بسم الله الرحمن الرحيم
بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد سيدنا ومولانا العظيم الشهيد السعيد السيد محمد الصدر(قدس سره الشريف)، فإنه لا يسعنا هنا إلا المرور بهذه الذكرى مستلهمين منها وبسببها بعض العظات والعبر، بمقدار ما هو مناسب بطبيعة الحال، ويكون الكلام فيها ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى: إننا لابد أولاً من أن نقف وقفة المعتذر الذي يقدم جهله وتقصيره، وذلك حينما نواجه شخصية صيغت بصياغة إلهية، حيث استغرقت مدة زمنية واسعة الامتداد تعيش الفناء وما بعده، وتسمو في مدارج تكاملية عالية المقام، وتصعد في سلم معرفي تتزلزل عنده القلوب، وتندك أمام نوره العقول. فكيف بنا ونحن المقصرون أن تبصر أعيننا نور تلك العظمة الشامخة، فمهما كانت المحاولات من قبل أمثالنا في أن نعطي الرجل حقه فإن هذا بمنزلة المستحيل. فالأنامل ترتجف عندما تكتب عن مثل هذا العملاق، والأفكار تؤنبنا لقلة الزاد في أن نقحمها في هذه المنطقة المخيفة.
ومما يهون الخطب في ذلك أن شهيدنا الحبيب(قدس سره) لم يجعل الدنيا أقصى همه ولا مبلغ علمه، ولم تساوِ في نظره ذرة، أو جناح بعوضة، لكي ينظر إلى من يعطيه حقه فيها. بعد أن شغلته تلك الأنوار الإلهية من قبل الحق المطلق وحقائق المعصومين عليهم السلام. فإن من يعطيه حقه إنما هو الله تعالى. فهو مستغن تماماً عن كل ما نقدمه له، والانتفاع الحقيقي فيما نقدمه إذا كان مخلصاً لله جل شأنه إنما هو لتكاملنا نحن بحسن توفيق الله تعالى.
النقطة الثانية: إنه (قدس سره) جاهد بطيبة قلب وخلوص في النية، في أن يعمق العلاقة بالله تعالى، لأنه يعلم أن جانب السير الحوزوي في تحصيل العلوم الدينية، إذا لم يقترن بالقرب المعنوي من الله تعالى، والتركيز على جانب الإخلاص له سبحانه، وتعميق الخوف والرهبة منه جل شأنه، فإنها تكون سلاحاً ذا حدين، تجعل حاملها معرضاً في كل لحظة إلى أن يستغلها لأجل مصالحه الدنيوية، واتباع أهواءه ورغباته الشخصية، كما قال تعالى: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأُغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين* قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم* إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين* وإن جهنم لموعدهم أجمعين*".
إذن، فلابد للفرد من أن يقرن طلب العلم بمخافة الله تعالى والتدرج في التربية الروحية والمعنوية، لكي يسعى نحو تسخير هذا العلم لخدمة الدين والمذهب وتحصيل مرضاة الله تعالى، وهذا ما فعله شهيدنا المقدس وفاز بالوصول إلى الهدف المنشود.
النقطة الثالثة: إن الفترة التي انشغل فيها بتكميل نفسه جعلته يخرج إلى المجتمع متصفاً بالسمو والرفعة من عدة جهات، فدق حينئذ ناقوس الخطر عند الظالمين، متوجسين خيفة من النتائج التي يمكن أن تترتب على توسع هذه المرجعية الفتية، وما هو المصير الذي تنتهي إليه هذه المرجعية المجهولة التفاصيل عندهم.
وكانت أفضل طريقة يرونها لتحجيمها والكفكفة من نشاطها الديني والاجتماعي هو احتوائها، وإبرازها للناس بعنوان أنها قد تصدت بإذن وموافقة النظام البائد. وقد نتج من ذلك عدة أمور:
أولاً: إن هذا التصرف يعد شهادة واضحة من السلطة الدكتاتورية نفسها أنها سلطة ظالمة ومنحرفة، وأنها إذا أيدت شخصاً ما فإنه يسقط من أعين الناس، وهذا دال على معرفتهم بنقاط الضعف عندهم، كما قال تعالى: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره".
ثانياً: إن الظالم مهما تصور نفسه عظيماً وقادراً على أن يصل إلى أهدافه بكل سهولة، فإن الله تعالى متسلط ومهيمن على كل شيء، وهو قادر على إفشال كل مخططات أعدائه، مهما ظهروا أو تظاهروا بالغطرسة والتكبر الزائف، حتى أمريكا وإسرائيل.
ثالثاً: إن أي فرد ينذر نفسه لخدمة الدين ويمحض في باطن نفسه مستوى العبودية الحقيقية لله تعالى، فإنه يكون بفضل الله وحسن عنايته يداً من حديد تضرب جميع أعداء الله تعالى، وتكون قادرة لإفشال مخططاتهم جميعاً، كما جاء في الدعاء: "فأولياؤه بعزه يعتزون".
وهذا ما نراه جلياً في مسيرة شهيدنا المقدس، فيما حصل من نتائج وانتصار حقيقي في تحقيق الأهداف الإلهية، على أوسع نطاق وبشكل ملفت للنظر، مهما بذلت من الطاقات الدنيوية في سبيل تقليصها والحيلولة دونها.
النقطة الرابعة: إن الأعم الأغلب من المجتمع اعتاد في الكثير من مناحي الحياة أن يحسبها حساباً دنيوياً، وفق مقاييس هي خاطئة وبعيدة كل البعد عن التوكل الحقيقي على الله تعالى، وأنه هو الحافظ وهو المسدد. مما يؤدي بالنتيجة إلى أن يوكلوا إلى أنفسهم، فتفشل الكثير من النتائج ويضلون حقيقة عن التشخيص الشرعي للأمور. وذلك لتفريطهم بالاستعانة الواقعية به جل شأنه، مهما كان ادعاء ذلك من الناحية الظاهرية. ومما يضاعف هذا النقص أن يجعلوا هذا المقياس الدنيوي مطرداً في شأن الجميع، حتى إذا رأوا أحداً يخرق هذا الناموس الذي ساروا عليه، تلتبس عليهم الأمور، ولا يُفهم سلوكُه حق فهمه، ويتعطل عندهم العمل بالحكمة القائلة: "احمل أخاك على سبعين عذراً".
والحال أن الله تعالى هو المتصرف الحقيقي بكل شيء، وقد ورد عن الإمام الهادي عليه السلام يخاطب أحد أصحابه كما في الرواية بما مضمونه: "أما علمت أن قلوب الظالمين بأيدينا". فعندما تحققت النتائج العظيمة في ظل مرجعية شهيدنا الحبيب(قدس سره) من الهداية المركزة والمكثفة، واتصاله المباشر والواسع بالمجتمع، وبث الوكلاء والمبلغين في مختلف الأطراف، وإقامة صلاة الجمعة بشكل تزلزلت عنده قلوب الظالمين، وتأسيسه للمحاكم الشرعية التي يتم فيها القضاء الشرعي الحوزوي، ومخاطبة فئات كثيرة من المجتمع ودعوتهم إلى التوبة وإطاعة أحكام الشريعة، بما في ذلك من دعوة موظفي الدولة عموماً من وزراء إلى أبسط موظف فيها، وترغيبهم نحو التوبة والهداية. وكذلك طباعة مختلف الكتب في كثير من الأمور التربوية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها، بما في ذلك إصداره لمجلة الهدى، وغير ذلك كثير. مما جعل البعض يسمع بذلك وهو لا يصدق أن يصدر كل هذا من شخص يعيش في العراق، بما فيه من ظلم وقسوة وبطش إلا إذا كان مرجعاً عينته الحكومة الظالمة نفسها، لتضرب المرجعية غير العربية بمرجعية عربية وعراقية. متناسين تماماً الحفظ الإلهي والعناية الربانية، وقد قال شهيدنا الحبيب في يوم ما: "إن السيد أبا جعفر لم يحقق عشر ما حققته ومع ذلك قطعوا رأسه، فلماذا السكوت عني؟" ثم علق قائلاً: "ولكنه الحفظ الإلهي".
ولم يكن لهم دليل على براءته من هذه التهمة، إلا دماؤه الطاهرة، ولكن بعد فوات الأوان. مما يدعو الجميع إلى تصحيح الموازين التي يسيرون عليها ويقيمون بها الأمور، فإن الله تعالى موجود والسماوات مطويات بيمينه.
وإن مثل هذه المقاييس المغلوطة تجر على المجتمع والمذهب الكثير من النتائج غير المحمودة، وتفشل الكثير من المخططات التي يطمح إليها بعض أهل الإصلاح الذين يرسلهم الله تعالى لهداية الناس، كما قال تعالى: "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم* ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم* يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين*".
النقطة الخامسة: إن من جعل المصلحة العامة هي شغله الشاغل فإنه تهون في نظره التضحية بكثير من الأمور الشخصية والمصالح الخاصة، وهذه من أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها القائد الديني.
ومن جملة تلك المصالح الخاصة التي يمكن التضحية بها لأجل نصرة الدين هي سمعة الشخص نفسه، فإنه إذا توقف الانتصار الأخروي وتحقيق النتائج الإلهية على أن يضحي الفرد بسمعته فليفعل، كما حصل ذلك فعلاً بالنسبة إلى الإمام الحسن عليه السلام حينما أقدم على الصلح تطبيقاً لتكليفه الشرعي، وهو يعلم أن بعض أصحابه سوف لن يحسن به الظن، كما حصل ذلك فعلاً، وذلك عندما قال له بعض أصحابه: يا مذل المؤمنين، وطُعن بحربة على فخذه، وسلب فسطاطه بما فيه. ولكنه كان يسير نحو أداء تكليفه بخطى واثقة بربها، مهما كانت النتائج صعبة وشديدة من الناحية الدنيوية.
وعندما تصدى شهيدنا المقدس إلى المرجعية وقيادة المجتمع لم يأبه بما تعرض له من الطعن والسب من قبل الكثير من النفوس الضعيفة والحاقدة، حيث وصفوه بأوصاف نربأ عن ذكرها ولعل الكثير منكم قد سمع بها، وكان عندما يخبره أحد بأن شخصاً ما يتكلم ضده فإنه يقول: "قل له: جزاك الله خيراً لأنك تنفعني في الآخرة".
ولو كان ممن يفضل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة لأنسحب من مسؤولياته الدينية والاجتماعية بكل سهولة، ولكن ما يريده هو الله تعالى فقط كما قال هو قدس سره:
فأفرغه من كل شيء سواك
بكل حياتي في أن أراك
حبيبي إذا كنت في جانبي
فإن المهم جميع المهم

النقطة السادسة: إن بعض الذين لم يناصروا الشهيد في حياته بل وقفوا ضد الكثير من إنجازاته وأهدافه، رأيناهم قد بذلوا قصارى جهودهم الدنيوية للحيلولة دون الإصلاح الذي هدف إليه، وهذه النوايا في الحقيقة لها الكثير من الدوافع والأسباب، ولا نريد الآن الدخول في تفاصيلها. ولكن ما نريد قوله هنا: إن تفجر بركان المشاعر الإسلامية التي فوجئت بإراقة دماءه الطاهرة على أرض النجف الأشرف، جعل الكثير من الأفواه تسكت على مضض، لأن الوقوف بوجه هذه الثورة من المشاعر التي حصلت في مختلف بلدان العالم ليس من الحنكة سياسياً كما يعبرون، فرأى بعضهم أن من المناسب هو السكوت، ورأى بعضهم أن من المناسب أن يستغل الظرف لصالحه، وذلك بإظهار الحزن ورفع الشعارات التي تستنكر تلك الفاجعة التي دعوا إليها وأججوا أوارها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ولكن بعض تلك الأحقاد بقيت كامنة، وتتحين الفرص للإطاحة بشخصه وتجاهل قدره ودرس ما أسس وأنتج.
فعلينا أن نكون واعين وملتفتين لذلك، وعلينا أن نكون على مستوى المسؤولية في الحفاظ على ما ضحى شهيدنا المقدس من أجله من الإنجازات والنتائج، وعلينا أن نتذكر دائماً كلماته المقدسة التي يقول فيها: "الدين بذمتكم والمذهب بذمتكم".
وليس لنا أن نقف عند حدود تذكر ما قام به وما أنجزه فقط، وإنما المهم في ذلك والمتوقع منا جميعاً، هو أن نحافظ عليه، وأن نفهم تعاليمه نصاً وروحاً للسير بها نحو التكامل والصلاح على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي. أما إذا اقتصرنا على الذكريات فقط من دون التقدم في ذلك عملياً، فإن ذكرياتنا يمكن أن تتلاشى، أو قل إننا بذلك لم نفهم مراد مولانا العظيم من نتائج الجهود التي قدمها.
النقطة السابعة: إننا رأينا بعض الأخوة المؤمنين في خارج العراق وعلمنا عدم سماعهم أو اطلاعهم على مسيرة السيد الشهيد(قدس سره)، وعدم مواكبة الأحداث معه، بل إن الكثير منهم لم يسمع به إلا بعد استشهاده. وكان عليهم الاستفادة الحقيقية من هذه التجربة في المستقبل. فعلى الفرد المؤمن أن يعيش هموم وآلام الآخرين، فكيف إذا كان هذا الآخر هو من تصدى لقيادة الأمة وهداية الناس ونشر تعاليم الدين؟ وعليهم الالتفات بكل دقة وحذر إلى المؤسسات الإعلامية التي تحاول التعتيم على أمثال هؤلاء خدمة للأعداء. وعليهم أن يفوتوا الفرصة على مثل هذه المحاولات لأنها تضر بالمصلحة العامة أكيداً، وفيها خدمة لأمريكا وإسرائيل دون أدنى شك.
وليس أن الفرد المؤمن إذا ابتعد عن بلاد المسلمين لظروف قسرية وشديدة أن يبتعد حقيقة عن دينه ومذهبه وقادته الحقيقيين. فإن في ذلك ذوباناً في الأفكار المنحرفة وسحقاً وتحطيماً لهويتهم الإسلامية. وهذا ما أراده الأعداء من وراء تشتيت المؤمنين في أماكن بعيدة ومختلفة في العالم، لكي يصلوا بهم إلى هذه النتيجة حتى لو تم الأمر بشكل تدريجي وبطيء، فإنهم يخططون لسنوات قادمة كما هو واضح.
والمهم أن يلتفت الفرد إلى واقعه وأهدافه الحقيقية والاتجاه نحو الحق سبحانه وتعالى، في أي مكان وزمان.
وهذا التشتت وإن رغب به الأعداء للوصول إلى تلك النتائج المشار إليها، ولكن الله تعالى يستغل نفس هذا التشتت (إن صح التعبير) لأجل نصرة دينه، ونخر العالم المادي من حيث لا يشعر، ويهيئ تدريجاً لانتشار القواعد الشعبية في جميع بقاع العالم التي تمهد لظهور الرجل الموعود (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
فهذا خطاب جديد لكل الأخوة الذين هاجروا عن أوطانهم، بأن يلتفتوا إلى تعاليم دينهم بكل تفاصيلها، وأن يجندوا كل طاقاتهم لأجل طاعة الله تعالى. وأن ينصروا ويؤازروا جميع القادة الربانيين الذين أفنوا أعمارهم لإعلاء كلمة لا إله إلا الله.
النقطة الثامنة: إن بعض الأخوة الذين كتبوا عن شهيدنا المقدس أضفوا الكثير من أفكارهم واتجاهاتهم النفسية أو السياسية على شخصيته، ونراهم قد فهموا الشهيد من زاوية هم يعيشون فيها ويدورون في داخلها. مع الالتفات إلى أن بعضهم لم يكن قد عاش معه أو عاصره، وإنما كان اهتمامه به حقيقة بعد رحيله، فكيف يفهم جوانب شخصيته؟! مع العلم أن الكثير ممن كان على مقربة منه من الناحية المكانية أو الزمانية لم يفهمه حق فهمه فكيف بمن هو بعيد عنه؟! فلذا نرى بعضهم قد حصره بزاوية ضيقة الأفق. فكما يأتي السياسي فإنه يراه من زاوية سياسية فقط دون غيرها، أو يأتي الكاتب فيراه من زاوية ما تمثل اتجاهه هو، أو غير ذلك. وكل هذا من الغبن لحقه أو أنه وصف له بما ليس فيه، فيما إذا كان الواصف يضفي عليه صفات دنيوية ومتدنية. وإن بعض الكتابات كان الدافع لها هي المقاصد الدنيوية من حب الشهرة أو المال، وإلا فأين كانوا عنه في حياته، ولماذا لم تكتب هذه الأقلام عن مظلوميته ومعاناته، وتحض المجتمع على نصرته؟!.
وهذه من الأمور المؤلمة في الحقيقة والتي يلتزم بها البعض، وهي تعظيم القادة بعد فراقهم، وأما في حياتهم، فإما أن يكون مضاداً لهم وإما أن يكون متحفظاً في إبداء رأيه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وليس هو بمتحفظ من العقوبة الإلهية بطبيعة الحال. مما يؤدي إلى تفويت الكثير من المصالح العامة والإضرار بالمجتمع الإسلامي حقيقة.
فندعو الأخوة جميعاً إلى تصحيح بعض ما كتبوه، وليجعلوا هدفهم الحقيقي في الكتابة هو تحصيل مرضاة الله تعالى ونصرة دينه، وأن يبتعدوا عن الأهداف الدنيوية بكل أشكالها جزاهم الله خيراً.
النقطة التاسعة: إن ما يمكن السؤال عنه ونحن في هذه الرحاب الطاهرة أن السيد الشهيد(قدس سره) هل استطاع أن يقوم بما قام به من الإنجازات بفقهه وأصوله فقط؟ أم أن هناك سراً أكبر من ذلك وهو الذي سبب له هذا التوفيق الكبير؟
وجوابه: إن المسألة إن كانت مقتصرة على جانب الفقه والأصول والعلوم الحوزوية الأخرى لما كان بينه وبين غيره الفرق الكبير، فإن الكثير من الفقهاء يمتلكون القدرات الكبيرة والطاقات الواسعة في كل العلوم الحوزوية، وإنما المهم مع كل ذلك هو وجود التوفيق الخاص من قبل الله تعالى، وقد وفق سماحته (قدس سره) إلى عمق العلاقة به تعالى، وإلى المقامات الرفيعة والعالية من التكامل المعنوي، وقد كان من العرفاء الشامخين الذين اختصهم الله تعالى بمختلف الرحمات الخاصة.
وإن عمق المعرفة الإلهية التي حاز عليها جعلت منه ذلك الرجل الإلهي الذي تكون كل أعماله وأقواله وأنفاسه إنما هي عطاء إلهي يمكن أن يأخذ منه كل فرد بمقدار ما يتحمل وما يستحق، وإن الفترة الزمنية التي بنى بها نفسه من ناحية التكامل المعنوي جعلته يخرج إلى الناس وهو غير محتاج إلى أحد منهم، وكل أحد ممن هو دونه محتاج إليه، ينتهل من عطائه وبركة وجوده من حيث يعلم أو لا يعلم.
وإن هذا الارتباط الحقيقي بالله تعالى والإخلاص المحض في العمل هو الذي أعطى هذه الثمرات الطيبة التي أنتجتها شجرته الطيبة.
وإن العمل والعطاء كلما كثرت الشوائب الدنيوية فيه سببت له الإحباط وعدم النفع في النتائج، وكلما زادت فيه درجة الإخلاص والتمحض لله تعالى ارتفع نفعه وزاد ثقله المعنوي عند الله تعالى، كما قال سبحانه: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه".
النقطة العاشرة: إنه يوجد من يقول إن السيد الشهيد(قدس سره) قد عمل بحسب ما رآه من تكليفه الشرعي أمام الله تعالى، وهو عدم العمل بالتقية، وقد طلب الشهادة فحصل عليها، ولكن غيره معذور أيضاً في سكوته، لأننا نجد أن أغلب أهل البيت عليهم السلام قد سكتوا، وقد عملوا بالتقية المكثفة، وأن فعلهم حجة، ومن يقتدي بهم ويجعلهم أسوة حسنة في طريقة عمله معذور أمام الله تعالى.
وجوابه من عدة وجوه:
أولاً: إننا نجزم أن أهل البيت عليهم السلام كلهم ناطقون وكلهم مجاهدون وليس فيهم من كان ساكتاً، وإن اختلفت مناهجهم في تربية المجتمع بحسب التكليف الإلهي، وبحسب الحكمة الإلهية التي يعلمونها لإطلاعهم على الواقعيات بتعليم الله تعالى لهم.
ثانياً: إنهم مع وجود التقية المكثفة، ولكنهم لم يتوقفوا عن النشاط في تربية المجتمع وإيصال تعاليمهم لهم. فإن الإمام السجاد(عليه السلام) مثلاً مع كل تلك التقية التي كان يعمل بها ولكنه استطاع من خلال عدة أساليب أن يوصل صوته وفكره وتربيته إلى الناس، ولم يقصر في ذلك قطعاً ولم يعتزل المجتمع تماماً بل كان يحمل همومه ومعاناته طيلة حياته.
ثالثاً: إن الذي يفضل السكوت دائماً، والعزلة التامة عن المجتمع وعدم الاهتمام بمصالحه العامة بحجة التقية، من قال له إن تكليفه هو ذلك، فقد يكون تكليفه هو خلافه تماماً.
رابعاً: إن بعض أهل البيت عليهم السلام قد عمل بالتقية ردحاً من الزمن في حياته، ولكن تكليفه قد تبدل في غيره من الأوقات كالإمام الحسين(عليه السلام)، فلماذا يفكر البعض بأن يعمل بالتقية طوال عمره طلباً للعافية، وتخلصاً من المصاعب والابتلاءات الدنيوية لا أكثر ولا أقل؟!!
خامساً: لماذا يجعل هؤلاء التقية المكثفة التي عمل بها بعض أهل البيت(عليهم السلام) هي تكليفه، ولا يجعل من الجهاد والتصدي للظلم، والثورة بوجه الظالمين هي تكليفه، كما كان هو تكليف بعض أهل البيت(عليهم السلام)؟ وهل يكون الأمر بحسب الهوى والرغبات الشخصية؟ والحال أن كل فرد عليه أن يطبق القواعد الشرعية العامة في عمله وأن أهل البيت(عليهم السلام) لهم تكاليفهم الخاصة أمام الله تعالى ولا تشمل غيرهم بطبيعة الحال.
سادساً: إننا قد نجد جيلاً بأكمله يسير على منهج السكوت، ويربي الجيل الذي بعده على السكوت أيضاً، فماذا سوف تكون النتيجة غير السكوت الدائم والمستمر على مر العصور، وهذا مما يؤسف له على الحقيقة.
سيدي يا شهيد الله إن غيبوك عنا جسداً فإنك معنا روحاً وفكراً ومنهجاً، وإن صدرك الذي مزقوه برصاصات غدرهم لا زال يحتضننا بحنانه الذي عودتنا عليه، غيبوك عنا ولا زالت منك ابتسامة أطبقنا عليها الأجفان تبث فينا نوراً يضيء لنا الدرب، ويرسم لنا الطريق الذي يوصل إلى من عشقته وفنيت فيه، ولا زلنا نتلمس تلك الشيبة الكريمة فنجد فيها فجراً ساطعاً يمزق الظلمات من أجل الوصول إلى غد مشرق، فالسلام على أصحاب الجمعة الجامعة المقدسة، السلام على شهداء الجمعة أصحاب الحق المهدوي، السلام على جميع الكائنات التي شهدت حضورك ووالتك وجاهدت معك وقدمت نفسها قرابين في سبيل التوحيد، السلام على أهل التوحيد، السلام على شهداء التوحيد الإلهي المقدس ورحمة الله وبركاته.