تلعفر.. عشق التنقل بين الغزاة .. وهذه العودة العصية..!

إن رابيةً أو تلاً، مثل تلعفر شمال العراق وغرب الموصل، يحتضن حوالي ثلاثمائة موقع أثري له عمقه في التاريخ واسمه المتداول في كل أزمنة الحضارة العراقية، وما شهرته الإعلامية هذه الأيام إلا لحدث طارئ في حياة هذا التل أو تلك الرابية وما احتلته من مكانة في كتب التاريخ والمذكرات، وما شهدته قلعتها الحصينة من أحداث، آخرها كان قتل القائدين البريطانيين ستيوارت وبارلو خلال ثورة عارمة حزيران 1920. إلا أن الثورة حصرت هدفها في تمليك عبد الله بن الحسين عرش العراق، فانتهت في يومها الخامس إلى تدمير المنطقة، أما زعماء الثورة وهم متسللون من سوريا الشريفية وتركيا الكمالية ، فحصلوا على زعامات ببغداد فيما بعد مثل ياسين الهاشمي وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي. وخلال أيام الثورة الخمسة توج قادة الثورة انتصارهم باسترداد القلعة من البريطانيين في الخلاف على خزينة القلعة ومقدارها 750 ألف روبية وخمسين ليرة ذهبية فقط، بينما ثلاثة جنود بريطانيين ظلوا متحصنين يقتلون مَنْ يحاول الصعود إليهم.

كان اسمها الآشوري، حيث القرب من نينوى، نمت عشتار، وتل عشتار، ثم عرفت بيعفر، وتل أعفر، وتل يعفر، وتل يعفور، ووردت عند البلاذري في فتوح البلدان بتل عفراء، وقلعة مروان، نسبة إلى أمير الجزيرة مروان بن محمد، وحسب الحموي في «معجم البلدان» قالت العامة لها تل أَعْفَر، وقالت الخاصة تل يَعْفَر، وأخيراً للسهولة استقر اسمها لفظاً وكتابة بتلعفر. ومعنى الاسم لا يخرج عن لون التل المغمبر أو الترابي، ولا أدري لماذا لم يُفسر الأعفر بالبياض أو الإحمرار؟ وأن البلاذري عندما قال تل عفراء قصد به تل البيضاء مثلاً.

أصبحت تلعفر بعد دخول الجيش الإسلامي إلى الجزيرة والموصل السنة 18هـ، على يد عياض بن غنم، مسرحاً للعديد من الأحداث منها الحرب بين الأمويين والخوارج، لأنها الطريق بين الموصل والشام، وبهذا السبب، وحسب تاريخ أبي مخنف لوط بن يحيى مر بتلعفر إلى الشام حملة رأس الإمام الحسين بن علي ومرافقو موكب السبايا من آل بيته، وهي ثلة من الجيش الأموي، بعد أن شعروا بخطورة دخولهم الموصل، فهناك مَنْ حضر لأخذ الرأس منهم، وقتلهم ثأراً للحسين. ومنذ زمن غابر وإدارة تلعفر تتنقل مع الموصل من عهد إلى آخر، فهي حمدانية وأتابكية وإيلخانية وجلائرية ثم تحت سيطرة دولتي الخروف الأسود والخروف الأبيض التركمانيتين، وبعدها السيطرة العثمانية. ورغم هويتها التركمانية وطول السيطرة التركية عليها إلا أن وجهاءها فضلوا بغداد على استانبول بعد استطلاع آرائهم من قبل لجنة عصبة الأمم المتحدة في شأن ولاية الموصل (1925).

ظلت قلعة تلعفر منيعة على الغزاة، فكم قائد عثماني صدته بجدارها، إلا أن جاء محمد باشا انجه بيرقدار (1841م) فدخلها وقتل وسبا مَنْ فيها، وكانت فاجعة حقيقية للمدينة، فأنهى سلطتها المحلية بتأسيس إدارة عثمانية فيها، وسبب الغزو هو امتناع التلعفريين من الانخراط في الجندية العثمانية المعروفة بالسفر برلك، والمجند فيها لا يرجو العودة إلى أهله، فيقتل أو يتيه في نهايات الإمبراطورية العثمانية الشاسعة. قيل أن حملة بيرقدار أنهت أي مظهر لأي لغة أخرى ما عدا اللغة التركية، وحتى قبيلة الأعافرة، الذين يدعون الأصول العربية يعترفون أنهم يتكلمون التركية.

لم يغفل التاريخ انتماء تلعفر التركماني بشكل عام، مع وجود قبائل كردية وأخرى عربية في محيطها، رغم الاختلاف في تحديد بداية عصرها التركماني، فمنهم مَنْ يعتبر سكانها من بقية المغول، الذين قدموا مع هولاكو وسيطروا على الموصل وتلعفر بعد أربع سنوات من اجتياح بغداد (656هـ)، والبعض الآخر يرى سكانها بقية من جيش تيمورلنك (796هـ)، والبعض الآخر قال إنهم من أتباع السلطان العثماني مراد الرابع، الذي استرد العراق إلى السيطرة العثمانية من الصفويين (1638م). وما عزز تركمانيتها لغة هو كما قدمنا تشدد القائد العثماني بيرقدار. فأي كانت الأسباب فتلعفر ما زالت تركمانية لغة، أما مذهبها فهو الغالب المذهب الشيعي. ويشير إحصاء 1947 الى أن فيها 154 مسيحياً، وتحدث المؤرخون عن وجود كنيسة أو دير قديم فيها. أما قبل العصر المغولي أو التركي فذكر أنها كانت من ديار قبيلة ربيعة العربية، ذكر ذلك المسعودي وهو يتحدث عنها كمحطة للخوارج في حربهم ضد الدولة الأموية.

الغرابة أن شيخاً تلعفرياً من قبيلة اليعافرة أو الأعافرة، التي تزعمت المدينة فترة طويلة، يدعي في كتاب له «تاريخ تلعفر قديماً وحديثاً» عدم وجود نسبة بين اسم قبيلته وتلعفر، فمحمد يونس السيد عبد الله بن وهب يرى أن اسم قبيلته هو الجعافرة، نسبة إلى الإمام جعفر الصادق، وأن لفظ الجيم ياءً كما جرت العادة هو سبب هذا الإشكال، لكنه لا يجد أحداً يصدقه بهذه الدعوى، فذهب إلى آية الله السيد محسن الحكيم بالنجف واستصدر منه تصديقاً يثبت نسب قبيلته الشريف وتشيعها، ومعلوم أن مرجعية النجف لا ترد طالب فتوى تقتنع بدعواه، جاء فيها: «لا ريب في صحة هذا النسب الشريف المنيف، ومطابقة هذا السواد لأصله المعتبر زاد الله تعالى في شرف هذه الأسرة الكريمة، ووفقها للسير على منهاج آبائه الطاهرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم» (حرر 1386هـ 1966م). وكذلك حرر علماء دين نجفيون آخرون تصديقات بأصل الأعافرة الشريف، ومنهم نجل السيد محسن الحكيم السيد يوسف الحكيم، والسيد محمد تقي بحر العلوم، والشيخ أغا بزرك الطهراني على اعتبار الأخير من أبرز مؤرخي الشيعة المعاصرين، ظهر ذلك في كتابه «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» بخمسة وعشرين جزءاً.

وربما تزداد غرابتنا إذا علمنا أن قبيلة اليعافرة أو الجعافرة الشيعة قدموا خدمات جليلة للسلطان مراد الرابع في حربه مع الصفويين الشيعة، فقد حرسوا له الطرق ومدوه بالفرسان والمؤن، واحتسب لهم هذا في تسليم حكومة تلعفر لهم، وظلت بأيديهم حوالي مائتي عام، حتى جاء محمد باشا بيرقدار وانتزعها منهم بالقوة. تبدو الأُصول التركمانية هي التي تدفع تلعفر إلى الموقف مع العثمانيين كلما يطرح الخيار بين المحتلين، وهذا ما حصل في ثورة العشرين، فبعد دخول القائد البريطاني لجمن تلعفر، وخضع له قائمقامها محيي الدين بك بمجرد أخرج له وثيقة تنازل والي الموصل، عاد التلعفريون إلى الثورة المؤيدة من تركيا، التي تنتظر اقتطاع الموصل بالكامل لها، بينما وقف كل المطعونين من قبل السلطة العثمانية مع البريطانيين.

دخل لجمن تلعفر برفقة أمير الملة الأيزيدية إسماعيل بك جول، وعانى التلعفريون من تعسف أمير سنجار الأيزيدي حمو شرو، الذي قيل انه أتلف سجلات الدولة العثمانية في داوئر سنجار، والسبب في هذا التصرف هو المذابح العثمانية التي طالت الأيزيديين، فحصل مرة أن رفع الجيش العثماني ثلاثمائة رأس أيزيدي إلى استانبول، ونبشوا قبر شيخهم المقدس الشيخ عادي في وادي لالش من شيخان.

تبدو تلعفر لكثرة احتضانها المزارات والأضرحة بلدة روحانية، ساعدها في ذلك عزلتها بين سلسلتين جبليتين، واحدة تتصل من الغرب بجبال سورية وأخرى تتصل بجبل سنجار. فلا يمر يوم من السنة إلا ولها احتفال وعيد محلي بأحد أوليائها، من مراقدها: مرقد خضر الياس، الذي يشترك فيه تقديره العراقيون كافة، ومنهم الأيزيديون، وقيل كان ديراً قديماً، يزار كل يوم 19 من فبراير، وهو متزامن باحتفال المنطقة بتوديع الشتاء واستقبال الربيع. وللإمام علي بن أبي طالب قبة هناك، وقد اختلف التلعفريون في سبب وجودها بين أن الخليفة الرابع قد مر بتلعفر، وبين أن أحد الميسورين رأى في المنام رؤيا جعلته يشيد هذا المقام.

هذا موجز لقصة مدينة عرفت بلون تلها أو قلعتها، ورغم آلاف السنين وتلعفر طريق للجيوش ومأوى للحضارات، ظلت بعيدة عن الأضواء لا تذكر إلا بتينها ورمانها. عادت اليوم بحدث عصي على التفسير، وكأنه خرج من مخبأ تاريخ قلعتها. فإن كان حدثا الفلوجة والنجف واضحين للعيان، فما زال الغموض يكتنف ما يحدث بتلعفر، وهو بين روايتين، الأولى تقول: أخبر الأهالي السلطة العراقية أن غرباء مسلحين ملثمين، يخشون اعتراضهم، يجوبون محلاتهم وقراهم، وأصبحوا ينهون ويأمرون، وإنهم دخلوا من غرب المدينة المفتوحة عبر ممرات جبلية إلى سوريا، وهذا يفسر تصعيد اللهجة الأمريكية مع السوريين في شأن العراق، والثانية ترى وراء الحرب على تلعفر معلومات خاطئة وصلت الجيش الأمريكي، وما هي إلا دسيسة قومية، تحاول بها بعض القوى الكردية التأثير في تركيبة المنطقة السكانية.

لكن السؤال هل يحتاج التأثير في تركيبة سكان تلعفر، الذين استبدلوا تحت الضغط البعثي سجلهم القومي التركماني بسجل عربي، إلى حرب، وهل ستجبرهم الحرب على تغيير سجلهم مرة ثانية من العربي إلى الكردي، وهم ينطقون التركمانية؟ يبقى التفسير الأخير خال من الصحة حتى يثبت على أرض الواقع. أما واقع الحال هو تمترس قوى ملثمة تحاول عرقلة استقرار وإجراء انتخابات وتطبيع أوضاع العراق بعد شذوذ ما بعده شذوذ، أما أمر تحرير العراق من قبل عشرات الجهات المسلحة فمطلب معلن لكنه ليس المراد في كل الأحوال. ويبقى سؤال آخر ليس لدي إجابة له، ألا وهو هل تصح عودة التاريخ بهذه الدقة والتحديد بالأمكنة والمناخات السياسية، ففي العهد البريطاني (1918-1920) يبدأ الاضطراب بتلعفر فالنجف فالفلوجة، وفي العهد الأمريكي (2003-؟) يبدأ الاضطراب بالفلوجة فالنجف فتلعفر؟

* كاتب وباحث عراقي
24/9/2004

/الشرق الأوسط