[align=center]الحوزة وتحديات القرن :
إصلاح التعليم الديني العالي عند الشيعة من سنة 1909 إلى الآن

الباحثة الفرنسية : صابرينا ميرفان ، فرنسا - باريس - 19.12.2005 - 12:00 am[/align]

بقلم : الباحثة الفرنسية / صابرينا ميرفان
ترجمة : محسن الهذيلي / فرنسا


الحوزة هي البداية حلقة التلاميذ التي تتكون حول الشيخ. وعلى سبيل المجاز استعمل الشيعة هذه العبارة للدلالة عن المدرسة الدينية، ثم عن مجموع المدارس المتواجدة في نفس المدينة، و تعني كذلك في الأخير نظام الدراسة الدينية العليا ذاته. تكمن أهم خصوصيات الحوزة، كما يتردد دائما على ألسنة الطلبة والأساتذة على السواء، في الحرية الواسعة التي يتمتع بها هؤلاء وأولئك. حيث يختار الطالب المستوى العلمي الذي ينوي الالتحاق به والمادّة التي ينوي دراستها والأستاذ الذي يقوم بتدريسها. و للأخير الحق في قبوله أو رفضه ضمن حلقة طلبته. بل يتم الاختيار بشكل متبادل وبالتراضي بين الجانبين. وهذا ما يمتن العلاقة بينهما و يدعم أساس النظام الدراسي القائم على التلقين الشفوي للعلوم. ينقسم هذا النظام إلى ثلاث مراحل،

الأولى :المقدمات ، وهي عبارة عن توطئة للعلوم الدينية، وذلك بدراسة اللغة العربية والمنطق ومبادئ في الفقه الإسلامي.

المرحلة الثانية: وتسمى السطوح، وتهدف للتخصص في الفقه الإسلامي على مستويي المناهج (الأصول) و التطبيقات (الفروع). كما تسمح بدراسة بعض العلوم الأخرى على سبيل الاختيار، كالحديث وتفسير القرآن والكلام وغيرها.

المرحلة الثالثة : وهي مرحلة البحث أو الخارج، وتتم بدون العودة إلى الكتب، و تسعى إلى إعداد الطلبة وتدريبهم على ممارسة الاجتهاد. ولابد من الإشارة إلى أن هذا النظام التقليدي يخلو من أي برنامج محدد. وقد تم الاتفاق من خلال ما دُرج عليه في الحوزة على دراسة بعض الكتب المحددة، بقراءتها وتفسيرها، لمدة قد تمتد عدة سنوات. وأثناء المرحلة الثالثة تترك الكتب جانبا على أساس أنها باتت معلومة المضامين، ويقع التفرغ إلى معالجة مشكلات محددة في الفقه الإسلامي. ويدعى الطلبة حينئذ إلى طرح آراءهم ووجهات نظرهم مثبتة ومستدلّة، في حصص هي أقرب إلى أجواء النقاش والحوار منها إلى أجواء الدروس الأستاذية الأحادية. ويلاحظ الأستاذ، أثناء ذلك نبوغ بعضهم فيقر لهم، في الوقت المناسب، بالقدرة على ممارسة الاجتهاد ويقدم لهم عندئذ شهادات في ذلك.

يعتبر نظام التعليم هذا نخبويّا (انتقائيا)، حيث ينبثق عنه عدد كبير من العناصر قليلة الأهمية (من الناحية العلمية) كالشيوخ الصغار المشتغلين في البوادي أو كأئمة مساجد الأحياء أو الخطباء، إلا أنه يهدف أيضا إلى تكوين أرستقراطية دينية تتمثل في أولئك المجتهدين المنحدرين عادة من عائلات دينية. فوق ذلك، يرتبط هذا النظام التدريسي بشكل مباشر بالقيادة الروحية الشيعية المتمثلة في المرجعية. فالمرجع الذي هو عبارة عن مثال يحتذى به على مستوى آراءه الفقهية منبثق عن الحوزة، ويدرّس فيها ويبرز بين أمثاله على أنه الأعلم والأجدر بزعامة الطائفة. فلا ضرورة هنا إلى الانتخاب أو إلى التنصيب الشكلي، إنما يتم الاعتراف به على مستوى رجال الدين الذين يقتدي بهم بعد ذلك عموم الناس. ويمكن القول أن التنافس للوصول إلى الزعامة العليا شديد وشاق بين الأساتذة المشهود لهم بالعلم والمتميزين بشخصيات كريزمية (charismatique). و تعود هذه الزعامة، في الأخير، إلى الذي يجتذب إليه أكبر عدد من الطلبة ويتفوق أثناء المناقشات التي تملأ الحوزة[1]

ويمكن رصد تاريخ الإصلاح في الحوزة : بملاحظة التحولات التي طرأت على طريقة تلقين العلوم وتكوين رجال الدين من ناحية، مما يساعد على تحليل التحولات التي أصابت أنماط التلقين التقليدية كعملية بيروقرطة وعقلنة هذه المؤسسة على سبيل المثال؛ ومن ناحية أخرى، بالتمعن في التغيرات التي طرأت على نوعية المعرفة نفسها، وذلك عبر إدخال مواد جديدة سواء عن طريق حركة علمنة تقحم علوما عصريّة في منهاج التعليم الديني، أو من خلال سياقات التحديث التي تقوم بدمج اختصاصات دينية جديدة تجيب على الأسئلة المستجدة التي يطرحها المجتمع أو تفرضها الأفكار الدخيلة على المناخات الفكرية المحلية. والحوزة هي مكان يحتضن النقاش، وهي ليست مناسبة لطرح النظريات وحسب، بل مناخا تتطور فيه الأفكار وتنتشر عن طريق الصحف والمجلات، بين أوساط رجال الدين وفي الخارج. ويدرّس في الحوزة أغلب كبار المجتهدين والمراجع. إن كلّ الأفكار المستجدة في أوساط رجال الدين الشيعة لابد وأن تمر في الحقيقة بالحوزة. وتشهد هذه الأخيرة أيضا المجادلات النظرية المفضية عادة إلى الإصلاحات المتعلقة بالأحكام الشرعية. ويُتدارس في الحوزة أيضا شؤون المرجعية وتوجهاتها وإعادة هيكلتها والتغييرات التي قد تطرأ على مكانة رجل الدين ودوره. تعتبر هذه المدارس، إذًا، ميدانا جيّدا لرصد حركات الإصلاح التي تنشط في أوساط رجال الدين الشيعة.

