفى سنة 243 هـ.

§ مختصر الطحاوي في فروع الحنفية لأبي القاسم عمر بن حسين الخرقي الحنبلي الدمشقي المتوفى سنة 334 هـ.

§ مختصر الكرخي في فروع الحنفية لأبي الحسن عبد الله بن الحسين الكرخي المتوى سنة 340هـ

§ مختصر القدوري في فروع الحنفية لأبي الحسن أحمد بن محمد القدوري البغدادي الحنفي المتوفى سنة 428 هـ.

وفي القرن الثامن الهجري ألّف الشيخ خليل بن إسحاق الجندي الفقيه المالكي مختصره في فروع المالكية المعروف بمختصر خليل، وقد شرحه كثيرون وترجم إلى الفرنسية.

وكانت هذه الكتب استدلالية ومتوناً تحتوي أحكام العبادات، وأحكام المعاملات بطابعها الفقهي العام.

وفي هذه الحقبة الزمنية للتأليف الفقهي عند أهل السنة الممتدة من القرن الثاني الهجري حتى نهاية القرن الخامس الهجري أُلفت كتب مفردة في الفقه الخاص، منها اقتصادية الطابع، ومنها ادارية الطابع، أمثال:

§ كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي الحنفي المتوفى سنة 182 هـ.

§ كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلاّم المتوفى سنة 224 هـ.

وكلاهما في الفقه الاقتصادي.

§ كتاب الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي المتوفى سنة 450 هـ.

§ كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلي محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 هـ.

وأما بداية التأليف الفقهي عند الشيعة الإمامية فكانت في بدايات عهد الغيبة الكبرى ذلكم العهد الذي بدأ سنة 329 هـ وهي سنة وفاة أبى الحسن علي بن محمد السمري آخر النواب الخاصين للإمام المهدي 7، حيث انقطع الالتقاء من قبل الشيعة بالأئمة فكان الحافز لهم إلى ذلك.

وقارن تأليفهم في الفقه الاستدلالي تأليفهم للمختصرات الفقهية.

ومن أبرز وأشهر مؤلفاتهم في الفقه العام حتى وفاة الشيخ الطوشي سنة 460 هـ.

المختصرات:
§ كتاب الشرائع المعروف برسالة علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 329 هـ.

§ مختصر الاحمدي لأبي علي بن محمد بن أحمد الجنيد الإسكافي البغدادي المتوفى سنة 381 هـ.

§ كتابا المقنع والهداية لأبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الملقب بالصدوق المتوفى سنة 381هـ.

§ كتاب المقنعة لأبي عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم والملقب بالمفيد المتوفى سنة 413 هـ.

§ كتاب جمل العلم والعمل لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي المشتهر بالشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ.

§ كتاب الكافي لأبي الصلاح تقي الدين بن عبد الله الحلبي المتوفى سنة 447 هـ.

§ كتاب النهاية لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي الشهير بشيخ الطائفة المتوفى سنة 460 هـ.

الكتب الاستدلالية:

§ كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة لابن الجنيد الإسكافي المتوفى سنة 381 هـ.

§ كتاب من لا يحضره الفقيه لأبي جعفر الصدوق المتوفى سنة 381 هـ.

§ كتابا (تهذيب الأحكام) و(المبسوط) لأبي جعفر الطوسي المتوفى سنة 460 هـ.

وقد تأثر التأليف الفقهي عند الإمامية بالتأليف الفقهي عند أهل السنة من حيث التبويب وطريقة العرض، فاقتصروا فيه استدلالياً ومختصرات على الفقه العام أيضا.

وفي القرن العاشر الهجري ألّف أبو الحسن علي بن عبد العالي العاملي الكركي المعروف بالمحقق الثاني المتوفى سنة 940 هـ، في الفقه الاقتصادي حيث مست الحاجة لدى الإمامية لذلك بسبب اختيار المحقق الثاني من قبل الدولة الصفوية. وهي دولة شيعية. مرشداً عاماً لها.

ألّف: الرسالة الخراجية والرسالة المواتية في تقسيم الأراضي.

