في الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل العلامة مصطفى جواد

بغداد/إبراهيم الجوراني

لم ينحدر العلامة مصطفى جواد من عائلة علمية – كما كان غيره – بل كان أبوه (جواد بن مصطفى بن إبراهيم) خياطاً أمياً بسوق الخياطين يتكلم التركمانية التركية إلى جانب العربية العامية، أما أمه (هدية بنت طالب) فكانت أمية أيضاً.. لكنه على الرغم من ذلك نشأ على حب العربية وكأنه خلق لخدمتها معتمداً على ذكائه الفطري واجتهاده الشخصي واعتداده بنفسه، وقد ترجم لنفسه – رحمه الله – بقوله أنه: (ولد في الربع الأول من القرن الرابع عشر للهجرة بدار في محلة عقد القشل ببغداد في الجانب الشرقي منها بجوار الجامع المعروف حتى اليوم بجامع (المصلوب)) دون تحديد تاريخ دقيق لولادته. هاجرت أسرته إلى مدينة الخالص بعد أن كف بصر والده وذلك لضيق العيش في بغداد ولوجود أملاك والده من البساتين في الخالص التي كانت تسمى وقتذاك (دلتاوة)، وهناك أدخله والده الكتاتيب لدى الملية (صفية) التي تعلم على يديها حروف الهجاء على الطريقة الملائية القديمة وبعض سور القرآن الكريم، ثم نقله والده إلى مدرسة دلتاوة الابتدائية وأثناء دراسته فيها تدرب في خط الرقعة على يد معلمه عبد الحميد الأعظمي، ونتيجة لدخول الجيش البريطاني دلتاوة ووفاة والده اضطر إلى ترك الدراسة لينصرف إلى الفلاحة ورعاية بساتين والده التي خلفها له وأخيه كاظم وأخواته الست، وبعد أن عادت عائلته إلى بغداد أدخله أخوه (كاظم) إلى المدرسة الجعفرية الأهلية قرب سوق الغزل ومنها إلى مدرسة باب الشيخ في محلة الصدرية.

وعندما حلت سنة 1920 قرر – بعد أن أصبح شاباً – الانتقال إلى دلتاوة للإنتفاع من غلة بساتينه، وبعد استقراره في دلتاوة رآه ابن مدير مدرستها فنصحه بالعودة إلى الدراسة فأخذ بنصيحته والتحق بالمدرسة مدفوعاً بحب الظهور لقناعته بأن طريق الدراسة كفيل بإيصاله إلى مركز يليق به.

وعند بلوغه الصف الخامس بلغه أحد المعلمين بأن في بغداد داراً للمعلمين تقبل الطلاب بالامتحان، فسافر إلى بغداد واجتاز الامتحان وتأهل لدخول دار المعلمين الابتدائية في سنة 1921 وكانت تلك الدرجة الأولى في سلم مجده اللاحق.

وفي دار المعلمين قويت لديه الرغبة في دراسة العربية بعد أن اكتشف في نفسه ولعاً خاصاً بها وكان يشجعه على ذلك مدرس العربية في الدار (أحمد الراوي) الذي كان يوفر له بعض الكتب والمصادر التي أضافت إليه ما تحوي من معارف. وفي الصف الثاني في الدار بلغ مصطفى جواد مستوىً أهله أن يكتب شعراً وكان ناقده أستاذه (احمد الراوي) الذي كان له الفضل الأكبر في توسيع مداركه اللغوية وتصحيح هفوات قلمه. وفي الصف الثالث أصبح خطيب الدار، كما شارك في تمثيل بعض المسرحيات المدرسية.

وكانت أولى تجاربه التعليمية عندما كلفه مدير الدار آنذاك (يوسف عز الدين الناصري) – وهو لم يزل في الصف الثالث – بأن يقوم بالتدريس في مدرسة التطبيقات مقام أخيه (محيي الدين الناصري) عند غيابه عن الدرس.. فكانت تلك التجربة أول تعزيز لثقته بنفسه وأظنها هي التي ساهمت في بناء شخصيته التدريسية فيما بعد. في دار المعلمين تفتق ذهنه على علوم العربية فانكب على التهامها علماً علماً، متتبعاً، قارئاً، حافظاً حتى تولدت لديه ذخيرة حية من الألفاظ الأصيلة والدخيلة والتي أصبحت فيما بعد منطلقاً لجهوده في التصحيح اللغوي.
بعد تخرجه من الدار في سنة 1924 عين معلماً في مدرسة الناصرية حسب النظام المعمول به في ذلك الحين وكان ينشر خلال ذلك شعراً يمجد فيه مقاومة المغاربة للاستعمار الفرنسي ويمدح زعيمهم عبد الكريم الخطابي، ولكن مفتش المعارف آنذاك المرحوم ساطع الحصري زار مدارس الناصرية ومنها مدرسة مصطفى جواد فنصحه بالابتعاد عن كتابة الشعر..

وبعد إكماله سنة دراسية في مدرسة الناصرية نقل إلى مدرسة السيف في البصرة ليجبره مديرها (جاسم شوقي) على تدريس الحساب على الرغم من كرهه الشديد له.. وكان خلال عمله في الناصرية والبصرة يراسل مجلة المعلمين ببغداد لينشر فيها شعراً أو مقالات متلقياً التشجيع من رئيس تحريرها الأستاذ هاشم السعدي.

وبعد مضي سنة دراسية في البصرة نقل إلى معارف بغداد ونسب إلى مدرسة الكاظمية الابتدائية ومنها إلى مدرسة (دلتاوة) مدرسة طفولته – وهذا من محاسن الصدف – إلا أن مقامه لم يطل فيها إذ نقله أستاذه السابق في الدار يوسف عز الدين لمنصب تحرير وزارة المعارف لإعجابه الشديد بما كان يكتب في مجلة المعلمين، ثم نقل بعدها إلى مدرسة المأمونية بالتبادل مع الشاعر المرحوم محمد مهدي الجواهري الذي كان معلماً فيها وكان معظم طلابها من أبناء الوزراء وأرباب الدولة والذوات، ونشر في أثناء ذلك التاريخ المسمى (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي بعد ان حققه تحقيقاً وافياً، وبدأ يعالج موضوعات نقدية ولغوية في مجلة الأب أنستاس الكرملي (لغة العرب) بعد أن اكتشف فيه الكرملي بذرة العالم اللغوي لأن (لغة العرب) كان النشر فيها حكراً على النخبة من مفكري العربية.

في سنة 1932 نقل إلى الملاك المتوسط مدرساً في المدرسة الشرقية لتدريس اللغة العربية فيها، ثم اختير ضمن البعثة العلمية إلى جامعة السوربون بتسهيل من وزير المعارف آنذاك السيد عبد المهدي المنتفكي والمستشرق لويس ماسنيون معفواً من شرط امتلاك الشهادة الجامعية الأولية ليعود سنة 1939 ومعه شهادة الدكتوراه في التاريخ وقد اتقن معها اللغة الفرنسية، لكنه بقي بغير وظيفة لعدة أشهر، وبعد أخذ ورد ورجاء والتماس تم تعيينه أستاذاً في دار المعلمين العالية.

في سنة 1942 انتدب لتعليم الملك الصغير (فيصل الثاني) وبسبب وشاية من بعض الوشاة نقل إلى مديرية الآثار العامة ثم عاد بعدها للتدريس في دار المعلمين العالية وانتخب في سنة 1946 عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق وقد تأخر اختياره لعضوية المجمع العلمي العراقي إلى سنة 1949.

اختير بعد ذلك نائباً لرئيس جامعة بغداد وعميداً لمعهد الدراسات الإسلامية وقد كان آخر عهده بالتأليف والنشر والكتابة تحقيق كتاب (مختصر التاريخ) لابن الكازروني فأدركته الوفاة دون أن يتمه فأتمه بعده الأستاذ سالم الآلوسي ونشره في سنة 1970.
وقد زاره أحد طلابه في المستشفى الذي كان يرقد فيه قبيل وفاته لمناقشة بحثه فطلب منه العلامة مصطفى جواد أن يرفع كمامة الأوكسجين عن أنفه ولما اعترض الطالب على ذلك قال له العلامة: (إننا لا نعيش بهذه – وأشار إلى الكمامة – وإنما نعيش بتلك – مشيراً إلى الأوراق -).
توفي – رحمه الله – يوم الأربعاء الموافق 17/12/1969 وقد شيعته بغداد تشييع العظماء.