من المؤكد أن حوزة النجف أثّرت أكثر من غيرها في تاريخ التشيّع. وقد أسست في سنة 1056م على يد الشيخ الطوسي عندما فرّ من بغداد واستقر بالمدينة التي تؤوي مرقد الإمام علي. ورغم منافسة بقية "العتبات المقدسة" عند الشيعة ، والتي تضم هي الأخرى مراقد للأئمة مثل كربلاء والكاظميّة وسامراء؛ لا يزال النجف حتى القرن العشرين أكبر تجمع للمدارس والعلماء الشيعة. ومنذ سنوات 1930 أصبحت مدينة قم منافسا حقيقيا للنجف، وذلك بعد تولي عبد الكريم الحائري اليزدي (1860-1937) شؤون الحوزة فيها حيث استقر بها في سنة1922 [2]. واحتد الصراع بعد ذلك بين القطبين العراقي والإيراني على الرّيادة في حقل التعليم الديني العالي و في تنافسهما كذلك على المرجعية[3] .

لم يعرف النجف حركة إصلاحية منظمة كالتي غيرت وجه الأزهر على مراحل متوالية بدفع من محمد عبدو ومن تبعه من المصلحين[4] كانت التجارب في هذا المجال غير منتظمة ومتأخرة نسبيا. وعلى الرغم من ذلك فقد عرفت بعض أوساط رجال الدين في النجف عقلية إصلاحية منذ بدايات القرن العشرين، وذلك في مدار أحد المجتهدين وهو الملاّ كاظم الخراساني (م. 1911) الذي ساند الحركة الدستورية في إيران ووقف وراء بعث مدارس ذات نمط حداثي في المدينة المقدسة العراقية أين كان يضطلع بدور المرجعية. ولقد ظهرت في مجلة العرفان في صيدا[5] سنة 1909 أولى النقود العلنية لنظام التعليم الديني الشيعي. وأغلب الظن أن لا يكون كاتب المقال، الذي كان يمضي بالحروف الأولى من اسمه (ص.ن)، سوى رجل الدّين المقيم آنذاك في النجف، صدر الدين الصدر (1882-1953)، الذي لعب فيما بعد إلى جانب الحائري دورا في إعادة تنظيم الحوزة في قم[6]وظهر الانتقاد الثاني في كتاب لأحد تلامذة الخراساني، والذي نشر في إسطنبول سنة 1910. اعتمد النقد الأول مقارنة بين الحوزة والمدارس غير الدينية، وقام الثاني بمقارنة مع الأزهر. ويخبر النصان المذكوران عن مضمون النصوص التي جاءت فيما بعد، على مدى القرن، والتي تشير إلى قلة التنظيم وبالتالي إلى الفوضى السائدة في المدارس وغياب أي نظام لانتداب الطلبة ومراقبة مستواهم وفرض القوانين عليهم، إلى آخره. وكان لابد من الانتظار حتى سنوات 1920، وخاصة تيار سنوات 1930، لتطرح المسألة، بشكل فعلي في أوساط رجال الدين الشيعة. استُهل النقاش، في البداية، على يد رجلي دين لبنانيين هما: محسن الأمين (1867-1952)، وهو مجتهد مقيم في دمشق، ومحسن شرارة (1901-1946)، رجل دين شاب كان لا يزال طالبا في النجف. قام الاثنان بكيل الانتقادات المتواصلة على النظام التعليمي، وقدما إقتراحات من أجل تحسينه وإصلاحه عبر وضع برامج (تعليمية) محددة ومدروسة، إدراج كتب تعليمية أكثر وضوحا وتبسيطا، بعث أقسام تأخذ بنظر الاعتبار المستوى العلمي للطلبة وتقييم كفاءاتهم، إلى آخره. وذهب محسن شرارة إلى حد الدعوة إلى إدخال العلوم الحديثة مثل السوسيولوجيا والبسيكولوجيا في البرامج التعليمية، كما دعا إلى تدريس اللغات الأجنبية كالإنجليزية مثلا وكذلك الدراسات المقارنة للأديان. ولقد أثارت هذه الدّعوات إلى إصلاح التعليم الديني موجة عارمة من المجادلات المتشنّجة في الصحافة وفي أوساط رجال الدين؛ ووصل الأمر إلى حد اتهام محسن شرارة بالكفر. مما اضطره، على إثر محاولة لاغتياله، إلى الانسحاب و الاختفاء. لقد اصطدم رجال الدين الإصلاحيّون، ليس فقط بنظرائهم من التقليديين، بل وبتصميم شيعي عام على حماية خصوصيات الحوزة التي تقوم ـ كما أسلفناـ على الحرية الكاملة في النظام التعليمي[7].
وفي الثلاثينيات، اجتذبت الحركة من أجل الإصلاح بعض المتعاطفين من بين العلماء المقيمين بالمدن المقدسة. وقام أكثرهم عزما بالانضمام إلى مجموعة من رجال الدين اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين الذين عرفوا بالتحامهم بمدار مجلة الهاتف التي كان يديرها جعفر الخليلي[8]، وذلك للتعبير عن آراءهم. وكانوا يتبنون أفكارا تدعو إلى تنظيم وعقلنة وتحديث العلم، وكذلك، فتح الحوزة على العالم. وأدت بعض التجارب الإصلاحية على نموذج الحوزة إلى محاولات لبعث مدارس مجددة(réformé). ولكنّها لم تكن سوى ثمرة جهود ومبادرات فردية لشخصيات ورجال دين بارزين. وهكذا قام محمد حسين آل كاشف الغطاء (م.1954) بإعادة فتح مدرسة جده جعفر ليجعل منها فيما بعد مؤسسة على النمط المجدد أضاف إليها مكتبة[9]وبعد سنوات قام رجل دين عراقي، عز الدين الجزائري، بتأسيس مدرسة تعمل حسب نمط المدارس الحديثة، و تعتمد على برنامج للدروس ومواقيت مضبوطة مع إدراج امتحانات للمراقبة و مشاركة فريق ممتاز من الأساتذة. وقد أولي للإجازة في اللغة العربية اهتمام خاص. وعبرت كل هذه التجارب عن أولى إنشغالات المصلحين.

كما افتتحت مدرسة النجف دورتها الأولى سنة 1943، ولم يتم فتح كل أقسامها وتشغيلها بشكل واسع إلا مع حلول سنة 1957[10]. وأراد بعد ذلك المرجع محسن الحكيم، سنة 1960، أن يطور، بدوره، برامج الحوزة ويصنع جيلا جديدا من رجال الدين القادرين على التفرغ لعمل التبليغ. فقام لهذا الغرض، سنة 1963، بتأسيس مدرسة العلوم الإسلامية. لقد شعر العلماء في تلك الفترة بأنهم مطالبون بالرد على الأفكار الشيوعية التي بدأت في الانتشار، حسب نظرهم، بين الشباب من المثقفين الشيعة. وكان لابد لهم من وضع حدّ أمام هروب أصحاب العمائم. وتصدى محمد باقر الصدر (م.1980) الذي برز حينذاك كزعيم للحركة الإسلامية العراقية لإعداد - باسم القيم الإسلامية- الأدوات النظرية لمواجهة الشيوعية والفلسفة الغربية، فأصدر كتابيه المشهورين: اقتصادنا وفلسفتنا. وأدرجت على إثر ذلك مادتا الاقتصاد والفلسفة في برامج المدرسة التي أسسها محسن الحكيم، واضطلع تلامذة محمد باقر الصدر بتدريس المادتين[11]. ولم تفلح هذه التجربة، كسابقاتها، في إعادة هيكلة الحوزة كمؤسسة، ولو أنها نجحت في تعجيل حركة التحديث وكذلك تحسيس الطلبة بالمشاكل التي أضحى يطرحها المجتمع. وقامت هذه المدارس بنشر العديد من المجلات التي كانت بمثابة همزة الوصل بين رجال الدين الشبان والعالم الخارجي، ومثلت في ذات الوقت المنبر الحر للأفكار الجديدة وللترويج لمشاريع الإصلاح. وبالإضافة إلى ذلك، قامت تلكم المدارس بإعداد طلبتها في مجال الخطابة بشكل تطبيقي وفي إطار دورات أعدت للغرض، بينما شهدت الحوزة حركة إصلاحية جذرية تمثلت في إنشاء كلية الفقه سنة 1958. واستمدت هذه المبادرة جذورها من جذوة النقاشات التي عرفتها الحوزة منذ بدايات سنوات 1930. حيث التفت مجموعة من رجال الدين الشبان حول محمد رضا المظفر (م.1963) وقامت، بعد العديد من المدارسات، بتأسيس جمعية منتدى النشر سنة 1935. وكان هدفهم من وراء ذلك، إصلاح التعليم رغم إدراكهم لحساسية هذه المبادرة، بسبب المعارضة القوية لهذا المشروع ولكل مشروع إصلاحي يصدر عن أوساط رجال الدين[12]. فبدؤوا بتنظيم المحاضرات ونشر بعض الكتب التراثية، ثم انكبوا على نشر الكتب المدرسية المجددة الموجهة للمدارس الدينية. وهي عبارة عن كتب بيداغوجية مبسطة ومفهومة من أجل تعويض الكتب القديمة التي يتداولها العلماء فيما بينهم، والتي يكتبها بعضهم في لغة تتوجه إليهم لا إلى مجموع الطلبة. وقام محمد رضا المظفر نفسه بتحرير العديد منها: كتاب مدرسي في المنطق وآخر في أصول الفقه وواحد في العقيدة. وهي كتب لا تزال تدرّس حتى يومنا هذا. وقام بعدها بنشر دروسه في الفلسفة الإسلامية.

وفي سنة 1939، قام منتدى النشر بفتح مدرسة ابتدائية تدرس كامل مرحلة السطوح. ثم أنشأ عام 1958، "معهدا" للفقه الإسلامي (معترف به لدى الحكومة العراقية) وذلك بفضل الجهود التي بذلها محمد رضا المظفر نفسه، و يشتغل حسب نظام الجامعة. ولقد تحقق لكلية الفقه ما هو أهم، حيث أصبحت سنة 1974 جزءا من الجامعة العراقية، وذلك حتى سنة1991 حيث أعلنت الحكومة العراقية حلها مما يعني غلقها. وبالإضافة إلى العلوم الدينية التقليدية التي يعتمد في تدريسها على الكتب المدرسية المستصلحة، تقوم المدرسة بتقديم عدة مواد أخرى كالنقد الأدبي والإنجليزية والسوسيولوجيا والبسيكولوجيا. وقامت المدرسة للمرة الأولى بتقديم دروس في أصول الفقه المقارن، وهو ميدان تخصص كل من عميدها الأول، محمد تقي الحكيم (م.2002)، أحد أعمدة منتدى النشر[13]، ورجلا الدين اللبنانيان اللذان كانا يدرّسان فيها، الأخوان محمد جعفر ومحمد مهدي شمس الدين[14]وحسب هذا الأخير حاولت كلية الفقه، التي شارك في تأسيسها، "الاضطلاع بتكوين علماء وخطباء ومبلغين وأساتذة واعين بالقضايا والإشكالات التي تطرحها المدنية الحديثة والتي تتصل بشؤون وحياة المسلمين"[15]وفي الواقع، لم يكن هدف المسيرين للمدرسة تكوين نخبة من رجال الدين فحسب، وهو ما كانت تقوم به الحوزة العلمية التقليدية، وإنما حسن تكوين طبقة وسطى من رجال الدين تكون قريبة من المؤمنين؛ وفي ذات الوقت، تأهيل أساتذة ومعلمين من أصحاب الكفاءة في العلوم الدينية ومؤمنين بالقيم الإسلامية بإمكانهم التدريس في المستقبل في المدارس العلمانية. ويعني هذا، سعي المدرسة لتعميم التعليم الديني العالي، الذي لا يزال حتى ذلك الحين يدعم الأرستقراطية الدينية دون السماح إلا نادرا بظهور نخب جديدة. وعلى الرغم من كل الانتقادات التي وجهت إلى كلية الفقه واللغط الذي أثير حولها، فقد كان لها تأثير كبير في تاريخ التعليم الديني الشيعي وانتظام الحوزة. لاشك أنه لا يزال هناك أشخاص متحمسون دائما للنظام التقليدي وللمدارس التي تشتغل وفق هذا النمط، إلا أن أغلب هذه المدارس باتت متأثرة بدرجات متفاوتة بفعل الإصلاح. وحسب هذه التجربة، يتعلق أكثر الأسئلة حساسية بمسألة الاستقلالية بالنسبة إلى الدولة. وفي أوج القمع ضد الشيعة وحركتهم الإسلامية، بعد إنتفاضة 1991، إستطاعت الحكومة العراقية القضاء نهائيا على كلية الفقه. وقد أمكن لها ذلك بأكثر سهولة لاندراج هذه الأخيرة في النظام التعليمي الوطني. يعتبر أغلب رجال الدين الشيعة أن استقلالية الحوزة "في برامجها ومناهجها ومواقفها فيما يخص الفقه الإسلامي، وأيضا في الميادين الاجتماعية والسياسية والثقافية" أمر ضروري، كما لاحظ محمد حسين فضل الله[16]، الذي أضاف أن الحوزة في إيران كذلك، التي تعتبر دولة إسلامية، ما فتئت مستقلة وهي تعتمد كما في كل مكان على الأداءات الشرعية التي يقوم المؤمنون بدفعها لمراجعهم. وهذا ما يجعلها شديدة الارتباط بالمرجعية، وذلك سواء على المستوى المالي أو على المستوى الروحي حيث تقتدي كل حوزة بمرجعها.

وفي سنة 1960، ظهرت أولى المدارس المجددةفي إيران. من المؤكد أنه على أثر إعادة تنظيم حوزة قم على يد الحائري، تم قطع أشواط عديدة في هذا الاتجاه. ولكن الروح التقليدية بقيت سائدة على مستوى المدارس التي تدعمها ماليا أوساط تجار البازار. ولم يكن من السهل، إذا، أن يوفق المرجع البوروجوردي (م.1961) إلى تنظيم الحوزة، التي أدخل عليها على سبيل المثال نظاما للامتحان[17]وخرجت إلى النور، بعد ذلك في قم، ثلاث مدارس مجددةهي: مدرسة حقاني، دار التبليغ التي أسسها آية الله شريعة مداري ثم مدرسة أمير المؤمنين ومؤسسها ناصر مكارم[18]تعتبر هذه المدارس هي الأكثر نشاطا وتجديدا وكان لها دورا مهما في عملية الإصلاح[19]وحملت رياح ثورة 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية معها إلى الحوزة العديد من التغيرات: زيادة عدد الطلبة، تدفق الأجانب عليها، فتح أقسام خاصة بالنساء، إدماج مواد عصريّة، زيادة الاهتمام بالفلسفة الإسلامية ووضع نظام تسوية بين الحوزة والجامعة يسمح بالمرور من أحدهما إلى الأخرى. وبهذا أصبحت قم نمطا جديدا يحتذى به[20]ويمكن أن نلاحظ اليوم تأثيرات كل من قم والنجف، على المدارس الدينية الشيعية في كل من لبنان وسوريا، أين يتجلى إضافة إلى ذلك التاريخ الطويل للإصلاح في الحوزة والمراجعات التي كانت تجري في أوساط رجال الدين. وفي ما يلي نجد بعض الملاحظات، وهي النتائج الأولية لتحقيق نحن بصدد القيام به ولم نتفرغ منه بعد.

في نهاية الستينات وبداية السبعينات، قام بعض العلماء اللبنانيون الذين درسوا في النجف بفتح مدارس في بيروت وجنوب لبنان، وذلك عقب عودتهم من المدن المقدسة. كما قام بعض العلماء العراقيون، منذ سنوات 1970، بإنشاء مدارس دينية شيعية حول مقام السيدة زينب قرب دمشق، عندما بدأ يستوطنها عدد كبير من الجالية العراقية الشيعية. لم يكن الهدف من وراء ذلك مزاحمة النجف أو قم، وإنما إعداد الطلبة للالتحاق بها لإكمال تعليمهم، وذلك بعد استيعاب تحتيات العلوم (بعد بلوغ منتصف المرحلة الثانية أي السطوح). لازالت بعض المدارس، خاصة في جنوب لبنان، تشتغل حسب النمط الحوزوي التقليدي. ويتجاهل القائمون عليها الفائدة من الإصلاح محتجين على عدم تأثيره على مضامين الدرس، متذرعين بأن الإصلاحات لا تقوم بشيء سوى إدخال تحويرات على مناهج وآليات التدريس. ويقومون لينتقدوا بعد ذلك المستوى (العلمي) في المدارس المستصلحة، التي لا تقدم حسب رأيهم سوى "معلومات عامة" لا غير[21]. ويستوجب على الطلبة، الذين ينوون إتمام مرحلة الخارج وبلوغ درجة الاجتهاد، أن يلتحقوا بقم أو النجف ليتموا دراساتهم. علما وأن أغلب المؤسسات التي فتحت في السيدة زينب أو في لبنان هي مما يمكن اعتباره مدارس مستصلحة. وهي ترتبط في توجهاتها واختياراتها المهمة، المتعلقة بمسألة التحديث، بما يراه المرجع أو المجتهد الذي يشرف عليها. ويحيط بهذا الأخير عدد من الأساتذة الذين يشاركونه آراءه. تخضع كل مدرسة من هذه المدارس إلى السلطة الروحية لأحد المراجع أو من يمثله من المجتهدين، وإن كانت تشتغل كمؤسسة بيروقراطية يترأسها مدير مخصوص. ويقوم المجتهد بالتدريس فيها المستوى الأعلى (دروس الخارج) ويقدم المحاضرات. وينفق المرجع على الحوزة بالصرف عليها من الأداءات الشرعية، مما يسمح بإسناد منح شهرية للطلبة. ومن بين العشر مدارس التي فتحت أبوابها في الضاحية الجنوبية من بيروت[22]، لفت انتباهنا ثلاث منها من النمط المستصلح، بسبب مستوى الدروس التي تقدمها وعدد طلبتها والمرجعية التي ترتبط بها. و تقوم، كبقية المدارس، بانتداب طلبتها من بين المنتمين إلى السنوات الأخيرة في الثانوي، و تقترح فترة دراسية من أربع أعوام. ونقصد بهذه المدارس، حوزة الرسول الأكرم، ذات الصلة بإيران والمرتبطة بمرجعية علي الخامنائي وهي قريبة كذلك من حزب الله؛ المعهد الشرعي الإسلامي الذي يشرف عليه محمد حسين فضل الله، وهو مرجع بدوره؛ معهد الشهيد الأول للدراسات الإسلامية، الذي أسسه محمد مهدي شمس الدين وأشرف عليه حتى وفاته، ويرتبط هذا المعهد بالمرجع علي السيستاني. ويبرز الاختلاف بين هذه المدارس بداية من التسميات. قدّمت الأولى بوصفها حوزة، وهي تعتمد كما هو معلوم مثال قم وتتبع توجيهات علي الخامنائي. ويطلق على المدرستين الأخريين تسمية معهد وذلك لرغبة مؤسسيها في التباين مع الحوزة دون التنكر لها.

تعتمد هذه المدارس برمجة حداثيّة نسبيا، وتدفع، من خلال نمط اشتغالها، نحو مستويات بعيدة من البيروقراطية والتنظم. ومن المفارقات أن أقل هذه المدارس تأثرا بالإصلاح، هي تلك التي أسسها محمد مهدي شمس الدين. لا شك أن ذلك راجع إلى الصعوبة التي لقيها لفرض نظرته الحداثية على الذين كانوا يحيطون به[23]ثم إنها لا تتضمن أي فرع للإناث، الأمر المتحقق في المدرستين الأخريين. حيث أن المرأة لم تعد تتلقى تعليما دينيا مرموقا فحسب، وذلك بعيدا عن تلكم المحاضرات التي لم تكن تقدم لها سوى ثقافة إسلامية قشرية، بل بلغ مستوى الدرس، أحيانا، درجة عالية نسبيا. وكمثال على ذلك، المدرسة التي تعمل تحت إشراف محمد حسين فضل الله، المعروف والممدوح لدى المتحمسات له، بمواقفه المتضامنة مع قضايا المرأة (féministe). وما عدى مادة أو مادتين يمكن اعتبارهما سابقتان لزمانهما بالفعل والتي لا تقدم إليهن، فإنهن يتلقين نفس التكوين الذي يتلقاه الذكران من زملائهن الطلبة. ومن ناحية أخرى تقيم الطالبات علاقات واضحة وصريحة ومرتاحة مع الأستاذ الذي هو رجل دين، حيث لا يترددن في مقاطعته واستفساره أو استجوابه بعد الدرس [24] ، حول قضايا تشغلهن بشكل خاص. ويقدم قسم الإناث في الحوزة ذات الصلة بإيران، حوزة الزهراء، بدوره، دروسا مجددةفي العلوم الدينية والعصريّة، مضافا إليها مواد حول تربية الطفل والعائلة في الإسلام، إلى آخره. ويقوم الانتداب إلى المدرسة على نظام انتقائي صارم يحتوي امتحانا في المنطق لم تتردد إحدى الطالبات من اعتباره "مناظرة" حقيقية.

يعتبر التأنيث إحدى الثوابت المشتركة للمدارس في لبنان والسيدة زينب. ويعود هذا التوجه، دون شك، إلى إيران، البلد الوحيد الذي توجد فيه نساء مجتهدات. وإذا كان عموم مستوى المدارس ضعيفا نسبيا في السيدة زينب، فإن الطالبات في لبنان قادرات على تحصيل معرفة راسخة بالعلوم الدينية. ويعتبر هؤلاء الطالبات التحاقهن بالحوزة ، من وجهة نظرهن للإسلام، سلوكا نضاليا وكذلك نسويا (féministe) وهي طريقة لتحقيق الذات والمطالبة باستقلالية أكبر. وتقدم النساء النشطات خطابا يعكس رغبة في التصدي لوسطهن، الزوج والعائلة، من أجل إتمام الدراسة والوقوف في وجه الغطرسة الرجالية، ولأن تعلمهن سوف يكشف لهن الحقوق التي يكفلها الإسلام للمرأة. ولا تكفي دائما مساندة بعض العلماء "المنورين" في إقناع العائلات التي لا تزال متحجرة. على الرغم من ذلك فإن بعض الليونة، على مستوى العقلية، باتت محسوسة، حسب رأيهن. أمّا فيما يتعلق بالمدرسة ذاتها، فإن كل الظروف مواتية ماديا لتيسير مهمتهن: حيث توجد حافلة خاصة مجانية تقلهن من عند بيوتهن، كما توجد حضانة ملحقة بالمدرسة. وبعد التخرج يكتفي بعض النساء بالتبليغ بين أطفالهن وعائلاتهن وفي محيطهن، بينما تقوم أخريات بالعمل في مؤسسات دينية وفي التدريس. كمتعلمات ونشطات ومناضلات فاعلات، تسعى هؤلاء النساء لأن تسجلن حضورهن في الساحة. وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأنهن قادرات خلال السنوات القادمة على أخذ موقع لهن ذا أهمية مطردة، وذلك سواء في المجال الديني أو في الحيز العام[25].

ويتابع عدد من الطالبات دروسا جامعية إلى جانب تكوينهن في العلوم الدينية. نلاحظ نفس الظاهرة في صفوف الذكور: فمن الواضح أنه كلما كان مستوى المدرسة جيدا، كلما كان عدد الطلبة الذي يتابع نظامين دراسيين أكبر (يصل إلى حد النصف)[26]ويتوجه هؤلاء الطالبات ضمن الجامعة نحو اختصاصات مثل الألسنية والآداب والفلسفة أو يختصصن في العلوم الصحيحة (les sciences dures). ويؤكد هذا،و كذلك بالنسبة لأقسام الذكور، على أن الأمر لا يتعلق بتكوين رجال دين وعلماء مدعوين إلى ممارسة أدوار دينية فحسب، وإنما بإعداد مبلغين أيضا، يدعون للإسلام في حياتهم الاجتماعية وفي أثناء ممارستهم لمهنهم مهما كانت طبيعتها. لقد فتح هذا التعميم للمعرفة الدينية أوساط رجال الدين، التي بقيت إلى ذلك الحين نخبوية جدا، على المجتمع كله. لقد بات أغلب طلبة الحوزة من الذين لا ينحدرون من "عائلات علمائية" أي من سلالات لرجال دين تقليديين، كما كان عليه الأمر في الماضي. وقد برز نوع جديد من رجال الدين، علماء: أصحاب شهادات جامعية –دكتوراه- وشيوخ، مما يسبب في بعض الأحيان مشكلات هوية، ونلاحظها حين يمضون كتاباتهم ومقالاتهم في المجلات وغيرها: فنفهم أي شخصيّاتهم العلمية يريدون أن يضعوها في المقدمة من خلال لقب – دكتور أو شيخ – الذي يلصقونه بأسمائهم. ومنهم من لا يحمل العمامة لإظهار تطابقه مع مثل الرسول نفسه، الذي لم يكن يحمل أي رمز يتميز به، ولأنهم يريدون كذلك الذوبان مثله في صفوف المؤمنين، رغم أنه موقف يصعب تحمله في مجتمع لازال يؤمن بالفوارق والمقامات و يُعتبر وضع العمامة فيه قيمة اجتماعية مرموقة. لقد همس لي أحدهم في شيء من الامتعاض كيف قدم عليه في إحدى المناسبات أحد تلاميذه المعممين. فبينما نودي (كرم) التلميذ بلقب شيخ كان مصير الأستاذ أن ركن في آخر القاعة.

إلى جانب هؤلاء "الشيوخ المثقفين" يوجد "مثقفون دينيون"، جامعيون وأصحاب معارف دينية تلقوها في الحوزة. ويعتمد هؤلاء آليات فكرية ونظرية مستمدة من العلوم الاجتماعية مع البقاء، في ذات الوقت، في الإطار الديني واستعمال تصورات إسلامية باقتدار واضح. وسواء كانوا مناضلين قريبين من حزب الله أو غيره من التيارات (mouvances) أو اختاروا أن يكونوا مستقلين، يدافع الجميع عن تصورهم للإسلام. ويلوح من وراء الرجوع للمدارس الدينية وبروز رجال دين من نوع جديد مشروع مجتمع في طور التنشئة والمطارحة. وقد انبثق عن الحركات الإسلامية لسنوات 1960-1970، نضج هذا المشروع اليوم بفضل التجربة الإيرانية بشكل خاص. ويوجد في هذه الأوساط طرح واسع لمفاهيم المجتمع المدني والمجتمع الإسلامي. وهي طروحات متأثرة جدا بما يجري في إيران حول نفس الموضوع من مجادلات وتجاذبات ما بين الإصلاحيين والتقليديين[27]. وقد مرّ عدد كبير من رجال الدين اللبنانيين والعراقيين بالحوزة في إيران، وهم لا يزالون يترددون عليها بانتظام. ولديهم صلات بأوساط المثقفين الدينيين الإيرانيين، ويقرؤون وربما يكتبون في المجلات الصادرة في إيران، مثل قضايا إسلامية معاصرة التي تصدر باللغة العربية. وتقوم دار الهادي في بيروت بإعادة طبع أهم البحوث المعمقة المنشورة فيها. ومن جهة أخرى تقوم بعض المجلات الصادرة عن حوزات لبنانية أو غيرها، مثل مجلة المنطلق (التي أصبحت المنطلق الجديد)، بمتابعة هذه الطروحات، عن طريق ترجمة بعض المقالات، مثلا، عن مجلات باللغة الفارسية.

وتعكس الأوساط القريبة من الحوزة في لبنان كما في السيدة زينب صدى المناقشات الجارية في طهران أو في قم، وتشارك فيها. إذ لا أحد يجهل، في هذه الأوساط، المفكرين الإصلاحيين من أمثال عبد الكريم سروش ومحسن كديفار ومجتهد شبستاري (ويعتبر الأخيران رجلي دين). ويسعى هؤلاء، كل حسب طريقته، إلى التفرقة بين الديني والسياسي والعمل على رسم حيز علماني يأخذ في الحسبان الانتماء إلى مجتمع مسكون بالقيم الدينية[28]. وقد قوبلت كتاباتهم بكثير من التحليل والتعليق.
ويمكن أن نستنتج، على مستوى المدارس المستصلحة، اليوم، إلتزامها ببعض الثوابت وتأكيدها على توجه عام. نلاحظ، أولا، الاهتمام المتزايد بالبيداغوجيا وخاصة المنهج، حيث تعتمد هذه المدارس بشكل شامل على الكتب الدينية المجددة(وخاصة كتب محمد رضا المظفر ومحمد باقر الصدر)، وتقدم برامج تساعد الطلبة على التطور المستمر. وتوفر، إلى جانب ذلك، دروسا في المنهج وأخرى تحضيرية في البحث. وعمم تدريس المواد العصريّة (profanes)، وهي ظاهرة آخذة في الانتشار. وزاد الاهتمام كذلك بتدريس الإنجليزية. أما فيما يتصل بالعلوم الدينية، فقد تم إدراج عديد الاختصاصات كالفقه الإسلامي المقارن، الاقتصاد، الفلسفة الإسلامية، تاريخ الأديان المقارن، التاريخ الإسلامي وتاريخ الفقه الإسلامي. أما بالنسبة لاختصاصات أخرى مثل فلسفة القانون الإسلامي أو القانون المقارن (القانون الإسلامي والقانون الوضعي) فقد أصبحت تدرس في المدارس الأكثر حداثية، أين يرتسم توجه نحو تخصص أكبر في الفروع الإسلامية. ويتطابق هذا الاختيار مع إختصاصيّة في الاجتهاد: لم يعد ممكنا لعالم واحد أن يحكم في كل المسائل نظرا لتنوعها وتعقيداتها المستحدثة. لا مفرّ إذًا من الاختصاص. وفي الأخير، تقدّم هذه المدارس اليوم، دروسا فيما بات يسمّى "علم الكلام الجديد". برز هذا الاختصاص الجديد في إيران، على يد جيل ساهم في الثورة الإسلامية، للإجابة على العديد من الاستفهامات وإيجاد الحلول للمآزق التي واجهته. أثبتت تجربة الثورة أن هناك أشياء "لا تشتغل"، سواء على المستوى الاقتصادي أو على مستوى القانون الإسلامي، وبشكل أكثر فداحة في مجال الفكر الدّيني الذي عجز على الإحاطة بمشاكل الإنسان العصرية. كان لابد إذا من البحث عن تكيف ما. ينبني علم الكلام الجديد، كما روج له مجتهد الشبستاري مثلا، على إنتاج نظرية دينية وليس الدفاع عن جهاز عقدي، وذلك من خلال المشكلات التي يثيرها الواقع والتجربة. ما هي الدّيمقراطيّة؟ ما هي الشّورى؟ المجتمع المدني والمجتمع المدني الدّيني، ما هما؟ كيف التفكير في الحقوق الإنسانية؟ يتعلق الأمر، في كل الاحتمالات، برصد الصّلات التي تجمع بين الناس وليس العلاقة بين الله وعبده كما في علم الكلام القديم. ويعتمد هذا الكلام الجديد على مبادئ عامة: التوحيد؛ وجود قيم سابقة على الإسلام وقام هو بتطبيقها، وربما روجت لها قبله بعض الأديان الأخرى؛ فكرة أن الإنسان، كخليفة الله على الأرض، حر ومسؤول وقادر على مراقبة ذاته (بفضل خصاله وممارسته العبادية). وتستمد كل التصورات المستعملة (في هذا الخطاب) من القرآن. لقد ساعد هذا الكلام الجديد على تجديد الإسلام وذلك باعطاء أسبقية للتفكير. وساعد كذلك، على التفكير حول الدّيمقراطيّة والحقوق الإنسانية والتعدّديّة الدّينية[29].وهو مما يمكننا القول معه أن هذا الكلام سيكون واعدا.

هناك اختصاص آخر يحظى، بدوره، باهتمام زائد ألا وهي الفلسفة الإسلامية، التي لم تدرج في برامج كل المدارس الدينية فحسب، بل إننا نشهد فتح عدد من المعاهد المتخصصة في هذه المادة أبوابها في الضاحية الجنوبية من بيروت، كالمعهد الإسلامي للمعارف الحكمية. ويهتم هذا الأخير بالفلسفة الإسلامية التقليدية (الاشراقية) والحديثة والعرفان والفكر الإسلامي المعاصر والأخلاق والدراسات الدينية المقارنة. وتبدو التأثيرات الإيرانية واضحة في هذا الميدان الذي لم يكن محل اهتمام في لبنان. ونسجل في نفس الوقت أهمية الحضور النسائي في هذه المؤسسات. وهو يعبر عن توجه روحاني جديد وفردنة للدين. تتجمع كل هذه المعطيات لتؤكد على وجود حركية إصلاحية نشيطة وحية في الأوساط الشيعية اليوم، وهي حبلى بكثير من التحوّلات والتغيّرات.



--------------------------------------------------

[1] حول المرجعية،انظر،
Linda Walbridge (ed.), The most Learned of the shi`a. The Institution of the Marja` Taqlid, Oxford University Press, 2001.
[2] سوف نعتمد فيما يخص المدارس الدينية في العراق على ما يلي:
Meir Litvak, shi`i scholars of nineteenth-century Iraq. The `Ulama’ of Najaf and Karbala’, Cambridge University press, 1998, chap. 3 et 4; Yitzhak Nakash, The shi`is of Iraq, Princeton University Press, Princeton, 1994, chap. 9; Sabrina Mervin, “la quête du savoir à Najaf. Les études religieuses chez les chi`ites imamites de la fin du XIXe siècle à 1960 », Studia Islamica, 81(1995), p. 165-185.
فيما يخص إيران أنظر:
Michael M. J. Fischer, Iran from religious dispute to Revolution, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts et Londres, 1980, chap. 2 et 3; Roy Mottahedeh, The Mantle of the prophet: Learning and power in Moder Iran, Londres, Chatto & windus, 1985.
[3] أنظرفيما يخص هذا الموضوع،
Devin J. Stewart, « the portrayal of an Academic Rivalry. Najaf and qom in writings and speeches of Khomeini, 1964-78”, in Linda Walbridge (ed) The most learned of the Shi`a, p. 216-229.
[4] للتعرف على التطبيقات الإصلاحية على الأزهر، أنظر:
Pierre-Jean Luizard, « Al-Azhar, Institution sunnite réformée », in Entre réforme sociale et mouvement national, Identité et modernisation en Egypte (1882-1962) , éd. Alain Roussillon, CEDEJ, Le Caire, 1995, p. 519-546.
[5] نظرة في المدارس الدينية، العرفان، الجزء 1، ص.587-591.
[6] أنظر: آغا بزرك الطهراني، نقباء البشر، جزء 3، دار المرتضى، مشهد، 1404، ص. 943. مع الملاحظ أن صدر الدين الصدر ليس سوى الوالد لموسى الصدر.
[7] من أجل أكثر تفاصيل، يمكن الرجوع إلى:
Un réformisme chiite. Ulémas et lettrés du Jabal `amel (actuel Liban-sud) de la fin de l’Empire ottoman à l’indépendance du Liban, Karthala-CERMOC-IFEAD, Paris, 2000, p. 212-222.
[8] حول هذه الشخصية، أنظر. مستدركات أعيان الشيعة، جزء 1، ص. 21-22.
[9] علي البهادلي، الحوزة العلمية في النجف، معالمها وحركتها الإصلاحية، 1920-1980، ص. 324-328. حول مؤسس المدرسة، أنظر. جعفر الجليلي، هكذا عرفتهم، جزء 1، مطبعة الزهراء، بغداد، 1963، ص. 227-252؛
Silvia Naef, « Un téformiste chiite – Muhammad Husayn Âl Kâchif al-ghitâ` ».
[10] أنظر محسن، محسن محمد، من التنعيم الدراسي في النجف الأشرف، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1998؛ علي البهاديلي، الحوزة العلمية، ص. 332 وما بعدها
[11].أنظر. علي البهاديلي، مرجع سابق، ص. 342 وما بعدها؛ حول محمد باقر الصدر أنظر.
Chibli Mallat, The renewal of Islamic Law. Muhammad Baqer as-sadr, Najaf and the Shi`I International, Cambridge University Press, Cambridge, 1993.
[12] ويشهد على ذلك محمد مهدي شمس الدين، في رده الكتابي على مجموعة من الأسئلة التي توجهت بها إليه في ذات الموضوع. أنظر. "الإمام الراحل شمس الدين، إصلاح التعليم في النجف، النور، لندن، ديسمبر 2001، ص. 70. توفي محمد مهدي شمس الدين سنة 2001، وكان يزاول قبل ذلك مهام رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.
[13] حول محمد تقي الحكيم، أنظر. ملامح من شخصية محمد تقي الحكيم، النور، عدد 133، جوان 2002، ص. 73-74. وهو مؤلف كتاب في أصول الفقه المقارن يدرس إلى الآن؛ الأصول العامة للفقه المقارن، المجمع العالمي لأهل البيت، قم، 1997.
[14] أحمد الوائلي، حول منتدى النشر، العرفان، XLIX، 5، ص. 468-469،(1962)؛ عبد الهادي الفضلي، دليل النجف الأشرف، ص. 76-78؛ موسوعة العتبات المقدسة، النجف، جزء 2، ص. 183-185.
[15] الإمام الراحل شمس الدين، إصلاح المدارس الدينية في النجف، ص. 71.
[16] حوار قمنا به في الضاحية الجنوبية لبيروت في 23-11-1999.
[17] أنظر. النجف والإمتحان، العرفان، جرء ILV، 1، ص. 22-24، (1957)؛ علي الخاقاني، شعراء الغري، جزء 12، ص. 484.
[18] Michael Fischer, Iran from Religious Dispute to Revolution, p. 81-87.
[19] حسب يوسف أشكيفاري الذي قمت معه بحوار في باريس، بتاريخ 27-4-2000.
[20] يعتبر الموضوع متشعبا جدا وتحوي البحوثات فراغات عديدة تحول دون معالجته هنا.
[21] حوار مع علي مكي، دمشق، 1-4-2002؛ ويدرس (علي مكي) في إحدى المدارس ذات النمط التقليدي، والتي تقدم نفسها كمدرسة من المستوى الراقي، حوزة الحارث، في جنوب لبنان.
[22] أنظر. سلوى فاضل، حوزة العلوم الدينية في لبنان، النور، عدد 113، أكتوبر2000، ص. 92-94.
[23] وهو أمر ظاهر منذ الإطلاع على برامج التدريس، التي تبين، رغم اعتماد بعض الكتب العصرية، اختيارات متريثة. زيادة على ذلك فهي لا تحتوي لا على اختصاصات جديدة في العلوم الدينية (كأصول الفقه المقارن) ولا على علوم عصرية.
[24] لقد أمكن لي الحضور أثناء دروس في الفقه والأصول في أقسام السنة الرابعة.
[25] قدمت فاريبا أدلخا نفس الفرضية حول وضعية المرأة في إيران. أنظر.
« Être moderne en Iran », Karthala, 1998, p. 165.
[26] في حوزة الزهراء يتابع 25% من الطالبات نظامين تعليميين، حوار مع المديرة، حارة حريك 27-12-2001.
[27] أخيّر استعمال كلمة تقليدي عن كلمة محافظ وهي المتداولة. في كل الحالات لابد أن لا نصرف النظر عن حقيقة أن هؤلاء التقليديين أو المحافظين هم نتاج الثورة الإسلامية، مثالهم في ذلك مثال الإصلاحيين أنفسهم.
[28] حول هؤلاء الكتاب، أنظر.
Farhad Khosrokhavar et Olivier Roy, Iran : comment sortir d’une révolution religieuse, Seuil.
[29] أنظر. العدد المخصص لعلم الكلام الجديد في مجلة المنطلق، عدد 190، خريف- شتاء 1997-98، أتقدم بالشكر إلى رئيس تحريرها السابق، حسن جابر، لتوضيحاته حول هذه الموضوعات.