سؤال الثقافة الذي يطرحه علي أومليل في كتابه الجديد «سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول» يرتبط بالتنمية، من جهة أن الثقافة استثمار، يخلق القيمة الأساسية التي تتأسس عليها التنمية، وهي الانسان، حيث تختلف المجتمعات في نوعية الرأسمال الإنساني، مع أنه ليست كل ثقافة استثماراً منتجاً للتنمية، وهناك ثقافات غير منتجة لها.


وعلي أومليل مفكر وكاتب وديبلوماسي مغربي، له العديد من الدراسات والمؤلفات الفكرية والثقافية، منها: «الخطاب التاريخي: دراسة في منهجية ابن خلدون»، و«في شرعية الاختلاف»، و«موقف الفكر العربي من المتغيرات الدولية»، و«السلطة الثقافية والسلطة السياسية»، و«الاصلاحية العربية والدولة الوطنية»، و«التراث والتجاوز»، و«التكامل الثقافي العربي في عصر العولمة».


وفي كتابه الذي بين يدينا، يتناول علي أومليل المسألة الثقافية من جوانب عديدة، وكذلك النظرة إلى الثقافة، مستعرضاً وضع الثقافة العربية في عالم متحول، ومعللاً من منظورات ثقافية مختلفة فكرتي الحرية والعدالة. ثم يقيّم حوار الثقافات وعوائقه وآفاقه، وأخيراً يناقش علاقة الدولة النامية بمجتمعها والأسس الثقافية لهذه العلاقة. وفي ضوء المستجدات التي عرفها العالم منذ العقدين الآخيرين من القرن العشرين، أصبح الحديث عن الثقافة أمراً مختلفاً عن ذي قبل، وغدت المسألة الثقافية مثار نقاش واسع. فقد غيرت ثورة تكنولوجيا الاتصالات من طبيعة الأشياء، وصارت المعلومات والمال ورؤو�� الأموال تنتقل في زمن حقيقي، مخترقة الحدود والفضاءات.


ونتج عنها أن الثقافة أصبحت بضاعة معولمة الانتاج، تتحكم في انتاجها وتسويقها شركات عملاقة. وساد تنميط للبضاعة الثقافية وتسويقها عبر شبكات تتحكم فيها شركات عالمية تنتمي في الغالب إلى بلدان الشمال، ويتحكم فيها عدد من المتنفذين الذين حولوا المنتج الثقافي والإعلامي والترفيهي إلى سلعة معولمة.


إذن، أصبحت الثقافة في عالم اليوم قضية استراتيجية. والمعروف أن الثقافة مستويان: مستوى أنثروبولوجي، حيث تكون الثقافة تراثاً من عادات وقيم وتقاليد تطبع الوجدان وينبني عليها السلوك، ومستوى أخر تكون فيه الثقافة شأن نخبة تتداول فيما بينها ثقافة عالمية. ومع العصر الحديث جرى ربط التعليم بالثقافة، لكن التمايز ازداد في بلداننا العربية بين نوعين من التعليم، ارتبطا بمستويين وسرعتين متباينين: تعليم خاص يستوجب المعرفة الحديثة المطلوبة مهنياً في عالم اليوم، وآخر عام ترعاه الدولة، ويؤدي إلى مهن متدنية إن لم يؤد إلى البطالة.


وأصبحت الثقافة تقسم المجتمع المتخلف إلى قلة قادرة على مواكبة التطور ومسايرة الاقتصاد الجديد، وكثرة لا ينفعها تكوينها العتيق في الاندماج في النسيج الاقتصادي. وهذا الانشطار الحاصل على مستوى المجتمع الواحد حاصل على المستوى العالمي، حيث لم يعد التعليم وسيلة لتجديد النخب، بل لتجديد التفاوت الاجتماعي والتوارث الطبقي للسلطة والثروة، وبالتالي لم يعد وسيلة لنشر الديموقراطية، ولم يعد كذلك وسيلة للتربية العمومية على الحداثة، إذ أصبحت الحداثة شأن أقلية مجتمعية، الأمر الذي يفسر ضعف القاعدة الاجتماعية للحداثة في بلداننا.


وبالعودة إلى الفكر الاصلاحي، وكذلك إلى الحركات التحررية الوطنية، نجد أن للثقافة أهمية خاصة، وكذلك لتحديث القيم الثقافية. وكان التعليم أولوية من أولوياتهما، بسبب الدور الذي لعبه في إطلاق النهضة الأوروبية ونشر الوعي والتنوير والتحديث، وباعتباره وسيلة مهمة لخلخلة البنى الاجتماعية التقليدية وبروز نخب جديدة.


