النتائج 1 إلى 8 من 8
  1. #1

    افتراضي نظرات اسلامية في لائحة حقوق الإنسان..الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(رض )

    نظرات اسلامية في لائحة حقوق الإنسان
    الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(رض )


    المقدمة
    !
    إن هذا الجهد المتواضع الذي تراه بين يديك، والذي تناول إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن بالنقد الإسلامي البناء، ليس هو إلا نتيجة من نتائج " كلية الفقه" التي كان لي شرف التلمذة بها مدة خمس سنوات متتابعة حتى إن وفقني الله عز وجل بمنه ولطفه إلى التخرج منها، وقد بذلت الكلية جهدا مشكورا في تغذية تلاميذها من ثمار الفكر الإنساني قديمه وحديثه، وإطلاعهم على مختلف وجهات النظر في مختلف حقول المعرفة سواء من الناحية الدينية أو الفلسفية، أو من ناحية العلوم الإنسانية في حقول علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ، أو ما سواها من حقول المعرفة الإنسانية، وذلك ليكون تلاميذها المتخرجون أفذاذا فضلاء يستطيعون مجابهة صعوبات الحياة، وحل المشاكل البشرية على ضوء الإسلام المنير.
    وكان إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن مما استفدته من " كلية الفقه" أيضاً، حيث تلقيته عن الدكتور فاضل حسين في مادة " التاريخ الحديث"، وقد تفضل بذكره لنا في معرض حديثه عن الثورة الفرنسية بملابساتها المهمة وحوادثها التاريخية، وقد شرحه لنا شرحاً ضافياً، وقد كان لي توفيق كتابته في أثناء الفترة المحاضرة، وقد أكد بالخصوص على إن هذا الإعلان إنما يمثل فلسفة ومصالح الطبقة البرجوازية الفرنسية، وإن كان ظاهر العبارة فيه يقتضي انه شامل لجميع بني الإنسان، بل انه أكد على إن الثورة الفرنسية نفسها ثورة برجوازية، وإنما نجحت بقوة البرجوازية الفرنسية، وضعف الإقطاع في فرنسا، ومن هنا جاء هذا الإعلان بعيد الثورة بأيام ممثلا لجوهر فلسفة الثورة ومصالح البرجوازية.
    وكان هذا نفسه ما حاولت التأكيد عليه في غضون مناقشة الإعلان، حيث تعرضت بالتفصيل إلى التفسير البرجوازي لكل مادة تقريباً في هذا الإعلان. كما حاولت أن اعرض على ضوء هذا التفسير وعلى ضوء الإسلام نقاط الضعف والقوة في هذا الإعلان، وكيف إن هذا التفسير البرجوازي ينزل بهذا الإعلان من البرج العاجي الذي حاول واضعوه أن يضعوه فيه، بالإضافة إلى ضيق الأفق وقصر النظر الذي تميز به هذا الإعلان عند مقارنته إلى عدالة الإسلام وشمول تعاليمه وخلوده. وقد تعرضت بشيء من التفصيل إلى شرح وجهة النظر الإسلامية في كل قاعدة مما ذكره الإعلان.
    ولكنني أود أن اعترف رغم كل ما توسعت به في ذكر التعاليم الإسلامية، إنني قد اختصرت كلامي اختصاراً كبيراً فقد كان بالإمكان - لو كان المقصود هو الاستيعاب والشمول- أن يمتد البحث إلى أضعاف هذه الكمية، ولكنني اقتصرت على ما له صلة مباشرة بالموضوع، مما يكفي في لفت الأنظار إلى وجهة النظر الإسلامية.
    ولما كان ينبغي أثناء عرض وجهة النظر الإسلامية لكي تكون الصورة واضحة وصادقة من تصور الدين الإسلامي مطبقاً بجميع أوامره ونواهيه وخصوصيات تشريعه، فإن الإسلام إنما جاء لكي يطبق في المجتمع كوحدة متماسكة يشد بعضها البعض، ليستطيع أن يثمر ثماره شهية ناضجة، كما هو المتوقع منه، وإلا فإنه لن يثمر إلا في الحدود الضيقة التي تسمح بها الظروف الموضوعية في كل جيل.
    لهذا، اقتضى تصور مجتمع مسلم يتصف جميع أفراده أو اغلبهم بالإسلام، وتقوم بينهم الروابط والعواطف على أساس إسلامي، وتحكمه حكومة إسلامية شرعية تقوم بتطبيق القوانين الإسلامية على المجتمع الإسلامي.
    فان لهذا التصور المدخلية الكبرى في معرفة وتشخيص الثمار الحكيمة والأهداف السامية التي قصدها الإسلام من سنَّ تشريعاته، وعليه فقد تمت مناقشة الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان على هذا الأساس.
    هذا وأرجو أن أجد منك تجشمك أثناء مطالعة البحث، أُذناً واعيةً وقلباً منصفاً وعقلاً من العدالة والإنصاف وبعيداً عن التعصب الأعمى، فان التعصب آفة البحث، وذلك لكي أن تفهمني كما أريد أن تفهمني، وأن تفهم الإسلام كما يريد الإسلام أن تفهمه. ولك مني سلفا خالص الشكر.


    محمد الصدر
    النجف الأشرف - العراق



    1
    ليس التفكير في حقوق الإنسان، وإدراك إن الظلم والتعسف ناشئ من غمط حقوقه، واحتقار كرامته، ليس هذا التفكير حديثا بالنسبة إلى العهود التاريخية المتأخرة. فقد حدثت في مختلف البلدان اضطرابات سياسية وثورات على الأوضاع الفاسدة، تمخضت على شكل وآخر من لوائح حقوق الإنسان، فمن أقدم اللوائح البريطانية العهد الأكبر The Magna Corta الصادر في سنة 1215 حين اضطر البارونات الثائرون ملكهم جون John عن توقيع العهد المذكور الذي يحتوي على وعود كثيرة(1)، ومنها عريضة الحق Petition of right التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1628 في مقابل منح الملك (شارلس الأول) المخصصات المالية التي يطلبها(2)، ومنها (لائحة الحقوق) Bill of rights التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1689 على اثر الثورة البيضاء التي نشبت هناك والتي تسمى ( بالثــــــــــــــــــــــورة المجيدة ) (3) glorious revolution ، ومنها (عقد التسوية) Act of settlement ، وهو أيضاً وثيقة صدرت في عهد وليم الثالث سنة 1701 على يد الحكومة الفاشية يومئذ(4).
    ولكن هذه الوثائق الدستورية كلها، هي وثائق سياسية بحتة، لم تتعرض إلى حقوق الإنسان- بشكل عام- بقليل ولا كثير. ولقد كانت الومضة الأولى في إثبات حقوق الإنسان والتمسك بكرامته وإنسانيته بالنسبة إلى أوربا الغربية، هو إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن الذي أصدرته الجمعية الوطنية التأسيسية في يوم 26 آب 1789 بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت في 14 تموز من العام نفسه، ومن ثم فقد احتلت هذه الوثيقة في فرنسا وفي سائر البلاد الأوربية مركزاً سامياً، وأصبحت في نظر شعوبها نبراساً يقتدى به، وأثرت في الفكر السياسي العالمي خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وعلى أصولها ترتكز اليوم فعلاً دساتير الأمم الحرة في أوربا وفي سائر أنحاء العالم(5). ولكن الزمان بعد أن تصرّم قليلاً قليلاً بعد صدور هذا الإعلان الذي كان فاتحة خير في إثبات حقوق الإنسان ونصراً مبيناً للطبقة البرجوازية الفرنسية التي كانت قبل صدوره مظلومة مغموطة الحقوق.
    بدأت تظهر للعيان ما يحتويه هذا الإعلان من الأخطاء والنواقص، وبدا واضحا أن حقوق الإنسان اعقد وأعمق من أن يحيط بها هذا الإعلان المقتضب المتكون من سبعة عشر مادة. كما انه بدا واضحاً إن الجماعة التي وضعته وإن أدعت إنها قد وضعته ليكون هذا الإعلان راسخاً في أذهان بني الإنسان يذكرهم على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، إلا انه لم تقصد به إلا مصالحها البرجوازية الخاصة، والطرق التي تضمن من خلالها الحصول على اكبر فرصة لتوسيع التجارة والصناعة إلى أعظم حد ممكن، واكتناز المال جهد الطاقة والمستطاع. ثم لا يهمها بعد ذلك مصالح الطبقات الدنيا من الشعب التي تمثل أكثريته الساحقة من العمال والفلاحين وأصحاب الحرف وغيرهم، بل انه صار من المعلوم بعد ذلك إن هذه الحرية التي نالوها عن طريق هذا الإعلان كانت سبباً في التحكم في العمال، وإرهاقهم في العمل مدة 14 ساعة في اليوم، ثم إعطائهم اقل كمية ممكنة من الأجر.
    وقد أحس الشعب الفرنسي نفسه بما في هذا الإعلان من الخطأ والقصور، ومن ثم نراه قد غير مراراً في ظل الملوكية والجمهورية(1) تلافيا لما سببه من كوارث وأضرار.
    ومن هنا فقط يظهر الفرق جلياً واضحاً بين هذا الإعلان لحقوق الإنسان، وبين حقوق الإنسان التي أكد عليها الإسلام ضمن ما أكد عليه في قانونه الخالد العظيم. وما في الإعلان الفرنسي من ضيق بالأفق وقصر في النظر، وما في القانون الإسلامي من عدالة وشمول يضمن بهما سعادة البشرية ورقي الإنسان في مدارج الكمال. فالإعلان الفرنسي متناول لبعض حقوق الإنسان التي دعت إلى التأكيد عليها الحاجة الملحة القائمة حين صدوره، وأما الإسلام فهو الدين الشامل لكل جزيئات الحياة، يتابع الإنسان في جميع أقواله وأفعاله، وفي جميع علاقاته وتصرفاته، ويملي عليه التوجيه والإرشاد ما دام موجوداً على سطح هذه الأرض. وإعلان حقوق الإنسان قد وضعته أذهان بشرية قاصرة عن إدراك مصالحه الروحية وكمالها الحقيقي، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي الذي أرسله خالق البشر والمنعم عليهم إلى الناس أجمعين، وهو العالم بحقيقتهم والمطلع على حوائجهم ومشاكلهم، وبالطريق الصالح الذي يتم فيه حل هذه المشاكل والتوافق التام بين البيئة والغريزة، أرسله إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
    كما إن إعلان حقوق الإنسان الفرنسي أيضاً، قد وضع لصالح طبقة معينة من البرجوازيين ليضمن حريتهم ورفاههم، ولم يكن يضمن في حساب واضعيه من مصالح سواهم القليل ولا الكثير. في حين إن الإسلام قد جاء ليخدم البشرية جميعاً بدون تمييز ولا تفريق، لا فرق لديه بين غني وفقير، ولا بين ذليل ووضيع، كلهم ينعمون تحت لواءه بالسعادة والرفاه ضمن مجتمعهم الإسلامي السعيد.
    وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي قد تكشفت فيه الكثير من جهات القصور والنقص، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي العادل الشامل الخالد الذي لن تبلي جدته الأيام ولن يذهب برونقه الزمان، وسوف يبقى مع البشرية ما بقيت ولو كره المشركون.
    ولأجل أن يبدو بوضوح تام كيف إن إعلان حقوق الإنسان إنما صدر لمصلحة حفنة معينة من البرجوازيين، لابد من التعرض باختصار إلى الظروف العامة والخاصة التي أحاطت بصدوره، والملابسات التي اضطرت الجمعية الوطنية الفرنسية إلى وضع مثل هذه الإعلان.

    2
    كان الإقطاع مكلكلاً على القارة الأوربية، مسيطراً على جميع شؤونها سيطرة تامة، متنفذاً فيها كما يشاء وكما يحلو له. بحيث إن المناطق الإقطاعية كانت تعتبر دولة داخل دولة، فلكل منطقة إقطاعية حاكم مستقل، وأنظمة مستقلة، وجيش مستقل، وبين هذه المناطق الإقطاعية من الحروب والدمار الشيء الكثير، لان حياتهم كانت قائمة على الطمع بما في أيدي الآخرين والسيطرة عليهم بالقوة المسلحة.
    والمجتمع الإقطاعي زراعي بالدرجة الأولى، والطبقة الأكثرية فيه هم الفلاحون الزراعيون الإقطاعيون Serfs، وهؤلاء ليسوا إلا اقناناً ترتبط حياتهم بالسيد الإقطاعي من جهة، وبالأرض الزراعية من جهة ثانية، ومن ثم فهو يباع مع الأرض ويُشترى معها، إذا صادف أن اشترى احد الإقطاعيين أرضاً من إقطاعي آخر.
    تكون العلاقات بين الفلاحين الاقنان وبين أسيادهم علاقات تعاقدية يستأجر الفلاح الأرض من مالكها لقاء محصولات عينية، ويقدم الهدايا لسيده في المناسبات المختلفة من حبوب ومخضرات ودواجن وخمور، كأن يتزوج ابنه أو يبلغ سن الرشد، وعلى الفلاح أن يقوم مع زملائه الفلاحين بتأمين مواد الولائم التي يقيمها السيد الإقطاعي إذا قدم على المقاطعة ضيف كبير، وعلى الفلاح أن يقوم بتعبيد الطرق في وقت معين من السنة حين لا يكون هناك عمل زراعي، وأن يخدم في جيشه لرد الغزوات الإقطاعية، وأن يدفع أجور عبور الجسور، وأن يمثل أمام محكمة الإقطاعي، وأن يعصر خمره في معصرته، ويطحن حبوبه في مطحنته.
    وللفلاح حق على السيد الإقطاعي أن يحميه، وإنما يحميه بتكوين جيش منه ومن غيره، يكون السيد قائدهم ومنظمهم.
    ولا يمكن أن يتحرر الفلاح من سيطرة سيده إلا بأحد طرق ثلاث، إذا هرب من سيده مدة تزيد على سنة، أو إذا انخرط في سلك رجال الدين، أو إذا دفع ما عليه من ديون وواجبات.
    وكأنَّ السبيل الثالث للتحرر هو الذي كان مطمح أنظار الفلاحين، لأنه ليس من السهل الهرب من دكتاتورية الإقطاعي مدة تزيد على السنة، ولا الانخراط في سلك رجال الكنيسة إلا تحت شروط معينة، فلم يبق إذن أمام الفلاح القِن إلا الشرط الثالث ليرى من طريقه نور الحرية، ويشم فيه نسيم الاستقلال العليل. ولم يكن من السهل على الفلاح القِن المرتبط بأرضه، الذي يباع معها ويشترى، والمرتبط مع سيده بديون وواجبات أن يدفع هذه الديون ليتحرر من حكمه. ولكن قد تقع قريتهم على طريق تجاري صحراوي أو نهري أو بحري، فتأخذ مدينتهم بالاتساع، ويأخذ المال طريقه إلى جيوبهم، ويكونون بعد مدة من الزمن قادرين على دفع ما عليهم من ضرائب وديون مستغنين عن هذا الارتباط الوثيق الذي كان يربطهم بالأرض أو بالسيد الإقطاعي، وحينئذ يبادر الفلاحون بتسليم ما عليهم من ديون للإقطاعي ويصبحون ولا علاقة لهم به، ويأخذون منه وثيقة حرية المدينة Charter يعترف الإقطاعي فيها إن هذه المدينة قد أصبحت حرة وليست لها علاقات إقطاعية.
    وحيث إن الملك كان يخاف من سطوة الإقطاعيين عليه، فد اعتمد على هذه الطبقة المتحررة من الإقطاع، والتي تسمى باللغة الإفرنجية Bourgeoisie أي طبقة البرجوازيين وصار حليفاً لهم وأصبح البرجوازيون يكونون جبهة قوية ضد الإقطاع. ولكن حدث- بعد مرور قرنين- أن أصبحت البرجوازية قوية بحيث تهدد الملك نفسه، وذلك لان الجيش الذي كان يمكن تكوينه من سكان المدينة هو جيش أكثر أموالاً وسلاحاً وعدداً من أي جيش إقطاعي، ومثل هذا الجيش يكون خطرا حتى بالنسبة إلى الملك نفسه، وحينئذ استند الملك على القوى الإقطاعية وحالفها- كما حدث بالفعل في فرنسا- ضد القوى البرجوازية.
    والثورة الفرنسية إنما نجحت لان البرجوازية في فرنسا كانت أقوى من الملك ومن رجال الإقطاع، فكانت خطوة في انتقال الحكم من الإقطاع إلى سكان المدينة البرجوازيين (1).

    3
    كان هذا وضعاً مختصراً للأوضاع السائدة في القارة الأوربية بصورة عامة عدة قرون متطاولة من الزمن.
    أما الأوضاع في فرنسا نفسها، تلك الأوضاع التي أدت بصورة مباشرة إلى قيام الثورة الفرنسية ومن ثم إلى إصدار إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن، والتي كانت ماثلة أمام واضعي هذا القانون يعيشون تفاصيلها ويعلمون بمشاكلها ويدبرون في أذهانهم حلولها.
    فكانت تتلخص كالآتي: كان الشعب الفرنسي- ككل مجتمع إقطاعي- مقسما إلى ثلاث طبقات:
    الطبقة الأولى: طبقة الأسياد الإقطاعيين.
    الطبقة الثانية: طبقة رجال الدين، أتباع الكنيسة المسيحية.
    الطبقة الثالثة: وتسمى الطبقة الثالثة أو العوام.
    وتتكون الطبقة الثالثة من:
    أ- البرجوازية.
    ب- الفلاحين.
    ج- العمال.
    د- أصحاب الحرف.
    وكان عدد نفوس فرنسا حينما نشبت الثورة الفرنسية 26 مليونا، منهم نحو مليون نسمة عدد نفوس الطبقتين الأولى والثانية، والباقون يكونون الطبقة الثالثة، والبرجوازية هي زعيمة الطبقة الثالثة.
    كانت الضرائب تُسَنُّ، وطلبات الملك المالية تلبى، بواسطة مجلس يسمى مجلس الطبقات العامة)Estates General  وذلك قبل حوالي قرنين من الثورة الفرنسية، وكانت الطبقات الثلاثة ممثلة فيها بالتساوي لكل طبقة 300 نائب، رغم إن الطبقة الثالثة تكون 95 بالمئة من الشعب. وكان التصويت في المجلس يجري على أساس طبقي، فلكل طبقة صوت واحد فقط. فإذا احتاج الملك إلى المال وأراد فرض الضرائب على الطبقة الثالثة للحصول عليه، فلابد أن يستشير هذا المجلس بالموضوع، وحيث إن الطبقتين الأوليتين لا تفرض عليها الضرائب لأنها كانت محتكرة للامتياز لنفسها دون الطبقة الثالثة، فان التصويت عندما يجري في المجلس على فرض الضرائب، يحصل الملك على صوتين في مقابل صوت واحد وهو صوت الطبقة الثالثة. ومن ثم يصدر التشريع بأكثرية الصوتين وتسن الضريبة على الطبقة الثالثة. كان مجلس الطبقات هذا موجودا في زمان (هنري الرابع) من أسرة (بوربون)، ولكنه عندما توفي وخلف ابنه (لويس الثالث عشر) وكان قاصراً، قامت أمه (ماري ميدتشي) بالوصاية عليه. وقد ذهبت في يوم من الأيام إلى بناية هذا المجلس وأمرت أعضاءه بالانصراف قائلة: إننا نحتاج إلى ساحة للرقص! فذهب النواب ولم يرجعوا، وذلك في سنة 1614.
    وبعد مضي 175 سنة، تمضي على حل هذا المجلس، يحتاج الملك (لويس السادس عشر) إلى المال، ويضطر إلى معالجة الوضع الاقتصادي المتردي في فرنسا، فيستشير الملك كبار الاقتصاديين وهم من الطبقة البرجوازية، ولهم اتجاه مالي معين ويسمون بالفيوقراطيين أي الطبيعيين. فيشيرون عليه بان يقتصد في مصاريف الشعب والبلاط، وأن يجمع الضرائب من الشعب بموافقته. ولكن (ماري انطوانيت) زوجته رفضت الاقتصاد بالمصاريف، فلم يبق إلا فرض الضرائب على الشعب. وكذلك استشار الملك (مجلس الوجهاء) Assembly of the notables وهو مجلس يتكون من 145 عضوا، فقالوا له إن صاحب الحق الشرعي في فرض الضرائب هو مجلس الطبقات العامة، ثم استشار  المحكمة العليا Apartement of Paris فقالوا له انه لا يمكنه جمع الضرائب إلا بإستشارة مجلس الطبقات. وحينئذ أجريت الانتخابات في فرنسا لانتخاب المجلس الجديد، بعد أن ادخل على المجلس تعديلا يجعل عدد ممثلي الطبقة الثالثة 600 شخصاً، مع بقاء عدد ممثلي الطبقتين الأوليتين 300 شخصا، على أن يكون التصويت بالطبقات أيضاً وتقرر اجتماع المجلس في 5 مايس عام 1789. واجتمع مجلس الطبقات العامة الجديد، مكونا من 1200 عضوا، وألقى الملك خطاب العرش، وطلب منهم تقديم المقترحات. ثم طلب الوزير أن يفترق الجمع لتذهب كل طبقة إلى محلها الخاص فرفضوا الاقتراح، ثم أعلن جماعة من ممثلي الطبقتين الأوليتين تنازلهم عن حقوقهم وامتيازاتهم في سبيل الصالح العام، وتأييدا للطبقة الثالثة.
    ويمكن أن يعزى هذا التأييد إلى عدة عوامل: فقسم من ممثلي الطبقتين الأولى والثانية كانوا مقتنعين بفساد الوضع وانه يحتاج إلى إصلاح، وقسم آخر قالوا بان الوضع سيتغير فمن الرأي الصائب أن يؤيدوا الطبقة الثالثة ليكونوا زعماء الوضع الجديد. وقسم ثالث كانوا في اقتصاد سيء رغم كونهم من الطبقة الأولى أو الثانية، فكانوا مستاءين من أصحاب اللقب، الأغنياء، فوجدوا في ذلك سبيلاً للانتقام منهم.
    ثم إن هؤلاء النواب اجتمعوا واقسموا على أن يخدموا الشعب ويضعوا دستوراً للبلاد. ولما كان الدستور لا يمكن أن يضعه مجلس الطبقات العامة بل الجمعية الوطنية التأسيسية، بدلوا الاسم ليضعوا دستورا للبلاد، وهكذا تكونت الجمعية الوطنية التأسيسية وقد بدأت أعمالها في يوم 5 تموز سنة 1789. هذه الجمعية الوطنية التأسيسية بالذات هي التي أصدرت إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن في يوم 26 آب سنة 1789، بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت بالهجوم على الباستيل في يوم 14 تموز من العام نفسه(1).
    albasry

  2. #2

    افتراضي

    4
    واليك نص إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن Declaration of the rights of the man and of citizen . الذي أصدرته الجمعية الوطنية التأسيسية: لما رأى نواب الشعب الفرنسي المجتمعون في الجمعية الوطنية، إن ما ينزل بالمجتمع من المصائب وفساد الحكومات يرجع إلى جهل حقوق الإنسان أو تناسيها أو احتقارها قرروا أن يصدروا إعلاناً خطيراً ببيان حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة الثابتة، وذلك ليكون هذا الإعلان راسخاً في أذهان بني الإنسان ويذكرهم على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، ولكي تقارن أعمال السلطة التشريعية والتنفيذية دائما مع كل منظمة وبذلك يزداد احترامها، ولكي تتجه دوما مطاليب المواطنين المبنية من الآن على مبادئ واضحة لا جدال فيها نحو صيانة الدستور وسعادة المجموع، لذلك تقرر الجمعية الوطنية وتعلن أمام الكائن الأعظم وبعنايته حقوق الإنسان والمواطن الآتية:

    2 يولد الناس ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق، لا تمييز ولا تفاضل بينهم إلا فيما تقتضيه المصلحة العامة.
    3 الغاية من كل مجتمع إنساني صيانة الحقوق الطبيعية الثابتة للإنسان، تلك الحقوق هي الحرية والتملك والطمأنينة ومقاومة الظلم.
    4 الأمة مصدر كل سلطة، ولا يجوز لأية جماعة وأي فرد أن يمارس سلطة ليست مستمدة منها.
    5 تقوم الحرية على إمكان عمل كل ما لا يضر بالغير، ولذلك فان ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان لا تقف إلا عند الحد الذي يضمن لبقية أعضاء المجتمع المتمتع بهذه الحقوق نفسها، ويمكن تعين تلك الحدود بالقانون وحده.
    6 ليس للقانون أن يمنع غير الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية، ولا يجوز منع أي عمل لم يحضره القانون، ولا يجبر احد على القيام بعمل لم يفرضه القانون.
    7 القانون هو الإعراب عن الإرادة العامة للمجتمع، ولجميع المواطنين الحق في أن يشتركوا في سنه بأنفسهم أو بواسطة نوابهم. والقانون واحد للجميع في حالتي الحماية وفرض العقوبات، ولما كان المواطنون سواسية أمام القانون، فيحق لهم بالتساوي الوصول إلى جميع المناصب والرتب والوظائف العامة بحسب كفاءاتهم، ودون أي تمييز غير فضائلهم ومواهبهم.
    8 لا يجوز اتهام احد أو توقيفه أو حجزه إلا في الأحكام المبينة في القانون، وبحسب الإجراءات المحددة فيه، ويجب أن يعاقب جميع الذين يطلبون تنفيذ أوامر تعسفية أو يوافقون عليها أو ينفذونها أو يأمرون بتنفيذها، ولكن على كل مواطن يستدعى أو يوقف طبقاً للقانون أن يطيع حالاً ويكون مذنباً إذا قاوم.
    9 لا يجوز أن يفرض القانون من العقوبات إلا ما هو ضروري ضرورة جازمة وواضحة، ولا يصح عقاب إنسان إلا بموجب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل ارتكاب الجريمة، والمعمول بها شرعا.
    10 يعد كل إنسان بريئاً إلى أن تثبت إدانته، وإذا اعتقد بضرورة توقيفه فالقانون يمنع تطبيق الإجراءات الشديدة إلا ما كان منها ضروريا لبقائه رهن أمر السلطة.
    11 لا يجوز إزعاج احد بسبب آرائه حتى الدينية منها، بشرط أن لا تكون المجاهرة بها مخلة بالأمن الذي قرره القانون.
    12 حرية نشر الأفكار والآراء اثمن حقوق الإنسان، فلكل مواطن أن يتكلم ويكتب ويطبع بحرية، على أن يكون مسؤولاً عن إساءة استعمال هذه الحرية، في الأحوال التي يقررها القانون.
    13 يستوجب ضمان حقوق الإنسان والمواطن، قوة عامة، فهذه القوة تنشأ لمصلحة المجموع لا لمصلحة من توكل إليهم إدراتها.
    14 لتأمين نفقات القوة العامة، ونفقات الإدارة، يجب جباية الضرائب العامة، ويجب توزيع هذه الضرائب على كل المواطنين بالسواء كل على حسب طاقته.
    15 لجميع المواطنين الحق في أن يتثبتوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم من ضرورة الضرائب العامة، وأن يقبلوا بها برضاهم، ويراقبوا إنفاقها ويحددوا نسبتها ومقدارها وكيفية جبايتها ومدتها.
    17 للهيئة الاجتماعية أن تحاسب كل موظف عمومي عن أعماله.
    18 كل هيئة اجتماعية لا تكون الحقوق مصونة فيها ولا يضمن فصل السلطات، تعتبر محرومة من الدستور.
    19 الملكية الخاصة هي حق مقدس لا ينقض، فلا يجوز أن تنتزع من احد إلا عندما تقضي بذلك المصلحة العامة الثابتة شرعاً، وبشرط أن يمنح مقدماً تعويضاً عادلاً).

    5
    بعد هذه الجولة التاريخية، نستطيع أن نتميز بوضوح، الحياة السيئة التي عاشتها شعوب أوربا الغربية أعواماً متطاولة من الدهر، كما نستطيع أن نرى كيف إن الفتح الذي أحرزته الفئة المظلومة، لم يرد إلا لمصلحة عدد قليل من أفرادها، على حين بقيت الأكثرية الساحقة من الطبقة الثالثة تعاني أنواعا من الضنك والحرمان.
    وعلينا فيما يلي أن نبدأ بمناقشة هذا الإعلان على ضوء تعاليم الدين الإسلامي الحنيف مستعرضين في ذلك هذا الإعلان مادة مادة، لنستطيع أن نتميز بوضوح الفرق الشاسع بين الإسلام وبين الحقوق الذي أثبتها هذا الإعلان، وكيف إن هذا الإعلان يتميز بضيق الأفق وقصر النظر، في حين يتميز الإسلام بجميع تعليمه بالعدالة والسعة والخلود. ولأجل أن يكون القارئ على إطلاع مفصل على اثر الروح البرجوازية في هذا الإعلان، فسنذكر التفسير البرجوازي لكل مادة يمكن أن ينطبق عليها هذا التفسير، وتنص على ما تخلفه تلك الروح من اثر سيء في تعاليم هذا الإعلان، ثم نتبعه بذكر التعاليم الإسلامية العادلة الخالدة.
    ونحن بالطبع لا يهمنا إلا مناقشة هذه المواد السبعة عشر من الإعلان، لأنها هي التي تنص على حقوق الإنسان والمواطن كما تفهمها الطبقة البرجوازية، أما المقدمة فليس فيها ما يجلب الانتباه ، فكان ينبغي أن نهملها ، وأن نبدأ بمناقشة المادة الأولى وما بعدها ، لولا وجود بعض الملاحظات المختصرة فيها . والتي يمكن إيضاحها فيما يلي :
    فقد ادعى أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية الواضعون لهذا الإعلان إنهم نواب الشعب الفرنسي، وتلك حيلة احتالوها على الشعب، لأجل أن يفرضوا آرائهم عليه بادعاء إنهم ممثلون له ، بدون أن يكون للشعب الفرنسي حق المناقشة والاعتراض. وقد عرفنا فيما سبق إنهم لم يمثلوا بوضعهم لهذا الإعلان إلا الطبيعة البرجوازية، على حين بقيت الأكثرية الساحقة من الشعب الفرنسي ترزح تحت نير الظلم والاستبعاد .
    ومن هنا يتضح جليا أيضاً إن ادعاءهم في كون هذا الإعلان يتكفل بيان حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة الثابتة إنما هو ادعاء فارغ يقصد منه الخداع والتمويه ، وإلا فهو لا يمثل إلا مصالح وآراء الطبقة البرجوازية .
    ومن ناحية ثالثة فأن تعبيرهم عن الله عز وجل بالكائن الأعظم ، ناشئ من إنهم لا يدركون عن حقيقة وجود الله تعالى إلا انه كائن أعظم وحسب . وذلك لأنهم لم يكن باستطاعتهم أن يدركوا الأوصاف التفصيلية التي أضفاها الإسلام على خالق البشر  ، حتى بلغ بصفاته إلى قمة التنزيه والكمال .
    وهذا التعبير قد استعمله (روبسبير) وجماعته الذين قالوا : إننا نعبد الكائن الأعظم ، وهو وإن كان تعبيراً غامضاً عن الله (جل وعلا)، إلا انه يعبر عن وجهة تجريدية توحيدية في العقيدة الإلهية. وهذه العقيدة مخالفة للتعاليم المسيحية الموضوعة التي كانوا يدينون بها، ويعيشون في بيئتها. وما مجاهرتهم بمثل هذا الرأي إلا للبداهة العقلية الفطرية التي يتميز بها وجود الله  ويتمثل فيها توحيده. مفضلين إتباع الحق على التقليد الأعمى للتقاليد المسيحية. تعضدهم بذلك روح التمرد والثورة التي اتصفوا بها.
    وسنبدأ فيما يلي بمناقشة الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، مادة مادة، على نفس النهج الذي ذكرناه آنفاً، راجين من الله حسن التوفيق، ومنك أن تتابع المناقشة إلى نهايتها بقلب رحب يعمره الحق والإنصاف، وعسى أن أكون بعد ذلك قد حزت شيئاً من رضاك وقناعتك، لأكون قد أسديت لك والى الإسلام خدمة متواضعة أرجو من الله العلي العظيم أن يجعلها قربة لوجهه الكريم، انه على ما يشاء قدير والإجابة جدير.

    6
    المادة الأولى: يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق، لا تمييز بينهم ولا تفاضل، إلا فيما تقتضيه المصلحة العامة. إن التأكيد على الحرية والتساوي في الحقوق في صدر هذه المادة منقول عن كتابات (روسو)، مما يدل على إن واضعي المادة كانوا متأثرين به. أما بالنسبة إلى عدم التفاضل بين المواطنين إلا فيما تقتضيه المصلحة العامة، فالمصلحة العامة تقتضي تقديم البرجوازيين على من دونهم من العمال والفلاحين، لان الطبقة البرجوازية وحدها هي التي كانت تتمتع بالثقافة والوعي السياسي، ومن ثم تستطيع إدارة دفة الحكم في البلاد، ومن هنا نعرف إن واضعي هذا الإعلان إنما يعنون بالمصلحة العامة، المصلحة البرجوازية، من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
    أما بالنسبة إلى رأي الإسلام فيما احتوته هذه المادة، فينبغي أولا أن نقسمها إلى أقسام ثلاثة:
    ينص القسم الأول على الحرية، وينص القسم الثاني على التساوي بين المواطنين، وينص القسم الثالث على إن التساوي يقف عندما لا تقتضيه المصلحة العامة. وذلك ليتيسر لنا أن ننظر إلى رأي الإسلام بوضوح في كل قسم من هذه الأقسام.
    أما قولهم (يولد الناس ويظلون أحراراً) فالحرية هنا مجملة يمكن أن يراد بها حرية التصرف وإبداء الرأي ويمكن أن يراد بها الحرية في مقابل ملك الإنسان للإنسان. والاحتمال الأول وإن كان مرجحاً إلا انه من المحتمل إنهم يريدون بالحرية تلك الحرية الناشئة من الولادة، وليست تلك الحرية إلا امتلاك ما كان في قبال ملك الإنسان للإنسان.
    أما حرية التصرف وإبداء الرأي ، فالإسلام إنما يقرها في حدود معينة . مستقاة من وجهة نظره الخاصة ، ولم يكن من الممكن أن يبيح الحرية المطلقة الخارجة من كل قيد وشرط ، لما يترتب عليها من التفسخ والفساد واضمحلال الأخلاق واعتداء الإنسان على الإنسان ، كما إن سائر القوانين لم تجز هذه الحرية بمعناها المطلق ، بل وضعتها في حدود معينة مستقاة من وجهة نظرها وفلسفتها الخاصة .
    وإذا كان لابد من تقييد الحرية المطلقة لأجل حفظ النظام واستتباب الأمن وسيادة القانون. فالمشرع الحاذق هو الذي يضع الحدود عليها بأحسن شكل، يمكن به تجنب مساويها، وليس هو المشرع الذي يضع أقل كمية من الحدود ، وكذلك فعل الإسلام في تشريعه الحكيم لمجتمعات العالم كافة.
    فالإسلام ذلك الدين القيم الذي انزل إلى البشر ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى الصراط المستقيم. قد وضع الحدود على الحرية بشكل يمنع الإنسان من الفساد، وينزهه عن الموبقات، ويسمو به في درجات العدالة والكمال. فهو إنما يبيحها في حدود من تعاليمه الدينية والواجبات الأخلاقية، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين. وسوف نستوفي البحث حول سائر جهات الموضوع عند تكرر التأكيد على الحرية في هذا الإعلان، وخاصة في المادة الرابعة والحادية عشر منه. إنشاء الله تعالى.
    أما رأي الإسلام في الأرقاء والعبيد ، فهو باب متشعب الأطراف يمكن أن نلخص منه شيئا لنعرف كيف إن الإسلام وإن أجاز الرق إلا انه حث على العتق كثيرا، وأوجبه في بعض الأحيان، ولم يعترف بالرق إلا في الحالات التي يكون فيها الاسترقاق أفضل الحلول.
    فالدستور الإسلامي لم يجز استبعاد الفرد إلا لأحد سببين أولهما إذا وقع أسيراً بيد الجيش الإسلامي الفاتح، واختار الحاكم الشرعي استعباده من احد خصال ثلاث، فأنه إما أن يطلق الأسير، وإما أن يفتديه، وإما أن يستبعده، وليس له أن يقتله على الإطلاق والحاكم الشرعي ، وهو الإمام المعصوم المنزه عن الخطأ والزلل، أمين الله في أرضه وحجته على عباده، لن يختار إلا ما فيه صالح المسلمين والأسرى، فان رأى من صالحهم أن يستبعده استبعده، وإلا أطلقه أو افتداه.
    والسبب الثاني للاسترقاق وهو أن يولد الفرد من أبوين مملوكين لم يتحرر منهما شيء، فان ولد المولود من أبوين وكان احدهما حراً فان المولود يتبع اشرف النسبين وهو الحرية.
    أما طرق الإسلام إلى العتق فهي كثيرة، نذكر منها على وجه الاختصار:
    1 المكاتبة: وهو أن يعاقد السيد عبده على انه إذا جاءه بكمية معينة من المال في مدة معينة فهو حر.
    2 التدبير: وهو أن يقول المولى لعبده أنت حر بعد وفاتي، فيتحرر بعد وفاته.
    3 يتحرر العبد إذا نكل به مولاه، أو إذا أُقعد أو أُصيب بالجذام أو العمى.
    4 يتحرر العبد، إذا اشتراه ابنه أو أبنته، أو احد أبويه، أو احد أجداده، أو أحفاده، فان الشخص لا يملك- في شريعة الإسلام- أولاده وإن نزلوا، ولا آباءه وإن علوا.
    5 تتحرر الجارية إذا أصبحت أم ولد، فان الولد يكون حراً، لأنه يتبع اشرف الشجرتين، ثم هو يرث أمه بعد وفاة أبيه، فتنعتق من نصيبه من الإرث، لأنه لا يملك أمه. وهي في أثناء حياة سيدها يحرم بيعها، لأنها متشبثة بالحرية.
    6 وهناك عدة من المحرمات الإسلامية التي إذا ارتكبها الفرد فانه يجب أن يعتق عبداً كفارة له عن عصيانه لأوامر الإسلام كالظهار، وقتل الخطأ، وإفطار يوم من شهر رمضان.
    وهناك فوق ذلك كله هذا النداء العام الذي وجهه الإسلام إلى الناس لعتق ارقائهم والرحمة بهم، وما وضع عليه من الثواب العظيم والحصول على رضاء الله  الذي هو الهدف الأعلى لكل مسلم في إسلامه. قال نبينا :مَنْ أَعْتَقَ مُؤمناً، أَعْتقَ اللهُ العزِيزُ الجَبارُ، بكلِّ عُضْوٍ مِنهُ عُضواً من النِّارِ (1) وقال أيضاً : من أَعْتَقَ رَقَبَةٍ مؤمِنَةٍ كانت فِداءَهُ مِنَ النِّارِ (2).
    ومن هنا يتبين إن الإسلام دين حرية للعبيد وليس دين رق ولا استعباد كما يريد أن يؤكد عليه المغرضون من دعاة الإلحاد.
    أما بالنسبة إلى مبدأ تساوي المواطنين بالحقوق والواجبات فهو مما أكد عليه الإسلام ونزل به القرآن، قال الله : في كتابه الحكيم مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (3) فالمواطنون سواسية أما القانون الإسلامي الخالد، يجزي كلا منهم بإحسانه إحساناً وبذنوبه عقابا من دون تمييز ولا تفضيل.
    بل إن الإسلام بنظره الثاقب وعدالته المستقيمة ليذهب في المساواة إلى ابعد من ذلك. فالحاكم كما يجب أن يطبق القانون على المواطنين بالسوية وبدون أي تمييز، فانه أيضاً يجب عليه أن يخضع نفسه وخاصة أهله وأصدقائه، فضلا عن سائر معارفه ومتعلقيه، للقانون نفسه، فيخضع الظالم منهم للمظلوم من غيرهم، وإلا كان ظالماً مجحفاً بحق الآخرين. وذلك كما قال سيدن ومولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيين (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الأشتر النخعي عندما ولاه مصر:
    أٍنصِف النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمِنْ لَكَ فِيهِ هَوَّى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ أَلّا تَفْعَلْ تَظْلْمْ، وَمَنْ ظَلَمْ عِبَادَ اللهِ كانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبادِهِ، وَمَنْ خاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَتَهُ، وَكانَ للهِ حَرْبَاً حَتَّى يَنْزِعَ أَو يَتوُبَ (1).
    بل إن رئيس الدولة الإسلامية خاضع إلى قانون المساواة، أما العدالة والمساواة في الحالة الاقتصادية، بل انه أولى من سائر الشعب بذلك وأجدر، لأنه مثل أعلى للشعب من ناحية أخرى رئيس للدولة، فيجب أن يشعر مثل هذا الشخص بآمال وآلام شعبه، ويعيش في حالته الاقتصادية كأقل فرد في الشعب لئلا ينسى حالة الفقراء والمعوزين والمظلومين، ولئلا تبطره النعمة فيستسلم إلى عالم الأحلام. ولقد كان سيد الأوصياء أمير المؤمنين  مثلاً رائعاً في ذلك حين نراه يقول: وَلَو شِئتُ لَاهتَدًيْتُ الطَّرِيقَ ِإلَى مُصَّفى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزَّ. وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغلِبَني هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيَّرِ الْأَطِعَمِة، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَة مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرصِ، وًلَا عَهْدً لَهُ بِالشًّبًعِ، أًوْ أًبِيتَ مِبْطَاناً وَحَولِي بُطُونٌ غَرْثىً وًأًكْبًادٌ حًرًّى، أَو أَكُونً كَمًا قًالً الْقَائِلُ:
    وًحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وًحًولَكَ أَكبَادٌ تَحِنُّ إِلَى القَدِّ
    أَأَقَنعُ مِنْ نًفسِي بأَن يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أُشَارِكَهُمْ فِي مَكارِهِ اْلدَهِّرِ، أَو أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ اْلعَيْشِ(2).
    السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، لقد ضربت بكلماتك السامية مثلاً إسلامياً رائعاً في العدالة والمساواة، وعرَّفت البشر كيف يجب أن يعيشوا، وكيف يجب أن يسلِكوا حتى يحيّوا متحابين متآلفين تسودهم العدالة، ويرفرف فوق رؤوسهم الرفاه والسلام.
    أما بالنسبة إلى إيقاف المساواة بين المواطنين عند معارضتها بالمصلحة العامة، فهو أمر صحيح بالنسبة إلى الإسلام في حدود معينة. فان الإسلام الذي نشر تعاليمه لأجل المصلحة العامة، ولأجل أن يرقى بالبشر إلى الكمال، ليقدم الشخص الكفوء الذي يخدم شعبه ووطنه ودينه ويصلح للإدارة وتصريف الأمور على الشخص الخامل الفاسق، فان ذلك داخل في الحقيقة ضمن المصلحة العامة، وإن كان يظهر بمظهر تقديم الفرد. ولكننا يجب أن نفهم أولاً من هو الفرد الكفوء بحسب وجهة النظر الإسلامية لنحكم ما إذا كان تقديمه موافقاً حقاً للمصلحة العامة أو لا.
    إن الفرد الكفوء في الإسلام ليس هو البرجوازي الطامع في اكتساب المال، المندفع وراء مصالحه وأهوائه، بل إن معايير الكمال في الفرد المسلم هي العلم والتقوى والجهاد، قال الله  في كتابه العزيز: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(1) وقال: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(2) وقال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(3). كل هذه الأمور صفات نفسية روحية عالية، وهي أولى بان تسعى بصاحبها نحو الكمال من الصفات المادية الرخيصة، من الطمع في العرض الزائل، والتكالب على المتاع الدنيء. وهو إلى جانب ذلك يأخذ حصافة الرأي، ودقة النظر، والقدرة على الإدارة، وغيرها من الصفات في جملة المميزات للموظف في الدولة الإسلامية. ومثل هذا الموظف يستحق التقديم، ويكون- بالتأكيد- تقديمه في الصالح الحقيقي للشعب، بخلاف تقديم البرجوازي الطامع في توسيع أملاكه والظالم للعمال والفلاحين.
    albasry

  3. #3

    افتراضي

    7
    المادة الثانية: الغاية من كل مجتمع إنساني صيانة الحقوق الطبيعية الثابتة للإنسان، تلك الحقوق هي الحرية والتملك والطمأنينة ومقاومة الظلم.
    تتجلى المصلحة البرجوازية في هذه المادة أيضاً بشكل واضح، فإنهم إنما اثبتوا لأنفسهم هذه الحقوق، وجعلوها الغاية في كل مجتمع إنساني، لأجل أن يضمنوا مصالحهم البرجوازية، ويطمئنوا على سعة تجارتهم وصناعتهم. فهم إنما يقصدون بالحرية حرية التجارة والصناعة والتوسع بها على اكبر نطاق مستطاع، بدون أن تتدخل القوانين أو السلطات الحكومية في الحد في غلوائها، وإيقاف جماحها عند الحد العادل المعقول. كما إنهم يقصدون بالحرية من ناحية أخرى أن يكون لهم الحق في تشغيل العمال اكبر عدد ممكن من الساعات في اليوم، وأن يكون لهم الحق أيضاً في إعطائه أي كمية من المال شاءه لهم هواهم، بدون أن يكون للعامل أو حتى للقانون أو السلطات الحكومية أي حق في فرض أي قيد على هذه الدكتاتورية الرأسمالية.
    ولعلنا لا ننسى في هذا الصدد إن القوانين في بلادهم موضوعة من قبلهم فهي ليست إلا صدى لمصالحهم وأهوائهم، ورجال الحكومة ليسوا إلا أفراد منهم، ومن ثم فليس هناك أي خطر على التوسع البرجوازي، ولا يبقى لهذا العامل المسكين أي ناصر أو معين.
    أما بالنسبة إلى الحقوق الثلاث فالتملك واضح الأهمية بالنسبة إلى المصالح البرجوازية، لأنه داخل في صميم وجهة نظرهم الاقتصادية وذلك بالنسبة إلى الطمأنينة، ويقصدون بها أولاً إلا يكون في البلاد قلاقل واضطرابات، لأجل أن تزدهر التجارة والصناعة في ربوع الأمن والسلام. كما إنهم يقصدون من مقاومة الظلم، مقاومة الإقطاع من ناحية، ذلك الإقطاع الذي ذاقوا منه الظلم والتعسف مدة قرون طويلة، كما يقصدون من ناحية أخرى مقاومة من يتدخل في شؤونهم التجارية والصناعية، ويحاول كفكفتها والحد من توسعها المفرط.
    أما الإسلام ذلك الدين القيم الذي يسعى بالبشرية نحو الكمال والرقي والسعادة، فانه لم يقتصر على هذه الحقوق فقط ، فان هذه الحقوق وحدها اقل شأنا واضعف خطرا من أن تخدم الإنسانية بجميع وجوه سلوكها وعلاقاتها، حتى وإن أولت هذه الحقوق تأويلاً صحيحاً وصرفت عن تفسيرها البرجوازي لأنها ليست إلا أربع حقوق؛ في حين إننا نجد الإسلام قد جعل طائفة كبيرة من الحقوق لكل واحد تجاه الآخرين ، وذلك لكي يضمن سيادة الأخلاق والفضيلة في ربوع المجتمع، ولترفرف عليه ألوية السعادة والرفاه.
    ويمكن أن نرجع في استعراض هذه الحقوق الإسلامية إلى رسالة الحقوق التي أملاها الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليه أفضل التحية والسلام)، لنرى الأوج السامي الذي بلغته التعاليم الإسلامية في تحديد العلاقات الإنسانية، وإلزامها بأفضل الصفات وأنبلها، فقد حددت تلك الرسالة حقوقاً وآداباً لعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه وأفعاله، وعلاقته بغيره سواء كان هذا الغير حاكماً أو محكوماً، معلماً أو تلميذاً، زوجاً أم زوجةً، والداً أو والدةً، بنتاً أو ولداً، بعيداً أو قريباً، وسواء كان ذلك الغير جاراً أو صاحباً، شريكاً أو غريماً، مشيراً أو مستشيراً، سائلاً أو مسؤولاً، صغيراً أو كبيراً إلى آخر ما فيها من التفاصيل وقد أثبتت لكل هؤلاء حقوقاً ونصحتهم بنصائح، لو اتبعوها لكانوا في أعلى مراقي السعادة والكمال، فمن المستحسن لك أن تراجعها لكي تحصل على كنز إسلامي ثمين.
    أما بالنسبة إلى رأي الإسلام في هذه الحقوق الأربعة التي أثبتها واضعو هذا الإعلان، وجعلوها طبيعية ثابتة للإنسان، فانه قد مضى شيء من الكلام حول الحرية، وسيأتي ما يفي بحق الموضوع أما بالنسبة إلى التملك فسيأتي الكلام حوله في المادة السابعة عشر إنشاء الله تعالى.
    وأما الطمأنينة فهي تعني السلام الذي رأينا كم دعاة الإلحاد من الشيوعيين يطبلون له ويزمرون به في سبيل ترويج دعوتهم الحمراء، ويجعلون دعوتهم إليه مقرونة مع الخروج على الدين والتمرد على تعاليمه الإسلامية الخالدة، كأنهم لم يعلموا انه ليس في العالم جاهل أو مجنون فضلا عن العاقل المفكر من يود الحرب وإراقة الدماء، فان حب النفس والركون إلى الأمن والطمأنينة غريزة من الغرائز المتأصلة في النفس الإنسانية، وانه ليس ادعى للهلع والذعر للقلب الإنساني من منظر القتل والحروب.
    والدين الإسلامي من الموافقين على أساس هذه الفكرة، فكما إن حفظ النفوس وسعة التجارة والصناعة لا يتمان إلا في جو من الأمن والسلام، فكذلك لا يمكن أن تطاع التعاليم الدينية أو أن يقوم الإنسان بالواجبات الشرعية، أو أن يتعلم من العلوم التي حث عليها الإسلام، أو يقوم بصلة أقربائه وأصدقائه، تلك الصلة التي دعا لها الإسلام ووضع لها النظم والنصائح الثمينة، ولا أن تنفذ سائر التعاليم الإسلامية على وجهها الصحيح، إلا في ظل من السلام والوئام.
    إلا إن الإسلام ابعد نظرا وأعمق تفكيرا من أن يدعو إلى السلام على كل حال، وإن اعتدى على الأمة المعتدون، ونال منها النائلون، وتعرض دينهم الحنيف إلى الخطر الشديد، بل إن هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أي تفكير، وهو مما توافق عليه سائر الأنظمة في العالم بالنسبة إلى حماية أنفسها، وحتى هؤلاء الدعاة الملحدون. فان الدفاع عن النفس حقٌ مقدس ناشئ عن حب الإنسان لنفسه، ذلك الحب الذي هو غريزة متأصلة في نفس الإنسان.
    ومن هنا تتضح وجهة النظر الإسلامية بالنسبة إلى مقاومة الظلم الذي يرجع في الواقع إلى حق الدفاع عن النفس، وهو حق معترف به في الإسلام.

    8

    المادة الثالثة: الأمة مصدر كل سلطة ولا يجوز لأي جماعة أو أي فرد أن يمارس سلطة ليست مستمدة منها.
    هذه المادة هي من اكبر ركائز الفكر الحديث، حيث تنص على الأسلوب الديمقراطي للحكم، وتوجب أن يصدر القانون عن الأمة أو عن ممثليها، ولا يجوز أن يفرض على الأمة فرضاً.
    ولكن هذا إنما يتم مع تمامية احد الأمرين، أحدهما: صرف النظر عن التعاليم الدينية. وثانيهما: خشية فرض القوانين على الأمة بصورة تعسفية ظالمة. وحينئذ لا يبقى مجال إلا لان تعمل هذه القاعدة عملها، وإلا ذاقت الأمة الظلم والحرمان.
    ولكن الدين الإسلامي الوارد من المصدر الإلهي العالم بخصائص البشر والمطلع على سرائرهم، والعالم بمشاكلهم وآمالهم وآلامهم، والعارف بما يحقق تلك الآمال، ويحل تلك المشاكل ويرفع تلك الآلام. هذا الدين الإلهي الحنيف لا يعترف بهذه القاعدة لأنه ليس في حاجة إليها، بعد اعتضاده بالقوة الإلهية السرمدية.
    بالإضافة إلى القوانين التي تضعها الأمة لن تكون- حتى في حالات الديمقراطية المثالية- خيرا من القوانين الإلهية التي انزلها الله تعالى للبشر في سبيل سعادتهم ورقيهم نحو الكمال، لان العقل البشري قاصر عن أن يدرك مصالحه الحقيقية وكمالاته النفسية، وخاصة بعد أن أحاطته عدة أغشية من الغرائز، والانفعالات والمصالح التي تطمس أمامه الطريق الصحيح إلى الحق، ومن المحال على المرء أن يتجرد من صفاته الفردية، كما ينص على ذلك علماء النفس، مهما أوتي من موضوعية ودقة تفكير. هذا بالنسبة إلى الفرد، فكيف بالنسبة إلى الجماعة، حيث تكون العقول مختلفة والآراء متضاربة والاعتبارات متباينة، مما يجعل القانون مزيجاً عجيباً من هذه الآراء وهذه العقول. بالإضافة إلى باقي المشاكل الاجتماعية من تشعب وتعقيد بضمنها بعض الاعتبارات النفسية والفكرية والعاطفية للشعب، والتي قد تخفى أكثرها على واضعي القانون.
    ومن هنا نجد إن القوانين الوضعية غير قابلة لان تعمر طويلا ولا يمكنها أن تثبت للزمن، فسرعان ما يبدو خللها وتحتاج إلى إصلاح، ثم يحتاج الإصلاح إلى إصلاح. وهلم جرا. . .
    هذا بالإضافة إلى ما في الدين من قيم واعتبارات لم يكن ليدركها البشر لولا تعاليم الدين نفسه، فمنها الجزاء على الإحسان برضاء الله  والجنة. والمجازات على الإساءة بغضبه (عز أسمه) والنار. وكيف يمكن أن تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار من قبل واضعي القانون مع غض النظر عن الدين؟ مع إنها ثابتة بثبوت العقيدة الدينية.
    أما ما يمكن أن يوهم بذلك من آيات القرآن العزيز، فآيتان: هما قوله عز من قائل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(1) وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(1) وكلا هاتين الآيتين واردتين في موارد التعاليم الأخلاقية، والنصائح الاجتماعية التي تحث الأصدقاء على أن يتشاوروا فيما بينهم لئلا يستبد فرد منهم برأيه فيفشل في حياته وهما غير متعرضتين على الإطلاق لمسألة التشاور لأجل التشريع وسن القوانين.
    أما بالنسبة إلى الآية الأولى فان في سياقها دلالة صريحة على إن هذا التشاور بين النبي وبين المسلمين ليس إلا للألفة وزرع الوفاق بينهم وبين قائدهم العظيم، ولأجل استئناسهم وتطبيب نفوسهم، وأخذ آرائهم في الأمور الجزئية التي قد يقوم بها النبي، ليتم تنفيذها، عن رضاهم وطيب قلوبهم. وهذا هو المعنى المناسب للعفو عنهم والاستغفار لهم.
    أما القوانين العامة والتشريعات الأساسية فليس في الآية أي تعرض لها، ولا يمكن أن يكون ذلك، لان القرآن نفسه نازل من قبل الله تعالى الذي له النهي والأمر، وهو مملوء بالأوامر والنواهي التي يقصد بها حفظ مصالح المجتمع الإسلامي، ولا يقصد اخذ رأي الأمة في ذلك بقليل ولا كثير. ولم يرد تاريخيا إن النبي استشار أصحابه في هذه التعاليم الإسلامية في يوم من الأيام. بالإضافة إلى إن هناك آية صريحة على خلاف ذلك، وهو قوله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً(2).
    أما الآية الثانية فهي أيضاً تدل تماما على إنها من باب تشاور الأصدقاء، والمداولة بينهم حول أمورهم الخاصة، لا لأجل سن القوانين حيث مدحهم الله عز وجل: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(3) أي إن الفرد منهم لا يبت بأمر من أموره إلا بعد مشاورة أصدقائه وإخوانه في الدين، لأجل أن لا تزل قدمه في حل مشاكل حياته، فيكون التشاور، بذلك، مستمرا بين المسلمين، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال إجراء استفتاء شعبي لإقرار أو رفض قانون من القوانين.
    بل إن هذه الآية الثانية قد فسرت بعكس ذلك، فقد ذكر في تفسيرها إن معنى الآية انه ينبغي للمسلمين أن يشاوروا الإمام  فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم كما قال الله :  وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ(1).
    والمشورة في الأمور المعاشية والحياتية الاعتيادية أمر مستحسن في الشريعة الإسلامية، وهذا ما قد حثت عليه هاتان الآيتان، وذلك لان الفرد العادي قد يمكن أن لا يهتدي إلى الطريق الصحيح، أو أن تخفى عنه جوانب من أموره، فيستعين بعقول أخرى لأجل مساعدته في حل مشاكله وتسوية أموره. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كما في نهج البلاغة: مَنْ إِسْتَبَدَ بِرَأيِّهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ اْلرِجَالَ شَارَكَها فِي عُقُولِها وقال (عليه أفضل التحية والسلام): وَالإِسْتِشارةُ عًيَّنُ الْهِدَايةِ، وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ إِسْتَغنَىْ بِرَأيِهِ, وقد ورد عن نبي الإسلام : مْا مِنْ رَجُلٍ يُشَاوِرُ أَحَداَ ِإلا هُدْيَّ إِلى الرُشدِ(2).
    ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن يكون القانون الإلهي الإسلامي عرضة للتحوير والتطوير بيد آراء بشرية قاصرة، وأهواء طائشة.
    ومن هنا يتضح مناقشة القسم الثاني من المادة وهو انه لا يجوز لأي جماعة أو فرد أن يمارس سلطة ليست مستمدة منها فان مثل هذا الفرد إنما يكون مستحقاً للعقاب إذا نفذ على الأمة قوانيناً تعسفية ظالمة، لا فيما إذا نفذ في صالحهم القانون الإلهي الحكيم.


    9

    المادة الرابعة: تقوم الحرية على إمكان عمل كل ما لا يضر بالغير، ولذلك فان ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان لا تقف إلا عند الحد الذي يضمن لبقية أعضاء المجتمع بهذه الحقوق نفسها، ويمكن تعيين تلك الحدود بالقانون وحده.
    تتكفل هذه المادة تعريف الحرية، ثم تبين الحد الفاصل الذي تنتهي به حرية الفرد لتبدأ حرية الآخرين. وإنما يوضع هذا الحد بواسطة القانون وحده، دون أية قوة أخرى. والبرجوازيون هم الذين يضعون القانون ويفسرونه، وهم أصحاب المصلحة فيه. إذن فهم الذين يقررون هذا الحد الذي يضمن لبقية أعضاء المجتمع التمتع بالحقوق. ومن هنا نرى انه من الحرية بالنسبة إلى مصالح الرجل البرجوازي تشغيل العمال 14 ساعة في اليوم، وإعطائهم اقل ما يمكن من الأجر، ومن حرية العامل أن يذهب في الليل إلى كوخه وينام، ثم يستأنف العمل المضني قبل طلوع الشمس. وعليه فإننا نفهم من ذلك، كما سبق أن أكدناه، إن الطبقة البرجوازية تضع القانون، وحتى هذا الإعلان على حسب مصالحها وبمقدار وعيها السياسي.
    والقاعدة التي تقررها هذه المادة قاعدة صحيحة، مع صرف النظر عن التفسير البرجوازي لها، فان ذلك مما يقتضيه الأمن والنظام، بل مما تقتضيه الحرية نفسها، فان معنى الحرية بالنسبة إلى الفرد هو أن يقول وأن يفعل ما يشاء ، وكذلك فان الحرية تعني أيضاً توفر هذا المبدأ نفسه بالنسبة إلى الجميع. ومن هنا تتصادم مصالح الأفراد وحرياتهم ، مما يضطر المشرع إلى وضع الحدود والسدود أمام الحرية ليسود الأمن ويستتب النظام، وذلك بتقييد حرية كل فرد بما لا تتعارض وحرية الآخرين .

    ومن ذلك نفهم إن هذه القاعدة قاعدة صحيحة ولابد من تشريعها في المجتمعات الإنسانية، ولكن هذه القاعدة لا تعني إلا تقييد الحرية ووضع السدود أمامها. وليس الادعاء بأنها قاعدة ايجابية بالنسبة إلى الحرية، إلا ادعاءاً فارغا لا معنى له. نعم هي قاعدة ايجابية بالنسبة إلى الأمن والنظام والأخلاق.
    وحيث عرفنا أن المجتمع لا يمكن أن تتيسر الحياة فيه إلا من في ضمن قيود وآداب تحدد سلوكه ، وتضبط أقواله وأفعاله ، فالمشرع الحاذق – كما سبق أن أشرنا إليه في مناقشة المادة الأولى – وهو الذي يضع هذه الحدود بالشكل العادل الذي يضمن به أكبر قدر ممكن من الوفاق والوئام ، وليس هو المشرع الذي يقتصر على أقل قدر ممكن من القيود ، لأنّ في هذا الاقتصار إخطاراً ومحاذير تنتج أُموراً فاسدة ومضرة بالمجتمع، تلك المفاسد التي لا تزال الإنسانية تنوء بثقلها إلى الآن في أكثر المجتمعات البشرية.
    ومن هنا نرى الإسلام لم يكتف بوضع هذا القيد وحده على الحرية، لأنّه رأى بثاقب نظره أنه غير كاف ٍ لتهذيب الفرد وصقل نفسه وسلوكه ، فليس من الحكمة أن يطلق عنان الفرد في خلال عدم مساسه بحقوق الآخرين ، فإن ثمة أفعالاً يقوم بها الفرد وليس فيها أي اعتداء على حقوق الآخرين ، في حين أن لها النصيب الأوفر في التأثير السيئ على تهذيب الفرد وصفاء نفسه وجمال سلوكه. بالإضافة إلى ما يمكن أن تخلفه من آثار سيئة في الناحية العقلية أو النفسية أو الجسمية من كيانه الشخصي.
    بل أن هناك أفعالاً وأقوالاً، يمكن أن يقوم بها الإنسان ، فيدخل الراحة والسرور على صاحبه من الناحية الحسية المادية كالاجتماع على الفاحشة أو سماع الغناء، فإن لها آثاراً روحية تسبب غضب الله عز وجل على الفرد ، وتعرضه لعذابه الأليم ، وإنما حُرمت لأجل مصالح كثيرة ليس هنا موضع سردها ، وأوضحها أنّها سوف تكون داءاً اجتماعياً وبيلاً على تقدير تفشيها وانتشارها.
    ومن هنا فإن الدين الإسلامي الحنيف قيد الحرية بأن لا يخرج الفرد بواسطتها على تعاليمه، فيشمل بذلك ما يكون اعتداءاً على حقوق الآخرين، أو مشاركة على إثم وعدوان، كما يشمل عصيان الأوامر الفردية التي وجهها إلى الناس والتي لا يبدو لها في بادئ الرأي أي أثر اجتماعي، وهي الأمور العبادية التي يقوم بها الفرد بينه وبين ربه. مع العلم إن لها في المدى البعيد آثاراً اجتماعية واسعة النطاق، فان في الحج وصلاة الجماعة وحفظ مظاهر الصيام في شهر رمضان آثاراً اجتماعية كبيرة كما هو واضح، وكذلك فان الصلاة التي يُصليها الفرد في داره، لها الأثر الكبير- كما ثبت في محله من تعاليم الإسلام- في صقل خلق الفرد وتجريده من روح الغضب والحقد والحسد، وجعله شخصاً مهذباً يطفح وجهه بالإشراق، وأفعاله بالأدب الجم والسيرة الحسنة، وذلك لمدى الأثر الروحي الذي تخلفه العبادة في الشخص الذي يؤدي عبادته بإيمان وإخلاص.
    ومما ينبغي ملاحظته إن الفعل الذي يكون فيه اعتداء على الآخرين إنما يحرم في الشريعة الإسلامية، إذا كان ظلماً وتعسفاً، ولكن هناك بعض الأفعال التي لا تعد في نظر العقل ظلماً، وهي مع ذلك يمكن أن يصدق عليها الاعتداء على الآخرين، ومثل هذه الأفعال ليست محرمة في الشريعة الإسلامي، ويمكن أن يمثل على ذلك بأمرين:
    1- ما نجده في الأسواق التجارية من المنافسة بين التجار، فانه لا إشكال بان التاجر لا يرتاح إذا جاء تاجر آخر ببضاعة مشابهة إلى بضاعته، لما سوف يصيبه من الكساد، ولو كان مستطيعا أن يمنعه بما أوتي من قوة وطول. ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق انه لا ينبغي لتاجر أن يؤذي عواطف إخوانه من هذه الناحية، فان ذلك جائز عرفا وشرعا فان لكل شخص أن يبيع وأن يشتري ما يشاء(1).
    وكذلك بالنسبة إلى المنافسة في التقدم العلمي، فان حسد الحاسدين من المتخلفين الذين لا يستطيعون التفهم الصحيح لمحتويات العلوم، لا يعني على الإطلاق أن يترك المجد المتقدم في هذا المضمار اجتهاده وتقدمه في سبيل إرضاء أولئك الحاسدين.
    2- العقوبات التي يفرضها الإسلام على العاصين لأوامره والخارجين على حقوق الآخرين. فان هذا العقاب وإن كان مؤلماً لهم، إلا انه في صالح الهيئة الاجتماعية، من حيث كونه ردعاً للآخرين عن السقوط في هذا المهوى الوضيع، بل وفي صالحهم أيضاً من حيث كونه تطهيراً لهم مما ارتكبوا، وردعاً لهم عن السقوط مرة أخرى في حضيض الجريمة. ومن هنا كان القيام بمعاقبة مثل هؤلاء شيئاً حسناً يرضاه الإسلام ويثيب عليه.
    بعد هذه الجولة في وجهة النظر الإسلامية في الحرية، يمكننا أن نميز كيف إن القانون الإسلامي وضع الحدود على الحرية بشكل عادل يكفل به سعادة البشر ورفاههم، وسيادة المحبة والوئام بينهم بشكل يرقى بهم إلى الكمال والخلود.
    ثم إن للفرد بعد تقيده بتعاليم دينه القويم، أن يفعل ما يشاء، وإن يقول ما يشاء، وأن يذهب إلى حيث يشاء، لا حرج عليه في ذلك. إلا إن يده لن تفعل، ولسانه لن ينطق إلا الشيء الذي يرضاه الإسلام، بعد أن يكون قد انصهر في بوتقة تعاليمه، وكون في كيانه نفسا وضميراً إسلاميين يأمرانه بالخير، وينهيانه ويؤنبانه على الشر، والخروج على تعاليم الإسلام.
    ولكن الشيء الذي ينبغي ملاحظته في المقام إن هذه الحرية التي ينالها الفرد في الإسلام لا تكون إلا إذا أراد الإنسان أن يقتصر على إطاعته للواجبات، واجتنابه للمحرمات الإسلامية، وإلا فهو إن أراد أن يتابع الإسلام في جميع تعاليمه وإرشاداته، فانه لابد أن يلاحظ ذلك في كل نفس من أنفاسه، وكل دقيقة في دقائق عمره، فان للإسلام طائفة ضخمة من التعاليم والإرشادات لأجل تربية الإنسانية والفرد وتهذيبهما وجعلهما إنسانية وفردا عادلين بجميع ما في هذه الكلمة من معنى. وإنما يتبع الفرد هذه التعاليم بمقدار إخلاصه الديني، وبمقدار توفيقه إلى نيل الكمال الأعلى.


    10
    المادة الخامسة: ليس للقانون أن يمنع غير الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية، ولا يجوز منع أي عمل لم يحظره القانون، ولا يجبر احد على القيام بعمل لم يفرضه القانون.
    مادام البرجوازيون هم الذين يضعون القوانين ويفسرونها وهم أصحاب المصلحة فيها، فان مقصودهم، في هذه المادة، من الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية، الأعمال التي تكدر عليهم تجارتهم وتحد من نشاط صناعتهم، وليس لأحد أن يمنعهم عن عمل لم يمنعوه هم في قانونهم، من التوسع في التجارة، واتخاذ الأساليب المشروعة وغير المشروعة من الناحية الإنسانية، في سبيل ذلك. كما انه ليس لأحد أن يجبرهم على القيام بعمل لم يوجبوه، هم، في القانون الذي وضعوه. وهم يشيرون بذلك إلى عدم جواز تحديد نشاطهم البرجوازي. فان هؤلاء البرجوازيين الذين يدورون في فلك مصالحهم الخاصة لا يمكنهم أن ينظروا إلا إلى تلك المصالح، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يراعوا مصالح غيرهم من الناس، كما رأينا ما وقع فعلاً من التعسف والجور على رؤوس العمال والفلاحين البؤساء أما بالنسبة إلى رأي الإسلام فيما احتوته هذه المادة، فان الإسلام قانون إلهي، ليس لأحد أن يقترح عليه شيئاً، ولا أن يغير منه حكماً، وهو أدرى بما قد نهى عنه وما أمر به، على حسب مصالح البشر وحوائجهم، وما ينزههم عن الموبقات، ويسمو بهم إلى الكمال.
    فقولهم: ليس للقانون أن يمنع، أو لا يمنع.
    نعم قولهم هذا ليس ذا معنى بالنسبة إلى قانون الإسلام.
    ومن ناحية أخرى فان الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية ليست وحدها هي المضرة من الناحية الإنسانية، فان الاعتماد على الفرد مضر أيضاً، ويجب على القانون تحريمه، وهو بالطبع محرم في سائر القوانين، إلا إن هؤلاء البرجوازيين تناسوه لأجل أن يتعسفوا على حقوق العمال والفلاحين في سبيل مصالحهم البرجوازية.
    أما بالنسبة إلى الرأي الإسلامي في الفقرات الأخيرة من المادة، وهي التي تنص على عدم جواز منع العمل الذي لم يحظره القانون، وعدم جواز إجبار الشخص على القيام بأي عمل لم يفرضه القانون، بصرف النظر عن تفسيرها البرجوازي.
    فإما أن يكون الشخص الذي يمنع الفرد عن العمل أو يجبره على القيام بعمل معين، هو شخص متسلط متعسف ظالم يريد أن ينال من هذا الشخص بواسطة سيطرته وقوته، وإما أن يكون هو الحاكم الشرعي الإسلامي المنصوب من قبل الله عز وجل رئيساً للدولة الإسلامي، وحجة من الله على خلقه. فان كان شخصاً ظالماً فانه أهل لان يجازي على تعسفه، بالتعسف وعلى ظلمه بالعقاب. وخاصة إذا كان التعسف يحمل الطابع الديني زوراً وبهتاناً، فانه يرجع في نظر الإسلام، إلى ابتداع تشريع لم يسنه الإسلام، وإدخال في الدين ما ليس فيه. وقد شدد الإسلام في الردع عن البدعة. فمن ذلك ما ورد عن النبيقوله:مَنْ سَنَ سُنَةً حَسَنَةَ كَانَ لَهُ أَجرُهْا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهْا إِلى يَوُمِ الْقيَّامةِ. وَمَنْ سَنَ سُنَةً سَيَّئةً كَان عَلَيهِ وِزرُهْا وَوِزرُ مَنْ عَمِلَ بِها ِإلى يَوُمِ الْقيَّامةِ(1).
    أما بالنسبة إلى الحاكم الشرعي الإسلامي، فهو منصوب من قبل الله  لقيادة البشر، وتطبيق النظام الإسلامي في ربوع المعمورة، وهو مخول أن يختار ما يشاء من أساليب التطبيق الجزئية الموضعية التي يراها أصلح للبشر، واقرب إلى النتيجة، وأجدر في إزالة العوائق والعقبات التي تعترض سبيل تطبيق النظام الإسلامي، ومن ثم هو يختار ما يشاء من الأوامر والنواهي التي تؤدي إلى هذا السبيل، وإن لم تكن واردة في نص القوانين الإسلامية العامة، ولكن هذا لا يعني إن له حق الابتداع والتشريع من جديد، فهو إنما خول تطبيق الأوامر الإلهية الصادرة سلفاً، وفرق كبير بين التشريع والتطبيق.
    ومما ينبغي أن يلاحظ إن الحاكم الشرعي الإسلامي لن يختار من وسائل التطبيق إلا ما هو صالح المجتمع الإسلامي، وما يضمن به للمسلمين العدل والسعادة. وينزههم عن الفوضى والفساد. وذلك لان الحاكم الإسلامي المنصوب من قبل الله  وهو الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام) ومعنى كونه معصوما، كونه مبرءاً من الذنوب خاليا من العيوب، آمناً من السهو والغفلة والخطأ والنسيان، وبالجملة يجب أن يكون خير البشر في عصره، لأنه ليس من العدالة الإلهية أن يبقى الأفضل خاملاً، ويكون المفضول حاكماً، وهذه العصمة هي التي يعتقدها جميع المسلمين في النبي ، ونعتقدها نحن الشيعة الإمامية في الأئمة المعصومين الإثنى عشر (عليهم أفضل الصلاة والسلام). ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يظلم أحداً، أو أن يتعسف بحق احد، وإن خير مثال حي بعد نبي الإسلام  لذلك الشخص المعصوم هو سيدنا ومولانا أبو الأئمة الهداة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وهو الذي يقول حين عوتب على التسوية في العطاء: أَتَأمُرُونيَّ أَنْ أَطلُبَ الْنَصرَ بِالجَوْرِ فِيمَنْ ولَّيتُ عَلَيهِ؟ وَاللهِ وَمْا أَطّور بِه سَمَر سَميّرٍ، وَ مْا أَمَ نَجمٌ في السَماءِ نَجْمَاً. وَلَو كَانَ الْمالُ لِي لَسّويّتَ بَيّنَهُم، فَكَيّفَ؟ وَإِنَما الْمالُ مال اللهِ. أَلا وَإِنَ عَطاءَ الْمالَ في غَيّرِ حَقَهِ تَبْذِيرٌ وإِسِرافٌ، وَهُوَ يَرّفَعُ صاحِبهُ في الدُنيّا، وَيَضَعَهُ في الآخِرَةِ، وَيُكرِمَهُ في الْناسِ وَيَهيّنّهُ عِنْدَ اللهِ(1). أما في حالة عدم وجود الإمام المعصوم، فان كان ذلك ناتجا عن بعد البلد عن العاصمة الإسلامية، فان الإمام (عليه الصلاة والسلام) يبعث إليه من يختاره ليقوم نيابة عنه بإدارة شؤون البلد، والحكم فيه طبقا للقانون الإسلامي، والإمام- بالطبع- لن يختار إلا الشخص الصالح لهذا المنصب الخطير، كما انه لن يكتفي بإرساله، بل يتعاهده بالنصح والتوجيه. ويجعل من نفسه ومن الشعب الذي أرسله إليه، رقيبا عليه، بالإضافة إلى الرقابة الإلهية ورقابة ضميره الإسلامي، الذين يستعرضان كل حركة وسكون من أفعاله وأقواله. وذلك كما نرى من سلوك أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) مع ولاته وعماله. فهو يبعث إلى احدهم قائلا: وَإِنيًّ أَقسِمُ بِاللهِ قَسَمَاً صادِقَاً لئِنْ بَلَغَنْيَّ إِنَكَ خُنْتَ مِنْ فَيءِ المْسُلِمينَ شَيّئاً صَغيِراً أوَ كَبيرَاًً لأَشُدَنََ عَلَيّكَ شَدَةٍ تَدَعَكَ قَليِلَ الْوَفْرِ، ثَقيِلَ الْظَهْرِ، ضَئيِلَ الأَمْرِ، وَاْلسَلامُ(1).
    ويبعث  إلى آخر منهم قائلا: أَتَرْجوَ أَنْ يُعْطَيَّكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَواضِعِينَ، وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُتَكَبْرّينَ، وَتَطْمَعُ وَأَنْتَ مُتَمِرٌغٌ فِيْ الْنَعِيمِ، تَمْنَعَهُ الْضَعِيفَ وَالأَرْمَلَةَ، أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوُابَ الْمُتَصِدِقِينَ؟ وَإِنْمَا الْمَرءُ مَجْزِيٌّ بِمْا أَسلَفَ، وَقادِمٌ عَلَى مْا قَدَّمَ، وَالْسَلامُ(2) وأما إذا كان عدم وجود الإمام ناشئ عن غيبة الإمام القائم (عجل الله فرجه)، فان القائم مقامه هو وكيله العام للتصرف في الشؤون الدينية للمسلمين. وهذا الوكيل هو الذي حدده الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) بقوله:
    أَنْظُرُوا إِلىَ رَجُلٍ مِنْكُمْ قَدْ رَوُىْ حَدِيثَنْا ، وَعَرِفَ شَيئاً مِنْ أَحْكَامَنْا ..، فَأجعلوه بَيّنَكَمُ قَاضّياً فإِنيّ قَدْ جَعَلْتَهُ قَاضّياً وفي بعض الأخبار :  فَارضَوُا بِهِ حَاكِماً ، فَانِّيَ قَدْ جََعَلْتَهُ عَلَيّكُمُ حَاكِماً، فَإِذا حَكَمَ بِحُكِمِنا فَلَمْ يُقْبَلَ مِنْهُ، فَإنَّما بِحُكمِ اللهِ إستَخَفَ وَعَلَيّنا رَّدَ، وَالرادُ عَلَيّنا رادٌ عَلَى اللهِ، وَهُوَ عَلَى حَدِ الْشِرْكِ بِاللهِ عَزَ وَجَل(3). ومثل هذا الشخص المتشبع بالروح الإسلامية، وبتعاليم الإسلام لا يمكن عادة أن يصدر منه تعسف أو ظلم، بالإضافة إلى ما هو فيه من الرقابة الإلهية، ورقابة الإسلام، ورقابة ضميره الإسلامي، ورقابة الأمة الإسلامية، على جميع أفعاله وأقواله.
    وللمجتمع الإسلامي إن رأى منه أية هفوة أو خطأ، أن ينبهه وأن يلفت نظره، وأن يذكره بالطريق الصواب. وعلى الحاكم بعد ذلك أن يتلقى هذه الاقتراحات بصدر رحب وقلب مفتوح، ثم ينظر في هذه الاقتراحات بتجرد وإنصاف من حيث انطباقها على القواعد الإسلامية. فان رأى انه كان مخطئاً فعليه أن يصلح خطأه وإلا كان خارجاً على التعاليم الإسلامية. وخائناً للمسلمين. وإن رأى نفسه مصيباً، وإن المقترحين هم الذين اخطأوا ألفت نظرهم إلى وجه الخطأ في رأيهم. وَجَادَلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
    albasry

  4. #4

    افتراضي

    11

    المادة السادسة: القانون هو الإعراب عن الإرادة العامة للمجتمع، ولجميع المواطنين الحق أن يشتركوا في سنه بأنفسهم أو بواسطة نوابهم. والقانون واحد للجميع في حالتي الحماية وفرض العقوبات، ولما كان المواطنون سواسية أمام القانون فيحق لهم بالتساوي الوصول إلى جميع المناصب والرتب والوظائف العامة بحسب كفاءاتهم، ودون أي تمييز غير فضائلهم ومواهبهم.
    وفي هذه المادة أيضاً تتجلى المصلحة البرجوازية أيضاً، فالإرادة العامة، في عرف هؤلاء البرجوازيين، هي إرادتهم هم أنفسهم، من حيث إنهم أقوى طبقة في المجتمع الفرنسي، فهم يقولون للعمال والفلاحين نحن نمثلكم. سوى رضى أولئك أم أبوا. ويصدر القانون معتمداً على هذا الادعاء الفارغ، وممثلا للمصالح البرجوازية، ثم يقول البرجوازيون إنه ممثل للإرادة العامة للمجتمع. وإلا فانه ليس من مصلحتهم أن يخضعوا لهذه القاعدة على واقعها فيأخذوا بنظر الاعتبار آراء العمال والفلاحين، لأنهم سوف يفسحون المجال لهم حينئذ للشكوى والتذمر من الظلم البرجوازي، و التصويت على القوانين بطريقة تخالف المصلحة البرجوازية، وهذا ما يخشاه البرجوازيون.
    ومن ناحية أخرى فان تمييز الأفراد لأجل فضائلهم ومواهبهم لم يكن ليفسح المجال ويتيح الفرصة لنيل المناصب والرتب والوظائف العامة، إلا أمام البرجوازيين أنفسهم، ومن ثم فإنهم يكونون الطبقة الوحيدة المسيطرة على الحكم في بلادهم، وبذلك يضمنون مصالحهم كلها على أحسن وجه. وما ذلك إلا لان الطبقة البرجوازية هي التي كانت متميزة دون غيرها بالثقافة والوعي والمقدرة على إدارة البلاد.
    والتعبير بالإرادة العامة Volition general تعبير ورد في كتابات (روسو)، الذي هو احد أعضاء مدرسة (العقد الاجتماعي) contract social التي تحتوي على تصوير خاص لطريقة الحكم في الدولة، تلك النظرية التي بدأها (توماس هوبز) ) Hobbes 1588-1679) الفيلسوف الاجتماعي الإنكليزي، بكتابه عن الفلسفة السياسية المسمى Leviathan في سنة 1651(1). ثم جاء (جــــون لوك) J. lock الفيلسوف الإنكليزي الشهير (1621-1704)، فصقلها وأضاف إليها.
    وقد عالج لوك اصل الدولة في رسالتيه السياسيتين اللتين نشرتا في سنة 1690 تحت عنوان (آراء عن الحكومة المدنية)(2) Of Civil Government. ثم جاء (جان جاك روسو) الكاتب والفيلسوف الفرنسي (1712-1778) فأضاف إليها آراءه. وقد تأثر (روسو) في صوغ نظرياته السياسية بمبادئ (لوك) وتفكيره تأثراً كبيراً، ولا سيما فيما يتعلق بفكرة اصل السلطة في الدولة المدنية، وصوغها في صورة ميثاق أو عقد هو أساس الدولة المدنية(3). وكان، وقتها، أن نشبت الثورة الفرنسية ووضعت هذا الإعلان في عام 1789 متأثرة بآراء هؤلاء الفلاسفة الاجتماعيين، و خاصة الأخيرين منهم، فان آراء (هوبز) لم تكن لتدخل أذهانهم لما فيها من الفساد والإسفاف، على ما سنرى.
    وينبغي لنا فيما يلي أن نذكر ملخصا لآراء هؤلاء المفكرين لننظر بعد ذلك رأي الإسلام، فيما يذهب إليه هؤلاء من نظريات.
    أما (توماس هوبز) فهو يرى أولا إن القوة هي عماد الحكم، وإن الطاعة للقانون هي جزء من طاعة الله، وإن الحاكم يستظل بسلطة الله، فإذا حاد بأوامره عن قوانين الله فانه يفقد صفته كحاكم، ويصبح الناس في حل من عصيانه. ثم انه يجب أن يكون ثمة سلطة لتقرر بين الناس ما هو الحق وما هو الباطل، وما هو متفق مع قانون الطبيعة وما هو مخالف له، وانه لابد للحكومة من السلطان المطلق لكي تحكم، وإن السلطة الروحية يجب أن تنزل عند حكم السلطة الزمنية، وإن الشعب يجب أن يخضع لقوانين الملك والحكومة.
    وأما عن نظرية العقد الاجتماعي، فهو يرى إنها ترجع إلى طبيعة الإنسان ذاته، فالإنسان حيوان كثير الحب لنفسه، مفطور على تحقيق شهواته ورغباته، وهو ذلك يدفع للاجتماع ويشعر بالضرورة بالانضمام إلى زملائه لإنشاء مجتمع مشترك، ثم إن رغبة كل إنسان في السلامة تؤدي إلى فقد السلامة إطلاقاً، والعقل يُملي على البشر أن يبحثوا عن مخرج لذلك. ذلك لأنهم يعيشون في المجتمع في حالة كفاح مستمر، تحدوهم نفس المشاعر والأهواء، وهم كثيرو الشك شديدو المنافسة، ولا سلطان لهم على أهوائهم، ولكن للبشر عقولاً يبحثون بها في أسباب الأشياء، والعقل يدفعهم إلى التوسع في مدى أهوائهم فيقع الصدام بينهم، وهذا ما يسميه (هوبز) بـ(الحالة الطبيعية).
    وهذا يُشعر البشر أن العيش في غمرة الكفاح المستمر أمر لا يطاق، ويرون إنهم يستطيعون أن يؤلفوا مجتمعا مشتركاً، ذلك انه تحدوهم جميعا رغبة السلامة. وهم إذا استعملوا العقل رأوا إن الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلامة، هي أن يقيموا سلطة مشتركة يفوضوا إليها كل سلطتهم، وهنا تتفق الجماعة فيما بينها على الخضوع إلى سلطة واحدة، وتصبح هذه السلطة عماد الدولة، وعماد الحكم، وهي سلطة يمثلها في الغالب ملك أو حاكم مطلق(1).
    وإن الدولة تظهر للوجود نتيجة لعقد أو اتفاق يعقده كل فرد مع كل فرد آخر، على أن يتنازل عن حقه الطبيعي في حكم نفسه إلى شخص أو جماعة من الأشخاص، ويسمى (هوبز) هذا الشخص أو هذه الجماعة، صاحب السيادة أو السلطان Sovereign، وليس هو بطرف من أطراف العقد، ولا يحد سلطته أي شرط أو التزام من جانبه. ولا يجوز للرعية بعد التنازل عن حقوقهم في حكم أنفسهم إلى صاحب السيادة أو السلطان، أن يعقدوا عقداً شرعياً فيما بينهم، أو أن يظهروا الطاعة إلى أي شخص آخر دون موافقة صاحب السيادة نفسه، فان سلطة هذا الأخير مطلقة وغير محدودة، ولا يمكن لصاحب السيادة أو لرعيته نقض العقود، ولا يمكن تحررهم منها لأي سبب كان، وإن تغيير الحكومة معناه انحلال الدولة والعودة إلى الفوضى. وإذا رغب أي شخص في سحب موافقته على العقد يعود إلى حالة الحرب التي كان عليها الناس قبل دخولهم في الاتفاق (1).
    أما (جون لوك) فقد قال: بان الناس في حالتهم الطبيعية أحرار ومتساوون ومستقلون، ولا يجوز أن يخضع أي شخص لسلطة الآخرين السياسية دون موافقته(2). بيد انه لا يتصور هذه الحالة الطبيعية، مثل سلفه (هوبز) حالة توحش واعتداء متبادل، بل انه يرى إنها حالة اجتماعية في صفتها، وفيها يخضع الناس لحكم العقل الذي يعلم كل إنسان إلا يؤذي أخاه في نفسه أو حريته أو ماله، وقد تقع الحرب أو الاعتداء، ولكن فقط حينما يجانب الناس حكم العقل الذي هو من طبائعهم. على انه لا توجد في الحالة الطبيعية سلطة مشتركة عليا تنفذ حكم العقل، وكل فرد يحاول أن يفسر الأمور وفق هواه، وهذا ما يؤدي إلى الاضطراب والفوضى(3).
    كما انه يرى إن تلك الحالة الطبيعية من الحرية والمساواة، كانت تعوزها ثلاثة أمور:
    أولا: القانون الذي يتفق الجميع على انه مقياس الصواب والخطأ.
    ثانيا: القاضي الذي يفصل في الخلافات وفقا للقانون.
    ثالثا: السلطة التي تسند حكم القانون والقاضي وتنفذه.
    ولهذه الأسباب دخل الناس في عقد أو اتفاق، وتنازلوا عن المساواة والحرية والسلطة التنفيذية إلى الهيئة الاجتماعية، مادام ذلك –حتما- أفضل لحماية حقوقهم الطبيعية في الحياة والحرية والتملك. عندما يدخل الفرد في الهيئة الاجتماعية يتنازل عن تفسير قانون الطبيعة وتنفيذه، ولكنه يحتفظ بجميع الحقوق الأخرى التي كان يتمتع بها في الحالة الطبيعية. وإنما وجدت الهيئة الاجتماعية للمحافظة على هذه الحقوق وإدامتها وقد أدى هذا العقد في تكوين الهيئة الاجتماعية إلى ظهور الدولة، وفيها يتنازل الفرد عن إرادته ويسلمها إلى إرادة وتصميم الأكثرية، وهذه الأكثرية تعمل بالنيابة عن الفرد، ووفقا لالتزامات القانون الطبيعي.
    ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تتحكم بصورة تعسفية، بل عليها أن تحكم وفق القوانين المشروعة والمنشورة، لكي يطلع الناس على واجباتهم ويكونوا آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون. ولا يجوز نقل السلطة التشريعية أو تقويضها لان ذلك يعتبر نقضاً للعقد الذي أسس الناس به السلطة التشريعية، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض الضرائب على أموال الناس دون موافقتهم أو موافقة مندوبيهم، لان الحكومة إنما توجد من اجل الحفاظ على أرواح الناس وحرياتهم وأموالهم(1).
    على انه توجد وراء السلطة التشريعية، سلطة الأمة العليا، وهي التي تستطيع أن تلغي السلطة التشريعية أو أن تعدلها، إذا رأت إنها خرجت في عملها عن حدود التفويض الذي القي إليها، وبذلك تكون الجماعة هي صاحبة اليد العليا، وبعبارة أخرى يوجد حق الثورة فقط حينما تتصرف السلطة التشريعية أو التنفيذية خلافا لحدود هذا التفويض(2).
    أما (روسو) فانه يعرض نظرية العقد الاجتماعي بطريقة جديدة، وفي رأيه إن الحالة الطبيعية هي اسعد حالة للإنسان، وإن الإنسان يتمتع في ظلها بصحة ومتانة لا تشوبها مفاسد المدينة وهذه في ذاتها سعادة لا تقدر، ويرجع اصل المجتمع إلى الوقت الذي يشعر فيه الإنسان في حالته الطبيعية، بأنه أضحى عاجزا بقوته الفردية، عن مكافحة العقبات التي تعترض سبيل حياته، أو بعبارة أخرى تغدو الحالة الطبيعية متى زاد عدد البشر حالة لا تطاق، وتزيد الأخطار المهددة لسلامة الإنسان في هذه الحالة، على ما يمكن أن يستخدمه لسلامة نفسه. وهنا يرى البشر انه لا معدى لهم عن إنقاذ أنفسهم إلا بالاجتماع. ويرى الفرد نفسه مرغما على أن ينزل عن حريته الطبيعية، وأن يتفق مع زملائه على أن يستبدل الحرية الطبيعية بالحرية المدنية، وأن تقوم جماعة يمكن أن تحمي بالقوة الاجتماعية المشتركة، النفس والمال لكل عضو فيها. وبما إن الإنسان يكون على هذه الصورة متحداً مع جميع زملائه فهو لا يطيع إلا نفسه، ويبقى متمتعا بحريته كما كان، وهكذا ينتظم المجتمع في شكل ميثاق اجتماعي، خلاصته أن يضع كل منهم في النطاق المشترك شخصه وكل سلطته تحت إشراف الإدارة العامة للإدارة العامة. ويختص كل عضو بنصيب مشاع في الكل، وهذا النطاق المشترك يتخذ شكل هيأة أدبية مشتركة أو هيئة عامة، وفي هذه الهيئة يتمثل السلطان أو السلطة. وكل مواطن هو عضو مشترك في هذه السلطة، وهو أيضاً عضو في الدولة ورعية للسلطة التي يعتبر منذ البداية عضواً مكونا لها. ومن خواص هذه السلطة انه لا يمكن التصرف فيها ولا يمكن قسمتها(1).
    والهيئة السياسية لا تمثل شخصاً معيناً بالذات بل تمثل كل فرد بوجه عام، فلا يمكن أن تتصرف ضد مصلحة أولئك الذين أوجدوها. إن (الإرادة العامة) هي جوهر نظرية (روسو) السياسية. وقد حاول أن يميز بين (إرادة الجميع) و(الإرادة العامة). فإرادة الجميع تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الفردية، وتمثل مجموع إرادات الأفراد. وتهتم الإرادة العامة بالمصالح العامة المشتركة، وهذه الإرادة مصيبة دائماً، وتميل لتحقيق الخير العام واعتقد (روسو) إن السيادة في الشعب كله وإن القانون هو التعبير المباشر لإرادته العامة التي تمثلها أكثرية الشعب ومن يرفض إطاعة الإرادة العامة تجبره الهيئة الاجتماعية على ذلك. ولا يمكن أن يكون القانون غير عادل لان العدالة هي إرادة أكثرية الشعب، وأما الحكومة فمجرد وكالة فوضت إليها سلطات يمكن سحبها وتعديلها(2).
    وبعد هذه الجولة بين آراء هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، حيث تنزهنا بين مناظر مختلفة، واطلعنا على الإنسانية في حالتها الطبيعية الهادئة، وعندما يحتدم النزاع بينهما نتيجة تفرق الأهواء والآراء، وعندما يجتمعون ويتعاقدون ليوكلوا أمرهم إلى فرد معين أو إلى جماعة معينة أو إلى الهيئة الاجتماعية، ويتنازلون مختارين حفظاً لأمنهم ونظام معاشهم، عن أرادتهم وحرياتهم، لهذه الجهات. وعندما تُسَنُّ القوانين على هذا الأساس، وتحدد الحريات لأجل حفظ النفس والحرية والتملك، ولأجل صيانة الإنسانية عن حالة الفوضى التي أصبحت في نهاية أمرها حالة لا تطاق.
    ولعمري إنني لا اعلم إلى أي حد حلق هؤلاء الفلاسفة في أجواء الخيال، والى كم استندوا في تفكيرهم إلى الصور الشعرية البراقة، مع انه ليس ذلك من شأن الفلسفة، ولا من شأن الأبحاث الموضوعية التي تبحث عن صميم الواقع.
    ففي أي وقت من التاريخ ثبت وجود مثل هذه الحالة الحرة التي كان كل فرد فيها يحكم نفسه بنفسه غير ملزم بنظام أو قانون؟ مع إن البشرية لم تعهد منذ فجر التاريخ إلا محكومة لملوك وإلا خاضعة لقوانين أو تقاليد.
    فان كان هذا الذي ذكروه سرداً لوقائع تأريخية، إذن فيجب إقامة الدليل المقنع على ذلك، وليس فيما ذكروه ما يصلح للبرهنة عليه. وإن كان فرضاً وتقديراً للحياة عند عدم وجود الحكومات والقوانين، من حيث إن الأصل في كل فرد أن يحكم نفسه حينئذ، ويكون غير مسؤول عن أي نظام أو قانون، ومادام ذلك غير ممكن فلابد من خضوع الفرد للقانون من اجل حماية نفسه وحريته وتملكه. إذا كان هذا هو المقصود، فما هذا التسلسل المنطقي الذي سلسلوا به الحوادث البشرية في الحالة الطبيعية كأنها قصة من القصص، وما هذا الوصف الدقيق لتلك الحالة، مع إن ذلك التسلسل وهذه الأوصاف لا توافق في كنهها أسلوب الفرض والتقدير. فلربما يمكن للمفكر أن يفترض ببساطة، إن الأصل في الإنسان أن يحكم نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يفترض حوادثاً جارية وقصصاً متسلسلة إلا في عالم الخيال.
    بالإضافة إلى انه: متى وجدت أو يمكن أن توجد مثل هذه الحالة الطبيعية هل هي في ابتداء تكون البشرية؟ ويمكن أن يؤيد ذلك، قول (روسو): إن الحالة الطبيعية تغدو بعد تزايد عدد البشر حالة لا تطاق، أم إنها حالة اجتماع جماعة من الناس ليكونوا بعد مرور السنين مجتمعاً جديداً.
    فان كان الأول فكيف اطلع هؤلاء الفلاسفة على تلك الأزمنة السحيقة في القدم وعن طريق أي اثر أو كتاب تاريخي، فان مبدأ البشرية لم يُعرف إلا من الكتب المقدسة وبخاصة القرآن الكريم. وهذه الكتب خالية من الإشارة إلى الحالة الطبيعية. ولكنه على كل حال يمكن أن يشابه النظرية الإسلامية في تكون البشرية حيث يذهب الإسلام إلى وجود آدم أبي البشر  وإن نسله ازدادوا بالتدريج، والإسلام إنما عرف ذلك عن طريق القرآن النازل من عند خالق البشر لا عن طريق تأريخي اعتيادي، ولولا التوفيق الإلهي لبقي ذلك في طي الكتمان. إلا أن الإسلام لا يرى إن أولئك البشر كانوا في حالة فوضى وتسيب، فان آدم نفسه كان مرشدهم وموجههم على ضوء ما عرفه عن طريق الإلهام الإلهي، مادام حياً، وبعد موته خلف عليهم ارشد أولاده بعد أن علمه مما يعلم، وأرشده إلى طريق توجيه البشر وإدارتهم. وهكذا فقد بقي التوجيه الإلهي مرشدا للإنسانية، منذ بدئها، وسيبقى ملازما للبشرية إلى فنائها، ولو كره المشركون.
    ومن هنا يتضح إن العناية الإلهية لم تدع البشرية في حالة فوضى وتسيب لما تعلمه في حكمتها البالغة إن تلك حالة لا يمكن أن تطاق.
    أما إذا كان المقصود من هذه النظرية هو تكون مجتمع جديد، فان هؤلاء الناس الذين فرضنا اجتماعهم ليكونوا نواة لهذا المجتمع، لم ينزلوا من السماء، وإنما جاءوا من مجتمعات لها عاداتها وتقاليدها وأساليب حكمها، وقد حملوا كل ذلك في أذهانهم، مما لا يدع فرصة لوقوع الخلاف بينهم، فإنهم يبادرون بدون تردد أو تباطؤ إلى تطبيق ما عرفوه واعتادوه في مجتمعاتهم الأولى. بالإضافة إلى إننا نتساءل عما إذا كانت هذه الأرض التي يجتمع عليها هؤلاء الناس غير محكومة لدولة ولا يسودها قانون، فان كانت تحت سيطرة دولة من الدول كما هي الآن جميع المناطق في العالم، فلا مجال لهم على التعاقد فيما بينهم وإصدار قانون جديد، وإن فرضنا- بعيداً- إنها غير محكومة لدولة، فقد اخطأ هؤلاء الناس إلى الذهاب إلى مثل هذه المنطقة المنقطعة عن العالم، وأسرفوا في التوحش والغربة، بالإضافة إلى ما أسلفناه من إنهم يبدأون تلقائياً في مثل هذه الحالة من تطبيق مسبقاتهم الذهنية التي تلقوها في مجتمعاتهم القديمة.
    هذا ولكن الكلام حول مثل هذه الفروض، كلام اقرب إلى النوادر والطرائف منه إلى الكلام الجدي الصحيح، الذي يقصد منه الوصول إلى الواقع عن طريق البرهان الموضوعي.
    بالإضافة إلى أن تعاقد الشعب وايكال إرادته وحريته إلى شخص أو جماعة، وإن كان ينجيهم من حالة الفوضى، إلا إنهم لا يستطيعون أن ينالوا به مصالحهم الحقيقية، لان العقل البشري كما سبق أن أكدنا لا يستطيع إدراك هذه المصالح بتفاصيلها، ولابد في ذلك من التوفيق الإلهي. ومن هنا نعرف إن هؤلاء المفكرين لم يصلوا بالقصة إلى نهايتها الطبيعية، تلك النهاية التي هي اقرب إلى واقع البشر من تلك الصور الشعرية التي ألفوها، فان هؤلاء البشر سوف يوكل كل جماعة منهم أمرها إلى فرد غير من أوكلت الجماعة الأخرى أمرها إليه، وسوف تضع كل جماعة قانوناً أو مجموعة من القوانين التي تمثل مصالحها ومداركها الخاصة، ثم تبدأ كل جماعة بالتعرض بصاحبتها لأجل إخضاعها وتغيير قوانينها لصالحها. وهنا ترجع الحالة إلى الصراع العنيف الذي كان قبل التعاقد، ولعله أقصى وأضرى، لأنه كان أولاً صراعاً بين أفراد، أما الآن فقد أصبح صراعاً بين جماعات، ومثل هذا الصراع لا يمكن أن يحله التعاقد من جديد بعد أن يكون كل فرد منهم قد أوكل إرادته وحريته إلى من يثق به ويعتمد عليه، وخاصة بعد هذا الصراع الذي يسلب ثقة كل جماعة بصاحبتها. وحينئذ يتحتم وجود العناية الإلهية لتحل بينهم النزاع، وتعلمهم القواعد اللازمة لأجل حفظ النظام وسيادة العدل.
    ولكن الواقع إن العناية الإلهية، لمدى حكمتها البالغة، لم تصل بالبشرية إلى هذا الحد، بل اسعفتهم من أول الأمر بالتوجيه والإرشاد.
    هذا، بالإضافة إلى إننا لم نفهم بالضبط صفات تلك الحالة الطبيعية التي اجمع هؤلاء المفكرون الثلاثة على وجودها أو على افتراضها. حيث إننا نراهم قد اختلفوا اختلافا كبيرا في تحديد صفاتها ورسم معالمها. فإننا نرى من ناحية (هوبز) قد ذهب إلى إنها حالة توحش وصراع رهيب، في حين ذهب (روسو) إلى إنها اسعد حالات الإنسان، وإن الإنسان يتمتع في ظلها بصحة ومتانة لا تشوبها مفاسد المدنية، وهذه في حد ذاتها سعادة لا تقدر! على حين توسط (جون لوك) بين ذلك. إما نحن النظارة فما الذي يمكن أن نفهمه من هذا الخلاف. هل يمكن أن نجمع بين أقوالهم على تناقضها، ونقول إنها صفات للحالة الطبيعية؟ أو إن نصدق احدهم، ونرفض قولي المفكرين الآخرين! في حين إن هذا مناف للموضوعية العلمية. أو أن نقول إن هذه الحالة الطبيعية ليست إلا حالة فرضية خيالية ذهب كل فيلسوف قي صفتها ما شاء له فكره أن يذهب؟ وللقارئ تحديد الصواب من هذه الاحتمالات.
    ومما ينبغي ملاحظته إن هؤلاء المفكرين، قد ذهبوا جميعهم إلى إن العقل يحكم بضرورة التخلص من الحالة الطبيعية، بعد أن تصبح حالة لا تطاق، وحتى (روسو) الذي لم ينص على ذلك إلا أن قوله: (وهنا يرى البشر انه لا معدى لهم عن إنقاذ أنفسهم إلا بالاجتماع)، يدل على ذلك بصورة واضحة، فان هذا الرأي الذي يتكون بين البشر إنما ينشأ عن العقل. وبهذا نرى هؤلاء المفكرين قد أعطوا العقل فرصة للاقتراح وإبداء الرأي، وهذه بادرة جميلة تدل على احترامهم للعقل، وأخذهم بالقواعد العقلية.
    وهذا نفس ما ذهب به الإسلام حيث اعتمد على العقل في كثير من تعاليمه، فمنها عقيدته الرئيسية الأولى، وهي الاعتقاد بوجود الخالق ، فان ذلك إنما يدرك بقانون العلية، وهو قانون مرتكز في فطرة العقل. وكذلك أعطى الإسلام للعقل فرصة إدراك الحسن، والقبح، والظلم، والعدل، واعتبر هذه الأمور أفكارا عقلية متأصلة الوجود لا يمكن التصرف بها أو تحريف مقتضياتها. وكذلك أعطى الإسلام للعقل فرصة إدراك صدق الإسلام وعدالة أحكامه وتعاليمه، وأدراك انه وارد من المورد الإلهي الأعلى. كما انه أعطاه حق استنباط الأحكام الشرعية من القواعد الإسلامية المتوفرة، وذلك تحت شروط معينة.
    كانت هذه مناقشات عامة لآراء هؤلاء الفلاسفة، إما التعرض إلى رأي كل منهم ونقده على ضوء القواعد والتعاليم الإسلامية، فيمكن أن نلخص بعض الملاحظات حول ذلك، فيما يلي:
    أما بالنسبة إلى آراء (توماس هوبز)، فقد ذكر أولا إن الحاكم يستظل بسلطة الله، وهذا يرجع إلى نظرية الحق الإلهي في الحكم وقد برر (هوبز) بذلك استبداد (آل ستيوارت) في إنكلترا، الذين عاصرهم(1).
    وليس هذا المفكر هو أول من أكد على ذلك فان كثيراً من الملوك في العهود السابقة كانوا يدعون هذا المدعى تثبيتاً لحكمهم وإخضاعا لشعوبهم. ومنهم أول ملوك هذه الأسرة التي دافع عنها (هوبز)، وهو (جيمس الأول) (1603-1625) الذي أصدر كتابا عنوانه القواعد الصحيحة للملكيات True Rules of Monarchies ادعى فيه إن الله هو الذي نصب الملوك(1). وكان ذلك قبل حوالي ربع قرن قبل صدور كتاب (هوبز) عن الفلسفة السياسية. والإسلام وإن كان يذهب إلى إن رئيس الدولة الإسلامية، بالأصالة، إنما هو الإمام المعصوم المنصوب من قبل الله  إلا أن بين هذه النظرية الإسلامية وبين نظرية الحق الإلهي في الحكم، بوناً بعيداً هو البعد الموجود بين العدل والظلم، وبين التعسف والرحمة، وبين الظلام والنور. فان الملك الذي يدعي انه يستظل في عرشه بظل الله ، إنما هو ملك جائر مستبد، تذرع بهذه النظرية لحفظ ملكه وإخضاع شعبه، ثم انه هو الذي يسن القوانين على أساس أهوائه ومصالحه الخاصة وتفكيره الخاص، وهو الذي يطبقها على شعبه بأي أسلوب شاء، وبدون أن يكون لشعبه حق المناقشة والاعتراض.
    أما في الإسلام فان الله  نَصَّب إماماً معصوماً مبرءاً من الذنوب، خالياً من العيوب، يستحيل عليه الزلل والخطأ، لما في نفسه من ملكة قدسية عالية، هي المسماة بـ(العصمة). نصبه لكي يطبق القوانين التي انزلها الله  لسعادة البشرية ورفاهها وانتشار العدل في ربوعها.
    ومثل هذا الإمام ومثل هذه القوانين، هي أهل لان تخضع لها البشرية وتدين بتعاليمها، فان العقل يحتم على الإنسان أن يختار النظام الأفضل لمعيشته، وليس ذلك، إلا ما اختاره الله تعالى خالق البشر ورازقهم، والمطلع على سرائرهم وحاجاتهم وغرائزهم، لهم من القوانين. وحسب الإنسانية من السعادة والكمال أن يطبق في ربوعها مثل هذا القانون بواسطة مثل ذلك الإمام المعصوم.
    ومن هنا نعرف إن الإمام (عليه الصلاة والسلام) لا يضع القوانين كما هو شأن الملوك الذين يدعون السلطة الإلهية. بل انه مخول فقط بأن يختار الطريق الصالح إلى تطبيق القوانين الموضوعة سلفا من قبل المشيئة الإلهية، كما انه اجل قدراً، واشرف نفساً، واقرب عند الله تعالى، من أن يظلم أحداً، أو أن يتجاوز على حقوق أمته، أو تعاليم دينه القويم،
    كما مضى وأكدنا على ذلك في غضون مناقشاتنا للمادة الخامسة من هذا الإعلان. حيث استشهدنا هناك بقول سيد الأوصياء وإمام المتقين أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)  أَتَأمُرُونيَّ أَنْ أَطلُبَ الْنَصرَ بِالجَوْرِ فِيمَنْ ولَّيتُ عَلَيهِ؟
    أما ما ذهب إليه (هوبز) من انه يجب أن يكون ثمة سلطة لتقرر بين الناس ما هوالحق وما هو الباطل وما هو متفق مع قانون الطبيعة وما هو مخالف له، فكأنه يقصد من ذلك أن ما هو الحق هو الموافق للطبيعة، وما هو باطل هو مخالف لها، فكأن أهواء الإنسان وغرائزها التي تطلب الإشباع بأي طريق كان، هي شيء مستحسن ينبغي للقانون أن يفسح المجال له، وأن يضع تعاليمه على طبق ما يدعو إليه، وإلا كان القانون مخالفا للحق! أما الأخلاق، والنظام، وضبط النفس، وسائر الأمور التي تقيد الطبيعة، فهي أمور باطلة تجب محاربتها وإلغائها، فإذا كان الأمر كذلك فعلى الفكر الإنساني ألف تحية وسلام.
    ولكن مهما يكن من الأمر، فان السلطة القانونية ليست هي صاحبة الحق في تحديد الحق والباطل، فان الحق والباطل لا يتحدد بيد السلطات، وإنما الحق والباطل- كما سبق أن أكدناه- أمران عقليان صرفاً لا يمكن التعرف عليهما، وغاية ما يفعله المشرعون هو تشخيص المصاديق والجزئيات لهذه القواعد الكلية العقلية، وغاية ما يمكن أن يفتخر به قانون من القوانين انه قد اقترب من العدالة أو الحق، أكثر فأكثر، وكلا هذين المفهومين من المفاهيم العقلية الصرفة.
    ولا ينبغي الخلط بين هذه القواعد العقلية وبين ما سماه (هوبز) بقانون الطبيعة، فان هناك فرقاً شاسعاً بينهما، فان قانون الطبيعة يعني الإنسان مجرداً عن العقل، مستسلماً لأهوائه ونزواته، تقوده حيث تشاء، أما القواعد العقلية، فأنها تعني الإنسان متحلياً بالعقل، ومجرداً من العواطف والغرائز إلى اكبر حد مستطاع، لكي لا يمكنها أن تؤثر في بحثه وأفكاره، ومن ثم هو ينظر إلى الواقع نظرة موضوعية عادلة.
    إلا انه يمكن أن يكون مقصود (هوبز) من قانون الطبيعة، هو القانون العام الساري في الكون، وما يتطلبه من تكييف النفس على أساسه، بدعوى إن التكييف المناسب، حق وعدل، والتكيف غير المناسب ظلم وباطل. إلا إن هذا إذا أمكن إرجاعه في جوهره إلى حكم العقل بالحسن والقبح والعدل والظلم، من حيث إن العقل لا يمكن أن يحكم بهذه الأمور جزافاً، وإنما يحكم بها من حيث مطابقتها للنظام الكوني العام. فتكون نظرية (هوبز) هذه صحيحة ومطابقة للحقيقة. وإن كان المقصود منها شيئا آخر كالذي ذكرناه قبل قليل، فهو محل المناقشة.
    أما بالنسبة إلى ما ادعاه (هوبز) من أن السلطة الروحية يجب أن تنزل عند حكم السلطة الزمنية، فهو إنما يريد بذلك أن يخضع الكنيسة المسيحية لاستبداد (آل ستيوارت). ولكن هذا الكلام بالنسبة إلى الإسلام، لا يمكن أن يكون له ظل من الحقيقة. فانه، أما في الدولة الإسلامية فان الجهة الدينية هي الجهة الحاكمة والإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، الذي هو رئيس هذه الدولة، هو في عين الوقت المرجع الديني الأعلى لجميع المسلمين. وأما في أيامنا هذه فانه ينبغي للدول. لأجل ضمان سعادتها ورفاه شعوبها، أن تستنير بنور الإسلام وأن تقتدي بهداه، فان واضعي القانون أنفسهم والحاكمين في كل دولة، مكلفون باتباع الأوامر الإسلامية، حيث يشملهم نداء الإسلام العام الذي وجهه إلى البشر، يحثهم فيه على إتباع أوامره، والسير تحت لوائه وذلك كما في قوله (عــز وعلا): يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً
    * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً(1).
    أما بالنسبة إلى رأي (هوبز) في إسقاط هذه الحكومة التي فرضها تحكم بنظرية الحق الإلهي، فقد اختلف عنه النقل في المصدرين اللذين اعتمدتهما في الإطلاع على آرائه. فقد نقل عنه صاحب (المذاهب الاجتماعية الحديثة) انه إذا حاد الحاكم في أوامره عن قوانين الله فانه يفقد صفته كحاكم، ويصبح الناس في حل من عصيانه، ونقل عنه الدكتور فاضل حسين قوله: إن سلطة هذا الحاكم مطلقة وغير محدودة، ولا يمكن لصاحب السيادة أو لرعيته نقض العقود، ولا يمكن تحررهم منها لأي سبب كان. وقد نقلنا كل ذلك فيما سبق.
    ونحن وإن كنا نرجح الرأي الأخير وهو ما يذهب إليه (هوبز) من حيث انه اقرب إلى مذاقه المستنتج من مجموع كلامه، وخاصة وهو في سبيل الدفاع عن دكتاتورية (آل ستيوارت)، وهذا لا يناسب أن يكون للشعب إسقاط الحاكم في وقت من الأوقات إلا انه من الممكن أن يكون قد ذهب في الواقع إلى الاعتراف بحق الثورة.
    أما بالنسبة إلى الرأي الإسلامي في الموضوع، فهو اقرب إلى الرأي الأول، لولا انه يفرق من وجهة النظر الإسلامية بين أن يكون الحاكم الأعلى إماماً معصوماً أو أن يكون شخصا آخر، فان كان إماماً معصوماً، فانه – كما سبق أن أكدنا أكثر من مرة – يستحيل عليه بعصمته الخروج عن الأوامر الإلهية وتعاليم الإسلام، ومن ثم فحق الثورة عليه منتف من أساسه، ولا يكون الخروج على حكمه إلا خروجاً على الدين الإسلامي نفسه، أما إذا لم يكن الحاكم معصوماً فانه معرض للهفوة والخطأ. ومن ثم فهو مراقب من جهات عديدة، من الله  ومن قبل الإمام  ومن قبل أمته، ومن قبل التعاليم الإسلامية التي تجعل حسابه عسيراً عند اقل مخالفة لمقتضياتها، وإن استلزم ذلك عزله من منصبه، ومعاقبته على فعله.
    أما ما هو الذي يقصده (هوبز) من قوانين الله ، فلابد أن يكون هو فانون الطبيعة، من حيث إن الطبيعة نفسها من خلق الله  وكلما تتطلبه إنما بمشيئة من الله (جل وعلا). فان كان المقصود من قانون الطبيعة هو متطلبات القانون الكوني العام، فذلك شيء صحيح، فان الإسلام نفسه لم يود إلا لتحديد التكييف الصحيح مع متطلبات الكون، والملائمة العادلة بين مقتضيات البيئة والغريزة. وإن كان المقصود بقانون الطبيعة، الغرائز والشهوات البشرية فهو وإن كان صحيحاً إلا انه لا يعني على الإطلاق إن الله تعالى قد أجاز الانطلاق الجنوني للغرائز للوصول بها إلى ما لا يحمد عقباه. فانه  إنما خلق هذه الغرائز لمصالح مختلفة تتعلق بحفظ النوع، وحفظ النفس، وتيسير المعيشة للفرد، ويمكننا أن نتصور هذه المصالح بوضوح إذا تصورنا حالة الفرد عند عدم وجودها أو انعدام احدها، وبأية حالة من العسر والحرج سوف تكون حياته. ولكن ذلك لا يمكن أن يعني إن هذه الغرائز يجوز أن تستعمل حتى في الطرق الشاذة المؤدية إلى الفساد، فان الله  بعد أن خلق تلك الغرائز جعل لها أنظمة وتعاليم ليفهم الإنسان طريقة استعمالها على الأسلوب الصالح الصحيح ويتجنب بها طريق الفساد والرذيلة. أما أقوال (هوبز) الأخرى في الدفاع عن استبداد (آل ستيوارت) وتبريره الحكم المطلق، فإنها قد أصبحت في عهودنا المتأخرة، اقرب إلى الفكاهة منها إلى أي شي آخر.
    أما (جون لوك) فقد أرسل إرسال المسلمات قوله: (إن الناس في حالتهم الطبيعية أحرار ومتساوون ومستقلون، ولا يجوز أن يخضع أي شخص لسلطة الآخرين السياسية دون موافقته) وهذا بالنسبة إلى الإسلام غير ذي معنى، لأنه منتف أساسا في الدولة الإسلامية. فان الفرد هناك غير خاضع لأحد غير الله ، خالقه ورازقه وصاحب التصرف في شؤونه. وذلك لان الإنسان بحسب تكوينه ووجوده هو من فيض الله تعالى إذ لولا نعمة الوجود التي أنعمها الله عز وجل عليه بمنه ولطفه لكان في عالم العدم، والله تعالى هو صاحب القدرة عليه في كل زمان ومكان، وليس حراً ولا مستقلاً كما يريد أن يذهب إليه (لوك). وحينئذ فان الله  بلطفه ورحمته بعباده، ولعلمه انه لا يمكن أن تحيا الإنسانية في (الحالة الطبيعية) لأنها (حالة لا تطاق)، قد انزل على عباده قوانين عادلة وأنظمة حكيمة، لكي يضمن بها البشر نظام حياتهم وسيادة الأخلاق والعدالة في ربوع مجتمعاتهم. وخول الله  أفضلهم صفة، وأحسنهم نفسا، وأقربهم إليه  لكي يضطلع بتطبيق تلك القوانين، وهو شخص معصوم يستحيل عليه الزلل والخطأ والخروج عن التعاليم الإلهية، كما سبق أن أسلفنا. ثم جعل الله  هذه القوانين، وهذا الحاكم الشرعي الإسلامي، واجبي الإطاعة يعاقب من خالفهما، وخرج على اوامرهما، وذلك لعلمه (عز وعلا) بان الغرائز البشرية لا يمكن أن تخضع للقيد إلا تحت سيطرة قوية لما فيها من الاندفاع والطلب الحثيث، فهو يجعل بتعاليمه في نفس الإنسان وازعاً قوياً يستطيع به كبح جماح شهواته، والانخراط في سلك النظام والأخلاق، ولعلمه من ناحية أخرى بما في هذه القوانين، وما في أوامر الإمام (عليه الصلاة والسلام) من سعادة للبشرية ورفاهما ورقيها إلى كمالها المنشود.
    ومن هنا يتبين انه لا حاجة للناس بان يتنازلوا لأحد، في الدولة الإسلامية، عن إرادة أو حرية. بعد أن لم يكونوا في وقت من الأوقات في (حالة طبيعية)- كما سبق أن أثبتناه- بل إن العناية الإلهية قد اسعفتهم من أول الأمر بالقوانين الصالحة وبالتوجيه والإرشاد. وبعد أن كانت إرادة الفرد وحريته ليست ملكاً له في الواقع، وإنما هي ملك الله  وتحت تصرفه، وهو الذي أمر بإتباع أوامر الإسلام. بالإضافة إلى إن هذا القيد الذي تفرضه القوانين الإسلامية على حرية الفرد، ليس هو شيئا خارجا عما يجب أن يكون عليه الواقع إذا أريد التنظيم الأكمل الذي يضمن سعادة المجتمع ورفاهه وسيادة الهدى والنظام فيه. فان هذا القيد أما أن يحجز الحرية التي في مقابل الخضوع لله تعالى، ومثل هذه الحرية لم تتوفر لدى الإنسان من أساس خلقته التكوينية، إذن فهذا القيد لم يسلبه شيئا كان يملكه فيما سبق. وأما أن يحجز هذا القيد الحرية من عبادة الله  والتقرب إليه، فان مثل هذا القيد مما ينبغي أن يكون حتى مع صرف النظر عن تعاليم الإسلام. فان الله الذي خلق الإنسان، وانعم عليه بالسمع والبصر والعقل، وهيأ له سبل الحياة المرفهة الكريمة لهو أهل لان يقضي الإنسان هذا العمر البسيط الذي وهبه إياه الله  في عبادته والتقرب إليه. فضلاً هذه المظاهر السطحية التي يقوم بها المسلم العادي، وذلك لان وجوب شكر المنعم قاعدة عقلية منطبقة على كل منعم. فان كل من أعطاك هدية أو قضى لك حاجة يجب عليك أن تشكر له إحسانه وفضله. فكيف لا تنطبق هذه القاعدة على الله  خالق البشر. ولم يفعل الإسلام أكثر من انه الفت نظرنا إلى هذه القاعدة العقلية، وحدد الأسلوب الذي ينبغي أن يستعمل في عبادة الله والتقرب إليه . وأما أن تحجز التعاليم الإسلامية الحرية في مقابل التقيد بمراعاة الآخرين ومسايرتهم بالأخلاق والإنصاف، فان هذا أيضاً مما ينبغي أن يكون، حتى مع صرف النظر عن التعاليم الإسلامية فان كل مجتمع لا يمكن أن يستمر في الوجود بدون الآداب والأنظمة المرعية، وإلا كانت الحالة فيه كالحالة الطبيعية جحيما لا يطاق.
    وأما أن تكون الحرية التي تحجز بسبب التعاليم الإسلامية هي الحرية في مقابل الخضوع للدولة وتلبية أوامرها، فلعمري إن ذلك مما يدعو إليه العقل، كما ذهب إليه هؤلاء الفلاسفة ولا يكون الأمن والنظام إلا به.
    والإنسان لم يخرج منذ أول خلقته عن سلطة حاكم يحكمه ويدير شؤونه، فهلا كان هذا الحاكم هو قوانين الله  وشخص معصوم هو الإمام ، ليرقى المجتمع إلى قمة العدالة الإنسانية.
    إما بالنسبة إلى رأي (جون لوك) من انه لابد للتخلص من الحالة الطبيعية من وجود القانون الذي يتفق الجميع على انه مقياس الصواب والخطأ. فان الذي يعين الصواب من الخطأ- كما أسلفنا- ليس هو القانون ولا السلطة التشريعية، بل هو العقل. وغاية ما تفعله السلطة التشريعية هو تشخيص مصاديق القواعد العقلية الأولية، وليس اتفاق الجميع على شيء يعني انه صواب ولا رفضهم له يعني انه خطأ. فان العقل البشري المختلط بالأهواء والرغبات، والذي تمثله آراء الأكثرية، غير قابل لإدراك مصالحه الحقيقية، بالإضافة إلى إن إسناد تمييز الخطأ من الصواب، إلى اتفاق الجميع يؤدي إلى ضياع الخطأ والصواب لما في هذا الاتفاق من التحول والاختلاف بين زمان وزمان، باختلاف أنواع الثقافة والتقاليد والذوق العام في حين انه يستحيل على الحقيقة العقلية أن تتغير.
    أما (حق الثورة) الذي هو جوهر نظرية هذا المفكر الإنكليزي، فانه إنما قال به على تقدير مخالفة السلطة التشريعية والتنفيذية لحدود التفويض والتعاقد الذي فوضها اليه الشعب أثناء العقد الذي جرى بينهما ، ومادام هذا التعاقد والتفويض منتفي في الدولة الإسلامية من حيث إن كلا من الشعب والدولة خاضعان لله  ولقوانينه العادلة، فان هذه النظرية باطلة أساساً في نظر الإسلام. ولكن ذلك لا يعني عدم وجود مفهوم الثورة في القانون الإسلامي، فانه أن كان المقصود من الثورة عزل الحاكم، فذلك راجع إلى التفريق الذي قلناه عند مناقشة آراء (هوبز)، من إن هذا الحاكم إما أن يكون معصوما عن الخطأ والزلل فينتفي هذا الحق بالنسبة إليه من الأساس، لأن طاعته طاعة الله تعالى الذي ولاه الحكم وإدارة دفة البلاد، والخروج عليه خروج على الإسلام والأوامر الإلهية. وأما إذا لم يكن معصوما فانه يجوز عزله بل قد يجب، عند مخالفته لتعاليم دينه الحنيف. أما إذا كان المقصود من الثورة، هو قلب النظام الأساسي للدولة الإسلامي، فهو بالطبع محرم في دين الإسلام، لأنه يكون خروجا عن الإسلام نفسه، وتمردا على القوانين الإلهية العادلة وإغضاباً لله تعالى، ومن ثم فهو تعريض للنفس إلى عقابه الشديد، وهو من ناحية أخرى تسافلاً مشيناً إلى الحضيض، ورفضاً للقوانين المثلى العادلة التي بها جاء الإسلام ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
    albasry

  5. #5

    افتراضي

    وأما قوله انه يجب على السلطة التشريعية أن تحكم وفق القوانين المشروعة والمنشورة لكي يطلع الناس على واجباتهم، ويكونون آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون فان مناقشة هذا الأمر سوف يأتي عند التعرض لمناقشة المادة الثامنة من هذا الإعلان، وستعرف هناك إن الإسلام يوافق على هذه القاعدة
    أما قوله انه لا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض الضرائب على أموال الناس دون موافقتهم أو موافقة مندوبيهم، فهذا ما سوف تأتي مناقشته عند التعرض لمناقشة المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان، وسنعرف هناك إن في الإسلام ضرائب معينة وليس للدولة ولا الناس رأي فيها، وإن هذه الضرائب هي من جملة القانون الإلهي الوارد لأجل مصلحة البشر، ولا حاجة بعد ضمان المصلحة إلى إحراز موافقة الناس عليها لأنه . . . وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(1).
    أما بالنسبة إلى آراء (روسو)، فانه قد أتضح مما سبق رأي الإسلام في كثير مما قاله، كالحالة الطبيعية، أو العقد الذي عقدوه فيما بينهم للتخلص منها حين أصبحت جحيماً لا يطاق، ومن هنا ينتفي جميع ما أضافه عليها من الآراء والنظريات. إلا انه ينبغي التعرض إلى بعض ما اختص به من الآراء.
    فانه ذهب إلى إن الحالة الطبيعية هي اسعد حالة للإنسان، أي إن الإنسان يتمتع في ظلها بصحة ومتانة لا تشوبهما مفاسد المدنية، وهذه في ذاتها سعادة لا تقدر! وفي هذا الرأي خلط واضح بين الحياة الريفية التي لا تشوبها مفاسد المدنية، ومن ثم يكون الإنسان في ظلها أقوى عوداً وأوفر صحة، وبين الحالة الطبيعية التي يكون فيها الإنسان مسؤولاً عن حماية نفسه وضمان حاجاته الضرورية، فهو دائماً حائر مشتت الذهن، فانه قلما يمكن الحصول على الأمن والحاجات الضرورية في مثل تلك المجتمعات البدائية بل وهذه الحيرة وهذا الغم في نفسه يؤثران على الصحة تأثيرا كبيرا. بالإضافة إلى إن الصحة، من أين يمكن أن تأتيه؟ وليس لديه ثقافة طبية عامة يمكنه بها أن يميز المضر من النافع، من المأكولات أو المشروبات أو الأمكنة أو الأجواء، فربما عرض نفسه لأخطار المرض وهو لا يعلم، وليس هناك طبيب يشخص مرضه ويصف له الدواء. ولعمري إن اللذة الناشئة من الأخلاق الفاضلة والنظام والأمن لهي خير من تلك اللذة البدائية البسيطة.
    ولعل تلك السعادة التي أراد أن يدعيها (روسو) ناشئة من التحرر الذي تتصف به الحالة الطبيعية المفترضة، حيث ينطلق كل فرد مع شهواته ونزواته ويمارس إشباعهما كيفما شاء وأنى شاء، بدون رادع من نظام أو وازع من دين. وهذه بالطبع ليست إلا سعادة مادية صرفة ناتجة عن إشباع الإنسان لغرائزه من ناحية، والشعور بالتحرر من السيطرة من ناحية أخرى. ولكننا لو علمنا إن تلك الحياة ليست إلا حياة بهيمية، وإن كبح جماح الغرائز والخضوع لسيطرة القانون هي من الركائز الأولى لاستتباب الأمن والنظام وانتشار الأخلاق في ربوع المجتمع. ومن ثم فان الإسلام يرفض بحزم تلك الحياة البهيمية الفاسدة، ويؤكد على السعادة التي ينالها الفرد من دراسة العلوم أو خدمة المجتمع أو التقرب إلى الله تعالى والخضوع له وعبادته بإيمان وإخلاص.
    أما نظريته حول (الإرادة العامة) التي هي جوهر فلسفته ونظريته السياسية، ومحاولته الادعاء بان هذه الإرادة مصيبة دائماً وتميل إلى تحقيق الخير العام، وإن القانون هو التعبير المباشر للإرادة العامة التي تمثلها أكثرية الشعب، ولا يمكن أن يكون القانون غير عادل لان العدالة هي إرادة أكثرية الشعب.
    فان كل هذه الأمور محل مناقشة من وجهة النظر الإسلامية فان تمييز الخطأ والصواب مادام موكولاً إلى العقل لا إلى أي شيء آخر كما عرفنا، فان الإرادة العامة قد تطابقه فتكون مصيبة، وقد تخالفه فتجانب الصواب، وكذلك بالنسبة إلى العدالة فان إرادة أكثرية الشعب إن اجتمعت على أمر عادل من الناحية العقلية فذلك، وإلا فان الإرادة العامة قد تخطئ إذا اجتمع الشعب على شيء باطل.
    ومن هذا يظهر انه يلزم من جعل الإرادة العامة مقياسا للصواب والخطأ ضياع هذين المفهومين وانطماس آثارهما، لان هذه الإرادة متغيرة بين زمان وزمان، بل قد لا يحتاج تغيرها إلى أكثر من عام واحد، بحسب اختلاف الآراء العامة والتيارات السياسية والاجتماعية. مما ينتج أن يكون الفعل صواباً وعدلاً في زمان، وظلماً وخطأ في زمان آخر، وأن يكون الفرد مستحقاً للعقاب على فعل معين في وقت ومحموداً على نفس الفعل في وقت آخر، هذا مخالف للوجدان والفطرة العقلية.
    كما إن جعل الإرادة العامة مصدرا للقوانين يلزم منه أن لا يصدر القانون برضاء كل فرد من الشعب، وخاصة بعد أن فرق (روسو) بينهما وبين (إرادة الجميع)، حيث ذهب إلى إن إرادة الجميع تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الفردية، وتمثل مجموع إرادات الشعب، في حين تهتم الإرادة العامة بالمصالح العامة المشتركة، وذلك لان كل فرد يضطر أن يتنازل أثناء وضع القانون عن بعض آرائه تحت ضغط آراء الآخرين، ومراعاة لحريتهم في التصويت، وتؤثر في عملية التصويت هذه عوامل متعددة نفسية وفكرية واجتماعية تؤثر في وضع القانون، وينتج القانون أخيراً ذو شكل لا هو مرضي لكل فرد منهم، لان كلا منهم قد اضطر إلى التنازل فلم يكن القانون مطابقاً لآرائه تمام المطابقة، ولا هو مرضي لمجموعهم بعد أن كان غير مرضي عند كل فرد، ولكنه عبارة عن نتاج هذه التفاعلات والتنازلات التي قامت بين الأطراف المشتركة في مناقشة القانون والتصويت عليه.
    هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من عدم استطاعة العقل البشري إدراك المصالح البشرية الحقيقية، بالإضافة إلى انه يلزم من متابعة الإرادة العامة التي هي عبارة عن إرادات الأكثرية، أن تكون هناك دائما وبصورة مستمرة أقلية مظلومة في البلاد، فانه ما دامت الإرادة العامة غير مضبوطة وقابلة للتغير بين تصويت وتصويت، إذن فكل فرد من الشعب مهدد بان يكون ضمن الأقلية، مغموط الحقوق في يوم من الأيام.
    ومما سبق يظهر إن السيادة ليست للشعب، وإنما هي لله  ولمن جعلهم أمناء على خلقه وهم الأئمة المعصومون (عليهم الصلاة السلام)، وحسب البشرية فخراً أن تكون محكومة بالقوانين الإلهية من قبل أمناء الله تعالى على خلقه. وليس للشعب أن يغير بآرائه التعاليم الإلهية فان الله  أدرى بمصلحة البشر أكثر من أي فرد منهم، كما انه ليس للفرد أن يرد على قول المعصوم  أو يرفضه لان قوله من قول الله  والراد عليه راد على الله تعالى. قال الله تعالى في كتابه الكريم وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . . (1). والإمام بدوره لن يقول إلا صواباً ولن يتصرف إلا على حساب المصلحة العليا، وذلك لما اتصف به من ملكة روحانية متأصلة في نفسه تمنعه من الذنوب والموبقات. وهذه الملكة هي التي تسمى بالعصمة.
    كما إن القانون ليس هو التعبير المباشر للإرادة العامة في رأي الإسلام بل هو تعبير عن إرادة الله . كما إن الحكومة الشرعية الإسلامية ليست قائمة لتنفيذ رغبات الشعب، بل لتنفيذ أوامر الله ، فان أوامر الله تعالى أولى بالأتباع وأجدر بأن تهدي إلى الصراط المستقيم، من رغبات الشعب التي كثيرا ما تخطيء الطريق الصحيح، وخير للشعب أن يعيش في ظل القوانين الإلهية العادلة من أن يعيش تحت حكم نفسه وفي حدود عقله البشري القاصر.
    بعد أن تجولنا هذه الجولة المتصلة في (مدرسة العقد الاجتماعي) السياسية، تلك الجولة التي اقتضتها عبارة (الإرادة العامة) التي اقتبسها واضعو هذا الإعلان من كتابات (روسو) وحشروها في هذه المادة، وقد عرفنا قبل لحظات الرأي الإسلامي الصحيح في مناقشة الإرادة العامة، وأكدنا بما لا مزيد عليه، إن الإرادة في الدولة الإسلامية إرادة الله تعالى وإرادة من فوضه الله للحكم بين الناس.
    نعود الآن لمواصلة مناقشة البقية الباقية من هذه المادة: يتبين مما مضى بوضوح الرأي الإسلامي: في أن يشترك المواطنون في سن القانون بأنفسهم أو بواسطة نوابهم، فان دين الله الحنيف الذي انزله  لأجل مصلحة البشر وضمانا لسعادتهم ووصولهم إلى كمالهم، ليس بحاجة إلى مثل ذلك، لان التصويت إنما يجري على أي قانون لأجل إحراز رضاء الشعب عنه، لئلا يطبق على الشعب قانون خارج عن إرادته، لأجل أن يثبت أن هذا القانون عادل، لان العدالة هي إرادة أكثرية الشعب، كما ذهب إليه. (روسو). ولكننا ما دمنا نعرف إن الشعب إنما يريد تمامية مصالحه وقضاء حوائجه وضمان رفاهه، وليس التصويت إلا مقدمة لذلك، عن طريق افتراض إن آراء الأكثرية إذا انعقدت على قانون ما، فانه حتما يكون في صالح الشعب. ولكن الشعب المسلم ما دام يعلم إن القوانين الإلهية الإسلامية هي ابعد نظراً وأوسع أفقاً وأعمق تأثيراً في سعادته ورفاهه من أي قانون آخر، إذن فلا حاجة له إلى التصويت على أي قانون آخر.
    وما دام الشعب المسلم يعلم أيضاً من هو إمامه وبأي صفات يتصف، تلك الصفات الفاضلة التي عرفنا عنها شيئا فيما سبق. فلا حاجة له حتما أن ينتخب شخصاً آخر ليتولى إدارة شؤونه، لأنه على كل حال لن يرى شخصا هو خير من الإمام المعصوم الذي اختاره الله  بحكمته البالغة ليكون حجة على البشر، وليطبق عليهم قوانين الإسلام العادلة.
    بالإضافة إلى ما يمكن أن يقال، على طريقة أولئك المفكرين من أن الشخص المسلم، بصفته مسلماً، قد أوكل إرادته في التشريع والتنفيذ إلى الله ، ومن ثم فان الله ، نصَّب خير من يمكن أن ينصبه في هذا المحل السامي ليكون مضطلعاً بواجباته فيه. إلا أن هذا كلام جدلي لا معنى له في الدين الإسلامي بعد أن نعرف أن الإنسان مخلوق لله ، ولم يكن يملك في مقابل إرادة الله (عز وعلا) يوماً من الأيام إرادة أو حرية.
    هذا بالإضافة إلى ما سبق أن قلناه من أن العدالة في القوانين ليست هي إرادة أكثرية الشعب لها، لأنه لم يمر في أية فترة من فترات التاريخ، في أي شعب من شعوب العالم، أن أكثرية الشعب واعية بحيث تتولى بنفسها وضع القوانين وتوافق عليها(1)، فكيف يمكن ضمان العدالة رغم ذلك، مع ما سبق أن قلناه من أن العدالة إنما هي مفهوم عقلي وغاية ما يمكن أن يفتخر به المشرع أو القانون هو اقترابه من هذا المفهوم إلى اكبر حد ممكن.
    أما قولهم بان القانون واحد في حالتي الحماية وفرض العقوبات فهو بالضبط ما يذهب إليه الإسلام، وبشكل أكثر عدالة وعمقا من مفهومهم البرجوازي الضيق، الذي يحمي البرجوازيين فقط، ويصب سوط عذابهم على العمال والفلاحين. فان المواطنين سواسية أمام القانون الإسلامي سواء في حالتي العقاب والثواب. وهذا ما سبق أن فصلنا فيه القول في المادة الأولى.
    ولكن هناك فرقاً صغيراً، ولكنه عميق الأثر في عين الوقت، بين القوانين الوضعية وبين قانون الإسلام، نعرف كيف أن الإسلام أكثر عمقاً في المساواة من هذه القوانين. فإن الحماية مفروضة في الإسلام على كل مواطن، ولكن بالشكل الذي لا يتعدى حدود التعاليم الإسلامية، بينما توجد في القوانين الوضعية الحديثة حالة يتمتع فيها الشخص، (بالحصانة الدبلوماسية)، حيث يتمتع فيها الفرد بالحرية أكثر من سائر الأفراد في كثير من أعماله وأقواله، ولكن هذا الشيء غير موجود في الشريعة الإسلامية، فانه من ناحية أولى لا يوجد في الدولة الإسلامية منصب يمكن أن ينعت بهذه الصفة وتضفي عليه مثل هذه القدسية، فان الذين يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية في الدولة الحديثة هم الملك، أو رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، والوزراء، والنواب، وأعضاء مجلس الأعيان، والسفراء، والقائمين بالأعمال إلى مناصب أخرى غيرها، وكل هذه المناصب غير موجودة في الدولة الإسلامية آنذاك، فان الإمام ليس ملكاً لان الملوكية لها أسس خاصة من أوضحها توارث العرش وإن الابن الأكبر لابد أن يستولي عليه مهما كان فاسد الأخلاق أو قليل العقل، أو ضعيف الإرادة، في حين أن منصب الإمامة منصب إلهي لا صلة له بالتوارث، وإنما صار أئمتنا عليهم السلام متوارثين لا لأجل خصوصية في التوازن، بل لان الإمام لابد أن يكون قد تلقى علمه من سلفه، وتلقى منه القواعد الأساسية للإمامة منه، وليس اقرب إلى الإمام من ابن الإمام  الذي يتربى في ذلك البيت السامي تحت رعاية أبيه المعصوم وعنايته، وتنعقد نفسه ومواهبه من نفس أبيه ومواهبه، وهو اقرب الناس إليه لتلقي علومه منه وإرشاداته، وبذلك يكون الإمام قد توفرت لديه المؤهلات البيئية والوراثية لأجل هذا المنصب العظيم، وهما العاملان الأساسيان في تكوين نفس الفرد.
    ومن الواضح بعد كل ما مضى أن لا يوجد في الدولة الإسلامية رئيس للجمهورية. كما انه لا يوجد هناك رئيس للوزراء، ولا وزراء، وإنما يوجد موظفين يعينهم الإمام  لأجل تصريف شؤون الدولة وتطبيق نظام الإسلام. كما انه ليس في الدولة الإسلامية مجلس للنواب ولا مجلس للأعيان. كما انه لا يوجد هناك سفراء ولا قائمين بالأعمال لان المفروض أن الدولة الإسلامية دولة عالمية واحدة تحت سيطرة الحكم الإلهي، وفي مثل هذه الدولة ينتفي معنى السفراء والقائمين بالأعمال، لان ذلك إنما يكون بين دولتين ذواتي كيان مستقل. هذا فيما مضى، أما اليوم ففي المسألة اجتهاد آخر.
    ومن الناحية الأخرى، فان الحصانة الدبلوماسية غير متوفرة لأي موظف في الدولة الإسلامية، فان كل فرد مسلم مهما كان عمله مسؤول عن سيئاته كما هو محمود على حسناته، وهو مراقب من جهات عديدة ذكرناها على نحو الإجمال فيما سبق، وسيأتي تفصيل الكلام حولها عند مناقشة المادة الخامسة عشر من هذا الإعلان.
    أما ما ذكره واضعو هذه المادة من تقديم المواطنين بحسب كفاءاتهم في المناصب والرتب والوظائف العامة، فهذا نفس ما يذهب إليه الإسلام. غاية الأمر أن ميزان الكفاءة يختلف في نظر الإسلام عنه في نظر هؤلاء البرجوازيين، فان الفرد الكفؤ في الإسلام اجمع للفضائل الروحية من الفرد الذي يتوخاه البرجوازيون ليتولى حماية مصالحهم الخاصة، وذلك كما سبق أن اشرنا إلى تفصيله في مناقشة المادة الأولى من هذا الإعلان.

    12
    المادة السابعة: لا يجوز اتهام احد أو توقيفه أو حجزه إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحسب الإجراءات المحددة فيه. ويجب أن يعاقب جميع الذين يطلبون تنفيذ أوامر تعسفية أو يوافقون عليها أو ينفذونها أو يأمرون بتنفيذها. ولكن على كل مواطن يستدعى أو يوقف طبقا للقانون أن يطيع حالاً ويكون مذنباً إذا قاوم.
    من الملاحظ في المقام بان الإسلام لم يشرع السجن عقوبة إلا نادراً، فان من يتصفح سجل العقوبات في الفقه الإسلامي لا يجد من عقوبة السجن إلا نادراً، كما في المرأة المرتدة عن الإسلام فإنها تحبس دائما وتضرب في أوقات الصلاة(1). والواقع أن الإسلام قد رتب العقوبات بشكل فني وعادل بحيث لم يجعل هناك مجالا لعقوبة السجن. نعم، هناك في الفقه الإسلامي ما يمكن أن يسمى بالاصطلاح الحديث حجزاً أو توفيقاً، كأن يحبس الغريم في الدين لو ادعى الإعسار حتى يثبته(2)، وكما إذا أبى المدعى أن يحلف بعد رد اليمين عليه من المنكر فانه يحبس إلى أن يحلف أو يقضى بنكوله(3). وبالطبع فان الموقوف يجب أن لا يعامل معاملة سيئة إلا ما كان ضرورياً لبقائه رهن أمر السلطة، كما انه لا يجوز أن يؤخذ منه الإقرار بالتعذيب والتعسف، فان ذلك كله، ظلم واعتداء على الآخرين. بما لا يستحقونه وهو محرم في الشريعة الإسلامية، ولان لأخذ الاعتراف ولثبوت الحكم في صالح الشخص أو ضده، أُصولاً خاصة مشروحة بشكل مفصل في كتب الفقه الإسلامي وليس منها التعذيب والتعسف. كما انه لا يجوز حجز احد أو توقيفه في غير الأحوال المنصوص عليها في الإسلام، وإلا كان بدعة وإدخالاً في الدين ما ليس فيه بالإضافة إلى ما فيه من الاعتداء على الآخرين وكلاهما من المحرمات الكبرى في الإسلام.
    أما بالنسبة إلى عدم جواز اتهام احد إلا في الأحوال المبينة في القانون، فهو أمر بديهي بالنسبة إلى الدين الإسلامي الحنيف، لان المواطن المسلم لا يكون معرضاً للعقاب إلا في الحالات المعينة المبينة في القانون الإسلامي، ولا يجوز عقاب احد في غير تلك المواضع وإلا كان ذلك بدعة في الدين واعتداءا على الآخرين. بالإضافة إلى أن الأصل في الإسلام براءة الذمة، كما سوف تأتي الإشارة إليه في المادة التاسعة من هذا الإعلان. إلا أن ذلك لا يعني أن لا ينظر في شأن الشخص الذي ترجحت التهمة في حقه بتمرد على الدولة أو المجتمع أو الدين أو اشتكى عليه شخص آخر يدعي انه قد اعتدى عليه وغمط حقه، فان مثل هذا الشخص يجب أن ينظر في حاله فان ثبت كونه مذنباً بحسب القواعد الإسلامية المتوفرة أدين بها ولقي جزاءه العادل، وإلا بقي حراً طليقاً.
    إما بالنسبة إلى معاقبة الذين يطلبون تنفيذ أوامر تعسفية أو يأمرون بتنفيذها، فيجب أن نرجع إلى رأي الفقه الإسلامي في الموضوع، الذي هو المرآة الصادقة للقانون الإسلامي الخالد. فان الفقهاء يفصلون بين ما إذا كان الفاعل المأمور كالآلة بالنسبة إلى الآمر، كأن يرسل صبياً غير مميز أو مجنوناً لارتكاب الجريمة، فان الآمر في هذه الحالة هو الذي يعاقب على الجريمة، حيث أن الفاعل لم يكن له وجود مستقل في مقابل وجود الآمر. أما إذا كان الفاعل شخصاً مميزاً عاقلاً فيجب عليه عصيان الأمر بالجريمة مهما كلفه ذلك، ولو كلفه ذلك حياته إذا كان الأمر متوجهاً إليه بجريمة قتل، أما لو فعل فان العقاب ينزل عليه فقط، ولا يعتبر الآمر كالفاعل في العقاب.
    أما الآمر نفسه، حينئذ فانه لا إشكال بتوجه العقاب عليه ولكنه غير عقاب الجريمة نفسها، وإنما يعاقب لانطباق عنوان آخر عليه كإرادة الإفساد في الأرض الذي هو من المحرمات الإسلامية الكبرى، وعلامة ذلك انه يعاقب سواء فعل المأمور الفعل المقصود أو لا، غاية الأمر انه بعد تنفيذ الجريمة يزداد عقابه بلا شك.
    أما بالنسبة إلى الموافق على الجريمة فان كان له عمل ايجابي في الموضوع كأن يوقع ضمن تواقيع واضعي خطة الجريمة مثلاً، فهو يعد احد الأمرين بالجريمة، وتجري عليه نفس الأحكام السابقة. وإن كانت موافقته بمعنى سكوته بعد علمه بصدور الجريمة وغض نظره عنها، ، فان ذلك لا يعني مشاركته في الجريمة إذ لعل سكوته ناشئ عن مبررات صحيحة كالخوف – مثلا – ولكنه يجب عليه – وعلى كل مواطن- أن يمنع وقوع الجريمة بما أُوتي من قوة وطول، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أولى الواجبات الإسلامية.
    ومما مضى يظهر الحكم الإسلامي بالنسبة إلى الذين ينفذون الأوامر التعسفية. فان المنفذ اما أن لا يكون له اختيار ووجود مستقل في مقابل وجود آمره كما مثلنا له بالطفل والمجنون، فليس عليه شيء ويكون العقاب كله منصباً على الآمر. وأما أن يكون مختاراً ومالكاً لشعوره وشخصيته في مقابل شعور الآمر وشخصيته، كما هو مقصود واضعي هذا الإعلان، فانه – حتماً – لابد أن ينزل عليه العقاب المناسب لجريمته، وخاصة وقد كان مأموراً من قبل دينه بالعصيان ولم يعص.
    أما آمره فيبوء بإثم للأمر فقط، كما مضى تفصيله.
    أما بالنسبة إلى وجوب إطاعة الاستدعاء أو الإيقاف، وإن الفرد يكون مذنباً إذا قاوم. فهو صادق بالنسبة إلى الحكومة الشرعية الإسلامية أيضاً، لأنها واجبة الإطاعة حسب القانون الإسلامي على كل فرد مسلم، وعليه فان أي أمر تأمره الحكومة يجب أن يمتثل بما في ذلك الاستدعاء والتوقيف، ويكون العاصي للأمر مذنباً مستحقاً للعقاب. ولكن الحكومة الإسلامية لن تأمر إلا بما فيه صالح الفرد وصالح الأمة، بعد أن عرفنا مما سبق بشيء من التفصيل صفات الحاكم الشرعي الإسلامي: الإمام المعصوم ، وعرفنا أن أوامره ليست إلا تنفيذاً لقانون الإسلام الوارد في المورد الإلهي لسعادة البشرية وكمالها.


    13
    المادة الثامنة: لا يجوز أن يفرض القانون من العقوبات إلى ما هو ضروري ضرورة جازمة وواضحة. ولا يصح عقاب إنسان إلا بموجب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل ارتكاب الجريمة، والمعمول بها شرعاً.
    تحتوي هذه المادة – كما هو واضح – على فقرتين، ينبغي أن نناقش كلا منهما على حدة.
    أما الفقرة الأولى فكأن مقصود واضعيها هو أن الأشياء التي يعاقب عليها لابد أن يوافق عليها الحق العام، ولا يجوز أن تكون جميع القضايا محرمة ويعاقب عليها(1)، أي أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، وليست المحرمات إلا استثناءات من هذا الأصل، لا أن الأصل هو الحضر والمنع وتكون الإباحة استثناء منه.
    أما بالنسبة إلى الإسلام فهو أيضاً يذهب إلى أصالة الإباحة بمعنى أن كل شيء مباح بحسب الأصل، وما المحرمات التي وردت في الشريعة إلا استثناءات من هذا الأصل. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله عز من قائل:  لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (2)، ومن هنا كانت الأشياء التي ليست تحت حيازة احد مباحة للمسلمين يملكها أول حائز لها مثل الطير في الهواء والسمك في الماء وغير ذلك، ومعنى ذلك أن ما في الأرض قد خلق لخدمة البشرية وسهولة معاشها، ولم يلحظ فيها فرد دون فرد، فالبشر جميعاً متساوون بالنسبة إليها تخدمهم بمجموعهم دون تمييز وتفضيل، وإنما يأخذ الفرد منها ما يحتاجه لتيسير أموره فيدخل ما أخذه في ملكه.
    هذا بالنسبة إلى الأموال وكذلك بالنسبة إلى أفعال الإنسان، فان هناك قاعدة أصولية تذكر ويبرهن عليها في علم أصول الفقه هي (أصالة الإباحة)، بمعنى أن كل فعل من أفعال الإنسان مباح بالأصل، وليس محرماً كما انه ليس بواجب، وإنما وردت المحرمات والواجبات كمستثنيات من هذه القاعدة، ومن ثم فإذا شك شخص في وجوب أو حرمة فعل من أفعاله فانه يدفع هذا الاحتمال بإصالة الإباحة تحت شروط معينة مذكورة في علم أصول الفقه.
    أما قولهم: لا يجوز أن يفرض القانون. . .  فهم إنما يريدون بهذا أن يحددوا الأسلوب الذي يجب أن يتبع عند سن القوانين وفقاً لرأيهم، وذلك لئلا يخرج واضعو القوانين عن الأصول التي يراها واضعو هذا الإعلان، ولئلا يضعوا قوانين تعسفية، ومن ثم نراهم يفرضون آراءهم على القوانين، لان هذا الإعلان بصفته الثورية مقدم على القوانين، أي انه يضع القواعد التي يجب أن يسير عليها واضعوا القوانين أنفسهم.
    أما بالنسبة إلى الإسلام فقانونه قانون إلهي، ولا يحق لأحد أن يقترح عليه أو يغير منه شيئا، وهو إنما يستمد جذوره من المصالح الحقيقية للبشر التي يراها الله (عز وعلا) بحكمته البالغة وعلمه اللانهائي.
    ومن هنا يتضح انه لا يجوز أن يفرض على قانون الإسلام أن تكون عقوباته صادرة بمقتضى الحس العام، فان هذا الحس ليس هو الحكم في تشخيص الأفعال التي يجب أن يعاقب عليها أو يثاب. وإنما الحكم في ذلك هي المصالح الحقيقية للفرد والمجتمع. والذي يدرك هذه المصالح على حقيقتها هو الله (عز وعلا) ومن ألهمه ذلك بطريق خاص.
    بالإضافة إلى انه يرد عليه نفس ما سبق أن أوردناه على نظرية الإرادة العامة لـ(روسو)، لان العقاب في الحقيقة راجع أيضاً إلى مفهومي العدالة والظلم، وقد قلنا هناك إنهما مقومان عقليان، واعتبار الحس العام أو الإرادة العامة حكماً فصلاً فيهما يؤدي إلى ضياعهما للاختلاف الذي يحدث في آراء الناس وإرادتهم وإحساسهم بين زمان وزمان.
    أما بالنسبة إلى الفقرة الثانية من هذه المادة، وهي التي تنص على عدم جواز العقاب إلا بحسب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل ارتكاب الجريمة والمعمول بها شرعاً. فإنها تعني انه لا يجوز للقانون أن يكون ذا أثر رجعي Retroactive، أي انه يشمل ما قبله. وهذا هو الأسلوب الفرنسي في سن القوانين(1). وهذا عين ما يذهب إليه الإسلام، فانه وإن لم يكن من المعقول صدور قوانين جديدة في الإسلام. إلا انه يمكن أن يستدل عليه بـ(أصالة البراءة) التي تعني براءة الذمة من الأمر المشكوك الوجوب أو الحرمة، وهي قاعدة تذكر في علم أصول الفقه، ويفرق هناك بينها وبين أصالة الإباحة السالفة الذكر، ومن هنا فان الحكم الشرعي أن لم يصل إلى المكلف، بعد بذل الوسع في الفحص عنه، أو انه لم يكن هناك حكم شرعي في الواقع، فانه ليس على المكلف أي تكليف. وهذا يشمل ما قبل صدور القوانين الجديدة – لو فرضت – فان الفرد قبلها كان بريء الذمة من التكليف. كما انه يمكن أن يستشهد لذلك، بأسلوب نبي الإسلام  في تبليغ الأحكام عندما كانت تنزل متتابعة، فان نزول الأمر لم يكن يعني تلافي ما فرط في السابق من أفعال تعد بحسب القانون الجديد ذنوباً، إلا بعض الأحكام الوضعية، أي الضمان ووجوب رد المسروق أو المغصوب ونحوه، بالنسبة إلى الأموال، فانه يجب الرد بمعنى أن الحكم الجديد يخبر السارق أن ذمته اشتغلت بما سرقه من حين سرقته، وانه من الآن يجب عليه رده. وما هذا إلا لان هذه أمور إنسانية يدركها الضمير الإنساني قبل أن يحكم بها الشرع الإسلامي الحنيف. كما أن في القرآن ما يدل على ذلك بوضوح، حيث أن الله  يذكر بعد تأكيده على الحكم انه يجب أن يتبع من حين نزول الآية وليس على ما مضى عقاب، فمن ذلك انه  قال بعد التشديد على حرمة الربا: . . . فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(1) ومن ذلك قوله  بعد تبليغه حرمة الصيد في حال الإحرام: . . . عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(2). كما أن الكافر إذا اسلم فانه لا يأمر بتلافي ما قد سلف منه من عصيان الأوامر الإسلامية، إلا الأحكام الوضعية، رغم أن القانون موجود وساري المفعول على المسلمين. وذلك كما ورد عن الرسول الأعظم : إِنَ الإِسْلاَمَ يَجُّبَ مْا قَبْلَهُ(3) أي يقطعه، فكأن الكافر يحيا حياة جديدة بعد إسلامه. ومن ذلك قوله (عز وعلا):  )قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(4). وهذا هو الموافق للمنطق، لكي يطلع الناس على واجباتهم ويكونوا آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون، كما قال (جون لوك) أما أسلوب سن القوانين ذوات الآثار الرجعية فهو يدع الفرد في حيرة من أمره، يحتمل انه سوف يصدر في المستقبل قانون يشمل بالتحريم احد الأفعال التي قام بها، وهذا تهديد للأفراد لا يمكن التخلص منه إلا بالاستغناء عن هذا الأسلوب في سن القوانين.
    albasry

  6. #6

    افتراضي

    14
    المادة التاسعة: يعد كل إنسان بريئاً ما لم تثبت إدانته. وإن اعتقد بضرورة توقيفه فالقانون يمنع تطبيق الإجراءات الشديدة إلا ما كان منها ضروري لبقائه رهن أمر السلطة.
    وهذه المادة كسابقتها مكونة من فقرتين، كما هو بين، فينبغي أن نناقش كل فقرة منها بشكل مستقل:
    أما الفقرة الأولى وهي التي تنص على اعتبار كل إنسان بريء قانوناً ما لم تثبت إدانته، وهذا عين ما يذهب إليه الإسلام، ومن ثم فهو لا يعامل المتهم معاملة المجرم ما لم يثبت جرمه عن طريق القواعد الشرعية الثابتة، ويكون في أثناء محاكمته في حماية الدولة الإسلامية، ويعد كل من ينفذ عليه عقاب المجرم المتهم به معتدياً عليه مستحقاً للعقاب، ثم انه أن ثبت جرمه بتلك القواعد الشرعية أُدين به، وعوقب بما ينص الإسلام عليه من العقاب، وإلا أطلق سالماً لم يمسه أي أذى أو مكروه.
    ويمكن أن نلمس الرحمة العظمى التي يسبغها الإسلام على الإنسانية بقوانينه هذه وغير هذه، إذا قارنا هذا الأسلوب من التشريع بما يجري في بعض البلدان من هذا العالم المترامي الأطراف، كالبلدان الشيوعية والمستعمرات الغربية من إلقاء القبض على شخص بمجرد الظن والتهمة، واعتباره بدون تحقيق أو محاكمة من اخطر المجرمين المتمردين على كيان الدولة، ومعاملته كمجرم على هذا الأساس. أما الإسلام فانه وإن اعتبر الظن بعد ظهور حال الشخص ظهورا كافيا في إثارة التهمة حوله، حافزاً كافياً لإلقاء القبض عليه، إلا انه، بالإضافة إلى كونه لا يعاقب كمجرم، لا يجوز أن يرى من أي احد من حراسه أو مديري شؤونه أي إهانة لكرامته، ولا جرح لعواطفه، فضلاً عن الضرب، أو ما هو اشد منه، وإلا كان الفاعل مجرماً مستحقاً للعقاب.
    ومن هذا يظهر أن الإسلام بقانونه الإلهي الرحيم يؤيد الفقرة الثانية من هذا الإعلان أيضاً. أما الإجراءات التي تضمن بقاءه رهن أمر السلطة، فالإسلام يعترف بها، إلا إنها غير ملازمة على الإطلاق لأهانته أو ضربه، بل لا تعني أكثر من تشديد الحراسة عليه في اغلب الأحيان.


    15

    المادة العاشرة: لا يجوز إزعاج احد بسبب آرائه، حتى الدينية منها، بشرط أن لا تكون المجاهرة بها مخلة بالأمن العام الذي قرره القانون.
    وإنما أكد واضعو هذا الإعلان على حرية الرأي الديني، لان ذلك ناتج من مسبقاتهم الذهنية الناشئة عن تاريخهم القريب. فقد كانوا قد ذاقوا من الكنيسة أنواعاً من الجور والتعسف، وأنواعاً من الخرافات والمفاهيم الباطلة، هذه الخرافات وذلك الجور الذي تستعملهما الكنيسة باسم الدين على أساس انه أمر إلهي منزل. وذلك لان الكنيسة- في عهود أوربا المظلمة- كانت منظمة إقطاعية تملك مساحات من الأراضي واسعة النطاق وتستخدم فيها أولئك الفلاحين الأقنان الذين يباعون مع الأرض ويشترون معها، تماماً كأي سيد إقطاعي. كما أن رجال الكنيسة كانوا يكونون إحدى الطبقتين المتمتعين بالامتيازات دون الطبقة الثالثة، وهم عامة الشعب. كما أن الكنيسة كانت تناصر الإقطاع ما لها من قوة دينية ودنيوية، يقول (جورج جرداق): أما رجال الدين، ويقصد رجال الكنيسة والدين منهم براء، فقد كانت لهم يد في تبرير نظام التبعية هذا، وكانوا يلعنون كل تابع لا يخضع الخضوع المطلق لسيده، ولو كان شريداً دنيئاً، ويصبون اللعنات الكثيرة بلهجة مقدسة، على رؤوس المارقين الذين كانوا يدفعون التابعين إلى ترك الطاعة المطلقة للأسياد، أو إلى التمرد على هذا الظلم القائم(1). كما إنها كانت تبث بين أتباعها كمية ضخمة من الخرافات والتدجيل، هذه الخرافات التي غضب منها حتى المسيحيون أنفسهم كـ(مارتن لوثر) الذي انشق عن الكاثوليكية، واخترع لنفسه مذهباً جديداً سماه البروتستانتية من هذا وغيره نستطيع أن نتميز بوضوح، لماذا صبت الثورة بمجرد انبثاقها جام غضبها على الكنيسة، ولماذا حاربتها محاربتها للإقطاع والجهل، لأنها ـ في الواقع ـ تمثل الإقطاع وتمثل الجهل كما إنها حاربت فيها كلا من الجانب الديني والدنيوي، لان الكنيسة استغلت الجانب الديني في سبيل الجانب الدنيوي أبشع استغلال. فكان أول شيء عملته الثورة الفرنسية أن صادرت أموال الكنيسة وجعلتها مؤسسة خاضعة للدولة. وجعلت الجمعية الوطنية أملاك الكنيسة رصيداً للعملة الجديدة التي أصدرتها. ثم أصدرت دستوراً مدنياً لرجال الدين، جعلتهم موظفين عند الدولة وأزالت عنهم صفة رجال الدين كطبقة وأصحاب نفوذ. ثم طلبوا إلى رجال الدين أن يقسموا على القانون(1). يضاف إلى ما مضى، بخصوص ـ أعمال الكنيسة ـ أن العقائد الأساسية التي تقوم عليها باطلة لا تقوم على برهان صحيح، كإيمان المسيحيين بالثالوث المقدس الذي اثبت الإسلام عن طريق العقل الذي لا شك في استحالته، وهو موجود في مواضعه من الكتب الإسلامية، وهذا نفسه ما التفت إليه جماعة من أنصار الثورة الفرنسية فعرفوا سخفه وبطلانه وتمردوا عليه، ومن ثم فقد قال جماعة نحن نعبد الكائن الأعظم، وقال جماعة أخرى: نحن نعبد العقل واحتفلوا له بصورة رسمية في كنيسة(2). ومثل هذه الكنيسة ذات هذه الأعمال وهذه العقائد هي أهل لان تحارب، وأهل لان تقف الثورة منها كما تشاء. ولكن الغلط الفاحش الذي يقوم به دعاة الإلحاد المتأثرون بالفكر الحديث على أبشع صوره، وبالشكل الذي هم يفهمونه، وبالشكل الذي يمثل مصالحهم الخاصة، دون أن يعرفوا ما قصد إليه الفكر الحديث بالضبط. أن الغلط الفاحش الذي يرتكبه هؤلاء هو إطلاق القول في الاعتراض على جميع الأديان، والدعوة إلى التخلي عنها جميعاً، كأن شرذمة معينة تنسب نفسها إلى دين من الأديان إذا تعسفت وأجرمت بحق شعبها ودينها، فكأن دينها مسؤول عما تفعل أو أن الأديان كلها مسؤولة عن ذلك، وكأن ديناً من الأديان ـ ولو فرضاً ـ إذا كان باطلاً وقد ذاق منه معتنقوه الوبال، فشددوا الخناق على رجاله، وتملصوا من عقائده، كأن كل الأديان يجب أن يشدد عليها الخناق، وأن يتملص الناس من عقائدها. وكأنهم لا يعلمون بان أوربا إنما تمردت على المسيحية، وإنما شددت الخناق على رجال الكنيسة، تلك المسيحية المحرفة عن واقعها الذي نزل على عيسى بن مريم، على نبينا و، وأولئك الرجال الذين أكثروا في البلاد الفساد. وإنما عنت أوربا بالدين، ذلك الدين الذي تمردت عليه لأنه لم يكن بين ظهرانيها دين آخر حتى تستند عليه بعد خروجها عن المسيحية أو تستثنيه عن هجماتها، أو حتى لتشركه في هجماتها وتمرداتها.
    يا له من تقليد أعمى، حين ينظر دعاة الإلحاد إلى أوربا فيجدونها تتمرد على المسيحية، فيتمردون في بلادهم على الإسلام. ويرونها تخرج على تعاليم دينها، فيخرجون عن تعاليم دينهم. ويرونها تحتقر رجالها، فيحتقرون رجاله. كل ذلك عن طريق هذا التعميم الباطل الذي استعمل في إطلاق كلمة دين على المسيحية والإسلام، وهو وإن كان كذلك، إلا أنه لا يعني على الإطلاق من بطلان أحدهما بطلان الآخر، فلكل أسسه الفكرية وتعاليمه الخاصة، بل إن للإسلام أسساً فكرية راسخة رسوخ الخلود، وتعاليم عادلة واسعة سعة الفضاء وليس للمسيحية من التعاليم والأسس الفكرية ما يصلح لقيادة الإنسانية وللخلود.
    ألم يعلم دعاة الإلحاد بأن أوربا قد ذاقت من المسيحية تجربة قاسية بشعة، ومن ثم فقد تمردت عليها، ولم يكن لها إلا أن تفعل ذلك، لأنه ليس إلا الأذلان العير والوتد ـ والمراد به من يقيم على الضيم. أما دعاة الإلحاد من أبناء شرقنا المسلم فلم يمروا بتجربة فعالة لدينهم القويم لتريهم العدالة الإنسانية، والرفاه الاجتماعي، والصفات الخلقية والروحية السامية التي تسود المجتمع تحت لواء الإسلام. بل أن هؤلاء لم يعرفوا من أسس الإسلام وبراهينه وقواعده الرئيسية شيئاً، وذلك ناشئ من ضعف الدعوة الدينية التي يمارسها المسلمون المتمسكون بدينهم القويم، ولم ينظروا إلى الإسلام إلا من ناحية القشور السطحية التي يتمسك بها السواد الأعظم من المسلمين، والتي هي تحتاج إلى كثير من التصحيح والتعديل، وإنما انحرفت هذه العقائد العامية أيضاً وجمدت على هذا المستوى الضئيل، كأثر آخر لضعف الدعوة الدينية أيضاً.
    ألم يعلم دعاة الإلحاد إن الدين يمكن في النفوس أيماناً ويقيناً واطمئنان ضمير، وفي اليقين والاطمئنان لذة لا يجدهما الفاقد لهما، ويحميهم من كثير من العقد النفسية والأمراض العقلية، ويخلق بين الشعب تراحماً وتعاطفاً ومحبة، ويصعد بمستواهم الثقافي والعقلي والخلقي إلى مرتبة سامية، ويحميهم من الانحدار في مستوى الرذيلة والفساد، وهذا كله مما لا يمكن وجودها بأي شكل من الأشكال مع وجود الانحلال العقائدي، والتفسخ الخلقي وتشتت الآراء والأهواء. الذي ينبغي أن يقال، بالنسبة إلى واضعي هذا القانون، أن اعترافهم بعدم جواز إزعاج احد بسبب آرائه حتى الدينية منها، ليس فيه فسح للحرية الدينية. ولأننا إذا أمعنا النظر نجده يعني عكس ذلك تماماً من حيث انه يعني أيضاً عدم جواز إزعاج الثورة في آرائها ضد الكنيسة أيضاً، ونحن نعلم ما قد عملته الثورة من تنكيل بالكنيسة، كما اشرنا إليه فيما سبق، وليست الثورة إلا عبارة عن الجمعية الوطنية التي أصدرت هذا الإعلان بالذات. فمن المحال بالنسبة إلى وجهات نظرهم الخاصة أن يعطوا الحرية الدينية ويشجبوا أعمال الثورة ضد الكنيسة. إذن فلا تبقى هذه العبارة من الإعلان بالنسبة إلى الدين، أي المسيحية التي بين ظهرانيهم، إلا حبراً على ورق، وكلمة تقال للدعاية والتظليل.
    وبالطبع لا معنى للتحدث عن رأي الإسلام في الحرية الدينية الإسلامية، بل ينبغي التحدث عن حرية الاعتقاد بغير الدين الإسلامي، في الدولة الإسلامية المفترضة.
    أن هذا الشخص الذي يعتنق غير دين الإسلام، أما أن يكون كذلك من أصله أو مرتداً عن دين الله العزيز. فان كان اصلياً فهو مدعو إلى اعتناق الدين الإسلامي ككل شخص غير مسلم فان كل شخص رشيد مكلف عقلاً بالنظر في الأديان والتفحص عن الحق في خضم هذا الصراع العقائدي الرهيب في العالم، فان الوصول إلى الحق لا شك انه أكمل بكثير من الشك أو الركون إلى مبدأ باطل، وما دامت النفس التواقة بذاتها إلى الكمال، فعليها أن تفحص عن الرأي الصحيح لتعتنقه، ولا شك إنها سوف تصل بعد فحصها، أن أخلصت للحق من ناحية، وكانت سبل البحث متوفرة لديها من ناحية ثانية، وتجردت عن العوامل الاجتماعية المعيقة عن موضوعية البحث من ناحية ثالثة. فإنها حتماً سوف تصل إلى الإسلام دين الله الخالد.
    ومن ناحية أخرى فان الإسلام قرن أوامره بالإثابة على أطاعتها ونواهيه بالعقاب على عصيانها، ومعنى ذلك تولد الاحتمال ولو ضعيفاً في نفس الفرد المفكر الرشيد بالضرر، وهو الوقوع بالعذاب الذي توعد به الإسلام. أي انه تولد مثل هذه القضية الشرطية في فكره: لو كان الإسلام صادقاً فإني حتماً سأعاقب، والعقاب الذي توعد به الإسلام ضرر بالغ، إذن يجب أن أدفع هذا الاحتمال عن نفسي. ومعنى ذلك وجوب البحث عن أدلته وبراهينه لإثبات صحته، فان كان صحيحاً اعتنقه وأزال عن نفسه الضرر، وإن لم يوفق إلى الاعتقاد بذلك، فقد دفع احتمال الضرر عن نفسه، وما ذلك إلا لأن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، قاعدة فطرية في نفس الإنسان يتبعها في كل حركاته وأقواله، فلن تطرق طريقاً تحتمل أن فيه لصاً يسرقك أو وحشاً يعتدي على حياتك. ولذا تراك إذا اضطررت إلى الذهاب في مثل هذه الأماكن الخطرة كالغابات والأدغال، فانك لابد أن تتمترس بالسلاح لكي تحمي نفسك، لكي تُذهِب احتمال الضرر عن نفسك.
    ومع صرف النظر عن الأدلة العقلية فان قوانين الإسلام العادلة وأنظمته الرشيدة وتوجيهاته الإلهية القويمة، تلك الأنظمة والإرشادات التي قد تجد منها شيئا في هذا البحث، فان هذه القوانين لتحث الفرد على اعتناق الإسلام للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والآخرة، والارتقاء في مراقي الكمال الروحي، والفوز برضا الله ، خالقه العظيم.
    أما بالنسبة إلى وجود غير المسلم بالأصل في الأراضي الإسلامية المحكومة للدولة الشرعية الإسلامية، فإما أن يكون هذا الفرد قد جاء من بلاد قبلت بشروط الذمة التي اشترطتها عليهم الحكومة الإسلامية فكانوا تحت سيطرتها وفي حمايتها، تلك الشروط المذكورة في محالها من كتب الفقه الإسلامي. فهذا الفرد يكون آمناً على نفسه وماله، محترماً بين المسلمين بالقدر الذي تسمح به قابليته الشخصية أن يحترم. وإما أن يكون هذا الفرد قد هرب من بلاده لكي يأتي إلى بلاد الإسلام مستجيراً لاجئاً لِما يعلم في الإسلام من عدالة وإنصاف. فعلى الحكومة الإسلامية حماية هذا الفرد حتى تبلغه مأمنه، وذلك كما قال الله  لنبيه : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ(1).
    وغني عن التنويه لما في هذه الآية من الحكمة البالغة. فان الكفر والإشراك بالله تعالى وسائر المبادئ الفكرية غير الإسلام، إنما تنشأ عن جهل الفرد أو الجماعة بالحق وبالبرهان الصحيح وقصورهم عن بلوغهم إلى مصالحهم الحقيقية. فإذا استجار بالنبي  فرد منهم، فينبغي له أن يجيره، فان الذمة مصونة في الإسلام، ولا يجوز نقض العهود ما لم ينقض الطرف الآخر، كما يقول الله : . . . إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(2). ومن ثم فإن النبي  يستبقيه قبل أن يبلغه مأمنه ليسمع كلام الله تعالى، ولتهز أوتار قلبه تلك المعاني الروحانية المقدسة، ولتفتح أبواب عقله تلك الحكمة الإلهية البالغة، وليرى بأُم عينيه ما عليه الإسلام من سعادة ورفاه، وخلق رفيع، ومجتمع نبيل، ونفوس متحابة متعاطفة، وما فيه من قوانين عادلة، ونظم حكيمة، وليتشبع هو بكل هذه الأمور، وليرجع إلى مأمنه فيتكلم عما رأى وسمع وليدعو إلى الإسلام في مجتمعه الكافر. أما إذا كان هذا الفرد، قد جاء من بلد معادٍ للإسلام، فانه – حتما – سوف يعرض نفسه للقتل، أن لم يخرج هربا من البلاد، ولم يكن للدولة الإسلامية إلا أن تقتله لئلا يكون فيها جاسوساً لبلاده، ويبث في مجتمعها العقائد الفاسدة أو يبذر بين الأفراد روح الضغينة والفساد أما بالنسبة إلى الشخص الذي خانه حظه وتسافلت به نفسه، فارتد عن دين الإسلام الحنيف، ولا يمكن أن ينشأ ذلك إلا عن الجهل بأسس الإسلام الحقيقية. فان هذا الشخص إما أن يكون مرتداً ملياً أو مرتداً فطرياً، حسب ما يصطلح عليه الفقهاء المسلمون والمرتد الملي هو الذي لم يكن مسلماً بالأصل ثم اسلم ثم ارتد على عقبه فكفر، وأما الفطري فهو المرتد عن الإسلام الأصلي. أما المرتد الملي فيستتاب وينتظر به المدة التي يحتمل فيها رجوعه عن غيه إلى الصواب فان رجع وإلا قتل. وإما المرتد الفطري فان كان رجلاً، فانه يكون كما قال الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)، كما في صحيحة محمد بن مسلم: مَنْ رَغَبَ عَنْ الإِسْلامِ وَكَفَرَ بِمْا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَدٍ بَعْدَ إِسْلَامهِ، فَلا تَوُبَةَ لَهُ وَقَدْ وَجَبَ قَتّلَهُ، وَبانَت مِنْهُ إِمرَأَتَهُ وَيُقّسَّمُ مْا تَرَّكَ عَلَى وِلْدِهِ. وَأَمْا الْمَرأَةُ فَلا تُقّتَلُ وَإِنْ كَانَتْ رِدَتُها عَنْ فِطرَةٍ بَلْ تُحْبَسَ دائِمَاً وَتُضّرَبَ فيْ أَوقّاتِ الْصَلاةِ بِحَسَبِ مْا يَراهُ الْحاكِمُ كافيَّاً لإِرّتِدّاعِها، وَتُسّتَعْمَلُ فيْ الْحَبّسِ بِأَسوءِ الأَعّمالِ، وَتُلّبَسَ أَخّشَنَ الْثَيّابِ وَتُطّعَمَ أَجّشَبَ الْطَعامِ إِلى أَنْ تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ(1).
    مما مضى يمكن أن نعرف رأي الإسلام بالفقرة الثانية من هذه المادة، وهو الذي ينص على إلا تكون المجاهرة بالآراء- التي اعتبرها الإعلان حرة- مخلة بالأمن العام الذي قرره القانون. فان الأمن العام الذي قرره القانون الإسلامي هو المحافظة على التعاليم الإسلامية، والدولة الإسلامية والأخلاق الاجتماعية الإسلامية، وملخص القول المحافظة على كل قانون من قوانين الإسلام ونصائحه وإرشاداته. وقد قام الإسلام في سبيل ذلك يمنع بقاء أي شخص غير مسلم في بلاده إلا إذا كان الإسلام ذمةً وعهداً معه، وإنما ينتظر مع هؤلاء ماداموا محتفظين هم بالعهد، فان فكروا في يوم من الأيام بنقض العهد والتمرد على الإسلام وبذر الشقاق والعقائد الفاسدة بين المسلمين، فإنهم يعودون محاربين للإسلام. والمحارب لابد أن يقتل بإجماع المذاهب القانونية والإنسانية، دفاعاً عن النفس ودفاعاً عن الدين الإلهي الحنيف.


    16
    المادة الحادية عشر: حرية نشر الأفكار. والأفكار اثمن حقوق الإنسان، فلكل مواطن أن يتكلم ويكتب بحرية، على أن يكون مسؤولاً عن إساءة استعمال هذه الحرية، في الأحوال التي يقررها القانون.
    حق الحرية هو من أهم الحقوق التي أثبتها الفكر الحديث للإنسان الحديث، ومن هنا عبر عنه واضعو هذا الإعلان بأنه اثمن حقوق الإنسان، وأكدوا عليه مراراً في إعلانهم. وإنما أكد الفكر الحديث على هذا الحق وإنما أكد هذا الإعلان عليه، بسبب ما مر عليه في عصوره المظلمة من جور وتعسف، وكم للأفواه وتقييد للحريات، لئلا ينبس احدهم ببنت شفة ضد النظم الإقطاعية والملكية الفاسدة، فيكونوا خطراً ضد هذه الأنظمة الظالمة. وكان يذوق كل مفكر يحاول أن يقول أو يعترض أنواع التنكيل والعذاب حتى الموت بصورة تقشعر من تصورها الأبدان.
    ومن جراء هذا الضغط حصل الانفجار مروعاً شديداً، بحيث اعتقد أن حق الحرية اثمن من حق الحياة، واثمن من النظام، واثمن من الأخلاق لو تعارض معها، ومن ثم فقد ذهبوا بالحرية كل مذهب، ونكلوا بأولئك الإقطاعيين في فرنسا، إبان عهد الإرهاب الذي تزعمه (روبسبير) اشد تنكيل، حيث كان مجموع ما قتل في تلك الفترة نحو عشرين ألف شخص(1) وكان ذلك في سنة 1792 إلى سنة 1794. وكذلك مازلنا نرى أثر هذه الحرية التي حصل عليها الأوربيون، من تحلل خلقي واجتماعي وتفشي العقائد الإلحادية والدعوات المتضاربة المتناقضة في المجتمعات الأوربية وغير الأوربية، بل أن كل مفكر يبرز إلى الوجود يكون له رأي جديد ووجهة نظر جديدة، وتفسير جديد للكون والحياة. مما يجعل الناس في حيرة من أمرهم بعد أن تتبعثر عقائدهم ويضيع معهم يقينهم واطمئنانهم. وكان من جملة تلك الدعوات الإلحادية، الدعوة الماركسية، التي وجدت في الانفجار الثوري الذي حصل في موسكو على اثر الضغط القيصري التعسفي على الشعب الروسي، مستنقعاً خصباً للتوالد والانتشار. ومما ينبغي الإشارة إليه أن البرجوازية التي أصدرت هذا الإعلان لم تكن تقصد بالحرية إلا مصالحها الشخصية وما تضمن به الدعوة إلى أفكارها ومذاهبها في الحياة. فإذا وصلت هذه النظرية إلى الحد الذي تطبق فيه على من سواهم من الشعب الفرنسي، وقفوا منها موقفاً صلباً متعنتاً، فلم يكونوا بأي حال يقبلون الاعتراض على أساليبهم وأفكارهم الضارة بمصالح العمال والفلاحين من قبل هذه الجماعات أنفسها. ومن هنا نرى أن الحرية قد أصبحت بالنسبة إليهم أمراً يستغله البرجوازيون لمصالحهم ويحلم به الفلاحون والعمال كل لمصلحته الخاصة أيضاً.
    واثبات حق الحرية في كل دولة من دول هذا العالم اجمع، إنما هو بما لا ينافي مبادئها الأساسية وقوانينها الرئيسية، ثم هي تعطي الحرية لما سوى ذلك. ومن ثم فإننا نرى أن الدول المؤسسة على أساس مذهب معين ووجهة نظر خاصة، كالدول الشيوعية، تفتقد فيها الحرية بالنسبة إلى مناقشة وجهة النظر التي تتبناها الدولة. ومن هنا نرى أن الدولة كلما قلت فيها المبادئ الأساسية ازدادت نسبة الحرية فيها، وصارت قوانينها عرضة للمناقشة والتغيير أكثر من غيرها. ولكن معنى ذلك في عين الوقت إلا تكون الدولة مهتمة بتطبيق القانون الحق، وإنما تطبق في بلادها كل قانون حصلت عليه إرادة أكثرية الشعب.
    والواقع أن إطلاق العنان للحرية المطلقة في نشر الأفكار لا يعني إلا بلبلة الأذهان، وضياع الحق من الوسط الفكري، واختلاطه بأكوام نتنة من الباطل. وجعل الرجل العادي متحيراً لا يدري إلى أين يتجه لكثرة الأصوات والدعوات التي رآها تنطلق حوله، لذا نراه يتوجه نحو الصوت الأقوى والدعاية الأوسع، ولا تعني الحرية أيضاً إلا هذا الصراع الدائم الرهيب بين المذاهب والأفكار المتضاربة، ذلك الصراع الذي لا يقف على مدى الزمان، ولن يمكن الحد من غلوائه ما دامت الحرية نافذة المفعول في البلاد. هذا الصراع الذي يترتب عليه كثير من المفاسد والأضرار الاجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية، والذي ربما سبب نشر مذهب باطل، واقتضى ظهور شرذمة فاسدة في حين يختفي الأناس الصالحون والمذهب الحق تحت الرماد.
    ومن ثم فإننا نرى الحكومات الحديثة لم تستطع أن تحفظ الأمن والنظام وسيادة القانون في بلادها، ولم يمكنها الاحتفاظ بسيطرتها وهيبتها، إلا بعد أن جعلت على الحرية قيوداً كثيرةً مستمدةً – في كل دولة- من قوانينها الرئيسية ومبادئها الأساسية. وحتى هذا الإعلان نفسه قد اشترط على الحرية أن يكون صاحب الرأي مسؤولاً عن إساءة استعمال الحرية في الأحوال التي يقررها القانون، ولم يكن يستطيع واضعو هذا الإعلان، ولم تكن تستطيع الحكومات إلا أن تفعل ذلك بعد أن علمت ما في الحرية المطلقة من فساد وانحلال.
    بعد كل ما مضى نعرف أن الدولة الإسلامية لم تقيد الحرية إلا بحسب وجهة نظرها الخاصة، وفي ضمن نطاق عقليتها العامة، وقوانينها الإلهية، التي تستهدف نشر العدل والسعادة بين ربوع المجتمع. والإسلام قد أدرك بثاقب نظره وبالغ حكمته تعذر الحياة مع الحرية المطلقة، وتعذر الوصول إلى الحق مع حرية نشر الآراء، في حين أن الحياة والوصول إلى الحق أثمن ما لدى الإنسان من أهداف، إذن فلابد من تقييد الحرية بشكل من الإشكال. وليس من المنطقي حينئذ أن تقيد الحرية بقوانين ظالمة لأنه يكون قد نشر من الجور أكثر مما قصده من العدل. فلابد إذن من تنظيم القيود على الحرية بشكل عادل يضمن سعادة المجتمع ورفاهه. وهكذا كان، وهكذا صدرت القوانين عن الله  العالم بحقائق المصالح الإنسانية والمطلع على سرائر البشر وغرائزهم. لتنشر العدل والسلام بين بني الإنسان.
    وما دمنا قد عرفنا أن العدل لابد أن يسود في البلاد، وإن العدل لا يمكن إلا أن يكون واحداً، لان الإنسانية واحدة ولان غرائزها وميولها وآمالها وآلامها واحدة، وإن هذا المذهب العادل الواحد لا يمكن أن تدركه إلا الحكمة الإلهية اللانهائية، وإن الله  قد تفضل علينا فعرَّفنا بنفسه وبتعاليمه، وما دمنا قد علمنا أن الحرية تنافي العدل، وتنافي سيادة هذا المبدأ الواحد العادل في ربوع الإنسانية، لما تسببه من اضطراب وبلبلة وتشتت في الآراء والأهواء. إذن فلابد من سيادة العدل بدل سيادة الحرية، وإنما تبقى الحرية سارية المفعول في ضمن هذا المذهب العادل.
    وهكذا فعل الإسلام، وهكذا فعلت الدول ضمن نطاق قوانينها التي تراها عادلة وفي صالح شعبها، وهكذا عملت الدول المذهبية كالدول الشيوعية في ضمن نطاق مذهبها المعين.
    والإسلام بعد هذا، أي بعد سيادة العدل الذي هو عبارة عن سيادة الأخلاق الفاضلة، والمبادئ النبيلة، والتعاطف، والتراحم، والاحترام المتبادل بين الناس، والمسامحات، والإيثار، والضمان الاجتماعي، إلى غير هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام، بعد هذا كله يجيز الإسلام نشر الآراء والتكلم بحرية تامة ضمن نطاق المناقشة البناءة المخلصة التي تهدف إلى مصلحة المجتمع والدين الإسلامي. ومن ثم فقد ورد عن أبي الأئمة الهداة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) انه قال: سَلْ تَفَقُهاً وَلا تَسْألُ تَعَنُتَاً(1) أي سل لكي تفهم وجه الحق لا لأجل أن تهدم رأي غيرك وتحتقره وتظهر انه باطل على كل حال. وبالإضافة إلى ما قد أسلفناه في مناقشة المادة الثالثة من هذا الإعلان من ترحيب الإسلام بالمناقشة المخلصة البناءة التي ترمى إلى شد أزر الرأي الشخصي، ونصح الفرد وانتشاله من وهدة المشاكل، ولذلك قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):  مَنْ إِسْتَبَدَ بِرَأيِّهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ اْلرِجَالَ شَارَكَها فِي عُقُولِها(1).
    albasry

  7. #7

    افتراضي

    17

    المادة الثانية عشر: يستوجب ضمان حقوق الإنسان والمواطن قوة عامة، فهذه القوة تنشأ لمصلحة المجموع لا لمصلحة من توكل إليهم أدارتها.
    يقول واضعو هذه المادة: انه لا بد من ضمان حقوق الإنسان والمواطن، وهي الحقوق التي سبق أن عددوها في المادة الثانية من هذا الإعلان، وهي الحرية، والتملك، والطمأنينة، ومقاومة الظلم على الشكل الذي يفهمونه منها، والذي يمثل مصالحهم البرجوازية الخاصة، ولا بد لضمان هذه المصالح البرجوازية من قوة تمارس الضغط على العمال إذا هم خرجوا عن واجباتهم. والمقصود من هذه القوة هي السجون والمحاكم والقوات المسلحة. وهذه القوة تنشأ لمصلحة المجموع أي لمصلحة الطبقة البرجوازية لا لمصلحة من توكل إليهم إدارتها كالقائد العام للجيش، والقاضي، ومدير السجن، فان على هؤلاء أن يخضعوا لأوامر البرجوازيين وإلا ذاقوا وبال أمرهم. وهذا مما لا يمكن أن ينطبق على وجهة النظر الإسلامية تماماً، لأننا قد عرفنا انه لم تشرع العقوبة بالسجن في الإسلام إلا نادراً. كما ان هذه الأمور الأربعة التي يحرص على ضمانها البرجوازيون ليست هي المثل العليا في الإسلام. فانه قد سبق أن قررنا في المادة الثانية رأي الإسلام في هذه الحقوق. وإنما الذي ينبغي صيانته في نظر الإسلام، وتجنيد هذه القوى للدفاع عنه، هو العدل، والنظام، وسيادة الأخلاق، والعقائد الإسلامية في ربوع المجتمع، وبالتلخيص هي تعاليمه التي تضمن سعادة المجتمع ورفاه الإنسانية.
    وهذه القوة العامة في الدولة الإسلامية إنما تنشأ لخدمة الإسلام، ومصلحة المجتمع، وسيادة القانون والنظام فيه. لا لمصلحة من توكل إليهم أدارتها، فان هؤلاء المشرفين عليها إنما هم ـ كسائر موظفي الدولة الإسلامية ـ مسؤولون عن أعمالهم ومراقبون عليها من قبل الله  والإمام  رئيس الدولة الإسلامية، ومن قبل الأمة الإسلامية، وضمير الفرد الإسلامي، كما سوف نفصله في المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان إنشاء الله تعالى. وهم مسؤولون عن كل زلة أو سوء استعمال سلطة، أو ظلم يمكن أن يصدر منهم.
    ومما ينبغي ملاحظته أن الشعب المتشبع بروح الإسلام هو القوة العامة الأساسية في الدول الإسلامية، فليست هذه القوة التي يعنيها واضعوا هذا الإعلان بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي، إلا قوة احتياطية تراقب ما يمكن أن يقع من الزلل والخطأ، وإلا فان الفرد الذي ربي تربية إسلامية حتى امتزج دين الله القويم وتعاليمه الحكيمة بلحمه ودمه، وصارت جزءاً سامياً من نفسه، وصار امتثال التعاليم الإسلامية عادة طيبة له، ولمس بنفسه اللذة الكبرى التي يجدها الفرد في الخشوع لله ، وفي التعاطف والتراحم والمحبة بين الناس. مثل هذا الفرد، هو عبارة عن جميع المواطنين في المجتمع الإسلامي، يستحيل عادة صدور الذنوب والهفوات والمفاسد منه، إلا ما شذ وندر من الحالات.

    18

    المادة الثالثة عشر: لتأمين نفقات القوة العامة، ونفقات الإدارة، يجب جباية الضرائب العامة، ويجب توزيع هذه الضرائب على كل المواطنين بالسواء، كل على حسب طاقته.
    يقول واضعو هذه المادة: انه يجب لأجل الصرف على القوة العامة: السجون، والمحاكم، والقوات المسلحة. ولأجل تأمين نفقات الإدارة في الدولة: تجب جباية الضرائب العامة، ويجب أن تكون هذه الضرائب عامة وموزعة على كل المواطنين بالسوية، كل على حسب مقدار طاقته المالية، ودخله، فيوضع على كل دخل من الدخول نسبة معينة متساوية من الضريبة.
    هكذا أراد واضعو هذا الإعلان أن يضمنوا العدالة في سن الضرائب، وحاولوا أن لا يقع الإجحاف على احد أو جماعة دون غيرهم، ذلك الإجحاف الذي ذاقوا منه في عهودهم السابقة الأمر الشديد، وقد أرادوا من هذه العدالة بوجه خاص، إلا تؤثر الضرائب على مصالحهم التجارية والصناعية، لأنهم يعلمون انه لابد أن يكونوا مشمولين لقانون الضرائب، ولا يصح لهم أن يكونوا كالطبقات السابقة صاحبة الامتيازات التي ثاروا عليها وسحقوها، ومن ثم فلابد أن يحتاطوا لأجل حفظ مصالحهم من أن تؤثر عليها الضرائب.
    ولكن هذا التحديد الذي وضعوه على الضرائب بحقيقته، هو اقصر باعاً، وابسط تأثيراً من أن يؤثر على رؤوس الأموال الضخمة التي يحتكرها هؤلاء البرجوازيون، تلك الأموال التي يريد الإسلام بسنه لضرائبه أن يحد من غلوائها. وكيف يكون مؤثراً بعد أن كان هذا التحديد موضوعاً بعناية تامة لكي لا يكون مؤثراً في مثل هذه المجالات. ومن ثم نعرف إن الإسلام كان في وضع ضرائبه أبعد نظراً، وأوسع أفقاً، وأصلح للبشرية، من هذه القواعد الضيقة التي يضعها هؤلاء البرجوازيون. ففي كل من وضع الضرائب نفسها، ومن توزيعها مصالح ومصالح يهدف بها الإسلام إلى رقي المجتمع ورفاهه.
    فان في وضع الضرائب تحديدا لرأس المال، وإشعاراً للفرد بالمسؤولية بالنسبة إلى أمواله أمام الله  كما هو مسؤول عن شؤونه الأخرى أمامه. وترويضا للنفس على طاعة الله  حينما يشعر الفرد انه يعطي هذه الأموال قربة لوجه الله الكريم، وطاعة لأمره العزيز عن طيب خاطر وراحة ضمير، وحثاً للفرد على معونة مجتمعه وإكرام الفقراء والمساهمة في أموال الدولة، تلك الدولة التي لم تنبثق إلا لخدمة المجتمع والإسلام. وثوابا ضمنه الله تعالى للفرد الذي يعطي هذا القسط من أمواله، ذلك الثواب المتمثل في رضاء الله  والقرب المعنوي منه (عز وعلا) من ناحية، والفوز بالجنة والنعيم المقيم في الدار الأخرى من ناحية ثانية.
    وفي توزيع الضرائب مصالح كثيرة للمجتمع الإسلامي فهي إعانة للفقراء والمساكين والمنقطع بهم، وحرية للأرقاء يشترون بها من مواليهم ويعتقون، وفك لدين المدينين، وتربية إسلامية صالحة لليتامى، وتقريب لقلوب الكافرين إلى الإسلام حين يعطون من هذه الضرائب فيذكرون للإسلام فضله وعدله. ومن مصارفها كل عمل يرضي به الله  يكون في صالح الإسلام أو المسلمين كبناء المساجد والمدارس والجسور والشوارع والمستشفيات والمكتبات، وما إلى ذلك من المرافق العامة. فان بقي بعد ذلك شيء، كان بيد الإمام المعصوم  يتصرف به ما يشاء، وهو بعصمته لن يتصرف إلا على حسب المصلحة الحقيقية للمسلمين وللإسلام.
    ومن هنا نرى إن هذه الضرائب التي تجبى ليس للدولة منها إلا جزء يسير منها، لا كما حلم به واضعو هذا الإعلان، من جبايتها لأجل أن تدخل في جيوبهم أثناء تسنمهم المناصب في البلاد.
    بل أن هذا الجزء الصغير إنما يصرف أيضاً لصالح المجتمع الإسلامي من ضمان سير أمور الدولة على ما يرام وتطبيق قوانينها بصورة عادلة صحيحة.
    وللضرائب الإسلامية نظام وضعه الإسلام، لكي يحد من التلاعب الذي يتدخل في جباية الضرائب أو توزيعها، وهو ما يسمى باصطلاح الفقهاء بالزكاة والخمس. وهو نظام دقيق مفصل مذكور في محله من الفقه الإسلامي. ويمكن أن نلاحظ- إذا تصفحنا النظام- أن من خصائصه جعل الضريبة على رأس المال بالإضافة إلى جعلها على الربح.
    وفي ذلك حد من تضخم الثروة أكثر من اقتصار الضريبة على الربح مع التحفظ على رأس المال، لان هذا المال الذي يبقى عند صاحبه سوف ينتج أضعاف ما اخذ منه، أما لو وضعت الضريبة عليه مباشرة لكان في ذلك حداً حاسماً لتضخم الثروة.
    كما يمكن أن نلاحظ أن ليس في هذا النظام ضرائب تصاعدية تزيد نسبتها كلما زاد المال. بل الضرائب الإسلامية إما ثابتة النسبة عند زيادة المال، وإما أن تكون تنازلية تقل نسبتها بزيادة المال. كما نلاحظ قلة الكمية المدفوعة في الضريبة على نحو العموم، فان منها ما يكون جزءا واحدا من أربعين جزء، كما في زكاة الذهب والفضة، ومنها ما يكون عُشراً أو نصف العشر كما في زكاة الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وأكبر نسبة مفروضة من الضريبة هي الخمس.
    ولكن رغم هذه الضآلة في كمية الضرائب، فانه يمكننا أن نلاحظ، بأدنى تفكير، كميات الأموال التي يمكن أن تجبى بموجب هذه الضرائب، وكم سوف ينتفع منها المجتمع الإسلامي؟ تصور كم ستكون الأموال الناتجة إذا أُخرج الخمس من أرباح التجار ومن المعادن والجواهر، وما أُخرج من البحر عن طريق الغوص، وما أُخرج من المناجم، ومن الأموال المختلطة بالحرام، ومن الأموال التي اكتسبت عن طريق الربا والاحتكار، والقيام بالفعاليات المحرمة إسلامياً كاحتراف البغاء أو الغناء، وغير ذلك مما يجب فيه الخمس. وتصور ما إذا أُخرج كل زارع زكاة زرعه، وكل راع زكاة أنعامه، وكل مصرف وتاجر زكاة ما يملك من مسكوك الذهب والفضة وغير ذلك مما تجب فيه الزكاة. كم من الأموال سوف تجتمع حينئذ، ثم توزع مجاناً على مستحقيها من الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين والعبيد الأرقاء، ممن قد عددنا بعضهم على نحو الإجمال فيما سبق، كما يوزع على المصالح العامة وتعمير المرافق العامة ثم يصرف باقية على مصالح الدولة.
    كما إننا نلاحظ، حول هذه الضرائب، تلك اللفتات الرحيمة التي أوردها الإسلام في شروط وجوب دفع الضرائب، مما يجعل دفعها سهلاً يسيراً من ناحية، وقليلا من ناحية أخرى، وفي ذلك تيسير للمالك إلى اكبر حد ممكن. فقد اشترط الإسلام في زكاة الأنعام السوم والحول، فلا زكاة عليها أن أتعب مالكها نفسه على إطعامها وتربيتها، أو كانت في ملكه مدة أقل من العام الكامل. واشترط في دفع العشر من الغلات الأربع أن يكون الزرع قد سقي بطريقة طبيعية كالمطر أو من نهر مجاور فائض أو إنه امتص الماء بواسطة جذوره في الأرض. أما إذا كان المالك قد تكلف له السقاية وبذل عليها مالاً وجهداً فلا يجب أن يدفع إلا نصف العشر. واشترط في وجوب الخمس في مال التجارة أن يخرج صاحب المال أولاً مقدار ما يصرفه على نفسه وعياله بحسب متوسط حاله وبالشكل اللائق به عادة، على إلا يكون باذخاً مبذراً وإلا وجب دفع الضريبة عن المال الذي يذهب في هذا السبيل أيضاً.
    من كل ما مضى نعرف كيف وبأية طريقة حكيمة ورحيمة طبق الإسلام ما شرطه هذا الإعلان من إنه يجب أن لا تكون الضريبة أكثر من طاقة الإنسان. كما نعرف أهداف الإسلام السامية العميقة في سن الضرائب إنها ليست فقط كما توصل إليه ذهن واضعي هذا الإعلان من الصرف على القوة العامة والإدارة، بل إنه ينبغي أخذ الضرائب لكثير من المصالح الاجتماعية والدينية، تلك المصالح التي أرجو أن قد لاحظتها فيما سبق، والتي من جملتها الصرف على القوة العامة والإدارة.


    19

    المادة الرابعة عشر: لجميع المواطنين الحق في أن يثبتوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم، من ضرورة الضرائب العامة، وأن يقبلوا بها برضاهم، ويراقبوا إنفاقها، ويحددوا نسبتها ومقدارها، وكيفية جبايتها ومدتها.
    وقد جاء واضعو هذا الإعلان بالشروط المذكورة في القسم الأخير من هذه المادة، والتي تخص إطلاع الشعب على الضرائب التي تفرض عليه.
    لما لديهم من مسبقات ذهنية مستقاة من تاريخهم السابق المباشر، الذي عاصروه والذي كان ممتدا في أوربا من قبلهم طوال قرون. فان الضرائب في تلك العصور الأوربية المظلمة كانت لصالح الملك أو الإقطاعي، لا لصالح الصرف على الشعب وتمويل القوة العامة والإدارة. ومن ثم فان الشعب لم يكن يأخذ له صوت فيها(1) حتى يتثبتوا من ضرورتها أو يقبلوا بها برضاهم.
    كما انه لم تكن نسبتها ولا مقدارها ولا مدتها ولا كيفية جبايتها محددة. فربما طلب الملك في يوم من الأيام نسبة معينة من الضريبة، وربما طلب في يوم آخر مقداراً معيناً من المال لابد أن يجمعوه من بينهم. كما إنها كانت تجبى في الفصل الزراعي أو تجبيها جماعة معينة(2) إلى آخر ما هنالك من أساليب الفوضى والفساد. ولهذا أراد واضعو هذا الإعلان أن يسدوا باب هذا الاضطراب لما يجلبه عليهم من و بال وخراب في حياتهم الاقتصادية.
    والإسلام بصفته نظاماً إلهياً، فهو لا يعترف بالتمثيل البرلماني. لأنه يضع قوانينه حسب المصالح الحقيقية للإنسانية تلك المصالح التي يعلمها الله  بحكمته البالغة اللانهائية، والتي سبق أن أكدنا أن العقل البشري قاصر عن إدراكها بخصوصيتها، لما فيه من ملابسات نفسية شعورية ولا شعورية وعواطف واعتبارات لا يمكن أن يطلع عليها أي واضع بشري لقانون مهما كان محيطا بأحوال المجتمع وسكانه.
    والتمثيل البرلماني إنما شرع لأجل التأكد من صحة وعدالة القانون من ناحية، ولكي يطبق على الشعب برضاهم فلا يكونوا محكومين بسلطة غاشمة. ولكن مادام القانون الإلهي الصادر من القوة اللانهائية العالمة بخصائص البشرية وصفاتها، والقاصد إلى نشر الرفاه والسعادة بين أفرادها وشعوبها، مادام هذا القانون عادلاً من حين وضعه. ومادام المسلم، بصفته مسلماً راضٍ بالأخذ بهذا القانون وتطبيقه لما يرى فيه من العدالة والخلود. إذن فلا حاجة تبقى لدى الشعوب المسلم إلى التصويت على أي قانون من القوانين الإسلامية.
    بالإضافة إلى ما سبق أن أكدناه أن إرادة الفرد المسلم وحريته بيد خالقه لا يملك منها شيئا، فالله  هو الذي يوجهه ويقوده إلى الحق بقوانينه وتعاليمه. ولم تشرع الانتخابات البرلمانية إلا على أساس الاعتراف بحق الفرد في أن يحكم نفسه، وهو منتف أساساً في الدولة الإسلامية ولدى الفرد المسلم.


    20
    المادة الخامسة عشر: للهيئة الاجتماعية أن تحاسب كل موظف عمومي، عن أعماله.
    يقصد واضعو هذا الإعلان، من الموظف العمومي، الموظف في دوائر الدولة، في مقابل الموظف في شركة أو منظمة أو حزب. أما بالنسبة إلى رأي الإسلام في محتوى هذه المادة، فهو يوضع موضع التفصيل. لان هذا الموظف العمومي إما أن يقصد منه رئيس الدولة الإسلامية، الإمام المعصوم ,. وإما أن يقصد من سواه من الموظفين في الدولة. أما الإمام المعصوم (عليه أفضل التحية والسلام)، فهو بعصمته وطهارة نفسه وقربه من الله ، غني عن المراقبة والمحاسبة. فان الذي ينبغي أن يحاسب هو الشخص الذي يحتمل في شأنه الخطأ والهفوة، أما الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، الذي يستحيل عليه ذلك بما لديه من الملكة القدسية الروحانية، التي يتدرع بها ضد الذنوب والآثام، تلك الملكة التي نسميها بالعصمة، والتي يبرهن عليها في محلها من الأدلة الإسلامية، فانه اجلُّ قدراً وأعظم نفساً من أن يحاسب على أعماله، فان هذه العصمة هي التي جعلته أهلاً لتولي هذا المنصب العظيم. بالإضافة إلى إننا نتساءل عن الشخص أو عن الجماعة أو عن الشعب الذي يتولى مراقبته مع انه أفضل أهل عصره جميعا، وأدقهم نظراً، وأوسعهم ذهناً، وأبعدهم غوراً بالطرق الصالحة التي ينبغي أن تطبق بها القوانين الإلهية، التي فوض إليه تطبيقها. فان الشعب لن يجد من هو خير منه رأياً، ولا أصوب منه وجهة نظر، بعد أن اختاره الله (عز وعلا) ليكون حجة على عباده. ولن يكون ما يقترح عليه، من قبل ذوي العقول الأنانية القاصرة. إلا دون ما يرى من حيث العمق والرشد.
    وأما إذا كان المقصود من الموظف العمومي، سائر موظفي الدولة، غير رئيس الدولة الإسلامية. فان أي موظف في هذه الدولة تتوجه إليه الرقابة الشديدة من عدة جهات، ولكل جهة منها من السلطة والقوة في معاقبة الفرد. وبصورة فعالة وعميقة، الشيء الكثير. وعليه فهو مراقب:
    7 من قبل الله ، الذي خلقه وانعم عليه بالحياة والعقل والمال، وسهل له سبل المعيشة، ووضع في خدمته الأرض والحيوان والمزروعات وكل العوامل الطبيعية، وشرع له من التعاليم والأنظمة ما يسمو به إلى درجات الكمال، وعلمه من القيم الأخلاقية والروحية ما تيسر له صفاء نفسه وسمو روحه. فهو مراقب من قبله  في جميع حركاته وسكانه، ومسؤول عن جميع أخطائه وهفواته. يجزيه عليها بعدالته أو يغفرها له برحمته.
    8 وهو مراقب من ضميره الإسلامي. فان الإسلام يصهر نفس المسلم في بوتقته، ويجعل من عواطفه وملكاته النفسية مزاجاً إسلامياً رائعاً، ويوجهها في سبيل الدين والخير وخدمة المجموع. وخاصة وقد تربى مثل هذا الفرد في أحضان المجتمع الإسلامي الخاشع لله (عز وعلا) المطيع لأوامره الحكيمة، والضمير إنما يتكون عن طريق الشحن فيه من القيم والاعتبارات، عن طريق المجتمع الذي يتربى فيه الفرد، ويترعرع فيه عقله وتنضج فيه نفسه. ومن ثم فهو يكون مرآة للمجتمع الذي تكون فيه، يأمر صاحبه وينهاه عن مستلزمات ذلك المجتمع وآدابه، ومن ثم فكلما كان المجتمع مهذباً فاضلاً تسوده العادات الطيبة والقوانين العادلة، كان الضمير أهدى لصاحبه وأوصل به إلى طريق الخير.
    ومن ثم كان الضمير الذي تربى بين أحضان المجتمع الإسلامي ضميراً إسلامياً، يهدي للحق ويرشد إلى السداد، كما يراه الإسلام بحكمته البالغة. والضمير هو أقوى واقرب قوى الرقابة من الفرد، وابعد أثراً من كل التأثيرات الخارجية على نفس الفرد وتصرفاته.
    31 وهو مراقب من قبل الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام) رئيس الدولة الإسلامية، الذي جعله في هذا المنصب ليخدم مواطنيه ويقضي حوائجهم، ويسعى في سبيل مصالحهم، ويخلص أداء واجبه في سبيل شعبه وأمته. فإذا صدر منه أدنى تقصير أو إسفاف، يكون عرضة للوم والتأنيب من قبل الإمام . فإذا انصاع إلى الحق فقد اهتدى، وإلا عزل عن منصبه، وعوقب بما يستحقه، على حسب القوانين الإلهية العادلة. ويؤتى بدله بشخص آخر يحل محله، يكون اخدم لشعبه واخلص لدينه ولواجباته. ونجد من تلك المواعظ والتوجيهات، التي يبعثها الإمام ، إلى موظفيه وعماله ليحثهم على الخير ويزجرهم عن الشر، نجد من ذلك في نهج البلاغة الشيء الكثير. فقد كان أسلوب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، في الحكم، أسلوباً إسلامياً مثالياً، تجسدت فيه قوانين الإسلام وتعاليمه بما فيها من عدالة وإرشاد وصلابة في سبيل الحق.
    فقد كان (عليه الصلاة والسلام)، يؤكد على أبداء النصيحة والتوجيه إلى عماله الذين يبعثهم ليحكموا الأقطار الإسلامية، ويشدد عليهم في التأنيب عند أدنى زلة أو موبقة ينحرف فيها عن الدين أو يخرج بها على حقوق الأمة، وذلك لما يعلمه في ثاقب بصيرته، من أن ذلك أقوم لعماله، وأجدى من توجيه أعمالهم حتى تكون مطابقة للحق وتعاليم الإسلام.
    فمن النصائح والتوجيهات التي بعثها الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، هو عهده المشهور إلى الأشتر النخعي، عندما ولاه على مصر. ذلك العهد الجامع لصفات الحكم الصحيح وأسلوب القيادة العادل، وخير الوجوه التي ينبغي أن يكون بها سلوك الحكام في معاملتهم مع الناس وتصريف شؤون الدولة. يبدأه  قائلا:
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هْذا ما أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ، عَليٌ، أَميَرَ المُؤمِنينَ مالِكَ بنَ الحارِثِ الأَشّتَر في عَهدِهِ إِليَهِ حينَ وَلاهُ مِصْرَ، جِبايَّةِ خِراجَها، وَجِهادِ عَدُوِها، وَاِستِصلاحِ أَهلُها، وَعِمارَةِ بِلادِها. أَمَرَهُ بِتَقوى اللهِ وَإيثارِ طاعَتِهِ، وَأتِباعِ ما أَمَرَ بِهِ في كِتابِهِ مِنْ فَرائِضهِ وَسُننهِ، اَلَتيْ لا يَسعَدْ أحَدٍ إِلا بِإتِباعها، وَلا يَشقىَ إِلا مَعْ جُحُودِها وَإِضاعَتِها، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبُحانَهُ بِقَلّبِهِ وَيَدِهِ وَلِسانَهِ، فإِنَهُ جَلَ أسمَهُ قَدْ تَكَفَلَ بِنَصْرِ مًنْ نَصَرَهُ، وَإِعزازَ مَنْ أَعَزّهُ، وَأَمَرَّهُ أَنْ يَكسِرَ نَفْسَهُ مِنْ الْشّهَواتِ، وَيَزُعُها عِنْدَ الجَمَحاتِ، فإِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ الله (1).
    ومما يندرج في المقام ذلك التأنيب العنيف الذي بعثه إلى (عثمان بن حنيف) عامله على البصرة، وقد بلغه انه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها، في حين انه ينبغي للحاكم العادل أن يعف عن مثل هذه الأساليب المادية الدنيئة وألا يبيع قلبه لقاء وليمة أو نقود. قال : أَمْا بَعدْ يا ابنَ حَنيّفٍ فَقَدْ بَلَغَنيّ إِنَ رَجُلاً مِنْ فتيَّةِ أَهْلِ البَصرَةِ دَعْاكَ إِلى مأدُبةٍ فَأَسرَعْتَ إِلَيها، تُستَطابُ لَكَ الأَلوانِ، وَتُنقَلُ إِليكَ الجِفانِ، وَمْا ظَنَنْتُ إِنَكَ تُجيّبَ إِلىْ طَعامِ قومٍ عائِلَهُمُ مَجْفُوٌّ، وَغَنيَّهُمُ مَدّعُوٌ. فَأنظُرْ إِلىْ ما تَقْتَضِمَهُ مِنْ هْذَا الْمَقْضَمِ، فَمْا إشتَبَهَ عَلَيّكَ عِلْمَهُ فَالْفِظْهُ، وَمْا أَيّقَنْتَ وُجُوهَهُ فَنَلْ مِنْهُ(2).
    ومن ذلك، ما كتبه ، إلى (مصقلة بن هبيرة الشيباني) وهو عامله على (اردشير خره)، وهو من أعنف كتبه وأشدها تأنيبا للحاكم المتجاوز على تعاليم دينه، والظالم لرعيته. قال (سلام الله عليه): بَلَغَنيّ عَنْكَ أَمرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتُهُ فَقَدْ أَسّخَطّتَ إِلَهَكَ وَأَغّضَبْتَ إِمامَكً ؛ إِنَكَ تُقَسِّمَ فَيِّ المُسلِمينَ الْذَيّ حازَتّهُ رِماحُهُمُ وَخُيّولُهُمُ وَأُريقَتْ عَلَيهِ دِمْاؤُهُم فِيمَنْ اَعتَامَكَ(3) مِنْ أَعّرابِ قَوْمِكَ فَوَالَذيّ فَلَقَ الْحَبَةَ وَبَرِأَ الْنَسّمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَ بِكَ عَلَيَّ هَوُانَاً وَلَتَخِفَّنَّ عِنْديَّ مِيزانَاً فَلا تَسْتَهِنْ بِحَقِ رَبِكَ وَلا تُصلِّحَ دُنْياكَ بِمَحْقِ دْيّنَكَ فَتَكُونَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(4).
    40 والموظف في الدولة الإسلامية، مراقب أيضاً، من قبل أمته وشعبه الذي يتولى فيه بعض الأعمال والإدارات، فان ذلك من البديهيات الإسلامية، وهذه الرقابة، هي الأسلوب الوحيد الذي التفت إليه واضعو هذا الإعلان، من أساليب الرقابة، وذلك لأنهم إنما يمثلون مصالحهم وواقعهم وتأريخهم الخاص، وكل ذلك ابعد ما يكون عن الأفق الواسع الذي ارتقى إليه الإسلام بتعاليمه الحكيمة.
    فلكل مواطن أن يرفع ضد أي موظف، في الدولة الإسلامية، شكوى حول أي خروج على تعاليم الدين أو صلاح الأمة، وسوف تُسمع دعواه برحابة صدر، طبقاً لما عهده أمير المؤمنين  إلى مالك الأشتر، حيث يأمره في عهده المشهور قائلاً: وَأجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجلِسَ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ للهِ الَذْي خَلَقَكَ، وَتُقّعِدَ(1) عَنّهُمْ جُنّدَكَ وَأَعّوانَكَ مِنْ اَحْراسِكَ وََشَرّطِكَ، حَتّى يُكَلِمُكَ مُتَكَلِّمَهُمُ غَيّرَ مُتَعّتَعٍ، فَإِنْيَّ سَمِعْتُ رَسّولَ اللهِ يَقُولُ فِي غَيِّرِ مَوْطِنْ: (لَنْ تُقَدَسَ أُمَةٌ(2) لا يُؤْخَذَ لِلضَعِيّفِ فِيهَا حَقَهُ مِنَ الْقَويِّ غَيّرَ مُتَعّتَعٍ) ثُمَ إحَتَمِلّ الْخَرَقَ مِنْهُمُ وَالْعَيَّ، وَنَحَِّ عَنْهًمُ الْضِيقَ وِالأَنَفَ، يَبْسِطُ اللهُ عَلَيّكَ بِذلِكَ رَحمَتَهُ، وَيوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ(3).
    ثم أن الإمام  ينظر في شكوى المشتكي، ويفحص عن حال الموظف بدقة، فان ثبت انه قام بمخالفة لتعاليم الإسلام أو ظلم لبعض أفراد شعبه، أنبه أو أقصاه عن منصبه وعاقبه، أن كان ذنبه يستحق العقاب. وإلا رد المشتكي رداً جميلاً، وبقي الموظف في منصبه لخدمة مصلحة الإسلام العليا.
    ولعلنا نستطيع أن نستشهد لهذه الرقابة الشعبية الإسلامية ببعض الحوادث التاريخية، كالذي كان يقوم به (أبو ذر) (عليه الرحمة والرضوان)، لما أعطى (عثمان بن عفان) (مروان بن الحكم) وغيره بيوت المال، واختص (زيد بن ثابت) بشيء منها. جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر الكافرين بعذاب اليم، يرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى:  وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(1).

    21

    المادة السادسة عشر: كل هيئة اجتماعية لا تكون الحقوق مصونة فيها، ولا تضمن فصل السلطات، تعتبر محرومة من الدستور. كان الفيلسوف السياسي (مونتسكيو) أول من توسع في شرح نظرية (فصل السلطات) والتنويه بأهميتها في كتابه (روح القوانين) ومن رأي (مونتسكيو) انه يجب أن تفصل كل من السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، عن الأخرى فصلاً تاماً، وإلا حاولت إحداها التدخل في أعمال الأخرى أو السيطرة عليها بأية وسيلة، وإلا انعدم كل ضمان للحرية الفردية.
    ويشرح (مونتسكيو) رأيه على النحو الآتي: إذا اجتمعت السلطتان التشريعية والتنفيذية في نفس الشخص أو نفس الهيئة فلا حرية. ذلك انه يعرض عندئذ خطر قيام نفس الملك أو نفس المجلس بسن قوانين ظالمة وتنفيذها بطرق مجحفة. كذلك لن تكون ثمة حرية إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولو إنها انضمت للسلطة التشريعية لغدت حياة الأفراد وحرياتهم تحت رحمة الأهواء.
    ذلك لان القاضي يغدو عندئذ مشرعاً. ولو انضمت للسلطة التنفيذية لأصبح القاضي قوة الظالم المتعسف(2).
    فكأن واضعي هذا الإعلان كانوا متأثرين بأفكار مونتسكيو(3) وقد نقد الأستاذ (محمد عبد الله عنان) هذه النظرية، على طريقة الفكر الحديث، بعد أن نقل ملخصا عنها وهو الذي نقلناه فيما سبق، قال: وقد كان لهذه النظرية في القرن الثامن عشر وقع عميق، وقد تأثرت بها دساتير الولايات الأمريكية منذ تحريرها. على إنها ما لبثت أن تضاءلت أمام تجارب القرن التاسع عشر، وتبدو اليوم اعرق النظم الديمقراطية، وقد تشابكت فيها السلطات الثلاث، بأوضاع وفي حدود معينة. وليس أدل على ذلك مما هو ملحوظ في نظام الحكم الإنجليزي من أن السلطة التنفيذية، وهي الوزارة، تزاول سلطة الحكم وإعداد مشاريع القوانين. ثم إن الوزارة بأغلبيتها الحزبية البرلمانية، تستطيع أن تحصل على إقرار هذه القوانين على يد الهيئة التشريعية. وهنا تبدو نظرية فصل السلطات ضئيلة الأثر. ولا يمكن أن يقال أن الحريات قد أهدرت في ظل نظام برلماني يقوم على أساس الأغلبية الحزبية. ولم يعلم الأستاذ أن ما ذكره لا يمكن أن يرد نظرية فصل السلطات أو يدحض ما قامت عليه من دليل، فإننا وإن كنا لا نستطيع الآن أن نناقش بالتفصيل خصوصيات النظام البرلماني القائم على أساس الأغلبية الحزبية، لان ذلك يحتاج إلى سعة في القول لا يتحمله المقام. ولكننا نقول بنحو الإيجاز: أن طريقة التصويت هذه تؤدي إلى نوع من الدكتاتورية أيضاً. غاية الأمر إنها مغطاة بأغشية كثيرة براقة من الأسماء والصفات. فان ما ذكره من وضع الوزراء للقوانين، واخذ أغلبيتهم الحزبية البرلمانية عليها لا يعدو أن يكون أكثر من دكتاتورية حزبية ضيقة، وذلك لان جماعة من الحزب هم الوزراء تضع القانون، وجماعة أخرى من الحزب نفسه وهم النواب، تصادق عليه ويطبق القانون على الشعب طبقا لرأي احد أحزابه.
    أما الزعم بان أكثرية البرلمان تمثل أكثرية الشعب، إذن فمن الحق أن يطبق القانون على الشعب بقرار أكثرية ممثليه، فباطل. لأنه حتى مع غض النظر عن التساؤل عن معنى كون كل فرد من البرلمان ممثلاً للعدد الذي أصبح نائباً عنه، وعلى أي أساس صحيح يبتني هذا التمثيل، فان الأكثرية البرلمانية لا تحصل لحزب، حتى تحت النظم الديمقراطية المثالية، إلا تحت عوامل نفسية وعاطفية واجتماعية كثيرة وكثيرة جداً تلازم عملية التصويت وتؤثر فيها آثاراً مختلفة.
    بالإضافة إلى أن نسبة معينة من الشعب هي التي يحق لها التصويت دون من سواهم ممن لم تجتمع فيهم الشروط. ثم أن هناك نسبة معينة ممن يحق لهم التصويت يعتبر إحرازها إحرازا للأكثرية، ثم هناك نسبة معينة من النواب تنعقد بهم الجلسة الرسمية للبرلمان، وهناك نسبة معينة من الحاضرين يخرج بها القانون إلى الوجود ويصبح نافذ المفعول على الشعب. فلو فرضنا أن كل هذه النسب أخذت بأقل مقدار ممكن تصبح بها نسبة قانونية، فانه حتى مع صحة التمثيل وضمان الديمقراطية. فان القانون سوف يصدر بأصوات ممثلي شرذمة صغيرة من الشعب. في اقل القليل أن يصادف أكثرية ساحقة في إحدى هذه النسب فضلا عن جميعها.
    ومن هنا نعرف انه لابد من فصل السلطات الثلاث في الدول الاعتيادية غير الإلهية، والتي يتولى فيها كلاً من السلطات الثلاث أفراد عاديون، وإلا ذاق الشعب أنواعا من الظلم والتعسف.
    أما بالنسبة إلى الدول الإسلامية، فليس هناك سلطة تشريعية لان كل الجهات في الدول خاضعة لله (عز وعلا) ومؤتمرة بأمره، ومتمسكة بتعاليمه. إذن فالقوانين في هذه الدولة منفصلة أساساً عن كل من السلطة التنفيذية والقضائية، ليس لأحد التحكم بها أو تغييرها فكل من القاضي الشرعي والحاكم الشرعي يقومان بتنفيذ القوانين الإلهية بأمانة وإخلاص.
    إما بالنسبة إلى الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فهو غير موجود في الإسلام. فان الإمام المعصوم ، هو الذي من حقه أن يحكم بين الناس كقاضٍ، وهو الذي ينفذ الأحكام، كما انه هو الذي يدير شؤون الدولة. فان كانت تمنعه أشغاله عن النظر فيها أو كان البلد بعيداً، أو في زمان الغيبة، كزماننا هذا، نصَّب الإمام من يختاره لأجل فض المرافعات بين الناس. ومن حق القاضي المنصوب أن ينفذ الأحكام التي يصدرها بحق المجرمين. ولكن ذلك لا يعني التعسف والظلم في الدولة الإسلامية كما يمكن أن يعينه في الدول الأخرى، فإننا إذا عرفنا صفات الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، تلك الصفات التي سبق أن اشرنا إليها أكثر من مرة، وعرفنا من الذي يمكن أن ينصبه الإمام ليكون قاضياً بين المسلمين، وكيف أن هذا القاضي مراقب أيضاً من قبل الجهات التي عددناها في المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان، تحاسبه على أي شطط أو خروج على تعاليم الإسلام في تحريه أو محاكمته أو في صدور حكمه أو في تنفيذه الحكم فإذا بان إنه قد ظلم شخصاً، أو تعسف بالحكم ضد احد، أو خرج على القواعد الإسلامية الموضوعة للقضاء، فانه يعرض نفسه لغضب الله تعالى عليه وغضب إمامه وأمته. بالإضافة إلى أن للفرد المظلوم الحق أن يعرض الدعوى على محكمة أخرى لتنظر فيها من جديد أو أن يدعى ضد القاضي في محكمة ثانية لتقوم، إذا ثبت جرمه، بمعاقبته على جرمه. إما كون أن الهيئة الاجتماعية التي لا تكون الحقوق مصونة فيها، لا يضمن فيها الفصل بين سلطاتها الثلاث، تكون محرومة من الدستور، طبقا لما اعتبره هذا الإعلان. فكأن حرمانها من الدستور بمنزلة العقاب، يريد أن ينزله واضعو هذا الإعلان على مثل هذه البيئة التي تستهين بالحقوق الإنسانية، أي بـإِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن الذي وضعه هؤلاء البرجوازيون على حسب مصالحهم الخاصة، والتي تستهين بفصل السلطات التي هي جوهر الديمقراطية في رأي (مونتسكيو). والحرمان من الدستور أمر مرعب يعني أن يعامل واضعو هذا الإعلان تلك الهيئة الاجتماعية بالظلم والتعسف بالأمور الخارجة عن الدستور بحجة أن هذه الهيئة الاجتماعية غير مشمولة للدستور لان الحقوق غير مصونة فيها ولا تضمن فصل السلطات! وكان الأولى بواضعي هذا الإعلان أن يترفقوا مع هذه الهيئة الاجتماعية ويأخذوها بالإحسان، فإنها هيأة اجتماعية (ضالة)! وكان خيرا لهم لو قرروا الإصرار على تطبيق الدستور في ربوعها، وإلزامها بحقوق الإنسان، حتى تهتدي لرأيهم، وترجع إلى أوامرهم ومتطلباتهم.
    أما بالنسبة إلى الإسلام فان الهيئة الاجتماعية التي تتمرد على بعض تعاليمه فإنها في الواقع متمردة عليه نفسه، فان تعاليم الإسلام وحدة متماسكة يشد بعضها بعضا وتآزر إحداها الأخرى، وتؤتي ثمارها مجتمعة. كأحسن ما تكون الثمار، وأما تطبيق بعض تعاليمه، فلا يمكن أن يثمر الثمر المرجو كما لو طبق في ضمن إخوانه من التعاليم الإسلامية، بل انه إنما يثمر بالمقدار الذي تسمح له الظروف السائدة المنبثقة من غير الإسلام أن يثمر. ولكن مع ذلك يجب تطبيق حتى الأمر الواحد من أوامر الإسلام فان لكل أمر ونهي ثواباً وعقاباً مستقلين، بالإضافة إلى ما يرجى من ذلك من تطبيق جميع التعاليم الإسلامية في يوم من الأيام لو أخلص المسلمون للأخذ بدينهم القويم وفهموه حق فهمه.
    ولكن الإسلام لا يعاقب هذه الهيئة المتمردة بحرمانها من الدستور، بل انه يوجه إلى أفرادها المواعظ والإرشاد، والتفكير بالله  والثواب والعقاب، والقيم الإسلامية المختلفة، والتعاليم الإلهية العادلة، حتى تفيء إلى أمر الله تعالى. وهذه الهيئة الاجتماعية لابد أن تتأثر بهذه الدعاية المتضمنة للدعوة إلى الله (عز وعلا) والوصول إلى الكمال الرفيع، ولو بعد مرور بعض الوقت مهما كانت موجة الإلحاد قوية ومستشرية. وإن لم تجد هذه المواعظ البليغة نفعاً، وإن لم تهز منهم الضمائر والأفكار، فان على الدولة الإسلامية أن تخضع هذه الهيئة الاجتماعية عن طريق القوة والسلاح، دفاعاً عن الحق الضائع والتعاليم الإلهية المهدرة. لكي ترغم هذه الهيئة الاجتماعية إلى أمر الله .
    albasry

  8. #8

    افتراضي

    22

    المادة السابعة عشر: الملكية الخاصة هي حق مقدس لا ينقض. فلا يجوز أن تنتزع من احد، إلا عندما تقضي بذلك المصلحة العامة الثابتة شرعاً، وبشرط أن يمنح مقدما تعويضاً عادلاً.
    وهذه المادة أهم مادة في إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن هذا، بالنسبة إلى مصالح واضعيه، وذلك لأنها تمثل جوهر فلسفة البرجوازية حيث إنها تعترف بحق الملكية وتعتبره حقاً مقدساً لا ينقض. وإضفاء هذه الصفات على هذا الحق يعني أن واضعي هذا الإعلان قد أعطوا حق التملك صفة إلهية دينية لأهميته، فلا يجوز أن تنتزع الملكية من أحد، إلا أن عندما تقضي بذلك المصلحة العامة أي المصلحة البرجوازية الثابتة شرعاً، أي في القوانين التي يضعونها بأنفسهم لتطبق في بلادهم، والتي تمثل مصلحتهم وفلسفتهم الخاصة. وبشرط أن يمنح مقدماً أي قبل أن تأخذ منه الضرائب تعويضاً عادلاً(1).
    إما كون أن الملكية حق مقدس لا ينقض فلابد أن يوضع لمناقشته موضع التفصيل: فانه إما أن يقصد منه كون أن للإنسان الحق في أن يملك شيئاً ما، في مقابل أن لا يحق له أن يملك أي شيء. وإما أن يقصد منه أن لا يقف دون تملك لأكبر كمية من المال عائق، وإن يكون للفرد الحق بامتلاك أية كمية من المال مهما زادت وتضخمت، في مقابل ما يوضع من النظم والقوانين للحد من هذا الاستشراء البغيض.
    أما بالنسبة إلى المعنى الأول، فهو وإن لم يكن مقصوداً لواضعي هذا القانون لان المصالح البرجوازية إنما تقتضي المعنى الثاني، كما هو واضح، إلا إننا ينبغي أن نتناول كلا الوجهين بشيء من النقد. فإذا كان المقصود من حق الملكية في مقابل سلبها سلباً تاماً، بحيث لايحق للفرد أن يملك إي شيء، فحقاً أن هذا الحق ثابت لا ينقص، كما تريد النظرية الشيوعية أن تقوله، فان التملك غريزة فطرية في نفس الإنسان، واجهها منذ أن واجه وجوده، فان كون هذا الشيء راجع إلى هذا الشخص أو ذاك هو أمر من البديهيات الإنسانية التي لا يمكن للإنسانية التخلي عنها.
    وباستعمال هذا الحق يشعر الإنسان بالسعادة والاطمئنان والحرية، وانه متحكم في شؤون نفسه وعائلته، مسيطر على ما لديه من متاع، حر في أن يبيع وأن يشتري ما يشاء، ولذا نص علم النفس على أن من غرائز الإنسان الأساسية غريزة التملك أو الحيازة أو السيطرة، حتى أن (أدلر) اعتبرها الحافز الرئيسي للسلوك الإنساني، ووضع على أساس هذه النظرية آراءه ونظرياته بعد أن انشق على أستاذه (سيجموند فرويد) زعيم مدرسة التحليل النفسي.
    وتخلف هذا الحق من الإنسان يحدث عنده كثيرا من العقد النفسية والانفعالات العاطفية الحادة، وتجعله معرضاً لأنواع من الأمراض النفسية والعقلية، من حيث شعور الإنسان بأنه لا يملك ابسط حق ينبغي أن يكون لديه، بالإضافة إلى انه دافع غريزي والدافع الغريزي، يتطلب الإشباع فان بقي خاوياً فانه يعرض صاحبه إلى أمراض نفسية وعقلية كثيرة، تجعل الفرد بعد حدوثها، عالة على المجتمع لا يهتدي إلى وجه الصواب في أعماله. بالإضافة إلى شعور الإنسان بأنه محكوم طول عمره إلى سلطة قاهرة تملك عليه حتى طعامه وشرابه والأدوات الضرورية لأبسط أنواع الحياة. فهل يوجد تهديد للحياة الاجتماعية أعظم من هذا التهديد، إذا كان كل فرد معرضاً لمثل هذا الشعور ولمثل هذه الأمراض النفسية والعقلية.
    بالإضافة إلى ما يحدثه منع هذا الحق، الذي يعني تكدس الأموال عند الدولة، من استيلاء زمرة معينة على جميع الثروة القومية دون أي فرد من الشعب، وتكون بذلك مسيطرة على أرواح الناس كما هي مسيطرة على أعمالهم، ويكفي لها في أن تجبر شخصها بالقيام بعمل ما، أن تهدده بمنع الطعام والشراب عنه، فيقوم بالعمل طائعاً خاضعاً، وفي ذلك دكتاتورية ورأسمالية لم تشهدها حتى الدول الرأسمالية نفسها. بالإضافة إلى ما يحدثه منع هذا الحق، من هدر لنبوغ النوابغ، وعلم العلماء، وعمل العمال الماهرين، ومساواتهم بسائر الشعب في الأجر، وتحديده بالحاجات الضرورية وهي متساوية بين الناس عادة.
    وقد كان هذا هو العائق الرئيسي عن تطبيق الشيوعية المتطرفة، فانه بدا واضحاًَ استحالة ذلك بعد وجود هذه الغريزة في نفس الإنسان، وما يخلفه منعها من آثار سيئة، ومن انعدام وجود الداعي عند العامل الماهر أو النابغة لان يعمل مهارته أو نبوغه بعد أن كان أجره مساوي لأجر الآخرين.
    ولهذا السبب نفسه باءت الستالينية بالفشل، وهي التي تدعو إلى الجمود على التعاليم الشيوعية كما وضعها (ماركس) و (انجلز) ضمن أفقهم وأوضاعهم الاجتماعية والنفسية والفكرية التي اتصفوا بها قبل قرن من الزمان. في حين بدت في الأفق دعوة جديدة إلى إخضاع التعاليم الشيوعية إلى الأوضاع المتطورة، والمستلزمات البشرية الحالية. هذا في واقعه سقوط من البرج الشيوعي العاجي، وخروج على التعاليم الشيوعية، بعد الاصطدام العنيف مع الواقع البشري.
    وكان من اثر هذه الدعوة الجديدة أن أعيد التفاضل بين الناس في حدود ضئيلة، وأعيد تشريع حق التملك لأكثر من ضروريات الحياة. مع بقاء جميع وسائل الإنتاج في يد الدولة تستخدم فيها العمال، الذين لا يجدون من موارد الرزق غير ذلك، كما كان يستعمل الإقطاعي فلاحيه الأقنان.
    وإما إذا كان المقصود من كون حق التملك مقدساً لا ينقض، أي يكون للفرد الحق في تملك اكبر كمية ممكنة من المال، مهما كان ذلك تعسفاً واعتداءاً على حقوق الآخرين. فقد أصبح الآن مثل هذا الحق اقرب إلى الفكاهة التي تثير السخرية من كونها قاعدة إنسانية متبعة في المجتمعات المتمدنة، بعد أن ذاقت البشرية بعد الثورة الصناعية إلى الآن، الكثير من كوارث وأهوال الرأسمالية في وسائلها التعسفية السافلة من اجل حصولها على المال، وتوسيع تجارتها وصناعتها، كما عانت البشرية الويل من نتائجها الموجعة الوخيمة، من تكدس الثروة عند زمرة معينة من الناس، وبقاء أغلبية الشعب في حاجة شديدة، يضطرون معها إلى الخضوع إلى أوامر هؤلاء الرأسماليين والانصياع لأوامرهم في استخدامهم في مصالحهم التجارية والصناعية. ومن ثم نرى الحكومات بعد هذا الاصطدام المرير بالواقع، اضطرت إلى فرضها الضرائب وجعلها تصاعدية، وفرض بعض القيود والشروط على الإنتاج والتوزيع في سبيل كبح جماح تكدس الثروة.
    أما الإسلام فهو اقرب إلى الواقع من كل هذين المذهبين المتطرفين، بل انه هو الواقع نفسه بأفضل صوره. فهو يعترف بالملكية الخاصة، ويأمن عن هذا الطريق من مساوئ إلغائها، وهو يضع عليها ضرائب وشروطاً، تضمن وقوفها عند حد غير مجحف بالمجتمع، وهو في عين الوقت لا يضر صاحبه ولا يمنعه من التمتع الجميل الهادئ بالحياة. وبذلك يتخلص الإسلام من مساوئ تكدس الثروة بيد واحدة أو جماعة. وهو أيضاً يعترف بملكية الدولة جزءاً معيناً من المال مما يجبى إليها من الضرائب والخراج بعد أن يصرف باقيه في مصارفه الخاصة، ويوزع على مستحقيه من الفقراء واليتامى والأرقاء وغيرهم. وبهذا يستفيد الإسلام من الملكية العامة أو التأميم الذي تنادي به الاشتراكية، ولكن في حدود معينة ليس فيها سطو على أموال الآخرين، واستيلاء على ممتلكاتهم تعسفاً، ولكنه في عين الوقت يعين كثيرا في بناء المشاريع العامة والصرف على القوة العامة وإدارة الدولة.
    وأما ما قاله واضعو هذه المادة من أن الملكية الخاصة لا يجوز أن تنتزع من احد إلا عندما تقضي بذلك المصلحة العامة الثابتة شرعاً، وبشرط أن يمنح مقدماً تعويضاً عادلاً. فهل يعني انتزاع الملكية سلب هذا الحق عن الفرد بحيث يصبح محظوراً عليه أن يملك أي شيء، فان هذا بالإضافة إلى انه يسبب المشاكل والأمراض التي ناقشناها قبل قليل، فهو مما لا يمكن أن تقضي به المصلحة العامة ولا يمكن أن يقول به قانون منصف مراعٍ لطبيعة الإنسان. كما انه لا معنى حينئذ أن يمنح الفرد تعويضاً لأنه لا يمكنه أن يتملكه بعد فرض سلب هذا الحق (المقدس) عنه.
    أم إن المقصود من ذلك سلب ملكية الشخص عن بعض ما يمتلكه من المال عن طريق سن الضرائب أو غيرها. فهذا وإن كان مما تقره المصلحة العامة ويقره الشرع في كل من القانون الوضعي والقانون الإسلامي، إلا انه لا معنى لان يمنح مقدماً أو مؤخراً تعويضاً مهما كان نوعه، لانتفاء فائدة اخذ الضريبة منه، فان ما اخذ منه سوف يرجع إليه عن طريق هذا التعويض. ولعمري أن هذا الاشتراط غريب جداً، فانه لم تفرض الضرائب إذا لم تكن مؤثرة على اتساع الثروة، لولا إننا نعرف مقدماً أن هؤلاء قوم برجوازيون يخشون على أموالهم، وعلى اتساع ثروتهم وتجارتهم وصناعتهم، ومن ثم يشترطون مثل هذا الشرط الغريب، لئلا تمس أمورهم المالية بسوء.
    أما بالنسبة إلى الإسلام فهو إلى جانب اعترافه بالملكية الفردية التي هي غريزة فطرية في الإنسان. لكي يتسنى للبشر أن يعيشوا بأموالهم الخاصة عيشة مرفهة، وأن يملكوا حرياتهم، ولا يكونوا خاضعين لتعسف الآخرين. إلى جانب ذلك وضع العوائق المتعددة في سبيل تحديد الثروة، والوقوف أمام تضخمها واستشرائها لما يعلمه من الفساد الذي تجره الرأسمالية على المجتمع الإنساني. وليست الضرائب هي السبيل الوحيد الذي حارب بها الإسلام تضخم الثروات، بل هناك أحكام معينة ساعدت على ذلك فمنها: الكفارات التي يجب أن يعطيها مرتكبوا أفعالاً معينة من المعاصي الإسلامية وهناك الديات التي يعيطيها مرتكبوا أنواع أخرى من المحرمات في الإسلام، كما أن هناك في الإسلام تحريم للربا الذي يؤدي إلى الإثراء غير المشروع على حساب الآخرين، وهناك تحريم الاحتكار، وتحريم الاكتساب بجملة من البضائع والأعمال، مما يضر بالأخلاق والآداب العامة وصفاء النفس ويعارض التعاليم الإسلامية.
    كما أن هناك النداء الإسلامي العام لإعطاء المال استحباباً في سبيل الله (عز وعلا)، للفقراء، والمحتاجين، واليتامى، والمرضى، وفي سبيل الصالح العام، وبناء المرافق العامة، والقيام بالشعائر الدينية، إلى غير ذلك من المناسبات الكثيرة التي يجدها من يريد أن يتقرب بماله إلى الله . والله تعالى وعد هذا الفرد بالثواب الجزيل وبان يهبه من رضاه، قربه المعنوي منه (عز وعلا).
    من كل هذا نرى أن الأموال التي يأخذها الإسلام من الفرد عن طريق الإيجاب أو الاستحباب إنما يأخذها لصالح المجتمع برمته، وطبقاً للمصلحة العامة الحقيقية، بدون ملاحظة طبقة دون طبقة أو جنس دون جنس أو جماعة دون جماعة، فمن صالح الأغنياء أن يؤخذ منهم المال لئلا يكونوا ظلمة متعسفين، وليشعروا ولو بصورة بسيطة بآلام الفقراء وآمالهم، وليحصلوا على الثواب الذي وعدهم الله تعالى به، ومن صالح الفقراء والمحتاجين أن يوزع عليهم فائض أموال الأغنياء لكي يستطيعوا أن يعيشوا برفاه وبكرامة من دون أن يكون لأحد منة عليهم سوى الله ، ومن صالح المجتمع أن يسعد فقراؤه وأن تسد حوائج محتاجيه ويعتق ارقاؤه ويربى يتاماه على أحسن أسلوب إسلامي مهذب. كما انه من صالح المجتمع أيضاً أن تبتنى فيه المساجد، والمدارس، والمكتبات، والمستشفيات وغيرها. ومن صالح الدولة أن تحصل على ما تصرفه على موظفيها وعلى شؤونها وإداراتها.
    وبالطبع فان الإسلام أبعد نظراً من أن يعطي لقاء ما أخذ من الضرائب عوضاً، لأنه بذلك ينقض غرضه الأساسي من فرض الضرائب وهو محاربة تضخم الثروة، حيث انه يعود المال إلى صاحبه عن طريق العوض، بل تنتقض جميع تلك الفوائد التي عددناها لفرض الضرائب، حيث لا يبقى من المال ما يوزع على الفقراء أو يصرف في شؤون الدولة بعد أن ينفق في تسديد الأعواض.


    23

    وختاماً أرجو مخلصاً، أن لا تكون قد سئمت من هذه الجولة التي تجشمت عنائها، ولك الشكر أثناء تجوالك في ربوع إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن الفرنسي. لأني اعلم انك صادفت في أثناء جولتك هذه ما يهز القلب، ويخاطب العقل، ويسيطر على الضمير، وينبع من الفطرة والوجدان، من تعاليم إسلامية حكيمة، وأحكام إلهية عادلة، واطلعت على بعض صفات الفرد المسلم، وسمات الدولة الشرعية الإسلامية. ورأيت وجهة النظر الإسلامية في حقوق الإنسان والمواطن، وما يبديه الإسلام في سبيل ذلك من توجيه وإرشاد يرقى بالإنسانية إلى السعادة والكمال. ورأيت بشيء من التفصيل البون الشاسع بين هذا الإعلان الفرنسي ذي الصبغة البرجوازية الضيقة، وبين الدستور الإسلامي الخالد العادل، وما فيه، من سعة أفق وعمق تفكير وحكمة بالغة.
    كما اطلعت بوضوح على مدى السعادة التي تكتنف البشرية لو اتبعت أحكام الإسلام وطبقت تعاليمه وإرشاداته، وسارت الإنسانية في حل مشاكلها وتصريف شؤونها تحت ظل لوائه الوارف لكي ترقى في مدارج الكمال والسعادة والرفاه والخلود.
    كما اطلعت على رأي الإسلام في جملة من الآراء التي يتبناها الفكر الحديث، كالحرية والديمقراطية والتمثيل البرلماني والعقد الاجتماعي، إلى غير هذه المفاهيم، ووجهات النظر التي حاولت بإخلاص عرضها عرضاً موضوعياً، ثم نقدها على أساس إسلامي صحيح، لكي يتبين الفرق بين الأفكار البشرية الضيقة وبين الدين الإلهي الخالد. وغاية ما أوده هو أن أكون قد استطعت في هذا البحث أن أطلعك على بعض مزايا هذا الدين القيم الذي جاء به سيد المرسلين ورسول رب العالمين، نبي الإسلام العظيم ، والذي نشره بكّد يمينه، وعرق جبينه، وضحى في سبيله بنفسه وبنفوس آله الكرام (عليهم أفضل التحية والسلام)، وبنفوس كثير من أتباعه المخلصين.
    وهذا إنما يضحي في سبيل الله الذي خصه بالرسالة، وحباه بالكرامة في سبيل هذا البشر ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهيدهم إلى الصراط المستقيم.
    أرجو من الله العلي العظيم أن ينظرني بعين رضاه ورحمته، وأن يوفق الإسلام والمسلمين بما يحب ويرضى، و أن يجعل هذا الجهد المتواضع قربة خالصة لوجهه الكريم، انه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
    دعنا قبل الوداع نرتل معاً بخشوع، قوله عز من قائل: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (1).


    محمد الصدر
    النجف الأشرف ـ العراق
    1/8/1382
    21/12/1962

    http://momehhidonne.temp.powweb.com/...d2/alinsan.htm
    albasry

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني