صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 39

الموضوع: نهج البلاغة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    نهج البلاغة

    ما هو نهج البلاغة
    كتاب نهج البلاغة
    هل في النهج دخيل
    دفع الشبهات عن نـــهـــج البـلاغــة

    نظرة عامة في نهج البلاغة
    الفصاحة والجمال
    النفوذ والتأثير
    قالوا فيه
    نـهـج الـبـلاغــة ومجتمعنا اليوم
    الشمول والاستيعاب في مختلف الميادين
    تأملات في أدب نـــهــج البـلاغـة
    البلاغة في نهج البلاغة (1)
    البلاغة في نهج البلاغة (2)

    في رحاب نهج البلاغة
    العبادات في نهج البلاغة
    نظام الحكم والإدارة في نـهــج الـبــلاغة
    الحكمة والموعظة الحسنة في نـــهـــج الـــبـــلاغــة/1
    الحكمة والموعظة الحسنة في نـــهـــج الـــبـــلاغــة/2
    حـب الدنيا وتركها في نـهج الـبـلاغة/1
    حـب الدنيا وتركها في نـهج الـبـلاغة /2
    حدود العقل والقلب
    الأسلوب والعبقرية الخطابية
    العدالة الكونية
    الحنان العميق
    صدق الحياة
    خير الوجود وثورية الحياة
    مشكلة الفقر والغنى في نظر الإمام علي (عليه السلام)
    التنبؤ بالمستقبل عند الإمام
    الديمقراطية في نهج البلاغة / بقلم: السيد محسن الأمين

    التربية والتعليم في نهج البلاغة
    التربية في نهج البلاغة
    مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام)
    سمات المنهج التربوي العلوي/1ـ حقيقة الإنسان وطبيعته
    سمات المنهج التربوي العلوي/2ـ المعرفة: طبيعتها، مصدرها
    سمات المنهج التربوي العلوي/ 3ـ التفكير
    وظائف التربية

    أنواع التربية
    أولاً: التربية الاجتماعية
    ثانياً: التربية الدينية والأخلاقية
    ثالثاً: التربية الوطنية
    رابعاً: في القضاء

    التعليم في نهج البلاغة
    التعليم

    :e_blume02 :e_blume02 :e_blume02 :e_blume02

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]كتاب نهج البلاغة[/align]

    أما بعد، فإن (نهج البلاغة) اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، ـ كما هو مذكور ـ المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه. وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على 238 خطبة و79 بين كتاب ووصية وعهد، و488 من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.

    ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة). وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.

    ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.

    لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.

    وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، أن يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر والشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الإمام علي (عليه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية. ولا يعني ذلك، ترك المجتمع واعتزاله، إذ لا رهبنة في الإسلام، ولا يبدو من كلماته (عليه السلام) أنها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.

    هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.

    ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب (النهج) فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للإمام علي (عليه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن الموضوع قد استنفذ البحث.


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] هل في النهج دخيل[/align]

    ذهب شطر من الكتاب وفيهم الكاتب المعتزلي عبد الحميد بن أبي الحديد فيلسوف المؤرخين إلى القول بأن المجموع في نهج البلاغة من الدفة إلى الدفة معلوم الثبوت قطعي الصدور من أمير المؤمنين من فمه أو من قلمه.

    وإليك من مقاله الآتي في شرحه على نهج البلاغة، ج10، ص546 بعد إيراده لخطبة ابن أبي الشحناء المشهورة ما نصه: كثير من أرباب الهوى يقولون أن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ونكبوا بينات الطريق ضلالة وقلة معرفة بأساليب الكلام وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين وقد نقل المحدثون كلهم أوجلهم والمؤرخون كثير منهم وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك؛ والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد آنس بالكلام والخطابة وشد طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرق بين الكلام الركيك وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد. وإذا وقفت على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلابدّ أن تفرق بين الكلامين وتميز بين الطريقتين.

    ألا ترى: إنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر؟ وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة؟ وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.

    ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الوضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم تثق بصحة كلام منقول عن رسول الله أبداً وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع. انتهى كلامه.

    وكذلك ما نقل أن الخطب والكتب والكلم المرويات في نهج البلاغة حالها كحال الخطب المروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) التي بعضها متواتر قطعي الصدور وبعضها غير متواتر فهو ظني السند لا تحكم عليه بالانتحال والافتعال إلا بعد قيام الدليل العلمي على كذبه، كما أننا لا نحكم بصحته جزماً إلا بعد قيام الدليل عليه وعليه فالاعتدال والحق الذي أحق أن يتبع يقضيان علينا بأن نجعل لهذا الكتاب من القيمة الدينية ما نجعله لغيره من الجوامع الصحاح والكتب الدينية المعتبرة ونعترف بقيمته الأدبية وتفوقها من هذه الجهة على كل كتاب بعد كتاب الله عزّ وجلّ.


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [align=center] دفع الشبهات عن نـــهـــج البـلاغــة[/align]

    لقد نال موضوع تصحيح نهج البلاغة منزلة من الوضوح وتنورت أطرافه من حيث كثرة الأسانيد لحد لم يدع مجالاً للمتقولين عليه فيما بحثنا عنه، إلا أن البعض ممن ركبوا العصبية ونكبوا عن النهج قد يضربون عن كل هذه الحجج والدلائل صفحا ويتشبثون بشبهات واهية.

    - الشبهة الأولى: كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر ألفاظها بعد الأجيال.

    والجواب عنها أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات التي رويت عن النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وعن غيره ممن تقدم عليه زمانه أو تأخر، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) أهم وأعظم ممّا قبله، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي (عليه السلام) ص125: (إن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام (عليه السلام) كانت بضع مئات، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة).

    - الشبهة الثانية: إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي وغيره، والجواب عنها أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب، ولا يبعد أن يكون الذين جاءوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحل معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام. قال: مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين: (وممّا يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في البيان والتبيين، قال: قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال: ويحك ولم؟ قال: لا أدري. قال: فوالله ما هم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعقبها بقوله: وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب: منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الأخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه بحال معاوية؛ ومنها إنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم.

    وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تخالجه ريبة في أن هذه الخطبة أحرى بها أن تعزى إلى الإمام، إذ ترى روحه واضحة جلية، فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: إن الرواة نحلوها معاوية وهو يتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: (والله اعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم) ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه (إنما يكتب ويخبر بما سمعه).

    أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبى بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروى هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها إلا ضرباً من الاقتفاء والاقتباس.

    - الشبهة الثالثة: إن المجموع من خطبه (عليه السلام) يتضمن أنباء غيبية وأخبار الملاحم والفتن ممّا يختص علمه بالله وحده.

    والجواب عنها أن الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبية وأخباراً عن الملاحم والفتن، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير، كذلك لا ينطق ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولقد قيل له (عليه السلام): لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فأجاب (عليه السلام): ليس هو بعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم..

    ولا غرو فقد ثبت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيه أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) وقول علي (عليه السلام): لقد علمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب.

    فمن اختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ، فقد روى عه المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص425 مجلد 1 وابن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن، وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال (عليه السلام): (لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة) فكان الأمر كذلك. واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه ـ وأشار بيده إلى لحيته وجبهته ـ وكان إذا رأى ابن ملجم قال:

    أريد حياته ويريد قتلي **** عذيرك من خليلك من مراد

    واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء(1).

    وممّا يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه ـ كما رواه الترمذي في صحيحه. فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلة واستقائها العلم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم لا يجوز مثل ذلك من علي (عليه السلام) وهو عيبة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه. هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها، ونحن لا نمارى في ذلك مبدئياً فكيف نمارى في المنقول عن ابن عم الرسول (صلّى الله عليه وآله) وترجمان وحيه وخازن علمه؟


    - الشبهة الرابعة: اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين ممّا يستبعد التحدث عنها قبلاً، كدقائق علم التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته.

    وأجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص126 من كتابه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قائلاً: هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كد ذهن وكدح خاطر، اللهم إلا أنهم حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعقل أو عناء، وليس أحد يمارى في أن إيراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فطري فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوا من صفاء الذهن وانقاد الحرية وسرعة الخاطر وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي (عليه السلام)؟ وهو من علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بيناناً وأرقها لفظاً وأصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً! وقد قدمنا لك أنه ربي في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ حداثته فنشأ وشب في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته. وقد قال علي (عليه السلام) في بعض خطبه: (كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً، وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثقاف الأذهان وصقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها، وقد مر بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد ملئ بالعظائم والأهوال. وحسبه أن يحمل مع ابن عمه (صلّى الله عليه وآله) أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة هجرته متعارضاً لأذى المشركين الراصدين للرسول وإن يخوض غمار الحرب في كل غزواته ـ إلا واحد ـ ثم هو يقضي طول خلافته مذّ بويع إلى أن قُتل ـ أربع سنين وتسعة أشهر ـ في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويند معه صبر الصبور. كل أولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة، وما العقل إلى التجربة والاختبار؟! وأخالك تذكر ما قدمناه لك آنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حز به أمر فيجيد الحز ويطبق الفصل. ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم، وكان كل ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء السابقين له بمرأى منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير؛ هذا المران السياسي الطويل العهد ـ وهو خمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها ـ أفاده شحذا في الذهن وثقوبا في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً ـ انتهى كلامه.

    وأما جوابنا عنها: فهو أن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي (عليه السلام) وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم بكلام خاص انفرد به؛ فلما سألهم عن المأخذ قال كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال الحجاج: لقد جئتموها من عين صافية.

    ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه).

    ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك الآيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة.

    وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري، كقوله (عليه السلام) في صفة الأرض: (فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها) وقوله (عليه السلام): (وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها) وكلنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد (غالية) الإيطالي (وكوبرنيك) الألماني و(نيوتن) الإنكليزي، ورأى ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً. وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج ـ الذي اشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لأمري، أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري؟


    - الشبهة الخامسة: اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله (عليه السلام): وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه.. الخ.

    والجواب عنها يعرف ممّا سبق؛ فإنّما المتأخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل واختاروا الاصطلاحات من قبيل الكيف والأين بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام (عليه السلام) لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره؛ وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل ثم ينسبها إلى غيره؟ ولو كان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبه كلمة الماهية المنحوتة من (ما هي)، واللمية المنحوتة من (لم)، والإنية المنحوتة من (إنه)، والهيولى المنحوتة من (هي الأولى) وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام. في حين أن النهج كله خلو عن كل هذا.

    ونظير هذا قول أبي نؤاس (كأن صغرى وكبرى من فوافقها) الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس، في حين أن اصطلاح متأخر عنه جداً ولا يستلزم تأخره نفى ذلك الشعر المتقدم. ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.

    ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله (عليه السلام): فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ، يحسب أن ترتيب الكلام على شاكلة القياس المؤلف من صغراه وكبراه غير مألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد؛ ومعناه أن نظم القياس المعقول قصى عن الذوق العربي. وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول بفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة؟ قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) وروى البخاري في صحيحه عنه (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله) فإذا ورد في أفصح الكلم نظم القياس وتفريغ الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم؟

    ولقد قطعنا جهيزة كل خطيب بأن المسانيد المشهّرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة.


    [align=center]--- مؤلف نهج البلاغة وغرضه الشريف[/align]

    إن مجموع نهج البلاغة عقد في الأدب ثمين، ينبوع للعلم غزير المادة لا ينبغي أن يستخف بوزنه لمجرد تعصب أشخاص أو طوائف ضعيفة المركز لا تعرف ثمن الحكمة ولا تلتفت إلى العواقب، قام في عصره سيد الشعراء بلا مراء ألا وهو الشريف الرضي فسن لنهضة النشؤ العربي نهج البلاغة واختار من مختار كلام أمير البلاغة، وإمام الإنشاء مجموعة وافية بالغرض وثق من إسنادها وهو الثقة عند الجميع.

    فكتاب نهج البلاغة المنوه عنه المنتشر في دواوين الأدباء وأندية العلماء فلا ينبغي الشك في أنه من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين ذي الحسبين المتوفى سنة 406. ونسبة الكتاب إليه مشهورة وأسانيد شيوخنا في أجازاتهم متواترة ونسخة عصر الشريف موجودة والتي وشحت بخطه الشريف مشهورة وعليه فكلما في مجموعة نهج البلاغة هو من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين بلاء مراء.

    أما نسبة انتحال الشريف الرضي جامع نهج البلاغة خطبة أو كلمة إلى سيدنا الإمام علي (عليه السلام) وتعمده الكذب عليه بأي دافع من الدوافع منشئ لا يسع أهل العلم والعرفاء بحال الرضي أن يقبلوه، لأن نزاهة الشريف الرضي معلومة وعفته مشهورة وزهده ثابت وورعه معروف.

    إذن فما الذي دفع الشريف الرضي إلى تجشم التأليف؟ نعم، كان الرضي في بداية أمره مولعاً بأساليب البلاغة شغفاً في صنعتي الإنشاء والكتابة ينتقي من جوامع الكلم أبلغها، ويختار من أحاسن الإنشاء أبدعها ليعينه حفظ ما جمع على كماله في صناعة الإنشاء وبراعته في فن الخطابة والكتابة، شأن المشتغلين بالأدب في كل عصر ومصر. هذا ولا غيره حمل الشريف الرضي على تدوين الخطب والكتب والكلم المأثورة عن أمير البلغاء وإمام الفصحاء، الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان يجمع بغرض فقهي أو غاية مذهبية لا ورد كثيراً من الخطب بأسانيدها المستفيضة. وليس الرضي مخطئاً في سلوك هذا المذهب في الأدب لأننا شاهدنا جماهير العرب والعجم والشرقيين والمستشرقين ممن يتطلبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام وبلاغة خالية من كل تعقيد أو تكلف.

    وليس الرضي بدعاً من الرسل ولا بأول سالك نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا بأول من استضاء نبراسه، فقد سبقته قوافل من رواد العبقرية الإنشائية مسترشدين بكلم علي (عليه السلام) وخطبه وكتبه.

    فهذا ابن نباتة يقول: حفظت من الخطب كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي ابن أبي طالب.

    وكم زين الجاحظ كتبه مثل البيان والتبيين بفصول من خطب أمير المؤمنين إعجاباً بها وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصى البلاغة.

    هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه وهذا ما حمل الشريف الرضي على جمع المختار من خطب الإمام علي (عليه السلام).
    ..........................................
    الهوامش:
    1- راجع، ص208، من المجلد الأول لشرح ابن أبي الحديد على النهج، ففيه جمع من الروايات في أخباره (عليه السلام) عن المغيبات، وكذا، ص425 منه.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center]الفصاحة والجمال[/align]


    لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفاً بفنون الكلام وجمال الكلمة، فإن الجمال يدرك ويوصف. إن لنهج البلاغة اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده نفس الحلاوة واللطف الذي كان فيه للناس على عهده، ولسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام، ولكنا - بمناسبة البحث - نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه (عليه السلام) في القلوب، وتأثيره في تحريك العواطف والأحاسيس، والمستمر من لدن عهده إلى اليوم، مع كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق. ولنبدأ بعهده.

    لقد كان أصحابه (عليه السلام) - خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام - مغرمين بكلامه، منهم (ابن عباس) الذي كان - كما ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) - من الخطباء الأقوياء على الكلام (1) فإنه لم يكن يكتم عن غيره شوقه إلى استماع كلامه والتذاذه بكلماته (عليه السلام)، حتى أنه حينما أنشأ الإمام خطبته المعروفة بـ(الشقشقية) كان حاضراً فقام إلى الإمام (عليه السلام) رجل من أهل السواد - أي العراق - وناوله كتاباً، فقطع بذلك كلام الإمام، فقال ابن عباس: (يا أمير المؤمنين! لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت) فقال (عليه السلام): (هيهات! إنها شقشقة هدرت، ثم قرّت) ولم يطرد في كلامه ذاك، فكان ابن عباس يقول: (والله ما ندمت على شيء كما ندمت على قطعه هذا الكلام).

    وكان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام (عليه السلام): (ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانتفاعي بهذا الكلام)(2).

    وكان معاوية بن أبي سفيان - وهو ألد أعدائه - معترفاً بفصاحة وجمال أسلوبه:

    فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام (عليه السلام) وأقبل على معاوية وقال له - وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام (عليه السلام) -: جئتك من عند أعيا الناس!

    وكان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى معاوية، فقال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره!

    ..........................................
    الهوامش:

    1- البيان والتبيين، ج1، ص230.

    2- نهج البلاغة، الرسائل، رقم22، ص140، ج15، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] النفوذ والتأثير[/align]


    كان الذين يجلسون إلى منبره فيستمعون إليه يتأثرون بكلامه كثيراً، إذ كانت مواعظه تهز القلوب وتسبل الدموع. والآن أيضاً من ذا يسمع وعظه أو يقرأه فلا يهز له؟ وهذا السيد الرضي (رحمه الله) يقول بعد نقله الخطبة المعروفة بالغراء(1):

    وفي الخبر: (أنه (عليه السلام) لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمي هذه الخطبة: الغراء).

    وكان همام بن شريح من أصحابه (عليه السلام) من أولياء الله وأحبائه متيّم القلب بذكره، فطلب من الإمام (عليه السلام) بإصرار أن يرسم له صورة كاملة للمتقين، وكان الإمام (عليه السلام) يخاف عليه أن لا يتحمل سماع كلماته، فاقتصر على جمل مختصرة إذ قال:

    (اتق الله يا همام وأحسن، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

    ولكن لم يقنع بهذا همام بل ازداد شوقه إلى كلامه (عليه السلام) أواراً وضرماً، فأصرّ عليه أكثر من ذي قبل حتى أقسم عليه! فبدأ الإمام (عليه السلام) خطبة عد فيها (105) من أوصاف المتقين (2). وكلما أدام الإمام كلامه وصعد في صفات المتقين ازداد اضطراب نفس همام كأنها طير يحاول أن يكسر قفصه فيخرج منه؟ وفجأة قرعت أسماع الحاضرين صرخة مهولة جلبت أنظارهم إلى صوب همام ولم يكن الصارخ سوى همام، فلما وقفوا عليه رأوا أن روحه قد خرجت من جسمه إلى رحمة الله ورضوانه. فقال الإمام (عليه السلام): (أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: هكذا تفعل المواعظ البليغة بأهلها).

    نعم، هكذا كان أثر نفوذ كلام الإمام (عليه السلام) في نفوس سامعيه.

    .......................................
    الهوامش:

    1- الخطبة 82، ص241-276، ج6 من شرح النهج لابن أبي الحديد، بتحقيق محمد أبو الفل.

    2- الخطبة، 186، ص132-149، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفل.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] قالوا فيه[/align]

    كان علي (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي اهتم الناس بحفظ كلماته (عليه السلام) وضبطها في بطون الصحائف والقلوب.

    فهذا ابن أبي الحديد ينقل لنا عن الكاتب عبد الحميد بن يحيى (1) الذي كان يضرب به المثل في الكتابة والخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري، أنه كان يقول: (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت)!

    وينقل الدكتور علي الجندي: أن عبد الحميد سئل: أنى لك هذه البلاغة فقال: (حفظ كلام الأصلع) (2).

    وكان عبد الرحيم بن نباتة وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي، يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام (عليه السلام) ويقول - على ما نقله ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج -: (حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام)).

    وكان الجاحظ - وهو الأديب العارف بالكلام وفنونه، والذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري، ويعدّ كتابه (البيان والتبيين) أحد أركان الأدب الأربعة (3) - يكرر في كتابه الإعجاب والثناء على كلام الإمام (عليه السلام).

    ويبدو من كلامه انتشار كلمات كثيرة عن الإمام (عليه السلام) بين الناس على عهده.

    ينقل الجاحظ في الجز الأول من (البيان والتبيين) (4) آراء الناس في الثناء على السكوت وذم كثرة الكلام، فيعلق عليها يقول: (الإسهاب المستقبح هو التكلف والخطل المتزايد، ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أكثر الناس فيما ذكروا).

    وفي نفس الجزء الأول ينقل هذه الكلمة المعروفة عن الإمام (عليه السلام): (قيمة كل امرئ ما يحسنه) ثم يثني على هذه الجملة ما يبلغ نصف صفحة الكتاب ويقول:

    (فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية. وكأن الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).

    وللسيد الشريف الرضي (رحمه الله) جملة معروفة في وصف كلام الإمام (عليه السلام) والثناء عليه، يقول:

    (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مَشْرَعَ الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا، لأن كلامه (عليه السلام) الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي) (5).

    وكان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري، أديباً ماهراً وشاعراً بليغاً. وهو كما نعلم مغرم بكلام الإمام (عليه السلام) مكرراً إعجابه به في كتابه ومقدمته:

    (وأما الفصاحة: فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة... وحسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه) (6).

    وفي الجزء السادس عشر من شرحه عند شرحه رسالة الإمام (عليه السلام) إلى ابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر واغتصاب مصر بيد أصحاب معاوية، إذ يكتب إليه إلى البصرة يخبره بالخبر، يقول:

    (انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها، وعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف... فسبحان الله من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية - لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك - وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرب بين الشجعان - لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب - وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف الأحمر: أيما أشجع: عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب؟ فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة! فقيل له: فعلى كل حال؟ قال: والله لو صاح في وجهيهما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقُس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جُرهُمْ وإن لم تكن لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم، مع أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا. ولا غرو فيمن كان محمد (صلّى الله عليه وآله) مربيه ومخرجه، والعناية الإلهية تمده وترفده: أن يكون منه ما كان) (7).

    ..................................................
    الهوامش:

    1- كان كاتباً لمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وهو شيخ ابن المقفع لعالم والكاتب الشهير في الدولة العباسية. وقد قيل فيه: بدأت الكتابة بعبد الحميد واختتمت بابن لعميد، وزير البويهيين.

    2- الأصلع: من انحسر شعر مقدم رأسه - فعبد الحميد مع اعترافه بكلامه هذا بفضل الإمام (عليه السلام) وكماله، يذكر الإمام بنبز اللقب وذلك بحكم انتمائه إلى بني أمية!

    3- والأركان الثلاثة الأخرى هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والنوادر لابن علي الفالي، ابن خلدون.

    4- البيان والتبيين، ص202.

    5- ص45، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    6- مقدمته، ج1، ص24، ط أبو الفضل.

    7- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج16، ص147، ط الحلبي.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] نـهـج الـبـلاغــة ومجتمعنا اليوم[/align]


    لقد تبدلت الألوان في هذا العالم اليوم عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرناً، وتطورت المعارف والثقافات وتغيرت الأذواق. فقد يزعم الواهم أن المعارف والأذواق القديمة كانت تتقبل مقال الإمام (عليه السلام) وتخضع له، أما الأفكار والأذواق الحديثة فهي تحكم بغير ذلك! ولكن يجب علينا أن نعلم: أن مقال الإمام (عليه السلام) سواء من حيث اللفظ أو المعنى لا يتحدد بالزمان والمكان، بل هو عالمي وإنساني ما بقي الإنسان إنساناً في العالم، وسنبحث نحن في هذا الشأن فيما بعد، ولكنا كما سردنا بعض ما قالوه في مقاله (عليه السلام) في القديم نعكس الآن هنا قليلاً ممّا قال فيه ذوو الأنظار والأفكار في عصرنا هذا أيضاً.

    كان الشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية - ممن قرّبته الصدفة حين ابتعاده عن الوطن من معرفة (نهج البلاغة) وجرّته هذه المعرفة إلى الشوق، إلى أن يشرح هذه الصحيفة المقدسة وينشرها بشرحه بين شباب أمته. إنه يقول في مقدمته لشرحه: (وبعد، فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمّل، أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال...) (1).

    والدكتور علي الجنيد رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (علي بن أبي طالب، شعره وحكمه) كتب عن نثر الإمام (عليه السلام) يقول:

    (في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً).

    ثم ينقل عن قدامة بن جعفر أنه كان يقول: (جلت طائفة في القصار وطائفة في الطوال، أما علي فقد بزّ أهل الكلام جميعاً في القصار والطوال وفي سائر الفضائل).

    وينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه (علي وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ؟! وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (عليه السلام) وسأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟

    فقال (عليه السلام): (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله).

    - يعني: إنك في ضلال بعيد، إذ أنك قلبت في قلبك بشكك هذا مقاييس الأمور، فبدل أن تجعل الحق والباطل مقياساً لعظمة الأفراد وحقارتهم، جعلت العظمة المزعومة مقياساً لمعرفة الحق والباطل! أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال! كلا، بل أقلب هذا المقياس، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله، وحينئذ لا تبالي من يكون إلى جانب الحق أو الباطل، ولا ترتاب من أقدار الرجال.

    وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام (عليه السلام) يقول:

    (ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء).

    وأمير البيان شكيب أرسلان، من كتاب العرب المعروفين في هذا العصر، يتفق في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة ويقول فيما يقول:

    (رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب: أمير البيان: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشكيب أرسلان)!

    فيقوم شكيب أرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي عمل هذه المقارنة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ويقول:

    (أين أنا وأين علي بن أبي طالب! أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي (عليه السلام)) (2)!

    وكتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق، يقول:

    بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه. وسر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبّده للحق أينما تجلى له الحق.

    ولا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الناس على كلام الإمام (عليه السلام)، ونختمه بكلمة منه في هذا الموضوع:

    قام يوماً أحد أصحاب الإمام (عليه السلام) ليتكلم، فتلجلج وأعيى! فقال الإمام (عليه السلام):

    (ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه).

    وينقل الجاحظ في (البيان والتبيين) (3) عن عبد الله بن الحسن (المحض) بن الحسن بن علي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال:

    (خصصنا بخمس: خصاصة وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة).
    ................................................
    الهوامش:

    1- مقدمة عبده، ص1، وبهامشه: يقال: كان ذلك حين كان الأستاذ الإمام منفياً في بيروت.

    2- نقل هذا الخبر العالم المعاصر الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية العاملي في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مدينة مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) قبل عدة أعوام.

    3- البيان والتبيين، ج2، ص99.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] الشمول والاستيعاب في مختلف الميادين[/align]


    من المميزات السامية في كلمات الإمام (عليه السلام) المجموعة باسم (نهج البلاغة) والتي هي بين أيدينا اليوم: أنها لا تحدّد بصعيد واحد، فإنه (عليه السلام) لم يكن فارس الحلبة في ساحة واحدة، بل أنه صال وجال ببيانه في ميادين مختلفة لا يجتمع بعضها مع الآخر في الرجل الواحد. إن نهج البلاغة عبقرية ولكنها ليست عبقرية واحدة في موضوع واحد كالموعظة مثلاً أو الحماسة فقط، بل في أصعدة مختلفة سنشرحها فيما يأتي.

    أن تكون كلمة من العبقريات في موضوع واحد ليست كثيراً ولكنها توجد على أي حال. أو أن تكون الكلمات في مختلف الموضوعات ولكنها عادية من دون عبقرية أيضاً كثيرة. ما أن تكون الكلمات من العبقريات ومع ذلك لا تكون محدودة بصعيد واحد فتلك من خصائص (نهج البلاغة) فقط.

    طبعاً إذا تجاوزنا عن القرآن الكريم - الذي هو كتاب من نوع آخر - فأي كتاب آخر نستطيع أن نجده متنوعاً في العبقريات البلاغية على مدى ما في (نهج البلاغة)؟!

    إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية، ولذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي يرتبط به روح صاحبها، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد. وحيث أن روح الإمام (عليه السلام) لا تتحدد بعالم خاص بل هو ذلك الإنسان الكامل الجامع لجميع مراتب الإنسانية والروحية والمعنوية، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد. إن من مميزات كلاما الإمام (عليه السلام) أنه ذا أبعادٍ متعددة وليس ذا بعد واحد.

    وإن هذه الخصيصة: خصيصة الشمول والاستيعاب في كلام الإمام (عليه السلام) ليس ممّا اكتشف حديثاً، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف عام، فهذا السيد الشريف الرضي (رحمه الله) الذي هو من علماء الإمامية في المائة الرابعة أي قبل ألف سنة، يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول:

    (ومن عجائبه التي انفرد بها: إن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر، وخلع من قلبه: أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلا نفسه. ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال! وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات. وكثيراً ما أذاكر الإخوان بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضع العبرة بها والفكر فيها) (1).

    وقد أعجب الشيخ محمد عبده بهذا أيضاً، حيث أن القارئ في نهج البلاغة يسير به في عوالم عديدة وقد أبدى إعجابه بهذا في مقدمته فقال:

    (فتصفحت بعض صفحاتهن وتأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، ومواضع متفرقات، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة.. وأن مدبّر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد) (2).

    وقال صفي الدين الحلي - المتوفى في القرن الثامن الهجري - بهذا الصدد:

    جمــــعت فـــي صفاتك الأضداد ولهـــــذا عـــــزت لك الأنــــداد

    زاهد حاكم! حلــــيم شــــــجاع! فاتـــك ناســـــك! فقـــير جواد!

    شيم ما جمــعن فـــــي بشر قط ولا حــــاز مثــــلــهن العـــــبادُ

    خلق يخــــجلُ النسـيم من اللطـ ـف وبأس يــــذوب مـنه الجماد

    جل معــــناك أن يحيط به الشعـ ـر ويحصـي صفاتك النقاد(3)

    وبعد كل هذا نقطة أخرى وهي: أن الإمام (عليه السلام) مع أنه إنما تكلم حول المعاني الحقة والواقعية بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال! إن الإمام (عليه السلام) لم يتكلم في الفخر أو الخمر أو الشعر وهي ساحات واسعة للخيال وللوصف الفصيح، ولم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فيبدي بذلك مهارته الفنية في الكلام، كلا، إذ لم يكن الكلام هدفاً له بل وسيلة إلى أهدافه، إنه لم يرد أن يخلف لنا بمقاله أثراً فنياً أو يبدي عبقرية أدبية. وأكثر من هذا، إن كلامه عام غير محدود بحدود الزمان أو المكان أو الأشخاص بشكل خاص، بل هو يخاطب (الإنسان) ولذلك فكلامه لا يعرف حداً للزمان أو المكان.. وكل هذه الأمور ممّا يقيّد القائل ويضيّق موضوع مقاله.

    إن العمدة في الإعجاز اللفظي للقرآن الكريم هي: أن الفصاحة والجمال فيه ممّا أعجز الإنسان العربي، مع أن موضوع مطالبه كان يغاير الكلام المتداول في عصره، متعلقاً بعالم آخر غير هذا العالم، ومع ذلك أصبح مفتتح عهد جديد للأدب في العرب بل العالم. وقد تأثر به (نهج البلاغة) في هذه الناحية أيضاً كسائر الخصائص والصفات، فهو في الحقيقة وليد القرآن الكريم ومن كلمات علي (عليه السلام) وليد البيت العظيم - الكعبة المعظمة -.

    ..................................................
    الهوامش:

    1- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج1، ص49.

    2- مقدمة عبده، ص10.

    3- ديوان صفي الدين الحلي، حرف الدال.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] تأملات في أدب نـــهــج البـلاغـة[/align]



    عباقرة الأمم الذين يصنعون تاريخها هم عظماؤها وأنبياؤها الرساليون لا مشاهيرها.. هؤلاء الذين يسيطرون على مقدراتها في ظروف مواتية وفي غفلة من الزمن.. وقد تسجل ذاكرة التاريخ أدوارهم المصيرية التي لعبوها على مسرح السياسة أو في حومات الوغى. ولكن هؤلاء لا يخلدون في ذراري الأمة خلود أولئك العظماء.. ولا يمكن أن ينقلبوا في أفئدة الأجيال إيماناً وعلى شفاههم حداء وأمام أعينهم مثالاً ولعقولهم غذاء.

    فالاسكندر لم يخلد كفاتح شهير بل كعبقري حكيم وتلميذ فيلسوف عظيم، ونابليون لم يتغنّ به الفرنسيون لأنه قاهر الأمم وغازي الأرض بل يتغنون به - والنخبة منهم على الأخص - لأنه عظيم من عظماء التشريع وأديب ومفكر في ثوب قائد.. ولعل شهرته كقائد قد أساءت إلى عظمته كمتشرّع وعالم.. وهذه هي ضريبة العظمة في العظيم حين يجمع في شخصه أكثر من موهبة وإلى أعماله أكثر من أثر.. وهذا هو خطأ التاريخ حين يركز على الشهير في العظيم لا على العظيم في الشهير..

    وابن أبي طالب من هذا النوع من عباقرة التاريخ الذين أسيء إليهم عن قصد أو غير قصد حين أكثروا من الحديث عن حروبهم وسياساتهم وظواهر تصرفاتهم.. ولم ينظروا إليهم كمصلحين كبار وخطباء هادفين ومفكرين عظماء.. وابن أبي طالب على براعته وصواب رأيه في كل هذه المجالات أبرع وأصوب وأخلد في مجال الفكر والإيمان، والتعبير المثير عن معطياتهما في الخطبة أو المثل أو جوامع الكلم (وهو ما نسميه اليوم بقوننة الفكر..).

    وعظمة علي لا تكمن في كونه خطيباً بليغاً وحسب بل في كونه أكثر من خطيب وأكثر من بليغ.

