كثيرون هم الطلبة الذين يتنقلون بين مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والاعدادية، بينما مستوياتهم في التعامل مع المواد العلمية لتلك المراحل التي تجاوزوها تبدو ضعيفة لا تنبئ عن احتفاظهم بمعلومات كافية للمراحل التي درسوا فيها.
ويبرز ذلك من خلال الشكاوى التي يطلقها اساتذة الجامعات لدى استقبالهم خريجي الدراسة الاعدادية او من شكاوى مدراء الدوائر التي يعمل فيها عدد من خريجي المدارس... او من المدرسين والمعلمين..
وما دام الكل يجمع على ان الطالب والتلميذ في المرحلة الحاضرة ليس مثلما كان طالب ايام زمان، في متابعاته الطوعية للعلوم فضلاً عن تلقي دروسه ومواظبته على ارتشاف المعارف المختلفة، فما هي اسباب تدني مستوى التعليم التي اضحت ظاهرة جلية في وقتنا الحاضر.. أهي المدرسة ام المدرس.. ام الطالب.. ام البرامج التعليمية والتربوية.. ام انه عدم جدوى العلم والتعليم وسط مجتمع يطمح المرء فيه لان يسد رمق عائلته ويوفر مستوى لائقاً من المعيشة لاهله...
عبدالرزاق صكر ـ معلم مادة اللغة الانكليزية ولديه خبرة اكثر من 25 عاماً في مجال التعليم: قال: اعتقد بان مسؤولية تدني مستوى التعليم يتحملها طرفا العملية التعليمية وهما المعلم والتلميذ فالمعلم ما زال يعاني من الظروف نفسها التي كان يمر بها في عهد النظام السابق اذ ان قوانين العلاوة والترفيع والتدرج الوظيفي هي نفسها بحيث انه يبقى معلماً الى ان يحال على التقاعد او يتوفى، صحيح ان الراتب تحسن بعض الشيء الا انه لا يكفي لسد متطلبات الحياة العصرية.
ونتيجة الطوق الذي فرض على العراق بحجة الحصار، ظل المعلم متخلفاً عما يجري في دول العالم من تطور هائل في وسائل التعليم الذي قطع اشواطاً طويلة في هذا المجال بينما ما زلنا نستخدم العصا والعنف مع التلميذ، الذي يعاني كذلك من ظروف اجتماعية واقتصادية انعكست سلباً على مدى اقباله على التعليم حتى شهدنا حالات التسرب من المدرسة وازدياد عدد الأميين الى جانب النتائج المتردية التي تظهر في اغلب المراحل الدراسية، لذلك يجب عمل دورات تقوية في داخل العراق وخارجه للمعلمين فضلاً عن دراسة اوضاع الطلبة والتلاميذ وتنفيذ الاجراءات الكفيلة بعودة المتسربين من الطلبة والطالبات.
ولا ننسى ان نشير هنا الى الخلل الواضح في المناهج، صحيح هناك بعض التغيير فيها الا انه لا يفي بالغرض المطلوب، واعتقد بانه يجب اشراك المعلمين المتميزين من ذوي الخبرة في وضع هذه المناهج لكي نعرف ما يحتاجه الطالب وما لايحتاجه.
* هل يمكن اعتبار الابنية المدرسية سبباً مضافاً ادى الى تردي اوضاع الدراسة؟
ـ مدى العناية بالمدرسة امر في غاية الاهمية، فجعلها مكاناً جميلاً للطلبة يحمل الطلبة على المواظبة غير ان ما نراه هو أنها مكتظة يصل عدد الطلبة ما بين” 50 ـ 60 “ طالباً في الصف الواحد اي ضعف العدد المفترض وجوده.. وقلة الصفوف وضيق المكان ادى بدوره الى غياب الدروس الترفيهية للطالب مثل الرياضة والرسم والنشيد وكل هذه الامور تجعل الطالب لا يحب مدرسته ومن ثم ينعكس على مستواه التعليمي... ففي السابق وبالتحديد في مدة الستينيات والسبعينيات كان هناك في كل مدرسة تقريباً مختبر ومرسم صغير وساحة رياضة والان كل هذه القاعات الغيت ولا نستطيع ارجاء اي منها.
تأنيث التعليم
حسن عبد عون الساعدي ـ مدير مدرسة الجديدة الابتدائية ـ سألناه عن الطريقة التي ينقل بها الطالب من مرحلة الى اخرى من دون اي استحقاق؟ حتى انه يصل الى المرحلة المتوسطة وهو لايعرف كتابة اسمه؟
ـ” اعتقد بان السبب الرئيس وراء ذلك هو وجود خلل واضح في طريقة منح الدرجات. ففي الصف السادس الابتدائي يوجد امتحان وزاري ولكن هناك درجة للسعي السنوي التي تدخل مع درجة الامتحان النهائي الوزاري..
ودرجة السعي غالباً ما يحدث فيها التلاعب... مما يقلل من اهمية الامتحان الوزاري. لذلك فقد طلبنا من وزارة التربية رفع درجة المعدل السنوي.
وقد تم رفعها بالفعل خلال هذا العام الدراسي.. كذلك يجب الغاء الامتحان الشفوي للصف الرابع الابتدائي لان الطالب عندما يمتحن من عشر درجات في الشفوي والذي غالباً ما يأخذ درجة عالية لايستحقها فيأتي نجاحه على حساب الامتحان التحريري بعد ان تجمع الدرجتان وتقسم على اثنين.
اما عبدالمحسن علي العبادي معاون المدير فقد اثار قضية جديدة الا وهي تأنيث التعليم فقال” يمكن القول بان هذا الامر قد اضر بالعملية التعليمية ففي مدرستنا هناك خمس عشرة معلمة لديهن اجازة، ثلاث عشرة منهن اجازة امومة واثنتان اجازة دراسية ونحن الان بحاجة الى ما يقارب عشر معلمات.
فهناك الكثير من القرارات والانظمة بحاجة الى مراجعة وبالنسبة لاجازة الامومة نعتقد بانها يجب ان تمنح لطفلين فقط. والا ماذا يعني منحها ولخمس سنوات متتالية وهناك من اخذن اجازة اطول لانه في كل سنة هناك ولادة جديدة.
وهذا بدوره يفتح امامنا قضية جديدة الا وهي قضية تنقلات الملاك التعليمي وعدم التخطيط بجدية لمعالجة مسألة الفيض والنقص الموجود في الملاكات.. اذ ان هناك مدارس لديها كوارث نتيجة النقوصات في الملاكات التعليمية وبالمقابل توجد مدارس فيها فيض كبير فمن المسؤول عن هذه المشكلة؟ ولماذا حددت مدة بداية الشهر التاسع للتنقلات اي مع بدء العام الدراسي، وهل هذه هي المدة المناسبة ولماذا لا تتم خلال العطلة الصيفية وبالتحديد في بدايتها. وعندما يتم نقل المعلمين من مدرسة الى اخرى الا يفترض النظر الى مدى حاجة المدرسة للملاكات وهل ستسد شاغراً معيناً في المدرسة الاخرى.
ذوو الطلبة .. لا يتعاونون
سعدون محسن خلف، معاون مدرسة الشفق الابتدائية قال” في السابق كانت هناك متابعة واضحة من قبل ذوي الطالب.. حتى لو كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة لكنهم يسألون عن درجات ابنهم وعن مدى انتظامه بالدوام. فهو يحاسب عندما يأخذ درجات متدنية في مادة ما..
وفي بعض الاحيان لا يستطيع العودة الى البيت خوفاً من العقاب الذي ينتظره اما الان فالطالب يعود الى البيت بكل سهولة وبدون اي قلق لانه قد امن العقاب من ولي الامر الذي يأتي ليلاً وهو مرهق من العمل نتيجة الظروف الصعبة التي يعيشها.
اذن فهناك اهمال من قبل العائلة.. وعندما نقوم باستدعاء اولياء الامور فهم لايستجيبون في معظم الاحيان وان قدموا الى المدرسة فانهم لايقدمون لنا يد المساعدة للخروج بنتيجة افضل لابنائهم. واحياناً يكون حضورهم سلبياً خاصة عندما يتدخلون بعمل المعلم ويطلبون منه انجاح أبنائهم على الرغم من عدم استحقاقهم لدرجة النجاح.. وقد يرضخ البعض لهذا الالحاح لا سيما بعد ان يتلقى تهديدات معينة..
لذلك يمكن القول بان حلقة الوصل، التي تصب في صالح العملية التعليمية، ما بين المدرسة والاسرة قد انقطعت .
ندى يوسف حميد مديرة مدرسة الوزيرية الابتدائية، تطرقت الى موضوع كان سبباً مباشراً في تدني مستوى التعليم إذ قالت” ان اهم شيء نعاني منه هو النفسية المتعبة للطالب اذ نجده وهو في عمر الورود يفكر في الحالة الامنية والانفجارات التي تحدث هنا وهناك يومياً.. وهناك من يفكر بوالده كيف يجلب لاسرته لقمة العيش).
والمدرسة اليوم اصبحت هي متنفسة الوحيد. فلا توجد هناك سفرات سياحية او ترفيهية لا من قبل الاهل ولا من ادارات المدارس.
وقد طلب منا العمل مؤخراً بنظام الدروس السبعة وهو نظام عالمي.. ولكن لا اعتقد بامكانية تطبيقه الان.. ازاء النقص الحاصل في الكثير من المستلزمات والامور لانجاح مثل نظام كهذا فنحن لا نمتلك ساحة رياضية او قاعة فنية او قاعة انشاد ولا مكتبات.. وهذا الوقت الطويل الذي يبدأ من 8 صباحاً ولغاية الثانية من بعد الظهر يفترض على وفقه وجود نظام تغذية للطالب.. ووسائل ترفيه حتى لايشعر بالجوع او الملل.. وازاء عدم توفر كل هذه الامور فان الطالب يشعر بالارهاق من هذا النظام.
هيفاء ناظم مديرة مدرسة المأمونية الاساسية للبنات قالت” اذا ما اريد النهوض بالعملية التعليمية فعلينا الاعتناء بالمعلم فهو اساس كل شيء ولابد من دورات للتقوية والتعليم يشرف عليها خيرة المعلمين في العراق اذ انها ستعطي ثماراً جيدة على المستوى التعليمي.
واعتقد بان تدني مستوى التعليم سببه عدم تحمل المسؤولية والشعور بها من قبل المعلم. اضافة الى الظروف السيئة التي يعيشها فقد كان تفكير المعلم ينصب في تحقيق النجاح في ادائه ضمن الاسرة التعليمية.
اما الان فهناك قضايا عدة تشغل باله. فهو يفكر بالقضية الامنية وبمستواه المعيشي وبالتعليم ايضاً. فتفكيره مشتت على الرغم من الجدية التي يبديها في اداء واجبه..
واضافت قائلة” انا لدي خبرة في ادارة المدارس تمتد الى اكثر من عشرين سنة واعتقد بان الذي يضر بمستوى التعليم هو كثرة تنقلات المعلمين مابين مدرسة واخرى فالمعلم لابد ان يبقى تحت المتابعة من قبل ادارة المدرسة والمشرف التربوي وليس من صالحة ولا صالح العملية التعليمية التنقل من مدرسة الى اخرى، لانه سيكون خارج دائرة الملاحظة والتقويم.
التدريس الخصوصي
كريم عبد محمد مدرس في اعدادية اليمن في الغزالية يذكر اسباباً اخرى في مقدمتها الاعتماد على التدريس الخصوصي لا سيما في المراحل غير المنتهية اذ ان الذي يحدث غالباً. قيام مدرس المادة بأخذ دروس خصوصية لطلبته بعد الدوام الرسمي مما يجعل الطالب يطمئن لمسألة نجاحه، لانه قد ابرم عقداً مع مدرسه على النجاح في المادة المعينة، وهذا ما يلمسه المدرس عبد محمد من خلال تجربته الحية مشيراً الى ان الطالب اذا ما اخذ درسه الخصوصي عند استاذ اخر فان ذلك يربكه كثيراً لاختلاف طرق التدريس. فلكل مدرس اسلوب ومنهج معين في توصيل المادة.. ويقول ايضاً: اعتقد كذلك بان ضعف الملاكات التعليمية في المرحلة الابتدائية سبب مهم لاسيما بعد ان لجأت الوزارة في الاونة الاخيرة الى فتح دورات سريعة وتخريج معلمين ومعلمات لايمتلكون الخبرة الكافية في حين ان نجاح العملية التعليمية يتطلب وجود ملاك متمكن ومتمرس في هذا المجال.
عبدالله حسن الموسوي، رئيس قسم العلوم التربوية والنفسية في كلية التربية/ جامعة بغداد اجابنا عندما سألناه اذا كان يجد تدنياً في التعليم وما اسباب ذلك فقال” لايمكن ان يقرن او يشار الى سبب واحد او معين لتدني مستوى التعليم العام الذي جاء نتيجة اللااهتمام المباشر او غير المباشر بالعلم والاهتمام بالتربية الجسدية وبناء صروح بدنية تعمل على ما كان يسمى بالحفاظ على البلد بدأ التعليم يتدرج نزولاً نحو التدني والضعف وفي هذا الامر نحن نتشابه مع دولة بنيت قبل آلاف السنين اسمها اسبارطة التي تبنت فكرة ان كل شيء من اجل اسبارطة حتى لو جاء بوسائل غير نزيهة.. وقد تبنينا هذا الامر فيما مضى فطفح كيل البناء الجسدي والاهتمام بالحروب كما شاهدنا في العقود الثلاثة الاخيرة إذ وضع العلم جانباً.. الا ان الخيرين حتى في ذلك الوقت كانوا يعملون جاهدين على ان يرفعوا من شأن العلم ولكن يدا واحدة لا تصفق. ثم ان من المهم كما ارى بصفتي تربوياً ان نتبنى امرين الاول التعليم الالزامي والثاني محو امية الكبار وان هذين الامرين مسطران في كتبنا وبنودنا وقوانيننا ولكننا عندما نأتي لعملية التطبيق لانرى اثراً لذلك فنجد ان اولئك الذين تنحصر اعمارهم ما بين” 7 ـ 17 “ او حتى دون ذلك هم الذين يعملون على سبيل المثال في كسرة وعطش والشيخ عمر وفي كل الاماكن الاخرى وليس هناك من يتابع امرهم.
وهناك سبب اخر أسهم في هذا التدني هو ان حكومة النظام السابقة وطيلة ثلاثة عقود لم تعمل على تعيين الذين تخرجوا من المعاهد والجامعات مما اضعف دافعية الطلبة في ان يكملوا دراستهم الاولية والعليا..
* والمناهج الدراسية الا ترونها تشكل سبباً اخر؟
ـ بالطبع لايمكن لنا اغفال هذا الامر فالمناهج ظلت في مكانها لا يجري عليها اي تغيير وهناك تخلف كبير في وسائل التعليم. فهل تعلمون بان العالم ما عاد يستخدم اللوحة السوداء والطباشير الذي يأكل من اصابع المعلمين.. واستعاض عنها باللوحة البيضاء. والقلم السحري” الماجك “
* وماذا عن المعلم الطرف الاخر في العملية التعليمية؟
ـ التدريسي سواء في المرحلة الجامعية او الثانوية. كان يصرف جل وقته على لقمة العيش اي ان الوقت الزائد ان كان هناك وقت زائد يعمل به بعد الدوام من اجل ان يلبي حاجات العائلة وعندما يأتي في اليوم الاخر فانه يأتي متعباً بهموم العمل الاضافي الذي لم يترك له الوقت لان يقلب مجلةً او يطلع على جريدة او على الاقل يضع خطة عمله المدرسي ومن تراه يغفو في الصف وكل ذلك يرجع الى ان سوء وتدني المرتب الذي يتقاضاه هو ما دفع به الى ان يلقي بنفسه الى ترهات الاعمال..
* ولكن هذه الظروف التي ذكرتموها الان ونسبتموها الى حقبة النظام السابق لا يزال اغلبها قائماً ؟
ـ جميل ما تفضلتم به ولكن لا بد من الاعتراف بأننا عشنا خللاً عمره اكثر من اربعين عاماً وليس ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله حالاً الى حال.
فالصف الدراسي في مراحله كلها ما زال مكتظاً والمعلم هو نفسه والمناهج في اغلبها ما زالت هي نفسها والعديد من طلبتنا يجلسون كل ثلاثة على رحلة مخصصة لاثنين او لواحد والبعض منهم يجلس على الارض.. حتى ان البعض من اطباء الكندي يشكون من ان العديد من الاطفال يأتون اليهم وهم مصابون بمرض الروماتزم..
وبالاخص في مناطق شرق القناة، فنحن نعلم من الناحية الجغرافية ان مستوى هذه المنطقة ادنى من المستوى العام بنصف متر وهذا يعني ان من يجلس على الارض هو في الحقيقة يجلس على ارض” نزيزة “ مما يعني ان الرطوبة قد تغلغلت في جسم ذلك الطفل او المراهق.
اذن ولكي نرفع مستوى التعليم في العراق علينا ازالة هذا الواقع السيء الذي يعيشه المعلم والطالب والاسرة العراقية.. اذ اني أرى ضرورة العودة لقانون محو الامية وتطبيقه بجدية.. فعندما يكون الاب والام لا يعرفان القراءة والكتابة كيف ينهضان بواقع ابنائهم التعليمي وفاقد الشيء لا يعطيه.. فعلينا مواجهة هذه الظاهرة بوضع افضليات في التعيين لصالح من يجيد القراءة والكتابة واستنباط اجراءات من شأنها دفع الاميين للتعلم.