وفي القرن الرابع عشر الهجري عندما قامت الحركة السياسية المعروفة بحركة المشروطة والمستبدة في إيران بقيادة علماء الدين والتي تعني الدعوة إلى اعلان الحياة الدستورية من قبل الدولة القاجارية التي كانت تحكم إيران آنذاك، وامتدت الحركة إلى النجف الأشرف المركز الديني للمرجعية الشيعية الإمامية في العالم، واشترك فيها كل من المرجعين الشيخ محمد كاظم الخراساني المتوفى سنة 1329 هـ داعياً لإعلان الحياة الدستورية، والسيد محمد كاظم اليزدي المتوفى سنة 1337 هـ معارضاً الدعوة الدستورية.

في هذه الفترة ألّف الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني المتوفى سنة 1355 هـ وهو من ابرز تلامذة الشيخ الخراساني داعية الحياة الدستورية رسالته الموسومة بـ (تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة) في الفقه السياسي، وضعها باللغة الفارسية وترجمت للغة العربية.

وبعد انقلاب 14 تموز 1958 م العسكري في العراق الذي انتهى به الحكم الملكي وحل محله الحكم الجمهوري، والذي أزال الحواجز لانطلاق الشيوعيين وسيطرتهم على الساحة العراقية الثقافية بفكرهم الاشتراكي وخاصة في مجال الاقتصاد، وفيه ما يتعارض مع العقيدة والتشريع الإسلاميين، ألّف الفقيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر المتوفى سنة 1400 هـ كتابه الشهير (اقتصادنا) للوقوف أمام الهجوم الاشتراكي ولوضع النظرية الاقتصادية الإسلامية بين يدي المفكرين المسلمين بغية أن لا يتأثروا بالاقتصاد الاشتراكي، وليكونوا في منطلق العودة إلى بناء الحضارة الإسلامية والعيش في ظلها متمتعين بعدالة الإسلام بعيداً عن مشكلات الاشتراكية والرأسمالية.

وقبل تبيان النظرية الاقتصادية للإمام الصدر من خلال كتابه المذكور، من المفيد أن اشير إلى العوامل التي ساعدت الشهيد الصدر على إبداعاته العلمية في هذا الكتاب، وخروجه من دائرة التأليف الفقهي العام إلى التأليف في الفقه الاقتصادي وهي:

1ـ اجتهاده المتميّز:
وأعني بذلك أنّ الإمام الصدر كان فقيهاً مجتهداً على مستوى النظرية والتطبيق.

مستوى النظرية الذي يعني أنه كان يمتلك وسائل الاجتهاد ويتمتع بالقدرة على الاستنباط.

ومستوى التطبيق الذي يعني انفتاحه على الحياة المعاصرة، ومحاولة تعرّفه لكل ما يجري فيها من أحداث وتطورات علمية، وغير علمية.

وتوصل إلى هذه النظرة المميزة من خلال إيمانه وعن معرفة واقعية للفقه الإسلامي بأنه النظام الإسلامي للحياة، بكل أبعادها وجميع شؤونها.

فليس هو الفقه المدوّن في المتون الفقهية، وإنما هو أوسع من هذا وابعد، بما يشمل الاجتماع والاقتصاد والسياسة الخ.

2ـ موسوعيته الثقافية:
فقد لاحظت ـ عن قرب ـ حياته الثقافية فرأيته قارئاً مدمن القراءة، قرأ الكثير من الكتب القديمة والكثير من الكتب الجديدة وتابع الدوريات التي صدرت والتي تصدر، منوعاً في قراءته لمختلف حقول المعرفة التي ترتبط، مباشراً وغير مباشر، بتخصصه كفقيه مجتهد.

فقرأ الاشتراكية الماركسية في فكرها العقيدي والتنظيمي وتعرّف أيديولوجيتها السياسية العلمية والعملية.

وقرأ الرأسمالية مذهباً اقتصاديا وخطاً سياسياً يهدف إلى الهيمنة على كل مصادر الثروة في العالم.

