النظام الابوي حقيقة دينية مطلقة
سعد الغريب/اختصاص نفسي/
العراق
النظام الابوي حقيقة دينية مطلقة
دكتورعقيل نوري
النظام الابوي حقيقة تاريخية
النظام الابوي حقيقة طاغية تمثل جذرا ثقافيا قويا ومتينا في حياة اغلب المجتمعات بسيطها ومعقدها قديمها وحديثها، وان اردنا ان نقدم وصفا لتاريخ الامم والشعوب لوجدنا ان النظام الابوي يمثل ركنا ثقافيا هاما ان لم يكن اهمها على الاطلاق لاسيما وانه يتبادل علاقة تآزرية مع النظام الديني. ان العمق التاريخي للابوية اكسبها معان نسبية تتباين من مجتمع لآخر ولكن بسياق اجرائي يمكننا الذهاب الى ان هذا النظام يشير الى الهيمنة الذكورية في المجتمع وبالذات هيمنة الأب على النظام الأسري من جهة وتدني مكانة المرأة من جهة اخرى، وهذا المعنى يكاد يكون القاسم المشترك في كل اشكال الانظمة الابوية.
يشير التاريخ الى ان السلطة الابوية حقيقة دامغة في كل الحضارات القديمة كالحضارة السومرية والبابلية وحضارة الاغريق فحمورابي على سبيل المثال كان يسند بقوة سلطة الاب حتى انه دون في مسلته (( اذا ما قام الابن بضرب ابيه فان يده يجب ان تقطع)) وهذا مبدأ اخلاقي ولكنه ابوي مطلق‘ وفي المجتمع الروماني كانت حقيقة السلطة الابوية دامغة فالابن يبقى تحت سلطة الاب حتى بعد زواجه وهذا ماعزز فكرة الاسرة الممتدة في ثقافة الاغريق. وتشير ثقافة العرب والفرس والصينيين الى قوة النظام الابوي وهيمنته على اغلب مجريات الحياة الاجتماعية ان لم نقل اجمعها ولا مجال لنا الآن للخوض في هذه البديهيات.
الدين والنظام الابوي- تحالف ازلي
يذهب بعض المفكرين الى وجود علاقة تكاملية بين الدين والنظام الابوي وهذا الفرض ناتج عن جهود فكرية واسنتاجات ساهم بها العديد من المفكرين وبالذات منظري علم الاجتماع وعلم النفس. لقد استند المفكرون في فرضهم هذا الى بعض الشواهد التاريخية والى التقاليد الدينية للظاهرة الابوية ذاتها ولذك عزز بعضهم ،وخصوصا العرب منهم من امثال هشام شرابي وعلي زيعور، هذا الفرض بالذهاب الى ان التعاليم الدينية توفر حماية قوية للنظام الابوي والسلطة الابوية. بل ان بعضا من علماء الدين من امثال العلامة الطبئطبائي والعلامة الزمخشري اشارا الى هذه العلاقة بشكل غير مباشر عندما فسرا الآية (24) من سورة يوسف اذ جاء في التنزيل الحكيم (( ولقد همت به وهم بها لولا ان رآى برهان ربه))، لقد ذهبا الى ان سبب امتناع يوسف عن ارتكاب المعصية انه راى صورة يعقوب (الاب) عاضا على انملته توبيخا وتحذيرا فكان الرمز الابوي (خيال يعقوب) رادعا حقيقيا ليوسف (الصديق -الابن- ) في ان يمتنع عن فعل الهم.
مقترب فرويدي
لنفكر بطريقة فرويدية ونعود لتحليل الآية بالمنطق الطبئطبائي، ان خيال او صورة يعقوب لم يكن ربما خيالا واقعيا وانما هو الرمز الابوي الذي استدخل في ذات يوسف العليا اي الانا الاعلى بالمفهوم الفرويدي فكانت صورة الاب اذن صورة مستدخلة في لاشعور يوسف الذي استحضر الرمز الابوي في ذلك الموقف لكي يكون رادعا حقيقيا للانا السفلى فكان ذلك مدعاة لتقوية الانا في صراعها مع الهو( Id) وساندا لها ومما يزيد هذا التصور قوة هو ان صورة يعقوب كانت صورة تحذيرية والتي اشار اليها الطبئطبائي بقوله (عاضا على انملته) وهو رمز يشير بشكل واضح الى التهديد بالعقوبة.
هذا التحليل ربما يكون اكثر استيعابا في مخيلة عالم النفس (سكينر-ٍSkinner) الذي ذهب الى ان الانا الاعلى يمكن ان يفهم على انه (( قساوسة المجتمع)) وبهذا نضع المقتربات بين التفسير الطبئطبائي والفكر الفرويدي في ان الصورة انما هي صورة الاب القس الذي يمثل رمزا دينيا وثقافيا صارخا لتشكيل المحتوى الاساسي للانا الاعلى الذي يبنى كليا في المجتمعات الابوية على علاقة تبادلية بين الدين والابوية.
في دراساته عن عقدة اوديب ذهب فرويد الى ان الانا الاعلى انما يتكون من خلال العلاقة بين الاب وابنائه ليصبح فيما بعد بديلا لفكرة الاشتياق للاب التي تشكل الاساس الذي تبنى عليه الثقافة فرويديا اذ يفترض فرويد ان الاشتياق للاب انما هو الجذر الحقيقي لأي دين من الاديان. فأصل الدين انما تشكل نتيجة لعقدة اوديب او شعور الابناء بالاثم ولقد اشتق فرويد هذه الفرضية من اسطورة المقدس والمحرم (Totem and Taboo). وبهذا التصور يمكننا ان نبني فرضا فرويديا جديدا مفاده ان جذر الدين تكون بفعل النظام الابوي طالما ان سلطة الاب تسببت في تشكيل عقدة اوديب التي بدورها ساهمت في تشكيل طقوس المقدس ((التوتم)) ويعزز فرويد هذا الافتراض بدراسته لحالة ليناردو(Leonardo ) عندما يذهب الى ان النزعة الدينية في اي شكل لها انما تحتوي على جذر عميق في عقدة اوديب.
قفزة في الخيال الفرويدي
استنادا الى التصورات الفرويدية يمكننا ان نستحث الخيال السايكولوجي والسوسيولوجي في طرح المقتربات الفرويدية الآتية:
النظام الابوي =سلطة الاب
سلطة الاب =خطيئة الابناء
خطيئة الابناء الذكور =عقدة اوديب
عقدة اوديب = المقدس والحرام
المقدس والحرام = الدين
اذن الدين = النظام الابوي
او النظام الابوي = الدين
ايد آرنست جونز (Ernst Jones) وجود هذه العلاقة بين عقدة اوديب والنظام الديني اذ يبين ان الحياة الدينية تمثل عرضا لخطة كونية من العواطف والخوف والاشتياق المتسامي من خلال علاقة الابناء بالوالدين.
ان المعايير العائلية ووظائف الادوار الدينية وخصوصا دور الاب وخضوع الابناء اصبح قاعدة للاسقاط والقهر الملازم لسلطة الاب الذكورية وتحكم العائلة وهذا مايخلق نوعا من التعالق الجدلي بين الأله والاب وهذا يضعنا مجددا في امام اشتقاق فرضيات فرويدية فان كان الاب وفقا لهذا المنظور يلاقي مفهوم الاله فان من بديهيات المنطق ان يتلاقى مفهوم الدين مع مفهوم النظام الابوي.
تحديات مالنوفسكي
لقد اراد مالينوفسكي ( Malinowski ) ان يختبر فرضية التعالق بين عقدة اوديب والنمط الثقافي فذهب الى دراسة مجتمع التروبرياند (Trobriand ) الذي يعد مجتمعا امويا حيث صورة الاب البايولوجي صورة محبوبة وهذا يمثل نقيضا لفكرة الحتمية الفرويدية، ان هذا الاب لا يمتلك سلطة التأثير في بناء شخصية الابناء ذكورا واناثا. ان السلطة الحقيقية والهيمنة انما تتجلى في شخصية الاب البديل او شخصية الخال الذي يمنحه المجتمع القدسية الثقافية للهيمنة وهذا ما ولد روحا عدوانية بين الخال وابناء الاخت الذين لا يطيقون هذه السلطة ولكن مع هذا لم يسلم الاب المحبوب من الكراهية اللاشعورية اذ لفت (روهايم) الانتباه الى ان شخصية الاب البايولوجي كانت مكروهة لاشعوريا طالما انه استنبط كراهية لاشعورية عندما قام بتحليل لبعض احلام الاطفال في هذا المجتمع الذين كانوا يتخيلون صورة مرعبة للاب في بعض احلامهم، وبالتأكيد ان روهايم بدافع من الولاء للفرويدية يحاول رفض الراي النقيض والتقليل من وان كان مصيبا. ومع هذا فان مالينوفسكي لم يكون موفقا في دحضه للفكرة الابوية التي افترضها فرويد وانما اعاد صياغتها بنفس اجتماعي وثقافي لم يكن بعيدا عن النفس الفرويدي ذاته خصوصا في كتابات فرويد المتأخرة كالتابو والتوتم ومستقبل وهم بل وحتى الانا والهذا. ان فكرة مالينوفسكي انتجت فكرة فرويدية جديدة الاوهي فكرة السلطة والتسلط بوصفها اساسا لتشكيل العقدة، بمعنى ان الثقافة من خلال تعريفها لمفهوم التسلط الابوي انما تسهم في تشكيل العقدة او تعمل على تجاوزها ولكن دراسة مالينوفسكي اثبتت وجود العقدة حتى في المجتمع الاموي ذاته وهذا مايرد ادعاء مالينوفسكي بأن العقدة من ان العقدة غير موجودة ولكن الامر الاكثر جاذبية هو ان مالينوفسكي حول الانتباه نحو الحتمية الثقافية التي يشكل الدين فيها العمود الفقري وهذا لا يتناقض بالضرورة مع طروحات فرويد سيما وان علماء الاجتماع يرون ان مفتاح الفكر الفرويدي انما هو التنشئة الاجتماعية التي يطلق عليها الاستدخال سايكولوجيا وبهذا تكون فرضية مالينوفسكي الثقافية مستوعبة فرويديا.
هل المسيحية تٌعلم الابوية
انطلاقا من نفس الفرض التوافقي للعلاقة بين الدين والنظام الابوي نشرت جامعة شيكاغو (University of Chicago ) مناقشات جادة بين المفكرين حول امكانية المصادقة على هذا الفرض ورغم تضارب الآراء الا اننا بذلك يمكننا ان نفكر جديا في فحوى هذه العلاقة وامكانية تجديدها بوصفها قضية هامة في تفسير التفاصيل السيكوسوسيولوجية للحياة الثقافية.
في العهد القديم التوراة ( The Old Testament) نجد ان الحقيقة الذكورية الابوية حقيقة مطلقة اعطت تزكية للذكورة وتأثيما للانوثة، فالانثى اساس الخطيئة اذ جاء في سفر التكوين (3:16 - Genesis)
" للانثى قال الرب، تكثيرا اكثر اتعاب حملك وبالالم ستلدين اطفالا ويكون اشتياقك الى زوجك وهو المتحكم في امرك"
وهناك الكثير من النصوص المساندة ولكن ربما كان العهد الجديد (The New Testament ) اكثر صراحة في اضهار التصميم الرباني للدور الابوي في العائلة المسيحية اذ جاء باب العلاقة بين الازواج والزوجات (-5:22-24 Ephesians) النص الآتي:
" ايها الزوجات اخضعن انفسكن الى ازواجكن كما تخضعن للرب، الزوج هو المسؤول عن قيادة الانثى تماما مثلما يقود المسيح الكنيسة ............. الزوجات ينبغي ان يخضعن للازواج في كل شيء"
هذه الحقائق تؤكد الاسناد الديني للابوية وتدعونا مجددا لاعادة فهم الثقافة الابوية برؤية دينية لانها وسيلة اكثر منطقية لفهم قوة القهر الابوي وتسلطه في اغلب الثقافات وان تباينت. ان الابوية في حد ذاتها ليست مرضا يدعونا للنفور منها بوصفها ظاهرة فاعلة ولكن استفحال الهيمنة واضفاء صفة القدسية عليها يجعل من المساواة الاجتماعية امرا مستحيلا بل في كثير من الاحيان امر غير مقبول ثقافيا. ورغم ان سلطوية النظام الابوي بدأت بالتراجع الا ان الامر غاية في النسبية اذ مازالت الكثير من المجتمعات ترزح تحت خصائص ثقافية مفرطة في الابوية ومنها المجتمعات العربية وهذا ما سنحاول ان نتناوله في مقال قادم.



تحيات سعد الغريب