[align=center]ذاكرة امرأة عراقية: أم عمار تترك الباب مفتوحا بانتظار عودة زوجها الذي اعدمه نظام الطاغية . . أمنية صعبة ان يكون لزوجها قبر تزرع حوله الورود ، وتزوره كلما ضاق صدرها [/align]

شذى الشبيبي

تفتح صفحة النصف الآخر، نافذة لذاكرة المرأة العراقية المناضلة كي تكتب تاريخ وقفتها المشهودة والنادرة في تاريخ النضال السياسي للشعب العراقي بكل تياراته السياسية والفكرية التي قارعت حكم الطاغية وقدمت المرأة العراقية على مذبح حريتها ثمناً باهظاً شهيدة وسجينة ومنفية، نساء من طراز خاص تحدين إرهاب الدولة وصرخن عالياً بـ(يعيش العراق) وهن متوجهات إلى ساحة الاعدام أو حبل المشنقة، وتحملن كل عسف وألم زنزانات النظام المقبور. امراة عراقية أخفت زوجها وأبنها واخاها وحبيبها بل وجارها، عن أعين فئران الزيتوني البؤساء هذه المرأة مطلوب منها ان تكتب هذا التاريخ الحقيق للمرأة العراقية لا تاريخ اتحاد النساء وحفلات نادي الصيد! النصف الآخر تفتح هذه النافذة.


ابتسامة خفيفة لا تتجاوز جبال الهم والحزن التي احاطت بوجه السيدة (أم عمار) صفية عيسى العلاك وهي تطلق لذاكرتها العنان لتسرد حكاية اعوام الشدة، كان صعبا عليّ ان امنع دموعي وانا اراها تتحدث بحرقة والم عن زوجها الشهيد (فاضل وتوت) الذي كان وما زال اسمه علما للشجاعة الوطنية في (الحلة الفيحاء).
تقول ام عمار: منذ غيابه وانا اشعر ان شيئا ينقصني وينغص حياتي ويهد قوتي، ليس ضعفا وانما هو وجوده معنا لانه كان الاب والزوج والصديق وكل ما املك في هذه الدنيا، فقد تزوجت مبكرا (دون سن العشرين) من هذا الرجل المثقف الوطني الشجاع، وكانت حياتنا تصدح بالمحبة والسعادة ولم تكن مطالبنا صعبة في هذه الحياة، فقط كنا نريد او نحلم ان نعيش حياتنا (سوية) ولو على كسرة خبز لنربي ولدينا (عمار) و(فرات) على حب الارض والاعتزاز بشيء اسمه القيم والكرامة كان فاضل فاضلا اسماً وخلقا، فحياتي القصيرة معه كانت حلما جميلا لم يطل إن (فاضل وتوت) هو جرحي الذي لم يندمل وهذه الاعوام الطويلة التي جاوزت الخمسة والعشرين لم تقنعني بأنه بعيد عني لانه الامل الذي عشت عليه.. وكلما تضيق بي الحياة اراه في ذاكرتي يعيش معي لحظة بلحظة ويساعدني على تجاوز المحن والصعاب التي مرت بي طوال فترة غيابه، يوجهني ويضئ العتمة التي خيمت علي حياتنا بعده.. اتذكر احاديثه دائما واستحضر وصاياه، ووجهه لا يفارقني دائما وفي كل المواقف حتى الصغيرة.
"لو اجتمع ظلام العالم كله لما استطاع ان يطفيء شمعة.
مقولة كان يرددها (ابو عمار) دائما لكي يشد بها عزمي ويبث (بي) الامل حيث كنت قليلة الخبرة بحكم السن ولم ادر ان صعوبة الحياة ومتاعبها ستقصهم ظهري بهذه الطريقة القاسية.
في عام 1978 اعتقل زوجي (فاضل وتوت) وكان عمر ابني البكر اشهراً معدودات، لم اذق فيها النوم ولا الطعام، لا ادري ماذا افعل كنت في تلك الايام اخشى البكاء لاني اشعر ان عينيه تراقباني وروحه العالية تمنعني من الضعف، فهو المربي الاول وهو استاذي الفاضل، ولم افقد الامل في عودته في اية لحظة، كنت اود لو اني اترك الباب مفتوحا حتى في الليل انتظر عودته.. حتى طفلي كنت اتمنى لو انه لا يبكي فيشوش علي سماع خطواته تقترب من باب الدار.. كلّي آذان صاغية، اعصابي مشدودة اخاف حتى من انفاسي، ابحث عن السكون كي لا ينقطع حديثي مع نفسي واطرد مجرد فكرة مرعبة تراودني لانني لم استوعب حياتي بدونه.
في ساعة متأخرة من الليل في احد الايام كان صغيري يبكي في سريره، سمعت صوت المفتاح في الباب، فقفزت من مكاني، اخذتني رجفة لا اعرف ماذا افعل، انها خطوات (ابو عمار) على عتبة الدار، انها فرحتي المخنوقة، فرحة اخاف ان افرحها، تفيض عينا (ام عمار) بالدموع وتقاطعها عبراتها وتستطرد حيث قبل ان استقبله اضعت الكلام وركضت نحو غرفة عمتي (والدته) لأوقظها بطريقة هستيرية لم اكن اصدق ما اراه، زوجي عاد لنا واحساس غريب ما زال يتحكم بمشاعري كيف امسك بفرحتي هذه لانها ستهرب مني قريبا.. شعور غريب وهاجس مرعب الخوف من فقدان الغالي هو اقسى من الفقدان ذاته. هذا كان هم سيدتنا (أم عمار) الخوف مما يخفيه لها الزمن الردئ وهذا ما اكده لها (الشهيد الفاضل) فيما رواه لها حين اعتقاله وما حدث معه.
لم ينم تلك الليلة صارحها بأن متاعب كثيرة تنتظره وخوفه الاكبر كان زوجته فقد تستغل كورقة ضغط عليه كان الشهيد قد فهم الوضع خلال فترة توقيفه، وكان لا بد من ترك البيت بل والمدينة كلها، الى أي مكان آخر ما بين بغداد والمحافظات متخفياً من بيت لآخر في وقت كانت (أم عمار) حاملاً بطفلها الثاني ووضعها الصحي والنفسي لا تحسد عليه. تلفها الحيرة ولا تدري (أم عمار) كيف تصف حالها يومئذ حيث اضطرت فيما بعد للعودة الى بيت اهلها في الحلة كحل مؤقت.
بعد ذلك تم نقل زوجها (فاضل وتوت) من التدريس الى معمل (الكولا) وهي من ضمن قرارات (الثورة) في تلك الفترة كاجراء (لتنظيف) السلك التدريسي من (الوطنيين) تتذكر ام عمار جيدا ضحكته وهو يحدثها عن الشرطي الذي يرافقه في الذهاب والاياب.
تذكرت بمرارة كيف انها ذات مرة في بيت اهلها وقد جاء زوجها الشهيد خفية عندهم وسمعوا صوت سيارة شرطة فظنوا انها جاءت لهم فتسلق السياج نحو الجيران وتبعته وهي حامل في شهرها الاخير، لا لشيء سوى انها ارادت ان تشارك زوجها في موقف رأته صعبا في حينها.
في احد الايام في العام المشؤوم تقول ام عمار، ذهب الى الدوام كعادته وحينما اقترب موعد عودته بقيت عيني تترقب الباب، هذا الموت، الموت الذي كنت اعيشه والهاجس المرعب الذي لم يغادرني، ولكن هذه المرة جاء زملاؤه في (الكولا) واخبروني بأنه لم يذهب ذلك اليوم الى الدوام، تقول: صمت ولم اقل شيئا بل لم اجد ما اقوله وكأن نارا صبت فوق رأسي، صفقت الباب ودخلت بيتي.. هيبته وحضوره وحبي له، اشياء لم تسمح لي بالصراخ، جنّ جنوني بيني وبين نفسي صرخت بأعلى صوتي هذه المرة هي المرارة الحقيقية والفراق الابدي، الان فعلا حل الظلام في حياتي انا وولدي الصغيرين، فقدنا الاب الحنون والرجل الحقيقي (فاضل) كان يجب علي رعاية طفلين عمار عمره سنتان والصغير فرات ثمانية اشهر كان يجب ان اتكيف مع مأساتي وحياتي الجديدة، مصير زوجي المجهول وصراع في داخلي يكاد يقتلني واسئلة الطفلين المستمرة عن ابيهما تخنقني و(احتار) بالجواب.. مرت سنوات والدنيا بثقلها ملقاة على صدري.. لطالما ناجيت الله في الليالي الطويلة ان يصبرني على محنتي ويعينني، فعذابي كان يكبر عاما بعام مع ولدي وهما يكبران والاسئلة تكبر وحاجتهما للأب لا تعوض..
ما زالت (ام عمار) تحتفظ برسائل الزوج البعيد التي كان يكتبها لها حين كان قبل الاعتقال وبرغم السنين واصفرار الورق فهي تعتز بها ربما تقرأها كل يوم وباستمرار رسائل ضمت فوق سطورها اشواقاً وذكريات وتوصيات واحلاماً جميلة بقدر ما هي نبيلة حيث يقول لها في احد رسائله: سوف نلتقي انت وانا، ونكوّن عائلتنا الصغيرة، وسوف يكون لنا بيت صغير وبسيط ونظيف وهادئ قائم على الحب والفرح، والسعادة).
وفي الرسالة نفسها يخبرها (ستفخرين بأطفالك مثلما انا افخر بك سيكون اطفالك التاج الذي تضعينه على رأسك مثلما انت التاج الذي اضعه على رأسي..) رسائل احتفظت بها وحفظتها اعن ظهر قلب.
اتصلوا بي، كنت مستعدة ان اذهب الى الجحيم لكي اعرف خبراً عن (فاضل) وابلغوني بقرار اعدامه عام 1983 وكان معي عمي (والده) لم اقتنع بكلامهم وحدثت مشادة بيني وبينهم حيث كان دم الشباب ساخنا بعروقي ولا اعترف بالخوف وما زال وجه (فاضل) يرافقني ويبث (بي) القوة، تمنيت لو اطبق بكلتا يدي على رقبة ذلك الضابط لانه لا يمت للرجولة والانسانية بصلة ولكن عمي الرجل المسن أخذ يهدئني حينما سمع من كلام ذلك ما سمع وهو يهددني (اذا ما تكفين لسانج اذبّج جوه) كان قد غادرني خوفي نهائيا خاصة حينما رأيته يملي علي شروطه ويحذر من اقامة الفاتحة امسكت بيد عمي وعدنا الى الدار يتكئ احدنا على الاخر، لم اعترف ولم اصدق كلمة مما قالوا واعتبرته مجرد تخويف.. اعدام يعني جثة وانا لم اتسلمها والاعدام يعني ذنباً كبيراً وزوجي اشرف منهم وهذا ما قلته لهم.
بعدها اعتزلت نفسي عن العالم وكرست حياتي ووقتي لاولادي يعينني في العيش عمي (ابو فاضل) وبرغم حب اهلي لنا واستعدادهم لمساعدتي لم افكر بترك بيتي مع ان الايجار اثقل كاهلنا لا ادري قد يكون هو الامل بعودته او انه احساسي بأن فاضل اكبر من ان اغلق بيته، يجب ان يبقى اسمه مميزا وواسعا بوسع قلبه الممتلئ بالايمان بكل الاشياء التي احبها ودفع حياته ثمنا لها.
مرت اعوام تحملنا فيها الكثير وفقدنا فيها اكثر حتى عاد عم اولادي من سفره البعيد وعوض ابنائي عن حب وحنان الوالد المفقود.
طوال تلك السنين كنت اراجعهم واستفسر بلا جدوى حتى عام 1991 قدمت طلبا استفسر فيه عن مصير زوجي ولان اطفالي طردوا من المدرسة بحجة شهادات الجنسية وهكذا استحصلنا على شهادة وفاة.
تسترسل (ام عمار) في ذكرياتها وتقول: فرحي مبتور وسعادتي لا تكتمل برغم نجاح اولادي واراهم امامي شبابا تخرجوا وحققوا املنا، لكن هناك حرقة وغصة تبقى في صدري، فقط اريد ان اعرف وهذه امنيتي الوحيدة، كيف مات زوجي؟ لطالما تمنيت وتخيلت ان يزورني شخص ما التقاه بالمعتقل او يزودني بمعلومة ولو صغيرة عن ايامه الاخيرة او شيء مما قاساه..
امنية اخرى لدى السيدة (صفية.. ام عمار) ان يكون لزوجها قبر تزرع حوله الورود وتزوره كلما ضاق صدرها.
وتسألني هل من المعقول ان نحسد الناس على قبور موتاهم؟ وقصيدة الشعب تقول (حتى على الميتين محسودين).
اسئلة كثيرة تدور برأس (أم عمار) كيف استشهد (فاضل وتوت).. ما الطريقة التي تمت تصفيته بها؟ معاناته في ساعاته الاخيرة، وكم فاضل مات من اجل مبدأ وعقيدة وعراق حر.. سعيد؟..
وأخيرا تقول: اليس جديرا بمن سار في طريق (فاضل وتوت) وغيره من الشهداء الشجعان ان يتابعوا ويفوا ولو بزيارة قصيرة او سؤال يطيب الخاطر لعوائل الرجال الذين باعوا الحياة مكبلين واشتروا الموت احرارا لكي يمنحوا السعادة لغيرهم.
اعلان جنائزي
صورة تتوسط الحائط
عقارب الساعة
تدور.. تدور
ستبقى خارج الزمن
ترقب دوران الساعة
عيونهم ترقب قدومك!
نجم هوى
كنداء الغريب
المكان ضج بالسكون!
دموع تتدلى في العتمة
تندب صباحات
لم تولد بعد
غيوم مستمرة
فوق وجه السماء
موعد لا يكون
فرح لن يأتي
مشاعل ترفض
الانطفاء
تعلن عن رحيل
الظلام..

المدى