لكن حين دعا طه حسين الذي كان أكثر المفكرين العرب دفاعاً عن فكر الأنوار وأكثرهم اهتماماً بمسألة التعليم، إلى تأميم التعليم الديني وإخضاعه لاشراف الدولة ومراقبتها، لم يكن يدرك أن الدولة التي منحها كل ذلك الدور على التعليم كوسيلة لبناء الديمقراطية والحداثة في العقول، لم تكن هي نفسها ديمقراطية ولا حداثية أو حديثة. وبالتالي فإن فاقد الشيء لا يعطيه.


ويرى علي أومليل أن الليبراليين العرب ـ أمثال طه حسين ـ كانوا يأملون أن يحدثوا تأثيرهم في الدولة القائمة، وأن تطبق أفكارهم بسلطتها، وقد يكون موقفهم هذا بمثابة تبرير لاحتلالهم مناصب في أجهزة الدولة، حيث كانوا عملياً جزءاً من جهاز الدولة القائمة التي لم تكن ديمقراطية بأي مقياس.


وقد كان طه حسين من أولئك الذين اعتبروا أن المسألة الثقافية أعمق في تأصيل التنوير والحداثة. وآمن بعالمية الثقافة الغربية، معتبراً أنها نسخت كل الثقافات والحضارات فأصبحت هي الحضارة، ودعا إلى تبنيها، وإلى تغريب مصر. لكن للدور الحاسم الذي أعطاه للثقافة أهمية في دلالته، خصوصاً وأن الثقافة تطرح في عالم اليوم في علاقتها بالتنمية. وهنا يسترجع علي أومليل السؤال الذي طرحه «ماكس فيبر» قبل نحو مئة عام من الآن، وهو: كيف تصنع الثقافة التنمية؟ وهو سؤال لا يقبله الماركسيون، لأن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي التي تحدد عندهم الثقافة.


وفي أطروحته حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، حاول «ماكس فيبر» إثبات العلاقة بين القيم الثقافية للبروتستانتية وبين الاقتصاد الرأسمالي الذي خلق الثروة واقتصاد السوق، معتبراً أن العقلانية الحديثة اختصت بها حضارة الغرب دون باقي الحضارات، وأن الأولى هي التي أرست دعائم الدولة الحديثة بدستورها المكتوب وقوانينها المجردة.


أما «الليبراليون الجدد» فقد أخذوا بفرضية الامتياز الاستثنائي للثقافة الغربية، معتبرين أن الحداثة، متمثلة في الديمقراطية واقتصاد السوق، ما كان لها أن تكون ممكنة خارج القيم الثقافية الغربية. وهي أطروحة مرفوضة، نظراً لأن دعوى الامتياز الغربي لم تعد شيئاً مسلماً به بالقياس إلى التطورات الحاصلة في اليابان والصين وفي شرق وجنوب شرق آسيا، بما فيها دول مثل ماليزيا وإندونيسيا. وإذا كان لهذه الأطروحة ما يبررها والغرب يهيمن على العالم، ذلك لأنه رسخ في أذهان الشعوب المستعمرة، ونخبها بصفة خاصة، أن قوة الغرب راجعة إلى قوة مؤسساته ومصداقية قيمه الثقافية، لذلك دعت الحركات الإصلاحية في البلدان الواقعة تحت حكم الاستعمار الأوروبي إلى تبني قيم الغرب واقتباسها.


وينظر الليبراليون الجدد، كما نظر أسلافهم التقليديون أو الكلاسيكيون، إلى السلوك الانساني بدافع المنفعة الشخصية، وهم يعممون هذا المبدأ النفعي على مجمل السلوك الإنساني وليس فقط على السلوك الاقتصادي. لذلك يرفضون مبدأ التضامن والعدالة الاجتماعية، على مستوى المجتمع الواحد أو على مستوى العالم. فهو عندهم من مخلفات عصر الإيديولوجيا والمثاليات، باعتباره غير منصف للذين يبذلون جهداً أكبر، والذين هم الأقدر على المبادرة ومخاطرها. من هذا المنطلق يعارضون دولة الرعاية والكفالة.


ويختزل الليبراليون الجدد مسألة العدالة في جانبها القضائي، عبر مطالبتهم بقضاء سريع نزيه ومتخصص ليخدم مقاولاتهم واستثماراتهم. وتجد هذه الليبرالية الجديدة صدى لها لدى العديد من رجال الأعمال وأساتذة الاقتصاد في العالم العربي. وعليه أصبح ليبراليونا التابعون بدورهم يختزلون أيضاً الحريات كلها في حرية المبادرة الاقتصادية، ويطالبون بتحرير الاقتصاد من تدخل الدولة، وكأنهم، في نهاية الأمر، يريدون أن يقتصر دور الدولة فقط على حفظ الأمن، نظراً لضرورته للاستقرار وضمان سير الأعمال وجلب الاستثمار. فيما لا تعنيهم العدالة في شيء، سوى كونها عائقاً ضد الفعالية الاقتصادية.


إن ليبراليينا المقلدين، كما يصفهم علي أومليل، يفهمون من إنهاء دولة الرعاية على أنه تقليص للضرائب وللحقوق الاجتماعية للعمال، وهم يريدون من إعطاء الحرية للقطاع الخاص كسب امتيازات واعفاءات، وبيع القطاع العام لهم تحت مطلب الخصخصة. لكنهم يتناسون أن الليبرالية كل متكامل، ويكتفون بالمطالبة بحرية المبادرة الاقتصادية مفصولة عن منظومة الحريات، لذلك فإن هدفهم هو تحرير الاقتصاد وليس تحرير المواطن.


في حين يكرس الليبراليون الجدد نوعاً من العرقية الثقافية، حينما يرادفون بين التحديث والتغريب، ويجعلون القيم الغربية هي الوحيدة التي تكرم الانسان، وتبني الديمقراطية الحقة، وتؤسس اقتصاد السوق الذي وحده يخلق الثروة. ورغم كل ذلك فإن الثقافة الغربية قدمت للإنسانية عبر تاريخها مكاسب حاسمة، إلا أنها تبقى ثقافة من ضمن ثقافات متواجدة في عالم اليوم، وعليها أن تتفاعل وتتحاور وتتوافق على قيم إنسانية مشتركة.


لأن حوار الثقافات لا يمكن أن يؤول إلى مجرد مناظرة ثقافية أودينية، ولا يمكن أن يكون ذا جدوى إذا ما تمسك كل طرف بخصوصيته المطلقة. وهذه بالضبط حال كل »الأصوليات«، بما فيها أصولية الليبراليين الجدد.


ويتساءل علي أومليل: لماذا ظل «الليبراليون» العرب أفراداً معدودين، ولم يتحول الفكر الديمقراطي الليبرالي إلى حركة سياسية فاعلة في الواقع العربي؟


ترتبط الاجابة بطبيعة الثقافة السياسية للقوى التي طالبت بالتغيير، ذلك أن قضية الديمقراطية لم تكن قضية مبدئية أو اختياراً استراتيجياً عند قوى السلطة أو المعارضة، بل كانت الأولوية عندهم هي قضية السلطة، التي تلحق بها كل القضايا؛ فالحريات الشخصية ملحقة بالحريات العامة ومندمجة فيها، سواء إبان النضال من أجل الاستقلال، أو في ظل دولة الاستقلال التي تبنت سياسات التعبئة لتصبح دولة سلطوية شمولية.


وتكبر المشكلة مع الدولة في البلدان النامية، التي تشكلت وفقاً لإيديولوجيا تقدس الوحدة وتنبذ التعددية، وتقرّ بمركزية الإدارة والسلطة على حساب التعددية واشراك المنظمات الأهلية أو منظمات المجتمع المدني. وهذا يعود إلى طبيعة الثقافة السياسية للسلطة السياسية التي قامت على العقلية الانقلابية، وعولت على «الثورة» لانجاز التغيير الشامل، وطي التخلف في زمان مختزل. وفيما يتجه الوضع الحالي للدولة نحو العولمة، فإنه يتأثر على نحو عميق بطبيعة النخب الليبرالية المتحمسة لاقتصاد السوق، ولا تهتم بالحريات التي تعني كل المواطنين، أي الحريات المدنية والسياسية.


لقد أدى ذلك الاخفاق إلى صعود هويات كانت مكبوتة إلى السطح، ثم جاءت العولمة لتشكل تحدياً خطيراً لما ادعته السلطة من هوية ثقافية متجانسة. وفي العالم العربي على وجه الخصوص، صار للمسألة الثقافية أهمية كبرى، من جهة كونها رهاناً أساسياً في خلاف قد يصل بالرأي العام والنخب إلى حد الانشطار؛ سواء حول المسألة الدينية أو حول علاقة الدين بالسياسة، أو فيما يتصل بقضية المرأة وسواها.


ويخلص علي أومليل إلى تحديد الاشكال في بلداننا العربية، المتمثل في كيفية انجاز تراكمين متكاملين: تراكم اقتصادي لارساء الديمقراطية على قاعدة اقتصادية، وتراكم سياسي ديمقراطي لتصبح الديمقراطية هي بنية النظام الاجتماعي والسياسي. ويبدو أن هذا الاشكال المركب لن يحل إلا بتضافر جهود حثيثة ومخلصة، والمرجح أنه لن يجد الحل في المنظور القريب.


عمر كوش


الكتاب: سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول


الناشر: المركز الثقافي العربي


بيروت ـ الدار البيضاء 2005


الصفحات: 159 صفحة من القطع المتوسط