    وهؤلاء خطباء الإسلام بعد النبي كسحبان وائل وغيرهم.. كانوا خطباء مفوهين وأسياد منابر مشهورين وبلغاء معدودين.. ولكنهم لم يكونوا أكثر من ذلك.. ومن هنا يختلفون في ميزان العظمة مع الإمام علي فهو إلى جانب تفوقه كخطيب بليغ وخير من اعتلى منبراً بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، يمتاز بأنه رجل فكر وتأمل وروحانية وإيمان صميمي ينبع من شلال العقيدة الإسلامية الذي ينهمر في كيانه انهماراً بهياً صافياً وفي بيانه ألقاً روحيا راقياً..

    ثم هو رجل أدب.. وبهذا أيضاً يختلف عن كثير من عظماء التاريخ ومصلحي الأمم الذين لم يكونوا أدباء أو متذوقي أدب إلا نفراً منهم..

    - يقول جورج جرداق في كتابه الموسوم (علي وسقراط):

    فنظرة واحدة إلى الأنبياء مثلاً تكفي لتقرير هذه الظاهرة (ظاهرة وجود الحس الأدبي عند العظماء، في الأذهان). فما داود وسليمان وأشعيا وارميا وأيوب والمسيح والنبي محمد (صلى الله عليه وآله) إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب. وهذا نابليون القائد وأدوار هريو السياسي، وأفلاطون الفيلسوف القائد وباسكال الرياضي وجواهر نهرو رجل الدولة والفكر وباستور العالم الطبيعي وجمال الدين الأفغاني المصلح الاجتماعي إنهم جميعاً أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله..

    إلى أن يقول: هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإذا هو الإمام في الأدب وسر البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى...

    ولا عجب فالإمام ربيب بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل وأقرب الحواريين إلى الرسول الأعظم وأول المؤمنين به منهم.. فلابد أن يمسح فكره بقبس من فكر النبي، وأن يتأدب بأدب النبي، وأن تصبح خطبه فلذات من كبد الحقيقة، وآيات من وحي الحديث والسيرة، وقطعاً من سر القرآن وسحره..

    وهنا لا عجب إن قلنا أنه خطيب لا كالخطباء وأديب لا كالأدباء سيرة وثقافة والتزاماً وروعة كلم.. الأمر الذي يجعلنا نرى فرقاً شاسعاً وبونا بعيداً بينه وبين من سبقه وعاصره وجاء بعده من خطباء ما عدا النبي الذي تتلمذ الإمام علي على يديه.

    فهذه خطب الجاهلية يأخذ الإمام منها شاعريتها وخيالها وصورها وفطرتها السليمة ثم يضيف إليها البيان الإسلامي المهذب والمنطق القوي والموضوعية الهادفة.

    وهذه هي الخطبة الإسلامية مبتسرة تكاد تكون ديوانية رسمية أو جمعية روتينية على ما فيها من الإيمان والحرارة والقوة.. ثم هي عند خطباء الوفود والمحافل تزلفية مهادنة متقطعة الأنفاس رغم بلاغتها الأسلوبية.. لذا فهي متكلفة الموضوع إن لم تكن مستأجرة الأسلوب والغاية.. فالإمام بإجماع الباحثين رائد البلغاء في عصره حتى وبعد عصره.. وكل من عاصره كان عيالاً على نبعتين قريشيتين ثرتين.. النبعة المحمدية والنبعة العلوية.. أضف إلى النشأة والسيرة والبيئة ونوع الثقافة الخصائص العلوية الذاتية التي تكاد تقف وحدها في مجال الأخلاق والذوق والذكاء والعمق والشمولية وقوة التأمل والسبر.. تقف لتؤلف شخصية عجيبة خصبة معطاء.. شخصية تلتحم فيها مزايا الفارس والبطل إلى مزايا المصلح والأديب والخطيب الرباني الملتزم في هندسة نفسية وذهنية وفنية رائعة.

    من هنا كانت عالمية ابن أبي طالب وتخطيه حدود الزمان والمكان بحيث أصبح موضوعاً خصباً للباحثين العالميين غربيين وشرقيين ومستشرقين.. لما في تلك الشخصية الفريدة من مزايا خارقة ومواهب لا حصر لها.

    فليس يكفي الخطيب أن يكون مؤثراً في النفوس بل موجهاً ومحترماً لهذه النفوس.. ليس يكفي - كما في الخطبة السياسية والعسكرية - أن تتخلع القلوب خوفاً وفرقاً أو تنخدع النفوس وتهيم في ضلالات الخطيب بل عليه إن كان خطيباً حقاً وصدقاً أن يعطي من نفسه وسيرته النموذج وأن يهدي الناس بسحر أفعاله قبل سحر أقواله.. وها نحن - أخيراً - نسجل للإمام خلاصة ما تميز به من خصائص أدبية وخطابية مكتفين بالبارز منها..

    أ - التدفق التعبيري المناسب، المتصاعد تمتمات علوية وصلوات حيدرية هامسة.

    ب - التسلسل المنطقي والموضوعية المنهجية المتماسكة، فإذا كل جملة لا يستقيم البحث بدونها، وإذا الموضوع برمته بنيان مرصوص أو فلذة من الفلذات الكيانية النابضة بالحياة..

    ج - الفخامة في اللفظ والاندياح في الخيال. خطبه الوصفية (الطاووس والنملة والجرادة والخفاش)... وشي من الوشي وتهاويل وألوان وأصباغ..

    د - التأمل النبوي والافتراض الحدسي الصافي حتى لكأن المستقبل رهن يديه.. أو هو يرى ما لا يرى، بعين البديهة الصافية ومرآة الذهن البلورية وزخم الألق الروحي المخزون في أعمق قرارات نفسه..

    هـ - وعقل الإمام خزان وأفكار.. فإذا تكلم انثالت المعاني في حشد هائل ولكن على غير تراكم أو اكتظاظ.. فهو يمضي متدفق التفكير والتعبير في إطار هندسي واضح الزوايا والخطوط.. وسواء ارتجل الإمام أو كتب فهو هو: شلال أفكار وينبوع صور..

    و - أما في وصاياه ورسائله فهو غيره في خطبة ونجاواه من حيث الإيجاز وضغط الموضوع في كلام موهوب موجز معجز في إيجازه.. ولعل ذلك قبس من الأسلوب المحمدي الذي كان يميل - في التبليغ - إلى الاجتزاء والتركيز القرآنيين (كما في السور المكية خاصة).

    ز - والخطبة العلوية، قبل كل شيء تأتي دائماً عفو الخاطر لا تتهيب المناسبة، مهما حملت من عنصر المفاجأة.. فإن حملت عنصر الفاجعة حمل الإمام وسائل العقل والمنطق في مجابهتها مجابهة ربانية رحمانية مستسلمة استسلاماً إيمانياً لمشيئة مدبر الكون.. وإن لم تحمل عنصر المفاجأة، فاجأ الإمام الناس بالموضوعية الهادفة والعقل القادر.

    ح - ومن شمول الألمعية العلوية أنها لا تقتصر على الوعظ والإرشاد والتوجيه بل تروح في لهجة الواثق ولهفة العطف الأبوي الإنساني الغزير تدستر مناهج الإصلاح وتقونن الأخلاق والمعاملات.. ثم لا يفوتها أن تصف طبائع الإنسان والحيوان ومظاهر الكون والوجود ونشأة العوالم.

    فمن الرعد والبرق والأرض والسماء، إلى الخفاش والنملة والجرادة والطاووس.. كل ذلك في فلسفة إشراقية إسلامية واعية لينتهي إلى إبراز روائع الخالق في ما خلق وعظيم قدرته في ما أبدع.. مما يندر وجوده في الأدب العربي وبهذا الإطار الفني المدهش.. وإذا كان الجاحظ والمسعودي والقزويني والتوحيدي وأمثالهم قد وصفوا الإنسان والحيوان والعوالم فإنهم كانوا – ولا شك - غيضاً من فيض الإمام وبأساليب علمية جافة وعواطف باردة.

    ط - أما الخيال والعاطفة وهما عنصران فنيان هامان في الخطبة الموفقة فللإمام منهما نصيب كبير يكاد يكون نادراً عند غيره.. فالأبراج السديمية التي يتناول منها صوره وظلالها لا تنضب ولا تخون.. والغريب أنها لا تناقض الواقع الموصوف بل تبلوره وتسمو به. ثم يعكس كل ذلك على نفس موّارة بالرؤى، وقلب زاخر بالهتاف وعقل بعيد التأمل والتطلع، خاصة حين تكون الخطبة في تصوير الوجود والعدم في وقفة وجدانية نافذة أمام الموت وهول المصير ووحشة القبر..

    فأنا لا أرى أبعث على القلق ولا أدعى للأسى والشجن والكآبة من هذا القول للإمام يصف سكان القبور: (جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون.. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً.. بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الأخلاق.. فكلهم وحيد.. وهم جميع، وبجانب الهجر.. وهم أخلاء..).

    إنها وقفة ذاهلة كئيبة لا تدانيها سوى وقفة أبي العلاء أمام القبر وتزاحم الأضداد فيه.. وقفة كان لا ينقصها - في خضم التجربة - سوى دم علي يسفحه سيف خارجي جبان.. ثم يثوي الشهيد بين أحبائه هؤلاء ظاعناً مثلهم في سرمدية الجديدين.. وهكذا يفعل ابنه الحسين.. فتنطلق حنجرة حكيم المعرة بهذا الهتاف الحزين.

    وعلى الأفق من دماء الشهيدين علــــي ونجــــــله شــــــاهدان

    فهما في أواخـــر اللـــيل فجران وفــــــي أوليـــــــاته شفــــقان

    ي - وما الأصالة الفنية العميقة التي يتميز بها كبار الأدباء، وما إحساسهم العميق بوحدة الوجود وشوقهم المتيم إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة والموت.. وما نزعتهم الإيمانية التوحيدية الجامحة: نزعة الفنان الكبير الذي يريد أن يعمق الوجود في قلبه وعقله وكل كيانه.. ما هذا كله سوى غاية من غايات ابن أبي طالب وصفة من صفاته، وسمة من سمات فكره الحكيم وأدبه الخالد.. ولا تنسى أنه بهذا يتقدم الخالدين من الأدباء العالميين ويتوسط صفوة الحكماء والفلاسفة.. يتقدمهم توثباً نحو معانقة الجمال الإلهي والعظمة الكونية والرحمانية الإنسانية.. في هتاف دائم ونجوى مستمرة وفكر زاخر بالقيم وخيال موار بالرؤى..

    وتسألني - بعد - هل كان ابن أبي طالب أكثر من خطيب أم مجرد خطيب؟ فيجيبك عني - إن لم أكن قد أجبتك حتى الآن - جورج جرداق نفسه حيث يقول: (والخطباء في العرب كثيرون والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولاسيما في عصر النبي.. أما خطيب العهد النبوي فالرسول لا خلاف في ذلك، وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما تلاه من العصور العربية قاطبة فإن أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا المجال.. فالنطق السهل لدى علي كان من عنصر شخصيته.. وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إن الله يسر له العدة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقومات.. فقد ميزه الله بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة ثم بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه وبحجة قائمة وقوة إقناع دامغة.. وعبقرية في الارتجال نادرة أضف إلى ذلك كله صدقه الذي لا حدود له وهو ضرورة لكل خطبة ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرة التي كشفت لعقله الجبار عن طبائع الناس وصفات المجتمع ومحركاته، ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية، وإنه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل..)

    كما يجيبك جامع (النهج) الشريف الرضي حيث يقول: (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشروع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة وموردها، منه ظهر مكنونها ومنه أخذت قوانينها، وعلى مثله حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا)..

    ويقول شارح (النهج) المصلح الكبير الشيخ محمد عبده: (وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ونما به إلى مشهد النور الأجلى..) إلى أن يقول مهيباً بالناشئة إلى تعلمه وتدبره وحفظه: (ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه، بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه (صلى الله عليه وآله) وأغزره مادة وأرفعه أسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني..).

    وهذا هو العقاد يفرد للإمام كتاباً برأسه في جملة (عبقرياته) وقد جاء في المقدمة قوله: (وللذوق الأدبي - أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة لأنه رضوان الله عليه كان أديباً بليغاً، له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون وإن تطاولت بينه وبينهم السنون. فهو الحكيم الأديب والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناشرين والناظمين).


  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] البلاغة في نهج البلاغة
    القسم الأول


    بلاغة علي بن أبي طالب (عليه السلام)[/align]


    إن النص في نهج البلاغة - كتاب علي بن أبي طالب - يتمتع بسلطة فائقة، محكمة، نادرة. وهي تُحيل القارئ (والسامع) إلى أنموذج العلاقة بين الأفكار والأسلوب.

    فثمة نص شكلاني، قائم على إبداعية الشكل، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة، كشكل فني قوي الاتصاف، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية، أو بكيفيّته التقليدية.

    فقد يكون النص، مثل اللوحة التي تُحاكي الطبيعة (أو الواقع)، أو أنه يكون أداة تعبير عن الذات، بكل استطاعات التعبير الممكنة. وعادة، يكون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع، بما يُرافق ذلك من توسّعات لغوية، أو حشو، أو فجوات، أو نواقص.

    وهو - أي التعبير النثري - في ملاحقته للأفكار، ينتهج طرائق وأساليب عادة، متباينة في درجة نجاحها، فهو أحياناً يصل إلى الأفكار، وأحياناً يتقدم عليها، أو يتخلف عنها، وهو - أحياناً - يتماسّ وإياها، قد يُعبّر عنها بصراحة، أو بإيحاء، بوضوح تام، أو بإيماء.

    في بلاغة علي بن أبي طالب، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسد سلطة علي بن أبي طالب على نفسه، تلك السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي.

    وتوضح سيرة علي بن أبي طالب، أحسن توضيح، تلك الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض الأفكار - أفكاره هو - وفي البلاغة البيانيّة له.

    فالنص لديه - ينقل أفكاره بصدق تام. بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة، ذات ميزان دقيق، يستبعد كل بلاغة (بلاغية) تسوحُ في جولات الأساليب، والشكليات المتغيرة.

    حقاً، كان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة، لكنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة، التي كانت الإطار لعملية إيصال الأفكار.

    لقد كانت الأفكار تُوصَل على نحو فعّال، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب، أي أن البلاغة كانت تتولى وضع الإضافات فوق المعاني وحواليها، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة، فثمة (معانٍ) تتخللها، وتحيط بها زركشات لفظية، مُدلّلة على القدرة البيانية، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي.

    أما بلاغة علي بن أبي طالب، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو - في الوقت نفسه - يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة، الباهرة.

    إنه يتناول مسائله الفكرية وكأنها تُولد تواً. وكذلك هو في تناوله للمسائل الفكرية المتداولة (والمشتركة) وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية ابتكارية، توليدية.

    فالنص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به، رغم أنه يُبرهن - في حالات ثانية - عن جدارات أسلوبية.

    لكن علياً بن أبي طالب لم يكن رغم ما أوتي من ميلٍ للدعابة - أحياناً - راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة.

    إن طغيان الجديّة كان من وقر المسؤولية الثابت.

    وهو - في ذلك - كان متّسماً بالصدق التام، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً كبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي، الموقت، وغير الثابت.

    فثمة أوجه عديدة للصدق، كذلك هناك صدق في مناسبة، وعدمه في سواها. كان علي بن أبي طالب صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات، لأن أفكاره كانت تشق الطبقات الكثيفة، والزيادات، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق.

    فالنص هو الفكرة والأداة معاً، هو المضمون والشكل، في اتّحادهما المتبادل الإغناء، في إعطاء دلالات مؤكدة، كان الإمام علي يُظهر نفسه فيها من جانب، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية للوصول إلى الآخرين من جانب آخر.

    ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة، التي تُكرس صدق القضية، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق. فالنص - في نهج البلاغة - ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد. بل هو وظيفة متقنة، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفكار، والذي ترتّب عليه إنجاب أفكار جديدة، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة.

    من المؤكد أن النص الأدبي الذي يُصبح - بسبب أهميته - مستقلاً، قائماً بذاته، بعد تجاوز ظرفه، هو - في حقيقته - تعبير عن طبيعة صاحبه. فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى، مجنّدة لمهماتها المحددة.

    وتُعد الكلمات، في النص الأدبي كائنات حية، لم تُخلق عبثاً. وليس من الضرورة بمكان أن تكون إنشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته، من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي أن يكون العمق الفكري له ماثلاً في الحركة التحتية للنص.

