ما أن يبلغ الفتى مبلغ الشـباب ، وما أن تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ ، حتى يضعها الوالدان في دائرة المراقبـة ، فالشـك هنا يغلب اليقين ، والظنّ يغلب الثقة . لماذا يحصل ذلك ؟
في مرحلـة البـلوغ ، يبدأ الشـاب أو الشـابّة يعيشـان نوعاً من الاستقلالية عن الوالدين وهو أمر طبيعي ، لأنّ الاعتماد على الذات أمر يجب أن يُشجِّع عليه الوالدان ، فهذه علامة عافية في شخصية الأبناء ، بل يجب أن يتسرّب الخوف إلى الوالدين إذا بقيَ أبناؤهما مشدودين إليهما على نحو التبعيّة التي كانت في عهد الطفولة ، وعليهما أن يسعيا لإخراجهم منها .
ومن الطبيعي فإنّ الاستقلال يستدعي أن يُمارس الشاب أو الشابّة بعض الأعمال التي يعتبرانها من خصوصياتهما . ولايحبّان لأحد الاطِّلاع عليها . فإذا ما وجدا أباً أو اُمّاً يُفتِّشان في دفاترهما أو حقائبهما أو في أدراجهما ، فإنّهما يمتعضان أشدّ الامتعاض ، لأ نّهما يعتبران ذلك اختراقاً لحُرمة وانتهاكاً لحق . وماذا إذا واجه أحد الأبناء أباه أو أمّه بالقول : (يا أيُّها الّذينَ آمَنـوا اجتنبوا كثيراً منَ الظّنِّ إنّ بعضَ الظنِّ إثمٌ ولا تجسّسوا )(7) ؟ هل يردّان عليـه بأنّ ذلك ليـس تجسّساً ؟ وإذاً فما معنى التجسّس إذا لم يكن هذا منه ؟ هل يقولان له إنّهما أبواه ولهما الحقّ في أن يُفتِّشا وينبشا في أشيائه الخصوصية ولا يحقّ له الاعتراض ؟ ألا يدفع ذلك الشاب أو الشابّة إلى مزيد من التكتّم
والسرِّية وارتكاب بعض المـخالفات بعيداً عن أعين الآباء والاُمّهات ، ممّا لا تجدي معه حتى الرقابة ؟!
فلماذا نُلجئهم إلى الهروب منّا والاسـتجارة بمَن هم أقلّ شـفقة ورحمة وعطفاً منّا عليهم ؟ أليسَ هذا الذي نعمله من البحـث في الأوراق والصّور والأدراج والمحفظات ودفاتر المذكّرات ، والتنصّت على الهواتف ، أسلوباً تنفيرياً ، يجعل الابن أو البنت يخشيان الوالدين كمَن يخشى عناصر المخابرات ؟!
وقد يثـير بعض الآباء احتـجاجاً : وهل نتركهم يتصرّفون كما يشاؤون وهم ما زالوا صغاراً لا يفقهون من الحياة شيئاً ؟ أليسَ تركهم وشأنهم تشـجيعاً لهم على ارتكاب المزيد من التجاوزات ، وإقامة العلاقات السيِّئة وربّما المشبوهة ؟
والجواب : إنّنا مع ( الرقابة ) ولسنا مع ( التجسّس ) ، فما هو يا ترى الفرق بين الاثنين ؟ فقد يقول بعض المربِّين أنّ ما نقوم به هو ( الرقابة ) من غير تمييز لهذه الحالة الايجابية عن ( التجسّس ) كحالة سلبية . فإذا ما عرّفـنا ( الرقابة ) وعرفنـاها ، فإنّ الشكل المرفوض لها سيتضح تلقائياً ودون عناء .
فالرقابة هي حالة التحسّس والاستشعار عن بُعد ، والمتابعة غير المباشرة لحركة الشاب أو الشابّة بما يفيد الاطمئنان من أ نّهما يتحرّكان بشكل صحيح ، وتشمل الأماكن التي يرتادها والأصدقاء الذين يُعاشرهم ، وخلواته مع نفسه .. وهي إذا انعدمت أو غابت ، فإنّها تؤدِّي إلى الانحراف والجنوح لا سمح الله ، وعلى ضوئها يمكن رسم خطّة التعامل مع الواقع والمستجدّات ، وإنقاذ الشاب أو الشابّة من المطبّات والمزالق في اللحظة المناسبة .
وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الحرية الزائدة أو غير المسؤولة قد تتحـوّل إلى فوضى ، فلا تجـدي معها المراقبـة ، مثلُها مثل الكبـت الشديد .. كلاهما يؤثِّر تأثيراً سلبياً على الشاب أو الشابّة لا فرق .
وكلّما أحسنَ الأبوان المراقبة ، كانت النتائج أطيب ، وهي ليست كما يتصوّر البعض سرِّية ، فأنتَ حينما تتحدّث مع ابنك عن أصدقائه ، أو حينما تفتح الاُم الحديث مع ابنتها حول صديقاتها ، فلا بدّ من أن تكون العلاقة مكشوفة ومنظورة من قِبَل الأبوين ، لكنّ الأسئلة التفصيلية من قبيل : أين ذهبتم ؟ وماذا فعلتم ؟ ومَن كان معكم ؟ وماذا تحدّثتم ؟ يمكن أن تُطلب برواية قصّة يتشوّق الأبوان لسماعها بشكل طبيعي ، لا على طريقة التحقيق وتقديم الإفادات .
وثمّة أسلوب عملي مؤثِّر ينطبع في وعي الشاب أو الشابّة ، فالأب أو الاُم اللّذان يتحـدّثان بصراحة عن أماكن ذهابهما وساعات عودتهما وبعض ما جرى مع أصدقائهما ، قد يُشجِّع ذلك أبناءهما وبناتهما على أن يكونوا مثلهما .
وبالتالي ، فإنّنا ومهما دعت الأسباب إلى المراقبة، يجب أن لا نحاصر الشاب أو الشابّة إلاّ في حالات الخطورة القصوى التي نشعر فيها أنّ حياتهما أو أخلاقهما مُهدّدة ، علماً أنّ المراقبة والمتابعة الحكيمة سوف لن توصلهما إلى هذا الحد . كما أنّ تربية الأبناء والبنات على الضّبط والمراقبة الذاتية ، تجعلهما يُراقبان سلوكهما وعلاقاتهما جيِّداً ، وهذه هي أهمية الضـمير أو التقوى في نفوس الشباب ، فإذا ما شعرا أ نّهما مسؤولان عن أفعالهما وسلوكهما وأخطائهما ، فإنّهما سيكونان أكثر حرصاً على الانضباط والالتزام .
فتربية الأولاد منذ وقت مبكِّر ـ أي في سني الصِّبا ـ على أنّ الله سبحانه وتعالى أوكلَ بنا ملكين كاتبين : أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيِّئات ، وهما يُراقباننا دائماً ويرصدان كلّ أقوالنا وأفعالنا ، وأنّ الله بعد ذلك هو الشاهد المطّلع على ذلك كلّه ، وعلى ما خفيَ على الشاهدين ، وأنّ المجتمع مسؤول عن رقابة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تجعل الشباب يستشعرون برقابتين : داخلية وأخرى خارجية ، ممّا يُساعد في ضبط تصرّفاتهم بقدر استشعارهم أنّ ذلك لمصلحة الانسان المسلم وليس في الضدِّ منها .