النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: فدك في التأريخ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي فدك في التأريخ

    فدك في التأريخ


    الشهيد
    السيّد محمّد باقر الصدر

    قسم الدراسات الإسلامية



    ( 6 )


    فاتحـة الكـتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . اياك نعبد واياك نستعين . اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 7 )


    أيّها القارىء الكريم :
    هذا انتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة ـ النجف الأشرف ـ وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الاسلامي ، وهي مشكلة فدك ، والخصومة التأريخية التي قامت بين الزهراء صلوات الله عليها والخليفة الاُول رضي الله‏ تعالى عنه. وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر ، فسجلتها على أوراق متفرقة. حتى اذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية ورواياتها ، ودرس ظروفها ، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة ، فهذبتها ورتبتها على فصول ، اجتمع منها كتيب صغير ، وكان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند الحاجة ، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخاً لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه ، غير أن بعض الاخوة ( أيدهم الله ) طلبوا مني طبعه وقد نزلت على رغبتهم تقديراً لهم ولتوفيره في المكتبة العربية والإسلامية والكتاب هو ما تراه بين يديك.
    ( المؤلّف )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 8 )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 9 )

    على مسرح الثورة فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون.






    الزهراء


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 10 )

    وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه ، ولا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر ، ولا يمر على خيالها الذي كان جدّيّاً كل الجد ، تردد في تصميمها ، ولا ولا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك ، وها هي الآن في أعلى القمة من استعدادها النبيل ، وثباتها الشجاع على خطتها الطموح ، واسلوبها الدفاعي ، فقد كانت بين بابين لا يتسعان لتردد طويل ، ودرس عريض ، فلا بد لها من اختيار أحدهما وقد اختارت الطريق المتعب من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد ومصاعب تتطلب جرأة أدبية ، وملكة بيانية مؤثرة ، وقدرة على صب معاني الثورة كلها في كلمات وبراعة فنية في تصوير النقمة ونقد الاُوضاع القائمة تصويراً ونقداً يجعلان في الاُلفاظ معنى من حياة ، وحظا من خلود ، لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة ، وسندها الخالد في تاريخ العقيدة ، ولكنه الايمان والاستبسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها ، ويفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف ولا تردد.
    ولذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق ممّا يوافق طبعها ، ويلتئم مع شخصيتها المركزة على الانتصار للحق ، والاندفاع في سبيله.
    وكانت حولها نسوة متعددات من حفدتها ونساء قومها كالنجوم


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 11 )

    المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام ، وهن جميعاً سواسية في هذا الاندفاع والالتياع ، وقائدتهن بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيىء لها العدة والذخيرة ، وهي كلما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة جأش ، وقوة جنان ، وتضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها ، واشتدت صلابة في الحركة ، وانبعاثاً نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة ، ونشاطاً في الاندفاع ، وبسالة في الموقف الرهيب ، كأنّها قد استعارت في لحظتها هذه قلب رجلها العظيم ، لتواجه به ظروفها القاسية وما حاكت لها يد القدر أستغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مروعة تهد الجبل وتزلزل الصعب الشامخ.
    وكانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحاً قائماً ترتسم عليه سحابة حزن مرير ، وهي شاحبة اللون ، عابسة الوجه ، مفجوعة القلب ، كاسفة البال منهدة العمد ، ضعيفة الجانب ، مائعة الجسم ، وفي صميم نفسها ، وعميق فكرها المتأملة اشعاعة بهجة ، واثارة طمأنينة ، وليس هذا ولا ذاك استعذاباً لأمل باسم ، أو سكونا إلى حلم لذيذ ، أو استقبالاً لنتيجة حسنة مترقبة ، بل كانت الاشعاعة اشعاعة رضا بالفكرة ، والاستبشار بالثورة ، وكانت الطمأنينة ثقة بنجاح لا هذا الذي نفيناه بل على وجه آخر ، وان في بعض الفشل الآجل ايجاباً لنجاح عظيم وكذلك وقع ، فقد قامت اُمّة برمتها تقدس هذه الثورة الفائزة بل تستمد منها ثباتها واستبسالها في هذا الثبات.
    ودفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت موجات السعادة تلعب بحياتها السعيدة ، ويوم كانت نفس أبيها يصعد. ونسمه يهبط ، وكان بيتها قطب الدولة العتيد ، ودعامة المجد الراسخة المهيمنة على الزمن الخاشع المطيع.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 12 )

    ولعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها ( صلى الله عليه وآله ) وهو يضمها إلى صدره الرحيب ، ويحوطها بحنانه العبقري ، ويطبع على فمها الطاهر قبلاته التي اعتادتها منه ، وكانت غذاءها صباحاً ومساء.
    ثم وصلت الى حيث بلغت سلسلة الزمن فيواجهها الواقع العابس واذا بالزمان غير الزمان وها هو بيتها مشكاة النور ورمز النبوة والاشعاعة المتألقة المحلقة بالسماء مهدد بين الفينة والفينة ، وها هو ابن عمها الرجل الثاني في دنيا الاسلام باب علم النبوة ، ووزيرها المخلص ، وهارونها المرجى ، الذي لم يكن لينفصل ببدايته الطاهرة عن بداية النبوة المباركة فهو ناصرها في البداية ، وأملها الكبير في النهاية ، يخسر أخيراً خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقوض معنوياته النورية التي شهدت لها السماء والأرض جميعا ، وتسقط سوابقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تم اصطلاحها في تلك الاحايين.
    وهنا بكت بكاء شقيا ما شاء الله لها أن تبكي ، ولم يكن بكاء بمعناه الذي يظهر على الاُسارير ، ويخيم على المظاهر ، بل كان لوعة الضمير ، وارتياع النفس ، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب ، وختمت طوافها الاُليم هذا بعبرتين نضتا من مقلتيها.
    ثم لم تطل وقفتها ، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة وحولها صويحباتها حتى وصلت الى ميدان الصراع ، فوقفت وقفتها الخالدة ، وأثارت حربها الذي استعملت فيه ما يمكن مباشرته للمرأة في الاسلام ، وكادت ثورتها البكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف ، وتناثرت امامها العقبات.


    * * *

    تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 13 )

    واله وسلم ) ريحانة النبوة ، ومثال العصمة ، وهالة النور المشعة ، وبقية الرسول بين المسلمين ـ في طريقها الى المسجد ـ وقد خسرت أبوة هي أزهى الاُبوات في تأريخ الانسان ، وأفيضها حناناً ، وأكثرها اشفاقاً ، وأوفرها بركة.
    وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلواً شهياً ، وأملأ نيراً.
    وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى ، وطارت روحه الفرد الى جنان ربها راضية مرضية.
    ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب ، بل عرضت الزهراء لخطب آخر قد لا يقل تأثيراً في نفسها الطهور ، وايقاداً لحزنها ، واذكاء لاُساها عن الفاجعة الاُولى كثيراً وهو خسارة المجد الذي سجلته السماء لبيت النبوة على طول التاريخ ، وأعني بهذا المجد العظيم سيادة الاُمّة وزعامتها الكبرى ، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) امته وشيعته ، لأنهم مشتقاته ومصغراته ، واذا بالتقدير المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها ، ومناصب الحكم عن أصحابها ، ويرتب لها خلفاء واُمراء من عند نفسه.
    وبهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات والاُبوات ، واخلد الرئاسات والزعامات بين عشية وضحاها ، فبعثتها نفسها المطوقة بآفاق من الحزن والاُسف الى المعركة ومجالاتها ، ومباشرة الثورة والاستمرار عليها .
    والحقيقة التي لا شك فيها أن أحداً ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها ، ويستبسل استبسالها في الجهاد الا وأن يكون أكلة باردة ، وطعمة رخيصة للسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط والشدة ، فعلى الاشارة عتاب ، وعلى القول حساب


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 14 )

    وعلى الفعل عقاب ، فلم يكن ليختلف عما نصطلح عليه اليوم بالاُحكام العرفية ، وهو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعيم أساسها ، وتثبيت بنيانها.
    أما اذا كان القائم المدافع بنت محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبضعته وصورته الناضرة. فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك ، باعتبار هذه النبوة المقدسة ، ولما للمرأة في الاسلام عموماً من حرمات وخصائص تمنعها وتحميها من الاُذى.


    * * *

    مستمسكات الثورة :
    ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهر الى آفاق حياتها الماضية ودنيا أبيها العظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه الى ذكرى في نفس الحوراء متألقة بالنور تمد الزهراء في كلّ حين بألوان من الشعور والعاطفة والتوجيه ، وتشيع في نفسها ضروبا من البهجة والنعيم ، فهي وان كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزمن اياماً أو شهوراً ، ولكنها لم تنفصل عنه في حساب الروح والذكرى لحظة واحدة.
    واذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينبض ، وطاقة على ثورة كاسحة لا تخمد ، وأضواء من نبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ونفس محمّد تنير لها الطريق ، وتهديها سواء السبيل.
    وتجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس ، واتجهت بمشاعرها الى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها قبسا من نور في موقفها العصيب ، وصارت تنادي : ـ
    الي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه . .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 15 )

    الي يا أعز روح علي ، وأحبها الي . . حدثيني وأفيضي علي من نورك الالهي . كما كنت تصنعين معي دائماً.
    الي يا أبي أناجيك ان كانت المناجاة تلذ لك ، وابثك همومي كما اعتدت أن أفعل في كل حين ، وأخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شيء.


    قد كان بعـــدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

    الي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب ورددي على مسامعي كل شيء لا تثيرها حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتفع الناس بهم الى منبر أبي ومقامه ، ولم يعرفوا لآل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) حقوقهم ، ولا لبينهم حرمة تصونه من الاحراق والتخريب ، ذكريني بمشاهد أبي وغزواته ألم يكن يقص علي ألواناً من بطولة أخيه وصهره واستبساله في الجهاد ، وتفوقه على سائر الأنداد ، ووقوفه الى صف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أشد الساعات ، وأعنف المعارك التي فر فيها فلان وفلان وتقاصر عن اقتحامها الشجعان أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر النبي وننزل بعلي عما يستحق من مقام.
    خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي على تبليغ آية الى المشركين ؟ . وانتخب للمهمة علياً فماذ يكون معنى هذا ان لم يكن معناه ان علياً هو الممثل الطبيعي للاسلام الذي يجب ان تستند اليه كل مهمة لا يتيسر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مباشرتها.
    اني لا تذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لما استخلف أبي علياً على المدينة وخرج الى الحرب ، فوضعوا لهذا


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 16 )

    الاستخلاف ما شاؤا من تفاسير ، وكان علي ثابتاً كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين ، وكنت أحاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس وأخيراً لحق بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم رجع متهلل الوجه ضاحك الاسارير ، تحمله الفرحة الى قرينته الحبيبة ليزف اليها بشرى لا بمعنى من معاني الدنيا بل بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورحب به وقال له : انت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي(1) وهارون موسى كان شريكا له في الحكم ، واماماً لاُمته ، ومعداً لخلافته ، فلا بد أن يكون هارون محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولياً للمسلمين وخليفته فيهم من بعده.
    ولما وصلت الى هذه النقطة من افكارها المتدفقه صرخت ان هذا هو الانقلاب الذي انذر االله تعالى في كتابه اذ قال : ( وما محمّد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم). فها هم الناس قد انقلبوا على أعقابهم. واستولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال أحدهما نحن أهل العزة والمنعة ، واولوا العدد والكثرة ، واجابه الآخر : من ينازعنا سلطان محمّد (ص) ونحن اولياؤه وعترته وسقط الكتاب والسنة في تلك المقاييس ثم اخذت تقول : ـ
    يا مبادىء محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم في العصب ، ان عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي اقامه النبي مركزاً لدعوته قد هجم على آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في دارهم واشعل النار فيها أو كاد . .
    ____________
    (1) ورد حديث المنزلة في صحيح البخاري ومسلم وخصائص النسائي ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي ومروج الذهب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 17 )

    يا روح امي العظيمة انك القيت علي درساً خالداً في حياة النضال الاسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسوف أجعل من نفسي خديجة علي في محنته القائمة.
    لبيك لبيك يا أماه اني أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني الى مقاومة الحاكمين.
    فسوف أذهب الى أبي بكر لأقول له لقد جئت شيئاً فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، ولأنبه المسلمين الى عواقب فعلتهم والمستقبل القائم الذي بنوه بأيديهم وأقول : لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب ، ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً ، وهناك يخسر المبطلون. ويعرف التالون ، غب ما أسس الاُولون.
    ثم اندفعت الى ميدان العمل وفي نفسها مبادىء محمّد ( صلى الله اليه وآله وسلم ) وروح خديجة ، وبطولة علي. واشفاق عظيم على هذه الاُمة من مستقبل مظلم.


    * * *

    طريق الثورة :
    لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا ، لان البيت الذي انبعث منه شرر الثورة ولهيبها هو بيت علي (ع) بالطبع الذي كان يصطلح عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيت النبوة وهو جار المسجد لا يفصل بينهما سوى جدار واحد ، فلعلها دخلته من الباب المتصل به ، والمؤدي اليه من دارها مباشرة ، كما يمكن أن تكون مدخلها الباب العام ولا يهمنا تعيين أحد الطريقين ، وان كنت أرجح أنها سلكت الباب العام لأنّ


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 18 )

    سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهاذ فان دخولها من الباب الخاص لا يكلفها سيراً في نفس المسجد ولا اجتياز طريق بينه وبين بيتها ، فمن أين للراوي أن يصف مشيها ، وينعته بأنه لا يخرم مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو لم يكن معها بالطبع ، ولو تصورنا أنها سارت في نفس المسجد ، فلا ينتهي سيرها بالدخول على الخليفة ، وانما يبتدىء بذلك ، لأن من دخل المسجد صدق عليه أنه دخل على من فيه ، وان سار في ساحته مع أن الراوي يجعل دخولها على أبي بكر متعقباً لمشيها ، وهذا وغيره يكون قرينة على ما استقريناه.


    * * *

    النسوة :
    وتدلنا الرواية على أن الزهراء كانت تصحبها معها نسوة من قومها وحفدتها كما سبق ذكره ومرد هذه الصحبة ، وذلك الاختيار للباب العام الى أمر واحد ، وهو تنبيه الناس ، وكسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد ، ويتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف على ما تريده وتعزم عليه من قول أو فعل ، وبهذا تكون المحاكمة علنية تعيها اسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب.

    ظاهرة :
    سبق أن الرواية التأريخية جاءت تنص على أن الزهراء لم تكن لتخرم في مشيتها مشية ابيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ويتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق فلعله كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف ولا اعتناء خاص ، وليس هذا ببعيد فانها صلوات ا‏لله عليها قد اعتادت ان تقلد اباها وتحاكيه في سائر


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 19 )

    افعالها واقوالها ، ويحتمل ان يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يومذاك الى تقليد أبيها في مشيه عن التفات وقصد فأحكمت التمثيل وأجادت المحاكاة ، فلم تكن لتخرم مشية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأرادت بهذا أن تستولي على المشاعر واحساس الناس وعواطف الجمهور بهذا التقليد الباهر الذي يدفع بأفكارهم الى سفر قصير ، وتجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوة المقدس. والاُيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الاُعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيكون في ارهاف هذه الاحساسات وصقلها صقلاً عاطفيا ما يمهد للزهراء الشروع في مقصودها. ويوطىء القلوب لتقبل دعوتها الصارخة واستجابة استنقاذها الحزين ، ونجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة.


    * * *

    ولذا ترىُ ان الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر ، ودفعه تأثره هذا الى تسجيلها فيما سجل من تصوير الحركة الفاطمية.
    صرخة باركتها الزهراء ، ورعتها السماء فكانت عند اندلاعها محط الثقل الذي تركز عنده الحق المذبوح ، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها الى عبوس مرير ، ويأس ثابت ، واستسلام فرضته حياة الناس الواقعة يومذاك.
    ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها على ما يطرد في الثورات الاخرى بقدر ما كانت تستهدف الى تثبيت الثورة لذاتها وتسجيلها فيما يسجله التأريخ في سطوره البارزة فكانت الثورة على هذا بنفسها تؤدي الغرض كاملاً غير منقوص ، وهذا ما وقع بالفعل وبه نفسر الحكم بنجاحها وان فشلت كما سنوضحه في موقع آخر من هذا الكتاب.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 20 )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 21 )


    2
    فـدك
    ( بمعناها الحقيقي )
    « بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين »




    ( قرين الزهراء )
    أمير المؤمنين

    ( بمعناها الرمزي )
    الحد الاُول : ( لفدك ) عدن
    والحد الثاني : سمرقند
    والثالث : أفريقية .
    والرابع : سيف البحر مما يلي الجزر وارمينية .






    ( حفيد الزهراء )
    الامام موسى بن جعفر




    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 22 )

    فدك : قرية في الحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية في مطلع تأريخها المأثور. وكان يسكنها طائفة من اليهود ، ولم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على النصف من فدك وروي انه صالحهم عليها كلها.
    وابتدأ بذلك تاريخها الاسلامي ، فكانت ملكا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ثم قدمها لابنته الزهراء ، وبقيت عندها حتى توفي أبوها ( صلى الله عليه وآله ) فانتزعها الخليفة الاُول ( رضي الله عنه ) ـ على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة ـ وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثورة الدولة يومذاك حتى تولى عمر الخلافة فدفع فدكا الى ورثة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبقيت فدك عند آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) الى أن تولى الخلافة عثمان بن عفان فاقطعها مروان بن الحكم على ما قيل ، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء. ولكن الشيء الثابت هو ان أمير المؤمنين علياً انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان ـ كسائر ما نهبه بنو اُمية في أيام خليفتهم ـ .
    وقد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أن علياً لم


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 23 )

    يدفعها عن المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج.
    ولا أريد أن أفتح في الجواب بحث التقية على مصراعيه وأوجه بها عمل أمير المؤمنين ، وانما امنع ان يكون أمير المؤمنين (ع) قد سار على طريقة الصديق ، فان التأريخ لم يصرح بشيء من ذلك بل صرح بأن أمير المؤمنين كان يرى فدكاً لاُهل البيت ، وقد سجل هذا الرأي بوضوح في رسالته الى عثمان بن حنيف كما سيأتي.
    فمن الممكن انه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها بحاصلات فدك وليس في هذا التخصيص ما يوجب اشاعة الخبر لأن المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده كما يحتمل انه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن اولاده عليهم الصلاة والسلام (1) بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة.
    ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية وأكثر من الاستخفاف بالحق المهضوم فاقطع مروان بن الحكم ثلث فدك وعمر بن عثمان ثلثها ، ويزيد ابنه ثلثها الآخر ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام ملكه ثم صفت لعمر بن عبدالعزيز بن مروان فلما تولى هذا الامر رد فدكاً على ولد فاطمة عليها السلام وكتب الى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب اليه ان فاطمة عليها السلام قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم ؟ فكتب اليه : أما بعد ، فاني لو كتبت اليك آمرك أن تذبح
    ____________
    (1) وهذا أقرب الاحتمالات ، لان الاول تنفيه رسالة أمير المؤمنين الى عثمان بن حنيف اذ يقول : وسخت عنها نفوس آخرين. والثالث يبعده قبول الفاطميين فيما بعد لفدك عند ما أعطيت اليهم في فرص متباعدة.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 24 )

    بقرة لسألتني ما لونها فاذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليها السلام من علي عليه السلام ، فنقمت بنو امية ذلك على عمر بن عبدالعزيز وعاتبوه فيه وقالوا له : هجنت فعل الشيخين وقيل : انه خرج اليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال لهم انكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت ان أبا بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني ، ويرضيني ما أرضاها ، وان فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها الى مروان فوهبها لعبدالعزيز أبي فورثتها أنا واخوتي عنه فسألتهم ان يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي فرأيت ان اردها على ولد فاطمة فقالوا له : فان أبيت الا هذا فامسك الاصل واقسم الغلة ، ففعل.
    ثم انتزعها يزيد بن عبدالملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم.
    فلما قام أبو العباس السفاح بالاُمر وتقلد الخلافة ردها على عبدالله ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن وردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ثم قبضها موسى بن المهدي من أيديهم.
    ولم تزل في أيدي العباسيين حتى تولى المأمون الخلافة فردها على الفاطميين سنة (210) وكتب بذلك الى قثم بن جعفر عامله على المدينة : أما بعد ، فان أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقرابة به أولى من استن بسنته وسلم لمن منحه منحة وتصديق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته واليه في العمل بما يقربه اليه رغبته ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها وكان ذلك أمراً ظاهراً
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم تدع منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين ان يردها الى ورثتها ويسلمها اليهم تقرباً الى الله تعالى ، باقامة حقه وعدله والى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتنفيذ أمره وصدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتاب الى عماله فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفذ عدته ان فاطمة رضي الله عنها لاُولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها وقد كتب أمير المؤمنين الى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها الى محمّد ابن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمّد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين اياههما القيام بها لاُهلها. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب اليه والى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعلمه من قبلك وعامل محمّد بن يحيى ومحمّد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام.
    ولما بويع المتوكل على الله انتزعها من الفاطميين واقطعها عبدالله ابن عمر البازيار وكان فيها احدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيده الكريمة فوجه عبدالله بن عمر البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أبي أمية الثقفي الى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد ففلج.
    وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه اياها عبدالله بن عمر البازيار.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 26 )

    هذه المامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط ولا يجمع على قاعدة ، وانما حاكت اكثره الاُهواء ، وصاغته الشهوات على ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية ، وعلى هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة ، وظروف متباعدة حيث توكل فدك الى أهلها واصحابها الاولين ويلاحظ ان مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبرى بنظر المجتمع الاسلامي وأسياده ، ولذا ترى حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة ، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو اهل البيت مباشرة فهو اذا استقام اتجاهه ، واعتدل رأيه ، رد فدكاً على الفاطميين ، واذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أول القائمة من أعمال ذلك الخليفة.
    ويدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الاسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي انشأها حينما رد المأمون فدكاً ومطلعها : ـ


    أصبح وجه الزمان قد ضحكا * بـرد مـأمـون هـاشم فـدكا

    وقد بقيت كلمة بسيطة وهي ان فدكاً لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعا متواضعاً كما يظن البعض ، بل الامر الذي أطمئن اليه أنها كانت تدر على صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل السنوي منها وان ورد في بعض طرقنا الارتفاع به الى أعداد عالية جداً.
    ويدل على مقدار القيمة المادية لفدك أمور ـ :
    ( الاُوّل ) : ما سيأتي من أن عمر منع أبا بكر من ترك فدك للزهراء لضعف المالية العامة مع احتياجها الى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة وثورات العصاة.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 27 )

    ومن الجلي أن أرضاً يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة ، وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابد أنها ذات نتاج عظيم.
    ( الثاني ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك : ان هذا المال لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فان تحميل الرجال لا يكون الا بمال مهم تتقوم به نفقات الجيش.
    ( الثالث ) : ما سبق من تقسيم معاوية فدكاً أثلاثاً ، واعطائه لكل من يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثاً ، فان هذا يدل بوضوح على مدى الثروة المجتناة من تلك الاُرض ، فانها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على امراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والاموال الطائلة.
    ( الرابع ) : التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان ، وتقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 28 )


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 29 )


    ـ 3 ـ
    [all1=CC9900][align=center]تاريخ الثورة [/align][/all1]

    قد كـان بعــدك أنباء وهــنبثة * لـو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
    أبدت رجال لنا نجـوى صـدورهم * لما مضيت وحالت دونك التـرب

    * * *

    صبت علـي مصائــب لو أنها * صــبت على الاُيام صرن لياليا
    قـد كنت أرتع تحت ظل مـحمد * لا أخشى ضيما وكـان جــماليا
    واليوم أخضع للــذلـيل واتقي * ضيــمي وأدفع ظالـمي بردائيا

    (الزهراء)


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 30 )

    اذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الاساسية لاقامة بناء تاريخي محكم لقضايا اسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مدار لبحثه كالحياة الدينية والاخلاقية والسياسية الى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الانساني على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات ، وينشئه التعبد والتقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف الى الذروة ، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج. لا من قيود لم يستطع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه.
    واما اذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الامر خيراً كان أو شراً ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 31 )

    ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة ، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الاخاذ تاريخ اجيالنا السابقة ، فليس ذلك تاريخاً لاُولئك الاشخاص الذين عاشوا على وجه الاُرض يوماً ما وكانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس ، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر ، بل هو ترجمة لاُشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا الى الآفاق العالية من الخيال.
    فاذا كنت تريد ان تكون حراً في تفكيرك ، ومؤرخا لدنيا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب ، فضع عواطفك جانباً أو اذا شئت فاملاُ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد ، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد ان اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك ان تكون اميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج.
    كثيرة جداً هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح ان يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها وأن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني احياناً حينما يتوسع الباحث في انطباعاته عن الموضوع ، ولكنها صورة باهتة في أكثر الاحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من النشاط والحركة والعمل وسوف تجد فيما يأتي امثلة بمقدار ما يتسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقررت فيه المسألة الاساسية في تاريخ الاسلام على شكل لا يتغير ، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين . .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 32 )

    كلنا نود ان يكون التاريخ الاسلامي في عصره الاول الزاهر طاهراً كل الطهر ، بريئا مما يخالط الحياة الانسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى ، فقد كان عصراً مشعاً بالمثاليات الرفيعة ، اذ قام على انشائه أكبر المنشئين للعصور الانسانية في تاريخ هذا الكوكب على الاطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الالهية الى حيث لم ترتق اليه الفكرة الالهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الالهي العظيم. بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه الا نحو المبدع الاعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود ، واليه تسير كما كان استاذهم الاكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الالهي المنبعث من كل صوب وحدب ، وفي كل جهة من جهات الوجود ، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.
    ان عصراً تلغى فيه قيمة الفوارق المادية على الاطلاق ، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون ، ومجالات تنفيذه ، ويجعل مدار القيمة المعنوية ، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله التي هي تطهير روحي ، وصيانة للضمير ، وارتفاع بالنفس الى آفاق من المثالية الرفيعة ، ويحرم في عرفه احترام الغني لأنه غني ، واهانة الفقير لأنه فقير ، ولا يفرق فيه بين الاشخاص الا بمقدار الطاقة الانتاجية ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ويتسارع فيه الى الجهاد لصالح النوع الانساني الذي معناه الغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه الدنيا ، واخراجها عن حساب الاعمال.
    (أقول) : ان العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والاعجاب والتقدير ، ولكن ماذا أراني دفعت الى


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 33 )

    التوسع في أمر لم أكن أريد ان أطيل فيه ؟ وليس لي ان افرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع في امر آخر ، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني الى ذلك ، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة أنا أفهم هذا جيداً ، واوافق عليه متحمساً ، ولكني لا أفهم ان يمنع عن التعمق في الدرس العلمي ، أو التمحيص التاريخي لموضوع كموضوعات الساعة التي نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن ، أو يحضر علينا ان نبدأ البحث في مسألة فدك على اساس ان أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة ومقاييسها ، أو ان نلاحظ أن قصة الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن مرتجلة ولا وليدة يومها اذ دلنا على ذلك سير الحوادث حينذاك ، وطبيعة الظروف المحيطة بها.
    واكبر الظن ان كثيراً منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره مذهبا جعله يعتقد ان رجالات الزمن الخالي ، وبتعبير اوضح تحديداً ان أبا بكر وعمر واضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامة يومئذ لا يمكن ان يتعرضوا لنقد أو محاكمة ، لأنهم بناة ذلك العصر والواضعون لحياته خطوطها الذهبية ، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر ، وتجريدهم عن شيء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.
    واريد ان اترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادة لبحث طويل ، ولمحة من دراسة مهمة قد اعرض لها في فرصة اخرى من فرص التأليف ، واكتفي الآن ان اتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع .
    صحيح ان الاسلام في أيام الخليفتين كان مهيمنا ، والفتوحات متصلة والحياة متدفقة بمعاني الخير ، وجميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي الشامل ، واللون القرآني المشع ، ولكن هل يمكن ان نقبل ان التفسير الوحيد لهذا وجود الصديق او الفاروق على كرسي الحكم ؟ .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 34 )

    والجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع ولكنا نعلم ان المسلمين في أيام الخليفتين كانوا في اوج تحمسهم لدينهم ، والاستبسال في سبيل عقيدتهم ، حتى أن التاريخ سجل لنا ان شخصاً أجاب عمر حينما صعد يوماً على المنبر وسأل الناس : لو صرفناكم عما تعرفون الى ما تنكرون ما كنتم صانعين ؟ ـ اذن كنا نستتيبك فان تبت قبلناك فقال عمر : وان لم ؟ ـ قال : نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في هذه الامة من اذا اعوججنا اقام اودنا.
    ونعلم ايضاً ان رجالات الحزب المعارض ـ واعني به أصحاب علي ـ كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة ، وكان أي زلل وانحراف مشوه للون الحكم حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب ، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصراً ، ويوم ولى أقاربه . ويوم عدل عن السيرة النبوية المثلى ، مع أن الناس في أيام عثمان كانوا أقرب الى الميوعة في الدين واللين والدعة منهم في أيام صاحبيه. ونفهم من هذا ان الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في أسس السياسة ونقاطها الحساسة لو ارادوا الى ذلك سبيلا ، لانهم تحت مراقبة النظر الاسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الاخلاص لمبادئه ، وجاعلاً لنفسه حق الاشراف على الحكم والحاكمين ، ولأنهم يتعرضون لو فعلوا شيئاً من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي لم يكن يزال يؤمن بان الحكم الاسلامي لابد ان يكون مطبوعاً بطابع محمدي خالص وان الشخص الوحيد الذي يستطيع ان يطبعه بهذا الطابع المقدس هو علي وارث رسول الله ووصيه وولي المؤمنين من بعده .
    وأما الفتوحات الاسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الاُيام ولكننا جميعاً نعلم أيضاً ان ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في ايام


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 35 )

    الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كل شان من شؤون الحرب ومعداته وأساليبه يتهيأ بعمل اشبه ما يكون بالعمل الاجماعي من الامة الذي تعبر به عن شخصيتها الكاملة تعبيراً عملياً خالداً ، ولا يعبر عن شخصية الحاكم الذي لم يصل اليه من لهيب الحرب شرر ، ولم يستقل فيه برأي ، ولم يتهيأ له الا بأمر ليس له فيه ادنى نصيب ، فان خليفة الوقت سواء أكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلم بكلمة الحرب عن قوة حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها بل أعلن عن قوة الكلمة النبوية التي كانت وعدا قاطعاً بفتح بلاد كسرى وقيصر اهتزت له قلوب المسلمين حماسة واملاً بل ايماناً ويقيناً ، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته الى مجالات العمل الا حين ذكر هذا الحديث النبوي ، فقد كان هو والايمان المتركز في القلوب القوة التي هيأت للحرب كل ظروفه وكل رجاله وامكانياته ، وأمر آخر هيأ للمسلمين أسباب الفوز ، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل بحكومة الشورى عن قرب أو بعد ، وهو الصيت الحسن الذي نشره رسول الله للإسلام في آفاق الدنيا ، واطراف المعمورة ، فلم يكن يتوجه المسلمون الى فتح بلد من البلاد الا كان امامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم ومبادئهم.
    وفي أمر الفتوحات شيء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيئوا بقية الامور وهو ما يتلو الفتح من بث الروح الاسلامية ، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد المفتوحة ، وتعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معنى وراء الشهادتين ، ولا أدري هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية او نشك في ذلك كل الشك كما صار اليه بعض الباحثين وكما يدل عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الاسلامية


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 36 )

    كانت الظروف كلها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية المنتجة التي قامت على عهدهما ، وفي بناء الحياة السياسية الخاصة التي اتخذاها.
    ولا أدري ماذا كان موقفهما لو قدر لهما ولعلي ان يتبادلوا ظروفهم فيقف الصديق والفاروق موقف الامام ويسود في تلك الظروف التي كانت كلها تشجع على بناء سياسة ، ومنهج لحكم جديد ، وانشاء حياة لها من ألوان الترف ، وضروب النعيم حظ عظيم ، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف كما عاكسها أمير المؤمنين ؟ . . فضرب بنفسه مثلاً في الاخلاص للمبدأ والنزاهة في الحكم.
    وأنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً الى سيرة رشيدة في الحكم ، واعتدال في السياسة والحياة ، ومرغمين على ذلك ، وانما اعني ان الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.
    كما أني لا اريد ان اجردهما عن كل اثر في التاريخ ، وكيف يسعني شيء من ذلك وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الاسلامي كله ، وانما عنيت انهما كانا ضعيفي الاثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة وما ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.
    اكتب هذا كله وبين يدي كتاب ( فاطمة والفاطميون ) للاستاذ عباس محمود العقاد ، وقد جئته بشوق بالغ لاُرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء ، وأنا على يقين من ان أيام التعبد بأعمال السالفين وتصويبها على كل تقدير قد انتهت وان الزمان الذي يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الانساني دينا كانت أو مذهبا


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 37 )

    أو تاريخاً أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الاسلام بعد أن طال قروناً ، ولعل الخليفة الاُول كان هو اول من اعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الانسانية والقدر وهدده وتوعده ولكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيىء الى روح الاسلام واذن فكان لي ان اتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الاستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فاذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة وقصيرة جداً والى حد استبيح لنفسي أن أنقلها واعرضها عليك دون ان اطيل عليك فقد قال :
    (والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه غير ان الصدق فيه لا مراء ان الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحق وان الصديق اجل من ان يسلبها حقها الذي تقوم به البينة عليه ، ومن اسخف ما قيل انه انما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة اليه فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع ان أحداً بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شيء من هذا في اشاعة ولا في خبر يقين وما نعلم تزكية لذمة الحكم من عهد الخليفة الاول اوضح بينة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادعاه عليه مدع وانما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ اقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم اجمعين انتهى).
    ونلاحظ قبل كل شيء أن الاستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار ولا يصل الحديث فيه الى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها ، واعتقد ان في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا ، وتلاحظ أيضاً .


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 38 )

    أنه بعد أن جعل مسألة فدك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه رأى ان فيها حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال (أحداهما) ان الصديقة أرفع من ان تنالها تهمة بكذب والاخرى ان الصديق أجل من ان يسلبها حقها الذي تثبته البينة. فاذا لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال ففيم الجدال الذي لا قرار له ولم لا تنتهي مسألة فدك الى مقطع للقول متفق عليه.
    وانا افهم ان للكاتب الحرية في ان يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارىء مدارك ذلك الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلها في الحساب ليخرج منها بتقدير معين ولكني لا أفهم ان يقول ان المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي الا برأي مجرد عن المدارك يحتاج الى كثير من الشرح والتوضيح والى كثير من البحث والنظر فاذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها الى البينة ؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الاسلام عن ان يحكم العالم استناداً الى علمه ؟ واذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك ؟ هذه أسئلة ومعها أسئلة اخرى أيضاً في المسألة تتطلب جواباً علمياً ، وبحثاً على ضوء أساليب الاستنباط في الاسلام.
    واريد ان اكون حراً واذن فاني استميح الاستاذ ان الاحظ ان تزكية موقف الخليفة والصديقة معاً أمر غير ممكن ، لأن الامر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه وانتهاء المطالبة الى هذا الحد لوسعنا ان نقول ان الزهراء طلبت حقها في نفس الامر والواقع ، وان الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 39 )

    المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها ، لأنها عرفت انها لا تستحق فدكا بحسب النظام القضائي وسنن الشرع ، ولكننا نعلم ان الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بلغت مبلغ الاتهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.
    واذن فنحن بين اثنتين : احداهما ان نعترف بأن الزهراء قد ادعت باصرار ما ليس لها بحق في عرف القضاء الاسلامي والنظام الشرعي وان كان ملكها في واقع الامر ، والاخرى ان نلقي التبعة على الخليفة ونقول انه قد منعها حقها الذي كان يجب عليه ان يعطيها اياه أو يحكم لها بذلك على فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية ، فتنزيه الزهراء عن ان تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع والارتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان الا اذا توافق النقيضان.
    ولنترك هذا الى مناقشة اخرى ، فقد اعتبر الاستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بينة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن حدود الشريعة لانه لو اعطى فدكا لفاطمة لارضاها بذلك وارضى الصحابة برضاها ، ولنفترض معه ان حدود القانون الاسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأن فدكا صدقة ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الاستاذ بأنهم يرضون بذلك ؟ .. أكان هذا محرماً في عرف الدين أيضاً ؟ أو أن أمراً ما اوحى اليه بأن لا يفعل ذلك ؟ بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته وعداً قاطعاً بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامة ؟
    وأما ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما اذا كان سخيفاً حقاً.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 40 )

    اذا عرفنا ان مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً ولا جدالاً ، وأن درس مسائل السالفين ليس كفراً ولا زندقة ولا تشكيكاً في أعلام النبوة كما كانوا يقولون ، فلنا ان نتساءل عما بعث الصديقة الى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف او لم يشأ ان يعرف هيبة للسلطة المهيمنة أو جلالاً للقوة المتصرفة يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد ، وشررها المتطاير ، وبقي الحكم من اشعاعة نور متألقة تلقي ضوءاً عليه ، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار بل كانت بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الاخير ، ويومها الاخير ، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات ونتائج ، ولا تتعرض لضعف او تردد.
    وما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة ، أو بالاحرى هدف الخليفة ( رضي الله عنه ) نفسه في ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط أو لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أولياته ثم يذكر بينها خصومة أهل البيت ، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه وموقفه السلبي بل الايجابي المعاكس أو انه كان منقاداً للقانون ، وملتزماً بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون ، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل وان لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة ، واعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض او اجتماع الغرضين على نقطة واحدة ، وبالاحرى ان تقوم على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها آمال بواسم ، وموجات من الاحلام ضحك لها الخليفة كثيراً وسعى في سبيلها كثيراً أيضاً.
    اننا ندرك بوضوح ، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الاكبر قد توفرت له


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 41 )

    كل بواعث الثورة على الاوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الاُمر.
    واننا نحسن أيضاً اذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عما تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.
    واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الاسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الاولى الى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح الى النقطة المستعدة في طبيعتها الى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.
    أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الاول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.
    والآخر موقف ينعكس فيه الاُمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.
    وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده الى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري الى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 42 )

    الزهراء فشلت بعد ان جعلت الخليفة يبكي ويقول اقيلوني بيعتي والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنى انها لم تخرج الى حرب ولم تشق عصا طاعة.
    هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والاشخاص فلماذا لا تنتهيان الى اسباب متقاربة وبواعث متشابهة.
    ونحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع الى الايام الاولى في حياة علي وعائشة حينما كان المنافسة على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين زوجته وبضعته.
    ومن شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتثبت مشاعراً مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الانصار والاصدقاء ، وقد اتسعت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي فلا بد ان تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل ام المؤمنين على حسابه في بيت النبي .
    نعم ان انقلاب ام المؤمنين انما هو من وحي ذكريات تلك الاُيام التي نصح فيها علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن يطلقها في قصة الافك المعروفة.
    وهذا النصح ان دل على شيء فانه يدل على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته وعلى ان الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل علياً وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة واطوارها.
    نعرف من هذا ان الظروف كانت توحي الى الخليفة الاول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء ولا ننسى انه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم تقدم علي الى ذلك فأجابه
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 43 )

    النبي الى ما أراد وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة اذا كان شخصاً طبيعياً يشعر بما يشعر به الناس ويحس كما يحسون شعوراً بالخيبة والغبطة لعلي ـ اذا احتطنا في التعبير ـ وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه.
    ولنلاحظ أيضاً ان أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء الا لأن الوحي شاء ان يضع امامه مرة اخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.
    ولابد انه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الاولية لدى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الابناء.
    وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الاوقات ان فاطمة هي التي دفعت بأبيها الى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له ام المؤمنين التي كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً.
    ان التاريخ لا يمكننا ان نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الامر الذي تجمع عليه الدلائل ان من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف وان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها ان لا تسكت اذا اراد المنافسون ان يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 44 )

    هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة الوان أوضحها وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.
    وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء. وانما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والاشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث الى الثورة ويهدف الى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل امة انقلبت على اعقابها.
    وعلى هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز الى المعنى العظيم ولا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة. وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في افقها محدودة في دائرتها الى ثورة واسعة النطاق رحيبة الافق.
    ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة ، فهل ترى نزاعاً مادياً ؟ أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا ؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.
    كلا! . بل هي الثورة على اسس الحكم والصرخة التي ارادت فاطمة ان تقتلع بها الحجر الاساسي الذي بنى عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.
    ويكفينا لاثبات ذلك ان نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد امام الخليفة وبين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين والانصار فانها دارت اكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه الخالدة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 45 )

    في الاسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة الى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه وورثة انبيائه في الخلافة والحكم والفات المسلمين الى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل وانقلابهم على اعقابهم ، وورودهم غير شربهم ، واسنادهم الامر الى غير أهله ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم الى ترك الكتاب ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والامامة.
    فالمسألة اذن ليست مسألة ميراث ونحلة الا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا ، وليست مطالبة بعقار أو دار ، بل هي في نظر الزهراء مسألة اسلام وكفر ، ومسألة ايمان ونفاق ، ومسألة نص وشورى
    وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ، اذ قالت فيما قالت : أين زحزحوها عن رواسي الرسالة. وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافؤا عن زمام نبذه اليه رسول الله (ص) لاعتلقه وسار اليهم سيراً سجحا لا تكلم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح فضفاضه ، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل الا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وان تعجب فقد اعجبك الحادث الى أي لجأ استندوا وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلا استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أفمن


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 46 )

    يهدي الى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون.
    ولم يؤثر عن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا ، وأقرب الى ذوق أبيها في الحياة ؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته ؟ أو أن الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة ، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن اوضاع الحكم.
    وأكبر الظن ان الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها ، وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي وتكتمل بذلك البينة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث ، بل القضاء على نتائج السقيفة وهو لا يحصل باقامة البينة في موضوع فدك ، بل بان تقدم البينة لدى الناس جيمعاً على انهم ضلوا سواء السبيل. وهذا ما كانت تريد ان تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.
    ولنستمع الى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت من المسجد فصعد المنبر وقال : أيها الناس ما هذه الدعة الى كل قالة لأن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألا من سمع فليقل. ومن شهد فليتكلم انما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة كام طحال أحب اهلها اليها البغي. ألا أني لو اشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت اني ساكت ما تركت ، ثم التفت الى الانصار وقال : قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سفهائكم واحق من لزم عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا أني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 47 )

    وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصية الخليفة ، ويلقي ضوءاً على منازعة الزهراء له ، والذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة وانطباعات الخليفة عنها ، فانه فهم حق الفهم ان احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وانما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم وتظلماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الاسلام ، فلم يتكلم الا عن علي فوصفه بانه ثعالة وانه مرب لكل فتنة وانه كام طحال وان فاطمة ذنبه التابع له ، ولم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.
    ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من ان علياً والعباس كانا يتنازعان في فدك في أيام عمر بن الخطاب فكان علي يقول ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك رسول الله وأنا وارثه ويتخاصمان الى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول انتما أعرف بشأنكما اما أنا فقد سلمتها اليكما.
    فقد نفهم من هذا الحديث اذا كان صحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً وان موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة والا فلما أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا وسلم فدكاً الى العباس وعلي وموقفه منهما يدل على انه سلم فدكاً اليهما على اساس انها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل ، اذ لو كان على هذا الوجه لما صح لعلي والعباس ان يتنازعا في أن فدكاً هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة او تركة من تركاته التي يستحقها ورثته وما اثر هذا النزاع ولو فرض انها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه ، ولفض عمر النزاع وعرفها انه لا يرى فدكاً مالاً موروثاً ولا من املاك فاطمة وانما اوكل امرها اليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها كما ان عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه انه لم يكن واثقاً بنحلة رسول


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 48 )

    الله ( صلى الله عليه وآله ) فدكا لفاطمة فليس من وجه لتسليمها الى علي والعباس الا الارث.
    واذن ففي المسألة تقديران ( أحدهما ) ان عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الارث ( والآخر ) انه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر تأويله ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك ، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر والا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث اذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم ، يومئذ ، ولماذا يخفي تأويله وتفسيره ، وهو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي أو الخليفة الاول فيما اعترضهما من مسائل.
    واذا عرفنا ان الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه ، لأن الناس لم يعتادوا ان يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم او في تسليم المواريث الى أهلها ، فلم تكن فاطمة في حاجة الى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لابد انها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم والاستيلاء عليها.
    ( أقول ) : اذا عرفنا هذا وان الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل ان تنتزع منها : ـ تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على اسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ واتهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.


    * * *

    واذا أردنا ان نفهم المنازعة في اشكالها واسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها وتأثيرها كان لزاماً علينا ان نعرض تلك الظروف عرضاً


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 49 )

    مستعجلاً ونسجل صورة واضحة الالوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.
    ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الاول بذلك الا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلون السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة ونزعها لشكلها الاول الذي يستمد قوته وسلطته من السماء.
    فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة نقطة التحول في تأريخ الاسلام التي وضعت حداً لأفضل العهود وأعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.
    وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الاخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت اقدس اداة وصل بين السماء والارض وابركها وأفيضها خيراً ونعمة واجودها صقلاً للانسانية اذ لفظ سيد البشر نفسه الاخير وطارت روحه الى الرفيق الاعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس الى بيت النبوة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوة التي كانت مفتاح مجد الامة وسر عظمتها واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر وترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوة وجلال النبي العظيم وقد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء وأبر الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به الانسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوا ما يستيقظ عليه نائم.
    وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية ، والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة ، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن أن رسول الله (ص)


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 50 )

    لم يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ممن ارجف بموته : لا أسمع رجلاً يقول مات رسول الله الا ضربته بسيفي.
    والتفت الانظار الى مصدر الصوت ليعرفوا القائل فوجدوا عمر ابن الخطاب قد وقف خطيباً بين الناس وهو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعاً وشاعت الحياة في الناس من جديد فتكلموا وتحدثوا في كلام عمر والتف بعضهم حوله.
    واكبر الظن ان قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب وحاول جماعة منهم ان يجادلوه في رأيه ولكنه بقي شديداً في قوله ثابتاً عليه والناس يتكاثرون حوله ويتكلمون في شأنه ويعجبون لحاله حتى جاء أبو بكر وكان حين توفي النبي في منزله بالسنح والتفت الى الناس وقال من كان يعبد محمداً فانه قد مات ومن كان يعبدالله فانه حي لا يموت قال الله تعالى ( انك ميت وانهم ميتون ) وقال ( أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ) ولما سمع عمر ذلك اذعن واعترف بموت رسول الله (ص) وقال كأني ما سمعتها ـ يعني الآية.
    ونحن لا نرى في هذه القصة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة كان بطل ذلك الظرف العجيب. والرجل الذي تهيأت له معدات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر لأن المسألة ليست من الأهمية بهذا الحد ولم يحدثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر لعمر في رأيه فلم يكن الا رأياً شخصياً لا خطر له ولا شأن للقضاء عليه.
    وقد يكون من حق البحث ان الاحظ ان شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجهه الى الناس كان شرحاً باهتاً في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شيء ، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبرى على ان قال ان من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر اذا كان يريد ان يقدم في نفسه زعيماً لتلك الساعة تأبيناً للفقيد الاعظم يتفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات والحسرات يومئذ.
    ومن الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمداً فانه قد مات وهل كان في كلام عمر معنى يدل على انه كان يعبد رسول الله (ص) أو كانت قد سرت موجة من الارتداد والالحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته وصبره وتماسكه من عقيدته حتى يعلن لهم ان الدين ليس محدوداً بحياة رسول الله لأنه ليس بالاله المعبود.
    اذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم ولا علاقة برأي عمر ولا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم وشؤونهم وقد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.
    وكان يعاصر هذا الاجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للانصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ودعاهم فيه الى اعطائه الرئاسة والخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فان أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعترته فقال قوم من الانصار نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد فهذا اول الوهن وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفيه أبو بكر فارسل اليه ان اخرج الي فارسل اني مشغول فارسل اليه عمر ان اخرج فقد حدث امر لابد ان تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنهم أولياؤه وعترته ، ثم قال نحن الامراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة ولا نقضي دونكم الامور ، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الانصار املكوا عليكم أمركم فان الناس في ظلكم ولن


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 52 )

    يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدر أحد الا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة وأولوا العدد والكثرة وذووا البأس والنجدة وانما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم اموركم فان أبى هؤلاء الا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ولا تمتنع العرب ان تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمّد ونحن اولياؤه وعشيرته ، فقال الحباب بن منذر يا معشر الانصار املكوا ايديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر فان أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وانتم احق بهذا الاُمر منهم فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الاسد والله ان شئتم لنعيدها جذعة فقال عمر اذن يقتلك الله ، قال بل اياك يقتل فقال أبو عبيدة يا معشر الانصار انكم اول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير ، فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال : يا معشر الانصار الا ان محمداً من قريش وقومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الاُمر فقال أبو بكر هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الاُمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله (ص) في الصلاة وهي أفضل الدين أبسط يدك فلما بسط يده ليبايعان سبقهما بشير من سعد فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق أنفست على ابن عمك الامارة ، فقال أسيد ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً ، وبايعوا أبا بكر واقبل الناس يبايعونه من كل جانب(1).
    ونلاحظ في هذه القصة ان عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة
    ____________
    (1) الجزء الأول من شرح النهج ص127 ـ 128 .
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 53 )

    واجتماع الانصار فيها واخبر ابا بكر بذلك ومادمنا نعلم ان الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلابد انه ترك البيت النبوي بعد ان جاء أبو بكر واقنعه بوفاة النبي فلماذا ترك البيت ولما اختص أبا بكر بنبأ السقيفة الى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً معقولاً أولى من ان يكون في الامر اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.
    الاول : تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق واصراره على استدعائه بعد اعتذاره بانه مشغول حتى اشار الى الغرض ولمح اليه خرج مسرعاً وذهبا على عجل الى السقيفة ، وكان من الممكن ان يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجييء ، فهذا الحرص لا يمكن ان نفسره بالصداقة التي كانت بينهما ، لأن المسألة لم تكن مسألة صداقة ولم يكن أمر منازعة الانصار يتوقف على أن يجد عمر صديقاً له بل على أن يستعين بمن يوافقه في أحقية المهاجرين أياً كان.
    ولا ننسى ان نلاحظ انه أرسل رسولاً الى أبي بكر ، ولم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت تسامع الهاشميين أو غير الهاشميين به وقد طلب من الرسول في المرة الثانية ان يخبره بحدوث أمر لابد ان يحضره ونحن لا نرى حضور أبي بكر لازماً في ذلك الموضوع الا اذا كانت المسألة مسألة خاصة وكان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقاً.
    الثاني : موقف عمر من مسألة وفاة النبي (ص) وادعاؤه انه لم يمت ولا يستقيم في تفسيره ان نقول ان عمر ارتبك في ساعة الفاجعة وفقد صوابه وادعى ما ادعى . لأن حياة عمر كلها تدل على انه ليس من هذا الطراز وخصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصة مباشرة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 54 )

    فالذي تؤثر المصيبة عليه الى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج ويجادل ويقاوم ويناضل.
    ونحن نعلم أيضاً ان عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بأيام أو بساعات حينما اشتد برسول الله (ص) المرض واراد ان يكتب كتاباً لا يضل الناس بعده فعارضه عمر وقال ان كتاب الله يكفينا وان النبي يهجر او قد غلب عليه الوجع كما في صحاح السنة فكان يؤمن بأن رسول الله يموت وان مرضه قد يؤدي الى موته والا لما اعترض عليه.
    وقد جاء في تاريخ ابن كثير ان عمر بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبو بكر على عمر قبل ان يتلوها أبو بكر فلم يقتنع عمر وانما قبل كلام أبي بكر خاصة واقتنع به.
    فما يكون تفسير هذا كله اذا لم يكن تفسيره ان عمر شاء ان يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا اليها وتتجه الافكار نحوها تفنيداً أو تأييداً مادام أبو بكر غائباً لئلا يتم في امر الخلافة شيء ويحدث أمر لابد ان يحضره أبو بكر ـ على حد تعبيره ـ وبعد ان أقبل أبو بكر اطمأن باله وامن من تمام البيعة للبيت الهاشمي مادام للمعارضة صوت في الميدان وانصرف الى تلقط الاخبار حادساً بما سيقع فظفر بخبر ما كان يتوقعه .
    الثالث : شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة ، فقد تولى أبو بكر الخلافة وأبو عبيدة المال وعمر القضاء(1) وفي مصطلحنا اليوم ان الاول تولى السياسة العليا والثاني تولى السياسة الاقتصادية والثالث تولى السلطات القضائية وهي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم
    ____________
    (1) راجع الجزء الثاني من تاريخ ابن الاثير صفحة 161.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 55 )

    الاسلامي وتقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الاسلامية يومئذ بهذا الاسلوب على الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأني بالصدفة على الأكثر ولا يكون مرتجلا.
    الرابع : قول عمر حين حضرته الوفاة لو كان أبو عبيدة حياً لوليته(1).
    وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت الى عمر بهذا التمني لأنه كان يعتقد أهلية علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حياً وميتاً(2).
    وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بها ـ بزعم الفاروق ـ هي السبب في ذلك ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يخصه بالاطراء ، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر باكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي كما تقرر ذلك صحاح السنة والشيعة.
    الخامس : اتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية ، كما سنرى في الفصل الآتي.
    السادس : قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ للفاروق ( رضي الله عنه ) : احلب يا عمر حلباً لك شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً(3).
    ومن الواضح انه يلمح الى تفاهم بين الشخصين على المعونة المتبادلة واتفاق سابق على خطة معينة والا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتسع لتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطرا من الحلب.
    ____________
    (1) شرح النهج ج1 ص64.
    (2) الانساب للبلاذري ج5 ص16.
    (3) ج2 ص5 من شرح النهج.

    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 56 )

    السابع : ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان الى محمّد بن أبي بكر ( رضوان الله عليه ) في اتهام أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي والتنظيم السري لخطوط الحملة على الامام اذ قال له فيما قال : فقد كنا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا فلما اختار الله لنبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده واتم وعده واظهر دعوته فابلج حجته وقبضه إليه ( صلوات الله عليه ) كان أبوك والفاروق أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره على ذلك اتفقا واتسقا ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطا عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأراد به العظيم(1).
    ونحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر وعمر (رض) للبيعة من الامام بثم على كلمتي اتفقا واتسقا. وهو قد يشعر بأن الحركة كانت منظمه بتنظيم سابق وان الاتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقاً على الايجابيات السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.
    ولا أريد أن أتوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا ولكن هل لي أن الاحظ على ضوء ذلك التقدير التاريخي ان الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوره كثير من الباحثين بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلاً على تطلعه للأمر فإنه بعد أن أعلن الشروط الاساسية للخليفة شاء ان يحصر المسألة فيه فتوصل الى ذلك بأن ردد الأمر بين صاحبيه الذين لن يتقدما عليه وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد ان يتعين وحده للامر.
    فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة الى تطبيق تلك الصورة التي قدمها للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدي الا اليه كان معناه أنه أراد أن يسلب الخلافة من الانصار ويقرها في شخصه في آن واحد ولذا لم يبد تردداً أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر
    ____________
    (1) مروج الذهب ج2 ص315.

    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 57 )

    عليه صاحباه وعمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنّه كان مداوراً سياسياً بارعاً في يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنّه أحسد قريش(1).
    ونجد فيما يروي عن الخليفتين في أيام رسول الله (ص) ما يدل على هوى سياسي في نفسيتهما وانهما كانا يفكران في شيء على أقل تقدير فقد ورد في طرق العامة ان رسول الله (ص) قال : ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا هو يا رسول الله قال : لا ، قال عمر : أنا هو يارسول الله ، قال : لا ولكن خاصف النعل يعني علياً.
    والمقاتلة على التأويل انما تكون بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمقاتل لابد أن يكون أمير الناس فتلهف كل من أبي بكر وعمر على أن يكون المقاتل على التأويل مع ان القتال على التنزيل كان متيسراً لهما في ايام رسول الله (ص) ولم يشاركا فيه بنصيب قد يدل على ذلك الجانب الذي نحاول ان نستكشفه في شخصيتهما.
    بل اريد ان اذهب أكثر من هذا فألاحظ ان اناساً متعددين كانوا يعملون في صالح أبي بكر وعمر(2) وفي مقدمتهما عائشة وحفصة اللتان اسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على
    ____________
    (1) راجع شرح النهج ج1 ص 125.
    (2) وقد سئل النبي صلى الله عليه وآله عندما هدد طائفة من قريش برجل قرشي امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابهم على الدين ان ذلك الرجل هل هو ابو بكر فقال لا فقيل فعمر قال لا الخ ، راجع مسند أحمد ج 3 ص 33 والرواية تهمل اسم السائل الذي توهم ان الشخص الذي وصفه النبي صلى الله عليه وآله هو أبو بكر أو عمر واذا لم يكن أبو بكر وعمر معروفين بشجاعة وبسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فلابد أن أمرا آخر دعى السائل الى ان يسأل ذينك السؤالين والبقية اتركها لك.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 58 )

    انها الظرف الطبيعي للوصية ولابد انهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول ان بعض نساء النبي ارسلن رسولا الى اسامة لتأخيره عن السفر(1) فاذا علمنا هذا وعلمنا ان هذا لم يكن باذن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والا لما أمره بالاسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك وان سفره مع من معه كان يعيق عن تحقق النتائج التي انتجها يوم السقيفة خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على اسلوب طبيعي يعزر ما ذهبنا اليه من رأي.
    ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تجنيد جيش اسامة معروف وهو انه احس بأن اتفاقاً ما بين جملة من أصحابه على أمر معين ، وقد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة لعلي.
    ونحن ان شككنا في هذا فلا نشك في أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جعل أبا بكر وعلياً في كفتي الميزان مراراً امام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم انهما لا يستويان في الميزان العادل والا فهل ترى اعفاء أبي بكر من قراءة التوبة على الكافرين بعد ان كلف بذلك امراً طبيعياً ولماذا انتظر الوحي وصول الصديق الى منتصف الطريق لينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويأمره باسترجاعه وارسال علي للقيام بالمهة أفكان عبثاً أو غفلة أو امراً ثالثاً وهو ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه ووصيه هو أبو بكر فشاء وشاء له ربه تعالى أن يرسل ابا بكر ثم يرجعه بعد ان يتسامع الناس جميعاً بارساله ليرسل علياً الذي هو كنفسه ليوضح للمسلمين مدى الفرق بين الشخصين وقيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه الله على تبليغ سورة الى جماعة فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة.
    ____________
    (1) راجع الجزء الاول من شرح النهج ص 53.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 59 )

    اذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع ان نختصره بنتيجتين : الاولى : ان الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها بشغف ولهفة.
    الثانية ان الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزباً سياسياً مهما لا نستطيع ان نضع له صورة واضحة الخطوط ، ولكنا نستطيع ان نؤكد وجوده بدلائل متعددة ، ولا ارى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من مقامهم ، ولا بأس عليهم ان يفكروا في أمور الخلافة ويتفقوا فيها على سياسة موحدة اذا لم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نص في الموضوع ولا يبرؤهم اذا كان النص ثابتاً بعدهم عن الهوى السياسي وارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة من المسؤولية أمام الله وفي حكم الضمير.


    * * *

    لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وشرح ما يدل عليه من نفسية المجتمع الاسلامي ومزاجه السياسي وتطبيق قصة السقيفة على الاصول العميقة في الطبيعة العربية ، فان ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع وانما أريد ان ألاحظ ان الحزب الثلاثي الذي قدر له ان يلي الامور يومئذ كان له معارضون على ثلاثة اقسام :
    الاُول : ـ الانصار الذين نازعوا الخليفة وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ووقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية وانشقاق الانصار على انفسهم لتمكن النزعة القبلية من نفوسهم.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 60 )

    الثاني : ـ الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب ويسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان.
    الثالث : ـ الهاشميون واخصاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم وجماعات من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحكم الفطرة ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.
    واشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الاول في سقيفة بني ساعدة وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عما زعموا من حقوق على نقطة كانت ذات وجاهة في نظر كثير من الناس فان قريشاً ما دامت عشيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخاصته فهي أولى به من سائر المسلمين وأحق بخلافته وسلطانه.
    وقد انتفع أبو بكر وحزبه باجتماع الانصار في السقيفة من ناحيتين :
    ( الاولى ) ان الانصار سجلوا على انفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك الى صف علي ويخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما سنوضحه قريباً.
    ( الثانية ) ان أبا بكر الذي خدمته الظروف فاقامت منه المدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الانصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق بمصالحه من ظرف السقيفة اذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم الى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في ذلك اليوم.
    وخرج أبو بكر من السقيفة خليفة وقد بايعه جمع من المسلمين الذين اخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة او عز عليهم ان يتولاها سعد بن عبادة.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 61 )

    ولم يعبأ الحاكمون بمعارضة الامويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (ص) لجباية الاموال لعلمهم بطبيعة النفس الاموية وشهواتها السياسية والمادية فكان من السهل كسب الامويين الى جانب الحكم القائم كما صنع أبو بكر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصح كما تدل الرواية(1) أن يدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم(2) ثم جعل للأمويين بعد ذلك حظاً من العمل الحكومي في عدة من المرافق الهامة.
    وهكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين ولكن هذا النجاح جره الى تناقض سياسي واضح لأن ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين الى أن يجعلوا للقرابة من رسول الله (ص) حساباً في مسألة الخلافة ويقروا مذهب الوراثة للزعامة الدينية غير ان الحال تبدلت بعد موقف السقيفة والمعارضة اتخذت لها لوناً جديداً وواضحاً كل الوضوح يتلخص في أن قريشاً اذا كانت أولى برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من سائر العرب لأنه منها فبنو هاشم أحق بالأمر من بقية قريش.
    وهذا ما أعلنه علي حين قال : اذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله (ص) كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة فان فلجت حجتهم كانت لنا دونهم والا فالانصار على دعوتهم ، واوضحه العباس لابي بكر في حديث له معه اذ قال له : وأما قولك نحن شجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فانكم جيرانها ونحن أغصانها.
    ____________
    (1) راجع شرح النهج الجزء الاول ص 130.
    (2) قد نستطيع ان نجيب على ضوء هذه القصة عما عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قدر لهما أن يقفا موقف علي الذي كان يفرض عليه ان يغري كثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال والجاه.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 62 )

    وقد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين لأن ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من العمل الايجابي ضد الحكومة القائمة : ـ
    ( احدهما ) ضم الاحزاب المادية الى جانبه كالأمويين والمغيرة بن شعبة وأمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع ويفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان كما نعرف ذلك من كلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله الى المدينة وحديثه مع علي وتحريضه له على الثورة وميله الى جانب الخليفة وسكوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين التي كان قد جباها في سفره وموقف عتاب بن أسيد الذي سنشير الى سره في هذا الفصل.
    واذن فقد كان الهوى المادي مستولياً على جماعة من الناس يومئذ.
    ومن الواضح ان علياً كان يتمكن من اشباع رغبتهم بما خلفه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الخمس وغلات أراضيه في المدينة وفدك التي كانت ذات نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق.
    والطور الآخر من المقاومة التي كان علي مزوداً بامكانياتها ما لمح اليه بقوله : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ، وأعني بذلك أن الفكرة العامة يومئذ التي اجمعت على تقديس أهل البيت والاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت سنداً قوياً للمعارضة.
    وقد رأى الحزب الحاكم ان موقفه المادي حرج جداً لأنّ اطراف المملكة التي تجبى منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد الا إذا استقرت دعائمه في العاصمة والمدينة بعد لم تخضع له خضوعاً اجماعياً.
    ولئن كان أبو سفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحكومة فمن الممكن أن يفسخ المعاملة اذا عرض عليه شخص آخر اتفاقاً أكثر منها


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 63 )

    ربحاً وهذا ما كان يستطيع علي أن يقوم به في كل حين فيجب والحالة هذه أن تنتزع من علي الذي لم يكن مستعداً للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي صارت مصادر من مصادر الخطر على مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء الأنصار على نصرتهم وعدم قدرة المعارضين على انشاء حزب من أصحاب المطامع والأهواء يومذاك.
    ولا يجوز ان نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقاً على طبيعة السياسة التي لابد من انتاجها. وما دمنا نعلم ان الصديق اشترى صوت الحزب الأموي بالمال فتنازل لأبي سفيان عن جميع من كان عنده من أموال المسلمين وبالجاه أيضاً اذ ولى ابن أبي سفيان فقد جاء ان أبا بكر لما استخلف قال أبو سفيان مالنا ولأبي فصيل انما هي بنو عبدمناف فقيل له انه قد ولى ابنك قال : وصلته رحم(1).
    فلا غرابة في ان ينتزع من أهل البيت اموالهم المهمة ليركز بذلك حكومته أو أن يخشى من علي (ع) ان يصرف حاصلات فدك وغير فدك على الدعوة الى نفسه.
    وكيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق وهو الذي قد اتخذ المال وسيلة من وسائل الاغراء واكتساب الأصوات حتى اتهمته بذلك معاصرة له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد ان الناس لما اجتمعوا على أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار فبعث الى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت : ما هذا ؟ قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت : اتراشوني عن ديني والله لا اقبل منه شيئاً فردته عليه(2).
    ____________
    (1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص202.
    (2) شرح النهج ج1 ص133.

    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 64 )

    وأنا لا أدري من اين جاء الى الخليفة ( رضي الله تعالى عنه ) هذا المال ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه وحدها ان لم يكن من بقية الاموال التي خلفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان اهل البيت يطالبون بها.
    وسواء اصح هذا التقدير او لا فان المعنى الذي نحاول فهمه من هذه الرواية هو أن بعض معاصري الصديق احس بما نحس به على ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلك الأيام.
    ولا ننس ان نلاحظ ان الظروف الاقتصادية العامة كانت تدعو الى الارتفاع بمالية الدولة والاهتمام باكثارها استعداداً للطوارىء المترقبة فلعل هذا حدى بالحاكمين الى انتزاع فدك كما يتبين ذلك بوضوح من حديث لعمر مع أبي بكر يمنعه فيه عن تسليم فدك الى الزهراء ويعلل ذلك بان الدولة في حاجة الى المال لا نفاقه في توطيد الحكم وتأديب العصاة والقضاء على الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدون.
    ويظهر من هذا رأي للخليفتين في الملكية الفردية هو ان للخليفة الحق في مصادرة اموال الناس لانفاقها في امور المملكة وشؤون الدولة العامة بلاتعويض ولا استئذان فليس للفرد ملكية مستقرة لامواله وعقاره في حال احتياج السلطات الى شيء منها وقد ذهب الى هذا الرأي كثير من الخلفاء الذين انتهى اليهم الامر بعد أبي بكر وعمر فامتلأ تأريخهم بالمصادرات التي كانوا يقومون بها غير ان أبا بكر لم يطبق هذا الرأي الا في املاك بنت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة.
    وقد تردد الحزب الحاكم في معالجة الاسلوب الثاني من المعارضة بين اثنتين : ـ
    « احداهما » : أن لا يقر للقرابة بشأن في الموضوع ومعنى هذا انه ينزع عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي البسها اياه.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 65 )

    « والاخرى » : ان يناقض نفسه فيضل ثابتاً على مبادئه التي اعلنها في السقيفة ولا يرى حقاً للهاشميين ولا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال أو يراه لهم ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة فيه مقابلة حكم قائم ووضع تعاقد عليه الناس.
    واختارت الفئة المسيطرة ان تثبت على آرائها التي روجتها في مؤتمر الانصار وتعترض على المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست الا احداثاً للفتنة المحرمة في عرف الاسلام.
    وهذا هو الاسلوب الوقتي الذي اتخذه الحاكمون للقضاء على هذا الجانب من المعارضة الهاشمية وقد ساعدتهم الظروف الاسلامية الخاصة يومئذ على نجاحه كما سنوضحه.
    غير اننا نحس ونحن ندرس سياسة الحاكمين بأنهم انتهجوا منذ اللحظة الاولى سياسة معينة تجاه آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للقضاء على الفكرة التي امدت الهاشميين بقوة على المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها ونستطيع ان نصف هذه السياسة بانها تهدف الى الغاء امتياز البيت الهاشمي وابعاد انصاره والمخلصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الاسلامية يومئذ وتجريده عما له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الاسلامية.
    وقد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية :
    الاولى : سيرة الخليفة وأصحابه مع علي التي بلغت من الشدة أن عمر هدد بحرق بيته وان كانت فاطمة فيه ، ومعنى هذا اعلان أن فاطمة وغير فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله ومن صور ذلك العنف وصف الخليفة لعلي بأنه مرب لكل فتنة وتشبيهه


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 66 )

    له بام طحال أحب الى أهلها اليها البغي وقد قال عمر لعلي بكل وضوح ان رسول الله (ص) منا ومنكم.
    « الثاني » : ان الخليفة الاول لم يشارك شخصاً من الهاشميين في شأن من شؤون الحكم المهمة ولا جعل فيهم والياً على شبر من المملكة الاسلامية الواسعة مع أن نصيب الامويين في ذلك كان عظيماً.
    وأنت تفهم بوضوح ان هذا وليد سياسة متعمدة من محاورة وقعت بين عمر وابن عباس أظهر فيها تخوفه من تولية الثاني حمص لأنه يخشى اذا صار الهاشميون ولاة على أقطار المملكة الاسلامية أن يموت وهم كذلك فيحدث في أمر الخلافة مالا يريد(1).
    ونحن اذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيت من البيوت الطامحة الى السلطان بالولاية في الاقطار الاسلامية يهيؤهم لنيل الخلافة والمركز الاعلى ولاحظنا ان الامويين ذوي الالوان السياسية الواضحة كان فيهم ولاة احتلوا الصدارة في المجالات الادارية أيام أبي بكر وعمر وأضفنا الى ذلك أنه كان يعلم على أقل تقدير بان الشورى التي ابتكرها سوف تجعل من شيخ الامويين عثمان خليفة خرجنا بنتيجة مهمة وتقدير تاريخي تدل على صحته عدة من الظواهر وهو أن الخليفتين كانا يهيئان للسلطان الاموي أسبابه ومعداته وهما يعلمان حق العلم ان انشاء كيان سياسي من جديد للامويين خصوم بني هاشم القدامى معناه تقديم المنافس للهاشميين في زعيم اموي وتطور المعارضة الفردية للبيت الهاشمي الى معارضة بيت مستعد للنزاع والمنافسة أكمل استعداد.
    ومن شأن هذه المعارضة أنها تطور وتتسع لأنها ليست متمثلة في
    ____________
    (1) راجع مروج الذهب على هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الاثير ص 135.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 67 )

    شخص بل في بيت كبير ، ونستطيع أن نفهم من هذا ان سياسة الصديق وعمر هي التي وضعت الحجر الاساسي لملك بني امية حتى يضمنا بذلك المنافس لعلي وآل علي على طول الخط(1).
    « الثالث » عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجهه لفتح الشام بعد أن أسندها اليه لا لشيء الا لأن عمر نبهه الى نزعته الهاشمية وميله الى آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذكره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )(2).
    ولو كنا نريد التوسع في دراسة هذه الناحية لعطفنا على هذه الشواهد قصة الشورى العمرية التي نزل فيها عمر ( رضي الله تعالى عنه ) بعلي (ع) الى صف اشخاص خمسة لا يكافئون علياً في شيء من معانيه المحمدية ، وقد كان الزبير وهو أحد الخمسة يرى يوم توفي الرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان الخلافة حق شرعي لعلي فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله واعده للمنافسة بعد حين اذ جعله أحد الستة الذين فيهم علي .
    واذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول ان تساوي بين بني هاشم وسائر الناس وترتفع برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الاختصاص بهم لتنتزع بذلك الفكرة التي كانت تزود الهاشميين بطاقة على المعارضة ولئن اطمأن الحاكمون الى أن علياً لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة على الاسلام فهم لا يأمنون من انتفاضة بعد ذلك في كل حين ومن الطبيعي حينئذ ان يسارعوا الى الاجهاز على كلتا قوتيه المادية
    ____________
    (1) وهذا هو السر السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصة الشورى وقد جاء عن عمر انه هدد الستة الذين أوكل اليهم الامر بمعاوية وتنبأ لهم بأنه سيملك الامر كما في شرح النهج ج1 ص62 وهذا ان دل على فراسته فهو على لون سياسته أدل.
    (2) راجع شرح النهج ج1 ص135.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 68 )

    والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل ان يسبقهم الى حرب اكول.
    ومن المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدك فهو موقف تلاقى فيه الغرضان وتركز على الخطين الاساسيين لسياسته لأن الدواعي التي بعثته الى انتزاع فدك كانت تدعوه الى الاستمرار على تلك الخطة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قوياً في عرف الحاكمين يومذاك ويعزز بها سلطانه والا فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته الوعد القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير ووجوه المصلحة العامة(1) الا أنه خاف منها أن تفسر وعدها بما يتفق مع صرفها لغلات فدك في المجالات السياسية وما الذي صده عن ارضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصته ونصيب الصحابة اذا صح ان فدكاً ملك للمسلمين سوى انه اراد ان يقوي بها خلافته.
    وأيضاً فاننا اذا عرفنا ان الزهراء كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته الى نفسه ودليلاً يحتج به انصار الامام على احقيته بالامر نستوضح ان الخليفة كان موفقاً كل التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة وجارياً على المنهج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق اذ اغتنم الفرصة المناسبة لافهام المسلمين بصورة لبقة وعلى اسلوب غير مباشر بأن فاطمة امرأة من النساء ولا يصح ان تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك فضلاً عن موضوع كالخلافة وانها اذا كانت تطلب ارضاً ليس لها بحق فمن الممكن ان تطلب لقرينها المملكة الاسلامية كلها وليس له فيها حق.
    ونخرج من البحث بنتيجة وهي ان تأميم الصديق لفدك يمكن تفسيره.
    1 ـ بأن الظرف الاقتصادي دعى الى ذلك.
    ____________
    (1) راجع شرح النهج ج 4 ص 80.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 69 )

    2 ـ بأن أبا بكر خشي ان يصرف علي ثروة قرينته في سبيل التوصل الى السلطان.
    وان موقفه من دعاوى الزهراء بعد ذلك واستبساله في رفضها قد يكون مرده الى هذين السببين :
    1 ـ الى مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضي الله عنه عرضنا لجملة من أسبابها فيما سبق.
    2 ـ وحدة سياسية عامة بنى عليها الصديق سيرته مع الهاشميين وقد تبيناها من ظواهر الحكم يومئذ.


    * * *

    لعل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للتضحية في سبيل الاسلام والاخلاص للمبدأ إخلاصاً جرده عن جميع الاعتبارات الشخصية وأقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجله بموقفه من خلافة الشورى وقدم بذلك في نفسه مثلاً أعلى للتفاني في المبدأ الذي صار شيئاً من طبيعته.
    ان كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد تمكن من محو ضلال الوثنية فقد استطاع ان يجعل من علي بما أفاض عليه من حقائق نفسه عيناً ساهرة على القضية الالهية فنامت فيه الحياة الانسانية بأهوائها ومشاعرها وصار يحيا بحياة المبدأ والعقيدة(1).
    ____________
    (1) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي مع الحق والحق مع علي . ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة راجع تاريخ بغداد للخطيب ج 14 ص 321 وتفسير الرازي ج1 ص111 وكفاية الطالب للكنجي ص 135 والمناقب لاخطب خوارزم ص 77 وقال «ص» : اللهم أدر الحق معه حيث دار ، راجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 125 وكنز العمال ج 6 ص 175 وجامع الترمذي ج 2 ص 213.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 70 )

    وان كان للتضحية الانسانية الفاضلة كتاب فأعمال علي عنوان ذلك الكتاب المشع باضواء الخلود(1).
    وان كان لمبادىء السماء التي جاء بها محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعبير عملي على وجه الارض فعلي هو تعبيرها الحي على مدى الدهور والاجيال.
    وان كان النبي (ص) قد خلف في أمته علياً والقرآن(2) فانما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لمعاني علي العظيم ولتكون معاني علي انموذجاً لمثل القرآن الكريم.
    وان كان الله تعالى قد جعل علياً نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في آية المباهلة(3) فلأجل أن يفهم المسلمون انه امتداد طبيعي لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشعاع متألق من روحه العظيمة.
    وان كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد خرج من مكة مهاجراً خائفاً على نفسه وخلف علياً على فراشه ليموت بدلا عنه فمعنى ذلك ان المبدأ المقدس هو الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما واذا كان لا بد للقضية الآلهية من شخص تظهر به وآخر يموت في سبيلها فيلزم أن يبقى رجلها الاول لتحيا به ويقدم رجلها الثاني نفسه قربانا لتحيا به أيضاً.
    وان كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد
    ____________
    (1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لضربة علي خير من عبادة الثقلين ، أو قال : لمبارزة علي لعمر أفضل من أعمال أمتي الى يوم القيامة ، راجع المستدرك للحاكم ج3 ص32.
    (2) قال رسول الله (ص) : اني تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، راجع الصواعق المحرقة ص 136.
    (3) راجع تفسير الرازي وأسباب النزول للواحدي.
    --------------------------------------------------------------------------------


    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center] (71 )

    والدخول فيه جنبا(1) فمفهوم هذا الاختصاص ان في معانيه معنى المسجد لأن المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادة وعلي هو الرمز الالهي الحي في دنيا الروح والعقيدة.
    وان كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه اذ قال المنادي : لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي(2) فانها عنت بذلك ان فتوة علي وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع الى مداها انسان ولا ترقى الى افقها بطولة الابطال واخلاص المخلصين.
    ومن مهزلة الأقدار ان هذه الفتوة التي قدسها الهاتف الالهي كانت عيبا في رأي مشايخ السقيفة ونقصاً في علي يؤاخذ عليه وينزل به عن الصديق الذي لم يكن يمتاز عليه الا بسنين قضاها كافراً مشركاً.
    وأنا لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية والاسلام في حياة شخص واحد مجداً يمتاز به عمن خلصت حياته كلها لله.
    ولئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوة الطبيعية التي تجعل الأجسام الدائرة حول المحور تسير على خط معين فلقد ظهرت في علي قبل مئات السنين قوة مثلها ولكنها ليست من حقائق الفيزياء بل من قوى السماء وهي التي جعلت من علي مناعة طبيعية للاسلام حفظت له مقامه الأعلى ما دام الامام حياً ومحوراً تدور عليه الحياة الاسلامية لتستمد منه روحانيتها وثقافتها وروحها وجوهرها سواء أكان على رأس الحكم أو لا.
    ____________
    (1) راجع مسند الامام أحمد ج 4 ص 369 ومستدرك الحاكم ج3 ص 125 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص 451 وتذكرة سبط ابن الجوزي ومناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي والصواعق لابن حجر والخصائص للنسائي.
    (2) ذكر ذلك الطبري في تاريخه ج3 ص 17 وابن هشام في سيرته وابن أبي الحديد في شرح النهج والخوارزمي في المناقب.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 72 )

    وقد عملت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه فجذبته الى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال : لولا علي لهلك عمر ، وظهر تأثيرها الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اسندت فيه مقدرات الخلافة الى عامة المسلمين ذلك الالتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب.
    ونعرف من هذا ان علياً بما جهزته السماء به من تلك القوة كان ضرورة من ضرورات الاسلام(1) التي لابد منها وشمساً يدور عليها الفلك الاسلامي بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحسب طبيعته التي لا يمكن ان تقاوم حتى التجأ الفاروق الى مسايرتها كما عرفت.
    ويتجلى لدينا أيضاً ان الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذ لأنه ـ مع كونه طفرة ـ يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصية الامام فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحني حتى تبلغ النقطة التي وصل اليها الحكم الأموي تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة على الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها الى نقطة معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في السير. وهذا الفصل الرائع من عظمة الامام يستحق دراسة وافية مستقلة قد نقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصية علي المعارض للحكم والساهر على قضية الاسلام والموفق بين حماية القوة الحاكمة من الانحراف وبين معارضتها في نفس الوقت.
    وان كانت مواقف الامام كلها رائعة ، فموقفه في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أكثرها روعة.
    ____________
    (1) وعلى ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله «ص» لعلي : لا ينبغي أن أذهب الا وأنت خليفتي ، وقوله له عندما تهيأ للخروج الى غزوة تبوك : لابد من أن أقيم أو تقيم ، راجع خصائص النسائي ص7 ومسند الامام أحمد ج1 ص 331 ومناقب الخوارزمي ص 75 وذخائر العقبى ص 87.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 73 )

    وان كانت العقيدة الآلهية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه فهي تريد أيضاً بطلاً يتقبل القربان ويعزز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعلي الى فراش الموت وبالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى مدينة النجاة يوم الهجرة الاغر كما أشرنا اليه قريباً ولم يكن ليتهيأ للامام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلام البطلين لأنه لو ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة الى مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه وولدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طفلان لا يتهيأ لهما من الامر ما يريد.
    وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على نفسه : ـ
    أحدهما : أن يعلن الثورة المسلحة على خلافه أبي بكر.
    والآخر ان يسكت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، ولكن ماذا كان يترقب للثورة من نتائج هذا ما نريد ان نتبينه على ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصيبة.
    ان الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من عرفناهم حماسة وشدة في أمر الخلافة. ومعنى هذا انهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جداً حينئذ ان يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اخرى في سبيل اهوائه السياسية لأننا نعلم انه هدد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي واخضب سنان رمحي واضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن اطاعني ولو اجتمع معكم الانس والجن ما بايعتكم. واكبر الظن انه تهيب الاقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أول شاهر للسيف ضد الخلافة القائمة وانما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة اعلان الحرب وأخذ يترقب تضعضع الاُوضاع ليشهر


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 74 )

    سيفه بين السيوف فكان حرياً به ان تثور حماسته ويزول تهيبه ويضعف الحزب القائم في نظره اذا رأى صوتاً قوياً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول اجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف كما اعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة.
    ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الاسلام والحكومة النبوية وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.
    واذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام(1) من أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما توفي ووصل خبره الى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد اهلها يرتدون فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والايمان كما أني لا أؤمن بأن مرد ذلك التراجع الى أنهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب اليه بعض الباحثين لأن خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأكبر الظن ان خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة بل تعليل القضية في رأيي ان الامير الاموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة فاستخفى واشاع بذلك الاضطراب حتى اذا عرف ان أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين الى نتائج في صالح البيت الاموي ظهر مرة اخرى للناس واعاد الامور الى مجاريها وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الامويين كانت قائمة في ذلك الحين. وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء
    ____________
    (1) راجع تأريخ الكامل ج 2 ص 123.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 75 )

    أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على أبي بكر وأصحابه اذ قال : اني لأرى عجاجة لا يطفيها الا الدم ، وقال عن علي والعباس : اما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما. فالامويون قد كانوا متأهبين للثورة والانقلاب وقد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعم المعارضة ولكنه عرف أنهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم وانما يريدون الوصول الى اغراضهم عن طريقه فرفض طلبهم وكان من المنتظر حينئذ ان يشقوا عصا الطاعة اذا رأوا الأحزاب المسلحة تتناحر ولم يطمئنوا الى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ومعنى انشقاقهم حينئذ اظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة.
    واذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف اعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتى وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.
    ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم بل لتناحرت ثورات شتى وتقاتلت مذاهب متعددة الأهداف والاغراض ويضيع بذلك الكيان الاسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب ان يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة ويركزوا قواهم لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات.
    ان علياً الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع ادوار حياته منذ أن ولد في البيت الالهي والى انت قتل فيه قد ضحى بمقامه الطبيعي ومنصبه الالهي في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصياً عليها وحارساً لها. [/align]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]وفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أمره ربه بتبليغ دعوته والانذار برسالته جمع بني عبدالمطلب وأعلن عن نبوته بقوله : ( اني والله ما اعلم شاباً في
    العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ) وعن امامة أخيه بقوله : ( ان هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا )(1) ومعنى ذلك أن امامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان الرسالة السماوية قد اعلنت عن نبوة محمّد الكبير (ص) وامامة محمّد الصغير في وقت واحد.
    ان علياً الذي رباه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وربى الاسلام معه فكانا ولديه العزيزين كان يشعر باخوته لهذا الاسلام وقد دفعه هذا الشعور الى افتداء أخيه بكل شيء حتى أنه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون يومذاك(2) ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس ، لأن أبا بكر ان كان قد ابتزه حقه ونهب تراثه فالاسلام قد رفعه الى القمة وعرف له اخوته الصادقة وسجلها بأحرف من نور على صفحات الكتاب العزيز :
    وصمد الامام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل ؟ وأي أسلوب يتخذه لموقفه ؟ هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلماته التي أعلنت ان علياً هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الاسلامي والزعيم الذي قدمته السماء الى أهل الأرض.
    تردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الاوضاع القائمة فسكت عن النص الى حين.
    ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والاوضاع ان الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة
    ____________
    (1) أخرجه الطبري في تاريخ وابن الاثير في الكامل وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة .
    (2) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 165
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 77 )

    ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم الى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن أكثر النصوص التي صدرت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها الا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلك النصوص اذن الامانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد ان تصل عن طريقهم الى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ والى الاجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك ان يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.
    وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيراً من قريش وفي مقدمتهم الامويون كانوا طامحين الى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على اساس من النص النبوي تسجيلاً لمذهب الامامة الالهية ، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمّد الاكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسراً. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللاً اقصاء علي عن الامر : ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة(1) فقد يدلنا هذا على أن اسناد الامر الى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من
    ____________
    (1) راجع تاريخ الكامل ج 3 ص 24.

    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 78 )

    نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد نصيراً من علية قريش يشجعه على مقاومة الحاكمين فانه لا يجد منهم عضداً في مسألة النص اذا تقدم الى الناس يحدثهم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال : اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي الخ.
    وأما الانصار فقد سبقوا جميع المسلمين الى الاستخفاف بتلك النصوص والاستهانة بها اذ حدث بهم الشراهة الى الحكم الى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم اذا استدل بالنصوص النبوية جنوداً للقضية العادلة وشهوداً عليها لانهم اذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفهسم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد وهذا ما يأبونه على أنفسهم بطبيعة الحال.
    وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال : لا نبايع الا علياً مناقضة كتلك المناقضة لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلاف مسألة انتخاب لا نص فليس الى التراجع عن هذا الرأي في يوم اعلانه من سبيل.
    وأما اعتراف المهاجرين بالامر فلا حرج فيه لأن الانصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة وانما كانوا يتذاكرون ويتشاورون ولذا نرى الحباب بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم الى رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام وهو يوضح انهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها الا بعضهم.
    واذن فقد كان الامام يقدر انه سوف يدفع الحزب الحاكم الى انكار النصوص والاستبسال في هذا الانكار اذا جاهر بها ولا يقف الى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لان الناس بين من قادهم الهوى


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 79 )

    السياسي الى انكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات وبين من يرى ان فكرة النص تجعل من الخلافة وقفاً على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. واذا سجلت الجماعة الحاكمة وانصارها انكاراً للنص واكتفى الباقون بالسكوت في الاقل فمعنى هذا ان النص يفقد قيمته الواقعية وتضيع بذلك مستمسكات الامامة العلوية كلها ويؤمن العالم الاسلامي الذي كان بعيداً عن مدينة النبي (ص) على انكار المنكرين لانه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.
    ولنلاحظ ناحية اخرى فان علياً لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة وتعارض انكار الفئة الحاكمة كان معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر وتتعرض لهجوم شديد من الحاكمين ينتهي بها الى الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس لكيانه السياسي الى حد بعيد فإنّه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره الى المقابلة العملية وقد عرفنا سابقاً انه لم يكن مستعداً لاعلان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.
    ولم يكن للاحتجاج بالنص اثر واضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها واساليبها الدقيقة لمحو تلك الاحاديث النبوية من الذهنية الاسلامية لانها تعرف حينئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة ومادة خصبة لثورة المعارضين في كل حين.
    واني اعتقد أن عمر لو التفت الى ما تنبه اليه الأمويون بعد أن احتج الامام بالنصوص في أيام خلافته واشتهرت بين شيعته من خطرها لاستطاع أن يقطعها من اصولها ويقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من اطفاء نورها وكان اعتراض الامام بالنص في تلك الساعة ينبهه الى ما يجب ان ينتهجه من أسلوب فأشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 80 )

    السياسة وسكت عنها على مضض واستغفل بذلك خصومه حتى ان عمر ( رضي الله تعالى عنه ) نفسه صرح بأن علياً هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبي (1) ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ثم ألم يكن من المعقول ان يخشى الامام على كرامة حبيبه وأخيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس ـ اذا جاهر بنصوص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله (ص) حين طلب دواة ليكتب كتاباً لا يضل الناس بعده أبداً ، فقال عمر : ان النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع ، وقد اعترف فيما بعد لابن عباس ان رسول الله (ص) كان يريد ان يعين علياً للخلافة وقد صده عن ذلك خوفاً من الفتنة(2).
    وسواء أكان رسول الله (ص) يريد ان يحرر حق علي في الخلافة اولا فان المهم ان نتأمل موقف عمر من طلبه فهو اذا كان مستعداً لاتهام النبي (ص) وجهاً لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن وضرورة الاسلام خوفاً من الفتنة فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى ان رسول الله (ص) لم يصدر عن أمر الله في موضوع الخلافة وانما استخلف علياً بوحي من عاطفته بل كان هذا اولى من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى على النص أشد مما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما اذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد خلف نصاً تحريرياً بامامة علي يعلمه الجميع.
    ____________
    (1) راجع ذخائر العقبى ص 67.
    والحديث يدلنا على ان الفاروق كان يميل أحياناً الى تغيير الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الامر مع الهاشميين غير ان الطابع السياسي الاول غلب عليه أخيراً.
    (2) راجع شرح النهج ج 2 ص 114.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 81 )

    واذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد ترك التصريح بخلافة علي في ساعته الأخيرة لقول قاله عمر فان المفهوم ان يترك الوصي الاحتجاج بالنصوص خوفاً من قول قد يقوله :
    ونتيجة هذا البحث ان سكوت أمير المؤمنين عن النص الى حين كان يفرضه عليه :
    1ـ انه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن الى شهادته بذلك.
    2 ـ ان الاعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت انظار الحاكمين الى قيمتها المادية فيستعملون شتى الاساليب لخنقها.
    3 ـ ان معنى الاعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها وهذا ما لم يكن يريده الامام.
    4 ـ ان اتهام عمر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في آخر ساعاته عرف علياً بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم ومدى استعدادهم لتأييدها والمدافعة عنها وجعله يخاف من تكرر شيء من ذلك فيما اذا أعلن عن نصوص امامته.


    * * *

    انتهى الامام الى قرار حاسم ، وهو ترك الثورة وعدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً وعلانية الا اذا اطمأن الى قدرته على تجنيد الرأي العام ضد أبي بكر وصاحبيه وهذا ما أخذ يحاوله علي في محنته آنذاك فبدأ يطوف سراً على زعماء المسلمين ورجالات المدينة يعظهم ويذكرهم ببراهين الحق وآياته والى جانبه قرينته تعزز موقفه وتشاركه في جهاده السري ولم يكن يقصد بذلك التطواف انشاء حزب يتهيأ له القتال به لأننا نعرف ان علياً كان له حزب من الانصار هتف باسمه وحاول الالتفاف حوله وانما أراد أن يمهد بتلك المقابلات لاجماع الناس عليه.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 82 )

    وهنا تجىء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة فان الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوة خطوطه باتقان كان متفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة وينهي خلافة الصديق كما تنتهي القصة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز على القوة والعدة.
    وكان الدور الفاطمي يتخلص في أن تطالب الصديقة الصديق بما انتزعه منها من اموال وتجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الاساسية واعني بها مسألة الخلافة وافهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا فيها عن علي (ع) الى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ وانهم بذلك أخطأوا وخالفوا كتاب ربهم ووردوا غير شربهم.
    ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح اوضاع الساعة وتمسح عن الحكم الاسلامي الذي وضعت قاعدته الاولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به عن طريق اتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب.
    وقد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيآن للامام فيما لو وقف موقف قرينته.
    أحديهما : ان الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة ومكانتها من أبيها على استثارة العواطف وايصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيامه الغراء وتجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت.
    والاخرى : انها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة التي تتطلب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة وما دام


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 83 )

    هارون النبوة في بيته محتفظاً بالهدنة التي اعلنها حتى تجتمع الناس عليه ومراقبا للموقف ليتدخل فيه متى شاء متزعماً للثورة اذا بلغت حدها الاعلى أو مهدئاً للفتنة اذا لم يتهيأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء بمقاومتها أما ان تحقق انتفاضاً اجماعياً على الخليفة وأما أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجر الى فتنة وانشقاق.
    واذن فقد أراد الامام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء ويبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. وأراد أيضاً أن يقدم لأمة القرآن كلها في المقابلة الفاطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة. وقد تم للامام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحق العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.
    وتتلخص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر : ـ
    الأول : ـ ارسالها لرسول ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها وهذه هي الخطوة الاولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.
    الثاني : ـ مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص وقد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغيرهما لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.
    ولا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب الى ذلك أصحابنا بل قد يغلب على ظني تقدم المطالبة بالارث لأن الرواية تصرح بان رسول الزهراء انما كان يطالب بالميراث والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة وأيضاً فان دعوى الارث أقرب


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 84 )

    الطريقين الى استخلاص الحق لثبوت التوارث في التشريع الاسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من أبيها الذي يشمل فدكاً في معتقد الخليفة لعدم اطلاعه على النحلة وليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك اطلاقاً لأن المطالبة بالميراث لم تتجه الى فدك خاصة وانما تعلقت بتركة النبي (ص) عامة.
    الثالث : ـ خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبي (ص) كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.
    الرابع : ـ حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زارها بقصد الاعتذار منها واعلانها غضبها عليهما وانهما اغضبا الله ورسوله (ص) بذلك(4).
    الخامس : ـ خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهن عندها.
    السادس : ـ وصيتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها(2) وكانت هذه الوصية الاعلان الاخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.
    وقد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى ونجحت بمعنى آخر.
    فشلت لأنها لم تطوح بحكومة الخليفة ( رضي الله عنه ) في زحفها الاخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي (ص).
    ولا نستطيع ان نتبين الامور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة غير ان الامر الذي لا ريب فيه ان شخصية الخليفة (رض) من أهم الاسباب التي أدت الى فشلها لأنه من أصحاب المواهب السياسية وقد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء من كلام
    ____________
    (1) راجع الامامة والسياسة واعلام النساء.
    (2) راجع حلية الأولياء ج2 ص 43 ومستدرك الحاكم ج3 ص 163 واُسد الغابة ج5 ص 524.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 85 )

    وجهة الى الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء واذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد. في أكبر الظن. فيقول : ما هذه الدعة الى كل قالة انما هو ثعالة شهيده ذنبه ـ وقد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق ـ فان هذا الانقلاب من اللين والهدوء الى الغضب الفائر يدلنا على مقدار ما أوتي من سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في كل حين.
    ونجحت معارضة الزهراء لانها جهزت الحق بقوة قاهرة واضافت الى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلها وفي محاورتها مع الصديق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصة اذا قالت لهما : أرأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرفانه وتفعلان به فقالا نعم فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني(1) قالا نعم سمعناه من رسول الله (ص) قالت : فاني أشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (ص) لأشكونكما عنده(2).
    ____________
    (1) صحت عن رسول الله (ص) عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح انه قال لفاطمة ان الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك وقال : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها ـ راجع صحيح البخاري ج5 ص 274 وصحيح مسلم ج4 ص261 ومستدرك الحاكم ج3 ص 154 وذخائر العقبى ص39 والصواعق ص 105 ومسند أحمد ج4 ص328 وجامع الترمذي ج2 ص 219 وابن ماجة ج1 ص 216.
    (2) تجد حديث غضب فاطمة على أبي بكر في صحيح البخاري ج5 ص 5 وج6 ص196 وصحيح مسلم ج2 ص72 ومسند أحمد ج1 ص6 وتاريخ الطبري ج3 ص202 وكفاية الطالب ص226 وسنن البيهقي ج6 ص300.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 86 )

    ويصور لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الاعتراض على خصميها ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها والانتهاء فيها الى رأي معين لأن ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث ولأننا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات وانما نسجلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها ووجهة نظرها فقط فانها كانت تعتقد ان النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة والدين وأعني بها ان الصديق قد استحق غضب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باغضابها وآذاهما بأذاها لانهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنص الحديث النبوي الصحيح فلا يجوز ان يكون خليفة ‏ ورسوله وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان ذلكم كان عند الله عظيماً * ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً * والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم * يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم * ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ).


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 87 )


    ـ 4 ـ
    [all1=CC3333]قبسات من الكلام الفاطمي[/all1]


    يوم جاءت الى عدي وتيم * ومن الوجد ما أطال بكاها
    تعظ القوم في أتم خطـاب * حكت المصطفى به وحكاها

    ( الأزري )



    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 88 )

    نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء عليها السلام لنعطيها حقها من التحليل والتوضيح ونفهمها كما هي في عالم الخلود وكما هي في واقعها الرائع قالت : ـ
    « ثم قبضه اليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار فمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار ».
    انظر الى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذوذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها وجنته الخالدة لانها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله وما قيمة اللذة المادية جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الانسانية كما ارتفع بها ولم يبلغ بها أحد سواه أوجهاً المحمدي ( ولم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الالهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الاخير للطواف الانساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير وتطمئن اليه الروح )(1).
    فهو اذن : المربي الأكبر للروح ، والقائد الفريد الذي سجلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى المادية في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.
    ____________
    (1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا ـ العقيدة الالهية في الاسلام ـ.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 89 )

    وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو ان يكون محور ذلك العالم الروحي الجبار وهذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي : فمحمّد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الابرار فهو القطب أبداً في الدنيا والآخرة غير أنه في الاولى متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الانسانية عليه على اسلوب خالد وفي الاخرى مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره فتخف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد والثناء.
    وما دام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي ـ ان صح التعبير ـ واي ترف روحي أسمى من مجاورة المالك الجبار والظفر برضوان الرب الغفار.
    وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فاذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.
    وقالت :
    وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطىء الاقدام تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي ، وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة اهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتهم ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله (ص) سيد


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 90 )

    اولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون(1) .
    ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الاسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة ـ ان صح التعبير ـ من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء والأرض وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الانسانية وشخصية اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي الاخير ـ العريش ـ وياليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الاسلام. في عرف التضحية ، في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الارض.
    ولا نعرف في تاريخ الانسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الامام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحق هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الاسلام وصنعت له تاريخه الجبار.
    فعلي هو المسلم الاول في اللحظة الاولى من تاريخ النبوة عندما لعلع الصوت الالهي من فم محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم هو بعد ذلك الغيور الاول والمدافع الاول الذي اسندت اليه السماء تصفية الحساب مع الانسانية الكافرة.
    ان فوز الامام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من ناحيتين : ـ
    ( احداهما ) : انه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم
    ____________
    (1) تعني بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 91 )

    الذي لم يكن قد فصل فيه تماماً المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.
    ( والاخرى ) : ان جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك اليه سبيلاً وجذوة مضطرمة بحرارة الايمان لا يجد الخمود اليها طريقاً. وهذه الجذوة المتقدة أبداً وذلك الاخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل اليه الامة حراسة معنوياتها الغالية وحماية شرفها في التاريخ.
    اقرأ حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى ان علياً هو الذي أدهش الارض والسماء بمواساته(1) وان الصديق (رض) هو الذي التجأ الى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً
    ____________
    (1) أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليه ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبدا‏ الجمحي ، قال : ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرئيل : يارسول الله ان هذا للمواساة ، فقال رسول الله (ص) : انه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وانا منكما ، قال : فسمعوا صوتاً :

    لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى الا عـــلي

    ولنتأمل جواب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنلاحظ كيف انه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمّد وعلي الى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال : انه مني وأنا منه ولم يرض بأن يفصل الامام عن شخصه لانهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلاً أعلى تأتم بها الانسانية ويهتدي على ضوئها الابطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء ، وأنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمّد وبين من هو من محمّد (ص).
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 92 )

    بعدة من أبطال الانصار لحمايته(1) حتى يطمئن بذلك من غوائل الحرب.
    وهو الذي فر يوم أحد(2) كما فر الفاروق(3) ولم يبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء وبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الانصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك ارباب التاريخ(4) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالاً في ذلك الموقف مهما يكن لونه(5).
    واذن فلماذا وقف مع الثائبين ان كان لم يفر ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (ص) بعدة أصابات اضطرته الى الصلاة جالساً.
    ولعلنا نعلم جميعاً ان شخصاً اذا كان في وسط الصراع ومعترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه الا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصديق اذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين وقد نجا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف امام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه فهل أشفق المشركون على أبي بكر ولم يشفقوا على محمّد وعلي والزبير وأبي دجانة وسهل بن حنيف.
    وليس لدي من تفسير معقول للموقف الا ان يكون قد وقف الى جوار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكسب بذلك موقفاً هو في
    ____________
    (1) راجع عيون الاثر ج1 ص258.
    (2) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.
    (3) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله (ص) ـ راجع شرح النهج ج3 ص389 ، 390.
    (4) صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج3 ص388. والمقريزي في الامتاع ص132.
    (5) اعترف بذلك ابن أبي الحديد ج3 ص389.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 93 )

    طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول الله (ص). وليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق انه كان يحب ان يكون الى جانب رسول الله (ص) في الحرب لأن مركز النبي (ص) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الاسلامية على حراسته والذب عنه.
    وخذ حياة الامام علي (ع) وحياة الصديق وادرسهما فهل تجد في حياة الاول خموداً في الاخلاص او ضعفاً في الاندفاع نحن التضحية أو ركوناً الى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير. لأنه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة وشخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه استعداد للخلود ما خلد محمّد استاذه الاكبر لأنه نفسه (ص)(1).
    ثم حدثني عن حياة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) ايام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل تجد فيها الا تخاذلاً وضعفاً في الحياة المبدئية والحياة العسكرية يظهر تارة في التجائه الى العريش واخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين(2) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج تحت راية اُسامة
    ____________
    (1) بنص آية المباهلة.
    (2) كما في السيرة الحلبية ج3 ص123 ، اذا . حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري اذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انه قال : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فاذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله. فان هذا يوضح ان عمر كان بين المنهزمين.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 94 )

    للغزو(1) ومرة اخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (ص) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق ( رضي الله تعال عنه ) واذا به من طراز صاحبه(2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيام السلم التي اعتز بها الاسلام يوم اسلم كما يقولون ورجع عمر مع اصحابه يجبنهم ويجبنونه(3) فقال رسول الله (ص) اني دافع الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له(4) ويشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز بعليه العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه ا‏لله ورسوله(5).
    يا خليفتي المسلمين ـ أو بعض المسلمين ـ رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد والمعاناة في سبيل الله ؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز عن ذلك ؟ ألم تستمعا الى القرآن الذي اسندت اليكما حراسته والتوفر على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول : ـ
    ____________
    (1) فقد جاء في عدة من المصادر ان عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج3.
    (2) راجع مسند أحمد ج5 ص253 ومستدرك الحاكم ج3 ص27 وكنز العمال ج6 ص394.
    (3) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.
    (4) صحيح البخاري ج5 ص18 ومسند أحمد ج5 ص353.
    (5) واكبر الظن ان الجيش الذي سار الامام على رأسه لاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فر بالامس ونفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره فان علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذي كانوا يجبنون الفاروق في الحملة السابقة أبطالاً فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس والاخلاص.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 95 )

    ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
    وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق (ض) في الاسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم فلا بد انهما تأولا ووجدا عذراً في فرارهما ونحن نعلم ان مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفة كان واسعاً حتى أنه اعتذر عن خالد لما قتل مسلماً متعمداً بأنّه اجتهد فأخطأ(1).

    عـذرتــكما ان الحمام لمبغض * وان بقاء النـفس للنفس محبوب
    ليكره طعم الموت والموت طالب * فكيف يلذ الموت والموت مطلوب

    ولنعتذر اذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار وقد اضطرنا الى ذلك الوقوف عند المقارنة الفاطمية وما تستحقه من شرح وتوضيح.
    قالت : ـ
    « تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الاخبار ».
    هذا الخطاب موجه الى الحزب الحاكم لأنه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء الى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع الى اتمام البيعة بالخوف من الفتنة. واذن فهو اتهام صريح له بالتآمر على السلطان واتخاذ التدابير اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها وتربص الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وتجريد البيت الهاشمي منها.
    وقد رأينا في الفصل السابق ان الاتفاق السري بين الصديق والفاروق وأبي عبيدة(1) رضي الله عنهم مما تعززه الظواهر التاريخية.
    ____________
    (1) تاريخ ابن شحنة على هامش الكامل ج11 ص114.
    (2) نعتذر الى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجرداً عن اللقب ، وليس هذا ذنبي بل ذنب الاجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الامر اليه فيمنحه الناس لقباً من الاُلقاب ، وأما لقب الامين فالارجح عندي أنه لم يحصل
    =


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 96 )

    ولا ينبغي ان نترقب دليلاً مادياً أقوى من كلام الزهراء الذي بينا اشعاره الى هذا المعنى بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا ريب أنها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما اخص ما يوصف به انه اقرب الى واقعها وأكثر اصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.
    ومن حق البحث ان نسجل ان الزهراء هي أول من أعلنت ـ ان لم يكن زوجها هو المعلن الاول ـ عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة واتهمتها بالتآمر السياسي ثم تبعها على ذلك جملة من معاصريها كأمير المؤمنين صلوات الله عليه ومعاوية بن ابي سفيان ـ كما عرفنا سابقاً ـ .
    وما دام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء ويشير اليه الامام ويلمح اليه معاوية هو الذي سيطر على الحكم ومقدرات الامة وما دامت الاسر الحاكمة بعد ذلك التي وجهت جميع مرافق الحياة العامة لخدمتها قد طبقت اصول تلك السياسة وعناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الاسلام فمن الطبيعي جداً ان لا نرى في التأريخ أو على الاقل التاريخ العام صورة واضحة الالوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد ابطاله الاولون في تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخالص الذي هو أبعد ما يكون عن الالوان السياسية والاتفاقات السابقة.


    * * *

    قالت : ـ
    ( فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب. والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابداراً زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
    ____________
    =
    عليه عن طريق النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ولا عن طريق الناس وانما لقب بالامين لمناسبات حزبية خاصة ليس من شأنها تقرير الاوسمة الرسمية.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 97 )

    أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تجلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم )(1).
    لئن كان الصديق وصاحباه يشكلون حزباً ذا طابع خاص فمن العبث ان ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع ان يعلنوا عن الخطوط الرئيسية لمناهجهم ويبرروا بها موقفهم يوم السقيفة ومع هذا :
    فلا بد من مبرر . .
    ولا بد من تفسير . .
    فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم الى اتمام البيعة لأحدهم وتلهفهم على المقامات العليا تلهفاً لم يكن منتظراً بالطبع من صحابة على نمطهم لأن المفروض فيهم أنهم أناس من نوع اكمل وعقول لا تفكر الا في صالح المبدأ ولا تعبأ الا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي وأما اقتناص الكراسي فلا ينبغي ان يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    أحس الحاكمون بذلك وادركوا ان موقفهم كان شاذا على أقل تقدير فأرادوا ( رضي الله عنهم ) ان يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية والخوف على الاسلام من هبوب فتنة طاغية تجهز عليه ونسوا أن الرقعة تفضح موضعها وان الخيوط المقحمة في الثوب تشي بها.
    ولذا دوت الزهراء بكلمتها الخالدة : ـ
    زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين
    ____________
    (1) وردت هذه القطعة في خطابها الثاني الذي ألقته على نساء المهاجرين والانصار في بيتها.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 98 )

    نعم انها الفتنة ثم هي ام الفتن بلا ريب.
    ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة وتتنبئين لأمة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في أفقه سحب حمراء ؟
    ماذا أقول‏ ؟ . . بل انهار من دم تزخر بالجماجم وهي تنعى على سلفها الصالح فعلهم وتقول : ألا أنهم في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
    كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة وكانت أم الفتن.
    كانت فتنة في رأي الزهراء ـ على الأقل ـ لأنها خروج على الحكومة الاسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي (ص) والاولى من المسلمين بأنفهسم(1).
    ومن مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه بأنه خاف الفتنة وهو لا يعلم ان اتنزاع الامر ممن اراده له رسول الله (ص) باعتراف عمر(2) هو الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.
    وأنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنة الذين لا مطمع لهم في السلطان الا بمقدار ما يتصل بصالح الاسلام ان يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع
    ____________
    (1) بنص حديث الغدير الذي رواه «111» من الصحابة و (84) من التابعين باحسان و «353» مؤلف من اخواننا السنة كما يظهر بمراجعة كتاب «الغدير» للعلامة الاميني. واحب أن ألاحظ هنا ان كثيراً من القرآن لم يروه من الصحابة عدد يبلغ مبلغ الرواة لحديث الغدير منهم فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك الى التشكيك في القرآن الكريم.
    وأما دلالة الحديث على خلافة علي وامامته فهي أيضاً ترتفع عن التشكيك لوضوحها وبداهتها وتعدد القرائن عليها ولتراجع في ذلك «مراجعات» سيدنا سادن المذهب وحامي التشيع في دنيا الاسلام آية الله السيد عبدالحسين شرف الدين دام ظله العالي.
    (2) راجع ج3 شرح النهج ص 114 و115 .
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 99 )

    الاعلى للحكومة الاسلامية من بعده وقد طال المرض به أياماً متعددة وأعلن فيها مراراً عن قرب أجله واجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله وتفصيلات تجهيزه (1) ولم يقع في أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسألة الاساسية بل لم يخطر في بال اولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف ولا يهمل الامة والحوا عليه في ذلك خوفاً من الفتنة(2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله (ص) فهل ترى أنهم كانوا حينذاك في غفلة عن اخطار الموقف بالرغم من انذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتن كقطع الليل والمظلم حتى اذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلى توهجت مشاعرهم بالغيرة على الدين وملأ قلوبهم الخوف من الفتنة والانعكاسات السيئة أو تعتقد معي ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل ولذلك لم يسأله السائلون.
    دع عنك هذا واختلق لهم ما شئت من المعاذير فان هؤلاء الغيارى على الاسلام لم يكتفوا بترك السؤال بل منعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب كتاباً لا يضل المسلمون بعده أبداً. والفتنة ضلال واذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبداً فهل كانوا يشكون في صدق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو يرون أنهم أقدر على الاحتياط للاسلام والقضاء على الشغب والهرج من نبي الاسلام ورجله الاول.
    وخليق بنا ان نسأل عما عناه النبي (ص) بالفتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في اخريات أيامه اذ يقول : ليهنكم ما أصبحتم فيه قد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم(3).
    ____________
    (1) راجع تاريخ ابن الاثير ج2 ص122.
    (2) العقد الفريد ج 3 ص 17.
    (3) راجع تاريخ الكامل ج2 ص222.
    [/align]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=right]
    ولعلك تقول : انها فتن المرتدين وهذا تفسير يقبل على فرض واحد وهو : ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يتخوف على موتى البقيع من الارتداد فأما اذا لم يكن يخشى عليهم من ذلك كما ـ هو في الواقع ـ لأنهم على الأكثر من المسلمين الصالحين وفيهم الشهداء فلماذا يهنئهم على عدم حضور تلك الأيام ولا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الأموية التي قام به عثمان ومعاوية بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريباً.
    واذن فتلك الفتن التي عناها النبي (ص) لا بد أن تكون فتنا حادثة بعده مباشرة ولا بد أيضاً أن تكون أكثر اتصالاً بموتى البقيع لو قدرت لهم الحياة من فتن الردة والمتنبئين.
    وهي اذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها : ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
    وهل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله (ص) بالفتنة ان تمنح لقب الفتنة الاولى في دنيا الاسلام.
    وقد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى لأنها فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها الا القليل من سوقتها الذين ليس لمثلهم الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الاسلام ولا في لغة القوانين الدستورية جميعاً.
    تلك هي خلافة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) عندما خرج من السقيفة « وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى ازبد شدقاه » وجماعته تحوطه « وهم متزرون بالأزر الصنعانية لا يمرون باحد الا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى(1) ».
    ____________
    (1) راجع شرح النهج ج1 ص74.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 101 )

    ومعنى هذا ان الحاكمين زفوا الى المسلمين خلافة لم تباركها السماء ولا رضي بها المسلمون وان الصديق لم يستمد سلطانه من نص نبوي ـ بالضرورة ـ ولم ينعقد الاجماع عليه ما دام سعد لم يبايع الى أن مات الخليفة وما دام الهاشميون لم يبايعوا الى ستة أشهر من خلافته ـ كما في صحيح البخاري .
    قالوا : ان أهل الحل والعقد قد بايعوه وكفى.
    ولكن ألا يحتاج هذا المفهوم الى توضيح والى مرجع يرجع اليه في ذلك ؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر أهل الحل والعقد واعطاهم هذه الصلاحيات الواسعة ؟ .
    ليس هو الأمة ولا النبي الأعظم ، لأننا نعلم أن أبطال السقيفة لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر ولم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل والعقد.
    كما أنه لم يؤثر عن رسول الله (ص) اعطاء هذه الصلاحيات لجماعة مخصوصة فكيف تمنح لعدد من المسلمين ويستأمنون على مقدرات الأمة بغير رضى منها في ظل نظام دستوري كنظام الحكم في الاسلام كما يزعمون.
    ومن العجيب في العرف السياسي ان تعين الحكومة نفسها أهل الحل والعقد ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.
    واعجب من ذلك اخراج علي والعباس وسائر بني هاشم وسعد بن عبادة والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وجميع أهل الحجى والرأي


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 102 )
    ـ على حد التعبير ابن العباس لعمر ـ (1) من أهل الحل والعقد اذا صح ان في الاسلام طبقة مستأثرة بالحل والعقد.
    وقد جر وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الاسلامية الى تهيئة الجو لارستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الاسلام وواقعه المصفى من الطبقية والعنعنات.
    وهل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها أكياس عبد الرحمن بن عوف وطلحة واضرابهما الا بسبب هذا اللقب المشؤوم على الاسلام الذي لقبوا به فرأوا أنهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين ويتحكم في حقوق الناس كما يريد.
    وقالوا : ان الاكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية والمبدأ الذي لا بد أن تقوم على اساسه الخلافة.
    وقد استهان القرآن الكريم بالاكثرية ولم يجعل منها في حال من الاحوال دليلاً وميزانا صحيحاً اذا جاء فيه :
    ( ان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ).
    ( وأكثرهم للحق كارهون ).
    ( وما يتبع أكثرهم الا ظناً ).
    ( ولكن أكثرهم يجهلون ) .
    وقد روي عن رسول الله (ص) في صحاح السنة أنه قال : بينا أنا قائم ( يعني يوم القيامة على الحوض ) فاذا زمرة حتئ اذا عرفتهم خرج
    ____________
    (1) اذ قال له : أما أهل الحجى والنهى فانهم ما زالوا يعدونه ـ أي علياً ـ كاملاً منذ رفع الله منار الاسلام ولكنهم يعدونه محروماً مجدوداً راجع شرح النهج ج3 ص115.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 103 )

    رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت أين ؟ فقال : الى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ الى أن قال ـ : فلا أراه يخلص منهم الا مثل همل النعم.
    ولا يمكن ان تكون هذه الاكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله (ص) مصدر السلطة في الاسلام لأنها لا تنشىء بطبيعة الحال الا خلافة مطبوعة بطابعها.
    واذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنيين الذين عرفنا آنفاً مراكزهم الجهنمية على الأغلب في الحياة الخالدة واعتبرنا اكثرية المسلمين عموماً هي المقياس الصحيح فلا بد أن نلاحظ ان المدينة هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالاكثرية المدنية أو أن أبا بكر لم يكتف بها وانما بعث الى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة بالخير ليأخذ آراءهم ويستشيرهم ؟ كلا لم يحدث شيء من ذلك وانما فرض حكومته على آفاق المملكة كلها فرضاً لا يقبل مراجعة ولا جدالاً حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر.
    وقالوا : ان الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين ولا ريب ان ذلك قد حصل لأبي بكر.
    ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم لأن البعض لا يمكن ان يتحكم في شؤون الامة كلها ولأن حياة الأمة لا يمكن ان تعلق على خيط ضعيف كهذا الخيط ويركن في حفظ مقدساتها ومقامها الى حكومة أنشأها جماعة من الصحابة لم يزكهم اجماع شعبي ولا نص مقدس بل هم أناس عاديون من الصحابة. ونحن نعلم ان (منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 104 )

    وعدوه وبما كانوا يكذبون) ومنهم من خص الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم ونفاقهم فقال لرسوله : ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).
    فجماعة فيها المنافق وفيها من يؤذي رسول الله وفيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أيا كان ملاكاً للمنصب الأول في العالم الاسلامي .
    وتعليقاً على هذه الملعومات نقول : ان خلافة الصديق لم تكن خلافة نص ولا خلافة أكثرية ولا نتيجة انتخاب مباشر ولا غير مباشر ، نعم بذل في سبيلها بعض المسلمين جهوداً رائعة والتفت حولها طائفة من الناس وانتصرت لها جماعات عديدة في المدينة ولكن هؤلاء جميعاً ليسوا الا بعض المسلمين والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع لأن الحكم الذي يستمد معنويته القانونية من الامة يلزم ان يكون صاحبه ممثلاً للامة بجميع عناصرها أو أكثر عناصرها هذا اولا وأما ثانياً فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم الا الله بنص القرآن الكريم وتنزيه هذا البعض المتوفر على انشاء الكيان السياسي للامة حينئذ عن النفاق لا بد أن يكون عن طريق النص أو الامة.
    واذن فليسمح لنا الطريق أن نميل الى رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل ، لأننا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على أمة وتصرفه في مرافقها الحيوية جميعاً كالصديق (رض) في أيام خلافته أو في الأشهر الأولى أو في الاسابيع الاولى من حكومته التي خطبت فيها الزهراء ـ على أقل تقدير ـ .
    وما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم واستقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي ان يكون لها رأي في


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 105 )

    الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضة واستعد الهاشميون للمقاومة وقد كان تقدير هذا المعنى قريباً ومعقولاً الى حد بعيد فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا الى نتيجتهم المطلوبة في مدة قد لا تزيد على ساعة.
    ولماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه ابطاله فقد بلغ من تقديس الفاروق أنه أمر بقتل من عاد الى مثل بيعة أبي بكر وكرر ذلك الموقف.
    واذا اردنا أن نأخذ هذا الكلام ونفهمه على أنه كلام امام يراعي دستور الاسلام ، فمعنى ذلك أنه رأى موقف أبي بكر واصحابه في السقيفة فتنة وفساداً لأن القتل لا يجوز بغير ذلك من الاسباب.
    وهي بعد ذلك كله أم الفتن لانها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله الذي يأتيه البر والفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رض) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم(1).
    وهي التي فتحت للاهواء والاطماع السياسية ميدانها الواسع فتولدت الأحزاب وتناحرت السياسات وتفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام ذهب بكيانهم الجبار ومجدهم في التاريخ.
    وماذا ظنك بهذه الامة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الاولى في ارجاء العالم بسبب أن زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين اعني علياً ـ لم يتخذ للمعارضة اسبابها المزعزعة لكيان الامة ووحدتها.
    ( أقول ) : ماذا تقدر لها من مجد وسلطان وهيمنة على العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المتضاربين والامراء السكارى بنشوة السلطان ولم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ ولم يستغل
    ____________
    (1) راجع الدر المنثور ج6 ص19.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 106 )

    حكامها الغاشمون امكانيات الامة للذاتهم وهنائهم ويستهينون بعد ذلك بمقدراتها جميعاً.
    لم ينظر الصديق والفاروق الا الى زمانهما الخاص فتصورا ان في طاقتهما حماية الكيان الاسلامي ولكنهما لو تعمقا في نظرتهما كما تعمقت الزهراء وتوسعا في مطالعة الموقف لعرفا صدق الانذار الذي انذرتهما به الزهراء.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 107 )


    ـ 5 ـ
    محكمة الكتاب


    ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعاً بصيرا.




    [glow=CC3300]( القرآن الكريم )[/glow]


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 108 )

    اذا اردنا ان نرتفع بمستوى دراستنا الى مصاف الدراسات الدقيقة فلابد أن نأخذ انفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين :
    الناحية الاولى : موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه الى ما رواه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في موضوع الميراث بأساليب متعددة وصور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته وهي لا تتفق على حد تعبير واحد ولا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في المسألة.
    1 ـ وقبل كل شيء نريد ان نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه الى سماع ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وثباته عليه ويمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات(1) من أن الخليفة سلم فدكاً للحوراء وكاد الامر ان يتم لولا ان دخل عمر وقال له : ما هذا ؟ فقال له : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ الكتاب فشقه ، ونحن ننقل هذه الرواية
    ____________
    (1) ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية ج3 ص391.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 109 )

    في تحفظ وان كنا نستقرب صحتها لأن كل شيء كان يشجع على عدم حكاية هذه القصة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. واذا صحت فهي تدل على أن أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الارث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأن حروب الردة التي أشار اليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيام(1) خطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق(2).
    2 ـ وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة(3) وقد بلغ به التأثر حيناً ان قال للناس وقد اجتمعوا حوله أقيلوني بيعتي ، وندرك من هذا ان الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده الى الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة وضعف في المدرك الذي استند اليه ويثور به ضميره احياناً فلا يجد في مستنداته ما يهدىء نفسه المضطربة وقد ضاق بهذه الحالة المريرة فطفحت نفسه في الساعة الاخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها للانسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أو شك الستار ان يسدل عليها وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها الا التبعات.
    3 ـ ولا ننسى أن أبا بكر أوصى أن يدفن الى جوار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا يصح ذلك الا اذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونيا في الموضوع واستاذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته
    ____________
    (1) راجع مروج الذهب ج2 ص193.
    (2) ولعل هذا يضعف من شأن الرواية لان الخليفة لو كان مستعداً للتراجع لأجاب الزهراء الى ما تطلب في المسجد حينما خطبت واسمعته من التأنيب والتقريع الشيء الكثير.
    (3) رواه الطبري كما في ص 18 من سمو المعنى في سمو الذات للاستاذ الكبير الشيخ عبدالله العلائلي.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 110 )

    من أرض الحجرة ـ اذا كان للزوجة نصيب في الارض وكان نصيب عائشة يسع ذلك ـ ولو كان يرى ان تركة النبي (ص) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم ، وهب ان البالغين اجازوا ذلك فكيف بالاطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.
    4 ـ ونحن نعلم أيضاً ان الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كن يسكن فيها في حياة رسول الله (ص) فما عساه ان يكون سبب التفريق الذي انتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامة وابقاء بيوت نساء النبي (ص) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله ؟ حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن فلنا ان نستفهم عما اثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بينة عليه ولا ادعته واحدة منهن وليست حيازتهن للبيوت في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهداً على ملكيتهن لها لأنها ليس حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (ص) ككل زوجة بالنسبة الى زوجها. كما ان نسبة البيوت اليهن في الآية الكريمة ـ وقرن في بيوتكن ـ لا يدل على ذلك لأن الاضافة يكفي في صحبتها ادنى ملابسة وقد نسبت الى النبي (ص) في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل اذ قال الله تبارك وتعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم فاذا كان الترتيب القرآني حجة لزم الاخذ بما تدل عليه هذه الآية وورد في صحاح السنة عن رسول الله (ص) اسناد البيت اليه في قوله : ان ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
    5 ـ ولنتساءل عما اذا كان الحكم بعدم توريث الانبياء الذي ذهب اليه الخليفة مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة واجراءه على الصديقة دون سائر ورثة الأنبياء أو ان الرسل السابقين قد اهملوا تبليغه وتعريف


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 111 )

    خلفائهم وورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة واستبقاء لها في أولادهم وآلهم أو أنهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً او أن السياسة السائدة يومذاك هي التي انشأت هذا الحكم ؟
    6 ـ ومن جهة اخرى هل يمكننا ان نقبل ان رسول الله (ص) يجر على أحب الناس اليه واقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسر لسرورها وينقبض لانقباضها(1) ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من اعلامها بحقيقة الامر لئلا تطلب ما ليس لها بحق وكأن رسول الله (ص) لذ له ان ترزي ابنته ثم تتسع هذه الرزية فتكون اداة اختلاف وصخب بين المسلمين عامة وهو الذي أرسل رحمة للعالمين فبقي مصراً على كتمان الخبر عنها مع الاسرار به الى أبي بكر.


    * * *

    1 ـ لأجل ان نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنوية بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع الى قسمين : ـ
    ( الاول ) ما جاء في بعضها من أن أبا بكر بكى لما كلمته فاطمة ثم قال يا بنت رسول الله والله ما ورث أبوك ديناراً ولا درهما وانه قال : ان الانبياء لا يورثون وما ورد في حديث الخطبة من قوله : اني سمعت رسول الله (ص) يقول : انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنما نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة.
    ( الثاني ) التعبير الذي تنقله عدة اخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن رسول الله (ص) من أنا لا نورث ما تركناه صدقة.
    ____________
    (1) هذه صيغ أحاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي .
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 112 )

    ‌‌‌2 ـ والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما اذا كانت هذه الصيغ تدل بوضوح لا يقبل تشكيكاً ولاتأويلاً ـ وهو النص في العرف العلمي ـ على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث تركته او ما اذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر وان كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث اصلح ـ وهو الظاهر في الاصطلاح ـ وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجع المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدي باللفظ من معان اخر ـ وهو المجمل ـ.
    3 ـ اذا لاحظنا القسم الاول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل ان تكون بياناً لعدم تشريع توريث الانبياء كما فهمه الخليفة ويمكن ان تكون كناية عن معنى لا يبعد ان يقع في نفس رسول الله (ص) بيانه وهو تعظيم مقام النبوة وتجليل الانبياء. وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الالهية اجلى دلالة واكثر مادية من الزهد في الدنيا ولذائذها الزائفة ومتعها الفانية فلماذا لا يجوز لنا افتراض ان النبي (ص) اراد ان يشير الى ان الانبياء أناس ملائكيون وبشر من الطراز الاسمى الذي لا تشوبه الانانيات الارضية والاهواء البشرية لأن طبيعتهم قد اشتقت من عناصر السماء ـ بمعناها الرمزي ـ المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الارضي فهم ابداً ودائماً منابع الخير والطالعون بالنور والموروثون للايمان والحكمة والمركزون للسلطان الالهي في الارض وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس ولا بالساعين وراء نفائسها ولماذا لا يكون قوله : انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً كناية عن هذا المعنى لأن توريثهم لهذه الاشياء انما يكون بحيازتهم لها وتركهم اياها بعد موتهم وهم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً ولا يقيمون لها وزناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركة كما اذا قلنا : ان الفقراء لا يورثون لا انهم يختصون عن سائر الناس بحكم يقضي


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 113 )

    بعدم جريان احكام الارث على تركاتهم. والهدف الاصلي من الكلام بيان جلال الانبياء. وهذا الاسلوب من البيان مما يتفق مع الاساليب النبوية الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.
    4 ـ ولكي تتفق معي على تفسير معين للحديث يلزم ان نعرف معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم. ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورث من يكون سبباً لانتقال المال من الميت الى قريبه. وهذا الانتقال يتوقف على أمرين : ـ
    ( أحدهما ) وجود التركة.
    (والآخر) القانون الذي يجعل للوارث حصة من مال الميت ويحصل الاول بسبب نفس الميت والثاني بسبب المشروع الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً اسندت اليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبياً يشرع بوحي من السماء فكل من الميت والمشرع له نصيب من ايجاد التوارث ولكن المورث الحقيقي الذي يستحق التعبير عنه بهذا اللفظ بحق هو الميت الذي اوجد مادة الارث لانه هو الذي هيأ للارث شرطه الاخير بما خلفه من ثروة واما المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لانه لم يجعل بوصفه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاماً يقضي بأن الميت اذا كان قد ملك شيئاً وخلفه بعد موته فهو لأقاربه وهذا وحده لا يكفي لايجاد مال موروث في الخارج بل يتوقف على ان يكون الميت قد أصاب شيئاً من المال وخلفه بعده.
    فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً الى طبيعة من الطبائع فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها فاذا القيت اليها بورقة فاحترقت كنت انت الذي احرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق الى الطبيعة والقاعدة التي تعلل ذلك ان كل شيء يسند بحسب اصول التعبير الى


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 114 )

    المؤثر الاخير فيه وعلى ضوء هذه القاعدة نعرف ان نسبة التوريث الى شخص تدل على أنه المؤثر الاخير في الارث وهو الموروث الذي أوجد التركة فالمفهوم من جملة ان الانبياء يورثون انهم يحصلون على الاموال ويجعلونها تركة من بعدهم واذا نفي التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي انهم لا يهيؤون للارث شرطه الاخير ولا يسعون وراء الاموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم ، واذن فليس معنى الانبياء لا يوروثون عدم التوريث التشريعي ونفي الحكم بالارث لأن الحكم بالارث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في الحديث.
    وعلى طراز آخر من البيان ان التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الانبياء ان كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي الغاء قانون الارث من شرائع السماء ، لان توريثهم التشريعي لا يختص بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصة وان كان هو التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب للارث سقطت العبارة عما اراد لها الصديق من معنى وكان معناها ان الانبياء لا تركة لهم لتورث.
    5 ـ وفي الرواية الاولى مهد الخليفة للحديث بقوله : والله ما ورث ابوك ديناراً ولادرهماً وهذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركة وعدم ترك رسول الله (ص) شيئاً من المال فاذا صح للخليفة ان يستعمل تلك الجملة في هذا المعنى فليصح ان تدل صيغة الحديث عليه ايضاً ويكون هو المقصود منها.
    6 ـ واذا لاحظنا الامثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز قيمة هذا التفسير لان ذكر الذهب والفضة والعقار والدار ـ مع انها من مهمات التركة ـ لا يتفق مع تفسير الحديث بأن التركة لا تورث


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 115 )

    لأن اللازم ذكر اتفه الاشياء لبيان عموم الحكم بعدم الارث لسائر مصاديق التركة كما انا اذا اردنا ان نوضح عدم ارث الكافر لشيء من تركة ابيه لم نقل : ان الكافر لا يرث ذهباً ولا فضة ولا داراً وانما نقول : انه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميت وبتعبير واضح ان الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل اقسام التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم اندراجه في التركة التي لا تورث وقولنا : الانبياء لا يورثون او ان الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم يدل أول ما يدل على عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمها فذكر هذه الامور في الحديث يرجح ان المقصود بنفي توريث الانبياء بيان زهدهم وعدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأن المناسب لهذا الغرض ذكر الاموال المهمة التي تكون حيازتها وتوريثها منافياً للزهد والمقامات الروحية العليا. واما الاخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون اقسامها الواضحة المهمة.
    7 ـ وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الايجابية في الحديث أي جملة. ولكنا نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة فانها لا تدل على تشريع وراثة هذه الامور بل على توفرها في الانبياء الى حد يؤهلهم لنشرها واشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذ ان المراد بالجملة الاولى التي نفت التوريث بيان ان الانبياء لا يسعون للحصول على الذهب والعقار ونحوهما ولا يكون لهم من ذلك شىء ليرثه آلهم.
    8 ـ ولا يجوز لنا ان نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ان الناس لا يورثون الكافر من اقاربهم ، بل يلزمنا ان نفرق بين التعبيرين لأن المشرع اذا تكلم عمن يشرع لهم


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 116 )

    احكامهم كان الظاهر من كلامه انه يلقي بذلك عليهم حكماً من الاحكام فاخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عدم توريث الناس للكافر من اقاربهم لا يصح تفسيره بأنه اخبار فقط بل يدل فوق هذا على أن الكافر لا يرث في شريعته وتختلف عن ذلك العبارة التي نقلها الخليفة لأن موضوع الحديث فيها هو الانبياء لا جماعة ممن تشملهم تشريعات النبي (ص) واحكامه فليس في الامر ما يدل على حكم وراء الاخبار عن عدم توريثهم.
    9 ـ وليس لك ان تعترض بأن الانبياء كثيراً ما يحوزون على شيء مما ذكر في الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير ان يكون الحديث كاذباً لأنك قد تتذكر ان الذي نفي عن الانبياء هو التوريث خاصة وهو ينطوي على معنى خاص وأعني به اسناد الارث الى المورث وهذا الاسناد يتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تركه ميراثاً بعده كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب فاذا استطاع شخص ان يقرأ أفكار عالم من علماء الاخلاق ويهذب نفسه على هدى تلك الافكار لم يصح تسمية ذلك العالم مهذباً لأن ايجاد اي شيء سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليماً أو نحو ذلك لا يستقيم اسناده الى شخص الا اذا كان للشخص عمل ايجابي وتأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشيء الموجود والانبياء وان حازوا شيئاً من العقارات والدور ولكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً. ونقرر علاوة على هذا ان المقصود من الكلام ليس هو بيان ان الانبياء لا يورثون ولا يتركون مالاً بل ما يدل عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم وما دامت الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الانبياء لبعض تلك الاموال عن صواب التفسير الذي قدمناه كما ان من كنى قديماً عن الكريم بأنه كثير الرماد لم يكن كاذباً سواء أكان في بيت الكريم رماد او لا لأنه لم يرد


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 117 )

    نعته بهذا الوصف حقاً وانما اشار به الى كرمه لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرماد وعدم التوريث من اوضح آثار الزهد والورع فيجوز ان يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اشار الى ورع الانبياء بقوله : ان الانبياء لا يورثون.
    10 ـ ولأجل ان نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا ان نميز بين معان ثلاثة ـ :
    الاول : ان تركة الميت لا تورث ومعنى هذا ان ما كان يملكه الى حين وفاته وتركه بعده لا ينتقل الى آله بل يصبح صدقة حين موته.
    الثاني : ان ما تصدق به الميت في حياته او اوقفه على جهات معينة لا يورث بل يبقى صدقة ووقفاً والورثة انما يرثون غير الصدقات من الاموال التي كان يملكها الميت الى حين وفاته.
    الثالث : ان الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث وكل ما سوف يتركه من اموال انما هو من الصدقات والاوقاف.
    ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر ان صيغة الحديث ليست واضحة كل الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص بل في طاقتها التعبيرية امكانيات التفسير بالمعاني الانفة الذكر جميعا فان النصف الثاني من الحديث وهو ـ ما تركناه صدقة ـ يجوز ان يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدإ وخبر يمكن ان يكون تكملة لجملة لا نورث ففي الحال الاولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الاول والثالث من المعاني السابقة لأن جملة ـ ما تركناه صدقة ـ قد يراد بها ان التركة لا تنتقل من ملك الميت الى آله وانما تصبح صدقة بعد موته وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث وهو ان جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميت شيئاً ليورث كما اذا اشار الانسان الى امواله وقال : ان هذه الاموال


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 118 )

    ليست ملكاً لي وانما هي صدقات اتولاها والحديث على تقدير ان تكون له وحدة معنوية يدل على المعنى الثاني اي ان الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا تورث دون سائر تركته ويكون الموصول مفعولاً لا مبتدأ ويتضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها اذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا : ـ ما تركناه صدقة لا نورثه ـ فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان ان الصدقات لا تورث لا ان كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح ان يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلاً على عدم انتقال الصدقات الى الورثة لا على عدم تشريع الارث اطلاقاً وقد يكون من حق سيبويه علينا ان نشير الى ان قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال ـ ما تركناه صدقة ـ معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح ان الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة الى الحرف الاخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.
    11 ـ واذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله وليس من الاسراف في القول ان نقرر ان تفسير الحديث بما يدل على ان اموال النبي (ص) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نتبين لوناً من الرجحان للمعنى الثاني ـ وهو ان المتروك صدقة لا يورث ـ دون سائر التركة اذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث وهو النون وهضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصح الا على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن تواضع رسول الله (ص) في قوله وفعله فالظواهر تجمع على أن النون قد استعملت في جماعة وان الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها وليس مختصاً بالنبي (ص) والاوفق باصول التعبير ان تكون الجماعة جماعة المسلمين لا الانبياء لأن الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء ولم يسبق بعهد يدل عليهم وليس لك ان تعترض بأن صيغة الحديث يجوز انها كانت مقترنة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 119 )

    حال صدورها من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقرينة أو مسبوقة بعهد يدل على ان مراده من الضمير جماعة الانبياء لان اللازم ان نعتبر عدم ذكر الخليفة لشيء من ذلك ـ مع أن الراوي لحديث لا بد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره ـ دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. واضف الى هذا ان اغفال ذلك لم يكن من صالحه واذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيصة.
    والمفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (ص) وقد جرت عادة المتكلمين على انهم اذا أوردوا جملة في مجتمع من الناس وادرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة فلو ان شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه وأخذ يحدثهم وهو يعبر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء لفهم من الضمير ان المتكلم يعني بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم ولو أردا جماعة غير اولئك الحاضرين لم يكن مبيناً بل ملغزاً. وتعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي اثبته الحديث للمسلمين ـ الذين قد عرفنا ان الضمير يدل عليهم ـ هل يجوز ان يكون عبارة عن عدم توريث المسلم لتركته ؟ أو أن الاموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له وانما هي من الصدقات. كلا ! فان هذا لا ينفق مع الضروري من تشريع الاسلام ، لأن المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين. وانت ترى معي الآن بوضوح ان الحكم ليس الا ان الصدقة لا تورث فان هذا أمر عام لا يختص بصدقه دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن . لأن قواعد الشريعة واحكامها لم تكن قد تقررت


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 120 )

    واشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والاوقاف بموت المالك ورجوعها الى الورثة متسع.
    ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له واعتراضها به على الخليفة.
    أما أولاً : فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث ان السلطة الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالاً ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الانبياء على الدعوى الصارمة اذ يقول هكذا هو ـ كما في طبقات ابن سعد ـ فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثورة بنصيب الا الرد والفشل.
    وأمّا ثانياً : فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء وغرضها الذي كان يتلخص في القضاء على الاساليب التي هي أقرب الى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلاً في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معاً ولكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب ان يستنكر اغضاء الخليفة عنها كل احد ، ويجر ذلك الاستنكار الى معارضة حامية.
    فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين(1) والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الانبياء كيحيى وداود عليهما السلام ، ثم عرضت المسألة على وجه آخر وهو : ان ما حكم به الخليفة لو كان حقاً للزم ان يكون أعلم من رسول الله (ص) ووصيه لانهما لم
    ____________
    (1) من الواضحات العلمية اخيراً ان الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لانه حاكم او وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم واصالة الاطلاق وانما احتجت الزهراء بالآيات العامة لأنها لم تكن تعترف بوثاقة الصديق وعدالته.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 121 )

    يخبراها بالخبر مع انهما لو كانا على علم به لاخبراها به ، ومن الواضح ان الصديق لا يمكن ان يكون اعلم بحكم التركة النبوية من النبي (ص) أو علي الذي ثبتت وصايته لرسول الله (ص) وذلك في قولها :
    يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ اذ يقول : وورث سليمان داود ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا ( رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال ( واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) افخصكم الله بآية اخرج منها أبي ؟ ام هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان ؟ ! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ !(1).
    وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية وليس من العجيب ان تصرف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب فإنه السلطان الاول على النفس والمهد الطبيعي الذي تترعرع فيه روح الثورة.
    وقد نجحت الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهز المشاعر وتكهرب العواطف وتهيمن على القلوب كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء.
    ولأجل ان نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملونة بأروع الألوان لا بأس بأن نستمع الى الصديقة حين خاطبت الانصار بقولها :
    يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الاسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله (ص) يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان من احدثتم
    ____________
    (1) نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 122 )

    وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله (ص) أمتم دينه ها ان موته لعمري خطب جليل ، استوسع وهنه ، واستبهم فتقه ، وفقد راتقه واظلمت الارض له ، وخشعت الجبال واكدت الآمال ، اضيع بعده الحريم وهتكت الحرمة واذيلت المصونة ، وتلك نازلة اعلن بها كتاب الله قبل موته وانبأكم بها قبل وفاته فقال : ( وما محمّد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقيبه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) ايهاً بني قيلة أهتضم تراث أبي بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة ، ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجنن ، وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار الخ . .
    واذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث وتأويله مما تهضمها السلطات الحاكمة ولا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للثائرة من ثورتها.
    وهذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحلة في خطابها أيضاً.


    * * *

    1 ـ يجب الآن توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء في مسألة الميراث وتحديد رأيه فيها ـ بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقة من وضوح المعنى وخفائه ـ وهو موقف لا يخلو من تعقيد اذا تعمقنا شيئاً ما في درس المستندات التاريخية للقضية ومع ان المستندات كثيرة فانها مسألة محيرة ان نعرف ماذا عسى ان تكون النقطة التي اختلف فيها المتنازعان ، ومن الصعوبة توحيد هذه النقطة.
    والناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر والزهراء هو مسألة توريث الانبياء فكانت الصديقة تدعي توريثهم والخليفة ينكر ذلك. وتقدير الموقف على هذا الشكل لا يحل المسألة حلاً نهائياً ولا يفسر عدة أمور ـ :


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 123 )

    ( الأول ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها ـ وقد طالبته بفدك ـ : ان هذا المال لم يكن للنبي (ص) وانما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليته كما كان يليه. فان هذا الكلام يدل بوضوح على أنه كان يناقش في أمر آخر غير توريث الانبياء.
    ( الثاني ) : قوله لفاطمة في محاورة اخرى : أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي وقد قال رسول الله (ص) : لا نورث ما تركناه صدقة يعني هذه الاموال القائمة وهذه الجملة التفسيرية التي الحقها الخليفة بالحديث تحتاج الى عناية فانها تفيدنا ان الخليفة كان يرى ان الحكم الذي تدل عليه عابرة الحديث مختص بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليس ثابتاً لتركة سائر الانبياء ولا لتركة سائر المسلمين جميعاً فحدد التركة التي لا تورث بالاموال القائمة وذكر ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعنيها هي بالحديث. وعلى هذا التحديد نفهم ان المفهوم للخليفة من الحديث ليس هو عدم توريث الصدقات لأن هذا الحكم عام ولا اختصاص له بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا يجوز ان يحدد موضوعه بالاموال القائمة بل كان اللازم حينئذ ان يأتي الخليفة بجملة تطبيقية بأن يقال : ان الاموال القائمة مما ينطبق عليه الحديث.
    كما يتضح لدينا ان الخليفة لم يكن يفسر الحديث بأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث تركته وأملاكه التي يخلفها بل تصبح صدقة بعد موته لانه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على اسلوب آخر لأن المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركة النبي (ص) على الاطلاق ولا يعني الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك ان هذه الاموال الخاصة لو كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك ان هذه الاموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك النبي (ص) قبل وفاته لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتاً لها كما ان غيرها من


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 124 )

    الاموال لو حصل ( للنبي ) لما ورثها آله أيضاً ، فعدم توريث التركة النبوية ان ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من املاك سواء أكانت هذه التي خلفها أو غيرها. ولا يصح ان يقال : انه عنى بالتركة الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء.
    ونظير ذلك قولك لصاحبك : أكرم كل من يزورك الليلة ثم يزوره شخصان فانك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصة وانما انطبق عليهما الامر دون غيرهما على سبيل الصدقة. وعلى اسلوب اوضح ان تفسير التركة التي لا تورث بأموال معينة ـ وهي الاموال القائمة ـ يقضي بأن الحكم المدلول عليه بالحديث مختص ـ عند المفسر ـ بهذه الاموال المحدودة.
    ولا ريب ان تركة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لو كانت لا تورث لما اختص الحكم بالاموال المعينة المتروكة بالفعل بل لثبت لكل ملك يتركه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان لم يكن من تلك الاموال وأيضاً فمن حق البحث ان أتساءل عن فائدة الجملة التفسيرية والغرض المقصود من ورائها فيما اذا كان الحكم المفهوم للخليفة من الحديث أن أملاك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث فهل كان صدق التركة على الاموال القائمة مشكوكاً ؟ فأراد ان يرفع الشك لينطبق عليها الحديث ويثبت لها الحكم بعدم التوريث ، واذا صح هذا التقدير فالشك المذكور في صالح الخليفة لأن المال اذا لم يتضح انه من تركة الميت لا ينتقل الى الورثة فلا يجوز أن يكون الخليفة قد حاول رفع هذا الشك ولا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء من المناقشة في انطباق الحديث على ما تطالب به من اموال لأنها ما دامت قد طالبت بالاموال القائمة على وجه الارث فهي تعترف بانها من تركة رسول الله (ص) ولنفترض ان الاموال القائمة قسم من التركة النبوية


    [/align]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    وليس المقصود منها مخلفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً ـ ولعلها عبارة عن الاموال والعقارات الثابتة نحو فدك ـ فهل يجوز لنا تقدير أن غرض الخليفة من الجملة تخصيص الاموال التي لا تورث بها ؟ لا أظن ذلك ، لان أملاك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تختلف في التوريث وعدمه. ونخرج من هذه التأملات بنتيجة وهي أن المفهوم من الحديث للخليفة ان رسول الله (ص) أخبر عن عدم تملكه للاموال القائمة وأشار اليها بوصف التركة فقال ما تركناه صدقة فشأنه شأن من يجمع ورثته ثم يقول لهم ان كل تركتي صدقة يحاول بذلك أن يخبرهم بأنها ليست ملكاً له ليرثوها بعده لأن ذلك هو المعنى الذي يمكن أن يختص بالاموال القائمة ويحدد موضوعه بها : ( الثالث ) : جواب الخليفة لرسول ارسلته فاطمة ليطالب بما كان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر اذ قال له : ان رسول الله (ص) قال : لا نورث ما تركناه صدقة انما يأكل آل محمّد من هذا المال ، واني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (ص). فاننا اذا افترضنا أن معنى الحديث في رأي الخليفة عدم توريث النبي (ص) لاملاكه كان كلامه متناقضاً لان استدلاله بالحديث في صدر كلامه يدل حينئذ على أنه يعترف بأن ما تطالب به الزهراء هو من تركة النبي «ص» وأملاكه التي مات عنها ـ ليصح انطباق الحديث عليه ـ والجملة الاخيرة من كلامه وهي قوله : وأني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (ص) تعاكس هذا المعنى لأن ما طلبت الزهراء تغييره عن أيام النبي (ص) ـ بزعم الخليفة ـ هو فدك وعقاراته في المدينة وما بقي من خمس خيبر فأبو بكر حين يقول : اني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء ورأى معنى


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 126 )

    مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقة ومعنى تسميته لها بصدقات رسول الله (ص) ان من رأيه أنها ليست ملكاً للنبي (ص) بل من صدقاته التي كان يتولاها في حياته ويوضح لنا هذا ان استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم يكن لاثبات ان املاك النبي (ص) لا تورث وانما أراد بذلك توضيح ان الأموال القائمة ليست من أملاك النبي لأنه (ص) ذكر أنها صدقة.
    2 ـ ونستطيع أن نتبين من بعض روايات الموضوع ان الخليفة ناقش في توريث الانبياء لأملاكهم ولم يقصر النزاع على الناحية السابقة فان الرواية التي تحدثنا بخطبة الزهراء واستدلال أبي بكر بما رواه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من حديث : أنا معاشر الانبياء لا نورث الخ .. واعتراض الزهراء عليه بالآيات العامة المشرعة للميراث والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الانبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعة اذ ينكر أبو بكر توريث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمواله ويستند الى الحديث في ذلك ويلح في الانكار كما تلح فاطمة في مناقشته والتشبت بوجهة نظرها في المسألة.
    3 ـ واذن فللخليفة حديثان : ـ
    ( الاول ) لا نورث ما تركناه صدقة.
    ( والثاني ) أنا معاشر الانبياء لا تورث ذهباً ولا فضة. وقد ادعى أمرين : ـ
    « أحدهما » ان فدكاً صدقة فلا نورث.
    « والآخر » ان النبي (ص) لا تورث املاكه واستدل بالحديث الاول على أن فدكاً صدقة وبالحديث الثاني على أن النبي (ص) لا يورث.


    * * *

    1 ـ قد لا يكون من العسير تصفية الحساب مع الخليفة بعد أن


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 127 )

    اتضح موقفه وتقررت الملاحظات التي لا حظناها في الحديثين الذين رواهما عن النبي (ص) وتتلخص المؤاخذة التي آخذناه بها حتى الآن في عدة أمور نشير اليها لنجمع نتائج ما سبق :
    ( الاول ) ان الخليفة لم يصدق روايته في بعض الاحاديين كما المعنا في مستهل هذا الفصل . .
    ( الثاني ) ان من الاسراف في الاحتمال ان نجوز اسرار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى الخليفة بحكم تركته واخفاءه عن بضعته وسائر ورثته وكيف اختص الخليفة دون غيره بمعرفة الحكم المذكور(1) مع أن النبي (ص) لم يكن من عادته الاجتماع بأبي بكر وحده الا بأن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبره بالخبر في خلوة متعمدة ليبقى الامر مجهولاً لدى ورثته وبضعته ويضيف بذلك الى آلامها من ورائه محنة جديدة.
    ( الثالث ) ان علياً هو وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا ريب للحديث الدال على ذلك الذي ارتفع به رواته الى درجة التواتر واليقين حتى شاع في شعر أكابر الصحابة فضلا عن رواياتهم كعبد الله ابن عباس وخزيمة بن ثابت الانصاري وحجر بن عدي وأبي الهيثم بن التيهان وعبدالله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبدالمطلب وحسان بن ثابت وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(2) واذن فالوصاية من الاوسمة الاسلامية الرفيعة التي اختص بها الامام بلا ريب(3).
    ____________
    (1) حتى قالت عائشة في كلام لها. واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحاد في ذلك علماً فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (ص) يقول : انا معاشر الانبياء لا نورث الخ ، راجع صواعق ابن حجر.
    (2) راجع شرح النهج ج1 ص47 ـ 49 وج3 ص15.
    (3) قال ابن أبي الحديد ج1 ص46 : فلا ريب عندنا ان علياً (ع) كان وصي رسول الله (ص) وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا الى العناد.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 128 )

    وقد اختلف شيعة علي وشيعة أبي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب السابقون الاولون الى أنها بمعنى النص عليه بالخلافة وتأولها الآخرون فقالوا : ان علياً وصي رسول الله (ص) على علمه أو شريعته أو مختصاته ولا نريد الآن الاعتراض على هؤلاء أو تأييد اولئك وانما نتكلم على الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث ونقرر النتيجة التي يقضي بها على كل من تلك التفاسير.
    فنفترض اولاً : ان الوصاية بمعنى الخلافة ثم نتبين الصديق على هدى الحديث فاننا سوف نراه شخصاً سارقاً لأنفس المعنويات الاسلامية ومتصرفاً في مقدرات الامة بلا سلطان شرعي. ولا مجال لهذا الشخص حينئذ ان يحكم بين الناس. ولا يسعنا ان نؤمن له بحديث . ولنترك هذا التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا ونقول : ان علياً وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على علمه وشريعته فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية المقدسة ان نؤمن بحديث ينكره الوصي . وما دام هو العين الساهرة على شريعة السماء فلابد ان يؤخذ رأيه في كل مسألة نصاً لا مناقشة فيه لأنه ادرى بما اوصاه به رسول الله (ص) وأئتمنه عليه وخذ اليك بعد ذلك الاسلوب الثالث فانه ينتهي الى النتيجة السابقة عينها لأن علياً اذا كان وصياً لرسول الله (ص) على تركته ومختصاته فلا معنى لسطو الخليفة على التركة النبوية ووصي النبي (ص) عليها موجود وهو اعرف بحكمها ومصيرها الشرعي.
    ( الرابع ) ان تأميم التركة النبوية من اوليات الخليفة في التاريخ ولم يؤثر في تواريخ الامم السابقة ذلك ولو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها الخلفاء بالنسبة الى تركة سائر الانبياء لاشتهر الامر وعرفته أمم الانبياء جميعاً.
    كما ان انكار الخليفة لملكية رسول الله (ص) لفدك ـ كما تدل


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 129 )

    عليه بعض المحاورات السابقة ـ كان فيه من التسرع شيء كثير لأن فدكاً مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً باتفاق أعلام المؤرخين من السنة والشيعة. وكل ارض يستسلم أهلها على هذا الاسلوب فهي للنبي (ص) خالصة. وقد أشار الله تعالى في الكتاب الكريم الى ان فدكاً للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه بخيل ولا ركاب(1) ولم يثبت تصدق النبي بها ووقفه لها.
    (الخامس) ان الحديثين الذين استدل بهما في الموضوع لا يقوم منهما دليل على ما أراد ، وقد خرجنا من دراستهما قريباً بمعنى لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفة عن قرب أو بعد ، وان أبيت فلتكن المعاني الآنفة الذكر متكافئة ولتكن العبارة ذات تقادير متساوية. ولا يجوز حينئذ ترجيح معنى لها والاستدلال بها عليه.
    2 ـ هذه هي الاعتراضات التي انتهينا اليها آنفاً. ونضيف اليها الآن اعتراضاً سادساً بعد ان نفترض ان جملة انا معاشر الانبياء لا نورث أقرب الى نفي الحكم بالميراث منها الى نفي التركة الموروثة ونقدر لجملة : لا نورث ما تركناه صدقة. من المعنى ما ينفع الخليفة ونلغي تفسيرها بأن الصدقة المتروكة لا تورث ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقادير. وهذا الاعتراض الجديد هو ان اللازم ـ في العرف العلمي ـ متى صحت هذه الفروض تأويل الخبر ولم يجز الركون الى أوضح معانيه لأنه يقرر حينئذ عدم توريث سائر الانبياء لتركاتهم لما جاء في بعضها من التصريح بالتعميم نحو انا معاشر الانبياء لا نورث ولما دل عليه بالنون في قوله لا نورث ما تركناه صدقة ، من تعليق الحكم على جماعة وحيث
    ____________
    (1) راجع سيرة ابن هشام ج2 ص239 وتاريخ الكامل ج2 ص85 وشرح النهج ج4 ص78.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 130 )

    يتضح ان الحكم في الحديث عدم توريث التركة يتجلى ان المراد بالجماعة جماعة الانبياء اذ لا توجد جماعة اخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها الى الورثة ، وقد دل صريح القرآن الكريم على توريث بعض الانبياء اذ قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مخبراً عن زكريا عليه السلام : « واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً » والارث في الآية بمعنى ارث المال لأنه هو الذي ينتقل حقيقة من الموروث الى الوارث وأما العلم والنبوة فلا ينتقلان انتقالاً حقيقياً ، وامتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل والمعقول(1) واضح كل الوضوح واما اذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما فلا ريب في تجرد الصور العلمية(2) وانها قائمة بالنفس قياماً صدورياً(3) بمعنى انها معلولة للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات ـ
    ____________
    (1) وتقوم الفكرة في هذه النظرية على أن الصور المعقولة ـ وهي عبارة عن وجود مجرد عن المادة ـ لاقوام لها الا بكونها معقولة فالمعقولية نفس هويتها وتجردها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. وهذا آية الوحدة الوجودية واذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود وكلما صار الوجود النفسي مصداقاً فالمفهوم عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري واصبح من طراز أرفع ، ولا مانع مطلقاً من اتحاد مفاهيم متعددة في الوجود كما يتحد الجنس والفصل وليس ذلك كالوحدة الوجودية لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين فان هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب العقل دون ذاك الاتحاد. والتوسع لا مجال له.
    (2) فان الحق تجرد جميع مراتب العلم والصور المدركة ولكن على تفاوت في مراتب التجريد فان المدرك بالذات لا يمكن ان يكون نفس الشيء بهويته المادية فحتى المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرد وليس في نورية خروج الشعاع أو الانطباع وما ثبت حول الرؤية في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسر الادراك البصري تفسيراً فلسفياً فلابد من الاعتراف بتجرده فضلاً عن الخيال والعقل وقد أوضحنا هذا المذهب في كتابنا العقيدة الالهية في الاسلام.
    (3) لا قياماً حلولياً بمعنى كونها اعراضاً لها وانما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة لحل المشكلة التي اعترضت الباحثين عندما ارادوا ان يوفقوا بين أدلة الوجود الذهني وبين ما اشتهر من كون العلم كيفا وهي ان الصورة المعقولة اذا كانت كيفا فما نتعلقه من الانسان ليس جوهراً لأنه كيف وليس
    =


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 131 )

    لا بمجرد الاتصال فقط ـ متقوم بعلته ومرتبط الهوية بل فيستحيل انتقاله الى علة اخرى ولو افترضنا ان الصور المدركة اعراض وكيفيات قائمة بالمدرك قياماً حلولياً فيستحيل انتقالها لاستحالة انتقال العرض من موضوع الى موضوع كما برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بان اعترافنا باشتمال الصور المدركة على الخصائص العامة للمادة من قابلية الانقسام ونحوها.
    واذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول الصور العلمية جيمعاً.
    واذا لاحظنا النبوة وجدنا انها هي الاخرى أيضاً مما لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقلنا انها مرتبة من مراتب الكمال النفسي ودرجة من درجات الوجود الانساني الفاضل الذي ترتفع اليه المهية الانسانية في ارتقاءاتها الجوهرية وتصاعداتها نحو الكمال المطلق أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من الكلمة واعتبرنا النبوة منصباً إلهياً مجعولاً لا كمنصب الملك والوزير ويكون ذلك التكامل النفسي شرطاً له فالمفهوم الاول يمتنع انتقاله بالضرورة لأنه نفس وجود النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكمالاته الذاتية ، والنبوة بالمعنى الآخر
    ____________
    =
    انساناً اذن لان كل انسان جوهر وانما هو مثال. ولما أفلست جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهة من انكار الوجود الذهني وتقرير مذهب المثالية. واختيار التعدد وكون العلم عرضاً والمعلوم جوهراً وتفسير الجوهر بأنه الموجود المستقل خارجاً لا ذهناً والانقلاب : اضطر الباحثون المتأخرون الى تقرير ان الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا كيف غير ان الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي اختار في الاسفار انها جوهر بحسب ماهيتها وكيف بالعرض. ويمكن الاعتراض عليه بأن كل ما بالعرض لابد ان ينتهي إلى ما بالذات واذن فلابد ان نفترض كيفاً حقيقياً متحداً مع الصورة لتكون كيفا بالعرض وتنتهي النظرية حينئذٍ بصاحبها إلى أحد أمرين أما الالتزام بتعدد ما في النفس أو الاصطدام بالمشكلة الاولى نفسها ولذا كان الافضل تقرير ان الصورة المدركة من الانسان مثلاً جوهر وليست بعرض اطلاقاً وارتباطها بالنفس ارتباط المعلول بالعلة لا العرض بموضوعه.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 132 )

    يستحيل انتقالها أيضاً لأنها حينئذ أمر اعتباري متشخص الاطراف ولا يعقل تبدل طرف من اطرافه الا بتبدل نفسه وانقلابه إلى فرد آخر فنبوة زكريا مثلاً هي هذه التي اختص بها زكريا ولن يعقل ثبوتها لشخص آخر لانها لا تكون حينئذ تلك النبوة الثابتة لزكريا بل منصباً جديداً أو مقاماً نبوياً حادثاً.
    والنظر الاولي في المسألة يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوة من دون حاجة إلى هذا التعمق والتوسع واذن فالنتيجة التي يقررها العقل في شوطه الفكري القصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي ان المال وحده الذي ينتقل دون العلم والنبوة.
    3 ـ وقد يعترض على تفسير الارث في كلام زكريا بارث المال بأن يحيى عليه السلام لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بارث النبوة لأن يحيى قد حصل عليها ويكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب. ولكن هذا الاعتراض لا يختص بتفسير دون تفسير لأن يحيى عليه السلام كما انه لم يرث مال أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. وما ثبت له من النبوة لم يكن وراثياً وليس هو مطلوب زكريا وانما سأل زكريا ربه وارثاً يرثه بعد موته ولذا قال : واني خفت الموالي من ورائي أي بعد موتي فان كلامه يدل بوضوح على أنه اراد وارثاً يخلفه ولم يرد نبياً يعاصره والا لكان خوفه من الموالي بعد وفاته باقياً ـ فلا بد ـ على كل تقدير ـ ان نوضح الآية على اسلوب يسلم عن الاعتراض وهو أن تكون جملة يرثني ويرث من آل يعقوب ، جواباً للدعاء بمعنى ان رزقتني ولداً يرث لا صفة ليكون زكريا قد سأل ربه ولياً وارثاً. فما طلبه النبي من ربه تحقق وهو الولد وتريثه وتوريثه المال أو النبوة لم يكن داخلاً في جملة ما سأل ربه وانما كان لازماً لما رجاه في معتقد زكريا (ع).
    ويختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جواباً من النواحي اللفظية


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 133 )

    في الاعراب لأن الفعل اذا كان صفة مرفوع واذا كان جواباً يتعين جزمه. وقد ورد في قراءته كلا الوجهين.
    واذا لاحظنا قصة زكريا في موضعها القرآني الآخر وجدنا انه لم يسأل ربه الا ذرية طيبة فقد قال تبارك وتعإلى في سورة آل عمران : هنالك دعا زكريا ربه قال : ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) .
    وافضل الاساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزاً على القرآن نفسه وعلى هذا فنفهم من هذه الآية ان زكريا كان مقتصداً في دعائه ولم يطلب من ربه الا ذرية طيبة وقد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جملة واحدة تارة وجعل لكل من الذرية ووصفها دعوة مستقلة في موضع آخر فكانت جملة هب لي من لدنك ولياً طلباً للذرية وجملة واجعله ربي رضياً دعوة بأن تكون الذرية طيبة. واذا جمعنا هاتين الجملتين ادت نفس المعنى الذي تفيده عبارة هب لي من لدنك ذرية طيبة. وتخرج كلمة ( يرثني ) بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء ولا بد حينئذ ان تكون جواباً له.
    4 ـ وعلى ذلك يتضح ان كلمة الارث في الآية الكريمة قد اعطيت حقها من الاستعمال واريد بها ارث المال لا ارث النبوة لأن الشيء انما يصح ان يقع جواباً للدعاء فيما اذا كان ملازماً للمطلوب ومتحققاً عند وجوده دائماً او في أكثر الاحايين. ووراثة النبوة ليست ملازمة لوجود الذرية اطلاقاً بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الاشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذة وكمال عظيم فلا يجوز ان توضع النبوة بجلالها الفريد جواباً لسؤال الله تعإلى ذرية طيبة لأن النسبة بين الذرية الانسانية وبين الجديرين بتحمل اعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين واما وراثة المال فيمكن ان تكون جواباً لدعاء زكريا عليه السلام لأن الولد يبقى بعد أبيه على الأكثر فوراثته للمال مما يترتب على وجوده


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 134 )

    غالباً واضف إلى ذلك ان زكريا نفسه لم يكن يرى النبوة ملازمة لذريته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية ولذا سأل ربه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضياً.
    5 ـ ولنترك هذا لندرس كلمة الارث في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جواب للدعاء. وفي رأيي ان هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج بنتيجة جديدة بل الارث في كلمة ـ يرثني ـ هو ارث المال في الحالين معاً بلا ريب. والذي يعين هذا المعنى للكلمة على التقدير الجديد أمران : ـ
    الاول : ان زكريا عليه السلام لو كان قد طلب من ربه ولداً وارثاً لنبوته لما طلب بعد ذلك ان يكون رضياً لأنه خدل في دعوته الاولى ما هو رافع من الرضا.
    الثاني : ان اغفال الارث بالمرة في قصة زكريا الواردة في سورة آل عمران ان لم يدل على ان الارث خارج عن حدود الدعاء فهو في الاقل يوضح ان معنى الارث في الموضع القرآني الآخر للقصة ارث المال لا ارث النبوة لأن زكريا لو كان قد سأل ربه أمرين أحدهما ان يكون ولده طيباً رضياً والآخر ان يرث نبوته لما اقتصر القرآن الكريم على ذكر الوصف الاول الذي طلبه زكريا عليه السلام فانه ليس شيئاً مذكوراً بالاضافة الى النبوة ، ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما اذا سألك سائل بستاناً ودرهماً فاعطيته الامرين معاً ثم اردت ان تنقل القصة وتخص الدرهم بالذكر. لا أراك تفعل ذلك الا اذا كنت كثير التواضع ورجحان البستان على الدرهم في حساب القيم المادية دون امتياز النبوة على طيب الذرية في موازين المعنويات الروحية واذن فقصة زكريا التي جاءت في سورة آل عمران. ولم يذكر فيها عن الارث كثير او قليل دليل على ان الارث المذكور في الصورة الاخرى للقصة بمعنى ارث المال لا ارث النبوة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 135 )

    والا لكان من أبرز عناصر القصة التي لا يمكن اغفالها.
    6 ـ ولاحظ بعض الباحثين في الآية الكريمة نقطتين تفسران الارث فيها بإرث النبوة.
    الاولى ـ قول زكريا عاطفاً على كلمة (يرثني) : ـ ويرث من آل يعقوب ـ فان يحيى لا يرث أموال آل يعقوب ، وانما يرث منهم النبوة والحكمة.
    الثاني ـ ما قدمه النبي تمهيداً لدعائه من قوله : وأني خفت الموالي من ورائي حيث ان خوفه انما كان بسبب الاشفاق على معالم الدين والرغبة في بقائها باستمرار النبوة لأن هذا هو اللائق بمقام الانبياء دون الحرص على الاموال والخوف من وصولها الى بعض الورثة.
    واعترض أصحابنا على النقطة الاولى بان زكريا عليه السلام لم يسأل ربه ان يرث ولده أموال آل يعقوب جميعاً وانما اراد ان يرث منها فلا يكون دليلا على التفسير المزعوم.
    وأمّا النقطة الثانية فهي من القرآئن على التفسير الذي اخترناه لأن الخوف على الدين والعلم من ابناء العم لا معنى له لأن اللطف الالهي لا يترك الناس سدى بلا حجة بالغة فمعالم الدين وكلمة السماء محفوظة بالرعاية الالهية والنبوة مخصوصة أبداً بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشى عليها من السطو والنهب واذن فماذا كان يحسب زكريا ربه صانعاً لو لم يمن عليه بيحيى ، أكان يحتمل ان يكلف برسالته مواليه أعني بني عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الالهية وعدم جدارتهم بهذا الشرف او كان يرى ان الله تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجة عليه ليس هذا ولا ذاك مما يجوزه نبي. وانما خاف زكريا من بني اعمامه على امواله فطلب من الله ولداً رضياً يرثها. ولا جناح عليه في ذلك اذ يحتمل ان


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 136 )

    تكون رغبته في صرف امواله عن بني عمومته بسبب أنها لو آلت اليهم لوضعوها في غير مواضعها وانفقوها في المعاصي والوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشر وامارات السوء حتى قيل انهم شرار بني اسرائيل.
    وقد حاول ابن أبي الحديد ان يصور وجهاً لخوف زكريا من الموالي على الدين من ناحيتين : ـ
    الاولى : عن طريق اصول الشيعة فذكر ان دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبي غير مستقيم على مذهب الشيعة لأن المكلفين قد حرموا بغيبة الامام عندهم الطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والاعياد وهم يقولون في ذلك ان اللوم على المكلفين لانهم قد حرموا انفسهم اللطف فهلا جاز ان يخاف زكريا عليه السلام من تبديل الدين وتغييره وافساد الاحكام الشرعية لأنه انما يجب على الله التبليغ بالرسول الى المكلفين فاذا أفسدوا هم الاديان وبدلوها لم يجب عليه ان يحفظها عليهم لاٌهم هم الذين حرموا انفسهم اللطف.
    ولأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم انتقل بك الى الناحية الثانية فأقول : ان الخوف من انقطاع النبوة انما يصح على اصول الشيعة اذا نشأ عن احتمال افساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك كما هو الحال في زمان غيبة الامام المنتظر صلوات الله عليه لا فيما اذا كان سببه الاطلاع على عدم لياقة جماعة خاصة للنبوة مع استحقاق الناس لها فان ارسال الرسول أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله تعالى لما أوجبه على نفسه من اللطف بعباده واذن فقصور أبناء العمومة عن نيل المنصب الالهي لا يجوز ان ينتهي بزكريا إلى احتمال انقطاع النبوة وانطماس معالم الدين اذا كان الناس مستحقين للالطاف الالهية. واذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 137 )

    السماء والارض سواء أكان بنو العمومة صالحين للنبوة أو لا وسواه من الله عليه بذرية أو بقي عقيماً. والآية الكريمة تدل على أن الباعث إلى الخوف في نفس زكريا انما هو فساد الموالي لا فساد الناس.
    الناحية الثانية : عن طريق تفسير الموالي بالأمراء بمعنى ان زكريا خاف ان يلي بعد موته امراء ورؤساء يفسدون شيئاً من الدين فطلب من الله ولداً ينعم عليه بالنبوة والعلم ليبقى الدين محفوظاً.
    ولنا أن نتساءل عما اذا كان هؤلاء الرؤساء الذين اشفق على الدين منهم هم الانبياء الذين يخلفونه أو أنهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء. ولا خوف منهم على التقدير الاول اطلاقاً لأنهم انبياء معصومون. واما اذا كانوا ملوكاً فقد يخشى منهم على الدين ولكن ينبغي ان نلاحظ ان وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة والاستخفاف بالدستور الالهي اولا فان كان كافياً لوقاية الشريعة وصون كرامتها فلماذا خاف زكريا من اولئك الامراء ما دامت الالطاف الالهية قد ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الانسانية الواعية وخلود الاتصال بين الأرض والسماء ما بقيت الارض اهلاً للتثقيف السماوي. وان لم يكن وجود النبي كافياً للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد لزكريا يرث عنه النبوة ما دام النبي قاصراً عن مقاومة القوة الحاكمة وما دام الامراء من الطراز المغشوش مع ان الآية تدل على أن زكريا كان يرى ان خوفه يرتفع فيما اذا من الله عليه بولد رضي يرثه.
    ونتيجة هذا البحث ان الارث في الآية هو ارث المال بلا ريب. واذن فبعض الانبياء يورثون وحديث الخليفة يقضي بأن الجميع لا يورثون
    فالآية والرواية متعاكسان وكل ما عارض الكتاب الكريم فهو ساقط.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 138 )

    ولا يجوز ان نستثني زكريا خاصة من سائر الانبياء لأن حديث الخليفة لا يقبل هذا الاستثناء وهذا التفريق بين زكريا عليه السلام وغيره والنبوة ان اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون ولا نحتمل أن يكون لنبوة زكريا عليه السلام خاصية جعلته يورث دون سائر الانبياء. وما هو ذنب زكريا عليه السلام أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز. أضف إلى ذلك ان تخصيص كلمة الانبياء الواردة في الحديث والخروج بها عما تستحقه من وضع لا ضرورة له بعد أن كان الحديث قابلاً للتفسير على اسلوب آخر ان لم يكن هو المفهوم الظاهر من الحديث كما اوضحناه سابقاً فهو تفسير على كل حال فلماذا نفسر الحديث بأن تركة النبي لا تورث لنضطر إلى ان نقول بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعني بالانبياء غير زكريا عليه السلام بل لنأخذ بالتفسير الآخر ونفهم من الحديث ان الانبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه ونحفظ للفظ العام حقيقته(1).
    ونعرف مما سبق ان صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما اراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم ومصيرها الاهمال حينئذ وليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركاً قانونياً في موضوع التوريث ولذا لم يتفطن الصديق إلى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآية الآنفة الذكر ولم يوفق واحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه. وليس ذلك الا لأنهم احسوا بوضوح ان الحديث يناقض الآية بمعناه الذي يبرر موقف الحاكمين.
    ____________
    (1) والجملة خبرية وليست انشائية لان انشاء حكم على الانبياء بعد وفاتهم وانقراض ورثتهم لا معنى له وحينئذ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال وليس شأن صيغة الحديث شأن الجمل الانشائية التي يكشف تخصيصها عن عدم ارادة الخاص بالارادة الجدية ويقدم لذلك على سائر التأويلات والتجوزات بل هي خبرية والجملة الخبرية اذا خالفت الارادة الاستعمالية فيها الجد والحقيقة كانت كذباً فتخصيصها يستلزم صرفها إلى المعنى المجازي وحينئذ فلا يرجع على تجوز آخر اذا دار الأمر بينهما.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 139 )

    ولا يمكن ان نعتذر عن الخليفة بأنه يجوز اختيار أحد النصين المتناقضين وتنفيذه كما يرتئيه جماعة من علماء الاسلام وقد اختار ان ينفذ مدلول الحديث وذلك لأن المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق وهل بعد الحق الا الضلال.


    * * *

    الناحية الثانية : المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اياها فدكاً فقد ادعت الصديقة النحلة وشهد بذلك قرينها وأم أيمن فلم يقبل الخليفة دعواها ولم يكتف بشاهديها وطالبها بينة كاملة وهي رجلان او رجل وامرأتان.
    1 ـ والنقطة الاولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم في المسألة مع أن خلافته لم تكتسب لوناً شرعياً إلى ذلك الحين على أقل تقدير ولكننا لا نريد الآن ان نضع هذه المؤاخذة قيد الدرس لأن المناقشة على هذا الشكل تبعثنا إلى آفاق واسعة من البحث وتضطرنا إلى نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسة في الاسلام وهي عملية لها حساب طويل.
    2 ـ والملاحظة الثانية في الموضوع هي ان فدكاً اذا كانت في حيازة الزهراء عليها السلام فلا حاجة لها إلى البينة وفي هذه الملاحظة امران :
    أولاً : من هو الذي كانت فدك في حيازته ؟ وهل كانت في يد الزهراء حقاً ؟ قد يمكن ان نفهم ذلك من قول أمير المؤمنين في رسالته الخالدة إلى عثمان بن حنيف : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. فان المفهوم من كلمة أيدينا ان فدكاً كانت في أيدي أهل البيت وقد نصت على ذلك روايات الشيعة.


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 140 )

    وحصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الامام بفدك يدل على أنها كانت في حيازة علي وزوجه خاصة ويمنع عن تفسير العبارة بان فدكاً كانت في يد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باعتبار ان حيازته حيازة أهل البيت لأننا نعلم ان رسول الله (ص) كانت في يده أشياء اخرى غير فدك من مختصاته واملاكه.
    وثانياً : هل الحيازة دليل على الملكية ؟ والجواب الايجابي عن هذه المسألة مما أجمع عليه المسلمون ولولا اعتبارها كذلك لاختل النظام الاجتماعي للحياة الانسانية.
    وقد يعترض على دعوى ان فدكاً كانت في يد الزهراء بانها لم تحتج بذلك ولو كانت في يدها لكفاها ذلك عن دعوى النحلة والاستدلال بآيات الميراث وفي المستندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الاعتراض لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة غير أننا لا نريد دراسة المسألة على ضوء شيء منها.
    ولكن ينبغي أن نلاحظ أن فدكاً كانت أرضاً مترامية الأطراف وليس شأنها شأن التوافه من الاملاك والمختصات الصغيرة التي تتضح حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة. فاذا افترضنا ان فدكاً كانت في يد فاطمة يتعهدها وكيلها الذي يقوم بزراعتها فمن يجب ان يعرف ذلك من الناس غير الوكيل.
    ونحن نعلم ان فدكاً لم تكن قريبة من المدينة ليطلع أهلها على شؤونها ويعرفوا من يتولاها فقد كانت تبعد عنها بأيام كما أنها قرية يهودية وليست في محيط اسلامي لتكون حيازة فاطمة لها معروفة بين جماعة المسلمين.
    فماذا كان يمنع الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفة سوف يطالبها بالبينة على أن فدكاً في يدها اذا ادعت ذلك كما طالبها على النحلة ما دام


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 141 )

    في نظرها ـ مسيراً في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشيء.
    وكان من السهل في ذلك اليوم ان تبتلع الحوت وكيل فاطمه على فدك أو أي شخص له اطلاع على حقيقة الامر كما ابتلعت أبا سعيد الخدري فلم يرو النحلة وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة وأراحت الفاروق(1) أو أن يتهم بالردة لأنه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما اتهم مانعوا الزكاة والرافضون لتسليمها له.
    3 ـ ولنترك هذه المناقشة لنصل إلى المسألة الأساسية وهي : ان الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء ويؤمن بآية التطهير التي نفت الرجس عن جماعة منهم فاطمة أولاً.
    ونحن لا نريد ان نتوسع في الكلام على العصمة واثباتها للصديقة بآية التطهير لأن موسوعات الامامية في فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمة ولا نشك في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت تحدث بنزول آية التطهير في فاطمة وقرينها وولديها(2) وقد صرحت بذلك صحاح الشيعة والسنة وكان رسول الله (ص) كلما خرج إلى الفجر بعد نزول الآية يمر ببيت فاطمة ويقول الصلاة يا أهل البيت انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ، وقد استمر على هذا ستة أشهر(3).
    ____________
    (1) وقد جاءت الرواية مصرحة بان عمر ارسل رسولا إلى سعد ليقتله ان لم يبايع فلما أبى سعد قتله الرسول راجع عقد الفريد ج3 ص63.
    (2) راجع صحيح مسلم ج2 ص331.
    (3) رواه الامام أحمد في مسنده ج3 ص295 عن أنس وأخرجه الحاكم أيضاً وشهد بصحته.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 142 )

    واذن فلماذ طلب الخليفة بينة من فاطمة على دعواها وهل تحتاج الدعوى المعلوم صدقها إلى بينة ؟
    قال المعترضون على أبي بكر : ان البينة انما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى والعلم اقوى منها فاذا لزم الحكم للمدعى الذي تقوم البينة على دعواه يجب الحكم للمدعى الذي يعلم الحاكم بصدقه.
    والاحظ ان في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأن المقارنة لم تقم فيه بين البينة وعلم الحاكم بالاضافة إلى صلب الواقع وانما لوحظ مدى تأثير كل منهما في نفس الحاكم وكانت النتيجة حينئذ ان العلم أقوى من البينة لأن اليقين أشد من الظن. وكان من حق المقارنة ان يلاحظ الاقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في كل مخاصمة. ولا يفضل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة لأن الحاكم قد يخطأ كما ان البينة قد تخطأ فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للزلل والاشتباه.
    ولكن في المسألة أمر غفل عنه الباحثون أيضاً وهو أن ما يعلمه الخليفة من صدق الزهراء يستحيل ان لا يكون حقيقة ، لأن سبب علمه بصدقها ليس من الاسباب التي قد تنتج توهما خاطئاً وجهلاً مركباً وانما هو قرآن كريم دل على عصمة المدعية. وعلى ضوء هذه الخاصية التي يمتاز بها العلم بصدق الزهراء يمكننا ان نقرر أن البينة التي قد تخطأ اذا كانت دليلاً شرعياً مقتضياً للحكم على طبقه فالعلم الذي لا يخطىء وهو ما كان بسبب شهادة الله تعإلى بعصمة المدعي وصدقه أولى بأن يكتسب تلك الصفة في المجالات القضائية .
    وعلى اسلوب آخر من البيان نقول : ان القرآن الكريم لو كان قد نص على ملكية الزهراء لفدك وصدقها في دعوى النحلة لم يكن في المسألة متسع للتشكيك لمسلم او مساغ للتردد لمحكمة من محاكم القرآن ومن الواضح أن نصه على عصمة الزهراء في قوة النص على النحلة


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 143 )

    لأن المعصوم لا يكذب فاذا ادعى شيئاً فدعواه صائبة بلا شك ولا فرق بين النص على العصمة والنص على النحلة فيما يتصل بمسألتنا سوى ان ملكية الزهراء لفدك هي المعنى الحرفي للنص الثاني والمعنى المفهوم من النص الاول عن طريق مفهومه الحرفي .
    4 ـ ونقول من ناحية أخرى : ان احداً من المسلمين لم يشك في صدق الزهراء ولم يتهمها بالافتراء على أبيها وانما قام النزاع بين المتنازعين في أن العلم بصواب الدعوى هل يكفي مدركاً للحكم على وفقها اولا ؟ فلندع آية التطهير ونفترض ان الخليفة كان كأحد هؤلاء المسلمين وعلمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاوياً على الامتياز الذي أشرنا اليه في النقطة السابقة بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضه للخطأ والاشتباه ولا يدل حينئذ جعل البينة دليلاً على مشاركته لها في تلك الخاصية لأنه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقاً.
    ولكن الحاكم يجوز له مع ذلك ـ أن يحكم على وفق علمه كما يجوز له أن يستند في الحكم إلى البينة بدليل ما جاء في الكتاب الكريم مما يقرر ذلك اذ قال الله تعالى في سورة النساء : ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ) وقال في سورة الاعراف : (ممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) أي يحكمون.
    وللحق والعدل ملاحظتان : ـ
    (احداهما) الحق والعدل في نفس الامر والواقع.
    (والاخرى) الحق والعدل بحسب الموازين القضائية فالحكم على وفق البينة حق واعتدال في عرف هذه الملاحظة وان اخطأت ويعاكسه الحكم على وفق شهادة الفاسق فانه ليس حقاً ولا عدلاً وان كان الفاسق صادقاً في خبره.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 144 )

    والمعنى بالكلمتين في الآيتين الكريمتين ان كان هو المعنى الاول للحق والعدل كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى البينة فاذا احرز الحاكم ملكية شخص لمال صح له أن يحكم بذلك لأنه يرى انه الحق الثابت في الواقع والحقيقة العادلة فحكمه بملكية ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به الله تعالى. واما اذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني اعني ما يكون حقاً وعدلاً بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين على شيء في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذ ان أي قضاء يكون قضاء بالحق وعلى طبق النظام وأي قضاء لا يكون كذلك.
    ومن الواضح ان المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الاول دون الثاني وخاصة كلمة الحق فانها متى وصف بها شي ء فهم ان ذلك الشيء أمر ثابت في الواقع فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. ويدل على ذلك الاسلوب الذي صيغت عليه الآية الاولى فانها تضمنت أمراً بالحكم بالعدل وواضح جداً أن تطبيق التنظيمات الاسلامية في موارد الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي لأن نفس وضعها قانوناً للقضاء معناه لزوم تطبيقها فلا يكون الامر بالتزام القانون الا تكراراً أو تنبيها وليس من حقيقة الامر في شيء واما الأمر بالحكم على طبق الحقائق الواقعية سواء أكان عليها دليل من بينة وشهادة أولا فهو من طبيعة الامر بالصميم لانه تقرير جديد يوضح ان الواقع هو ملاك القضاء الاسلامي والمحور الذي ينبغي ان يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والادلة الخاصة(1).
    ____________
    (1) واذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العلمية قلنا : ان الامر على التقدير الثاني يكون ارشادياً اذ لا ملاك للامر المولوي في المقام حيث ان المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث والتحريك فظهور الامر في المولوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الاول لجواز الامر مولوياً باتباع الواقع فيما اذا دلت عليه البينة خاصة وامكان الامر باتباعه مطلقاً.
    =



    [/align]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]--------------------------------------------------------------------------------

    ( 145 )

    واذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء الاسلامية(1).
    واضف إلى ذلك ان الصديق نفسه كان يكتفي كثيراً بالدعوى المجردة عن البينة فقد جاء عنه في صحيح البخاري(1) ان النبي (ص) لما مات جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال. من كان له علي دين أو كانت قبله عدة فليأتنا قال جابر : وعدني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يده ثلاث مرات فعد في يدي خمسمأة ثم خمسمأة ثم خمسمأة.
    وروي في الطبقات(2) عن أبي سعيد الخدري انه قال : سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : من كانت له عدة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليأت ؟ فيأتيه رجال فيعطيهم فجاء أبو بشير المازني فقال : ان رسول الله (ص) قال يا أبا بشير اذا جاءنا شيء فأتنا. فاعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدوها الفاً وأربعمائة درهم.
    ____________
    =
    وأنا اعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلمية الدائرة في مباحث المنطق والفلسفة والفقه والاصول ـ الا حين اضطر إلى ذلك اضطراراً ـ لأنني أحاول ان تكون بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم.
    (1) ان قيل : ان الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق وهو لا يعلم الحكم باستحقاقه للعقاب يدل على عدم كون القضاء من آثار الواقع فيدور الامر بين صرف هذه الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم وحمل العقاب فيها على التجري وبين صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت : لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة للآيات بصورة العلم فيكون موضوع القضاء مركباً من الواقع والعلم به وبتعبير آخر انه من أثار الواقع الواصل.
    (2) ج3 ص180.
    (3) ج4 ص134.
    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 146 )

    فاذا كان الصديق لا يطلب أحداً من الصحابة بالبينة على الدين أو العدة فكيف طلب من الزهراء بينة على النحلة.
    وهل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أن الظروف السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص ؟
    ومن الغريب حقاً أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمبلغ من المال وترد دعوى بضعة رسول الله (ص) لانها لم تجد بينة على ما تدعيه.
    واذا كان العلم بصدق المدعي مجوزاً لاعطائه ما يدعيه فلا ريب أن الذي لا يتهم جابراً أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضاً.
    واذا لم يكن اعطاء الخليفة لمدعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ بدعواه وانما دعاه احتمال صدقه إلى اعطائه ذلك وللامام ان يعطي أي شخص المبلغ الذي يراه فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة فدك.
    وهكذا انجز الصديق وعود رسول الله (ص) التي لم تقم عليها بينة وأهمل هباته المنجزة التي ادعتها سيدة نساء العالمين وبقي السؤال عن الفارق بين الديون والعدات وبين نحلة بلا جواب مقبول.
    5 ـ ولنستانف مناقشتنا على أساس جديد وهو : ان الحاكم لا يجوز له الحكم على طبق الدعوى المصدقة لديه اذا لم يحصل المدعى على بينة تشهد له ونهمل النتيجة التي انتهينا اليها في النقطة السابقة ونسأل على هذا التقدير.
    أولا ـ عما منع الصديق من التقدم بالشهادة على النحلة اذا كان عالماً بصدق الحوراء سلام الله عليها اذ يضم بذلك شهادته إلى شهادة علي وتكتمل بهما البينة ويثبت الحق واعتباره لنفسه حاكماً لا يوجب سقوط


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 147 )

    شهادته لأن شهادة الحاكم معتبرة وليست خارجة عن الدليل الشرعي الذي أقام البينة مرجعاً في موارد الخصومة.
    وثانياً ـ عن التفسير المقبول لاغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه بحسب الفرض. ولاجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرق بين أمرين اختلطا على جملة الباحثين في المسألة :
    ( أحدهما ) الحكم للمدعي بما يدعيه.
    ( والآخر ) تنفيذ آثار الواقع واذا افترضنا ان الاول محدود بالبينة فالآخر واجب على كل تقدير لانه ليس حكماً ليحدد بحدوده فاذا علم شخص بأن بيته للآخر فسلمه لمالكه لم يكن هذا حكماً بملكيته له وانما هو اجراء للاحكام التي نص عليها القانون. كما ان الحاكم نفسه اذا ادعى شخص عنده ملكية بيت وكان في حيازته او دل الاستصحاب على الملكية المدعاة فاللازم عليه وعلى غيره من المسلمين ان يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدعي وليس معنى هذا ان الحاكم حكم بأن البيت ملك لمدعيه مستنداً إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب وان المسلمين اخذوا انفسهم باتباع هذا الحكم بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك وليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعة وانما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.
    والفارق بين حكم الحاكم بملكية شخص لمال أو فسقه ونحوهما من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم وبين تطبيق آثار تلك الامور هو : امتياز الحكم بفصل الخصومة ونعني بهذا الامتياز ان الحاكم اذا أصدر حكماً حرم نقضه على جميع المسلمين ولزم اتباعه من دون نظر إلى مدرك آخر سوى ذلك الحكم.
    وأما تطبيق القاضي لآثار الملكية عملياً بلا حكم فلا يترتب عليه


    --------------------------------------------------------------------------------

    ( 148 )

    ذلك المعنى ولا يجب على كل مسلم متابعته واجراء تلك الآثار كما يجريها الا اذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.
    والنتيجة : ان الخليفة اذا كان يعلم بملكية الزهراء لفدك فالواجب عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه ولا ينزعها منها اجاز له أن يحكم على وفق علمه أولا. ولم يكن في المسألة منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب اليمين منه واستحقاقه للمال اذا اقسم لأن الاموال التي كانت تطالب بها الزهراء اما ان تكون لها أو للمسلمين. وقد افترضنا ان أبا بكر هو الخليفة الشرعي للمسلمين يومئذ واذن فهو وليهم المكلف بحفظ حقوقهم وأموالهم فاذا كانت الزهراء صادقة في رأيه ولم يكن في الناس من ينازعها فليس للخليفة ان ينتزع فدكاً منها وتحديد الحكم بالبينة خاصة انما يحرم الحكم ولا يجيز انتزاع الملك من صحابه.
    واذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه لا يخفف من صعوبة الحساب ولا يخرج الخليفة ناجحاً من الامتحان.

    ( محمّد باقر الصدر )[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني