المشهد هو عام 1946. والفصل الدراسي منتظم جداً. تهامس الطلبة عن مدرس الحساب ـ هذا المدرس العجوز المريض بالسكر والذي لا يسمع بأي خطأ على الإطلاق. العقاب عنده معروف وواضح. يخرج الطلاب من الصف ويقفون أمام منضدة المدرس ويمدون أكفهم ويضعونها على المكتب، ثم يضع المدرس قلماً من الرصاص مضفراً أصابع كل تلميذ ثم يبدأ المدرس بالضرب على اليد بأربعة مساطر معاً. وكان هذا العمل هو فاتحة كراهية علم الحساب بأكمله وكل ما يتعلق به، بل كان هو السبب في عدم معرفتي بما في جيبي من نقود، ولا أدري كيف نجحت في بقية الامتحانات في علوم الحساب. والسبب هو ذلك الديكتاتور الذي فهم مهمة المدرس بشكل خاطئ فأوجد عند عدد من التلاميذ ما يسمى بالكف عن التعلم والتوقف عن الفهم لما يقول. والسبب هو اختلال السكر في دم هذا الرجل، فقد صار يفهم مهمته في الحياة بشكل خاط ويعلم الأطفال ألا يتعلموا على الإطلاق. وكان من المعروف أن نسبة النجاح في الصف الذي يتولاه هذا المدرس تقل عن العشرين بالمائة.
المشهد هو عام 1975. والفصل الدراسي مليء بضجيج الأطفال، وابني هو التلميذ الصغير الذي يدخل السنة الأولى الابتدائية. فجأة، وقبل أن يخطو الطفل في طريقه إلى مكانه في الفصل، يتراجع مذعوراً باكياً، وتتقدم منه المدرسة لتلاطفه فينكمش بعيداً عنها ويتجه إلى مكانه في الفصل، وفي آخر اليوم يقول لي: ((إن مدرسة الحساب ترفض أن تجلسني في الصف الأمامي لأني أرى السبورة وهي تلمع فلا أرى ماذا تكتب عليها وتقول لي: اذهب إلى الخلف يا أعمى)).
وتنفجر إذ ذاك في داخلي نار صغيرة من شمس حارقة. إن اللعبة تتكرر من جديد. إن قسوة اللفظ الجاف تنهال على الولد الصغير لتجعله عاجزاً عن حفظ جدول الضرب. وبطبيعة الحال وجدت في هذه المدرِّسة نفس ملامح مدرِّس الحساب القديم. إنها تقسو على الأطفال ولكن بسبب آخر غير مرض السكر. إنها تقسو على الأطفال بسبب قسوة المجتمع عليها. لقد تزوجت وهي صغيرة وطلقها الزوج بعد أن ارتقى في تجارته وتزوج فتاة أجمل منها، ولأنها لا تنجب خرجت إلى الحياة تبحث عن عمل، فوجدت عملاً كمدرسة لعلم الحساب في مدرسة راقية. وكان ابني للأسف الشديد يشبه ابن زوجها من زوجته، فلذلك أخذت في اضطهاده.
لقد بدأت أفهم علم الحساب بعد أن استمتعت بقراءة تاريخ التأليف الموسيقي وحياة فاغنر، وبيتهوفن، وموزار، وسيد درويش، وأغاني الفلكلور العربية. ولم أجد وسيلة للقضاء على أخطاء مدرسة الحساب في حق ابني إلا بأن نقلت ابني من المدرسة. وبعد ذلك بدأت أحضر له شرائط أغاني فيروز فكان ينسجم تماماً مع ((ميس الريم)) ويسعد تماماً وهو يسمع موسيقى بيتهوفن، وبدأت أعلمه الحساب من خلال حساب سنوات التاريخ القديم والحكايات عن عدد الآلات الموسيقية التي تعزف وقصص عن كل أغنية وكل مسرحية غنائية.
وفاجأني ابني بموقف مختلف من الخطأ. إن أخطائي تنبع من أنني أقرأ أكثر من كتاب واحد في وقت واحد: كتاب في علمم النفس، وآخر في التاريخ، وثالث في العلوم السياسية. وبدأت أشاهد ابني وهو يرتكب الخطأ نفسه: إنه يبدأ أعمالاً كثيرة ولا ينتهي من أي عمل منها، وتذكرت أن كثيراً من الأعمال قد فسدت أو ضاعت قيمتها لمجرد الخلل الذي صار عادة، وصارت أعمالي الناقصة تتراكم على مكتبي. والشيء نفسه تعلمه ابني مني دون قصد مني. إنني أضع تحت يديه كل ألوان الكتب الملائمة لسنه، فكان يقرأ من كل كتاب صفحة ثم ينتهي إلى كتاب آخر فثالث، ورأيت أن ذلك انعكس على أسلوب تحصيله الدراسي، فهو لا يتم أبداً مذاكرة أي علم من العلوم. إنه يترك دائماً أجزاءً من كل علم. وتكون النتيجة أنه يرسب في بعض العلوم وذلك نابع من عدم إتمامه لأعماله.
في البداية ثرت في وجهه وعاقبته، ولكن أمه قامت بتنبيهي إلى أن الطفل يكرر نفس أخطائي. فلماذا أغضب منه؟
إنه لا يهتم بترتيب خزانة ملابسه ويلقي بفردة حذاء هنا وفردة حذاء هناك، ويظل كل صباح يلاحق الزمن من أجل البحث عن فردة حذاء ضائعة، تماماً كما ألاحق أنا الزمن من أجل أن أجد المفاتيح أو حافظ النقود، إني ألقي بأي شيء في أي مكان ثم أبذل الجهد الكثيف من أجل أن أجد أشيائي الضائعة.
وبدأت أرى بعيني أنني لا أربي أبني ولكن ابني هو الذي يقوم بتربيتي. لقد بدأت أضع أمام ابني نظاماً لحياتي، ومواعيد قيام محددة من النوم، ونظاماً لممارسة الرياضة قبل أن أخرج من المنزل صباحاً. وبدأت أدخل المنزل لأضع كل شيء في مكان واضح ومحدد: سلسلة المفاتيح في لوحة للمفاتيح، والجرائد في مكان الجرائد. أما الكتب فقد بدأت أضعها في المكتبة، وبدأت أضع قائمة بنظام عمل يومي. ووضعت أمامي أكثر ما أكره في هذه الحياة وهو المنبه الذي يوقظني صباحاً.
وبدأت أحسب مرتبي وأوزعه على بنود الصرف المختلفة.
وبدأت أنظم أعمالي فلا أقوم إلا بعمل واحد في وقت واحد، وبعد أن أنتهي من هذا العمل أبدأ بإتمام عمل قديم ناقص.
واكتشفت أن ابني يقلدني: صار يحدد مواعيد لكل عمل وكل شيء، وبدأ يضع الرياضة في قمة اهتماماته، وأهم من كل ذلك أنه بدأ يقرأ كتبه الدراسية ويتمها للمرة الأولى، ونجح بتفوق.
إن العلاقة بين الأب والابن تثير التأمل، إنها منافسة ـ في جانب منها ـ يتخللها حب ودفء. وكذلك العلاقة بين الأم والابنة، إنها في ناحية منها عملية منافسة، ولكنها منافسة محاطة بالحب الدافئ.
والآباء أصحاب الطموح العالي يملكون أيضاً طموحاً عالياً لأولادهم والأبناء يتفاعلون مع الطموحات العالية.
وما دام الأب يعدل في أخطائه ويصحح طموحه ويعيد ترتيب حياته بمرونة، فالابن أيضاً يتقبل إعادة النظر في الأخطاء ويتعلم فن تصحيح الطموح ويعيد ترتيب حياته بمرونة.
إن الأب الواعي لنفسه ولسلوكه وكذلك الأم الواعية لنفسها وسلوكها يستطيعان الحياة مع الأبناء بثقة، ولا يأتي القلق ليدق باب القلب إلا عندما يوجد فعلاً ما يستحق القلق، وعندما يرى أحدهما أن الابن أو البنت قاربت على الخروج عن الخط الصحيح.
هؤلاء الآباء والأمهات ينتبهون جيداً إلى أخذ الأمور دائماً في حجمها الطبيعي ولا يصنعون ((من الحبة قبة)) ولا يحومون حول الأبناء وكأنهم مجرمون صغار يقومون بالتحضير لجريمة ما. إن هؤلاء الآباء الواثقين من أنفسهم لا يقومون بالإلحاح دائماً على الأبناء بل يتناقشون معهم بهدوء وتعاون ولا يقومون بمطاردة الأبناء على لا شيء وكل شيء.
والآباء السعداء يقومون بالتفاعل مع كل ابن على أساس احترام الاستقلال والمشاعر.
إن الابن الثاني سواء أكان فتاة أم فتى ينال هذا الاستقلال تلقائياً. ومن الرائع أنه لا يصاب بالقلق عندما لا ينال الاهتمام الكافي لأنه يملك في داخله الثقة بأنه قادر على طلب المعاونة من الأسرة الواثقة من نفسها إذا ما طرأ طارئ يستدعي ذلك. وهذا أمر مختلف قليلاً عن الطفل الأول الذي قد يحس بالخوف والفزع إذا ما أحس بفقد اهتمام والده وأمه به.
ونلحظ في بعض الأحيان أن الفتاة التي تكون هي الطفل الأول في العائلة، سواء أكانت اجتماعية أم انطوائية، تخاف بعض الشيء من أن تكون مجرد دمية يديرها الآخرون. وتحيا هذه الفتاة لذلك في بعض التناقض الظاهري، فهي تحتاج إلى كمية كبيرة من الانتباه وتقاوم في نفس الوقت المصدر الذي يعطيها هذا الانتباه. إنها تخفي إظهار إعجابها قليلاً ثم تنهمر من بعد ذلك في إعطاء عواطفها، وهذا ما أنبه إليه دائماً أي خطيب لفتاة تكون هي البكر لأسرتها وذلك حتى لا يتهمها بالجفاف العاطفي.
وباختصار، أريد أن أؤكد أنه من السهل جداً أن نقول للآباء الجدد: ((تعاملوا براحة أوسع وتفاعل دون توتر مع الابن الأول)). ولكن هذا لا يساعد الآباء، لأنه ببساطة يشبه دعوة شخص إلى الاسترخاء في المرة الأولى التي يقود فيها سيارة أو يمتطي صهوة جواد. ولكننا نحن الآباء والأمهات، يمكننا أن نقرأ وأن نناقش وأن ندرب أنفسنا.
وإذا كنا، نحن الآباء والأمهات، لم ننجب إلا طفلاً واحداً وقررنا ألا ننجب غيره أو شاءت الظروف أثناء وضع الطفل إجراء عملية جراحية للأم تمنعها من الحمل مستقبلاً، فعلينا في هذه الحالة أن نصحب ابننا الوحيد منذ أن يتعلم المشي ليوجد بين جماعة من الأطفال فيتعلم منهم الأخذ والعطاء منذ البداية المبكرة.
والمربية في الحضانة يمكنها أن تهتم بالطفل الوحيد وأن تحاول أن تدربه على الاندماج مع غيره من الأطفال. كما يجب ألا يهمل الوالدان اصطحاب طفلهما الوحيد في بعض زياراتهما.
وأحب أن أقول إن ما أعرضه لكم من تجارب عن تربية الأبناء في الزمن الصعب ليست قضايا مقدسة كفروض الصلاة يجب أن تؤدى في مواعيدها.
لا. إنها مجرد تجارب تدعوك إلى الاستمتاع التلقائي من خلال صحبتك لأبنائك، لأن جوهر المسألة كلها هو المحبة وزيادتها وتقويتها دون اعتداء عاطفي من الكبار على الصغار ودون ابتزاز الصغار للكبار بحثاً عن حقوق ليست لهم.