    فأبو تمام كان يُحرّك ألفاظه كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، والبحتري كان يُحرّك ألفاظه وكأنها نساء حسان عليهن خلائل مصبّغات، وقد تحلين بأصناف الحلي، كما يقول ابن الأثير الموصلي، لكن أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ - والأشخاص، وكذلك البحتري، كلاً بطبيعته الخاصة، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة.

    كانت مقدرة علي اللغوية، والبيانية، بالغة الفراهة، غير أنه كان يريد إصابة المعنى دائماً، بسبب نظرته الفلسفية، وأفكاره الجمّة التي كان يُصارع من أجل انتشارها. ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفكرية، وغنى طبيعة علي بن أبي طالب، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة، فهو قمة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى.

    قال الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة:

    (كان أمير المؤمنين علي مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب - وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا - وتقدم وتأخروا. وأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجل، والجَمُّ الذي لا يُحافَل) (1).

    ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً) (2).

    ويذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة، مثل ذلك قائلاً:

    (تصفحت بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر - والباطل منكسر.. وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها. وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَضَل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.

    وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام الإمام علي هو أشرف الكلام، وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً.

    ويشتمل (نهج البلاغة) على نحو ثلاثمائة خطبة، ومائة رسالة، وخمسمائة حكمة.

    نهل من معينها الكتّاب، والأدباء، والمفكرون، والمتصوّفة، والعلماء، والزهّاد، والعارفون، وقد قال عبد الحميد الكاتب:

    (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به علي بن أبي طالب) ففاضت ثم فاضت)، وقيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: خطب الأصلع (3).

    وقال ابن نباته:

    (حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة. حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).

    وقال الشريف المرتضى:

    (كان الحسن البصري بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أو جلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فهو القدوة والغاية) (4).

    وقال الأستاذ حسن السندوبي:

    (والظاهر أنه (أي عبد الله بن المقفع) تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي، ولذلك كان يقول: (شربت من الخطبة رياً ولم أضبط لها روياً، فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً) (5).

    وكما كان نهج البلاغة مصدراً كبيراً من مصادر البيان والبلاغة، كذلك هو مصدر للرياضة والتصوف في الإسلام. وهو إلى ذلك المنجم الغني بأصول التوحيد والفلسفة الإسلامية (علم الكلام)، التي أوسعها المتكلمون - بعد ذلك - بالشرح والتفسير، وأحد الروافد الكبيرة للفكر الإسلامي في جميع جوانبه الاجتماعية والأخلاقية والدينية وغيرها.

    وهو كذلك سجل حافل بعناصر تاريخية واقعية، تمد الباحث والمؤرخ بالحقيقة الساخرة، ويمثل كذلك الكثير من الحقائق المذهبية، والتوحيد، وتنزيه الخالق، وصفاته، والعدل. والجبر والاختيار، وما إلى ذلك (6).

    وليس نهج البلاغ (الكتاب الجامع لخطب علي بن أبي طالب ورسائله وأقواله، والذي أطلق عليه الشريف الرضي عنوانه)، أول جمع لتراث علي بن أبي طالب، فلقد حظي كلام الإمام وخطبه بعناية العلماء، والأدباء، قبل عصر الرضي، فعكف فريق منهم على جمع شوارده، ونظم فرائده، حتى تألفت من ذلك مجاميع كثيرة، كما عكف فريق آخر على حفظه والاستعانة به في كلامهم وخطبهم. وفريق ثالث ضمّنوا مؤلفاتهم الأدبية والتاريخية والأخلاقية، طائفة كبيرة من كلامه. وكان ذلك كله هو المصدر الرئيسي الذي اختار الرضي منه هذا المجموع (نهج البلاغة)، وانتقى منه هذه الطرائف البيانية القيّمة (7).

    وقد تجاوزت خطبه المتداولة بين أيدي الناس، إلى أكثر من أربعمائة خطبة:

    قال ابن واضح اليعقوبي المؤرخ المشهور المتوفى سنة (392 هـ) في كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم):

    (وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم).

    وقال المسعودي المتوفى سنة (346 هـ) في كتاب (مروج الذهب - الجزء الثاني):

    (والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً) وقد أشرنا إلى أن هناك جماعة من العلماء والأدباء عكفوا على جمع كلام الإمام علي قبل أن يخلق الشريف الرضي. وقد ذهبت هذه المجموعات مع الزمن كما ذهب سواها من تراثنا العربي، وبقيت أسماؤها.

    ويذكر عبد الله نعمة من الأسماء:

    1 - كتاب خطب علي (عليه السلام) وكتبه إلى عماله، لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني المولود عام 135 هـ والمتوفى عام 215 / 225 هـ.

    2 - كتاب خطبة علي (كرم الله وجهه)، لهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 / 206 هـ.

    3 - كتاب خطب الإمام علي، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن عيسى الجلودي الأزدي البصري المتوفى سنة 332 هـ، وكان من شيوخ البصرة وأخبارييها، له ما يقرب من ثلاثمائة مؤلف.

    4 - كتاب رسائل علي.

    5 - كتاب ذكر كلام علي في الملاحم.

    6 - كتاب مواعظ الإمام علي.

    7 - كتاب قوله في الشورى.

    8 - كتاب الدعاء عن الإمام.

    9 - كتاب بقية رسائله وخطبه وأدل مناظراته.

    10 - كتاب بقية مناظراته.

    11 - كتاب ما كان بين علي وعثمان من الكلام، وهذه الكتب كلها للجلودي المذكور.

    وقد بقي كتابه في خطب الإمام علي بين أيدي العلماء حتى أوائل القرن التاسع، وقد نقل عنه الشيخ حسن بن سليمان الحلي في كتابه (المختصر) شطراً من خطبته التي أولها: (أنا فقأتُ عين الفتنة).

    12 - كتاب خطب أمير المؤمنين، لأبي هاشم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن المتوفى سنة (252هـ).

    13 - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي إسحاق النهمي إبراهيم بن سليمان بن عبد الله بن خالد الكوفي الخراز، يرويه عنه النجاشي بثلاث وسائط، آخرها حميد بن زياد الكوفة المتوفى سنة (310 هـ).

    14 - كتاب خطب أمير المؤمنين، لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري، قال الطوسي في الفهرست: (إنه صاحب التفسير عن السدي، والسدي الكبير هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي المفسر المتوفى في حدود سنة (128 هـ) والسدي الصغير هو حفيد السدي الكبير، محمد بن مروان بن عبيد الله بن إسماعيل السابق الذي يروي عن محمد بن السائب الكلبي، كتاب التفسير.

    15 - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي يعقوب إسماعيل بن مهران بن محمد بن عمر بن أبي نصر السكوني.

    16 - كتاب الملاحم للإمام، لأبي يعقوب المذكور.

    17 - خطب أمير المؤمنين على الناس في الجمع والأعياد وغيرهما، لأبي سليمان زيد بن وهب الجهني الكوفي المتوفى سنة (80 / 96 هـ).

    18 - خطب أمير المؤمنين، لأبي الخير صالح أبي حماد سلمة الرازي.

    19 - خطب أمير المؤمنين، المروية عن الصادق المتوفى عام (148 هـ).

    20 - خطب أمير المؤمنين، لأبي محمد أو أبي بشر مسعدة بن صدقة العبدي.

    21 - خطب أمير المؤمنين، برواية أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي الأسلمي. رواه الشيخ أبو غالب الزراري بإسناده إلى الواقدي، وقد توفي الزراري عام (368 هـ).

    22 - كتاب رسائل المؤمنين، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي المتوفى سنة 283 هـ. وهو من ولد سعيد بن مسعود أخي عبيد بن مسعود صاحب وقعة الجسر مع الفرس، وعم المختار الثقفي، وله أيضاً كتاب الخطب السائرة..

    23 - كتاب الخطب، لمحمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد الأشعري.

    24 - مائة كلمة من كلام أمير المؤمنين، جمعها الجاحظ المتوفى عام (257 هـ).

    25 - كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه من كلام علي (رضي الله عنه) وخطبه. ذكره شارح النهج ابن أبي الحديد عند شرح كتاب علي إلى معاوية، وأول هذا الكتاب: (وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه..).

    26 - كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين، لأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي المتوفى سنة (158 هـ)، وقد رواها الطوسي في الفهرست بسنده، قال: أخبرنا بها أحمد بن محمد بن موسى عن ابن عقدة عن يحيى بن زكريا عن ابن شيبان عن نصر بن مزاحم عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه، قال: خطب أمير المؤمنين، وذكر الخطبة. وهذه الخطبة الزهراء أوردها ابن عبد ربه في العقد الفريد (م2)، أولها: الحمد لله الذي هو أول كل شيء وبديه، ومنتهى كل شيء ووليه.

    وفيها يقول: ملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، وليست فيهم فترة ولا عندهم غفلة.

    ثم يقول فيها: لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمنهم الأرحام... وهي طويلة، وآخرها. إنك ولي كريم.

    27 - خطب أمير المؤمنين مع شرحها، لقاضي القضاة لدى الفاطميين أبي حنيفة النعمان المصري المتوفى سنة (363 هـ) ذكره ناشر كتاب الهمة في معرفة الأئمة الدكتور محمد كامل حسين ناقلاً عن الأستاذ المستشرق إيفانوف في كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية. ويتساءل عبد الله نعمة، بعد كل هذا: (أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي وكلامه؟ وأين ذهبت الأربعمائة خطبة أو تزيد مما كان يحفظه الناس من كلامه؟ وأين ما كان يحفظه الكتّاب والبلغاء من كلماته؟

    أليس في كل هذا ما يؤكد أن ما اختاره الرضي في نهج البلاغة هو بعض ما كان مدوناً ومحفوظاً ومشهوراً بين الناس؟

    أليس في هذا ما يدمغ أولئك القائلين بأن ما في النهج موضوع ومنحول على لسان الإمام علي؟).


    خصوصية النص



    إن القيمة الأساسية للنص، في الخطب علي بن أبي طالب، ورسائله، ماثلة في حضور الإبداع النصي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويين: الشفهي والتحريري. وتلك ميزة نادرة يتفرد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة.

    وهي ميزة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرزين، ذلك لأن أولئك الكتّاب، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم، بعد طول تأمل، وتخطيط، وممارسة، وبعد مراجعات نقدية متواترة، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية، على صعيد العمل. وكان علي بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آية في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب علي بن أبي طالب على نحوه الباهر، في طوله، وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع، موهوب، هو السيد المؤكد في عالم العقول.

    لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية، وفي الكتابة، لشخص آخر ـ غير علي بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة، تتلاقح فيما بينها بجدلية خصبة.

    ورغم أن الخطاب عند علي بن أبي طالب خطاب سياسي، وفقهي، وتربوي، ووعظي، في إطار معرفي محكم، إلا أنه ذو سمة رياضية، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً.

    ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين، الأولى هي في صلب بنية الخطاب، وعلاقته الداخلية، والثانية في خفاء المنهج، أي في تنظيم فضائه.

    المقوّم الأول، هو المقوم النحوي، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني، وبعض مظاهر اللانحوية، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة، والارتجال، وخاصة في الخطاب الشفهي.

    إن أساس الخطاب في فعالية علي بن أبي طالب ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي، ذلك لأن علياً بن أبي طالب هو واضع النحو العربي، في منطلقه الأول.

    قال لأبي الأسود الدؤلي، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي، اكتب ما أملي عليك. ثم أملى عليه أصول النحو العربي، ومنها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وفي خاتمة التوجيهات قال علي: يا أبا الأسود انحُ هذا النحو. وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.

    من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب علي بن أبي طالب، يؤمن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص.

    ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص، وهو محور المعاني والدلالات.

    وإذ يستكمل الخطاب (العلوي) شروطه المادية ـ اللغوية، وجماع علاقاته الداخلية، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص. أي أن النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة.

    أما المقوّم المادي الثاني للنص، فهو المقوّم الرياضي الذي يستدلّ عليه، استدلالاً، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر، إلا بالنسبة إلى الملتقي النابه.

    إن الذهنية الرياضية النشطة، والمبادهة لعلي، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب.

    فالاتساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره، وفي عظمة منطقه، وبلاغته. ومردّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية.

    وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة، حينما سئل عن ميت ترك زوجه وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثُمنها تُسعاً.

    وشكت ـ مرة ـ امرأة أن أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخاً وأنت؟ وكان الأمر كذلك.

    فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول (8).

    .................................................. ...
    الهوامش:

    1- الشريف الرضي: نهج البلاغة.

    2- لا يُساجَل: لا يُكاثر. لا يُحافل: لا يُفاخر في حفل. ينطف: يقطر.

    3- الثعالبي: ثمار القلوب مصادر نهج البلاغة.

    4- الشريف المرتضى: أمالي المرتضى.

    5- الجاحظ: البيان والتبيين: ج1. من الهامش في ترجمة عبد الله بن المقفع وتعليقه عليه.

    6- عبد الله حسين: مصادر نهج البلاغة.

    7- المصدر نفسه.

    8 - عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام علي.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] البلاغة في نهج البلاغة
    القسم الثاني

    تعبيرية النص[/align]



    إن الدلالة المشتركة للمفردات والتعبيرات، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس، مثقفين وغير مثقفين، هي توحيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية.

    وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية، ولكن أساسية.

    والفارق بين الكلام العادي، والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط، بل هو فارق في دقة الاحتياز على المعاني، ومن ثمّ التعبير عنها. فأنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم. ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية، ومن جمالية أسلوبية.

    قد انتقد ابن قتيبة في (مقدمة أدب الكاتب) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقه، فقال: (رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مراكب العجز، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدّرك بغير سبب وبلغوا البغية بغير آلة). وابن قتيبة محق، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل لنا المعاني وحدها، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب، باعثة لشعورنا، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان التعبير فنيّاً (9).

    ويُلخص (الحوفي) عدة صفات في تعبير علي بن أبي طالب هي (10):


    1ـ تخيّر المفردات

    (بحيث تنسجم من الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها).

    كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج:

    (إنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة).

    وكقوله إلى معاوية:

    (لست بأمضى على الشك مني على اليقين).

    وقوله:

    (كلما أطلّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجال منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها والضّبُع في وجارها).

    وقوله:

    (دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأَسَرِّ، ثم خرج إليّ منكم جنيد وتذاؤب ضعيف).

    وقوله:

    (من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه).

    وقوله:

    (إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم، شفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمنُ فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم).


    2ـ قوة التعبير

    إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً ومعرضه رثّاً كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله، كما ذكر أبو هلال العسكري في (الصناعتين). وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا.

    وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام الفراق، وفي استجلاب المودّات واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك (كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي).

    ومن السهل أن نجد كثيراً ممّا يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها) (11).

    ومن الأمثلة والنماذج قوله:

    (وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا، وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُها، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي) (12) وقوله: (أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ الحقُّ يَضرّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يستقم بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الهَوَى، وَطُولُ الأَْمَلِ) وقال في خطبة يخوّف فيها أهل النهروان:

    (فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ سُلْطَان مُبِين مَعَكُمْ، قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ، وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ، وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الأَْحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً) (13).

    وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة:

    (إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله)، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ أَمَا وَاللهِ إنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ،وَلاَ جَبُنْتُ، وَإِنَّ مَسِيرِي هذَا لِمثْلِهَا، فَلاََنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ. مَالي وَلِقُرَيْش! وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَلاَُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ).


    3ـ سهولة التعبير

    مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر:

    (فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُهُ، وَلَداً نَاصِحاً، وَعَامِلاً كَادِحاً، وَسَيْفاً قَاطِعاً، وَرُكْناً دَافِعاً وَقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَدَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَجَهْراً، وَعَوْداً وَبَدْءاً، فَمِنْهُمُ الآتِي كَارِهاً، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً، وَمِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً).

    وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم:

    (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا، وَلَهَجاً بِهَا، وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ذلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ، وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ! لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ، وَالسَّلاَمُ).

    وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمد بن أبي بكر:

    (اسمعوا قولي، وأطيعوا امري، فوالله لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون. خذوا للحرب أهبتها، وأعدوّا لها عدّتها، فقد شبّت نارها... إلا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيّهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم.

    (إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الاَْرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ، وَإِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلى بَصِيرَة مِنْ نَفْسِي وَيَقِين مِنْ رَبِّي. فانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).


    4ـ قصر الفقرات

    مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التّمر:

    (مُنِيتُ(2) بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الاُْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاَْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاَْدْبَرِ...).

    وقوله:

    (فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِليَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قلَّبْتُ هذَا الاَْمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الاْخِرَةِ).

    وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه:

    (أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْب، وَلاَ أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْم، وَلاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ، وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَة، وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَح، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ).


    5ـ كثرة الصيغ الإنشائية

    وهي: (الأمر والنهي والاستفهام والترجي والتمني والنداء والقسم والتعجب) وهي (أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم. وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها.

    ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية) (14).


    أمثلة ونماذج



    1ـ من الأمر قوله:

    (فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ).

    و(فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاَْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْر).

    وقوله: (لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ، وَلْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغيرِكُمْ).


    2ـ ومن النهي قوله:

    (فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً).

    و(أَلاَ وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا).

    و(لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ).

    و(وَلاَ تُرَخِّصُوا لاَِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ، وَلاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاِْدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ...).

    و(لاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاِْيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ).

    و(فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هَوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، إِلَى أَجَل مَعْدُود).

    و(وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا).

    و(عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِكُمْ).

    و(لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ).

    و(فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَْجْرَبِ).

    وقوله: (فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي... فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل).


    3ـ ومن الاستفهام قوله:

    (أَبَعْدَ إِيمَاني بِاللهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).

    وقوله: (أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم، مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟).

    وقوله: (إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أوْقَى مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَان اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ). (15)

    وقوله: (هَلْ تُحِسُّ بِهِ ـ ملك الموت ـ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ؟).

    وقوله: (أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى، وَالاَْبْصَارُ اللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى؟! أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهِِ، وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؟).


    4ـ ومن الترجّي قوله:

    (فَاسْمَعُوا قَوْلي، وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ).

    و(وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُْمَّةِ).

    وقوله: (لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ).

    وقوله: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ).


    6ـ ومن النداء قوله:

    (أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ..).

    وقوله: (فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ).

    وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاَْعْدَاءَ).

    وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود).


    7ـ ومن القسم قوله:

    (وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً).

    وقوله: (أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً، وَلكِنْ جَئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً).

    وقوله: (وَلَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ، لاَُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِق).

    وقوله: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا..).

    وقوله: (وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً).

    وقوله: (والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام؟).


    8ـ ومن التعجب قوله:

    (سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الاْخِرَةِ!).

    وقوله:

    (وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالْـمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ، مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الاَْيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!).

    وقوله: (فَيَا عَجَباً! عَجَباًـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتَِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ).


    9ـ السجع والترسّل: جاء في إحدى خطبه:

    (فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا، وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ، وَقَلِيلِ مُقَامِهِ، فِي مَنْزِل حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْب سَلِيم، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ، وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَاد أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الْحَوْبَةَ، فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ).

    وقوله:

    (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ الاَْمْرُ، وَضَاقَ الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ).

    ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: (إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ. وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الأُْمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَذُ بِأَكْظَامِهَا..) (16).

    وقوله: (ومن ترك الجهاد في الله، وأدهن في أمره، كان على شفا هلكه، إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نوره.

    قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم، شخصنا إن شاء الله، ولا حولة ولا قوة إلا بالله).


    10ـ التوازن

    ..كثيراً ما تجيء الجمل في نهج البلاغة متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير، ويجيب إلى السمع، ويقربه إلى الذوق. (17)

    ومن الموازنة قول الإمام علي:

    (لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ، وَلاَ وَقَفَ بِهِ عَجْرٌ عَمَّا خَلَقَ،وَلاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهُةٌ فِيَما قَضَى وَقَدَّرَ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ، وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ، وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ..).

    وقوله:

    (وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَو الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لاَِ فْضَلِ الْعُدَّةِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ نُفُوسَكُمْ غَداً. فَاتَّقَىْ عَبْدٌ رَبِّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، غَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، والشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِه، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا، حتّى تَهْجُم مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا. فَيَالَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَة أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً، وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ! نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمِّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نَعْمَةٌ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ، وَلاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلاَ كَآبَةٌ).

    وكذلك قوله: (إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا..).

    وقد يجيء التوازن في آخر الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله: (الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ، وَلاَ مُسْتَنْكَف عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ) فإن هنا موازنة بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس.


    11ـ الجناس، الطباق، المقابلة، والتوشع.. الخ.

    كما استعرض الدكتور الحوفي، أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب علي بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من (التشبيه) و(الاستعارة) و(الكناية) و(المجاز) ـ وهي عدة الشاعر والخطيب والكاتب، التي برع فيها علي براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر، والدين والدنيا.


    [align=center] ميزة خاصة[/align]



    إن نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته، (وجدته كله ماء واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية).. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي ترد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها.وذلك باعتراف جعفر بن يحيى، الذي كان من ابلغ الناس وأفصحهم، كما رأى الجاحظ. قال الجاحظ: حدثني ثمامة، قال:

    (سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه، ثم وناهيك حسناً بقول علي بن أبي طالب:

    (هَلْ مِنْ مَنَاص أَوْ خَلاَص، أَوْ مَعَاذ أَوْ مَلاَذ، أَوْ فِرَار أَوْ مجاز أوْ مَحَار) (18).

    قال أبو عثمان (الجاحظ): وكان جعفر يعجب أيضاً بقول علي:

    (أي من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد).

    قال: (ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها لذاتها).

    وقد روى هذا كله أيضاً ابن مسكويه في كتابه (الحكمة الخالدة) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى. والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها، وهي (هل من مناص أو خلاص ...الخ) هي من بعض فصول هذه الخطبة.

    أما الفقرات التي أعجب بها جعفر وهي (أي من جد واجتهد ...الخ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد.

    وأولها: (أوصيكم عباد الله، عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وبتقديم العمل وترك الأمل، فإنه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله...).


    [align=center] النص الوصفي[/align]



    إن ذكاء علي بن أبي طالب النادر، كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء، وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة، بسمات الشيء الباطنة، قبل الظاهرة.

    وبفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى، ليقدّم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل. وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير، وأقوى إيحاء، وأدق وصف، وأجلى تعبير، فإن سحر البيان الذي أوتيَهُ علي بن أبي طالب، كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية.

    ومثل شأن علي بن أبي طالب، في معرفته بالعلوم اللغوية، والفقهية، والشرعية، والعسكري، كانت الفنون الأسلوبية المميزة لقدرته البلاغية، والمجسّدة لفكره الثاقب، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة. فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، أو الأخلاقي. ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، إلا أن طبيعة النفس المرهفة، والعقل النير، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف، فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.

    إن علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات، واهباً إيّاها المقدرة على أن تستعرض نفسها، بشفافية أكثر.

    لقد تميز: (بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي فكره، وتقوّي خياله، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلاه للبقاء والتعميم.

    وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد ونواميس حياتية وما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، وكلامه عن السحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة والادراك الواعي، وهو بذلك كما يقول العقاد تلميذ ربّه جلّ وعلا) (19).

    قال في وصف النملة:

    (انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيّ).

    وقال يصف الخفّاش:

    (وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْء، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نقُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا. وَرَدَعَهَا بِتَلاَْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا (20)، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا (21). فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بَالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ في الْـتَِماسِ أَرْزَاقِهَا; فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ (22)، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ (23) فِي وِجَارِهَا، أَطْبَقَتِ الاَْجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَتَبَلَّغَتْ (24) بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَجَعَلَ النَّهَارَ لَهَا سَكَناً وَقَرَاراً! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ، كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيش وَلاَ قَصَب، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ. تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِيٌ إِلَيْهَا، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ. فَسُبْحَانَ الْبَارئِ لِكُلِّ شَيْء، عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ).

    وقال يصف الجرادة:

    (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَ اوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ (25)، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ (26)، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا (27)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا (28)، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً).

    وقال في وصفه للطاوس:

    (يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ; فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْت يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لاِنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ. وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالاْبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْـيَـمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَة مُلْبَسَة مِرْآةً ذَاتَ صِقَال..) (29).

    وقال ينفي زعم من يقول إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه فتشربها أنثاه فتحمل:

    (وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَة تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ في ضَفَّتَي جُفُونِهِ، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْل سِوَى الدَّمْعِ الْمُنبَجِسِ، لَمَا كَانَ ذلِكَ بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ) (30).

    ومن كلام له في الأرض قال رداً على رغم أن الأرض تدور على قرن ثور وغير ذلك من الأباطيل والأوهام:

    (وَأَنْشَأَ الأرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ).

    وقال في تكوين الجبال:

    (وَجَبَلَ جَلاَمِيدَهَا، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادِهَا، فَأَرْسَاهَا في مَرَاسِيهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا، فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي متُونِ أَقْطَارِهَا، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِن أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَواضِعِهَا).

    .................................................. ...........
    الهوامش:

    9 - الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.

    10 - آثرنا ـ هنا ـ تلخيص موضوع الدكتور الحوفي واختيار أهم النماذج التي وردت فيه.

    11 - لدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.

    12 - اللدم: صوت الحجر أو العصا تدقُ بها الأرض دقاً هيناً يصحبه قول الصائد عند حجر. الضبع: خامري أم عامر، أي الزمي حجرك. فتنام: فيدخل إليها ويصيدها ـ المصدر.

    13 - الأهضام: جمع هضم على وزن نهر وهو المطمئن من الوادي. الغائط: ما سفل من الأرض. البجر: الداهية والأمر العظيم.

    14 - الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.

    15 - الحُوّل القُلّب: المجرّب المحنّك. الحريجة: الحرج والتقوى.

    16 - أكظام: جمع كظم وهو مخرج النفس.

    17 - الدكتور أحمد محمد الحوفي: بلاغة الإمام علي.

    (والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف). المصدر نفسه.

    18 - محار: مرجع إلى الدنيا بعد فراقها.

    19 - علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي.

    20 - سبحات اشراقها: درجات نورها.

    21 - البلج: الضوء الواضح، الأتئلاق: اللمعان القوي.

    22 - إسداف: إظلام.

    23 - الضّباب: جمع ضبّ.

    24 - تبلّغت: تناولت القوت.

    25 - قمراوين: مضيئتين.

    26 - منجلين: رجلين (شبههما بالمنجلين لا عوجاجهما وخشونتهما).

    27 - ذبّها: دفعها وأبعدها.

    28 - نزواتها: وثباتها.

    29 - زقا: صوت. معولاً: صارخاً (أي أنه يزهى بنفسه، فإذا نظر إلى ساقيه، أعول حزيناً لأنهما قبيحتان). الظنبوب: حرف الساق. صيصيه: شوكة في رجله. العرف: الشعر المرتفع على عنقه ورسه. القنزعة: الشعر حول الرأس. الوسمة: العظم الذي يخضب به.

    30 - أي أن هذا الزعم كائن أيضاً في الغراب، إذ قالوا إن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذكر إلى الأنثى فتتناوله من منقاره، ومنشأ هذا الزعم في الغراب أنه يخفي تلقيحه.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] العبادات في نهج البلاغة

    -- العبادة في الإسلام -------[/align]

    إن من أصول تعاليم الأنبياء والمرسلين عبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة كل شيء سواه. ولم تخل تعاليم أي نبي من ذلك.

    والعبادة في الدين الإسلامي الحنيف - كما نعلم - عنوان سائر التعاليم الإسلامية. ولكنها في الإسلام ليست بصورة سلسلة من المراسيم والطقوس والتقاليد والعادات والآداب والتعاليم المنفصلة عن الحياة والمرتبطة بالحياة الأخرى فقط، بل هي في الإسلام توأم مع الحياة وفي صميم فلسفة الحياة فيه.

    ففضلاً عن أن بعض العبادات الإسلامية تؤدى بصورة جماعية، نرى أن الإسلام جعل كثيراً من العبادات الفردية بحيث تتضمن تحقيق بعض مطالب الحياة.

    فالصلاة - مثلاً - التي هي مظهر كامل لإظهار العبودية، جعلت بصورة خاصة بحيث أن الفرد الذي يريد أن يصلي لوحده في زاوية بيته، يتقيد بصورة (أتوماتيكية) بالعمل بعدد من الوظائف الأخلاقية والاجتماعية، من قبيل: النظافة، ورعاية حقوق الآخرين، ومعرفة الوقت وتثمينه، ومعرفة القبلة وتثمين الاتجاه، وضبط النفس، وإعلان الصلح والسلام مع عباد الله الصالحين، وغير ذلك.

    بل إن الإسلام يعتبر كل عمل مفيد - إن كان صادراً بدافع إلهي طاهر - عبادة لله. ولذلك فإنه يعتبر طلب العلم عبادة (1)، وطلب الحلال عبادة (2)، والخدمات الاجتماعية عبادة (3).

    ومع ذلك، فقد شرع تعاليم خاصة وضع بها مراسيم خاصة للعبادة بالمعنى الأخص - كالصلاة والصوم والحج، ولكل من هذه العبادات علل وحكم وفلسفات (4).


    [align=center]-- مراتب العبادات ------[/align]

    إن الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه، فهو يعطي العمل وسوف يستلم الأجرة عليه، وكما يصرف العامل طاقته العملية لصاحب العمل فيأخذ منه الأجرة على ذلك، كذلك يتعب العابد أيضاً بعبادته إذ يركع فيها ويسجد ويقوم ويقعد، ومن الطبيعي أن يطلب على ذلك أجراً سيجده في عالم الآخرة. وكما تنحصر فائدة العمل للعامل في تلك الأجرة التي يأخذها من صاحب العمل، فإذا لم يكن هناك أجرة ذهبت أتعابه سدى، كذلك فائدة العبادة - عند هؤلاء - هي تلك الأجرة التي يُعطاها العابد في عالم الآخرة في بضاعات وسلع مادية!

    وأما أن صاحب العمل إنما يعطي الأجرة عوضاً عما يستفيده من عمل العامل، فما هو الذي يستفيده صاحب الأمر في العالم (وهو الله) من عمل العبد - هذا الضعيف الذليل؟ - وعلى فرض أن يكون عطاء الأجر على العبادة تفضلاً منه وكرماً، فلماذا لا يُعطاه بدون أن يصرف مقداراً من طاقاته في عبادته سبحانه؟ فهذا ممّا لا تفكر فيه هذه الطائفة من العابدين! إذ العبادة - عند هؤلاء - نفس هذه الأعمال البدنية والحركات الظاهرية التي تتبدى بصورة محسوسة من اللسان وسائر أعضاء البدن في الإنسان!

    هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام، وهو - كما يقول ابن سينا في النمط التاسع من كتابه الإشارات - ناشئ عن عدم المعرفة بالله، وإنما تقبل عبادة بهذا التصور من عوام الناس القاصرين فقط.

    والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله.

    وفي هذا التصور لا يوجد عامل وصاحب عمل وأجرة كما بين العمال وأصحاب العمل، بل لا يمكن أن يوجد. بل العبادة - عند هؤلاء - قربان الإنسان ومعراجه وتعاليمه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية، وهي ساحة انتصار الروح على البدن، وأسمى مظاهر شكر الإنسان لمبدئ الخلقة ومعيدها، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.

    وفي هذا التصور عن العبادة نجد أن للعبادة جسماً وروحاً، ظاهراً ومعنى، فما يتحقق منها باللسان وسائر الأعضاء هو ظاهر العبادة وجسمها، وأما معنى العبادة وروحها فهو شيء آخر، وهو يرتبط بما يفهمه العابد من عبادته وبنوعية تصوره عن العبادة، وبالباعث له على العبادة، وبما يحظى به من عمل العبادة، وبما يتقدم به من العبادة إلى الله، ويتقرب بها إليه.


    [align=center]-- العبادة في نهج البلاغة ------[/align]


    - فما هي صورة العبادة في نهج البلاغة؟

    إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى، بل نقول: إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - هو كلام الإمام (عليه السلام).

    إن إحدى أوجه الأدب الإسلامي - سواء العربي أو الفارسي - هو أدب الدعاء، والأفكار الدقيقة واللطيفة التي توجد في هذا الموضوع ممّا يثير العجب ويبعث على الاستحسان.

    وبمقارنة أدب الدعاء في الإسلام مع ما كان سائداً من الأدب العاطفي الإلهي والعبادي في رقعة البلاد الإسلامية قبل الإسلام، يمكننا أن نفهم مدى عظمة تلك النهضة بل الثورة التي بعثها الإسلام في الأفكار من العمق والشمول واللطف والرقة. إن الإسلام صنع من أولئك الذين كانوا يعبدون الأوثان أو الإنسان أو النيران أو الثيران، فكانوا بقصر أفكارهم يعبدون ما ينحتون بأيديهم، أو يهبط به إلى مستوى إنسان أب أو ابن أو أم، أو هم معاً، أو يصنع لأهورا مزدا ضمناً ينصبه في كل مكان فيعبده ويسجد له.. من هؤلاء، صنع أناساً وسعت عقولهم لأدق الأفكار وألطفها وأسمى التصورات وأعلى المعاني! فما الذي حدث فغيّر الأفكار والعقول ورفعها وأعلى كعبها، وقلب الموازين والمقاييس والقيم؟!

    إن المعلقات السبع و(نهج البلاغة) نتاجان لعهدين متقاربين بين الجاهلية والإسلام، وكل منهما مثل أعلى للفصاحة والبلاغة في لغة عصره ومصره. أما من ناحية المحتويات فهيهات هيهات! وشتّان شتّان! فكل ما في الأول أوصاف عن الخيول والرماح والجِمال والجَمال والمدح والذم والهوى والغرام والغزل والنسب والتشبيب بالعيون والحواجب للكواعب! وأما الثاني ففيه أسمى المفاهيم الإنسانية وأعلاها وأزكاها وأطيبها وأنماها.

    والآن لتتضح لنا صورة العبادة في (نهج البلاغة) نأخذ في ذكر نماذج من كلمات الإمام (عليه السلام)، ونبدأ كلامنا هنا بكلمة منه (عليه السلام) في اختلاف تصورات الناس عن العبادة.


    - عبادة الأحرار

    (إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) (5).

    (لو لم يتوعّد الله على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمته).

    (إلهي ما عبدتك - حين عبدتك - خوفاً من تارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (6).


    - ذكر الله على كل حال

    إن أصول جميع الآثار المعنوية والأخلاقية والاجتماعية في العبادة إنما هي في شيء واحد، هو: ذكر الله على كل حال، وتناسي ما سواه. ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة فيقول: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (7) ويقول أيضاً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) (8) ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله يذكر الله ولا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل السميع العليم والسميع البصير. إن ذكر الله - وهو الهدف من العبادة - يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره، ويعدّه لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه.

    قال الإمام علي (عليه السلام):

    (إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم) (9).

    وقد بين الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه.


    مقامات المتقين

    وقد عدّد الإمام (عليه السلام) في نفس هذه الخطبة - وفي سائر الخطب ومنها خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم، إذ يقول:

    (قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسمون بدعائه روح التجاوز...) (10).


    - ليالي أولياء الله

    إن عالم العبادة في (نهج البلاغة) عالم آخر مليء باللذة الروحية، لذة لا تقاس باللذة المادية ذات الأبعاد الثلاثة. إن عالم العبادة في نهج البلاغة عالم مليء من الحركة والنشاط والسير والسلوك لا إلى العراق والشام ولا إلى أي أرض بلد آخر، بل إلى بلد لا اسم له على الأرض إطلاقاً! إن عالم العبادة في نهج البلاغة لا يختص بليل ولا بنهار، إذ هو مليء بالأنوار، لا ظلمة فيه ولا كدر، بل هو خلوص وصفاء وتزكية وطهارة، وما أسعد من يقدم إلى ذلك العالم - على العبادة - في نهج البلاغة! ليعلله نسيمه المحيي للأرواح والقلوب! فإن من يقدم إلى ذلك العالم لا يبالي بعد ذلك أن يضع رأسه في دنيا المادة على الحرير أو اللبنة:

    (طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذ غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون) (11).


    [align=center]-- سيماء الصالحين في نهج البلاغة ------[/align]

    بيّنا في الفصل السابق صورة العبادة في نهج البلاغة، فتبيّن أن العبادة - في نهج البلاغة - ليست سلسلة من الأعمال الجامدة الجافة فقط، بل إن العمل البدني هو صورة العبادة وجسمها، وأن الروح هو شيء آخر، وأن العمل البدني إنما يجد الروح ويستحق اسم العبادة فيما إذا كان فيه ذلك الروح المعنوي لها، فإن العبادة الواقعية هي نوع من الانتقال من هذا العالم ذي الأبعاد الثلاثة إلى علام آخر مليء بالحركة والنشاط والخواطر القلبية واللذات الروحية الخاصة.

    وقد جاء في نهج البلاغة الكثير عن أهل العبادة، وصور كثيرة عن ملامح العبادة والعُبّاد، فتارة: عن سهر لياليهم، وأخرى: عن خوفهم وخشيتهم، وثالثة: عن شوقهم ولذتهم، ورابعة: عن حرقتهم والتهابهم، وخامسة: عن آهاتهم وأنّاتهم وزفراتهم وحسراتهم، وسادسة: عن تلك العنايات الإلهية الغيبية التي يحصلون عليها بالعبادة والمراقبة وجهاد النفس، وسابعة: عن أثر العبادة في طرد الذنوب وآثارها، وثامنة: عن أثر العبادة في علاج الأمراض النفسية والخلقية، وتاسعة: عن لذتهم وبهجتهم الخالصة غير المحسودة والتي لا شائبة فيها..


    - ذكر الله في الأسحار

    (أما الليل، فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يُحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنها نصب أعينهم، وإذا أمروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم. وأما النهار: فحلماء علماء، أبرار أتقياء) (12).


    - الخواطر القلبية

    (وقد أحيى عقله، وأمات نفسه، حتى دقّ جليله ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما استعمل قلبه، وأرضى ربه) (13).

    والكلام في هذه الجمل - كما ترون - عن حياة أخرى دعاها حياة العقل، وعن إماتة النفس، وعن رياضة الروح، وعن ذلك البرق اللامع الذي يلمع في قلب العابد من أثر عبادته فينير دربه، وعن المنازل والمراحل التي تسلكها الروح حتى تصل إلى المقصد: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ) (14) وعن السكينة والطمأنينة التي يصل إليها القلب المضطرب للإنسان: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (15).

    ووصف الإمام (عليه السلام) اهتمام هؤلاء بحياة قلوبهم وعقولهم في الخطبة 225 فقال:

    (يرون أهل الدنيا ليعظمون موت أجسادهم وهم أشد إعظاماً لموت قلوب أحيائهم) (16).

    ووصف الجذبة التي تجذب الأرواح ذوات الاستعداد للعروج إلى أعلى فقال:

    (صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى) (17).

    وقال (عليه السلام): (لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب) (18).

    وقال (عليه السلام): (قد أخلص لله سبحانه فاستخلصه) (19).

    ووصف العلوم التي تفاض على قلوب العارفين بالله نتيجة لتهذيب نفوسهم فقال:

    (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون) (20).


    - تنهى عن الفحشاء

    جاء في التعاليم الإسلامية، إن لكل ذنب أثراً مظلماً على القلب، تقل به رغبة المذنب إلى الخيرات والأعمال الصالحة، وتكثر فيه الرغبة إلى الذنوب. وإن للعبادة وذكر الله أثره في تربية الوجدان الديني للإنسان، فتكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح، وتقل فيه الرغبة إلى الشر والفساد والذنوب. يعني أن العبادة تزيل الظلمات والكدورات الحاصلة من الذنوب وتبدلها بالميل إلى الخير والبر والعمل الصالح.

    وقد جاء في (نهج البلاغة) خطبة في الصلاة والزكاة وأداء الأمانة، يقول فيها الإمام (عليه السلام) بعد تأكيد شديد على الصلاة:

    (وإنها لتحت الذنوب حتى الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحمّة (21) تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟) (22).


    - وتعالج مفاسد الأخلاق

    وفي الخطبة 196 بعد أن يشير إلى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل: الطغيان والظلم والكبر، يقول (عليه السلام): (ومن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإزالة للخيلاء عنهم) (23).


    - وفيها لذة مناجاة الله

    (اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم. فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صُبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك) (24).

    ويشير في الخطبة 148 إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ثم يذكر في آخر الخطبة أناساً في آخر الزمان اجتمعت فهيم الشجاعة والحكمة والعبادة، فيقول (عليه السلام):

    (ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل (25) تجلّى بالتنزيل أبصارهم، ويرمى بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح) (26).


    ......................................

    الهوامش:

    1- طلب العلم فريضة - الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).

    2- العبادة عشر أجزاء تسعة منها في طلب الحلال - حديث شريف.

    3- خير الناس من نفع الناس - حديث نبوي شريف.

    4- وقد ورد في ذلك أحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جمعها الشيخ الصدوق في كتاب بجزأين أسماه (علل الشرائع).

    5- الكلمات القصار، الحكمة، 234، ص68، ج19، من شرح ابن أبي الحديد.

    6- الكلمات القصار، الحكمة، 290.

    7- سورة العنكبوت: 45.

    8- سورة طه: 14.

    9- الخطبة 217، ص176، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد. ط أبو الفضل إبراهيم.

    10- نفس المصدر.

    11- الخطبة 217، ص6، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    12- الخطبة 186، ص132، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو افضل إبراهيم.

    13- الخطبة 214، ص135، ج11 من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    14- سورة الانشقاق: 84.

    15- سورة الرعد: 13.

    16- الخطبة 225، ص8، ج13.

    17- الحكمة 143، ص347، ج18، من شرح النهج.

    18- الخطبة 186، ص132، ج1، من شرح النهج لابن أبي الحديد.

    19- الخطبة 85.

    20- الحكمة 143، ص347، ج18، من شرح النهج.

    21- الحمّة: حفيرة فيها ماء حار، ومنه الحمام.

    22- الخطبة 192، ص202، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    23- الخطبة 196.

    24- الخطبة 225.

    25- القين: العبيد، والنصل: الحديدة الحادة من السلاح.

    26- الصبوح: شراب الصباح، والغبوق: شراب المساء، من الخطبة 150، ص126، ج9 من شرح النهج لابن أبي الحديد.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401
    [align=center] نظام الحكم والإدارة في نـهــج الـبــلاغة

    - الحكومة والعدالة -

    -- مسألة الحكومة في نهج البلاغة -----[/align]

    من المسائل التي بحث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حولها كثيراً، مسألة الحكومة، والعدالة. ومن يلاحظ نهج البلاغة يرى أنه (عليه السلام) قد أبدى في كلماته هذه اهتماماً خاصاً بشأن الحكومة، والعدالة، بل أنه (عليه السلام) أولاهما أهمية كبرى لا توصف. وهذا ممّا قد يحمل من لم يعرف الإسلام ديناً ونظاماً وعرف سائر الأديان المحرّفة على العجب والاستغراب، قائلاً في نفسه: عجباً! ما الذي يبعث هذا الإمام الديني على هذا الاهتمام الشديد بهذه الأمور الدنيوية؟! أو ليست هذه الأمور من شؤون الحياة الدنيا؟! فما الذي يدعُ الإمام الديني على الدخول في الدنيا والحياة والأمور الاجتماعية؟!

    أما من كان يعرف الإسلام ديناً ونظاماً، وكان يعلم بسابقة الإمام (عليه السلام) في الإسلام، وأنه هو ربيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الوحيد، الذي ربّاه صغيراً ورعاه كبيراً بتربيته وتعاليمه القيمة، فعلّمه بذلك معالم الإسلام ديناً ودولة، وأفرغ فيه أصوله وفروعه، فهذا لا يصاب بالدهشة والذعر، بل إن كان يرى غير هذا كان يذهل منه، أو ليس القرآن يقول:

    (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (1).

    وقد أعلن الله بهذه الآية الكريمة: أن الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب هو: إقرار العدل والقسط، فقد بلغت قداسة العدالة درجة جعلت هدفاً لبعثة الأنبياء. وعلى هذا، فكيف يمكن لمثل الإمام علي (عليه السلام) - وهو المفسّر الأول للقرآن الكريم والشارح الأول لأصول الإسلام وفروعه - أن يسكت عن هذا الحق؟ أو أن لا يهتم به؟!

    أما أولئك الذين لا يلتفتون إلى هذه المسألة الهامة، زعماً منهم أن أصول الدين عقائد قلبية فقط، وأن فروع الدين الهامة هي مسائل النجاسة والطهارة فقط، هؤلاء يلزمهم أن يعيدوا النظر في عقائدهم وأفكارهم عن الإسلام العظيم!


    [align=center]-- أهمية الحكومة في نهج البلاغة ------[/align]

    والمسألة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي: أهمية الحكومة في نهج البلاغة خصوصاً وفي دين الإسلام عموماً. والبحث المفصل في هذا الموضوع خارج عن نطاق هذه المقالات، ولكن تجدر الإشارة إليها هنا، فنقول:

    إن القرآن الكريم حينما يريد أن يأمر الرسول العظيم بإبلاغ ولاية علي (عليه السلام) من بعده على الأمة، يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (2).

    فأي شيء آخر أنزل إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) واهتم القرآن الكريم بهذا الاهتمام؟ وما هو المنزل الذي يساوي عدم إبلاغه عدم إبلاغ جميع الرسالة؟

    ولما انهزم المسلمون في (حرب أحد) وانتشر بينهم خبر قتل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ففرّ أكثرهم مدبرين من جبهة الجهاد الإسلامي المقدس، قال القرآن العظيم في تأنيبهم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (3).

    واستفاد الأستاذ العلامة الطبابائي (قدس سره) من هذه الآية: أن القرآن الكريم يقول: لا ينبغي لكم أن يوقفكم عن الجهاد المقدس حتى انتشار خبر قتل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بل يجب عليكم آنذاك أن تلتفوا حول لواء الزعيم المعيّن من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتقبلوا معه على جهاد عدوكم. وبعبارة أخرى: إن قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا ينبغي أن يفرّط النظام الاجتماعي والجهادي للمسلمين (4).

    وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فاجعلوا أحدكم أميراً عليكم).

    ومن هنا نستطيع أن نفهم مدى الأضرار البالغة التي كان ينظر إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من جراء عدم وجود قوة حاكمة على المجتمع تحلّ النزاعات وتعقد المجتمعات وتدفع عنهم كل هرج ومرج.

    وفي نهج البلاغة الكثير من المسائل التي ترتبط بالحكومة والعدالة، سنتعرض نحن هنا لبعضها بحول الله وقوته، فنقول:

    إن المسالة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي: أهمية الحكومة ولزومها للمجتمع.

    وقد صرح الإمام (عليه السلام) في كلماته المجموعة في (نهج البلاغة) بوجوب وجود حكومة قوية كثيراً، وكافح انتشار فكرة (الخوارج) الذين كانوا يدعون عدم الحاجة إلى الحكومة مع وجود القرآن الكريم بين المسلمين.

    وكان شعار الخوارج (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ) وقد اقتبسوه هم من القرآن الكريم إذ يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ) (5) ومفاد هذه الآية الكريمة هو: أن (القانون) يجب أن يكون إما من الله تعالى، أو ممن أذن له الله من رسول الله أو من عيّنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولكن الخوارج فسّروا هذه الآية من القرآن برأيهم، فأرادوا بهذه الكلمة الحقة معنى باطلاً - كما قال الإمام علي (عليه السلام) - ومفاد كلامهم هو: أن لا حق للإنسان في الحكم بل الحكم له وحده فقط.

    فكان الإمام (عليه السلام) يقول: نعم، أنا أيضاً أقول: لا حكم إلا لله، لكنه بمعنى: أن وضع الحكم والقانون ليس إلا لله. وهؤلاء يقولون بأن الحكومة والزعامة أيضاً لله، وهذا باطل، فإن حكم الله لابدّ أن يجري على يد البشر، ولابد للناس من حاكم صالح أو طالح خير أو شر.

    (كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله. وإنه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر (6) يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى، حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر) (7).

    إن الإمام (عليه السلام) - كسائر الرجال الربانيين - يحتقر الحكومة بصفتها مقاماً دنيوياً يشبع غريزة (حب الجاه) في الإنسان، وبصفتها هدفاً للحياة، وحينئذ فلا يعتبرها بشيء أبداً، بل هي عنده - حينذاك - أهون من عظم خنزير في يد مجذوم، كما جاء ذلك في بعض كلماته (عليه السلام).

    ولكنه (عليه السلام) يقدسها تقديساً عظيماً إذا كانت مستقيمة غير محرّفة عن سبيلها الأصيل والواقعي الحق، وهو أن تكون وسيلة إلى إجراء العدل وإحقاق الحق، وخدمة الخلق، ومانعاً عن تغلب الرقيب الباطل المنتهز لفرص الوثوب على حقوق الناس. ولهذا فهو (عليه السلام) يكافح هذا الرقيب الباطل الثائر الذي ما زال يتربص بالحق الدوائر، ولا يألوا جهداً عن الجهاد المقدس لحفظها حينئذ وحراستها عن أيدي المنتهزين الطامعين.

    قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار، وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) (8).

    ويتكلم الإمام (عليه السلام) في الخطبة 209 حول الحقوق فيقول:

    (.. والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه وتوسعاً بما هو - من المزيد - أهله.

    ثم جعل سبحانه من حقوقه: حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.

    وأظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي. فريضة الله سبحانه لكلٍّ على كلّ. فجعلها: نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

    وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حتى عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهناك تذل الأبرار، وتعِزُّ الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد) (9).


    [align=center]-- أهمية العدالة في نهج البلاغة ------[/align]

    إن أولى آثار الإسلام هو أثره في أفكار المسلمين، فإنه لم يأت بتعاليم جديدة حول الفرد والمجتمع والعالم فقط، بل بدّل أفكار العالم أيضاً، وإن الأثر الذي جاء به الإسلام ليس بأقل ممّا جاء به من تعاليم.

    كل معلم يعلم تلاميذه معلومات جديدة، وكل مدرسة فكرية تعطي لأتباعها ثقافات جدية، ولكن قليل من المعلمين وقليل من المدارس الفكرية التي تهب لإتباعها أسلوباً فكرياً جديداً، بحيث تغير الأسلوب الفكري السابق فيهم وتقلبه إلى مقاييس أخرى.

    وهذا ممّا يحتاج إلى توضيح أكثر، فكيف تتغير أساليب الفكر؟ وللإجابة نقول:

    إن الإنسان موجود مفكّر، ولهذا فهو يستند في المسائل العلمية والاجتماعية على الاستدلال، وفي استدلاله يستند إلى بعض الأصول والمبادئ التي يستنتج ويحكم بناءً على تلك المبادئ والأصول.

    وإن الاختلاف في أساليب الفكر ينشأ من الاختلاف في تلك المبادئ والأصول التي يستند عليها الاستدلال والاستنتاج والحكم، فإن الاختلاف في نوعيتها ومبانيها هو الذي يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام. من هنا ينشأ الاختلاف في النتائج.

    وتتساوى أساليب التفكير في المسائل العلمية بين العارفين بالأسس العلمية في كل زمان، وإن كان هناك اختلاف في المسائل العلمية فهو في أسلوب الفكر العلمي بين زمان وزمان آخر. أما في المسائل الاجتماعية فلا تتساوى أساليب الفكر حتى بين أبناء العصر الواحد. ولهذا علل لا مجال هنا للبحث فيها.

    إن الإنسان حينما يواجه المسائل الاجتماعية والأخلاقية لابدّ وأن يقيّمها في نفسه وفكره، وحينئذ فهو يرتب بين تلك المسائل مراتب وقيماً ودرجات مختلفة، وعلى أساس هذه الدرجات الترتيبية تتفاوت ما يستند إليه من المبادئ والأصول من شخص إلى آخر، ومن هنا تختلف أساليب الفكر.

    فالعفاف للمرأة - مثلاً - مسألة اجتماعية، فهل يمكن أن يكون تقييمه عند الجميع بأسلوب فكري واحد؟ كلا، بل الاختلاف فيه كثير، حتى أن بعضهم لا يعتبر له أي قيمة اجتماعية أو أخلاقية، بل لا يعتبر الأخلاق أصلاً. وعلى هذا فلا أثر العفاف في أفكار هؤلاء أبداً. وهناك آخرون يعتبرون له كل الثقل في القيم الأخلاقية، حتى أنهم لا يعتبرون للحياة أي قيمة لولا القيم الأخلاقية ومنها العفاف.

    فحينما نقول: إن الإسلام بدّل أساليب الفكر، نعني: إنه صعد ببعض القيم وهبط ببعضها الآخر: فجعل التقوى - مثلاً، ولم تكن في ميزان قيمهم إلا بمستوى الصفر - في المرتبة العليا من قمم القيم والمثل، وجعل لها أعلى الأثمان وأرفعها وأغلاها، وهبط بأعلى قيمهم: كالدم والعنصر وغيرهما إلى مستوى الصفر.

    والعدالة، هي إحدى تلك التي رجعت إلى الحياة والاعتبار، بالإسلام. فإنه لم يوص أتباعه بالعدالة فحسب، ولم يقنع منهم بإجرائها وتطبيقها فقط، بل المهم أنه رفع من قيمتها ووزنها وثقلها وثمنه في الأفكار.

    وما أجمل أن نسمع هذا المعنى من لسان الإمام (عليه السلام) كما في نهج بلاغته.

    سأله رجل: العدل أفضل أم الجود؟

    سأله عن خاصتين من الخصائص الإنسانية، فالإنسان هارب من الظلم وشاكر للإحسان خصوصاً إذا كان الإحسان والبر بدون انتظار الجزاء والشكر.

    وقد يبدو لأول وهلة أن يكون الجواب بكل سهولة: إن الجود أفضل من العدالة! إذ العدالة: رعاية لحقوق الآخرين وعدم التعدي عن الحقوق وعدم التجاوز على حقوق الآخرين. أما الجود: فهو أن ينشر الإنسان بيده حقوقه المفروضة له على غيره. فالعادل حافظ للحقوق غير متجاوز عليها، أما الجواد فهو مضحٍ بحقوقه للآخرين مفوّض لها إياهم. فالجود أفضل والجواد أنبل!

    هذا إذا كانت مقاييسنا هي المقاييس الأخلاقية الفردية، فعليها يصبح الجود أجل معرّف لشخصية الإنسان الجواد، وأسمى سمة لكماله، وأعلى علامة لرقيّ روحه.

    ولكن الإمام علي (عليه السلام) يجيب بعكس ذلك، فإنه يرجح العدل على الجود بدليلين:

    1- (العدل يضع الأمور موضعها، والجود يخرجها من جهتها)

    فإن معنى العدالة: أن تلاحظ الحقوق الواقعية والطبيعية، فيعطي لكل شخص ما يستحقه حسب استعداده وعمله، وحينئذ يجد كل شخص مكانه في المجتمع، ويصبح المجتمع كمصنع جاهز منظم. أما الجود، فهو وإن كان معناه: أن يهب الجواد ما يملكه بالمشروع للآخرين، ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنه عمل غير طبيعي للمجتمع، إذ ما أحسن للمجتمع أن لا يوجد فيه عضو ناقص يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة؟! فإن الجود لا يكون إلا كمثل أن يوجد في أعضاء البدن عضو ناقص أو مريض يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة.

    2- (العدل سائس عام، والجود عارض خاص)

    فالعدالة قانون عام يدبر جميع شؤون المجتمع، فهو سبيل يسلكه الجميع أما الجود فهو حال استثنائي خاص لا يمكن أن يصبح قانوناً عاماً، فإنه إذا كان كذلك لم يحسب جوداً آنذاك.

    ثم استنتج الإمام (عليه السلام) فقال: (... فالعدل أشرفهما وأفضلهما) (10).

    إن فكرة كهذه حول الإنسان هي نوع خاص من الفكر على أساس تقييم خاص يبتني بدوره على أساس أهمية المجتمع وأصالته. إن الأصل في هذا التقييم هو تقديم الأصول والمبادئ (الاجتماعية) على الأصول والمبادئ الأخلاقية (الفردية) وجعل الأولى أصلاً والثانية فرعاً عليه، والأول جذعاً والثاني غصناً، والأول ركناً والثاني زيناً وجمالاً.

    إن العدل في نظر الإمام (عليه السلام) هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع، ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة والاستقرار. أما الظلم والجور والتمييز الطبقي فهو لا يرضى حتى نفس الظالم والذي يظلم من أجله، فكيف بالمظلومين والمحرومين! العدل سبيل عام يسع الجميع ويصل بهم إلى حيث الطمأنينة والاستقرار، أما الظلم والجور فهو طريق ضيق لا يصل حتى بصاحبه إلى ما يريد.

    نعلم أن عثمان بن عفان قد وهب قسماً عظيماً من الأموال العامة للمسلمين إلى أقربائه وذويه في خلافته. فلما أخذ الإمام (عليه السلام) بأزمة الأمور طلب إليه أن لا يعيد النظر إلى ما سبق، بل يقصر سعيه على ما يحدث له في خلافته! ولكنه أجاب (عليه السلام): (الحق القديم لا يبطله شيء. والله لو وجدته قد تزوج به النساء، ومُلك به الإماء لرددته. فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) (11).

    يعني: أن في العدل سعة خاصة تسع الجميع وتشملهم، ومن كان مريضاً متخماً سميناً لا يسعه العدل فليعلم أن مكانه في الظلم والجور أضيق عليه من مكانه في العدل والقسط. وإذا ضاق تدبير الأمور على الوالي بالعدل، فتدبير أموره بالجور أضيق عليه، لأنه حينئذ في مظنّة أن يصدّ عن جوره.

    ويعني: أن العدل شيء بالإمكان أن يوصف بأنه من حدود الإيمان، فيقنع به المؤمن، أما إذا كان الرجل مسلوب الإيمان متجاوزاً حدود العدل، إذن لا تحده الحدود، فإنه كلما بلغ مبلغاً من شهواته تعطش إلى حدود أخرى لم يبلغها، وأحس بالعطش أكثر فأكثر.


    [align=center]-- لا يصح أن نكون متفرّجين ------[/align]

    إن الإمام (عليه السلام) يحسب العدالة وظيفة إلهية بل ناموساً إلهياً، فلا يصح أن يقف المسلم العارف بالإسلام وقفة المتفرج عند ترك الناس العدل ولجوئهم إلى الجور والتمييز الطبقي.

    فإنه (عليه السلام) بعدما يشير في (الخطبة الشقشقية) إلى بعض الحوادث المؤلمة السياسية السابقة، يقول: (فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم.. أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).

    هجم الناس عليه من كل جانب ومكان يطلبون إليه بإصرار وإلحاح شديدين أن يتقبل الالتزام بزمام أمور المسلمين. وهو (عليه السلام) لم يكن - بعدما كان من الحوادث المؤلمة الماضية، وفساد الأوضاع الحاضرة - راغباً في قبول هذه المسؤولية العظمى، ولكن بما أنه (عليه السلام) لو لم يكن يتحمل هذه المسؤولية الكبرى كان يشوه وجه الحقيقة ويقال: أنه (عليه السلام) لم يكن يهتم بهذه الأمور ولم يكن راغباً فيها من أول يوم، وبما أن الإسلام لا يبيح للمسلم عند انقسام المجتمع إلى مجتمع طبقي، ظالم ومظلوم، متخم وجائع، أن يقف مكتوف اليدين وقفة المتفرج.. لذلك تعهد الإمام (عليه السلام) بهذا التكليف الثقيل وقال: لو لم يكن ما كان من ذلك الاجتماع العظيم، ولولا قيام الحجة علي وانقطاع العذر بوجود الناصرين، ولولا تحريم الله السكوت عن الحق على العلماء عند ظلم الظالمين وجوع المظلومين.. لكنت ألقي زمام الخلافة على عاتقها وأجلس عنها كما جلست من قبل ذلك.


    [align=center]-- لا يضحي الإمام بالعدالة للمصلحة ------[/align]

    قال الساسة: إن التمييز الطبقي، واستحالة الأعوان، وتأسيس الأحزاب، وسدّ الأفواه بالأموال.. كل ذلك من الوسائل الضرورية للسياسة والتدبير ولكن قد التزم بالسياسة والتدبير وأصبح ربّان سفينتها اليوم رجل هو العدو اللدود لهذه الأدوات الضرورية! بل هدفه وأمله أن يكافح هذه السياسة! وطبيعي - حينئذ - أن يتألم أرباب الطمع ورجال السياسة منه منذ اليوم الأول، ويجرهم المهم هذا إلى التخريب في الأمور وخلق الاضطرابات والقلق. ولذلك فقد أقبل على الإمام (عليه السلام) أحباؤه الخيّرون وطلبوا إليه بكل إخلاص ونصح، أن يعدّل من سياسته هذه لمصلحة أهم وأعظم! واقترحوا عليه أن يريح نفسه من الصراع في هذه الضوضاء، فإنها من أناس متنفذّين ذوي شخصيات من الصدر الأول في الإسلام! كمعاوية بن أبي سفيان والي أراضي الشام الذهبية! فما ضرّك لو سكت عن المساواة والمساواة اليوم من أجل (المصالح)؟!

    وأجاب الإمام (عليه السلام): (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وأمّ نجم في السماء نجماً! لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله) (12).

    هذا نموذج من كلمات الإمام في تثمين العدل بنظره (عليه السلام)!


    [align=center]-- حقوق الناس في نهج البلاغة ------[/align]

    من الممكن أن تعمل الحكومات المختلفة في سبيل تأمين الحوائج المادية للحياة بصورة واحدة، ولكنها لا تتساوى في رضا الناس عنها، إذ يفي بعضها بقضاء الحوائج النفسية والروحية للمجتمع بينما لا تفي بها الحكومة الأخرى.

    ومما يرتبط به رضا الناس هو نوعية نظر الحكومة إلى الأمة وإلى نفسها، فهل تنظر إليهم على أنهم عبيد ومماليك وهي المالكة المختارة؟! أم على أنهم ذوو حقوق في جميع الأمور وإنما هي نائبة عنهم ومؤتمنة من قبل الله عليهم وكفيلة برعاية حقوقهم؟

    ففي الصورة الأولى أن كل ما عملته من عمل لهم هو من نوع العمل الذي يقوم به صاحب حيوان لحماية حيوانه عن الآفات والعاهات! بينما عملها في الصورة الثانية هو من نوع الخدمات التي يقوم بها أمين صالح لما هو في أمانته ومعهود بصلاحه. إن اعتراف الحكومة بحقوق الناس، وحذرها من كل عمل يشعرهم بنفي حقوقهم، هما من الشروط الأولية لرضا الناس عنها واعتمادهم عليها.


    [align=center]-- وهكذا قال الإمام (عليه السلام) -----[/align]

    والآن نستعرض هنا نماذج من نصوص الإمام (عليه السلام) في (نهج البلاغة) في باب الحقوق والعدالة الاجتماعية.

    يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة 209:

    (أما بعد: فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له).

    فالكلام في هذا المقطع حول الحق والعدالة والوظيفة والتكليف من قبل الله تعالى، ولكن لا بصورة أن الله أعطى لبعض الأفراد من الناس حقوقاً ثم لم يجعلهم مسؤولين سوى أمام أنفسهم فحسب! وأنه حرم آخرين من هذه الحقوق وإنما جعلهم مسؤولين أمام أنفسهم وأمام ذوي تلك الحقوق إلى منتهى حدود المسؤولية! ممّا ينفي كل معنى للعدل والظلم بين الحاكم والمحكوم عليه.

    ويقول (عليه السلام) فيها أيضاً: (وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يعان على ما حمّله الله من حقه، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس وأقحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه.

    فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل).


    [align=center]-- الحاكم أمين وليس مالكاً للحكم ------[/align]

    قلنا في الفصل الساق: إنه ظهرت في القرون الأخيرة من بعض علماء الغرب فكرة خطرة مضلة، لها نصيب كبير في دفع المجتمع البشري نحو المادية، وهي: إنهم قرروا بين الإيمان بالله من ناحية ونفي حق الحكم عن العموم من ناحية أخرى علاقة مختلفة! وافترضوا! أن المسؤولية أمام الله تستلزم نفي المسؤولية أمام الناس، وأن حق الله يعوّض عن حق الناس! فبدل أن يكون الإيمان بخالق العالم على العدل أساساً وضماناً لفكرة الحقوق الفطرية، جعل مناقضاً لها! وحينئذ فمن الطبيعي أن يحسبوا أن إقرار حق الحكم للأمة يساوي نفي الخالق!

    والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً. ففي (نهج البلاغة) مثلاً مع أنه كتاب معرفة الله وتوحيده ومع أنه يتكلم في كل مكان عن الله وعن حقوقه على العباد - مع ذلك - لم يسكت هذا الكتاب المقدس عن حقوق الناس الحقة والواقعية، وعن مكانتهم المحترمة الممتازة أمام حكامهم، وعن أن الحاكم في الواقع ليس إلا حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكد على ذلك كثيراً.

    إن الإمام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم! وإن كان لابدّ من أن يكون أحدهما للآخر فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدس للناس، لا أن يكون الناس للحاكم! وعنه اقتبس سعدي الشيرازي إذ قال:

    [align=center]ليست الأغنام ملكاً للرعاة **** إنما هم يخدمون الغنما[/align]

    وإن لكلمة (الرعية) مفهوماً إنسانياً جميلاً في الإسلام، ولأول مرة نرى استعمال هذه الكلمة في (الناس المحكومين) وكلمة (الراعي) في الحاكم في كلمات الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ثم في كلمات الإمام علي (عليه السلام) بكثرة. وهي من مادة (رعى) بمعنى: حفظ وحرس، وإنما أطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذه الكلمة (الرعية) على الناس من جهة أن الحاكم في الإسلام يجب أن يتعهد بحفظهم وحراستهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم. ومن أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في هذا المورد قوله (صلّى الله عليه وآله):

    (كلكم راع وكلكم مسؤول، فالإمام راع وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول) (13).

    وقد ذكرنا في الفصل السابق نماذج من نهج البلاغة ترينا نظرية الإمام (عليه السلام) في حقوق الناس، وسنذكر في هذا الفصل أيضاً نماذج أخرى في ذلك. ونقدم عليها موضوعاً من القرآن الكريم، فنقول: قال الله تعالى في (سورة النساء، آية 58):

    (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

    وقال الشيخ الطبري (قدس سره) في (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية الكريمة: قيل في المعنى بهذه الآية الكريمة: أقوال: أحدها: إنها في كل من اؤتمن في أمانة من الأمانات، وأمانات الله أوامره ونواهيه، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضاً من المال وغيره.. وثانيهما: إن المراد به ولاة الأمر، أمرهم الله أن يقوموا (برعاية الرعية) وحملهم على موجب الدين والشرعية..) ثم قال: (ويعضده: أنه سبحانه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر. وروي عنهم: إنهم قالوا: (آيتان، إحداهما لنا والأخرى لكم). قال الله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ).. ولذلك قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الأمانة) ويكون من جملتها: الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلق به حق الرعية..) (14).

    وروى السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان) عن (الدرر المنثور) بأسانيده عن علي (عليه السلام) أنه قال: (حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا) (15).

    فالملاحظ: هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم حارساً أميناً على المجتمع، وأن الحكومة العادلة إنما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤديها إلى الأمة وأن أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ولده (عليهم السلام) إنما أخذوا عن القرآن ما قالوه بهذا الصدد.

    وبعد أن تعرفنا الآن على منطق القرآن الكريم في هذا الموضوع فلنعرض نماذج أخرى من (نهج البلاغة)، وعلينا أن نفحص ذلك في كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ولاته على الأمصار والبلدان، ونخص بالفحص ما كان منها بصورة مرسوم حكومي عام، ففيها تنعكس آراء الإمام (عليه السلام) في شأن الحاكم، ووظائفه إمام الناس، وحقوق الناس عليه.

    ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان يقول (عليه السلام): (وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعيته..) (16).

    وفي مرسومه الحكومي العام إلى جباة الزكاة والأموال العامة، يعظهم ويذكرهم بالله، ثم يقول: (.. فأنصفوا الناس من أنفسهم، واصبروا، فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة..) (17).

    وفي وصيته إلى مالك الأشتر النخعي إذ ولاه مصر، يقول (عليه السلام): (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..). ولا تقولن أني مؤمّر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير.. فإن حقاً على الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خُصّ به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عبده وعطفاً على إخوانه..) (18).

    وهكذا نشاهد في كتب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ولاته وعماله على البلاد تحسساً شديداً للعدل، والشفقة بالرعية، واحترام حقوق الناس، ممّا لا ينقضي منه العجب كل العجب.

    وقد نقل السيد الشريف الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة وصية له (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وقال (رحمه الله): وإنما ذكرنا هنا جملاً منها ليعلم بها أنه (عليه السلام) كان يقيم عماد الحق ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها).

    (انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له. ولا تُروعنّ مسلماً، ولا تجتازنّ عليه كارهاً، ولا تأخذ منه أكثر من حق الله في ماله. فإذا قدمت على الحيّ فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، ولا تخرج بالتحية لهم (19).

    ثم تقول: يا عباد الله! أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم. فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليّه؟!

    فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه. وإن أنعم لك منعم فانطلق معه، من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسِفه أو ترهقه. فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به. ولا تنفرنّ بهيمة ولا تفزعنّها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها. واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره.. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه. فإن استقالك فأقله، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله) (20).

    وارى أن هذا يكفي لبيان نظرية الإمام (عليه السلام) بصفته حاكماً نموذجياً مسلماً في حقوق الناس بصفتهم محكومين.

    .................................................. ..

    الهوامش:

    1- سورة الحديد: 25.

    2- سورة المائدة: 67.

    3- سورة آل عمران: 144.

    4- في بحثه حول (الحكومة والولاية).

    5- سورة الأنعام: 57.

    6- يعني أنه مع فرض عدم وجود الحكومة الصالحة فالحكومة الصالحة خير من حكومة قانون الغابات. المؤلف.

    7- الخطبة 40، ص310، ج2، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    8- الخطبة 33، ص185، ج3، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.

    9- الخطبة 209، ص88-92، ج10، من شرح النهج لابن أبي الحديد.

    10- الحكمة 437.

    11- الخطبة 15، ص269، من ج1 من شرح النهج لابن أبي الحديد.

    12- الخطبة 126.

    13- البخاري، ج7، كتاب النكاح.

    14- مجمع البيان للشيخ الطبرسي (قدس سره)، ج3، ص63، ط صيدا - لبنان.

    15- الميزان، ج4، ص410، وفي الدرر المنثور، ج2، ص175، ط لبنان.

    16- نهج البلاغة، الكتاب الخامس من قسم الكتب والرسائل.

    17- نفس المصدر، الكتاب 51.

    18- نفس المصدر، الكتاب 52.

    19- أي غير ناقصة.

    20- نهج البلاغة - الكتاب 25 وراجع أيضاً الكتاب 26، وهو عهد له (عليه السلام) إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة أيضاً، و27 وهو عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمه الله) و47.





  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    [align=center]
    الحكمة والموعظة الحسنة في نـــهـــج الـــبـــلاغــة



    -- مواعظ لا نظير لها ------[/align]

    إن المواعظ في (نهج البلاغة) من أكبر أبوابه وأوسعها، فإنها تستغرق نصفاً من مجموعه تقريباً، ولذلك فقد اشتهر هذا الكتاب بهذا الباب أكثر من سائر الأبواب.

    وإذا تجاوزنا مواعظ القرآن الكريم والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، والتي تعد كأصول لمواعظ نهج البلاغة، كانت المواعظ في هذا الكتاب ممّا لا نظير له في غيره.

    وقد مر على صدور هذه المواعظ أكثر من ألف عام، وهي بعد تؤدي دورها الخارق وتؤثر أثرها الغريب! فإن هذه الكلمات الحية الخالدة لم تفقد بعد أثرها الذي ينفذ في القلوب والألباب والأفئدة والعقول والبصائر فيهزّها، وفي العواطف والأحاسيس فتجريها دموعاً من العيون والآماق! سيبقى أثرها هذا النافذ ما بقيت للإنسانية نسمة تتنشق النسيم الغض وتتفهم معاني الكلمات والحروف!

    إن الموعظة الحسنة - كما جاء في القرآن الكريم - هي إحدى الأساليب الثلاثة للدعوة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1).

    والفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة:

    هو أن الحكمة يراد بها التعليم والإرشاد والنصيحة، أما الموعظة فيراد بها التذكير وإلفات النظر إلى ما من يعرف ويعلم ولكنه في غفلة أو تغافل أو تجاهل منه.

    فالحكمة يراد بها التنبيه، أما الموعظة فيراد بها الإيقاظ.

    والحكمة يراد بها مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة والتغافل.

    فالحكمة فكرة وتعقّل، أما الموعظة فهي (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

    والحكمة تعلم، والموعظة تذكّر.

    والحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً، أما الموعظة فهي توقظ الذهن للاستفادة من الوجدان.

    والحكمة مصباح وسراج، أما الموعظة فهي إلفات النظر إلى ذلك الضياء.

    والحكمة للفكرة، والموعظة للتفكّر.

    والحكمة ترجمان العقل، والموعظة ترجمان الروح والأحاسيس والعواطف.

    ومن هنا يفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً: بأن لشخصية الواعظ في الموعظة دوراً بارزاً، أما الحكمة فهي (ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها، ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر)!

    و(الحكمة جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع)! ففي الحكمة لا مانع من اختلاف الأرواح بين الناطق بها والسامع، أما في الموعظة فلابدّ من ارتباط بينهما واتصال كما في السلك الكهربائي بين السالب والموجب، وحينئذ يكون كما قيل: (ما خرج من القلب دخل في القلب، وما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان).


    [align=center]-- الوعظ والخطابة ------[/align]

    وهناك فرق بين الوعظ والخطابة أيضاً:

    فإن الخطابة تخاطب العواطف والأحاسيس، لكي تثيرها وتثور بها، أما المواعظ فهي وإن كانت تخاطب العواطف أيضاً، ولكنها لأجل أن تؤثر فيها وتتسلط عليها وتخضعها.

    فالخطابة إنما تفيد فيما إذا كانت العواطف راكدة خامدة هامدة جامدة، وأما الموعظة فهي ضرورية فيما إذا كانت الشهوات والأحاسيس عاتية طاغية لتهدّئها وتسكّنها.

    والخطابة تثير أحاسيس الغيرة، والحمية، والحماية، والثورة، والعصبية، وللرفعة، والعزة، والفتوة، والمروءة، والشرف والكرامة، والبر، والصلة، والخدمة.. وتوجد فيها الحركة والنشاط. أما الموعظة فهي تهدّئ من ثورة هذه الأحاسيس وتغير الضارة منها.

    والخطابة تخرج أزمة الأمور من يد العقل فتودعها بيد الأحاسيس والعواطف، أما الموعظة فهي تهدّئ من فورة العواطف وتهيئ الأرضية للمحاسبة وإمعان النظر في الأمور.

    والخطابة تخرج بالإنسان إلى العالم العيني الخارجي، والموعظة تدخل بالإنسان إلى نفسه وفكره. وكلاهما ضروريان للإنسان.

    ولذلك نرى في نهج البلاغة من كلا النوعين. والعمدة هي مراعاة موقعهما. وقد راعى الإمام (عليه السلام) هذا الأمر تماماً، فأورد الخطابة المثيرة حيث يجب أن تُثار العواطف والأحاسيس فتطغى وتطيح بأسس الظلم والظالمين، كما في خطاباته التي أوردها في صفين:

    منها: حيث تسرّع معاوية إلى الشريعة فامتلكها وضيق على المؤمنين وأميرهم الإمام (عليه السلام). وكان الإمام (عليه السلام) يحذّر من البدء بالقتال ويحاول أن يحل المشكلة عن طريق الكلمة الحكيمة، لكن معاوية أبى عن الحل السلمي بالكلام واغتنمها فرصة للمضايقة الحربية، فضاق الأمر بذلك على أصحاب علي (عليه السلام). فاضطر الإمام إلى أن يثير كوامن النفوس بخطاب حماسي يرد به العدو على أعقابه خاسئاً خاسراً، فخطبهم وقال:

    (... قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلة وتأخير محلة! أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء! فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين! ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمش عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية..).

    وعملت هذه الكلمات النارية عملها الحاد والمهيّج، فأثارت الدماء والغيرة، ولم يمسوا حتى ملكوا عليهم الشريعة دونهم، وطردوهم عنها خاسئين خائبين!

    أما مواعظ الإمام (عليه السلام) فقد كانت في أحوال أخرى.

    سارت عجلة الفتوحات المتتالية في دور الخلفاء وعلى عهد عثمان بالخصوص بسرعة هائلة، فكان من أثرها الغنائم الكثيرة غير المنتظمة والثروة العظيمة التي ساعدت على إيجاد النظام الطبقي (الأروستقراطي) الأشرافي والقبلي، في إشاعة الفحشاء وفساد الأخلاق ورفاهية العيش والتنعم والجمال والكمال المادي دون المعنوي وعبادة المال، بين مختلف طبقات المسلمين، وبذلك عادت العصبيات القبلية.. وفي خضّم هذه الغنائم والعصبيات كان الصوت الملائكي الوحيد الذي يرتفع للوعظ والإرشاد.. هو صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم صوت تلامذته المتأدبين بآدابه والمتربّين بتربيته..

    وسنبحث في الفصول التالية في العناصر التي تشتمل عليها مواعظ الإمام (عليه السلام)، من: التقوى.. والزهد.. والدنيا.. والقبر.. والقيامة.. وغيرها..


    [align=center]-- الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة ------[/align]

    إن 86 خطبة من مجموع 240 خطبة من نهج البلاغة، خطب موعظة أو فيها موعظة. منها ثلاث خطب طويلة تختص بالموعظة: كالخطبة 174 التي تبتدئ بقوله (عليه السلام): (انتفعوا ببيان الله...) و(الخطبة القاصعة). و(خطبة المتقين، 191).

    وإن (25) كتاباً من مجموع 80 كتاباً من نهج البلاغة، كتب مواعظ! أو فيها موعظة، ثلاث منها أيضاً كتب طويلة تختص بالموعظة: كالكتاب: (31) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) (أو محمد بن الحنفية - كما في ابن ميثم البحراني وتحف العقول) وعهده إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاه مصر، والكتاب (45) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة.


    - مواضيع وعظه (عليه السلام)

    إن مواضيع وعظه (عليه السلام) مختلفة ومتنوعة: فالتقوى، والتوكل، والصبر، والزهد، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ورفاهية العيش، وهوى النفس، وطول الأمل، والعصبية للعصبة، والظلم والجور، والتفرقة. والترغيب في الإحسان، والمحبة، والأخذ بيد المظلومين، وحماية الضعفاء والمساكين، والاستقامة، والقوة والفتوة والمروءة، والشجاعة والبسالة والبطولة، والوحدة، والعبرة، والفكرة، والمحاسبة، والمراقبة، واغتنام العمر، وتذكر الموت، وشدائده، وسكراته، وما بعده، وأهوال القيامة.. هذه هي العناصر التي أعيرت الاهتمام في كلام الإمام (عليه السلام).


    - لنتعرف على منطق الإمام (عليه السلام)

    إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام (عليه السلام) خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام (عليه السلام) قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى والتوكل والزهد والدنيا مثلاً.. بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام (عليه السلام) من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس والأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنايا.

    إن هذه الكلمات التي عدّدناها عناصر لوعظه (عليه السلام) كلمات تجري على جميع الألسن وتسمع من كافة الأفواه، ولا سيما ألسنة أولئك الذين يتخذون لأنفسهم سمة الناصح الأمين، ولكن لا يتساوى الجميع ما في يرمون إليه منها، وقد تكون مفاهيمهم منها تتجه إلى نواح متناقضة أو مضادة أو مختلفة على الأقل، ومن الطبيعي أن تكون نتائجها أيضاً مختلفة.

    ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام (عليه السلام). ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.


    [align=center]-- التقوى ------[/align]

    إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟

    يفترض الكثيرون أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!

    وعلى هذا التفسير تكون التقوى:

    أولاً: أمراً منتزعاً عن السيرة العملية.

    وثانياً: هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية.

    وثالثاً: كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل.

    ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد، حرصاً على سلامة تقواهم!

    ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلا بعد النفي، وليست كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، إلا كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلا بعد نفي ما سوى الله تعالى. ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر: (... فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى..) (2).

    ولكن..

    أولاً: إن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، ولا تصح إلا أن تكون مقدمات للارتباط بمقابلاتها. ولذلك فلابدّ أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً. فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها.

    وثانياً: إن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر (حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف) فإن التقوى في نهج البلاغة: (قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب). فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها.

    إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث أن البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابدّ له من أن يختار الانزواء التام!

    وعلى هذا فلابدّ إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً! وعلى هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!

    أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ.

    أما نهج البلاغة، فإنه يصف التقوى - كما وصفناها نحن - بأنها قوة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة، ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب.

    (.. ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار... ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..) (3).

    فقد وصف الإمام (عليه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، كراكب ماهر على فرس مدرب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة، فيطيعه الفرس بكل يسر.

    (.. إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم) (4).

    وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (عليه السلام) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره.

    وعلى هذا، فليست التقوى هي نفس الحذر، ولا نفس الخوف من الله، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها.

    (فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة) (5).

    نرى أن الإمام (عليه السلام) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.

    وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع، ولعل في هذا القسم كفاية، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج.


    - التقوى وقاية لا قيود

    كان الكلام في عناصر مواعظ نهج البلاغة، وقد بدأنا الحديث بالكلام عن التقوى، ورأينا أن التقوى في نهج البلاغة: قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية، وإحجام عن الدنايا المادية. إن التقوى في نهج البلاغة: حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها.

    ولقد أكد الإمام (عليه السلام) في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود.. فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود.. ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.

    يقول الإمام (عليه السلام): (... اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) (6).

    وكأنه (عليه السلام) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها.

    (.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..) (7).

    واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.

    ولقد بحث الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة.

    وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران:

    أحدهما: البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة.

    والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.

    وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر وهي - بالإضافة إلى ذلك - خارجة عما نهدف إليه من هذا البحث هنا، وهو: بيان المفهوم الواقعي للتقوى، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار.

    ولكن بودي أن نتحدث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أن:


    - التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها

    بل يصر نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها، فإن التقوى وإن كانت واقعية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها‍ وليس هذا من (الدور المُحال الباطل) بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال: (.. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ..) (8). وقال الإمام علي (عليه السلام) بهذا الصدد:

    (... أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.. ألا فصونوها وتصوّنوا بها...) (9).

    وقال (عليه السلام): (.. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله..) (10).


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني