كذبتان بحجم الفاجعة...غازٍ محرر وديكتاتور مقاوم
عبد الحسن الأمين الحياة 2003/03/30
كذبتان بحجم الفاجعة: "الغازي المحرر" و"الديكتاتور المقاوم". فلا يعادل الغزو الاميركي للعراق فظاظة إلا الظهور الصدامي بلباس الطهر والدين. وإن لم يكن لهذه الحرب من عنوان سوى عنوان الغزو والاحتلال، فلا بد من الاعتراف بأن المسؤولية في وقوعها قد تكون متساوية بين طرفيها الصدّامي والبوشي. ولايقلل من مسؤولية كل منهما الشعارات التي يطلقها الاعلامان التابعان لهما بصورة مباشرة وغير مباشرة.

لكن لماذا وقف العالم عاجزاً امام اصرار الطرفين على الذهاب الى الحرب، بديلاً للقبول بالحلول الاخرى للأزمة العراقية.

من الواضح أن الحرب قامت بالضد من إرادة شعوب العالم. هذه الارادة التي عبرت عنها موجة التظاهر المتواصلة في عواصم العالم ومدنه المختلفة. كما عبرت عنها مناسبات التصويت في اكثر من برلمان اوروبي. والحرب قامت بالضد من إرادة معظم حكومات العالم. وظهر ذلك في اروقة الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي والاتحاد الاوروبي وكذلك في المنظمات الاقليمية الاخرى: دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الاسلامي وجامعة الدول العربية.

ومن الواضح أن اهداف الحرب المعلنة من الجانب الاميركي، مثل نزع اسلحة الدمار الشامل وكذلك تغيير النظام في العراق، اهداف تتشارك فيها مع الولايات المتحدة اطراف دولية عدة وأوساط شعبية واسعة بما فيها الاطراف المعارضة للحرب، حتى ان كثيراً من الاطراف الدولية كان لايستبعد خيار الحرب نفسه ولكن كخيار أخير لتنفيذ هذه الاهداف.

على جانبي "الميدان" رواية تتسم بالمرارة من الحلفاء قبل الخصوم. ففي واشنطن يقال إن بداية الارباك للخطة الاصلية التي كانت معدة لغزو العراق، تمثلت باستدراج إدارة بوش عبر اللجوء الى مجلس الامن مع وعد بالتأييد لخطتها من الحلفاء الاوروبيين.

وفي هذا الاطار صدر القرار 1441 وتحددت فيه جداول زمنية بعد انتهائها يتم، آلياً او بعد التصويت على قرار جديد، اللجوء الى القوة.

والنتيجة ان واشنطن بعد ان كانت تجر العالم وراءها بخطة تملك حرية التصرف بها وحدها، اصبحت تجري وراء دول كبرى وصغرى تستجدي صوتها في مجلس الأمن. وفي خضم هذا الحوار الدائر حول هذه الحرب ومشروعيتها، غرقت شوارع العالم بذلك الطوفان التاريخي من حركة الاحتجاج غير المسبوقة على حرب لم تكن قد وقعت بعد. وبالتالي، ازداد موقف واشنطن حراجة بتأزم مواقف حلفاء كانوا في السابق بمثابة الحلفاء المضمونين: من المانيا الى تركيا ومن انغولا الى المكسيك، واصبحت واشنطن كمن وصل الى منتصف الطريق: العودة ومواصلة السير كلاهما مكلف وغير مضمون النتيجة. وتحولت الخطة المدروسة الى اشبه بمغامرة غير محسوبة.

وفي الجانب العراقي، الرواية "حامض حلو" كما يقال في المثل الشعبي تدليلاً على التداخل والالتباس. فنصائح الاصدقاء والاشقاء بالموافقة على القرار 1441 بكل نتائجه والتعامل معه بإيجابية أدت، نوعاً ما، نقلت الحكم من موقع العزلة الكبيرة الى حالة تتسم بتفعيل علاقاته الرسمية وغير الرسمية في العالم العربي وخارجه، كما افسحت له في مجالات عدة الاستفادة ايجابياً من تحولات الرأي العام العالمي ضد مشروع الحرب. واصبحت بغداد "قبلة" لحركة عالمية كبرى تضم المضادين للعولمة والمضادين للأمركة، الى جانب حركات السلام وانصار البيئة ودعاة عدم العنف التي حملت جميعها، بالاضافة الى احبار الكنائس المسيحية بمذاهبها الكبرى الكاثوليكية الانجيلية والارثوذكسية، لواء رفض الحرب. هذا عدا عن مجموعات اليسار التقليدي والجديد.

مع ذلك، في ساعة الحقيقة، بدا الحكم العراقي أمام السؤال الذي يقول: ماذا ينفعني أن اربح العالم واخسر نفسي. وهكذا صعَّد من لومه للدول العربية التي لم تقف معه في حربه رغم انها تعهدت له بأن قبوله بالقرار 1441 يجنبه الحرب. والرواية العراقية تقول انه حتى المشاريع الاخرى التي تداولتها وسائل الاعلام، مثل الدعوة لتنحي صدام حسين عن السلطة، لم تقدم في اي مرحلة كمشاريع جدية انما ألقيت من باب رفع العتب.

طبعاً السائد أن القيادة العراقية لم تسمح بمجرد التطرق عربياً لمثل هذا الاحتمال، في وقت كانت تفاوض عليه دولياً. لكن استجابة واشنطن بدت غير مشجعة.

طبعاً لكل رواية رواية رديفة، إن لم يكن روايات. فعلى صعيد الادارة الاميركية هناك من يؤكد أن الحلقة المحيطة بالرئيس جورج بوش تتسم بتفكيرها الاحادي الذي يبعدها عن وعي الوقائع السائدة في العالم، وأنها ترى اميركا كلية القدرة تفعل ما تريد بالطريقة التي تريد. وأياً يكن صدق هذا التحليل وواقعيته فهو الشائع في العالم وهو الذي ساهم، الى حد بعيد، في تفعيل حركة الاحتجاج الكبرى.

أما على صعيد الحكم في بغداد فيقال إن صدام حسين لم يعد قابلاً لاعادة التأهيل، وان الصلات التي اقامها في السنة الاخيرة من حياة نظامه إنما اشتراها بكل ما تعنيه كلمة الشراء من معنى، بفضل الاحتياط النقدي الكبير الذي ما يزال يتصرف به، وبفضل وحجم المصالح العراقية في العالم والمنطقة. فالنتيجة بالنسبة الى مستقبله ستكون واحدة سواء في ظل العمل العسكري أم بالخيارات الاخرى.

المفجع ان الحرب التي أصر الطرفان على الذهاب اليها ولم ينظرا بجدية الى مخططات تجنبها، لن تلحق الخسائر بهما وحدهما. فالخسائر ستكون فادحة لاطراف قريبة من كل منهما، والخسائر هنا ستكون بالمعنى السياسي والاقتصادي كما يمكن ان يحصل مع توني بلير وبريطانيا. فيقال، مثلا، ان مشكلة بلير تمثلت بأنه نجح داخلياً لأنه مارس سياسة المحافظين بحزبه العمالي جديد، لكنه فشل على الصعيد الأوروبي والدولي لأنه مارس سياسة المحافظين بحزب العمال القديم. والامر نفسه ينطبق على دول عربية افتقرت الى قيادتها التاريخية التي كانت تعرف مداخل المواءمة بين التمسك بالمبادىء او الثوابت وبين الممارسة البراغماتية التي تفرضها التطورات والتحولات المحيطة.

لكن الخاسر الاكبر سيظل العراق: الدولة والشعب. فالعراق دفع ثمن صعود صدام حسين ويدفع الآن ثمن سقوطه او اسقاطه. والكلفة قد تكون عالية فتطيح البلد نفسه.

مقابل اكذوبة "المحرر الغازي" يرفع البعض "دوغما" المقاومة الاستشهادية. ومقابل اكذوبة "الديكتاتور المقاوم" يطرح آخرون "دوغما" الحكم الديموقراطي. وقد ينسى هذا وذاك او يتناسيان ان مثل هذه الشعارات والممارسات قد لاتؤدي، في الحالة العراقية، إلا الى الانزلاق على طريق التفتت والصراعات المتحركة، وهو انزلاق إرادي وغير إرادي حتى من قبل الذين يرفضونه.