الفساد الاقتصادي وآثاره المدمرة - بشير مصيطفى


لا يمكن الحديث عن التنمية دون إغفال موضوع (الفساد والحكم الصالح). وبدءًا من العام 1995 أصبح واحدًا من الموضوعات الرئيسة لدى باحثي العولمة ودارسي النظرية الاقتصادية, كما أصبح محط اهتمام ومتابعة أهم المؤسسات الدولية وعلى رأسها (البنك العالمي) ومؤسسة (شفافية دولية).

المبرر الأول لهذا الاهتمام من لدن الأوساط الدولية يعود إلى الفشل غير المتوقع للبرامج المالية التي أودعتها هيئات دولية كبيرة مثل (البنك العالمي) لدى الدول التي تمر بمصاعب اقتصادية حيث بينت آخر الدراسات أن جل هذه الدول تسيء استخدام هذه المساعدات الموجهة للتنمية وفي أكثر الأحيان تطالها يد الفساد (في دراسة ميدانية على دولة أوغندا تبين أن 13% من ميزانية التعليم لا تصل إلى المصادر). ولقد قدمت في براغ خلال الاجتماع السنوي للبنك العالمي (أكتوبر 2000) عدة انتقادات لهذه المؤسسة بسبب مساعدتها المالية إلى دول معروفة بالفساد وهي روسيا ودول شرق أوربا خلال التسعينيات. وتثار حاليًا تساؤلات واسعة داخل هذه المؤسسة بشأن الاستمرار في تقديم القروض لدول ساهمت القروض الخارجية بشكل أو بآخر في انتشار الفساد الاقتصادي بها. وقد أثار البروفيسور روز أكرمان وهو متخصص في مسائل الفساد الاقتصادي هذه الإشكالية بقوله: (هناك بعض دول حكوماتها غير مهتمة بالإصلاحات. يجب ألا ترشح لمساعدات وقروض البنك الدولي).

المبرر الثاني هو تنامي ظاهرة الفساد الاقتصادي في حد ذاتها وانتشارها على نطاق واسع ضمن رقعة الدول النامية وبين بعض الشركات الصناعية الكبرى ذاتها.

وقد أكد هذه النتيجة استطلاع أجراه البنك العالمي على 69 دولة و3600 شركة.

كما ساهمت مشاهد التحول الديمقراطي وتنامي الحركات المدنية المنادية بحرية التعبير والتعددية الحزبية في عديد الدول - التي مرت بمرحلة الاستبداد السياسي - في الكشف عن ظاهرة الفساد وعن امتداداتها داخل الأجهزة الإدارية والحكومية المختلفة.

وأخيرًا وبمجرد أن أثبتت المقاربات النظرية لعلم الاقتصاد العلاقة المفسرة بين تقدم الفساد وتخلف التنمية في الدول النامية سارعت الجهات المهتمة بالشأن التنموي إلى دق ناقوس الخطر وإلى اقتراح استراتيجيات محددة ومدروسة للحد من تنامي هذه الظاهرة ومعالجتها ومن ثم التبشير بما يعرف بالحكم الراشد أو (الحكم الصالح).

ما هو الفساد?

عرف الفساد بصيغ عدة منها (الانحراف الأخلاقي لمسئولين في الحكومة والإدارة), (التنازل عن أملاك الدولة من أجل مصالح شخصية). لكن التعريف المعتمد بهذا الصدد هو ذلك الذي استخدمته لأول مرة مؤسسة البنك العالمي واعتمد في جميع الكتابات: (استخدام الوظيفة العامة لتحقيق منافع خاصة), أو (الاستغلال السيئ للوظيفة العامة أي الرسمية من أجل تحقيق المصلحة الخاصة).

وفي هذا المعنى, تندرج جميع ممارسات الاستغلال السيئ للوظيفة الحكومية أو الخاصة إذا تعلق الأمر بالشركات الكبرى, ومن ذلك: (العمولات, الرشاوى, التهرب الضريبي, تهريب الأموال, الغش الجمركي أو التهرب من الجمارك, إفشاء أسرار العقود والصفقات, الوساطة والمحسوبية في الوظائف العامة).

ومع أن الفساد الاقتصادي ظاهرة تكاد تكون محددة في استغلال المنصب الحكومي - وإلى حد ما المناصب العليا في الشركات الخاصة - إلا أن ذيول هذا الاستغلال تطال مختلف الشرائح الاجتماعية وقد لا تبدو للعيان للوهلة الأولى.

فالمسئولون الموصوفون بهذه الظاهرة يتقنون استخدام أساليب ممارستها كما أن ممارسات الفساد يغطي بعضها بعضًا وفي غالب الأحيان يغض الطرف عما يعرف بـ (الفساد الصغير) في بلد شائع فيه (الفساد الكبير). والفرق بين هذين النمطين من الفساد يكمن في بيئته من جهة وفي قيمته ودرجة تأثيره على الموارد الاقتصادية والمال العام من جهة ثانية.

ويشارك في ممارسة الفساد أعوان من الحكومة ومن الإدارة والجيش ومن دواليب الحكم وقد يمتد ذلك إلى رؤساء دول ووزراء معروفين والأمثلة على ذلك كثيرة, وفي أحيان قليلة يطال الفساد الشركات الخاصة في البلدان الصناعية عن طريق مجالس الإدارات بها, وينشر صندوق النقد الدولي حالات عن بلدان معينة منها ما جاء بخصوص أنغولا (1996 - 2001) من أن 80 إلى 90 في المائة من إيرادات الحكومة الأنغولية تأتي من صناعة النفط لكن في بعض السنوات لم يدخل 40% من إجمالي الإنتاج المحلي الخزينة بل تم إخفاؤه في حسابات سرية. وتذهب بعض التقارير إلى أن 80% من القروض التي منحتها البنوك التجارية خلال الثمانينيات للدول لم تصل إلى أهدافها وبقيت في حسابات البنوك الأوربية.

وبرأيي فإن أحسن تعريف لظاهرة الفساد هو ذلك الذي يصفها بواسطة مظاهرها وتجلياتها. فالجميع يعلم أن موارد أي دولة معرضة للنمو كما هي معرضة للنضوب وللتبديد حسب طريقة تسييرها وكفاءة القائمين عليها - إلا أن أبرز عوامل تبديد الثروة القومية هو الحكم الفاسد بدءًا من التمول بالرشاوى إلى التهرب الجبائي, الاختلاس, تحويل الأموال, تزوير الفواتير, التجاوز الجمركي, تدوير المساعدات الدولية وممارسة الريع.

ولكل مظهر من هذه المظاهر مسبباته إلا أنه وفيما يخص عالمنا العربي فإن حيثيات الفساد وجذوره تتباين من بلد لآخر, والدوافع إلى ممارسته تختلف هي الأخرى. فمسببات (الفساد الصغير) الذي يلحق عادة الموظفين لدى الإدارة وموظفي البنوك وبعض المديرين لا يتجاوز حدود الحاجة وصعوبة أوضاع المعيشة الشيء الذي يفسر انتشار هذا النوع من الفساد في مرحلة التحول من نمط الاقتصاد الموجه إلى اقتصاديات السوق, بينما تكمن مسببات (الفساد الكبير) الذي يلحق غالبا المسئولين الكبار ورجال الجيش في الرغبة في تحقيق فائض الريع. وقد لعبت الطفرة النفطية لدول عربية معينة وأسلوب الحكم الاشتراكي دورًا مهمًا في نشوء هذه الظاهرة واستفحالها.

تجليات الفساد وذيوله

للفساد تجليات عدة, أهمها: الفساد المالي والفساد الإداري. ويعد الفساد السياسي واحدًا من أهم وجوه الفساد, وهو المدخل الرئيس لجميع تجليات هذه الظاهرة, إلا أن الانطباعات الاقتصادية تتجلى بشكل أوسع في النوعين الأولين.

تعتبر (الرشوة) أهم تعبير عن الفساد المالي, وهي كذلك فعلاً لأنها تلحق الدوائر الإدارية ودوائر الخدمات على كل المستويات, ولا يكاد يخلو بحث أو دراسة أو مقال أو تحليل لظاهرة الفساد إلا وأسهب في تحليل مسبباتها ونتائجها, وهناك جمعيات غير حكومية اقترن اسمها بمحاربة الرشوة.

وفي البلاد العربية, يقترن انتشار الرشاوى بكل من نوعي: (الفساد الكبير) و(الفساد الصغير) وبدءًا من الصفقات العمومية ومنح رخص الاستغلال في منشآت القطاع العام إلى الإنفاق على شراء الأسلحة إلى توفير الخدمات الإدارية وتسريعها إلى شراء المناصب المرموقة في إدارة الشركات وتسيير الموارد البشرية.

وتذهب منظمة (شفافية دولية) إلى أن الفساد المتعلق بمنح الصفقات خارج محددات المنافسة من شأنه أن يضعف موارد الحكومة ويزيد من الإنفاق العام.

ولعل أخطر ما في (الرشوة) من مميزات أنها حازت مشروعية شبه رسمية, وحتى في الثقافة الشعبية حازت قدرًا معتبرًا من القبول العام وتكاد تصبح واحدة من ملامح البلاد النامية عمومًا.

وجه آخر من وجوه الفساد المالي هو ما كان متصلاً بالتهرب الجبائي, ونعني به تهرب الأفراد والمؤسسات من دفع أقساط الضريبة بعدم التصريح بالأرباح (التي عادة ما تنجز عن النشاطات غير المصرح بها) أو بالتصريح الكاذب (وهو المظهر الأكثر شيوعًا لدى القطاع الخاص). وكما يحصل التهرب الجبائي في محيطه الطبيعي في السوق غير الرسمية (الاقتصاد الموازي) فهو يغذيه أيضًا ويراكم رأس المال داخله مما يفقد الحكومة القدرة على مراقبة الكتلة النقدية من جهة ويفوت عليها فرصة تمويل الخزينة بالشكل الملائم.

وإلى جانب التهرب الجبائي وآثاره على الاستقرار الضريبي, هناك التهرب الجمركي وأبطاله من كبار المسئولين على الجمارك وبعض الأعوان, وفي بعض البلدان يتيح الفساد الجمركي شبكات معقدة من الأعوان, وتضع وثائق البنك العالمي مؤسسات الجمارك وإدارات الجباية (الضريبة) على رأس دوائر الفساد الكبير لما لها من انعكاسات على مستوى الأسعار ومداخيل الدولة وعلى (المنافسة الشريفة) ونقصد بالمنافسة الشريفة هنا المنافسة الكاملة وهي تعريب للمصطلح الأجنبي ويعني أن يحصل جميع المتعاملين في السوق على المزايا نفسها وألا تكون هناك حواجز غير اقتصادية أمام البعض.

التبذير في نفقات الدولة

للتبذير في نفقات الدولة مظاهر رئيسة, الأول يتصل بوضعية الاقتصاد لدى الدول التي مرت بمرحلة الاقتصاد الموجه, والثاني يتصل بمرحلة الانتقال إلى اقتصاديات السوق ومرحلة الإصلاح الاقتصادي (الانفتاح) ومظهر له علاقة بوضعية الاقتصاد الحر. ويخص المظهر الأول سلوك بعض كبار المسئولين في الدولة وفي الجيش من خلال تضخيم فواتير الإنفاق العام لصالح أفراد أو طبقات معينة (يعبر عن هذا المظهر من الفساد بالاختلاس) وقد بينت دراسة ميدانية عن دولة أوغندا أن 13% من مخصصات الإنفاق الحكومي على قطاع التربية لا تصل إلى هدفها وتطالها جيوب كبار المسئولين في الدولة.

ويلعب نظام المحاسبة الملائم للنمط الموجه دوره في ذلك للفراغات التي يتميز بها إذا تعلق الأمر بمخصصات الموازنة العامة.

وخلال مراحل الإصلاح الاقتصادي استفادت جل الدول التي مرت بمرحلة انتقال من مساعدات دولية مهمة, بعضها في إطار إعادة جدولة مديونية هذه الدول وبعضها في إطار برامج التكييف الهيكلي لصندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من محدودية مبالغ هذه المساعدات بالمقارنة مع احتياجات الانتقال وإعادة تأهيل الاقتصاديات الوطنية إلا أن مبالغ مهمة منها, تكون قد هربت أو استخدمت في غير محلها.

أما في مرحلة التأسيس لاقتصاد السوق فإن منح رخص الاستثمار وتمويل الحكومة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وعلاقة البنوك (التي غالبًا ما لا تواكب وتيرة النمط الليبرالي) بنسيج القطاع الخاص كلها عمليات تشكل بيئة ملائمة للفساد المالي, وتثار حاليًا العلاقة بين تفاقم ظاهرة الفساد الاقتصادي وعمليات خصخصة القطاع العام في الدول التي تمر بمرحلة انتقال. ومازالت التقارير الدولية تقدر مبلغ الرشاوى التي تمنحها بعض الشركات الصناعية لشراء أصول القطاع العام في هذه البلدان, من ذلك التقرير المعنون: (تصدير الفساد - الخوصصة, الشركات متعددة الجنسيات والرشاوى) بـ80 مليار دولار سنويًا وهو ما يقارب المبلغ الذي تخصصه الأمم المتحدة لبرنامج محاربة الفقر.

مؤشر قياس الفساد

تهتم المؤسسات الدولية وبعض الدول الكبرى - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية - بمكافحة الفساد وإقامة الحكم الصالح بصورة لافتة للنظر. فقد تأسست منظمة (الشفافية الدولية) وشعارها (معاملات شفافة ونزيهة) وجمعية (مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح) وشعارها (تعزيز دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد), وأصدر الكونجرس الأمريكي (العقد الدولي لمكافحة الفساد وإقامة الحكم الصالح) IAGGA في 5 أكتوبر 2000.

كما شهدت بعض الدول العربية بروز جمعيات لمكافحة الفساد ومؤسسات, مثل (الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة), ومؤسسات الحكومة الإلكترونية (شأن الأردن).

وتدور انشغالات المنظومة الدولية هذه حول ترقية عمليات محاربة الفساد بتشجيع حرية الإعلام, وإشراك المجتمع المدني في مراقبة هذه الظاهرة, الرقابة المحاسبية (التدقيق المحاسبي), إعادة التنظيم القانوني للصفقات التجارية, ترقية الانتخابات الحرة والشفّافة, إشراك الدبلوماسية بشكل أكثر نجاعة في مكافحة تهريب وتبييض الأموال, بالإضافة إلى وضع برامج محددة للمساعدة الدولية في مجال محاربة الفساد بأنواعه وإقامة الحكم الراشد.

ويعتبر مؤشر قياس الفساد في العالم CPI الذي وضعته منظمة (شفافية دولية) أهم معيار لقياس الفساد لدى الدول وترتيبها. ويتضمن هذا المؤشر للعام 2003 ترتيبًا لـ133 دولة بناء على نظرة شعوبها إلى معاملات الرسميين فيها, وبه 10 درجات (من درجة صفر إلى درجة 10) وتتصاعد الدرجات حسب درجة الفساد, وتعد الدرجة صفر أسوأ حالة والدرجة 10 أحسنها على الإطلاق. وفي آخر كشف لهذا المقياس (2003) رتبت بنجلاديش على رأس قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم بـ1.3 نقطة تليها نيجيريا بـ1,4 نقطة, وتعد دول مثل الدانمارك وسنغافورة أحسن دول العالم في مقياس الفساد بدرجات تزيد على الـ9 من 10, وتأتي فنلندا في المرتبة الأولى بـ9.7, وتحتل ألمانيا المرتبة 10, وتجيء اليابان في المرتبة 21.

وعلى الرغم من أن مقياس (مؤشر قياس الفساد في العالم), لا يشمل جميع دول العالم, إلا أنه يعطينا صورة كافية عن رؤية الشعوب ورجال الأعمال إلى أوضاع بلدانهم, وتذهب جميع تقارير هذا المؤشر, التي شرع فيها العام 1995, وتشارك في إعدادها تسع مؤسسات مستقلة إلى أن ثلثي دول العالم لا تتجاوز الدرجة 5.

بعض الآثار المدمرة للفساد

للفساد بأنواعه آثار مدمرة, ليس فقط على النواحي الأخلاقية, بل يصيب بشكل مباشر النواحي الاقتصادية والسياسية لأي بلد.

فقد أثبتت الدراسات الميدانية أن للفساد انطباعًا سيئًا على: وضعية الفقر, مستوى الأسعار, نجاعة الاستثمارات, الانفاق الحكومي, توزيع الدخل, نوعية الخدمات, وضعية الموارد البشرية والفكرية, التحصيل الجامعي, إعانات التنمية, تكاليف الإنتاج وأعباء الاستغلال, وحسب دراسة ميدانية, فإن تخفيض الفساد بنسبة 30% يسمح بالرفع من معدل الاستثمار بـ4%.

وعلى الرغم من بعض التفسيرات, التي تذهب إلى أن للفساد بعض الايجابيات على صعيد تخصيص الموارد, وتسهيل الخدمات والإجراءات الإدارية وربح تكلفة الوقت, إلا أن جل الدراسات الأكاديمية الرصينية أبرزت الآثار المدمرة للفساد.

- فالتهرب الجبائي من شأنه أن يضعف ميزانية الدولة.

- والتهرب الجمركي من شأنه أن يخل بتنافسية الشركات كما يحرم الدولة من إيرادات مهمة.

- والاختلاس يزيد من اتساع رقعة الاقتصاد الريعي, ويطرد النقود خارج دائرة الإنتاج.

- وتهريب الأموال يقلل من ثقة المستثمر الأجنبي, وحتى المستثمر الوطني, وقد بينت تجربة عربية أخيرة كيف أن بنكًا خاصًا حديث النشأة كلّف الدولة المعنية خسائر من 12 إلى 20 مليار دولار (حسب التقديرات المتباينة), جراء معاملات فاسدة تجاه الزبائن ما أدى إلى تهريب مبالغ ضخمة إلى الخارج.

-وتبذير المال العام يثير قلاقل اجتماعية ويفتح الحوار السياسي على موضوعات تصرف النظر عن موضوعات التنمية وأولويات الإصلاح.

- والفساد التنظيمي يحرم الشركات من كفاءات القيادة والإدارة.

- وسوء استخدام الموارد يزيد من تكاليف الإنتاج ومن التكلفة الحدية لرأس المال.

- الفساد يعيق أكثر ما يعيق تطور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة, وهي المؤسسات المعول عليها في نمو الاقتصاد المعاصر.

- ويشوّه الفساد تركيبة النفقات العامة. وتخصيص الموارد البشرية, ويؤدي إلى إضعاف الرقابة على القطاع العام.

الأثر في السلوك المهني

تنجم عن ظاهرة الفساد عادة انعكاسات تصيب السلوك المهني لدى الأفراد, فمن خلال السلم الوظيفي تتطلب عملية الفساد تدخل عديد الأعوان من عديد المراتب, مما يضاعف من حجم الظاهرة لدرجة أن أحد الباحثين استعمل مصطلح مضاعف الفساد أسوة بمضاعف الاستثمار عند اللورد كينز, وتتضاعف المبالغ المتأتية عن هذا السلوك بحسب عدد الأعوان لدرجة أن تدفقاته المالية تفوق بكثير التدفقات من الأجور الرسمية, ما من شأنه أن يغير مفهوم الدخل الفردي في حد ذاته, إذا ما تحوّل هذا السلوك إلى ظاهرة. وفي عالمنا العربي, ارتبط الفساد إبان الثمانينيات بسلوك جديد لم يكن معروفًا من قبل لدى رجال الأعمال, ومكاتب الاستشارة, إذ (يتم توجيه عقود الخدمات الاستشارية من خلال هيئات المعونة الأمريكية والشركات الأجنبية نحو مكاتب استشارية بعينها في القطر العربي المعني بهدف تكوين نخبة أو طبقة جديدة من المهنيين ورجال الأعمال تروج لبرامج المؤسسات الدولية وهيئات المعونة الأجنبية في مجالات محددة مثل: الخصخصة, تحرير التجارة, دمج الاقتصاد العربي ببنية الاقتصاد العالمي وشبكة المعاملات المالية الدولية, دون اعتبار المصالح الاقتصادية العليا للوطن العربي).

وهكذا صار التعاطي بالعمولات مدخلاً إلى تأسيس سلوك مهني جديد في أوساط بعض رجال الأعمال وأصحاب مكاتب الخبرة, مما ينعكس سلبًا على نوعية الدراسات, ومدى استجابتها لشروط الخبرة, والملاحظ في هذا المجال هو اعتماد بعض الدول العربية, وواضعي السياسات بها على مثل هذه الدراسات في مجال التخطيط الاجتماعي والتنمية, الشيء الذي يؤدي إلى مضاعفات أخرى تتعدى الحيز الاقتصادي والمالي إلى الحيز الاجتماعي.

الأثر في النمو

النمو الاقتصادي هو دائمًا هاجس الدول, لأنه يشكّل البوابة الأمامية للتنمية, وتعد نسبة من 8 إلى 9 بالمائة كمعدل نمو سنوي نسبة مستهدفة من جميع الدول, إلا أن هذه النسبة تظل مرهونة بمدى استجابة كل دولة إلى معايير الحكم الصالح, وإلى موقعها من درجة الفساد الاقتصادي, فقد بات واضحًا من خلال الدراسات القياسية والميدانية أن معدلات النمو تتأثر بشكل كبير بدرجات الفساد, حيث تخصص الموارد على غير أساس النمو, وإنما على أساس الريع المتوقع منها. ويذهب الأستاذ ماجد عبدالله المنيف في بحثه القيّم, إلى أن الفساد يكون كبيرًا إذا تعلق الأمر بمشروعات البنية التحتية, مما يشجع على توجيه الإنفاق الرأسمالي (الإنفاق من رأس المال الاستثمار) كمحفز للنمو إلى الكم الهائل من مشروعات البنية التحتية لدى الدول المعروفة بالفساد الاقتصادي.

ويؤثر الفساد في النمو عبر تأثيره في كل من الاستثمار الحكومي والاستثمار الخاص. ففي حال الاستثمار الحكومي, يبرز الانعكاس على المبلغ النهائي, وعلى نوعية الاستثمار. وفيما يخص المبلغ النهائي للاستثمار, فإن الحصول على الصفقات العامة من عروض الحكومة عن طريق العمولات, يزيد من تكاليف الاستثمار في قطاعات مثل البناء والأشغال العامة, إذا ما احتسبت مبالغ العمولات في محاسبات الشركات بصورة أو بأخرى. وفيما يخص نوعية الاستثمار, فإن منح الصفقات لشركات ليست بالضرورة متحكّمة في إدارة الإنتاج أو في أخلاقيات الاستثمار, بل قادرة فقط على شراء ذمم المسئولين, غالبًا ما يؤدي إلى الغش في المنتوج. كما يؤثر الفساد في تحويل الاستثمار عن مجالات معينة إلى مجالات أخرى, لها القدرة على إنتاج الريع, مما يؤثر سلبًا في عملية تخصيص الموارد, ويعيق عملية التنمية.

أما في مجال الاستثمار الخاص, فتكفي الإشارة إلى ما جاء في تقرير التنمية العالمي عن دراسة ميدانية, شملت دولتي سنغافورة والمكسيك: يؤثر الفساد في هذين البلدين على الاستثمارات الأجنبية, بما يعادل تأثير رفع المعدل الحدي للضريبة بـ50% على دخل الشركات.

وتفسير ذلك يقارب حال الاستثمار الحكومي إذ تعتبر ممارسات الفساد في القطاع الخاص تكاليف إضافية.

ويدرج بعض الاقتصاديين موضوع الفساد ضمن نظرية التوزيع, كما يستخدمون نظرية الريع لتفسير أبعاد هذه الظاهرة, ومعلوم أن نظرية التوزيع من نظريات الاقتصاد المهمة, وضع بعض أسسها الاقتصادي الانجليزي دافييد ريكاردو, وقد كان مفهوم (الريع) في هذه النظرية, مقتصرًا على الأرض ثم على المادة الأولية (في الاقتصادات النفطية خاصة), ويرد الآن تحليل الريع من خلال المبالغ الضخمة للعمولات, التي يتلقاها المسئولون لقاء خدمات يستغلون فيها مناصبهم الحكومية, وعلى قدر المنفعة الحدية, التي يحصل عليها الموظف الحكومي المعني بظاهرة الفساد, يتحرر سلوكه المهني, وهكذا تساعد نظرية القياس الاقتصادي على إيجاد العلاقة المفسرة بين ممارسة الفساد, والمنافع الحدية للموظفين, بغض النظر عن الأثر الاجتماعي.

خلاصة: حاول هذا المقال معالجة مفهوم الفساد في علاقته بالنمو, وفعالية النظام الاقتصادي كمدخل للموضوع, ويتضح جليًا عمق الأبعاد, التي يكتسيها ويكون من المناسب التنويه بالمبادرات الدولية لمحاصرة هذه الظاهرة, ومعالجتها في بيئتها الطبيعية دون الحاجة إلى ملاحقتها في الدوائر الخارجية, ويكون من الواجب إذن حفز المنظمات غير الحكومية على إثارة هذا الموضوع, وإطلاق حوار بناء حوله.