وقرأ العلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الإنسانيّة تلك التي ساعدت من خلال دراستها وما تبديه من مرئيات وتقدمه من مقترحات وتضعه من خطط لتوسيع ونشر الأيديولوجية السياسية الغربية، بما مكّن لها السيطرة على مصادر ومعابر الثروات الطبيعية في العالم الثالث.

3ـ نظرته للحياة:
ونتيجة ما وفق إليه من ثروة ثقافية منحته الموسوعية التي أشرت إليها توسعت نظرته للحياة المعاصرة لتشملها بكل أبعادها وشؤونها.

ومن هنا كان الفقيه بمستوى التطبيق.

4ـ فهمه لواقع الفقه الإسلامي:
بما له من شمولية لتنظيم كل شؤون حياة الإنسان فردياً واجتماعياً.

ذلك الفهم الذي استمده من مقارنة التشريع الإسلامي بالتشريعات القانونية الحديثة التي غطت كل الجوانب الاجتماعية للإنسان، اجتماعية بمعناها الخاص واقتصادية وسياسية وإدارية وعسكرية وإلخ.

والذي هداه إلى أن في الفقه الإسلامي القدرة على هذه الشمولية، ومتميزاً بالجانبين العبادي والأخلاقي.

وهذا ما أعانه أن يوازن بين النظرية والتطبيق في ما أعطاه من فكر فقهي.

وقد عبّر عن هذا في مقدمة كتابه (اقتصادنا) حيث نصّ على «ان الإسلام عقيدة ونظام كامل للحياة ومنهج خاص في التربية والتفكير».

5ـ متابعته لإفرازات الصراع الفكري العالمي:
ذلك الصراع المتمثل اقتصادياً بالخلافات الفكرية بين الاشتراكية والرأسمالية والتي تركت آثارها وانعكاساتها على الساحة العالمية تأزما نفسيا، وتطلعا لاقتصاد آخر ينقذ إنسان العصر من ضغوط هذا الصراع ونتائجه المريرة في أخطارها.

كل هذه العوامل التي تمثلت عناصر في تركيب شخصية الشهيد الصدر بصفته مفكراً إسلاميا وفقيهاً مجتهداً دفعته لأن يعمل على استخلاص النظرية الاقتصادية الإسلامية من واقع الفقه الإسلامي، ثم يقارن بينها وبين النظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية ليضعها في مركزها الفكري ومن ثم العملي لإقامة النظام الاقتصاد الإسلامي على أساس منها.

ويلخص النظرية الإسلامية الاقتصادية، في أن المذهب الاقتصادي الإسلامي يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية تتكامل فيما بينها لتؤلف النظرية الاقتصادية الإسلامية وهي:

الأول: مبدأ الملكية المزدوجة التي تتألف من:

§ الملكية الخاصة أو الملكية الفردية.

§ الملكية العامة أو ملكية الاُمّة

§ ملكية الدولة.

هذه الملكيات الثلاث تؤلف مجتمعة مبدأ الملكية في الاقتصاد الإسلامي.

الثاني: مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود:

والحرية ـ هنا ـ تعني السماح للأفراد بممارسة العمل الاقتصادي، ولكن في حدود القيم المعنوية والأخلاقية التي يؤمن بها الإسلام.

وتحدد هذه الحرية من جانبين هما:

أ ـ التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.

ويتأتى هذا عن طريق التربية الخاصة.

ب ـ التحديد الموضوعي الذي يعبّر عن قوّة خارج الذات والنفس تقوم بضبط وتحديد السلوك الاجتماعي، وتلك القوة هي القانون في تشريعاته الخاصة كمنع الربا والاحتكار والتلاعب بالأسواق، وفي تشريعاته العامة بما يعطيه لولي الأمر، أو الدولة من صلاحية التدخل في ضبط حركة المال من خلال التوازن بين المصالح المشتركة للأفراد والاُمّة والدولة.

الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعية:

ويتمثل هذا المبدأ في نظام توزيع الثروة المالية الذي يقوم على مبدأين، هما:

أ ـ مبدأ التكافل العام.

ب ـ مبدأ التوازن الاجتماعي.

ثم لابد من أن تلتزم النظرية الاقتصادية الإسلامية أو قل: المذهب الاقتصادي الإسلامي، التحرك في عالم الواقع وفي هدي الأخلاقيات الإسلامية

هذه هي خلاصة النظرية الاقتصادية الإسلامية التي استخلصها الشهيد الصدر من واقع وطبيعة الفقه الإسلامي.

أما تفصيلاتها وتفريعاتها وأدلتها الشرعية ومقارناتها مع الاشتراكية والرأسمالية فذلك ما اشتمل عليه كتابه القيّم «اقتصادنا».

والذي نفيده عملياً وفي مجال تطبيق الإسلام في واقعنا كمسلمين هو إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي بمواده الشرعية المقننة على أساس من هذه النظرية وذلك بان تكون هذه النظرية المنطلق الشرعي، والمقصد الشرعي في وضع النظام الاقتصادي الإسلامي.

هذه هي النظرية الاقتصادية الإسلامية في مفهومها الشرعي ومجمل أبعادها وسماتها.

أما المشكلة الاقتصادية في رأي أستاذنا الإمام الصدر فتتمثل في بعدين يعيشان حياة المسلمين الراهنة، هما:

1ـ سوء توزيع الثروة الموجودة في الوطن الإسلامي.

2ـ إهمال المسلمين لاستثمار الموارد المالية في الطبيعة.

يتبين بكل وضوح أن عالمنا الإسلامي يحتضن في باطن أرضه أنواعا متعددة من المعادن على الرغم من محدودية الدراسات المتوفرة حالياً، إذ لازالت مساحات شاسعة من أراضى البلدان الإسلامية لم تصلها عملية المسح الجيولوجي الشامل والدقيق، ولم يعرف بشكل جيد ما يخبأه جوف هذه الأراضي من معادن عدا بعض المناطق التي تحتمل وجود النفط فيها.

ومع كل ذلك فان نتائج الدراسات التي أجريت لحد الآن كلها تشير إلى أن المتاح من هذه الثروة في عالمنا الإسلامي يبشر بخير عميم ونعمة وفيرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن البلاد العربية تستأثر على 70% من الاحتياطي العالمي للفوسفات، و14% للكبريت. (1)

أما بشأن الاستغلال الفعلي لهذه الثروة فلا زال دون مستوى الطموح إذ إن المستخرج لبعض المعادن بمستوى محدود، بالإضافة إلى بقاء العديد منها بعيداً عن دائرة النشاط الاستخراجي، فمثلاً إن العالم الإسلامي ينتج من الحديد ما يعادل 15% من الإنتاج العالمي و24% من إنتاج المنغنيز، و56% من إنتاج القصدير و23% من إنتاج الألمنيوم، و25% من إنتاج الفوسفات، و4% من إنتاج النحاس. (2)

إن حالة القصور في استغلال هذه الثروة إذا كانت تمثل خسارة مادية لعالمنا الإسلامي على أساس تعطيل مصدر الدخل القومي فهي من الناحية الشرعية تجسد حالة بارزة من حالات سوء التصرف والاستغلال للموارد الاقتصادية لبني الإنسان وتعكس الابتعاد عن أحكام الشريعة الإسلامية السمحة في هذا المجال.

يقول الشهيد السعيد آية الله الصدر في تعرضه لهذا الجانب من الاستثمار الاقتصادي:

«اعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها لوناً من الجحود وكفراناً بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها على عباده». (3)

وفي القرآن الحكيم حث واضح وتأكيد بيّن على وجوب الاهتمام بهذه الخيرات والنعم بقوله تعالى: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون...). (4)

وفيما يتعلق بمآل المعادن المستخرجة، وهل تساهم بدور فاعل ومباشر في عملية التنمية وبالتحديد في مجالات التطوير الصناعي لبلدان العالم الإسلامي، فالواقع الحالي لاستخدام هذا النوع من الموارد الاقتصادية في غالبية البلدان الإسلامية لا يقدم أي مظهر إيجابي أو ممارسة جادة للاستفادة من الخدمات المستخرجة حالياً في مجال الصناعة الوطنية، وان جُلها لا زال يصدر على هيئة مواد نهائية قابلة للاستهلاك أو الاستعمال. ومن ثم يعيد تصديرها إلى البلدان الإسلامية والمستضعفة ليحقق بذلك أرقاما خيالية من الأرباح مسخراً هذه النعم والخيرات لصالحه وصالح احتكاراته العالمية.

فمع الأسف الشديد إن معظم الإنتاج المعدني في العالم الإسلامي يوجه إلى التصدير والتجارة الدولية. وكمثال على هذا الوضع فان 90% من إنتاج المنغنيز يضخ إلى الأسواق العالمية، ويتجه إنتاج القصدير كله إلى التجارة الدولية، وكذلك الحال بالنسبة إلى إنتاج الحديد والرصاص. (5) وفي هذا السياق أيضاً تشير دراسة مفصلة أعدها (الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية) إن 25% فقط من المعادن المنتجة في البلاد العربية يخضع لعمليات صناعية محدودة، ويصدر الباقي إلى الأسواق العالمية». (6)

هذا، وإذا أضيف إليه أن الكمية المهدورة من الغاز الطبيعي في البلاد الإسلامية قدرت لعام 1980م بحوالي عشرة مليارات دولار. (7)

ألا يدلّ هذا على أن هنا ـ من جانبنا ـ نحن المسلمين إهمالا وان هناك من جانب الدول الإمبريالية استغلالاً.

ألا يضع هذا الاُمّة الإسلامية أمام مسئوليتها عن هذا الإهمال وجهاً لوجه.

هذا في الثروة المعدنية غير النفطية.

أمّا في الثروة النفطية أو البترولية فقد ذكر أن الاحتياطي للبترول في العالم الإسلامي يقدر بحوالى 63% من مجموع الاحتياطي العالمي للنفط الخام. (8)

وقدر الخبراء العالميون الاحتياطي العالمي في السبعينات بحدود 715 مليار برميل (9) وما هو موجود منه في الأراضي الإسلامية يقارب 450 مليار برميل، وقدرت (10) الاحتياطات الجديدة لبترول المملكة العربية السعودية مؤخراً بـ(170) مليار برميل.

إن هذه الأرقام العالية تفرض علينا التساؤلات التالية:

كيف يتم استثمار هذه الموارد؟!

وأين تصرف؟!

وأخيراً: كيف توزع على المسلمين وفي مصالحهم؟!

إن هذا يفرض على المسلمين أن يقوموا بدور المراقبة ثم المحاسبة وبالطرق المتعارف عليها الآن من إقامة المجالس النيابية التي تمثل الشعوب عن طريق انتخاب أعضائها منهم ومن قبلهم.

كما أنّ عليهم أن يرفضوا كل أشكال المجالس الاستشارية التي تعيّن أعضاؤها من قبل الحكومات بدعوى ممثليتهم للشعب.

وبعد:

فإن استشكاف النظرية الاقتصادية الإسلامية، وتحديد المشكلة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي الراهن من قبل الإمام الصدر يكشف لنا وبوضوح عن مدى ارتفاع السيد الصدر إلى مستوى مسؤوليته كفقيه قائد حمل هموم الاُمّة وتحسس آلامها، وشاركها في آمالها وتطلعاتها إلى المستقبل الأفضل.

وإن كتابه «اقتصادنا» كان النقلة الموفقة في تطوير التأليف الفقهي الإسلامي من الاقتصار على الفقه العام إلى تناول الموضوعات الأخرى التي تعد من قضايا الساعة التي تضع المسلمين بين أن يكونوا أو لا يكونوا.

رحمه الله رحمة العلماء العاملين وأسكنه في فراديس جناته مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.

والحمد لله رب العالمين
المصدر: مجلة الفكر الجديد، العددان 13 - 14 السنة الرابعة ـ حزيران 1996م /صفر 1416هـ